عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٣٤

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له علم ما غاب فيهما عن العباد فلا يخفى عليه أعمالكم (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) في المعاد فلا بد أن يرجع إليه أمرهم وأمرك ، فينتقم لك منهم (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) أي ثق به في جميع أمورك ، فانه كافلك وكافيك (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ) عن ما (تَعْمَلُونَ) [١٢٣] بالياء والتاء (١) تغليبا للمخاطب. عن كعب الأحبار أنه قال : «خاتمة التورية هذه الآية ولله غيب السموات الآية» (٢) ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال أبو بكر يا رسول الله : قد شبت ، قال عليه‌السلام : «شيبتني سورة هود وأخواتها ـ يعني ـ الواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» (٣).

__________________

(١) «تعملون» : قرأ المدنيان والشامي وحفص ويعقوب بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ١٥٩.

(٢) انظر السمرقندي ، ٢ / ١٤٨ ؛ وابن كثير ، ٤ / ٢٩٣.

(٣) أخرجه الترمذي ، تفسير القرآن ، ٥٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٥٢.

٢٢١

سورة يوسف

مكية

وفي الخبر : «أن سورة يوسف وسورة مريم يتفكه بهما أهل الجنة في الجنة» (١) ،

وعن ابن عطاء : «لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استروح بها» (٢).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢))

(الر) أي أنا الله الرقيب على كل شيء (تِلْكَ) أي هذه السورة (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) [١] أي البين حلاله وحرامه ، من أبان (٣) إذا ظهر أو مبين الحق من الباطل ، من أبان إذا فرق ، نزل حين قالت اليهود لأصحاب النبي عليه‌السلام : سلوا صاحبكم عن خبر يوسف وإخوته ونقلهم مع أبيهم يعقوب من كنعان إلى مصر (٤) ، فبين الله تعالى ذلك بقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً) وهو حال موطئة ، فالحال في الحقيقة (عَرَبِيًّا) أو مصدر بمعنى المفعول ، فهو حال و (عَرَبِيًّا) صفته ، أي أنزلنا الكتاب المتضمن خبر يوسف ويعقوب وأولاده في حال كونه قرآنا بلسان العرب ، ف (عَرَبِيًّا) وصف غير لازم للقرآن ، لأنه نسب إلى لغة العرب بعد نزوله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [٢] أي لكي تفهموا ما فيه وتدركوا معانيه فتؤمنوا.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣))

(نَحْنُ نَقُصُّ) أي نبين (عَلَيْكَ) هذا القرآن (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) بفتح القاف ، وهو اسم بمعنى المصدر ، من قص أثره إذا أتبعه ، لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظه شيئا فشيئا ، ويقال قص فلان الخبر علي إذا رأوه على وجهه ، ويروى بالكسر جمع القصة ، أي نخبر لك أفضل أخبار القرون الماضية ، والمراد منه قصة يوسف عليه‌السلام ، وإنما كانت أحسنها ، لأنها تضمنت النكت والعبر والحكم والعجائب التي ليست في غيرها مما يصلح للدين والدنيا من سير الملوك والمماليك والعلماء ومعجزات يوسف وأحواله الغريبة وأقواله اللطيفة والصبر على أذى الأعداء ومكر النساء وحسن التجاوز عنهم بعد الالتقاء وغير ذلك ، فنقصها عليك (٥)(بِما أَوْحَيْنا) أي بايحائنا (إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أي هذه السورة المشتملة على قصة يوسف (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) أي وإن الشأن قد كنت قبل نزول القرآن (لَمِنَ الْغافِلِينَ) [٣] عن قصة يوسف لم تكن تعرفها ، ف (إِنْ) مخففة واللام فارقة لها من النافية.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤))

قوله (إِذْ قالَ يُوسُفُ) ظرف لفعل مقدر ، و (يُوسُفُ) اسم عبري لا عربي وإلا لا نصرف لخلوه عن سبب آخر سوى العلمية ، أي اذكر وقت قول يوسف (لِأَبِيهِ) يعقوب (يا أَبَتِ) بكسر التاء العوض من ياء الإضافة

__________________

(١) عن خالد بن معدان ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٥٤.

(٢) انظر البغوي ، ٣ / ٢٥٤.

(٣) أبان ، ب س : بان ، م.

(٤) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ١٤٩.

(٥) فنقصها عليك ، ب س : ـ م.

٢٢٢

وبالفتح (١) ، لأن أصله يا أبتاه (إِنِّي رَأَيْتُ) في المنام من الرؤيا (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) أي نجما من نجوم السماء ، ونصب (كَوْكَباً) تمييز (وَ) رأيت (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أيضا فيه ، وإنما أخر الشمس والقمر بالعطف على الكواكب بيانا لفضلهما على غيرهما ، ويجوز أن يكون الواو بمعنى مع في المفعول عند من قال به.

قيل : «جاء يهودي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد! أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل جبرائيل عليه‌السلام فأخبره بذلك ، فقال عليه‌السلام لليهودي : إن أخبرتك هل تسلم؟ قال : نعم ، قال عليه‌السلام : حريان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروج والفرغ ووثاب وذو الكتفين ، رآها يوسف والشمس والقمر ، نزلت من السماء وسجدن له ، فقال اليهود : إي والله انها لأسماؤها» (٢).

ثم استأنف على تقدير كيف رأيتهم بقوله (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [٤] نصب على الحال من ضمير المفعول وجمعهم جمع العقلاء ، لأنه أخبرهم عنهم بفعل من يعقل وهو السجود وكان النجوم في التأويل إخوته ، وكانوا أحد عشر رجلا يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم» ، والشمس أبوه والقمر أمه» (٣) ، قاله قتادة ، وقال ابن جريج : «القمر أبوه والشمس أمه» (٤) ، لأن الشمس مؤنث والقمر مذكر ، وكان يوسف ابن اثنتي عشرة سنة حين رأى هذه الرويا ليلة القدر في ليلة الجمعة.

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥))

فلما قصها على أبيه (قالَ) له أبوه (يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) بواو ساكنة وبهمزة ساكنة (٥) قبل ألف التأنيث يختص برؤية المنام ، والرأي بالقلب والرؤية بالعين ، وجواب النهي قوله (فَيَكِيدُوا لَكَ) أي فيحتالوا في إهلاكك (كَيْداً) أي مكرا قويا بتزيين الشيطان ، لأنهم يعلمون تأويلها فيحسدونك ، واللام في (لَكَ) صلة لتأكيد التخويف بأبلغ التأكيد فيه ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر بعده ، وفعله منصوب باضمار «أن» بعد الفاء (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [٥] أي ظاهر العداوة تحملهم على الكيد بعداوته القديمة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرؤيا الصالحة من الله ، فاذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب ، وإذا رأى ما يكره فلا يحدث به ، وليتفل ثلاثا عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم من شر ما رأى فانها لن تضره» (٦) ، وقال : «الرؤيا الصالحة جزء من أربعين أو ست وأربعين جزء من النبوة وهي على رجل طائر ، فاذا حدث بها وقعت ـ قال الراوي أحسبه قال ـ لا تحدث بها إلا حبيبا أو لبيبا» (٧).

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

(وَكَذلِكَ) من مقول يعقوب ليوسف ، أي ومثل ذلك الاجتباء الذي اجتباك للرؤيا ورفع منزلتك بها (يَجْتَبِيكَ) أي يصطفيك (رَبُّكَ) لما هو أعظم منها (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) جمع أحداث ، وهو جمع حديث وليس بجمع أحدوثة ، إذ لا يقال أحدوثة النبي كذا ، والمراد من الأحاديث هنا الرؤى جمع الرؤيا ومن تأويلها تعبيرها بما يؤول إليه أمرها عاقبة (٨)(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بالنبوة وإظهار الإسلام (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) أي

__________________

(١) «يا أبت» : قرأ ابن عامر وأبو جعفر بفتح التاء ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ١٦٠.

(٢) عن جابر ، انظر الكشاف ، ٣ / ٦٣.

(٣) انظر البغوي ، ٣ / ٢٥٥.

(٤) انظر البغوي ، ٣ / ٢٥٥.

(٥) «رؤياك» : قرأ السوسي بابدال الهمزة واوا ساكنة ، وقرأ أبو جعفر بابدال الهمزة واوا مع قلبها ياء وإدغامها في الياء بعدها فيصير النطق بياء واحدة مفتوحة مشددة. البدور الزاهرة ، ١٦٠.

(٦) أخرجه أحمد بن حنبل ، ٥ / ٣٠٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٥٦.

(٧) روى البخاري نحوه ، التعبير ، ٢ ، ٤ ، ١٠ ، ٢٦ ؛ ومسلم ، الرؤيا ، ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ؛ وأحمد بن حنبل ، ٤ / ١٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٥٦.

(٨) عاقبة ، م : ـ ب س.

٢٢٣

إخوتك بالنبوة أيضا والإسلام ، لأنهم كانوا أنبياء ، والآل يستعمل في الأشراف ، فيقال آل الملك ، ولا يقال آل الحائك (كَما أَتَمَّها) أي نعمته (عَلى أَبَوَيْكَ) أي جدك وأبي جدك (١)(مِنْ قَبْلُ) أي من قبلك (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) عطف بيان ل (أَبَوَيْكَ) بجعلهما نبيين ، فأخبر يوسف بما أعلمه الله من أنه يتم نعمته عليه وعلى إخوته كما أتمها على آبائه ، يعني أجداده ، وسمي الجد أبا ، لأنه أب في الأصالة ، يقال فلان ابن فلان وإن كان بينهما عدة آباء ، وقيل : إتمام النعمة على إبراهيم بالخلة وإنجائه من النار (٢) ، وعلى إسحق بانجائه من الذبح (٣) ، وقيل : باخراج يعقوب والأسباط من صلبه (٤)(إِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (عَلِيمٌ) بأحوال خلقه وعواقب أمورهم من كون يوسف ملكا في ديارهم مصر ، ونبيا داعيا للخلق إلى دين الله بعد كونه عبدا مشريا بدراهم معدودة واحتياج إخوته وأبيه مع أهل بيته إليه ، وخرورهم كله لديه سجدا له كما رأى في المنام وتوفيه ولحوقه بآبائه الصالحين (٥)(حَكِيمٌ) [٦] في جميع صنعه من إراءة هذه الرؤيا ليوسف وتقدير كيد إخوته له وتفريق الابن الصغير من أبيه المحب له (٦) ، قيل : كان بين رؤيا يوسف وتحقيقها أربعون سنة (٧) ، وقيل : «ثمانون» (٨) ، ولما سمع رؤياه إخوته قالوا ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه ، وكان أبوه يحبه ويميل إليه أكثر من ميله إليهم لما يرى فيه من أمارات التقوى والصلاح فحسدوه وظلموه. كان بنو يعقوب اثني عشر رجلا ، ستة من بنت ليان خال يعقوب اسمها لايا ، وأسماؤهم : روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولاوي ويهوذا وزيالون ويشجر وأربعة من سريتين له زلفة وبلهة ، وأسماؤهم دان ونفتالي وحاذ بالحاء المهملة والذال المعجمة وأشير ، ثم ماتت لايا فتزوج أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين (٩).

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧))

قوله (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي في خبره وحديثهم (آياتٌ) أي عبرات ودلالات على نبوة محمد عليه‌السلام (لِلسَّائِلِينَ) [٧] عن قصة يوسف وإخوته.

نزل حين جاء اليهود إلى رسول الله عليه‌السلام وسألوا عن قصصهم ، فلما قرأها عليهم فوجدوها موافقة لما في التورية تعجبوا منه فقالوا : يا محمد! من علمكها؟ قال : الله علمنيها (١٠) ، فهذا معنى قوله (آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) ، أي للمعتبرين ، وقيل : للسائلين وغير السائلين ، لأنها تشتمل على صبر يوسف على الرق والسجن وعن قضاء الشهوة وعلى ما آل إليه أمره من الملك والنبوة وعلى حزن يعقوب وصبره وما آل إليه أمره من

__________________

(١) أي جدك وأبي جدك ، ب س : أي أبيك وجدك ، م.

(٢) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٢٥٧.

(٣) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢٥٧.

(٤) هذا مأخوذ عن البغوي ، ٣ / ٢٥٧.

(٥) (عَلِيمٌ) بأحوال خلقه وعواقب أمورهم من كون يوسف ملكا في ديارهم مصر ونبيا داعيا للخلق إلى دين الله بعد كونه عبدا مشريا بدراهم معدودة واحتياج إخوته وأبيه مع أهل بيته إليه وخرورهم كله لديه سجدا له كما رأى في المنام وتوفيه ولحوقه بآبائه الصالحين ، ب س : ـ م.

(٦) ٩١. (عَلِيمٌ) بأحوال خلقه وعواقب أمورهم من كون يوسف ملكا في ديارهم مصر ونبيا داعيا للخلق إلى دين الله بعد كونه عبدا مشريا بدراهم معدودة واحتياج إخوته وأبيه مع أهل بيته إليه وخرورهم كله لديه سجدا له كما رأى في المنام وتوفيه ولحوقه بآبائه الصالحين ، + م.

(٧) نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٢٥٧.

(٨) عن الحسن البصري ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٥٧.

(٩) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٥١ ؛ والكشاف ، ٣ / ٦٤. قال الفقيه أبو الليث : «سمعت أهل التورية يقولون إن أسماء أولاد يعقوب مبينة في التورية : زوبيل وشمعون ويهوذا ولاري فهؤلاء من امرأته لايا ، ويوسف وبنيامين من امرأته الأخرى راحيل ، والستة الباقون من الأمتين خورية وبالعربية يساخر ، وزبلون وبالعربية زبالون ودون ونفتال وحوذ وبالعربية حاذ وروي بعضهم خاذ بالخاء وأوشر». انظر السمرقندي ، ٢ / ١٥١. وقد ذكرت أسماء بني إسرائيل الذين ذهبوا إلى مصر في التورية ، انظر تكوين ، ٤٦ / ٨ ـ ٢٥ وچيقيش

(١٠) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٥١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٥٨.

٢٢٤

الوصول إلى مراده وغير ذلك من الآيات (١).

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨))

(إِذْ قالُوا) أي إخوته فيما بينهم عند سماعهم رؤيا يوسف (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) بنيامين (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) ولم يثن ، لأن أفعل التفضيل إذا لم يعرف ولم يضف يستوي فيه القليل والكثير والمذكر والمؤنث ، والواو في قوله (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) للحال ، والعصبة من الواحد إلى العشرة ، أي والحال أنا جماعة عشرة يتم بنا الأمور وتستحكم ، وفينا كفاية ولا كفاية فيهما لصغرهما ، فهو يفضلهما علينا (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [٨] أي لفي خطأ ظاهر في حبهما واختيارهما علينا ، فالمراد بالضلال سوء الرأي.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩))

ثم قال بعضهم لبعض (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) أي مكانا مجهولا أو بعيدا من أبيكم ليهلك فيه (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي يصف لكم إقباله وشغله لا يلتفت إلى غيركم ويكثر حبه فيكم (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد قتله أو بعد غيبته عنكم (قَوْماً صالِحِينَ) [٩] بأن تتوبوا إلى الله مما جنيتم عليه ، فيتوب عليكم أو صلحت حالكم عند أبيكم بعد ذهاب يوسف ، فيه إيماء إلى أن المؤمن ينبغي أن يهيئ أمر التوبة قبل المعصية.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي من إخوة يوسف ، وهو يهوذا (٢) وكان أعقلهم ، وقيل : «إنه روبيل وكان أكبرهم» (٣)(لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) فان القتل عظيم (وَأَلْقُوهُ) أي اطرحوه (فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) أي في قعر الجب الذي يغيب عن العين ، والغيابة ما غاب عن عينك ، وقرئ «غيابات الجب» (٤) ، والجب البئر الذي لم تطو بالحجارة بعد الأساس (يَلْتَقِطْهُ) أي يأخذه (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) أي المسافرين وهو ممن يمر عليه لطلب الماء (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) [١٠] ما عزمتم عليه من الشر فهذا هو الرأي ، فأطاعوا القائل بذلك وجاؤا إلى أبيهم وهم كانوا يومئذ بالغين ، ولم يكونوا أنبياء بدليل قوله (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) ، ولأنهم ارتكبوا جرائم كبيرة من قطيعة الرحم وعقوق الوالد وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له والغدر بالأمانة والكذب مع أبيهم النبي ، وهذه كلها لا تليق بالنبوة.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١))

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا) بالإدغام وإشمام النون الضم تنبيها على الأصل ، وهو إظهار النونين مع ضم الأولى (٥) ، بدؤا بالإنكار عليه في ترك إرساله معهم حثا على الإرسال ، أي أي حال لك لا تأمنا (عَلى يُوسُفَ) أتخافنا عليه (وَإِنَّا لَهُ) (لَناصِحُونَ) [١١] أي مريدون الخير له أو لحافظون بالشفقة ورادون إياه إليك.

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢))

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) إلى الصحراء (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) بالنون فيهما للإسناد إلى الجميع ، قيل : كان لعبهم المسابقة والنضال وما يتقوى به على حرب العدو ولذلك أجاز لعبهم يعقوب عليه (٦) ، وبالياء فيهما للإسناد إلى يوسف ،

__________________

(١) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٢٥٨.

(٢) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٥٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٥٩.

(٣) عن قتادة والضحاك ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٥٢ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٥٩.

(٤) «غيابة الجب» : قرأ المدنيان بألف بعد الباء الموحدة علي الجمع ووقفا بالتاء ، والباقون بحذفها على الإفراد ووقف بالهاء المكي والبصريان والكسائي ، والباقون بالتاء. البدور الزاهرة ، ١٦١.

(٥) «تأمنا» : أصله بنونين مظهرتين ، الأولى مرفوعة والثانية مفتوحة ؛ قرأ أبو جعفر بادغامها في الثانية إدغاما محضا من غير روم ولا إشمام ، وقرأ كل من الباقين بوجهين : الأولى إدغامها في الثانية مع الإشمام ، والثاني اختلاس ضمتها. البدور الزاهرة ، ١٦١.

(٦) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٣ / ٦٥ ـ ٦٦.

٢٢٥

أي يأكل ما يشتهي من الطعام ويله ، وبالنون في الأولى والياء في الثاني ، أي نرتع نحن ويلعب يوسف ، وقرئ بكسر العين في «نرتع» فهو من ارتعي يرتعي ، فلامه حذفت للجزم في جواب الأمر وباسكان العين جزما (١) جوابا أيضا لأرسله ، فهو من رتع يرتع ، أي يتسع في أكل الفواكه وغيرها (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [١٢] عن الأذى وإصابة المكروه.

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣))

(قالَ) أبوه يعقوب في الجواب معتذرا بشيئين (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) أي تذكر ذهابكم بيوسف بحذف المضاف لإرادة المبالغة في الحزن ، والحزن ألم القلب بفراق المحبوب ، قرئ معلوما (٢) من أحزن أو من حزن والمعنى واحد ، واللام لام الابتداء لتأكيد الحال هنا (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) بالهمز وبغير الهمز (٣)(وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) [١٣] أي مشغولون بلعبكم فيقل اهتمامكم بحفظه ، وإنما قاله لأنه رأى في المنام أن ذئبا قد شد وحمل على يوسف فأنجاه بنفسه (٤) ، وقيل : قاله لأن أرضهم كانت كثيرة الذئاب لا لأنه قصد تعليم العلة لهم في كيد يوسف كما قالوه ، إذ لا يجوز تلقين الخصم حجة (٥) ، قيل : إن إخوة يوسف كانوا لا يعلمون أن الذئب يأكل الناس إلى أن قال ذلك يعقوب عليه‌السلام (٦) ، فوقع كالتعليم لهم على سبيل الاتفاق.

(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤))

(قالُوا) أي إخوة يوسف والله (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي جماعة عشرة (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) [١٤] أي لهالكون ضعفا وعجزا حيث أكل بعضنا الذئب ونحن حاضرون ، قيل : اعتذر يعقوب إليهم بعذرين ، فأجابوا عن أحدهما دون الآخر ، لأنه هو الذي يغيظهم لا غير ، فبعد قولهم هذا رضي بذهابه معهم (٧) ، وقيل : أبى أن يرسله معهم حتى أتوا يوسف فقالوا له اطلب من أبيك ليبعثك معنا ، فطلب منه فرضي بذلك وأوصاهم أن يحسنوا إليه ويتعاهدوا أمره ويردوه إذا طلب الرجوع (٨).

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥))

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) إلى البرية جعلوا يحملونه على عواتقهم إكراما له ، فلما بعدوا به عن العيون أظهروا له العداوة ، فجعل أحدهم يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه هو أيضا ضرب القتل ، فقال يهوذا : أليس عهدكم بي أن لا تقتلوه؟ فامتنعوا من ضربه (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ) أي اتفقوا على جعل يوسف (فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) أي في أسفلها فانطلقوا به إلى بئر على غير الطريق واسع الأسفل ضيق الرأس على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب أو فرسخين ، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق شفير البئر ، فربطوا يديه ونزعوا قميصه ، فقال : يا إخوتاه ردوا علي القميص أتواري به في الجب ، فقالوا : ادع الشمس والقمر والكوكب تونسك ، قال : إني لم أر شيئا ، فألقوه فيها إرادة أن يموت فيها ، وكان فيها ماء ، فسقط فيه ثم آوي إلى صخرة فيها فقام عليها ، وبقي فيها ثلاث ليال ،

__________________

(١) «يرتع ويلعب» : قرأ المدنيان بالياء في الفعلين وكسر العين في «يرتع» من غير ياء ، وقرأ ابن كثير بالنون فيهما مع كسر العين من غير ياء ، وقرأ أبو عمر وابن عامر بالنون فيهما مع سكون العين ، وقرأ الكوفيون ويعقوب بالياء فيهما مع سكون العين. البدور الزاهرة ، ١٦١.

(٢) «ليحزنني» : قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي ، وغيره بفتح الياء وضم الزاي وفتح الياء الأخيرة المدنيان والمكي وأسكنها غيرهم. البدور الزاهرة ، ١٦١.

(٣) «الذئب» : جميعه أبدل همزة ياء في الحالين ورش والسوسي وأبو جعفر والكسائي وخلف في اختياره وأبدله في الوقف حمزة. البدور الزاهرة ، ١٦١.

(٤) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١٥٣ ؛ والكشاف ، ٣ / ٦٦.

(٥) نقله المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ١٥٣.

(٦) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ١٥٣.

(٧) لعل المؤلف اختصره من الكشاف ، ٣ / ٦٦.

(٨) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ١٥٣.

٢٢٦

وكان يهوذا يأتيه الطعام (١) ، وجواب «لما» محذوف ، أي جعلوه في البئر بقرينة جملة (٢)(وَأَجْمَعُوا) ، وعطف عليه قوله (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أي إلى يوسف في الصغر كما أوحي إلى يحيى وعيسى في صغرهما (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) أي لتخبرنهم يا يوسف فيما يستقبل (بِأَمْرِهِمْ هذا) أي بصنيعهم السوء الذي فعلوه بك بمصر ملكا وتجازيهم عليه (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [١٥] أنك يوسف لعلو منزلتك وبعد عهدهم عنك إذا طلبوا منك الطعام من الجوع والقحط ، قيل : بعث الله إليه جبريل يؤنسه ويبشره بالخروج وغيره ويخبره بما أوحى إليه ربه في البئر (٣) ، وقال له : إذا هبت (٤) شيئا فقل يا صريخ المستصرخين ويا غياث المستغيثين ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري ، فلما قالها حفته الملائكة فآنس بهم ، وقيل : خرج من ساعته (٥) ، قال ابن عباس رضي الله عنه : «ثم أنهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف» (٦) ، ولم يشقوه.

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

(وَجاؤُ) أي إخوة يوسف وهم ظلمة (أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) [١٦] أي وقت المساء في ظلمة العشاء يصيحون كذبا بالكاء ليكون أحرى (٧) على الاعتذار بالكذب ، روى : أن يعقوب لما سمع صياحهم وعويلهم خرج فقال : يا بني ما لكم هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا : لا ، قال : فما أصابكم وأين يوسف؟ (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أي نترامي وننتضل (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أي أقمشتنا وثيابنا (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) كما قلت (٨)(وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ) أي بمصدق (لَنا وَلَوْ كُنَّا) أي وإن كنا (صادِقِينَ) [١٧] عندك أن الذئب قد أكله لشدة حبك إياه ، فكيف وأنت تتهمنا به في هذا الأمر ، لأنك خفتنا في الابتداء أو لأنه لا دليل على صدقنا وإن كانا صادقين عند الله ، و (عَلى) بمعنى فوق في قوله (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) فيكون محل (عَلى قَمِيصِهِ) نصبا على الظرف ، ولا يجوز أن يكون حالا من «الدم» (٩) ، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه ، أي جاؤا فوق قميصه بدم ذي كذب ، يعني بدم أثر في قميصه ظاهرا أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه ، لأنه دم السخلة لا دم يوسف ، فأخذه يعقوب وجعله على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بالدم (قالَ) ما كان هذا الذئب إلا حليما ، إذ لم يشق ثوبه ، كذبتم في قولكم (بَلْ سَوَّلَتْ) أي زينت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) فضيعتم يوسف به (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فأمري أو فعلي صبر جميل ، وهو ما لا شكوى فيه إلى مخلوق (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ) أي الذي اطلب منه العون على الصبر (عَلى ما تَصِفُونَ) [١٨] أي تقولون بالكذب من شأن يوسف.

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩))

(وَجاءَتْ) بعد ثلاثة أيام (سَيَّارَةٌ) أي قافلة يسيرون من مصر إلى مدين أو بالعكس ، فأخطؤا الطريق فنزلوا بقرب من البئر التي فيها يوسف وكانت بعيدة من العمران ، قيل : «كان ماؤها مالحا فعذب حين ألقي فيه

__________________

(١) اختصره المصنف من البغوي ، ٣ / ٢٦٣ ؛ والكشاف ، ٣ / ٦٦. راجع في هذا الموضوع إلى تفسير قوله «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» ، رقم الآية (١٠١) من سورة يوسف.

(٢) بقرينة جملة ، س م : بقرينة جملة ، ب.

(٣) اختصره من البغوي ، ٣ / ٢٦٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٥٣ ، ١٥٤ ؛ والكشاف ، ٣ / ٦٦.

(٤) إذا هبت ، ب س : إذا وصلت ، م.

(٥) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٦) انظر البغوي ، ٣ / ٢٦٣.

(٧) أحرى ، س م : أجرى ، ب.

(٨) كما قلت ، م : ـ ب س.

(٩) من الدم ، م : ـ ب س.

٢٢٧

يوسف» (١)(فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) أي طالب الماء إلى البئر ليستقي (٢) لهم من ماءها وهو مالك بن ذعر (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أي أرخى الدلو في البئر فتعلق يوسف بحبلها فلما خرج فاذا بغلام أحسن ما يكون (قالَ يا بُشْرى) بلا ياء بعد الألف كحبلى بمعنى السرور أو هو اسم رجل ناداه مالك ليعينه على إخراجه ، وبياء بعد الألف (٣) ، أضاف البشرى إلى نفسه فبشر نفسه وأصحابه به ، فقال (هذا غُلامٌ) أو كأنه قال أبشروا لأصحابه (وَأَسَرُّوهُ) أي أخفوه من سائر التجار رفقائهم ، والمخفي الوارد وأصحابه ليكون لهم (بِضاعَةً) أي قطعة من المال ليبيعوه بمصر ، وإنما أخفوه منهم خيفة أن يطلبوا منهم فيه المشاركة ، وقيل : أسر إخوة يوسف شأنه ، وقالوا إنه عبد آبق (٤) ، لأن يهوذا أتى يوسف بالطعام فلم يجده في البئر ، فأخبر بذلك إخوته فطلبوه ، فاذا هو بمالك بن ذعر وأصحابه ، وقد كانوا هددوا يوسف بالقتل حتى لا يعرف حاله ، ثم باعوه لهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) [١٩] أي بما يصنع إخوة يوسف به ، فقيل لهم : ما لهذا الغلام لا يشبه العبيد وإنما يشبهكم؟ فقالوا : إنه ولد في حجرنا وإنه ابن وليدة أمنا أمرتنا ببيعه ، فقال يوسف لهم : ارجعوا بي إلى أبي وأنا ضامن لكم رضاه وأنا لا أذكركم فعلكم هذا أبدا ، فأبوا عليه.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠))

(وَشَرَوْهُ) أي اشتراه السيارة من إخوته أو باع إخوته (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) أي مبخوس بمعنى حرام منقوص ، لأن ثمن الحر حرام ممحو البركة أو البخس الزيف (٥) أو القليل الناقص عن القيمة أو القليل ، وأبدل منه (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) أي قليلة ، لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان أقل من أربعين درهما ويعدون ذلك وكانت الدراهم عشرين أو اثنين وعشرين أو أربعين ، وقالت المعتزلة : «باعه واجده وأصحابه لا إخوته بدليل قوله تعالى» (٦)(وَكانُوا) أي إخوة يوسف (فِيهِ) أي في يوسف يعني في ثمنه (مِنَ الزَّاهِدِينَ) [٢٠] أي لم يكونوا محتاجين إليه ، وقيل : كانوا من الراغبين عنه ليبعد عنهم (٧) ، ومعناه : أنه لم يكن قصدهم تحصيل الثمن ، بل مرادهم تبعيده عن أبيه وقومه أو كان السيارة فيه من الزاهدين عنه ، لأنه إخوته أخبروا لهم أنه آبق واستحقروه في البيع ، وليس الزهد الترك أصلا ، إنما الزهد التهاون بالشيء أو لأنهم التقطوه ، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بما باعه من الثمن وإن أخذ منه البلاغ ، وليس كلمة (فِيهِ) صلة (الزَّاهِدِينَ) ، لأن الصلة لا يتقدم على الموصول وهو اللام الداخل في الصفة وإنما هو بيان له (٨) ، وبيان الشيء قد يتقدم عليه ، كأنه قيل : في أي شيء زهدوا ، فقال فيه : زهدوا ، ثم انطلقوا بيوسف وتبعهم (٩) إخوته يقولون استوثقوا منه لا يأبق ، فذهبوا به حتى قدموا مصر وعرضه مالك بن ذعر على البيع في السوق ، فزاد الناس بعضهم على بعض حتى بلغ بحيث لا يقدر أحد عليه ، فاشتراه عزيز مصر ، اسمه قطفير وكان خازن الملك ريان ابن الوليد من العماليق آمن بيوس ومات في حيوته لامرأته زليخا بوزنه مسكا ووزنه ذهبا ووزنه فضة ووزنه حريرا وسلم إليه كلها ، وكان وزنه أربعمائة رطل وهو ابن ثلاث عشرة سنة.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١))

__________________

(١) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٢٦٥ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٦٨.

(٢) ليستقي ، م : ليسقي ، ب س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٨٦.

(٣) «يا بشرى» : قرأ الكوفيون بغير ياء بعد الألف الأخيرة ، والباقون بياء مفتوحة بعدها وصلا وساكنة وقفا. البدور الزاهرة ، ١٦١.

(٤) نقله المصنف عن البغوي ، ٣ / ٢٦٦.

(٥) الزيف ، ب س : الزيوف ، م.

(٦) انظر السمرقندي ، ٢ / ١٥٥.

(٧) لعله اختصره من البغوي ، ٣ / ٢٦٧ ؛ والكشاف ، ٣ / ٦٨.

(٨) وإنما هو بيان له ، م : وإنما هي بيان له ، س ، وإنما هو بيان ، ب.

(٩) تبعهم ، ب س : وتبعدهم ، م.

٢٢٨

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) أي قال العزيز (لِامْرَأَتِهِ) زليخا (أَكْرِمِي مَثْواهُ) أي أحسني إليه مدة إقامته فينا في المطعم والمشرب والملبس والمقام (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) فيما نحتاج إليه في كفاية أمورنا أو نبيعه بالربح إن أردنا بيعه ، وكان العزيز لا يولد له ولد فقال (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي نتبناه فيكون ابنا لنا لما رأى في من مخائل الخير أو أن يوسف عرفه نسبه فأراد تبنيه لحريته (وَكَذلِكَ) أي وكانجائنا يوسف من البئر والشدائد إلى رأفة قلب العزيز عليه (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر بأن جعلناه حاكما عليها ليتصرف فيها كيف يشاء من الأمر والنهي بالعدل (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي لكي نلهمه من تعبير الرؤيا وغيره من العلوم (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي أمر الله يفعل كيف يشاء ، لا يغلبه شيء ولا يرد حكمه أحد أو على أمر يوسف ، أي مستول على إتمام أمره بالتدبير ولا يكله (١) إلى أحد غيره حتى يبلغه منتهى علمه فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [٢١] ما الله صانع وما يريد أن يفعله.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

(وَلَمَّا بَلَغَ) يوسف (أَشُدَّهُ) أي قوته ، جمع شد أو شد أو لا واحد له من لفظه (٢) وهو منتهى شبابه ، قيل : «هو ما بين ثمان عشرة سنة إلى ثلاثين سنة» (٣) ، وقيل : «هو ثلاث وثلاثون» (٤) ، وقيل : أربعون (٥)(آتَيْناهُ) أي أعطيناه (حُكْماً وَعِلْماً) أي نبوة ليحكم بين الناس بها وفقها في الدين ، وقيل : الحكم الإصابة في القول والعلم تأويل الرؤيا (٦)(وَكَذلِكَ) أي كما آتيناه في الدنيا من الحكم والعلم (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [٢٢] أي المطيعين من التوحيد في الآخرة ، وفيه تنبيه على أنه كان متقيا في عنفوان أمره ، قيل : «من أحسن عبادة ربه في حال شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله» (٧).

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣))

(وَراوَدَتْهُ) أي طالبته مرة بعد مرة برفق وسهولة (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) أي المرأة التي يوسف في تربيتها ، وهي زليخا (عَنْ نَفْسِهِ) وهو كناية عما تريد النساء من الرجال ، يعني طلبت واحتالت عليه لتنال غرضها منه (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) السبعة عليها وعليه ، وكانت تمازحه وتعزه ، ويوسف يستعيذ بالله منها ويعظها بقوله اتقي الله ويزجرها ، وجعلت تقول له (٨) : ما أحسن عينيك ، قال : هما أول كل شيء يسيلان إلى الأرض من جسدي ، ثم قالت : ما أحسن وجهك ، قال : هو للتراب يأكله ، ثم قالت : ما أحسن شعرك ، قال : هو أول ما ينتثر من جسدي ، قالت : إن فراش الحرير مبسوط ، فقم فاقض حاجتي ، قال : إذن يذهب نصيبي من الجنة (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي تهيأت لأجلك أو هلم وأقبل إلي ، واللام في (لَكَ) للبيان ، كأنه قيل : لك أقول هذا ، وقيل : العرب إذا دعا أحدا وصاح به يقول هيت لك (٩) ، قرئ بكسر الهاء وفتحها مع فتح التاء ، وبكسر الهاء مع همزة ساكنة بدلا من الياء وفتح التاء ، وبفتح الهاء وضم التاء (١٠) ، وبنيت هذه الألفاظ كلها ، لأنها اسم فعل كشتان ، ومعناها إما أمر أو خبر ، فلما قالت ذلك (قالَ) يوسف (مَعاذَ اللهِ) أي أعوذ بالله معاذا مما تطلبين مني ، وهو

__________________

(١) ولا يكله ، ب س : ولا يكلمه ، م.

(٢) أو شد أو لا واحد له من لفظه ، ب س : ـ م.

(٣) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٦٩ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٥٦.

(٤) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٥٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٦٩ (عن مجاهد).

(٥) نقله المفسر عن الكشاف ، ٣ / ٦٩.

(٦) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٢٦٩.

(٧) عن الحسن ، انظر الكشاف ، ٣ / ٦٩.

(٨) تقول له ، : تقوله ، س م.

(٩) وهذا منقول عن السمرقندي ، ٢ / ١٥٦ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٦٩.

(١٠) «هيت لك» : قرأ المدنيان وابن ذكوان بكسر الهاء وياء ساكنة مدية بعدها وفتح التاء ، وقرأ هشام بكسر الهاء وهمزة ساكنة بعدها مع فتح التاء ، وقرأ ابن كثير بفتح الهاء وياء ساكنة لينة بعدها مع ضم التاء ، قرأ الباقون مثله إلا أنهم يفتحون التاء. البدور الزاهرة ، ١٦١.

٢٢٩

مصدر مضاف ، فعله محذوف وجوبا (إِنَّهُ) أي الشأن (رَبِّي) أي زوجك الذي رباني (أَحْسَنَ مَثْوايَ) حين أوصاك باكرامي فليس لي أن أخون امرأته بعد حسن ظنه بي وأمره بالإحسان إلي ، وفيه دليل على وجوب معرفة إحسان المحسن وشكره ، وقيل : أراد بقوله (رَبِّي) الله تعالى (١) ، أي أحسن إلي بما أعطاني ومن بلاء الجب عافاني (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [٢٣] أي المجاوزون الحسن إلى القبيح أو الظالمون الزناة.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤))

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أي قاربت بمجامعة يوسف زليخا برضاها (وَهَمَّ بِها) أي قارب يوسف بمجامعتها على اقتضاء الطبع البشرى لا مع العزم منه ، والهم في الأصل عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر ، وهو القصد ، فهمها عزمها على المعصية من غير شروع فيها ، وهمه حل الهميان وجلوسه منها مجلس الخائن بكراهتها ، والفرق بينهما أن همها هم ثابت لكونه مع العزم وعقد القلب والرضا ، فالعبد مأخوذ به ، وهمه هم عارض معبر الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم ، فأن العبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل ، وقيل : هم زليخا كبيرة ، لأنه حقيقة منها ، وهم يوسف بقدر حاله صغيرة ، والصغائر تجوز على الأنبياء (٢) ، وقيل : ما هم يوسف بها لقوله تعالى عقيبه لتدارك عبده ونبيه (٣)(لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) قيل : هذا الكلام يشعر بأن يكون «وهم به» جواب (لَوْ لا) متقدما عليه ، وقد أنكر النحاة ذلك ، إذ العرب لا تقول لقد قمت لو لا زيد بمعنى لو لا زيد لقمت ، لأن الشرط والجزاء بمنزلة كلمة واحدة ، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض ، ويجوز حذف بعضها إذا دل عليه دليل ، فيكون جواب (لَوْ لا) محذوفا بدلالة ما قبله وهو (هَمَّ بِها) ، ولا جائز أن يكون كلا الهمين قرينة لجواب (لَوْ لا) ، لأن التفصيل بينهما بالعطف يدل على طلب كل منهما التوصل إلى ما هو حظه من قضاء الشهوة ، ثم ذكر (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) قصدا إلى الدلالة على أنه ترك التوصل إلى حظه لئلا يلزم إغفال يوسف مع كونه نبيا ، وأما زليخا فلم تترك التوصل إلى حظها ليدل ذلك بذكر (لَوْ لا أَنْ رَأى) إلى آخره (٤) ، فتقدير الآية : ولقد همت به وهم بها لو لا أن رأى برهان ربه لفعل ما طلبت منه ، لأنه تعالى تدارك عبده النبي بالبرهان وهو أنه رأى صورة يعقوب وهو يقول له : يا يوسف تعمل عمل السفهاء ، وأنت مكتوب في الأنبياء ، وقيل : «انفرج سقف البيت فرأى يعقوب عاضا على أصبعه» (٥) ، وقيل : «ضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله» (٦) ، وقيل : «حل يوسف سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته إذا بكف قد ظهرت بينهما بلا معصم ولا عضد مكتوب فيه (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ)(٧) ، فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الروع عادت وعاد فظهر ذلك الكف مكتوبا عليه (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً)(٨) ، فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد فرأى ذلك الكف مكتوبا عليه (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ)(٩) ، فقام هاربا وقامت ثم عادا ، فقال الله تعالى لجبريل أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحط جبريل فمسحه بجناحه وخرجت شهوته من أنامله» (١٠) ، فلذا قيل : ولد له أحد عشر ولدا ، ولكل ولد من يعقوب اثنا عشر ولدا من أجل نقصان شهوته ، وقال تعمل

__________________

(١) لعله اختصره من البغوي ، ٣ / ٢٧٠.

(٢) لعله اختصره من البغوي ، ٣ / ٢٧١ ـ ٢٧٢.

(٣) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٤) لعل المفسر اختصره من البغوي ، ٣ / ٢٧١ ؛ والكشاف ، ٣ / ٧٠.

(٥) عن الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٧٢.

(٦) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٥٧ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٧٢.

(٧) الانفطار (٨٢) ، ١٠ ـ ١٢.

(٨) الإسراء (١٧) ، ٣٢.

(٩) البقرة (٢) ، ٢٨١.

(١٠) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٧٣ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٧٠ ، ٧١.

٢٣٠

عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء (١) ، وقال الحسن البصري : «إن الله تعالى لم يذكر ذنوب الأنبياء في القرآن تعييرا لهم بها ، ولكن ذكرها ليكونوا على خوف من الله تعالى وليعرفوا منزلة النعمة في الإعراض على الزلزلة ولئلا ييأس أحد من رحمة الله» (٢) ، لأن الحجة للأنبياء ألزم ، فاذا قبلت توبتهم كان قبولها من غيرهم أسرع ، وقيل : إنما ابتلاهم الله بالذنوب ليتفرد بالعزة والطهارة يوم الحساب ويلقاه جميع الخلق فيه على انكسار المعصية (٣) ، قيل : لم يذكر في القرآن توبة يوسف وذكر توبة من سواه من الأنبياء الذين صدرت منهم المعصية وإن صغرت فذلك يدل على عدم معصيته (٤).

قوله (٥)(كَذلِكَ) أي الأمر كذلك أو يتعلق بمحذوف ، أي فعلنا له مثل ذلك الفعل ، يعني من إظهار البرهان (لِنَصْرِفَ عَنْهُ) أي عن يوسف (السُّوءَ) أي الإثم وهو خيانة السيد (وَالْفَحْشاءَ) أي الزنا (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [٢٤] بفتح اللام ، أي المختارين وبكسرها (٦) ، أي المطيعين بالإخلاص لله في العبادة.

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦))

(وَاسْتَبَقَا) أي أسرعا متوجهين (الْبابَ) أي الباب الخارج ، أما يوسف فللهرب منها وأما هي فلمنعه عن الخروج (٧) ، فأدركته من خلفه فتعلقت بقميصه فجذبته إليها لئلا ينخرج من الباب (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ) أي وشقته (٨)(مِنْ دُبُرٍ) أي من خلف (وَ) لما خرجا (أَلْفَيا) أي وجدا (سَيِّدَها) وهو زوجها قطفير العزيز ولم يقل سيدهما لعدم صحة ملك يوسف (لَدَى الْبابِ) أي عنده جالسا مع ابن عم لزليخا ، فلما رأته هابته (قالَتْ) سابقة بالقول (٩) لزوجها تنزيها لنفسها (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) أي ليس عقاب من قصد بزوجك الزنا ، ويجوز أن يكون (ما) استفهامية بمعنى أي شيء جزاؤه ، ثم خافت عليه أن يقتله فقالت (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ) أي يحبس في السجن (أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [٢٥] أي ضرب بالسياط ، وإنما لم تصرح بذكر يوسف ، وإنه أراد بها سوء ، لأنها قصدت العموم مبالغة في تخويف يوسف ، فلما سمع يوسف مقالتها (قالَ) بناء على قولها ما جزاء من أراد الآية دفعا عن نفسه التهمة (هِيَ راوَدَتْنِي) أي طلبت (عَنْ نَفْسِي) الفاحشة فأبيت وفررت منها (وَشَهِدَ شاهِدٌ) أي قال قائل (مِنْ أَهْلِها) وهو أخوها أو ابن عمها أو كان الشاهد صبيا في المهد أنطقه الله تعالى فقال (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ) أي شق (مِنْ قُبُلٍ) أي من قدامه (فَصَدَقَتْ) زليخا (وَهُوَ) أي يوسف (مِنَ الْكاذِبِينَ) [٢٦] لأنه إذا طلبها (١٠) دفعته عن نفسها فشقت قميصه من قدامه.

(وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧))

(وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) أي خلفه (فَكَذَبَتْ) زليخا (وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [٢٧] لأنها إذا تبعته تعلقت بقميصه لتلحقه وتجذبه إليها فشقته ، وسمي القول شهادة ولا شهادة ثم ، لأنه يقوم مقام الشهادة في ثبوت صدق يوسف وكذبها ، وأورد (كانَ) للمضي بعد (إِنْ) للاستقبال ليعلم أنه كان قميصه قد من قبل (١١) كما تقول لمن يمن عليك إن أحسنت إلي فقد أحسنت إليك (١٢) من قبل.

__________________

(١) نقله عن الكشاف ، ٣ / ٧٠ ـ ٧١.

(٢) انظر البغوي ، ٣ / ٢٧٢.

(٣) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٢٧٢.

(٤) لعله اختصره من الكشاف ، ٣ / ٧١.

(٥) قوله ، ب : ـ س م.

(٦) «المخلصين» : قرأ المكي والبصريان والشامي بكسر اللام ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ١٦٢.

(٧) عن الخروج ، ب س : من الخروج ، م.

(٨) أي وشقته ، س : أي شقته ، ب م.

(٩) بالقول ، ب س : القول ، م.

(١٠) طلبها ، ب م : طلبه ، س.

(١١) قد من قبل ، س : قد قبل ، ب.

(١٢) كما تقول لمن يمن عليك إن أحسنت إلى فقد أحسنت إليك ، ب س : ـ م.

٢٣١

(فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨))

(فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ) أي الزوج أو ابن العم قميص يوسف (قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) أي مشقوقا من خلفه عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف (قالَ) لها (إِنَّهُ) أي قد القميص أو قولك (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً)(١) الآية (مِنْ كَيْدِكُنَّ) أي مكركن وعملكن يا معاشر النساء (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [٢٨] يخلص إلى البريء والسقيم.

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

(يُوسُفُ) أي يا يوسف قاله الشاهد أو الزوج بحذف حرف النداء (أَعْرِضْ عَنْ هذا) أي عن هذا الأمر لا تذكره لأحد حتى لا يشيع ، فقد بان عذرك وبراءتك ، ثم قال لزليخا (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) أي توبي إلى الله من عملك القبيح (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) [٢٩] أي من المتعمدين (٢) الذنب وذكره بالتذكير تغليبا للذكور ، وقيل : معناه اسألي من زوجك أن لا يعاقبك حين خنته بمرادك شابا عن نفسه (٣).

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠))

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) وهن خمس نسوة من أتباع الملك بمصر ، امرأة حاجبه وامرأة أمير الدواب وامرأة الخباز وامرأة الساقي وامرأة صاحب السجن ، وقيل : هن من أشراف مصر (٤) وكن أربعين ، قلن (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ) أي تطلب (فَتاها) أي غلامها (عَنْ نَفْسِهِ) لقضاء شهوتها منه (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي أصاب حبه شغاف قلبها ، وهو غلامه وحجابه فحيرها حتى لا تعقل غيره (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [٣٠] أي في خطأ ظاهر من حب عبدها ، وقيل : في عشق مزيل لعقلها لا تصبر عنه (٥).

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢))

(فَلَمَّا سَمِعَتْ) زليخا (بِمَكْرِهِنَّ) أي بغيبتهن لها وإفشائهن سرها بعد أن استكتمتهن ذلك ، وسمي الاغتياب مكرا ، لأنه في خفية من المغتاب كالمكر من الماكر (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ) أي دعتهن إليها (وَأَعْتَدَتْ) أي هيأت (لَهُنَّ مُتَّكَأً) وهو ما يتكأ عليه من وسائد وطعام لضيافتهن وليريهن يوسف وحسنه لتعتذر فيه لعلمها أنهن إذا رأينهن دهشن به ، وقيل : المتكأ هو الأترج بلغة الحبشة (٦) ، وقيل : «كل شيء يقطع بالسكين» (٧) ، روي : أنها زينت بيتها بألوان الفرش والوسائد وألوان الفواكه والأطعمة ، ودعت النسوة (٨) ، فجئن إلى بيتها ، فلما جلس مجالسهن جاءت (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) لقطع ما في أيديهن من الأترجة أو الزماورد وهو الرقاق الملفوف المملوء باللحم ، ويروي بفتح الزاء وتخفيف الميم وتشديده أو لجز اللحم للأكل بالسكين وأمرت يوسف أن يلبس أحسن الثياب ، وأجلسته في موضع آخر ، ثم أمرتهن بالأكل فشرعن يأكلن ويقطعن الطعام بالسكين (وَقالَتِ) ليوسف (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) فخرج ، «وكان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم» ، قاله عكرمة (٩) ، وكان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألأ وجهه على الجدران ،

__________________

(١) يوسف (١٢) ، ٢٥.

(٢) أي من المتعمدين ، م : أي المعتمدين ، ب س.

(٣) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٢٧٦.

(٤) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢٧٧.

(٥) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٦) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٢٧٨.

(٧) عن عكرمة ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٦٠ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٧٨.

(٨) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٢٧٨.

(٩) انظر البغوي ، ٣ / ٢٧٨.

٢٣٢

قيل : ورث الحسن من جدته سارة وهي من حواء (١)(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ) أي يوسف (أَكْبَرْنَهُ) أي أعظمنه ، قيل : «هالهن أمره» (٢) ، وصرن مدهوشات طائرة عقولهن أو حضن في تلك الساعة ، يقال أكبرت المرأة إذا حاضت (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أي جرحنها لما رأينه دهشا ، يعني ما أحسن إلا بالدم ، وروي : «أن جماعة منهن ماتت» (٣) بالنظر إلى وجهه (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) بألف في الوصل ، وبحذف الألف في الوقف ، وبحذفها في الحالين تخفيفا (٤) ، وهو تنزيه لله أن يجري على يوسف ما نقل عنه ، ثم رفعن قدره عن البشرية فقلن (ما هذا بَشَراً) وإعمال (ما) عمل «ليس» حجازي ، أي مثل هذا لا يكون آدميا (إِنْ هذا) أي ما هذا الغلام (إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [٣١] على ربه ، يعني أنه من جنس الملائكة لا من جنس البشر مع علمهن أنه بشر لما ثبت في عرف الناس أنهم إذا وصفوا الإنسان بالحسن شبهوه (٥) بالملك (٦) ، إذ لا أكمل ولا أحسن خلقا من الملك عندهم ، فثم (قالَتْ) زليخا توبيخا لهن (فَذلِكُنَّ) أي فهذا المشار إليه لديكن ، يعني يوسف (الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي في حبه ولم يقل فهذا مع حضوره لديهن تعظيما لقدره أو أشارت إليه بعد ذهابه عنهن ، ثم صرحت بما فعلت بعد ظهور عذرها لهن فقالت معترفة ببراءة يوسف (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي امتنع وطلب العصمة من الله تعالى مبالغة في الامتناع ، ثم أمرته بطاعتها بقولها (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ) أي الذي آمره أن يفعل من قضاء شهوتي ، فالضمير في (آمُرُهُ) راجع إلى الموصول لا إلى يوسف لئلا يبقي بلا عائد ، ويجوز أن يجعل (ما) مصدرية فيرجع الضمير إلى يوسف ، أي لئن لم يفعل أمري إياه ، أي مقتضى أمري (لَيُسْجَنَنَّ) بالتخفيف والتشديد (٧) ، أي ليعاقبن بالسجن (وَلَيَكُوناً) بالألف في الخط لموافقة الإمام (مِنَ الصَّاغِرِينَ) [٣٢] أي الذليلين ، يعني إن لم يطعني فيما دعوته إليه لأذللته ، قيل : جعلت الذل في حقه تهديدا لفرط محبتها إياه (٨).

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤))

(قالَ) يوسف عند ذلك (رَبِّ) أي يا رب (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وجمعهن ، لأنهن زين له طاعة (٩) مولاته أو لأنهن دعون إلى أنفسهن وهو أحب من سكنى (١٠) السجن على قضاء حاجتهن بالمعصية نظرا إلى خوف العاقبة ونيل الكرامة بحسن الصبر على احتمالها لوجه الله مع اقتضاء الطبع البشري قضاء حاجتهن ، ثم قال (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ) أي إن لم ترد يا رب عن نفسي شرهن (أَصْبُ) أي أمل (إِلَيْهِنَّ) من صبا إلى كذا إذا مال واشتاق إليه (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) [٣٣] بالمتابعة إلى ما يدعونني إليه من الزنا ، قيل : هذا القول متضمن معنى الدعاء (١١) ، وهو اللهم اصرف عني كيدهن ، ولذا قال (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) فيما دعاه (فَصَرَفَ عَنْهُ) أي عن يوسف (كَيْدَهُنَّ) أي شرهن (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) للدعاء فيما دعاه يوسف (الْعَلِيمُ) [٣٤] بحاله وحالهن.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥))

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ) أي ظهر لزوجها العزيز وزليخا رأي وهو السجن ، ففاعل (بَدا) مضمر فيه يفسره قوله (لَيَسْجُنُنَّهُ) بعده ، روي : أن المرأة قالت لزوجها وهو جميل (١٢) ذلول لها إن هذا العبد العبري فضحني بخبر

__________________

(١) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٧٤.

(٢) عن أبي العالية ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٧٨.

(٣) عن وهب ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٧٨.

(٤) «حاش لله» : قرأ البصري بألف بعد الشين وصلا ، والباقون بالحذف ولا خلاف بين العشرة في حذف الألف وقفا اتباعا لرسم المصحف. البدور الزاهرة ، ١٦٣.

(٥) شبهوه ، ب س : شبهوا ، م.

(٦) بالملك ، س : الملك ، ب م.

(٧) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٨) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٩) طاعة ، ب م : لطاعة ، س.

(١٠) من سكنى ، س : سكنى ، ب م.

(١١) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(١٢) جميل ، س : جمل ، ب م.

٢٣٣

همي به في زعمه بين الناس ، فحقه أن تحبسه مدة (١) ، فأجمعوا على ذلك (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) أي العلامات الدالة على براءة يوسف من شق بالقميص من خلفه ، وكلام الشاهد الصغير أو قضاء ابن عمها بالحق وقطع الأيدي (لَيَسْجُنُنَّهُ) أي ليحبسن العزيز وأهله يوسف (حَتَّى حِينٍ) [٣٥] أي إلى مدة ينقطع كلام الناس في ذلك ، وقيل : «خمس سنين» (٢) ، وقيل : «سبع سنين» (٣) ، وغرضها جعلها ذليلا بالسجن كما قالت من قبل لما آيست من طاعته لها ، روي : أن يوسف انما سجن لطلبه السجن بقوله (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ)(٤) ، وإن سأل العافية عافاه الله والأولى بالمرء أن يسأل الله العافية عافاك الله وإيانا في الدارين ، وقيل : إن الله قد حبسه تطهيرا ليوسف من همه بالمرأة (٥).

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦))

(وَدَخَلَ مَعَهُ) نصب على الحال (٦) ، أي مصابحين ليوسف (السِّجْنَ فَتَيانِ) وهما عبدان للملك ، أحدهما ساقيه والآخر صاحب طعامه ، وكان المصريون أعطوهما رشوة ليسما الملك في طعامه وشرابه ، فأبى الساقي وقيل الخباز فسم الطعام ، فلما أحضروا الطعام قال الساقي للملك : لا تأكل من هذا الطعام ، فانه مسموم ، وقال الخباز : لا تشرب ، فان الشراب مسموم ، فقال الملك للساقي : اشرب فشرب فلم يضره ، وقال : للخباز كل من طعامك فأبي ، فأمر تجربة بأن يأكله دابة فأكلت فهلكت ، فأمر الملك بحبسهما غضبا عليهما ، وكان يوسف عند دخوله السجن قال للناس : أنا أعبر الأحلام لنشر علمه (قالَ أَحَدُهُما) وهو الساقي ليوسف (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) أي عنبا بلغة عمان بالتخفيف ، وقيل : سمي «خمرا» باسم ما يؤول إليه (٧) ، وذلك أنه قال إني رأيت كأني في بستان فاذا بكرمة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها ، وكأن كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه (وَقالَ الْآخَرُ) وهو الخباز (إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً) في ثلاث سلال مع ألوان الأطعمة (تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) أي من الخبز الذي فوق رأسي (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي أخبرنا عن تعبير ما قصصنا عليك وتفسيره وعاقبة أمر هذا (٨) الرؤيا (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [٣٦] أي العالمين بتعبير الرؤيا أو من الصادقين في القول أو من العاملين بالإحسان ، وقيل : من إحسانه أنه إذا مرض إنسان في السجن عاده وقام عليه ، وإذا ضاق وسع له ، وإذا احتاج جمع له شيئا ، وكان مع هذا يجتهد في العبادة ويقوم الليل كله للصلوة ، ويقول لأهل السجن أبشروا واصبروا تؤجروا ، فيقولون بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك ، لقد بورك لنا في جوارك ، فمن أين أنت يا فتى؟ قال : أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله اسحق بن إبراهيم خليل الله ، فقال له عامل السجن : يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك ولكني أسحسن جوارك تمكن في أي بيوت السجن شئت ، فلما قصا عليه الرؤيا كره أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما ، فأعرض عن سؤالهما وشرع في إظهار المعجزة والدعوة إلى التوحيد (٩).

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧))

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ) من منازل لكما (تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما) أي أخبرتكما (بِتَأْوِيلِهِ) أي ببيان ماهية الطعام

__________________

(١) اختصره المفسر من السمرقندي ، ٢ / ١٦١ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٨١.

(٢) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٦١ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٨١.

(٣) عن عكرمة ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٨١.

(٤) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١٦٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

(٥) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٢٨١.

(٦) نصب على الحال ، ب س : ـ م.

(٧) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٧٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٦١.

(٨) هذا ، س م : ـ ب.

(٩) نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٢٨٢ ، ٢٨٣.

٢٣٤

الذي يأتيكما في اليقظة وبقدره وألوانه والوقت الذي يصل إليكما (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) وإن رأيتما ذلك في النوم أخبرتكما بما يؤول إليه أمره وهذا كمعجزة عيسى عليه‌السلام حيث قال (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ)(١) فيجدانه كما أخبرهما ، وجعل ذلك تخلصا إلى أن يذكر لهما التوحيد ويزينه لهما ويقبح فيهما الشرك بالله ، وهذا طريقة كل عالم ناصح لله ، فقالا : هذا فعل العرافين والكهنة وأنت لست بعراف ولا كاهن ، فمن أين لك هذا العلم؟ قال يوسف (ذلِكُما) أي هذا العلم (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) به بالوحي لا بالتكهن والتنجم ، ثم أراد أن يبين علامة نبوته لهما ليسلما فقال (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي بتوحيده عني بهؤلاء أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [٣٧] أي بالبعث جاحدون ، وكرر (هُمْ) تأكيدا ، وقدمه تخصيصا للجحد بهم.

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨))

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي دين هؤلاء وهو التوحيد (ما كانَ) أي ما صح (لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) من الآلهة ، لأنه عصمنا من الشرك (ذلِكَ) أي التوحيد والعلم بالله (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) أي على (٢) المؤمنين بارسال الأنبياء وبيان الهدى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) أي أهل مصر (لا يَشْكُرُونَ) [٣٨] نعمة الله التي هي الإسلام بل يكفرونها.

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩))

ثم دعاهما إلى الإسلام فقال (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) أي ساكنيه أو يا صاحبي في السجن أراد الساقي والخباز لكون السجن مصحوبا فيه ، فأضافهما إليه بأدنى ملابسة (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) أي آلهة متفرقة هذا من ذهب وهذا من فضة وهذا من حديد ، وهذا أعلى وهذا أدنى وهذا أوسط ، متباينون لا تضر ولا تنفع (خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ) أي الإله الذي لا ثاني له (الْقَهَّارُ) [٣٩] أي الذي لا يغلب عليه أحد ، وهو غالب على الكل ، إن شاء يحييهم وإن شاء يميتهم.

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠))

ثم قال لهما ولمن على دينهما (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ) أي من غير الله (إِلَّا أَسْماءً) لا مسميات تحتها (سَمَّيْتُمُوها) آلهة (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها) أي بتلك الأسماء (مِنْ سُلْطانٍ) أي برهان (٣) في عبادتكم إياها (إِنِ الْحُكْمُ) أي ما القضاء فيكم (إِلَّا لِلَّهِ) أي في الدنيا والآخرة ، ثم بين الحكم بقوله (أَمَرَ) في الكتاب (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي لا توحدوا إلا الله (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي التوحيد ، وهو الدين المستقيم الذي دلت على البراهين من الله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) أي أهل مصر (لا يَعْلَمُونَ) [٤٠] أي دين (٤) الله (٥) هو التوحيد أو ما لهم وعليهم من الثواب والعقاب.

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١))

ثم شرع في تعبير رؤياهما بعد ما نصحهما فقال (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) وهو الساقي (فَيَسْقِي) أي فيخرج بعد ثلاثة أيام من السجن ويسقي (رَبَّهُ) أي الملك (خَمْراً) كما كان يسقيه (وَأَمَّا الْآخَرُ) وهو الخباز

__________________

(١) آل عمران (٣) ، ٤٩.

(٢) على ، س : ـ ب م.

(٣) برهان ، س : برهانا ، ب م.

(٤) أن دين ، ب : أي دين ، س م.

(٥) الذي ، + س.

٢٣٥

(فَيُصْلَبُ) أي فيخرج بعد ثلاثة أيام يبقي في السجن ويصلب (فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) ففسر العناقيد الثلاثة بثلاثة أيام (١) يبقى في السجن للساقي ، وفسر السلال الثلاثة بثلاثة أيام يبقي في السجن للخباز ، فلما سمعا قول يوسف قالا : إنا كنا نلعب أو قالا : ما رأينا شيئا ، فقال يوسف (قُضِيَ الْأَمْرُ) أي تم وقطع أمركما (٢)(الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) [٤١] أي تسألان في معناه من أن عاقبته هلاك أو نجاة سواء صدقتما أو كذبتما ، فالأمر في الظاهر واحد وفي المعنى اثنان (٣).

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

(وَقالَ) يوسف (لِلَّذِي ظَنَّ) أي علم (أَنَّهُ ناجٍ) أي ينجو من السجن وهو الساقي (مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي سيدك الملك وقل (٤) له إن في السجن غلاما محبوسا ظلما طال حبسه (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي وسوس إليه بما شغله عن ذكره له ، وإنما أولناه بالوسوسة لأن الإنسان لا يقدر عليه الشيطان ، بل القادر عليه هو الله تعالى ، وأضاف الذكر إلى المفعول الغير الصريح بمعنى أنسى الساقي الشيطان أن يذكر يوسف لربه أو عند ربه الملك ، فجاز هذه الإضافة بأدنى ملابسة وإنما أنساه ذلك ، لأن يوسف لم يستغث بالله بل استغاث بالملك أو المعنى أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه الخالق حتى ابتغى الفرج من غيره المخلوق ، وإنما أنكر على يوسف استعانته (٥) بغير الله في كشف الضر عنه مع جوازه في الشرع ، قال تعالى (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى)(٦) ، وقال على السّلام : «الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم» (٧) ، لأن الأحسن والأولى بالنبي أن لا يكل أمره إذا ابتلي ببلاء إلا إلى ربه عز شأنه (فَلَبِثَ) أي مكث (فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) [٤٢] وأكثر الأقاويل أنه سبع سنين ، وقيل : «إنه ما بين الثلاث إلى التسع» (٨) أو «من واحد إلى التسع» (٩) ، قيل : «لو لم يستغث يوسف على غير الله تعالى لما لبث في السجن طول ما لبث» (١٠) ، وروي : أن الله قال له أحسبت أني أنساك في السجن حتى استغثت بغيري وأنا أقرب إليك وأقدر على خلاصك لتلبثن فيه بضع سنين (١١) ، قيل : فيه دليل أن الأنبياء يعاتبون على الصغائر معاتبة غيرهم على الكبائر وتلك الصغيرة غفلة بكلمة واحدة عرضت ليوسف من الشيطان فلبث ما لبث في السجن إذ الأولى بالنبي أن لا يكل أمره إلى غير الله (١٢) ، ولما قرب خروج يوسف رأى الملك الأكبر وهو ريان في المنام رؤيا عجيبة هالته ولم يعلم تأويلها.

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣))

(وَقالَ الْمَلِكُ) لأشراف مجلسه (إِنِّي أَرى) أي رأيت في المنام (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) جمع سمينة (١٣) ، صفة (بَقَراتٍ) لقصد تمييز «السبع» بنوع من البقرات ، وهي السمان منهن لا بجنسهن فقط ، ولو نصبت «سمانا» صفة ل (سَبْعَ) لكان القصد تمييز «السبع» بجنس البقرات ، وهي (١٤) لا بنوع منها ، ووصف المميز الذي هو

__________________

(١) بعد أن ، + س.

(٢) أمركما ، م : أمر مرئيتكما ، ب ، أمراكما ، س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٧٧.

(٣) فالأمر في الظاهر واحد وفي المعنى اثنان ، ب س : ـ م.

(٤) وقل ، ب س : وقيل ، م.

(٥) استعانته ، ب م : استغاثته ، س.

(٦) المائدة (٥) ، ٢.

(٧) رواه الترمذي ، الحدود ، ٣ ، والبر ، ١٩ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٧٨.

(٨) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٦٣ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٨٦ ؛ وانظر أيضا القرطبي ، ٩ / ١٩٧ (عن الهروي).

(٩) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(١٠) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ١٦٣ ؛ وانظر أيضا القرطبي ، ٩ / ١٩٦.

(١١) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(١٢) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(١٣) سمينة ، ب م : سمين ، س.

(١٤) وهي ، م : ـ ب س.

٢٣٦

السبع بالسمن ، يعني رأيت تلك البقرات السمان خرجن من بحر النيل (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) أي سبع بقرات هزلى في غاية الهزال خرجن من النيل بعدهن ، يعني ابتلعت العجاف السمان فدخلن في بطونهن فلم ير منهن شيء (١) ، ولم يظهر على العجاف منهن شيء ، وال (عِجافٌ) جمع عجفاء وأعجف ، وأفعل وفعلاء لا يجمعان على فعال لكنه حمل على سمان ، لأنه نقيضه وهم يحملون النقيض على النقيض كما يحملون النظير على النظير ، ولم يقل «سبع عجاف» بالإضافة ، لأن التمييز لبيان الجنس ، وال (عِجافٌ) ليس بجنس بل هو وصف ، وهو لا يقع بيانا لشيء إلا إذا أجري مجرى الاسم كقولك خمس فرسان (وَ) أرى (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) قد انعقد حبها (وَ) أرى سبعا (أُخَرَ يابِساتٍ) قد استحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليهن فلم يبق منهن شيء ، ف (أُخَرَ) نصبه (٢) ، صفة ل (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ) ، ويجوز أن يكون صفة ل (سُنْبُلاتٍ) بالعطف على (خُضْرٍ) ، ولا يجوز أن يعطف على (سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) ، فيكون مجرور المحل (٣) ، أي على المميز ، لأنه يؤدي إلى تدافع الحكمين ، إذ العطف عليها يقتضي أن يكون (أُخَرَ) معها مميزا ل «السبع» المذكور ، ولفظ ال (أُخَرَ) يقتضي أن يكون غير السبع وهو فاسد ، ثم قال (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي) أي فسروا لي (فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [٤٣] أي تفسرون ، واللام للبيان.

(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤))

(قالُوا) رؤياك (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) جمعان ، جمع ضغث وهو الحزمة من النبات ، وجمع حلم ما يري في النوم ، أي مربوطات الأحلام المختلطة لا يصح تأويلها ، والإضافة فيها بمعنى «من» ، أي أضغاث من أحلام ، وإنما جمع مع أن ما رأي حلم واحد ، لأنه أريد زيادة في وصف الحلم بالبطلان فهو من قبيل فلان يركب الأفراس وما يركب إلا فرسا واحدا (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ) المختلطة (بِعالِمِينَ) [٤٤] لبطلانها عند المعبرين.

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦))

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) من القتل وهو الساقي (وَادَّكَرَ) أي تذكر قول يوسف اذكرني عند ربك (بَعْدَ أُمَّةٍ) أي بعد مدة طويلة ، وهي سبع سنين (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) فجثا بين يدي الملك ، وقال إن في السجن رجلا يعبر الرويا (فَأَرْسِلُونِ) [٤٥] أي أرسلني أيها الملك إليه وإنما خاطبه بلفظ الجمع تعظيما له كما يخاطب الملوك به ، يعني ابعثوني إليه لأستعبره في السجن (٤) «ولم يكن السجن في المدينة يومئذ» ، قاله ابن عباس (٥) ، ووصف للملك تعبير يوسف الرؤيا وصدق تعبيره وأخبره بحال يوسف وعلمه وحكمته كما ينبغي ، فأرسله إليه فأتى السجن ، فلما دخل عليه اعتذر إليه بما أنساه الشيطان ذكر ربه ، فقال (يُوسُفُ) أي يا يوسف (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) وهو كثير الصدق ، وإنما قاله لأنه تعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه حيث جاء كما أول (٦)(أَفْتِنا) أي أخبرنا عن رؤيا الملك (فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) أي هزلى (وَ) في (سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ) سبع (أُخَرَ يابِساتٍ) فان الملك رأى في المنام هذه الرؤيا ، وما عبرها أحد من أهل مصر (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) أي إلى الملك وأصحابه من غير صارف لي في الطريق (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) [٤٦] تأويله هذه الرؤيا أو يعلمون قدرك ومنزلتك من العلم والفهم ، فيكون ذلك سببا لخلاصك من السجن ، فعبر يوسف رؤياه وهو في السجن.

__________________

(١) يعني ، + س.

(٢) «سنبلات خضر» معا : أخفى التنوين في الخاء مع الغنة أبو جعفر وأظهر غيره. البدور الزاهرة ، ١٦٣.

(٣) فيكون مجرور المحل ، م : فيكون ، ب ، ـ س.

(٤) يعني ابعثوني إليه لأستعبره في السجن ، ب س : ـ م.

(٥) انظر البغوي ، ٣ / ٢٨٨ ؛ والكشاف ، ٣ / ٨٠.

(٦) وإنما قاله لأنه تعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه حيث جاء كما أول ، ب س : ـ م.

٢٣٧

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧))

(قالَ) له يوسف معبرا : أما السبع البقرات السمان والسبع السنبلات الخضر فهي سبع سنين خصب ، وأما السبع العجاف والسبع اليابسات فهي سبع سنين قحط ، ثم قال (تَزْرَعُونَ) معلما مصالحهم لهم وهو خبر بمعنى الأمر ، أي ازرعوا (سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) أي عادة ، مصدر في معنى الحال ، أي دائبين ، يعني اعملوا زراعتكم على عادتكم (فَما حَصَدْتُمْ) من الزرع (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) فهو أبقى لكم كيلا يأكله السوس إذا كان في سنبله ، وهذا الأمر دليل على كون (تَزْرَعُونَ) في معنى الأمر (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) [٤٧] أي تدرسون بقدر ما تحتاجون للأكل أمرهم بحفظ الأكثر والأكل على قدر الحاجة.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨))

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الخصب (سَبْعٌ شِدادٌ) أي سبع سنين قحط ، سميت بالشداد لشدتها على الناس (يَأْكُلْنَ) أي يفني السنون (ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ) يعني يؤكل فيهن ما أعددتم لهن من الطعام ، أضاف الأكل إلى السنين على طريق التوسع ، ثم استثنى بقوله (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) [٤٨] أي تحرزون وتدخرون للبذر.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١))

ثم بشر لهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بقوله (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) القحط (عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) أي يمطرون من الغيث وهو المطر أو ينقذون من الشدة بسعة الرزق من الغوث وهو الإغاثة من قوي (وَفِيهِ) أي وفي ذلك العام (يَعْصِرُونَ) [٤٩] العنب والزيتون ، بالياء والتاء (١) أو ينجون من الشدة بسعة العيش ، قوله (ثُمَّ يَأْتِي) إلى قوله (يَعْصِرُونَ) بشارة لهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا وتفصيل بحال العام (٢) ، فبين لهم حال العام الثامن المبارك بالتفصيل ولا يعلم ذلك إلا بالوحي ، فذهب الساقي إلى الملك ، فأخبره بقول يوسف في تعبير رؤياه (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي بيوسف ، لأن الملك قد عرف أن الذي قاله كائن (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) وقال له أجب الملك فأبي أن يخرج مع الرسول ، أي تأخر (٣) وتثبت (٤) في إجابة الملك حتى يظهر براءته عما اتهم به وسجن فيه (قالَ) له يوسف (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) أي سيدك العزيز (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) ليعلم أني مظلوم في الحبس ولم يصرح بذكر امرأة العزيز أدبا واحتراما (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) [٥٠] أي بفعلهن القبيح لا يعلمه غيره فيجازيكم به ، قال عليه‌السلام رحم الله : «أخي يوسف إن كان إلا ذا إناءة ـ أي ذا وقار وصبر ـ ولو كنت أنا لأسرعت الإجابة» (٥) ، يقول ذلك هضما لنفسه وفيما فعل يوسف دليل على وجوب الاجتهاد في نفي التهم لقول عليه‌السلام : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم» (٦) ، قال ابن عباس : «لو خرج يوسف حين دعي لم يزل في قلب الملك شيء منه» (٧) ، فجمع الملك النساء ثم (قالَ ما خَطْبُكُنَّ) أي ما شأنكن وما حالكن (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) هل وجدتن منه ذنبا بالميل إليكن ، قيل : إن امرأة العزيز راودته عن نفسه وسائر النسوة أمرنه بطاعتها (٨) ، فلذلك خاطبهن بقوله ما خطبكن (قُلْنَ) أي قالت النساء اعترافا

__________________

(١) «يعصرون» : قرأ الأخوان وخلف بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ١٦٤.

(٢) قوله ثم يأتي إلى قوله يعصرون بشارة لهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا وتفصيل بحال العام ، م : ـ ب س.

(٣) أي تأخر ، م : ـ ب س.

(٤) وتثبت ، ب س : وثبت ، م.

(٥) ذكر السمرقندي نحوه ، ٢ / ١٦٥.

(٦) ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٧) انظر السمرقندي ، ٢ / ١٦٥.

(٨) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٢٩١.

٢٣٨

ببراءة يوسف وتعجبا عن عفته وتنزيها له من الذنب (حاشَ لِلَّهِ) أي معاذ الله (١)(ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أي شرا وخيانة (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) زليخا معترفة بذنبها خوفا أن يشهدن عليها (الْآنَ حَصْحَصَ) أي ظهر وتبين (الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) أي طلبت أن يمكنني من نفسه (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [٥١] في قوله (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي).

(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣))

فلما سمع اعترافها قال يوسف (ذلِكَ) أي الذي فعلت من رد رسول الملك إليه والتثبت في السجن عند دعوة الملك إياي (لِيَعْلَمَ) العزيز (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أي في حال غيبته (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي) أي لا يحق ولا يسدد بل يمحو (كَيْدَ الْخائِنِينَ) [٥٢] وقيل : لا يرضى عملهم (٢) ، وهو تأكيد لأمانته ، فقوله (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) من كلام يوسف ، اتصل بقول امرأة العزيز (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) من غير تمييز لمعرفة السامعين ذلك بقرينة المعنى ، قيل : لما قال يوسف هذه المقالة قال له جبريل : ولا حين هممت بها؟ فقال عند ذلك (٣)(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) من الزلل أو قاله هضما لنفسه وخوفا من دخول العجب فيها وتواضعا لله تعالى وفرارا من التزكية (إِنَّ النَّفْسَ) أي جميع النفوس (لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي بالمعصية وبالميل إلى شهواتها الردية ، ثم استثنى متصلا بقوله (٤)(إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي نفسا عصمها (٥) الله برحمته كالملائكة فلم يركب فيهم الشهوة أو كالأنبياء والأولياء الذين يعصمهم بلطفه وإراءته البرهان إياهم ، ف (ما) بمعنى «من» أو (إِلَّا) بمعنى «لكن» فالاستثناء منقطع ، أي لكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة ف (ما) مصدرية (٦)(إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٥٣] غفر لي للهم الذي هممت به ورحمني فعصمني عن الخطأ والمعصية ، فلما تبين للملك عذر يوسف وعرف أمانته وعلمه أحبه.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤))

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي بيوسف (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي اجعله خالصا لأمري ومصلحتي دون غيره ، فلما خرج يوسف من السجن ودع أهل السجن ودعا لهم وقال اللهم : اعطف قلوب الصالحين عليهم ولا تستر الأخبار عنهم ، فمن ثمه يقع الأخبار عند أهل السجن في كل بلد قبل أن يقع عند الناس غالبا فجاء الملك بعد الاغتسال من درن السجن ولبس الثياب الحسان ، وقال في نفسه حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره ، ثم سلم يوسف (٧) عليه بالعربية ، فقال الملك ما هذا اللسان؟ قال : لسان عمي إسمعيل ، ثم دعا له بالعبرية ، قال : ما هذا اللسان؟ قال لسان آبائي ، ولم يعرف الملك (٨) هذين اللسانين وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا سواهما ، وكلما كلمه بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان ، فأعجب الملك ما رأى منه مع حداثة سنه ، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فأجلسه (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) بما شاء شفاها (قالَ) له الملك (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) أي ذو مكانة وجاه في ملكي (أَمِينٌ) [٥٤] أي ذو أمانة على خزائني وأموري ، فما ترى؟ قال : أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة وتأخذ من الناس خمس زروعهم من الطعام بقصبه وسنبله وتتركها في الخزائن محفوظة ليكون القصب والسنبل علفا للدواب فيكفيك ولأهل مصر ومن حولها مدة السنين المجدبة ويأتيك الخلق من النواحي للميرة ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك ، فقال الملك : ومن لي بذلك ومن يجمعه ومن يبيعه ويكتفي الشغل فيه؟ (٩).

__________________

(١) أي معاذ الله ، ب س : ـ م.

(٢) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ١٦٥.

(٣) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٢٩٢.

(٤) ثم استثنى متصلا بقوله ، ب س : ـ م.

(٥) أي نفسا عصمها ، ب س : أي من عصمه ، م.

(٦) فما بمعنى من أو إلا بمعنى لكن فالاستثناء منقطع ... التي تصرف الإساءة فما مصدرية ، ب س : ـ م.

(٧) يوسف ، م : ـ ب س.

(٨) الملك ، س : ملك ، ب م.

(٩) اختصره المؤلف من البغوي ، ٣ / ٢٩٢ ـ ٢٩٤.

٢٣٩

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))

(قالَ) يوسف (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) أي أرض مصر وهي خزائن الطعام والأموال كلها ، وإنما قال ذلك لعلمه أن لا أحد أقوم منه بذلك وأكد ذلك بقوله (إِنِّي حَفِيظٌ) لما استودعتني من الخزائن (عَلِيمٌ) [٥٥] بوجوه مصالحها وبما وليتني أو حفيظ بتقديره في السنين المخصبة وسني المجاعة عليم بوقت الجوع حين يقع في الأرض الجدبة وبسياسة الملك وألسنة الناس أو كاتب حاسب أمين ، وإنما وصف نفسه بذلك لأنه مطلوب لملوك ممن يولونه ولأنه أراد أن يتوصل به إلى إمضاء أحكام الله وإقامة الحق وبسط العدل والتمكن مما لأجله يبعث الأنبياء إلى العباد ، قيل : إذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به (١) ، وروى مجاهد : «أنه أسلم على يده الملك» (٢) ، ففوض جميع أمره إلى يوسف وعزل قطفيرا وجعله مكانه ، ثم أن قطفيرا مات في تلك السنة فزوج الملك يوسف امرأته زليخا ، فوجدها عذراء وأخبرته أن زوجها كان عنينا لم يصل إليها ، فقال لها يوسف أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ فولدت له ولدين أفرايم وميشا واستوثق ليوسف ملك مصر فأقام في العدل ، وأحبه الرجال والنساء ، وهذا معنى قوله تعالى (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك التمكين الظاهر من كون الملك تابعا في كل ما رأى (مَكَّنَّا) أي ملكنا (لِيُوسُفَ) ملكا وأنعمنا عليه (فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر (يَتَبَوَّأُ) حال من يوسف ، أي ينزل ويتخذ منزلا (مِنْها) أي من أرض مصر (٣)(حَيْثُ يَشاءُ) أي كل مكان (٤) يريد منها ويصنع فيها ما يشاء ويحكم ما يريد بلا مزاحم له ، قرئ بالنون ، أي حيث يريد الله ، وبالياء (٥) ، أي حيث يريد يوسف من أماكن مصر ، وهي أربعون فرسخا في أربعين (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا) أي نختص بنعمتنا (مَنْ نَشاءُ) كالنبوة والإسلام والنجاة وغيرها (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [٥٦] أي الموحدين الصابرين على بلائنا ، قيل : «لم يزل يدعو الملك إلى الإسلام ويتلطف له حتى أسلم الملك وكثير من الناس فهذا في الدنيا» (٦).

(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧) وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨))

(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي ثواب الآخرة أفضل للموحدين المقرين بالبعث مما أعطي في الدنيا لهم (وَكانُوا يَتَّقُونَ) [٥٧] أي يخافون الله ويطيعونه ولا يعصون ، ثم جاء القحط بالناس بعد ما دبر يوسف في السنين المخصبة ما دبر للسنين المجدبة من جمع الطعام في الخزائن مقدار ما يكفي للسنين المجدبة للأكل والبيع حتى أكلوا جميع ما في أيديهم واحتاجوا إلى ما عند يوسف من الطعام ، فطفق يوسف ينفق من الخزائن لنفسه وللملك وحاشيته نفقة المجاعة في نصف النهار كل يوم مرة واحدة ، وينادي الملك : يا يوسف الجوع الجوع ، ويقول يوسف هذا أوان القحط فجعل أهل مصر يتنازعون من يوسف الطعام ، فباعهم في السنة الأولى بالنقود حتى لم يبق في أيديهم درهم ودينار ، وفي السنة الثانية باعهم بالحلي والجواهر كذلك ، وفي الثالثة باعهم بالمواشي والدواب ، وفي الرابعة باعهم بالعبيد والإماء ، وفي الخامسة بالضياع والعقار والدور ، وفي السادسة بأولادهم كلها ، وفي السابعة برقاب أنفسهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا صار ملكا له ، فقال الناس : ما رأينا ملكا أعظم من هذا ، ثم قال يوسف للملك : كيف رأيت صنع ربي فيما خولني؟ فما ترى؟ فقال الملك : الرأي رأيك ونحن لك تبع ، قال يوسف : إني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم بأسرهم

__________________

(١) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٨٢.

(٢) انظر الكشاف ، ٣ / ٨٢.

(٣) أي من أرض مصر ، ب س : ـ م.

(٤) مكان ، ب م : ما كان ، س.

(٥) «يشاء» : قرأ المكي بالنون ، والباقون بالياء التحتية. البدور الزاهرة ، ١٦٥.

(٦) عن مجاهد وغيره ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٩٦.

٢٤٠