عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٣٤

وأجمعهم ورددت عليهم أملاكهم (١).

روي : أن يوسف كان لا يشبع من طعام في تلك الأيام ، فقيل له أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال : إن شبعت نسيت الجائع (٢).

ثم قصد الناس مصر من كل ناحية وبلد يمتارون ، ووقع القحط في كنعان أكثر مما وقع في سائر البلاد من الشام ، فأرسل يعقوب بنيه إلى مصر للميرة فأمسك عنده بنيامين أخا يوسف لأمه ، وقال لهم : بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام ، فتجهزوا وسيروا لتشتروا منه الطعام ، فان الحاجة قد اشتدت علينا ، فأخذوا بضاعة من أبيهم فذهبوا إلى مصر ، فذلك قوله تعالى (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) وكانوا عشرة (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ) يوسف بأول ما نظر إليهم (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [٥٨] أي لم يعرفوا يوسف لبعد عهدهم وذهابه عن قلوبهم وشدة جوعهم ، ولأنه كان على سرير الملك وعلى رأسه تاج الملوك وفي عنقه طوق من ذهب بخلاف ما كانوا رأوه في الصغر ، قال ابن عباس : «كان بين أن قذفوه في البئر وبين دخلوا عليه أربعون سنة ، فلذلك أنكروه» (٣) ، فلما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية قال لهم يوسف : أخبروني من أنتم وما أمركم؟ فاني أنكر شأنكم لتكلمهم بلسان غريب في مصر ، قالوا : نحن قوم رعاة من أهل الشام ، أصابنا الجهد فجئنا نمتار طعاما ، فقال : لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي؟ قالوا : لا والله ما نحن بجواسيس ، وإنما نحن إخوة أب واحد شيخ صديق نبي من أنبياء الله تعالى ، قال : وكم أنتم؟ قالوا : كنا اثني عشر ، فذهب واحد معنا إلى البرية فهلك فيها وكان أحبنا إلى أبينا ، فقال : فكم أنتم هنا؟ قالوا : أحد عشر ، قال : فأين الآخر؟ قالوا : عند أبينا ، لأنه أخو الذي هلك من أمه وأبونا يتسلى به ، قال : فمن يعلم أن قولكم حق؟ قالوا : يا أيها الملك نحن في بلاد لا يعرفنا فيها أحد ، فقال يوسف : اتركوا بعضكم رهنا عندي وآتوني بأخيكم من أبيكم حتى أصدقكم فأنا أرضي بذلك ، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون ، فتركوه عنده ، وكان يوسف يحسن إليه (٤).

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩))

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي أصلحهم بما يحتاجون إليه في السفر ، وقيل : حمل لكل رجل بعيرا بعدتهم على عادتهم في القحط (٥)(قالَ) يوسف (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) أي بنيامين (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أي أتمه ولا أبخس الناس شيئا (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) [٥٩] أي أفضل من يضيف الضيف إذا نزل بي ، وقد كان أحسن إنزالهم وضيافتهم.

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١))

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ) أي بأخيكم من أبيكم (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي ليس لكم عندي طعام أكيله ، يعني تحرموا من الطعام (وَلا تَقْرَبُونِ) [٦٠] يجوز أن يكون داخلا تحت الجزاء مجزوما بالعطف عليه ، ويجوز أن يكون مجزوما على النهي ، أي لا تقربوا داري وبلادي ، فاني لا أكرمكم ولا أنظر إليكم (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي سنجتهد بطلبه عن أبيه حتى ننزعه من يده (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) [٦١] ما أمرتنا به.

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))

(وَقالَ) يوسف (لِفِتْيانِهِ) بالألف والنون المكسورة ، جمع فتى جمع كثرة ، ولفتيته بالتاء (٦) من غير ألف جمع قلة ، أي لغلمانه الكيالين (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ) أي أثمان ما أخذوه (فِي رِحالِهِمْ) جمع رحل ، أي في أوعيتهم ،

__________________

(١) اختصره من البغوي ، ٣ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

(٢) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢٩٧.

(٣) انظر البغوي ، ٣ / ٢٩٨.

(٤) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٢٩٨.

(٥) نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٢٩٩.

(٦) «لفتيانه» : قرأ حفص والأخوان وخلف بألف بعد الياء ونون مكسورة بعد الألف ، والباقون بحذف الألف بعد الياء وبتاء مكسورة بعد الياء. البدور الزاهرة ، ١٦٥.

٢٤١

وكانت بضاعتهم النعال والأدم (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) أي بضاعتهم ، يعني يعلمون كرامتي عليهم باعطاء البدلين ، وقيل : إنه رأى أخذ الثمن للطعام من أبيه وإخوته لوما ، فرده عليهم من حيث لا يعلمون تكرما ليعرفوا حق ردها (١)(إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) أي إلى أبيهم (٢) بكنعان (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [٦٢] أي لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا وليعلموا أن طلبنا عودهم ، لم يكن لأجل الثمن أو لأنهم لا يستحلون أكله إذا رأوا الثمن ، لأنهم أنبياء فيرجعون إليه.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣))

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أي يمنع في المستقبل إن لم نحمل أخانا إليه وذكروا إحسانه ، وإنه ارتهن شمعون لأجله (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا) بنيامين (نَكْتَلْ) بالنون ، أي نرفع المانع من الكيل فنشتري من الطعام بالكيل بسببه ، وبالياء (٣) ، أي يكتل هو يعني بنيامين ، لأنهم كانوا لا يبيعون من كل رجل إلا وقرا واحدا (وَإِنَّا لَهُ) أي لأخينا (لَحافِظُونَ) [٦٣] من الضيعة حتى نرده إليك.

(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤))

(قالَ) أبوهم يعقوب (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) أي ما آمنكم بقولكم وإنا له لحافظون (٤) على بنيامين (إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ) يوسف (مِنْ قَبْلُ) أي قبل هذا الزمان بمثل ذلك القول (٥) ، يعني كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بيوسف ما فعلتم بعد أن أخذت عليكم من العهد الوثيق من قبل ، فلو لم يحفظه الله تعالى لا ينفع حفظكم ولا حفظي ، ثم قال (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) بالألف نصب على التفسير والتمييز كما يقال هو خير رجلا أو حال ، وبغير الألف (٦) ، يعني «حفظا» تمييز أيضا ، والمراد أن حفظ الله تعالى خير من حفظكم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [٦٤] يرحمه بالحفظ من الضيعة كما حفظه من المجاعة ويرده إلى ولا يجمع على مصيبتين.

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥))

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) الذي حملوه من مصر (وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ) أي ثمن الطعام في جواليقهم (رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا) لأبيهم (يا أَبانا ما نَبْغِي) «ما» نفي لتزايد الكلام في وصف الملك بالإحسان إليهم كذبا ، أي ما نتزايد القول فيما وصفنا من إحسانه إلينا أو استفهام ، أي ما ذا نطلب بالكلام الذي أخبرناك به من إحسانه إلينا دليلا أكثر من رده البضاعة إلينا لم نقل ذلك تمد حاله ، ثم استأنفوا لتوضيح ما نبغي بقولهم (هذِهِ بِضاعَتُنا) أي ثمننا الذي أعطيناه (رُدَّتْ إِلَيْنا) فنستظهر بها (وَنَمِيرُ) عطف على المقدر أو على (ما نَبْغِي) ، أي لا نبغي على ما نقول ونأتي بالميرة ، وهي الطعام من بلد إلى بلد أو هو كلام مبتدأ ، أي نبغي أن نمير (أَهْلَنا) ليكون قوتا لهم من المجاعة فابعثه معنا (وَنَحْفَظُ أَخانا) في الذهاب والمجيء من الضيعة بقدر قوتنا لكي نحمل الطعام لأهلنا بسببه (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أي حمل بعير من أجله على عادتهم (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) [٦٥] أي حمل بعير شيء قليل على الملك لا يحبس ولدك بسببه إن أرسلته معنا.

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦))

(قالَ) لهم يعقوب (لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ) أي تعطوني (مَوْثِقاً) أي عهدا وثيقا بالقسم (مِنَ اللهِ)

__________________

(١) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٣٠٠.

(٢) أي إلى أبيهم ، م : ـ ب س.

(٣) «نكتل» : قرأ الأخوان وخلف بالياء التحتية ، والباقون بالنون. البدور الزاهرة ، ١٦٥.

(٤) ما آمنكم بقولكم وإنا له لحافظون ، ب س : ـ م.

(٥) بمثل ذلك القول ، ب س : ـ م.

(٦) «حافظا» : قرأ حفص والأخوان وخلف بفتح الحاء وألف بعد الحاء وكسر الفاء ، والباقون بكسر الحاء وإسكان الفاء. البدور الزاهرة ، ١٦٥.

٢٤٢

قيل : أراد أن يحلفوا له بالله عزوجل (١)(لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب القسم ، أي لن أرسله معكم حتى تحلفوا بالله أنكم تردونه إلي (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) استثناء منقطع ، أي لكنكم تهلكون جميعا بسبب أو لكنكم تغلبون فلا تطيقون الاتيان به أو متصل ، أي تأتوني به في كل حال إلا في حال الإحاطة بكم بأن ينزل بكم أمر من السماء أو من الأرض فيعذركم أو مفعول له ، والكلام المثبت في تأويله النفي ، أي لا يمتنعون من الاتيان به إلا للإحاطة بكم فضاق عليهم الأمر ، فحلفوا كما أراد أبوهم (فَلَمَّا آتَوْهُ) أي أعطوه (مَوْثِقَهُمْ) أي عهدهم المؤكد (قالَ) يعقوب (اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) [٦٦] أي شاهد وحافظ.

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧))

(وَقالَ) لهم وقت الخروج من عنده (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) إذا دخلتم مصر ، وقيل : من سكك مختلفة (٢) ، قاله لئلا يصابوا بالعين ، وليس ذلك كالطيرة المنهية لأن النبي عليه‌السلام كان يرقي من العين (٣) ، لأن العين حق لما أنهم أعطوا جمالا وقوة وامتداد قامة (٤) ، وقيل : يجوز أن يحدث الله عزوجل عند النظر إلى الشيء والإعجاب به نقصانا فيه ، ويكون ذلك ابتلاء من الله لعباده وليتميز المحقون بقولهم هذا من فعل الله عمن قال هذا أثر العين (٥) ، وهو قول المعتزلة ، وبطلانه ظاهر لصحة الحديث في تأثير العين (٦) ، وقيل : إنما قاله يعقوب لئلا يظن أهل مصر أنهم جواسيس (٧) ، ولم يوصهم في الكرة الأولى بالتفرقة ، لأنهم كانوا مجهولين بين الناس ، ثم اشتهرهم أهل مصر بالقربة (٨) عند الملك والتكرمة الخاصة ، ثم قال (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ) أي لا أنفعكم من قضائه إن أراد بكم سوء (مِنْ شَيْءٍ) سواء كنتم مجتمعين أو متفرقين ، لأن المقدر (٩) كائن (إِنِ الْحُكْمُ) أي ما القضاء (إِلَّا لِلَّهِ) إن شاء أصابكم العين وإن شاء لم يصبكم ، وهذا تفويض يعقوب أمورهم إلى الله مع التأكيد بقوله (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي اعتمدت في كل حال لي (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [٦٧] أي الواثقون بالله.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨))

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أي من السكك أو الأبواب المتفرقة ، وكانت أربعة ، وجواب (لَمَّا) محذوف وهو امتثلوا أمره أو الجواب (ما كانَ) يعقوب برأيه (يُغْنِي) أي يدفع (عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) يعني أصابهم ما شاءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بها وأخذ أخيهم بوجدان الصاع في رحله ، فلم ينفعهم رأيه وهو تصديق الله يعقوب فيما قال (إِلَّا حاجَةً) استثناء منقطع على معنى (لكِنَّ) حاجة ومرادا (فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) أي أظهرها لهم وتكلم (١٠) بها وهي شفقته عليهم إشفاق الآباء على الأبناء (وَإِنَّهُ) أي يعقوب (لَذُو عِلْمٍ) أي كان يعمل ويقول عن علم لا عن جهل (لِما عَلَّمْناهُ) أي لتعليمنا إياه أنه لا يصيبهم إلا ما أراد الله وقدره ، وعلم أيضا أن دخولهم من أبواب متفرقة لا ينفعهم من قضاء الله من شيء (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [٦٨] ما يعلم يعقوب ، لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم ، قال ابن عباس رضي الله عنه : «لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه» (١١).

__________________

(١) نقله عن الكشاف ، ٣ / ٨٥.

(٢) أخذ هذا المعنى عن السمرقندي ، ٢ / ١٦٩.

(٣) وهذا منقول عن السمرقندي ، ٢ / ١٦٩.

(٤) نقله عن البغوي ، ٣ / ٣٠٣.

(٥) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٣ / ٨٦.

(٦) وهذا الحديث : «العين حق». رواه البخاري ، الطب ، ٣٦ ، واللباس ، ٨٦ ؛ ومسلم ، السّلام ، ٤١ ، ٤٢.

(٧) هذا الرأي مأخوذ عن السمرقندي ، ٢ / ١٦٩.

(٨) بالقربة ، ب م : بالقربية ، س.

(٩) المقدر ، م : المقدور ، ب س.

(١٠) وتكلم ، ب س : ويكلم ، م.

(١١) انظر البغوي ، ٣ / ٣٠٤.

٢٤٣

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩))

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) أي إخوته ، قالوا هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيه به ، فقال أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي ، ثم أنزلهم وأكرم منزلتهم ، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة ، فبقي بنيامين وحده ، فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيا أجلسني معه (١) ، فقال يوسف بقي أخوكم هذا وحيدا ، وقال له : أتحب أن أكون بدل أخيك الهالك؟ قال : من يجد مثلك أخا ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف فدعاه إليه وأجلسه على مائدته وجعل يؤاكله ويتلطف به ، وهو معنى قوله تعالى (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) أي ضم إلى نفسه بنيامين وكالمه (قالَ) له في السر (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف (فَلا تَبْتَئِسْ) أي فلا تحزن (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [٦٩] بنا فيما مضى ، فان الله قد أحسن إلينا وجمعنا ولا تعلم إخوتك بما علمتك ، فقال بنيامين : لا أفارقك ، فقال يوسف : لا يمكنني إلا بعد أن أضيف إليك السرقة بشيء ، فقال : افعل ما شئت (٢).

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠))

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي أصلح لهم حاجتهم فوفى يوسف الكيل لكل واحد من إخوته حمل بعير ولبنيامين بعيرا باسمه (جَعَلَ السِّقايَةَ) أي وضع خفية المشربة من ذهب مرصع بالجواهر (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) بنيامين فخرجوا وحملوا الطعام ودخلوا في الطريق ، فلما انفصلوا عن مصر نحو الشام أرسل يوسف من استوقفهم فوقفوا (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أي نادى منادي (٣) الملك بأمره (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي القافلة التي تحمل الميرة ، وأصل العير أن يذكر لقافلة الحمير ، ثم كثر ذلك حتى قيل لكل قافلة عير ، والعير جمع العير (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [٧٠] إناء الملك ظاهرا لمن لا يعرف الأمر ، وقيل : قالوه من غير أمر يوسف (٤) ، وقيل : قالوه على تأويل أنهم سرقوا يوسف من أبيه فلا يكون يهتانا في الحقيقة (٥).

(قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢))

(قالُوا) أي إخوة يوسف (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) أي والحال أنهم قد توجهوا إلى فتيان الملك المنادين (ما ذا تَفْقِدُونَ) [٧١] أي ما الذي تطلبونه بفقده وهو طلب المعدوم بعد الوجود.

(قالُوا نَفْقِدُ) أي نطلب (صُواعَ الْمَلِكِ) أي الإناء الذي يشرب منه الملك ، وجعله مكيالا لئلا يكال بغيره ، وكان الشرب من فضة وذهب مباحا في شريعته (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ) أي بالصواع (حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) [٧٢] أي كفيل ، يقوله المؤذن وهو أفرائم من فتية يوسف.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤))

(قالُوا) أي إخوة يوسف مقسمين (تَاللهِ) أي والله (لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا) أي لم نأت (لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) أي لنسرق في أرض مصر أو نخون أحدا (وَما كُنَّا سارِقِينَ) [٧٣] أي لم نتصف بالسرقة قط أو منذ قطعنا هذا الطريق ، فاسألوا من مررنا به هل ضررنا أحدا؟ وإنما قالوا لقد علمتم لهم مستشهدين بعلمهم ، فمن أين علموا؟ لأنهم كانوا معروفين بالديانة أنهم لا يتناولون ما ليس لهم ولأنهم وإذا دخلوا مصر عقدوا أفواه دوابهم كيلا يتناول شيئا من حروث الناس أو لأنهم ردوا البضاعة التي جعلت في رحالهم (٦).

__________________

(١) وفي النسخ التي راجعتها «أجلسني الملك معه» ، وهذا خطأ على ما أظن ، لعل الصواب ما أثبتناه وهو «أجلسني معه» ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٠٤.

(٢) اختصره من البغوي ، ٣ / ٣٠٤ ، ٣٠٥.

(٣) منادى ، ب س : مناد ، م.

(٤) نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٣٠٦.

(٥) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٣٠٦.

(٦) اختصره المفسر من البغوي ، ٣ / ٣٠٧.

٢٤٤

(قالُوا) أي فتيان الملك (فَما جَزاؤُهُ) أي أي شيء جزاء السارق عندكم (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) [٧٤] في قولكم وما كنا سارقين وهذا فرض لانتفاء براءتهم وفرض التكذيب لا يكون تكذيبا ، وكان حكم أرض مصر للسارق الضرب والتضمين ، والحكم في أرض كنعان أخذ السارق للمسروق منه بدل المسروق ، فأراد يوسف أن يحبس أخاه بنيامين عنده ، فرد الحكم إليهم ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم.

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥))

(قالُوا) أي إخوة يوسف (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ) المسروق (فِي رَحْلِهِ) أي في وعائه (فَهُوَ) أي السارق (جَزاؤُهُ) أي يسلم إلى المسروق منه للإستعباد (١) ، وهذه الجملة تقرير للحكم المذكور ، يعني ليس جزاؤه غيره (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [٧٥] أي الفاعلين ما ليس لهم فعله من سرقة مال الغير ، فقال الرسول عند ذلك لا بد لي أن أفتش أمتعتكم واحدا واحدا ، وقيل : أمره يوسف أن يردهم إليه ليفتش أوعيتهم بين يديه (٢).

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

(فَبَدَأَ) يوسف (بِأَوْعِيَتِهِمْ) لإزالة التهمة عنه (قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) بنيامين ، روي : «أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قدمهم به حتى إذا لم يبق إلا رحل بنيامين ، قال : ما أظن أن هذا أخذ ذلك فتركه فقال إخوته والله لا نترك حتى تنظر في رحله ، فانه أطيب لنفسك ولأنفسنا ، ففتح رحله» (٣)(ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) أي السقاية أو الصاع يذكر ويؤنث (مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) أي من رحل بنيامين أخي يوسف ، فنكس إخوته رؤوسهم من الحياء ، وأقبلوا على بنيامين ، وقالوا : ماذا صنعت فضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل ، لم يزل لنا منكم بلاء ، متى أخذت الصواع؟ فقال بنيامين : بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء ، ذهبتم بأخي يوسف فأهلكتموه في البرية ، وإني ما سرقت شيئا في عمري ، وإنما وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم ، فأخذوا بنيامين رقيقا وردوه إلى يوسف كما يرد السارق (٤) ، ثم قال الله تعالى (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الكيد العظيم لهم ، يعني ما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد (كِدْنا لِيُوسُفَ) أي دبرنا جزاء الكيد له ، يعني علمناه إياه بالوحي في أمرهم أو فعلتم بهم من الكيد كما فعلوا بيوسف من قبل ، وقال يعقوب له فيكيدوا لك كيدا ، والكيد من الخلق الحيلة السيئة ومن الله التدبير الحق لمجازاة أعمال الخلق ، ثم قال (ما كانَ) أي لم يكن يوسف (لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي في حكمه ، لأن حكمه أن على السارق الضرب وغرم ضعفي قيمة المسروق (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي إلا بمشية الله أخذه وقد شاءه بقضاء أبيه يعقوب ، فلو لا شريعة أبيه لا تمكن يوسف من أخذ أخيه (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم والعمل كما رفعنا درجة يوسف على إخوته ، بالإضافة وتركها (٥)(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [٧٦] قال ابن عباس : «فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله ، فالله تعالى فوق كل عالم» (٦) وهو العليم ، وقيل : إنه عام مخصوص بعلم الله ، إذ لا عليم أعلم منه ولا يناسبه أحد في علمه (٧).

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧))

(قالُوا) أي إخوة يوسف (إِنْ يَسْرِقْ) بنيامين (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) أي لبنيامين من أمه يوسف (مِنْ قَبْلُ) أي قبل

__________________

(١) للاستعباد ، ب : للاستبعاد ، س م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٧١.

(٢) أخذه المصنف عن البغوي ، ٣ / ٣٠٨.

(٣) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٠٨.

(٤) نقله المصنف عن البغوي ، ٣ / ٣٠٨.

(٥) «درجات من» : قرأ الكوفيون بتنوين «درجات» ، والباقون بحذف التنوين. البدور الزاهرة ، ١٦٥.

(٦) انظر السمرقندي ، ٢ / ١٧١ ؛ والبغوي ، ٣ / ٣٠٩.

(٧) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

٢٤٥

بنيامين في حال صغره ، قيل : «كان لجدة أبي أمه صنم يعبده فأخذه سرا فكسره وألقاه في الطريق لئلا يعبد» (١) ، وقيل : «أخذ دجاجة من بيت يعقوب فأعطاها سائلا» (٢) ، وقيل : «كان يوسف عند عمته بالحضانة (٣) بعد موت راحيل أمه وكانت تحبه حبا شديدا لا تصبر عنه ، فلما شب أراد يعقوب أن ينزعه (٤) منها (٥) فأخذت منطقة إسحق التي توارثت منه ، لأنها كانت أكبر ولد إسحق ، وهم كانوا يتوارثون بالكبر فشدتها على وسط يوسف تحت ثيابه وهو نائم ، وقالت لأهلها : فقدت المنطقة ، فلما ذهب إلى أبيه يعقوب بعد ما شب طلبت المنطقة فوجدتها في وسطه ، فقالت : يا يعقوب إن لي يوسف عبدا ، لأنه سرق منطقتي (٦) ، وكان في شريتهم استرقاق السارق ، فقال يعقوب : إن كان كذلك فهو مسلم لك فأمسكته حتى ماتت» (٧) ، فلذلك قالوا فقد سرق أخ له من قبل (فَأَسَرَّها) أي أضمر كلمتهم (يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) وهي إنه (سَرَقَ أَخٌ لَهُ) عنوا به يوسف (وَلَمْ يُبْدِها) أي لم يصرح بالكلمة (لَهُمْ قالَ) يوسف (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) نصب على التمييز ، أي منزلة عند الله ممن رميتموه بالسرقة ، لأن سرقتكم ظهرت وسرقته لم تظهر ، وقيل : إن في قوله (فَأَسَرَّها) إضمارا على شريطة التفسير ، وهو أنتم شر مكانا وإنما أنثه بتأويل الكلمة أو الجملة (٨) ، وقوله (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) بدل من (فَأَسَرَّها) ، فالمعنى : أنه لم يصرح لإخوته قوله ب (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) ، بل قاله في نفسه (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) [٧٧] أي بما تقولون من الكذب ، يعني يعلم أن وصفكم كذب ، لأنه لم يصح لي ولا لأخي سرقة. فليس الأمر كما تصفون.

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨))

(قالُوا) استعطافا منه بذكر حال أبيهم يعقوب عنده (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ) أي لبنيامين (أَباً شَيْخاً كَبِيراً) أي كبير السن أو كبير القدر وإنه أحب إليه منا ، وإنه كان مستأنسا به بدل أخيه الهالك (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [٧٨] في أفعالك فلا تغير عادتك أو المحسنين إلينا بتوفية الكيل والفضل وحسن الضيافة ورد البضاعة ، فأتمم إحسانك إلينا كما قلنا لك به.

(قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩))

(قالَ) يوسف (مَعاذَ اللهِ) أي أعوذ بالله معاذا من (أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) ولم يقل «سرق» تحرزا من الكذب (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) [٧٩] ف (إِذاً) جواب لهم وجزاء ، لأن المعنى : إن أخذنا بريئا غير مجرم (٩) لظلمنا على قضية شريعتكم بأخذ غير السارق مكان السارق أو لأن الله أمرني بالوحي إلى أن أخذ بنيامين لمصالح كثيرة علمها في ذلك ، فلو أخذت غير المأمور لكنت ظالما وعاملا على خلاف الوحي.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١))

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا) أي آيسوا ، وزيادة السين والتاء (١٠) للمبالغة في القنوط (مِنْهُ) أي من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوا (خَلَصُوا) أي اعتزلوا وانفردوا عن يوسف وسائر الناس (نَجِيًّا) أي متناجين في الخلوة ، يعني يتشاورون لا يخالطهم غيرهم ، والنجي مصدر جعل نعتا كالعدل ، وهو يصلح للواحد والجماعة والذكر والأنثى (قالَ

__________________

(١) عن سعيد بن جبير وقتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٣١٠.

(٢) عن سفيان بن عيينة ، انظر البغوي ، ٣ / ٣١٠.

(٣) بالحضانة ، ب س : ـ م.

(٤) ينزعه ، س : ـ ب م.

(٥) لا تصبر عنه فلما شب أراد يعقوب أن ينزعه منها ، ب س : ـ م.

(٦) لأنه سرق منطقتي ، ب س : ـ م.

(٧) عن محمد بن إسحاق ، انظر البغوي ، ٣ / ٣١٠ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٨٨ ـ ٨٩.

(٨) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٨٩.

(٩) بريئا غير مجرم ، س : بريئا بمجرم ، ب م.

(١٠) فيه ، + س.

٢٤٦

كَبِيرُهُمْ) في العقل والعلم لا في السن وهو يهوذا ، وقيل : «هو شمعون وكان له الرياسة على إخوته» (١)(أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً) أي عهدا (مِنَ اللهِ) ولم تحفظوا عهد أبيكم (وَ) ألم تعلموا (مِنْ قَبْلُ) أي قبل هذه الحالة (ما فَرَّطْتُمْ) أي تفريطكم ، أي تقصيركم (فِي يُوسُفَ) أي في شأنه من الخيانة العظيمة (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي فلن أفارق أرض مصر التي وقعت النائبة له فيها (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) بالخروج منها ويدعوني (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) بالخروج من مصر وترك أخي أو بخلاص أخي من يد الملك بسبب من الأسباب أو يحكم الله لي بالسيف فأقاتلهم وأسترد أخي (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) [٨٠] أي أعدل العادلين وأقضى القاضين في الحكم.

قيل : في القصة أنهم غضبوا شديدا لهذه الحالة ، فقال منهم روبيل وكان إذا غضب لم يقم لغضبه شيء ، وإذا صاح صيحة ألقت كل امرأة حامل سمعت صوته ولدها ، وكان إذا مسه أحد من أولاد يعقوب سكن غضبه : كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا : عشرة ، فقال : اكفوني أنتم وأنا أكفيكم الملك أو عكس ذلك ، فدخلوا على يوسف ، فقال روبيل : لتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا تبقي بمصر حامل إلا ألقت ولدها ، فقال يوسف لابن له صغير بعد رؤية غضبه وقيام كل شعرة في جسده خرجت من ثيابه : قم إلى جنب روبيل فمسه وذهب إلى جنبه وهو لا يعلمه (٢) فمسه فسكن غضبه ، فقال روبيل : إن ههنا لبذرا من بذر يعوقب ، فقال يوسف : من يعقوب؟ فغضب ثانيا ، فقام يوسف إليه فركضه برجله وأخذ بتلابيبه فأوقعه على الأرض ، فقال أنتم معشر العبرانيين تحسبون أن لا أحد أشد منكم قوة ، ولما صار أمرهم إلى هذا خضعوا وذلوا ، فقالوا : يا أيها العزيز (إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) إلى قوله (الْحاكِمِينَ)(٣) ، ثم قال يهوذا (٤)(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ) بنيامين (سَرَقَ وَما شَهِدْنا) أي ما قلنا لك (إِلَّا بِما عَلِمْنا) وليست هذه شهادة قطعية منا على سرقته ، إنما هو خبر عن ضيع ابنك ، لأنا رأينا الصواع قد أخرج من رحله وحسبك بهذا شاهدا (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ) أي لما غاب من أموره في ليلة ونهاره (حافِظِينَ) [٨١] أي ما علمنا أنه سرق بالصحة أم دس الصواع بالليل في رحله ولم يشعره ، يعني لم نطلع على أنه سرق ولكنهم سرقوه.

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢))

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) أي أهلها وهي قرية من قرى مصر ، كانوا ارتحلوا منها إلى مصر (وَ) اسأل (الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي القافلة التي كنا فيها وصحبناهم ، وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) [٨٢] في قولنا.

قيل : كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا العمل بأبيه وإخوته مع وفور علمه ، وفيه معنى العقوق وقطيعة الرحم وقلة الشفقة ، أجيب بأنه عمل ذلك بالوحي ليزيد في بلاء يعقوب وتضاعف له الأجر ويلحقه في الدرجة بآبائه الماضين ، فرجعوا إلى أبيهم يعقوب بذلك القول فاتهمهم يعقوب.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣))

(قالَ) يعقوب لبنيه (بَلْ سَوَّلَتْ) أي سهلت وزينت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) وهو حمل أخيكم إلى مصر لطلب نفع عاجل (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فعلي صبر حسن من غير جزع لا شكوى فيه إلى أحد (عَسَى اللهُ) أي لعله (أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي يوسف وبنيامين وأخاهم المقيم بمصر لأجلكم (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بحزني ووجدي على فقدهم (الْحَكِيمُ) [٨٣] في ابتلائي لحكمة ومصلحة وتدبير ردهم علي.

__________________

(١) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٧٢.

(٢) لا يعلمه ، ب : لا يعلم ، س م.

(٣) نقله عن البغوي ، ٣ / ٣١١.

(٤) راجع في هذا الموضوع إلى تفسير قوله «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» ، رقم الآية (١٠١) من سورة يوسف.

٢٤٧

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤))

(وَتَوَلَّى) أي أعرض (عَنْهُمْ) أي عن بنيه كراهة خبرهم (وَقالَ يا أَسَفى) أي يا حزنا (عَلى يُوسُفَ) والأسف أشد الحزن والحسرة ، والألف بدل من ياء الإضافة لتطويل الصوت بالتأسف ، وإنما تأسف على يوسف دون غيره من أخيه ، والثالث لأن كل نائبة حلت به بعد يوسف كانت دون نائبة نفسه (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي من البكاء الذي سببه الحزن ، لأن البكاء يمحق سواد العين ويقلبه إلى البياض ، قيل : قد عمي بصره (١) ، وقيل : كان يبصر يسيرا (٢)(فَهُوَ كَظِيمٌ) [٨٤] أي مكظوم ، من الكظم وهو شد السقاء على مليه ، والمراد أنه المملوء من الحزن الممسك عليه ، يعني كان يعقوب مملوء من الغيظ على أولاده ، ومع ذلك لا يظهر لهم ما يسوءهم ، قال قتادة : «يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا» (٣).

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥))

(قالُوا) أي بنوه (تَاللهِ تَفْتَؤُا) أي لا تزال ، والأصل «لا تفتأ» ، حذفت منه «لا» مع إرادة النفي ، إذ لا يلتبس بالإثبات (٤) ، لأنه لو كان إثباتا للزم اللام أو النون أو كلاهما للقسم ، يعني لا تفتأ (٥)(تَذْكُرُ يُوسُفَ) وهو منصوب المحل على أنه خبر «لا تفتأ» لكونه من الأفعال الناقصة ، المعنى : أنك لا تزال تذكره من شدة حبه (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) أي قريبا من الموت أو فاسد العقل والجسم ذائبا من الهم والحزن ، والحرض مصدر وضع موضع الاسم ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) [٨٥] أي الميتين.

قيل : مكث يعقوب ثمانين سنة لم تجف دموعه من فراق يوسف ولم يخل الحزن عن قلبه يوما ، وما ساء ظنه بالله ساعة (٦) ، وإنما جازت لنبي الله تلك المبالغة في الجزع ، لأن الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند شدة الحزن لا بالقصد والاختيار.

(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦))

(قالَ) يعقوب عند ذلك لما رأى غلظتهم (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) أي همي الذي لا يصبر عنه فيفشي إلى أحد (وَحُزْنِي) أي همي اليسير (إِلَى اللهِ) لا إلى غيره ، يعني لا أشكوهما إليكم (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [٨٦] وهو أن يوسف حي وليس بميت.

قيل : إنما علم ذلك من تحقيق رؤيا يوسف (٧) ، وقيل : سأل ملك الموت في المنام هل قبضت روح قرة عيني يوسف؟ قال : لا أنه في الدنيا حي فسكن قلب يعقوب ، فطمع في رؤيته (٨).

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))

ثم قال يعقوب لهم (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا) إلى مصر (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ) من التحسس وهو طلب الشيء بالحاسة والتجسس بالجيم في معناه ، قيل : إنه بالحاء يستعمل في الخير وبالجيم في الشر (٩) ، أي اطلبوا الخبر منه (وَ) من (أَخِيهِ) بنيامين ، قالوا : أما بنيامين فلا نترك الجهد في شأنه ، وأما يوسف فانه ميت ونحن لا نطلب الأموات ، فقال لهم يعقوب (وَلا تَيْأَسُوا) أي لا تقنطوا (مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي من رحمته (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ) أي لا يقنط (مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [٨٧] بنعمته.

قيل : إن سبب ابتلاء يعقوب بفراق يوسف أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور من ذبحه (١٠) ، وقيل :

__________________

(١) نقله المصنف عن الكشاف ، ٣ / ٩٠.

(٢) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٩٠.

(٣) انظر البغوي ، ٣ / ٣١٥.

(٤) إذ لا يلتبس بالإثبات ، ب س : ـ م.

(٥) يعني لا تفتأ ، ب س : ـ م.

(٦) لعل المفسر اختصره من البغوي ، ٣ / ٣١٥.

(٧) نقل المؤلف هذا الرأي عن السمرقندي ، ٢ / ١٧٤.

(٨) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ١٧٤.

(٩) وهذا القول منقول عن البغوي ، ٣ / ٣١٩.

(١٠) نقله عن البغوي ، ٣ / ٣١٧.

٢٤٨

طبخه فقام مسكين ببابه فلم يطعمه (١) ، وروي : «أن الله تعالى أوحى إلى يعقوب أتدري لما عاقبتك وحبست عنك يوسف أربعين أو ثمانين سنة؟ قال : لا يا إلهي ، قال : لأنك شويت عناقا وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه» (٢).

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨))

قوله (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) فيه إضمار ، تقديره : امتثلوا أمر أبيهم من تحسس (٣) يوسف وأخيه ، فخرجوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف ، فلما دخلوا عليه (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) وهو لغة مصر للملك (مَسَّنا) أي أصابنا (وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي الشدة والجوع (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي قليلة ردية كاسدة لا تؤخذ في الطعام وتؤخذ في غيره ، قالوا ذلك لأن الطعام كان عزيزا في ذلك اليوم ، فلا يؤخذ إلا الجيد ، قيل : «هو متاع الأعراب من الصوف والأقط» (٤) ، وقيل : الأدم والنعال (٥) ، وقيل : «دراهم زيوف» (٦)(فَأَوْفِ) أي أتمم (لَنَا الْكَيْلَ) كما كنت تعطينا بالثمن الجيد من قبل (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) أي لا تنقص مما قلنا أو تفضل بنا بالصدقة أيضا ، وكانت حلالا للأنبياء في شريعتهم ، وقيل : «تصدق علينا برد أخينا بنيامين» (٧) وهو قاعد عنده (إِنَّ اللهَ يَجْزِي) أي يثيب (الْمُتَصَدِّقِينَ) [٨٨] ولم يقولوا يجزيك ، لأنهم ما علموا أنه مؤمن.

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩))

(قالَ) يوسف (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) حين فرقتم بينهما وهو أخوه لأبيه وأمه وألقيتم يوسف في البئر ليموت ثم بعتموه وكنتم تؤذون أخيه بعد فقد يوسف بأنواع الأذى ، وهو لا يقدر أن يتكلم أحدا منهم إلا كلام الذليل للعزيز (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) [٨٩] أي مذنبون عاصون أو جاهلون بجهل الشباب أو جاهلون فيما يؤول إليه أمر يوسف ، وروي : أنه أخرج كتابا فيه بيع يوسف ، فدفع إليهم ونظر فيه يهوذا فعرف خطه وقال نحن بعنا هذا الغلام وكان ملكنا إن كنا نرى الغنم ، فقال يوسف ظلمتم ، لأنكم بعتم الحر وأنا أعلم به ، فدعا يوسف السيافين وأمرهم بأن يقتلوهم جميعا ، فاستغاثوا كلهم ، وقالوا : إن لم ترحمنا فارحم الشيخ الضعيف ، فانه قد جزع على ولد واحد ، فكيف وقد يهلك أولاده كلهم؟ فقال : «هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون» ، ووصفهم ما فعلوا بهما ، وإنما قال هذا الكلام لهم لأنه لما سمع قولهم (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) الآية رق قلبه لهم (٨).

(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠))

ثم أشار تعالى إلى تعريف نفسه وتعظيم صنيعهم بالجهالة وتوبتهم وعفوه ، فلذلك (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) على التوهم أو هم عرفوه بشمائله حين كلمهم بذلك ، وقيل : «تبسم عند ذلك فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم» (٩) ، قرئ «إنك» بهمزة مكسورة على الخبر ، وبتحقيق الهمزتين ، وبتسهيل الهمزة الثانية مع فصل ألف بينهما (١٠)(قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) بنيامين وذكر أخيه لبيان ما سألوه عنه (قَدْ مَنَّ اللهُ) أي أنعم

__________________

(١) وهذا مأخوذ عن البغوي ، ٣ / ٣١٧.

(٢) عن وهب ابن منبه ، انظر البغوي ، ٣ / ٣١٧.

(٣) تحسس ، س م : تجسس ، ب.

(٤) عن عبد الله بن الحارث ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٧٤.

(٥) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٣٢٠.

(٦) عن سعيد بن جبير ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٧٤.

(٧) عن ابن جريج والضحاك ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٢٠.

(٨) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١٧٤ ـ ١٧٥.

(٩) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٢١.

(١٠) «أئنك» : قرأ المكي وأبو جعفر بهمزة واحدة مكسورة على الإخبار والباقون بهمزتين : الأولى مفتوحة والثانية مكسورة علي الاستفهام وسهل الهمزة الثانية مع إدخال ألف الفصل قالون والبصري وسهلها من غير إدخال ورش ورويس ولهشام وجهان التحقيق مع الإدخال وتركه وللباقين التحقيق بلا إدخال. البدور الزاهرة ، ١٦٦.

٢٤٩

(عَلَيْنا) بأن جمع بيننا بالصبر (إِنَّهُ) أي الشأن (مَنْ يَتَّقِ) الله بأداء الفرائض واجتناب المعاصي (وَيَصْبِرْ) عما حرم الله عليه من الزنا والقتل وغيرهما أو على العذوبة أو على الشدة والحبس (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [٩٠] أي الموصوفين بهذه الصفات ، ووضع المظهر موضع المضمر تنبيها على قدرهم عند الله.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

(قالُوا) أي إخوة يوسف له معتذرين (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ) أي اختارك وفضلك (عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) [٩١] أي وما كنا في صنيعنا بك إلا مذنبين مجرمين يقال فلان خطأ إذا تعمد الذنب وأخطأ إذا لم يتعمد ، ولما اعترفوا بذنوبهم (قالَ) يوسف وكان حليما (لا تَثْرِيبَ) ولا لوم ولا تعيير (عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي لا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم ، ف (الْيَوْمَ) ظرف ل (عَلَيْكُمُ) أو ل «التثريب» ، ثم دعا لهم بمغفرة ما فرط منهم بقوله (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فيما فعلتم من القبيح (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [٩٢] من غيره تعالى يرحم ويتجاوز عن ذنب من تاب إليه وأطاع أمره ، فلما عرف نفسه لهم سألهم عن أبيه قالوا : ذهبت عيناه فأعطاهم قميصه ، وقال (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) أي يعد مبصرا كما كان أول خلقه أو يأت إلي بصيرا صحيحا ، قيل : هو قميص إبراهيم الذي ألبسه جبريل حين ألقي في النار فبردت عليه النار وكان من ثياب الجنة فصار إلى يعقوب بالتوارث فجعله يعقوب في عوذة ، وعلقه في عنقه وكان معه حين ألقي في البئر فنشره جبريل وألبسه في الجب بعد نزع إخوته قميصه عنه وكان القميص معه إلى ذلك الزمان فأرسله إلى أبيه ليبرأ من العمي ، لأن فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا على سقيم إلا عوفي (١) ، ثم قال يوسف لإخوته (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) [٩٣] فاختلفوا فيما بينهم فقال كل واحد : أنا أذهب به ، فقال يوسف : ليذهب به الذي ذهب بقميصي الأول ، فقال يهوذا أنا ذهبت بالقميص الأول وأحزنته به فسأفرحه بهذا بأن أخبره بأنه حي صحيح سلم عليك وأمر لهم بالهدايا والدواب والرواحل فتوجهوا إلى كنعان.

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤))

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) أي خرجت القافلة من عمران مصر (قالَ أَبُوهُمْ) يعقوب بكنعان لولد ولده (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) [٩٤] أي تسفهوني وتجهلوني لصدقتموني ، يقال فنده فلان إذا نسبه إلى الهرم وزوال العقل من الكبر ، قيل : «هي ريح القميص من مسيرة ثلاثة أيام» (٢) ، وقيل : «كان بينهما ثمانون فرسخا» (٣) ، وقيل : استأذنت الصبا ربها أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير (٤).

(قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧))

(قالُوا) أي أولاد أولاده (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) [٩٥] أي لفي خطئك كما كنت في القديم من ذكر يوسف لا تنساه بمحبتك وتعتقد أنه حي تلقاه حديثا.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) أي المبشر عن يوسف وهو يهوذا ، قال ابن عباس : «حمل القميص يهوذا وخرج حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتى أباه وكانت المسافة ثمانين فرسخا» (٥)(أَلْقاهُ) أي طرح البشير أو يعقوب وضع القميص (عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ) أي رجع (بَصِيراً) بعد ما كان أعمى وعادت قوته بعد ضعفه وشبابه بعد هرمه وسروره بعد حزنه (قالَ) يعقوب لأولاد أولاده (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) يعني قوله إني لأجد

__________________

(١) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١٧٥ ـ ١٧٦ ؛ والبغوي ، ٣ / ٣٢٣.

(٢) عن مجاهد ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٢٣.

(٣) عن الحسن ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٢٣.

(٤) نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٣٢٣.

(٥) انظر البغوي ، ٣ / ٣٢٤.

٢٥٠

ريح يوسف أو قوله لا تيأسوا من روح الله ، فالمفعول محذوف وما بعده كلام مستأنف أو المفعول قوله (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [٩٦] من حيوة يوسف وإن الله يجمع بيننا.

وروي : أنه قال للبشير : كيف يوسف؟ قال إنه ملك مصر؟ فقال يعقوب : ما أصنع بالملك؟ على أي دين تركته؟ قال : على دين الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة (١).

(قالُوا) أي أولاد يعقوب بعد الاجتماع عنده (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) [٩٧] أي مذنبين.

(قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩))

(قالَ) لهم يعقوب (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) قال أهل التفسير هو اخر الدعاء لهم إلى السحر ليعتمد به وقت الإجابة ، وهو الوقت الذي يقول الله تعالى هل من داع فأستجيب له ، وقيل : «هو ليلة الجمعة وقت السحر موافق ليلة عاشوراء» (٢) ، وقيل : «معناه سوف أستغفر لكم ربي بعد أن أسأل يوسف أن يغفر عنكم» (٣)(إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [٩٨] لمن تاب وأطاع.

روي : أن يعقوب لما انتهى إلى الموعد قام إلى الصلوة بالسحر ، فلما فرغ منها رفع يديه إلى الله تعالى ، ثم قال : اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم يوسف فأوحى الله إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين (٤) ، وقيل : «كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة» (٥) ، ويوسف وإخوته خلفه يؤمنون أذلة خاشعة حتى بلغ جهدهم ، وظنوا أنهم الهلكة إذ نزل جبريل عليه‌السلام فقال : إن الله قد أجاب دعوتك وتاب على ولدك وعقد مواثيقهم على النبوة بعدك.

وروي : أن يوسف كان بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة وجهازا كثيرا ليأتوا بيعقوب وأهله وولده فاستعد يعقوب للخروج إلى مصر فخرجوا وهم اثنان وسبعون من بين رجل وامرأة ، وكانوا لما خرجوا من مصر مع موسي هاربين من فرعون ستمائة ألف وسبعين ألفا سوى الذرية والهرمى ، فلما دنوا من مصر خرج يوسف والملك الأكبر بأربعة آلاف من الجند وعظماء المصريين يتلقون يعقوب وقد كان يعقوب يمشي متكئا على يهوذا ، فنظر إلى الناس والخيل ، فقال : يا يهوذا هذا فرعون مصر؟ قال : هذا ابنك ، فلما دنا كل واحد منهما من الآخر ذهب يوسف يبدؤه بالسلام ، فقال جبريل : لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام ، فقال يعقوب : السّلام عليك يا مذهب الأحزان (٦).

وروي أن يوسف نزل في قبة ضربت في الصحراء من قباب الملوك التي تحمل على البغال ، فأمر أن يرفع إليه أبواه فدخلا عليه القبة وتعانقا فيها وبكيا وقربهما منه ، وقال : يا أبت بكيت حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة يجمعنا؟ قال : بلى يا بني ولكني خشيت أن يسلب دينك فيحال بيني وبينك (٧) ، فذلك قوله تعالى (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) أي في القبة المضروبة (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) أي ضمهما إلى نفسه بالاعتناق والتقريب منه ، قيل : أراد بأبويه يعقوب وخالته ليا (٨) ، وكانت أمه ماتت في نفاس بنيامين ، وهو الأكثر ، وقيل : هو وأمه ، وكانت حية وهو الأظهر (٩) ، وقيل : إن الله أحيى أمه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر (١٠)(وَقالَ) يوسف بعد ما قالوا من القبة فجاؤا إلى قريب من مصر (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [٩٩] على تقدير إن شاء الله دخلتم آمنين ، فحذف الجزاء لدلالة الكلام عليه و (آمِنِينَ) حال من ضمير (ادْخُلُوا) ، والجملة الاستثنائية اعتراض بينهما ، والمعنى :

__________________

(١) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٣٢٥.

(٢) عن طاوس ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٢٥.

(٣) عن الشعبي ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٢٥.

(٤) نقله عن البغوي ، ٣ / ٣٢٥.

(٥) عن وهب ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٢٥.

(٦) اختصره المصنف من البغوي ، ٣ / ٣٢٥.

(٧) نقله عن البغوي ، ٣ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٨) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٣٢٦.

(٩) هذا مأخوذ عن البغوي ، ٣ / ٣٢٦.

(١٠) نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٣٢٦.

٢٥١

ادخلوها آمنين سالمين من الخوف ، لأنها أرض الجبابرة أو من الجوع أو من الجواز ، لأنهم كانوا لا يدخلون مصر قبلهم إلا بجواز من ملوكهم ، وقيل : (إِنْ) بمعنى إذ يريد : إذ شاء الله (١) ، فعلى هذا لا يكون استثناء.

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠))

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أي على السرير أجلس أباه عن يمينه وأمه عن شماله ، والرفع هو النقل إلى العلو (وَخَرُّوا) أي سقطوا (لَهُ) أي لأجل يوسف على الأرض (سُجَّداً) نصبه حال مقدرة من ضمير (خَرُّوا) ، لأن السجود بعد الخرور يكون ، يعني سجد له إخوته وأبوه وأمه أو خالته بوضع الجباه على الأرض على طريق التحية والتعظيم لا على طريق العبادة ، وكان ذلك جائزا في الأمم السالفة ، فنسخت في هذه الشريعة ، وقيل : هو الانحناء والتواضع البليغ (٢) ، وقيل : سجدوا على وجوههم شكرا لله تعالى لأجل اجتماعهم بيوسف (٣) ، فاتفق أنه كان في ناحية القبلة ويرد هذا القول لفظة (لَهُ) ، لأن الضمير ليوسف (وَقالَ) يوسف عند ذلك (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) قال الحسن البصري رضي الله عنه : «قد كان يوسف حين رآها ابن سبع سنين فظهر تأويلها على رأس أربعين سنة» (٤) ، وقيل : ثمانون سنة وإليه ينتهي الرؤيا (٥)(قَدْ جَعَلَها) أي رؤياي (رَبِّي حَقًّا) أي صدقا أو كائنا لا شك فيه ، وهو مصدر أو صفة مصدر ، أي جعلا حقا (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) أي أنعم على صنعه (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ولم يقل «من الجب» مع كونه أشد من السجن استعمالا للكرم كيلا تخجل إخوته بعد ما قال «لا تثريب عليكم اليوم» ، ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن أعظم ، لأنه بعد الجب صار رقيقا وبعد السجن صار ملكا ، ولأن وقوعه في الجب كان بحسد إخوته ، وفي السجن كان مكافاة من الله لزلة (٦) صدرت منه (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي البادية ، لأنهم كانوا أصحاب ماشية ، والبدو في الأصل بسيط (٧) الأرض يسكنه أهل العمد والمواشي (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ) أي أفسد بالحسد وألقى العداوة (بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ) في فعاله (لِما يَشاءُ) أي بمن (٨) يشاء أو لطيف في فعله بالحكمة إن شاء فرق وإن شاء جمع (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بأعمال خلقه (الْحَكِيمُ) [١٠٠] في أمره حيث فرق بيني وبين أبي وإخوتي ، ثم رد على أبي وجمع بيني وبين إخوتي سالمين معافين من أرض كنعان إلى أرض مصر.

قيل : أقام يعقوب بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة في أهناء عيش وأحسن حال ، ثم مات بمصر ، وقد وصى إلى ابنه يوسف أن يحمله ويدفنه عند أبيه إسحق ، ففعل يوسف ذلك ومضى به حتى دفنه بالشام ، ثم انصرف إلى مصر ، فلما جمع الله تعالى ليوسف شمله علم أن نعيم الدنيا لا يدوم (٩).

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

سأل الله تعالى الموت بحسن العاقبة فقال (رَبِّ) أي يا خالقي ومنعمي (قَدْ آتَيْتَنِي) أي أعطيتني (مِنَ الْمُلْكِ) أي بعض الملك وهو ملك مصر (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي بعضه أو (مِنَ) للبيان ، أي تعبير الرؤيا (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) نصب بحرف النداء المحذوف (١٠) ، أي يا خالقهما لا شريك لك في خلقهما أو

__________________

(١) هذا الرأي مأخوذ عن البغوي ، ٣ / ٣٢٧.

(٢) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٣٢٧.

(٣) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٤) انظر البغوي ، ٣ / ٣٢٩.

(٥) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٦) لزلة ، ب م : للزلة ، س.

(٧) بسيط ، ب س : بسط ، م.

(٨) بمن ، ب س : من ، م.

(٩) نقله المفسر عن الكشاف ، ٣ / ٩٥.

(١٠) نصب بحرف النداء المحذوف ، ب س : ـ م.

٢٥٢

نصب على الوصف لرب المنادي (١)(أَنْتَ وَلِيِّي) أي معيني ومتولي أموري (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أي اقبضني إليك مخلصا بتوحيدك (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [١٠١] أي بآبائي المرسلين.

قيل : «ما تمنى الموت نبي قبله ولا بعده إلا هو» (٢) ، لأنه لما تم أمره في ملكه الزائل ووصال أبيه وأهله اشتاق إلى ربه وطلب الملك الدائم الذي لا يزول ولما قال هذا القول لم يمض عليه أسبوع حتى توفي.

روي : أنه عاش بعد لقاء أبيه يعقوب ستين سنة (٣) ، وقيل : ثلاثا وعشرين سنة (٤) ، وتوفي وهو ابن مائة وعشر سنين (٥) هكذا في التورية (٦) ، ودفنوه وسط النيل في صندوق من رخام ، لأن المصريين من جانبي النيل ، تشاحون في مدفنه حتى كادوا أن يقتتلوا ثم تصالحوا على أن يدفن سنة في جانب مصر وأن يدفن سنة في جانب آخر من البدويين ، فدفن في الجانب المصري فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر من البدويين ، ثم نقل إلى الحانب البدوي فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر المصري ، ثم اتفقوا على دفنه في وسطه وقد قدروا ذلك بسلسلة فأخصب الحانبان ، وبقي فيه إلى أن جاء موسى عليه‌السلام ، وأخرجه فدفنه بقرب آبائه بالشام (٧).

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢))

ثم قال تعالى (ذلِكَ) أي نبأ يوسف وإخوته (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي من أخبار ما غاب عنك علمه يا محمد (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) يجبرائيل ، لأنك لم تحضره ولا قرأته من كتاب وقد أخبرت به لهم (٨) كما جرى في الواقع ، فاذا أنكروه صار ذلك تهكما بهم (٩)(وَما كُنْتَ) يا محمد (لَدَيْهِمْ) أي عند أولاد يعقوب (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أي حين عزموا يالاتفاق على إلقاء يوسف في الجب (١٠)(وَهُمْ يَمْكُرُونَ) [١٠٢] أي يحتالون ويبغون الغوائل ليوسف.

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤))

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) أي لا يكون أكثر (١١) أهل مكة ، وقيل : عام لقريش وغيرهم (١٢)(وَلَوْ حَرَصْتَ) على إيمانهم (بِمُؤْمِنِينَ) [١٠٣] بك.

روي : أن قريشا واليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصة يوسف ، فلما أخبرهم على ما وافق التورية لم يؤمنوا فاغتم النبي عليه‌السلام بذلك ، فقال تعالى : إنهم لا يؤمنون بك ولو كنت حريصا على أن يؤمنوا بك بالمبالغة في طلب الإيمان منهم لتصممهم على الكفر أو لتقديري الكفر عليهم في علمي السابق (١٣).

(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) أي على الإيمان والإرشاد أو على تبليغ الرسالة إليهم (مِنْ أَجْرٍ) أي جعلا (إِنْ هُوَ) أي ما هو القرآن المرشد (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [١٠٤] أي عظة وتذكير للجن والإنس.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥))

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) أي وكم من علامة للتوحيد (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الشمس والقمر والنجوم ومن الجبال والبحار والأشجار والأناسي والدواب وغير ذلك من الأشياء الدالة على الوحدانية والخالقية في أسفارهم حال كونهم (يَمُرُّونَ عَلَيْها) ويشاهدونها (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) [١٠٥] لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.

__________________

(١) المنادي ، ب س : ـ م.

(٢) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٢٩.

(٣) وهذا منقول عن البغوي ، ٣ / ٣٢٩.

(٤) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ١٧٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٢٩.

(٥) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ١٧٨.

(٦) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٣٢٩. وقد ذكر قصة يوسف عليه‌السلام في التورية مفصلة ومطولة ، انظر تكوين ، من الباب السابع وثلاثين إلى آخر تكوين.

(٧) اختصره من البغوي ، ٣ / ٣٢٩ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٧٨.

(٨) لهم ، س : ـ ب م.

(٩) فاذا أنكروه صار ذلك تهكما بهم ، ب س : ـ م.

(١٠) في الجب ، ب س : ـ م.

(١١) لا يكون أكثر ، ب س : ـ م.

(١٢) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٩٦.

(١٣) اختصره المصنف من البغوي ، ٣ / ٣٣٠.

٢٥٣

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦))

ونزل فيمن يخلط الإيمان بالشرك (١)(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ) في إقراره (بِاللهِ) وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [١٠٦] به وهم أهل الكتاب ، لأنهم إذا سئلوا من خلق السموات والأرض؟ قالوا : الله ، وإذا قيل لهم من ينزل القطر؟ قالوا : الله ، ومع ذلك يعبدون الأصنام فمعهم شرك وإيمان ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : «هم المشركون من العرب ، كانوا يقولون في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك» (٢).

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧))

ثم قال تعالى (أَفَأَمِنُوا) أي أكفر أهل مكة أفأمنوا من (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) أي عذاب من اله يغشاهم في الدين (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي فجأة ، نصب على الحال (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [١٠٧] إتيانها ، قال ابن عباس : «تهيج الصيحة بالناس وهم في أسواقهم» (٣).

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨))

ثم قال لنبيه عليه‌السلام تنبيها على دين الحق ونفي الشرك (٤)(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) أي هذه الدعوة التي أدعوا إليها ، يعني الدعوة إلى الإيمان والشرائع طريقتي وسنتي (أَدْعُوا) الناس بها (إِلَى اللهِ) أي إلى دينه (عَلى بَصِيرَةٍ) أي مع يقين وحجة واضحة ، وهو نصب على الحال وعاملها (أَدْعُوا) ، و (أَنَا) تأكيد للضمير في «أَدْعُوا» (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) باثبات الياء فيه إجماعا عطف على ذلك الضمير للفصل ، يعني أدعوا الخلق إلى الله ويدعوهم إليه من آمن بي على بصيرة ، أي معرفة يميز بها بين الحق والباطل ، ويجوز أن يكون (أَنَا) فاعلا لقوله (عَلى بَصِيرَةٍ) و (مَنِ) عطفا عليه ، وقيل : تم الكلام عند قوله (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) ثم استأنف على بصيرة أنا ومن اتبعني على نية التأخير ، أي أنا ومن آمن بي على (بَصِيرَةٍ) من الإيمان (٥) ، قيل : هم أصحاب رسول الله ، لأنهم كانوا على أحسن طريقة وأفضل هداية ، وكانوا معدن العلم وكنز الإيمان وجند الرحمن (٦) ، قاله ابن عباس (وَ) قل (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها له عما أشركوا (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [١٠٨] فكذا من اتبعني ليس من المشركين.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩))

وقال كفار مكة الرسول ينبغي أن يكون من الملائكة لا من البشر فنزل (٧)(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) من البشر لم يكونوا من الملائكة (نُوحِي إِلَيْهِمْ) بالنون معلوما وبالياء مجهولا (٨)(مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أهل الأمصار ، لأنهم أعقل وأحلم. قيل : لم يبعث الله نبيا من أهل البادية لغلظهم ، غلبة الجفاء والقسوة فيهم ، ولا من الجن لقوتهم وميلهم إلى الفساد ، ولا من النساء لغلبة جهلها ونقصان عقلها (٩)(أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي أكذب هؤلاء المكذبون فلم يسافروا (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) أي فيعتبروا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي آخر أمرهم من الأمم المكذبة للأنبياء فيتعظوا فيؤمنوا (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) أي الجنة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك فآمنوا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [١٠٩] بالياء

__________________

(١) اختصره من الكشاف ، ٣ / ٩٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٣١.

(٢) انظر البغوي ، ٣ / ٣٣١.

(٣) انظر البغوي ، ٣ / ٣٣١.

(٤) ثم قال لنبيه عليه‌السلام تنبيها على دين الحق ونفي الشرك ، ب س : ـ م.

(٥) وهذا منقول عن البغوي ، ٣ / ٣٣٢.

(٦) قد أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٣٣٢.

(٧) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١٧٩.

(٨) «نوحي» : قرأ حفص بالنون وكسر الحاء ، والباقون بالياء التحتية. البدور الزاهرة ، ١٦٨.

(٩) نقله عن الكشاف ، ٣ / ٩٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

٢٥٤

والتاء (١) ، إن الآخرة خير من الدنيا للمتقين دون العاصين.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠))

قوله (حَتَّى) متعلقة بمحذوف ، دل عليه سياق الكلام ، كأنه قيل وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ، فتراخى نصرهم واستبطأ حتى (إِذَا اسْتَيْأَسَ) أي أيس (الرُّسُلُ) من إيمان قومهم أو طلبوا علم فلاح قومهم (وَظَنُّوا) أي وخطر في بالهم (أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) بالتخفيف والتشديد» (٢) ، أي أيقنوا في أنفسهم أنهم كذبهم قومهم بحيث لا يرجى بعده إيمانهم (جاءَهُمْ نَصْرُنا) أي جاء الرسل عوننا فجأة من غير احتساب (فَنُجِّيَ) بنون واحدة مشددة مجهولا ، فعل ماض من التنجية فالقائم مقام الفاعل (مَنْ نَشاءُ) من المؤمنين وبنونين مخففا معلوما مستقبلا من الإنجاء (٣) ، أخبر تعالى عن نفسه ف (مَنْ نَشاءُ) منصوب بأنه مفعول له ، أي فنخلص من نشاء من عذاب الكفار وهم المؤمنون بدليل قوله (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) أي عذابنا (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [١١٠] أي المشركين.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) أي في قصة يوسف وإخوته أو في قصة الرسل (عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي لذوي العقول لكي لا يحسد أحد أحدا أو لمن يعتبر بيوسف ويقتدي به ويكافئ أحدا بسيئة ، وقيل : العبرة الدلالة على نبوة محمد عليه‌السلام لمن أراد أن يؤمن به (٤)(ما كانَ) هذا القرآن (حَدِيثاً) أي كلاما (يُفْتَرى) به يختلق من أحد (وَلكِنْ) كان القرآن وما ذكر فيه (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب السماوية (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) أي كان القرآن بيان كل شيء ، يحتاج إليه العباد من الحلال والحرام والأمر والنهي (وَهُدىً) أي وإرشادا من الضلالة (وَرَحْمَةً) أي وأمانا من العذاب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [١١١] أي يصدقون به ويعملون بما فيه.

__________________

(١) «تعقلون» : قرأ المدنيان والشامي وعاصم ويعقوب بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ١٦٨.

(٢) «كذبوا» : خفف الذال الكوفيون وأبو جعفر وشددها الباقون. البدور الزاهرة ، ١٦٨.

(٣) «فنجي» : قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنون واحدة مضمومة وبعدها جيم مشددة وبعد الجيم ياء مفتوحة والباقون بنونين : الأولى مضمومة والثانية ساكنة وبعد الثانية جيم مخففة وبعد الجيم ياء ساكنة مدية. البدور الزاهرة ، ١٦٨.

(٤) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ١٨٠.

٢٥٥

سورة الرعد

مكية سوى آيتين وهما قوله (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(١) الآية ،

وقوله (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً)(٢) الآية.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١))

(المر) قال ابن عباس معناه (٣) : «أنا الله أعلم وأرى» (٤) ما تحت العرش إلى الثرى أو أعلم وأرى ما يقول الخلق وما يعملون أو قسم أقسم الله به وجوابه (تِلْكَ) أي الأخبار المقصوصة عليك (آياتُ الْكِتابِ) أي التورية والإنجيل والكتب المتقدمة النزول على الأنبياء قبلك ، ثم استأنف بالواو فقال (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي هذا القرآن المنزل عليك (مِنْ رَبِّكَ) أي من الله هو (الْحَقُّ) لا الباطل ، فاعتصم به ، فمحل (الَّذِي) رفع مبتدأ ، و (الْحَقُّ) خبره (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) من كفار مكة (لا يُؤْمِنُونَ) [١] أي لا يصدقون أنه من الله ، قيل : نزلت السورة حين قال مشركو مكة أن ما يقوله محمد من القرآن من تلقاء نفسه لا من الله فرد قولهم به (٥).

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢))

ثم بين دلائل دالة على ربوبيته وتوحيده فقال (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) مبتدأ وخبر ، أي الله رفعها (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) بفتحتين ، جمع عمود وعماد على سبيل الشذوذ ، إذ القياس بضمتين ، ومحل (تَرَوْنَها) جر صفة ل (عَمَدٍ) ، فالمعنى : أن لها عمدا ولكن لا ترونها ، وقيل : الضمير في (تَرَوْنَها) راجع إلى (السَّماواتِ)(٦) ، ومحلها نصب على الحال ، فالمعنى نفي العمد أصلا ، يعني ليس من دونها دعامة تدعمها ولا فوقها علاقة تمسكها ، والقائل بالعمد يزعم أنها جبل قاف ، وهو محيط بالدنيا والسماء عليها مثل بالقبة على الأرض (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي الله تعالى علا عليه من غير جهة (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لمنافع خلقه ليلا ونهارا (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي هما مقهوران يجريان على ما يريده الله إلى وقت معلوم ، وهو فناء الدنيا (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) خبر بعد خبر المبتدأ الأول (٧) ، أي الله يقضي أمر خلقه وحده ، وكذا (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي يبين البراهين الدالة على وحدانيته بتنزيل القرآن على الرسول (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) [٢] أي لكي تصدقوا بوعده الذي هو البعث.

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣))

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) عطف على الجملة الاسمية قبله ، أي الله بسطها من تحت الكعبة على الماء (وَجَعَلَ

__________________

(١) الرعد (١٣) ، ٣١.

(٢) الرعد (١٣) ، ٤٣.

(٣) معناه ، ب م : ـ س.

(٤) انظر السمرقندي ، ٢ / ١٨١ ؛ والبغوي ، ٣ / ٣٣٥.

(٥) عن مقاتل ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٣٥.

(٦) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٧) المبتدأ الأول ، ب س : ـ م.

٢٥٦

فِيها رَواسِيَ) جمع راسية من رسا الشيء إذا ثبت ، أي وخلق فيها جبالا ثوابت لإرساء الأرض بها ، لأن الأرض كانت تتكفأ بأهلها كما تتكفأ السفينة بمن فيها ، قال ابن عباس رضي الله عنه : «أول جبل وضع على وجه الأرض جبل أبي قبيس» (١)(وَأَنْهاراً) أي وخلق فيها مياها جارية لمعاشكم (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها) أي وخلق فيها حين بسطها من أجناس الفواكه (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي زوجين زوجين من جميع الأنواع ، ثم زادت وتكثرت أو جعل من كل نوع منها حلوا وحامضا أو المراد السواد والبياض أو الصغير والكبير (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) بالتخفيف والتشديد (٢) ، أي يلبس النهار بظلمة الليل ويلبس الليل بضوء النهار ، وهذا من قبيل الاكتفاء لدلالة الكلام على أحدهما (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر كله من صنعه تعالى (لَآياتٍ) أي لبراهين (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [٣] فيستدلون بها على التوحيد والتفكر تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب.

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أي بقاع مختلفة متقاربات ، يعني يقرب بعضها من بعض وهي مختلفة كالقطعة الطيبة تنبت في جنبها قطعة سبخة لا تنبت وكقليلة الريع في جنبها كثيرة الريع (وَجَنَّاتٌ) بالرفع عطف على (قِطَعٌ) ، أي وفي الأرض بساتين كثيرة (مِنْ أَعْنابٍ) متنوعة (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) برفع كلها عطف على (جَنَّاتٌ) ، وبجرها (٣) عطف على ال (أَعْنابٍ) ، ف (صِنْوانٌ) صفة ل (نَخِيلٌ) ، جمع صنو ، وهي النخلات يجمعها أصل واحد ، وغير صنوان هي النخلة المنفردة بأصلها ، نظيرها قنوان جمع قنو ولا فرق بين التثنية والجمع فيهما (٤) إلا في الإعراب ، لأن النون في التثنية مكسورة بعد الألف بلا تنوين ، وفي الجمع منونة مطلقا (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) بالياء ، أي يسقي ما ذكر كله بماء واحد ، والتاء (٥) ، أي تسقي الجنات بما فيها ، وهو الأوجه لقوله (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) أي في الريع حيث لم يقل بعضه ، وقيل : (الْأُكُلِ) بضم الكاف وسكونها الرزق وكل ما يؤكل (٦) ، و «الأكلة» بضم الهمزة اللقمة ، وبالكسر الحالة التي يؤكل عليها ، وبالفتح المرة ، المعنى : أن الماء واحد والتراب واحد والثمار مختلفة في طعمها ولونها وريحها وشكلها ، فدل ذلك على وحدانية الله تعالى على من ضل عنها وأشرك ، لأنه لو كان الخلقة بالماء والتراب لكان في اقتضاء العقل عدم التفاوت في اللون والطعم والريح والشكل ، وعدم التفاضل في الجنس الواحد إذا نبت في جنة واحدة ويسقي بماء واحد ، لكنه يختلف ويتفاضل بصنع الإله اللطيف الخبير (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في الذي ذكر (لَآياتٍ) أي لدلالات وعبرات (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [٤] أن ذلك كله من الله ، فيؤمنون ، قيل : «هذا مثل بني آدم ، أصلهم من أب واحد منهم صالح عاقل ومنهم خبيث غافل» (٧) ، وقيل : «مثل لقلوبهم الطيبة والسخبة» (٨) ، كلاهما من قلب آدم عليه‌السلام فينزل من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع وتقسر قلوب فتلهو ، قال الحسن البصري : «والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان» (٩).

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ

__________________

(١) انظر البغوي ، ٣ / ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

(٢) «يغشي» : قرأ شعبة ويعقوب والأخوان وخلف بفتح الغين وتشديد الشين ، والباقون باسكان الغين وتخفيف الشين. البدور الزاهرة ، ١٦٨.

(٣) «وزرع ونخيل صنوان وغير» : قرأ المكي وحفص والبصريان برفع عين «وزرع» ولام «ونخيل» ونون «صنوان» وراء «غير» ، والباقون بخفض الأربعة ، ولا خلاف في خفض «صنوان» الثاني لإضافة «غير» إليه. البدور الزاهرة ، ١٦٨.

(٤) فيهما ، ب س : ـ م.

(٥) «يسقي» : قرأ الشامي وعاصم ويعقوب بالياء التحتية على التذكير ، والباقون بالتاء الفوقية علي التأنيث. البدور الزاهرة ، ١٦٨.

(٦) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٧) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٨٣ ؛ والبغوي ، ٣ / ٣٣٧.

(٨) ذكر الحسن نحوه ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٣٧.

(٩) انظر البغوي ، ٣ / ٣٣٨.

٢٥٧

الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥))

(وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمد من إنكارهم البعث (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي فقولهم حقيق بأن يتعجب منه مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عزوجل ، وقد تقرر في الأذهان أن الإعادة أهون من الابتداء ، وهو (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي إذا صرنا ترابا بعد الموت أنعاد خلقا جديدا كما كنا قبل الموت ، وقيل : معناه وإن تعجب من تكذيب المشركين القرآن ومن عبادتهم الأصنام الجامدة فاعجب من قولهم هذا أيضا (١) ، فقوله (إِذا) ظرف عامله محذوف وهو أنبعث ، يدل عليه (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، ومحل الجملة الاستفهامية نصب مفعول (قَوْلُهُمْ) أو رفع بدل منه ، قرئ بهمزة واحدة مع المد للاستفهام في (أَإِذا) و (أَإِنَّا) وبهمزتين محققتين في (أَإِذا) وهمزة واحدة في (إِنَّا) ، وبهمزتين محققتين فيهما وبتسهيل الهمزة الثانية فيهما وبهمزة واحدة في (إِذا) والهمز والمد في (أَإِنَّا)(٢) ، لأن الشك في الثاني دون الأول (أُولئِكَ) أي منكرو البعث (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي هم الكاملون في كفرهم (بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أي يغل أيديهم على رقابهم يوم القيامة حين خرجوا من قبورهم وحين دخلوا في النار أو هم الذين منعوا عن الرشد بالأغلال في قلوبهم فلذلك أصروا في الكفر (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي ملازمون بها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) [٥] أي لا ينفكون عنها ولا يموتون.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦))

قوله (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) نزل حين سألوا رسول الله أن يأتيهم العذاب استهزاء منهم بذلك (٣) ، والاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته ، والسيئة هنا العقوبة ، والحسنة العافية ، أي يطلب كفار مكة العقوبة قبل وقتها بدل العافية ، وهو قولهم (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ)(٤) الآية (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ) أي والحال أنه قد مضت قبل قريش (الْمَثُلاتُ) أي عقوبات أمثالهم من الأمم التي عصت ربها (٥) وكذبت رسلها ، فما لهم لا يعتبرون بهم ، وهي جمع مثلة بفتح الميم وضم الثاء مثل صدقة وصدقات ، وهي العقوبة المماثلة لجناية المعاقب عليه (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب إن تابوا أو بتأخير العذاب عنهم ، فالمراد من ال (مَغْفِرَةٍ) الإمهال والستر ، ومحله نصب على الحال بمعنى ظالمين أنفسهم بالشرك والمعاصي (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) [٦] لمن مات منهم على ظلمة ولم يتب قبل موته.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧))

ثم قال تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا) أي هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي حجة واضحة تدل على نبوته فلم يعتدوا بالآيات المنزلة على النبي عليه‌السلام عنادا ، فطلبوا مثل آيات موسى وعيسى من انقلاب العصا حية وإحياء الموتى ليؤمنوا به ، فقال تعالى لنبيه (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) أي مخوف لهذه الأمة بتبليغ الرسالة (وَلِكُلِّ قَوْمٍ

__________________

(١) اختصره المؤلف من البغوي ، ٣ / ٣٣٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٨٤.

(٢) «أئذا كنا ترابا أئنا» : قرأ نافع والكسائي ويعقوب «أئذا» بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة علي الاستفهام ، وقرؤا «أئنا» بهمزة واحدة مكسورة علي الخبر ، وكل على أصله ، فقالون يسهل الثانية في «أئذا» ويدخل ألفا بينها وبين الأولى وورش ورويس يسهلانها من غير إدخال والكسائي وروح يحققانها من غير إدخال ، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر بالإخبار في الأول والاستفهام في الثاني ، وكل علي أصله كذلك ، فأبو جعفر يسهل الثانية في «أئنا» مع الإدخال وهشام يحققها مع الإدخال أيضا قولا واحدا ، وابن ذكوان يحققها بلا إدخال ، وقرأ الباقون بالاستفهام فيهما ، وكل على قاعدته فابن كثير بالتسهيل بلا إدخال وأبو عمرو بالتسهيل مع الإدخال وعاصم وحمزة وخلف بالتحقيق من غير إدخال. البدور الزاهرة ، ١٦٩.

(٣) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٨٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٣٩.

(٤) الأنفال (٨) ، ٣٢.

(٥) وكذبت ربها ، + س.

٢٥٨

هادٍ) [٧] أي لكل أمة نبي يرشدهم إلى الله ودينه ، وأنت مثلهم في الدعوة والنصح وما عليك إلا الاتيان بما يصح به نبوتك وهو حاصل بكل آية تأتيك ، إذ الآيات كلها سواء في ذلك أو لكل قوم الله هاد يهديهم إن شاء أو أنت منذر وهاد لكل قوم يا محمد بالدعوة إلى الحق.

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨))

ثم أومى إلى أن الهداية والضلالة من الله ، لأنه خالق بعلمه لا يعلم أهلهما إلا هو بقوله (اللهُ) أي الهادي هو الله ، تفسير ل (هادٍ) ، ثم استؤنف فقيل (١)(يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) من ذكر وأنثى وتام الخلق وناقصه ، واحد أو اثنين أو أكثر (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) أي وما تنقص من تسعة أشهر في الحمل ، من غاض الماء إذا نقص (وَما تَزْدادُ) على التسعة الأشهر في الحمل ، فنقصان الأرحام وضعها لأقل من تسعة أشهر ، وزيادتها وضعها لأكثر من تسعة أشهر إلى سنتين عند أبي حنيفة رحمه‌الله وإلى أربع عند الشافعي وإلى خمس عند مالك (٢).

روي : أن الضحاك ولد لسنتين (٣) ، وقال أحمد بن سلمة : «إنما سمي هرم بن حيان عرما ، لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين» (٤) ، وقيل : النقصان السقط والزيادة تمام الخلق ، وأقل مدة الحمل ستة أشهر فقد يولد الولد لهذه المدة ويعيش (٥) ، وقيل : النقصان ضعف الولد لحيض أمه حاملا ، والزيادة خلافه (٦) ، وقيل : قلة الحمل وكثرته فقد تحمل المرأة بأربعة في بطن واحد ويعيشون (٧) ، ويروى : أن شريك بن عبد الله من فقهاء المدينة كان رابع أربعة في بطن أمه (٨) ، وقيل : قلة الحيض وكثرته (٩)(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [٨] أي كل شيء في علمه مقدر معين بحد لا يتجاوزه ولا يقصر عنه.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩))

قوله (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) بيان لذلك ، أي هو يعلم ما غاب عن خلقه ويعلم ما شاهدوه (الْكَبِيرُ) أي العظيم الذي كل شيء دونه (الْمُتَعالِ) [٩] بالياء وتركها (١٠) ، أي المستعلي على كل شيء بعلمه وقدرته ، ويجوز أن يكون (عالِمُ) مبتدأ ، خبره (الْكَبِيرُ).

(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١))

ثم بين علمه بقوله (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أي يستوي عند الله من أخفى القول منكم ومن أظهر (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي مستتر بظلمة الليل (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [١٠] عطف على (مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ) لئلا يلزم كون الوصفين لواحد أو عطف عليه على تأويل (مِنْ) في معنى الاثنين ، أي ومن هو ذاهب في سربه ، أي في طريقه ومتصرفه في حوائجه بضوء النهار ، السرب بفتح السين وسكون الراء الطريق ، أشار بذلك أن الجهر والإسرار في علمه تعالى سواء ، فهو الفارق بين علمه تعالى وبين علم غيره ، والضمير في (لَهُ) ل (مِنْ) ، أي

__________________

(١) أي الهادي هو الله تفسير لها ثم استؤنف فقيل ، ب س : ثم استأنف فقيل إن الهادي هو الله تفسير الهادي ، م.

(٢) اختصره المفسر من الكشاف ، ٣ / ١٠٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٤٠.

(٣) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ١٠٠.

(٤) انظر البغوي ، ٣ / ٣٤٠ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٠٠. روي أن الضحاك ولد لسنتين وقال أحمد بن سلمة إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين ، ب س : ـ م.

(٥) أخذه المصنف عن البغوي ، ٣ / ٣٤٠. قال أحمد بن سلمة إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين ، + ب م.

(٦) اختصره من البغوي ، ٣ / ٣٣٩ ـ ٣٤٠.

(٧) لعل المفسر اختصره من الكشاف ، ٣ / ١٠٠.

(٨) نقله المصنف عن الكشاف ، ٣ / ١٠٠.

(٩) لعله اختصره من الكشاف ، ٣ / ١٠٠.

(١٠) «المتعال» : أثبت الياء ابن كثير ويعقوب في الحالين وحذفها الباقون كذلك. البدور الزاهرة ، ١٦٩.

٢٥٩

للمسر بالقول والجاهر به ، والمسخفي بالليل والسارب بالنهار (مُعَقِّباتٌ) أي حفظة من الملائكة يعقب بعضها بعضا في الليل والنهار ، يعني إذا مضى فريق يخلفه بعده فريق آخر ، جمع معقبة ، والتاء فيه للمبالغة كعلامة لا للتأنيث أو الضمير في (لَهُ) لله ، أي لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار ، فاذا صعدت ملائكة الليل جاء في عقبها ملائكة النهار وبالعكس ، والظاهر الأول ، يعني له من الله ملائكة يتعاقبون فيه (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي من قدام هذا المستخفي (١) بالليل والسارب بالنهار ومن وراء ظهره (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي بأمره وإذنه من الذنب أو من نقمته إذا أذنب فيستمهلون الله له رجاء أن يتوب (٢) ، ف (مِنْ) بمعنى الباء أو من بأسه ونوازله المقدرة له عند الموت ، وفي القبر وفي البعث أو من شر الجن والإنس ما لم يجئ القدر ، فاذا جاء القدر خلوا عنه ، قال كعب الأحبار : «لو لا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفكم الجن» (٣) أو (مِنْ) بمعنى لأجل ، أي لأجل ما أمرهم به من حفظه أو (مِنْ) بمعنى على ، أي يحفظونه على ما أمرهم الله تعالى حفظه ، فحينئذ يكون هذه الآية في الملكين القاعدين عن اليمين والشمال يكتبان الحسنات والسيئات ، ومعنى (يَحْفَظُونَهُ) أنهم يحفظون عليه من أمر الله ، يعني الحسنات والسيئات ، وقيل : الهاء في (لَهُ) لرسول الله عليه‌السلام (٤) ، أي لمحمد حراس من الرحمن من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ، يعني من شر الجن والإنس وطوارق الليل والنهار ، قال ابن عباس رضي الله عنه : «نزل حين أراد الكفار كعامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة الفتك بالنبي عليه‌السلام ، فان عامرا قال لصاحبه أربد : إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه واضربه بالسيف ، فجعل عامر يخاصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويراجعه في الكلام ويقول أسلم على أن المدر لك والوبر لي ، فقال عليه‌السلام : لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم ، ثم قال : لك الوبر ولي المدر ، فأجابه مثل ذلك ، ثم قال : ولي الأمر من بعدك ، فأجابه مثل ذلك ، فغضب عامر عليه ، فدار أربد من خلف النبي عليه‌السلام ليضربه بالسيف ، فأخرج من سيفه شبرا ، ثم حبسه الله تعالى ، فلم يقدر على سله ، وكان عامر يومي إليه ، فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرأى أربد وما يصنع بسيفه ، فقال عليه‌السلام : اللهم اكفنيهما بما شئت ، فأرسل الله أربد بالصاعقة في يوم صحو فأحرقته ، وأرسل الله ملكا فلطم عامرا بجناحه فأداره في التراب ، وخرجت في ركبته في الوقت غدة كغدة البعير ، فذهب إلى بيت امرأة سلولية ولم ترض أن يموت عندها ، فدعا عامر بفرسه فركبه ، ثم أجراه حتى مات على ظهره» (٥) ، فأجاب الله دعاء الرسول عليهما‌السلام ، ثم أكد حفظ الله عباده بقوله (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) أي لا يبدل حال قوم من نعمة أنعمهما عليهم (حَتَّى يُغَيِّرُوا) أي يبدلوا (ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الحالة الجميلة بالمعصية وترك الشكر (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) أي عذابا وهلاكا (فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي لا يرده شيء (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) أي ليس لقوم أراد تعالى هلاكهم من دون الله (مِنْ والٍ) [١١] أي ملجأ يلجؤون إليه أو من يلي أمرهم من أقربائهم ويمنع العذاب عنهم.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢))

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً) من الصاعقة وخراب البيوت والأشجار (وَطَمَعاً) أي للمقيم والمسافر في نفع المطر ، وقيل : الخوف من المطر في غير مكانه والطمع إذا كان في مكانه (٦) ، قيل : من البلدان إذا أمطروا قحطوا وإذا لم يمطروا أخصبوا (٧) ، والمنصوبان مفعول لهما ، أي إخافة وإطماعا أو حالان من المخاطبين ، أي خائفين وطامعين (وَيُنْشِئُ) عطف على (يُرِيكُمُ) ، أي الله يبدئ (السَّحابَ الثِّقالَ) [١٢] بالمطر ، جمع سحابة ، قال على رضي الله عنه : «السحاب غربال الماء» (٨).

__________________

(١) المستخفي ، ب م : المستخف ، س.

(٢) أن يتوب ، ب م : أن يتوبوا ، س.

(٣) انظر البغوي ، ٣ / ٣٤١.

(٤) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٣٤١.

(٥) انظر الواحدي ، ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ؛ والبغوي ، ٣ / ٣٤٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٨٨. وقيل ، + ب.

(٦) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٣٤٣.

(٧) نقله عن البغوي ، ٣ / ٣٤٣.

(٨) انظر البغوي ، ٣ / ٣٤٣.

٢٦٠