عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٣٤

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠))

قوله (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) غاية ليصنع ، أي كان يفعل السفينة إلى أن جاء عذابنا الموعود لإهلاكهم (وَفارَ التَّنُّورُ) الذي يخبز فيه بارتفاع الماء منه خارجا عنه من ناحية الكوفة ، قيل : «كان من حجارة لحواء تخبز فيه فصارت إلى نوح» (١) ، وقيل : «معناه طلع الفجر وظهر الصبح» (٢) ، وكان ذلك علامة لركوب السفينة (قُلْنَا) لنوح (احْمِلْ فِيها) أي في السفينة (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكره تأكيدا ، قرئ «من كل» بالتنوين هنا وفي سورة المؤمنين (٣) ، وباضافته إلى زوجين (٤) ، فمفعول (احْمِلْ) اثنين ، أي صنفين من الحيوان ، وهما اللذان لا يستغنى أحدهما عن الآخرة من ذكر وأنثى ، فيقال لكل منهما زوج ، قيل : عند فوران التنور بالماء حشر الحيوان لنوح عليه‌السلام بأمره تعالى بعد ما قال يا رب كيف أحمله فجعل يضرب بيديه فيقع الذكر في اليمنى والأنثى في اليسرى ، فيلقيهما في السفينة (٥) ، قوله (وَأَهْلَكَ) نصبه عطف على مفعول (احْمِلْ) ، أي احمل ولدك وعيالك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) بالهلاك ، يعني امرأته واعلة وابنه الكافر به كنعان (وَمَنْ آمَنَ) أي واحمل من صدقك أنك نبي (وَما آمَنَ مَعَهُ) أي لم يؤمن مع نوح (إِلَّا قَلِيلٌ) [٤٠] من الناس.

قيل : عدد من في السفينة ثمانية نفر ، بنوه الثلاثة سام وحام ويافث وثلاث نسوة لهم ونوح وامرأته غير الهالكة (٦) ، وقيل : ثمانون إنسانا ، نصفهم رجال ونصفهم نساء (٧) ، وحمل معهم جسد آدم ، فجعله معترضا بين الرجال وبين النساء ، قال ابن عباس : «أول ما حمل نوح الدرة ، وآخر ما حمل الحمار ، فلما دخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلا يستطيع أن يدخل حتى قال نوح : ويحك ادخل وإن كان معك الشيطان ، فلما دخل قال نوح : اخرج عني يا عدو الله! قال : ما لك بد من أن تحملني معك وكان فيما يزعمون في ظهر الفلك» (٨).

وروي : أن الحية والعقرب أتيا نوحا ، فقالتا احملنا ، فقال : إنكما سبب الضر والبلاء ، قالتا : نحن نضمن لك أن لا نضر أحدا ذكرك ، فمن قرأ حين خاف مضرتهما (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ)(٩) ، ما ضرتاه (١٠) ، ثم قال : يا رب؟ كيف أصنع بالأسد والبقر وبالعناق والذئب وبالحمام والهرة؟ قال نوح : من ألقى بينهم العداوة يؤلف بينهم حتى يتراضوا (١١).

وقيل : كثرت الفأر في السفينة فخافوا على حبالها ، فأوحى الله نوحا أن امسح جبهة الأسد ، فمسحها فعطس ، فخرج منها سنوران ، الذكر والأنثى فأهلكا الفأر ، وكثرت العذرة فيها ، فشكوا إلى نوح ، فأوحى الله إليه أن امسح ذنب الفيل ، فمسحه فخرج منه خنزيران فأكلا العذرة ، فلما غلبهم الماء وعلا دعاهم إلى الركوب في السفينة (١٢).

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١))

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) أي في السفينة ، قيل : «ركبوا فيها يوم الجمعة من عين وردة لعشر مضين من رجب ،

__________________

(١) عن الحسن ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٠٩.

(٢) عن علي رضي الله عنه ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٢٦ والبغوي ، ٣ / ٢٠٩.

(٣) انظر سورة المؤمنين (٢٣) ، ٢٧. هنا وفي سورة المؤمنين ، م : ـ ب س.

(٤) «من كل» : قرأ حفص بتنوين «كل» ، والباقون بتركه. البدور الزاهرة ، ١٥٤.

(٥) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٢١٠.

(٦) عن قتادة وجريج ومحمد بن القرظي ، انظر البغوي ، ٣ / ٢١٠.

(٧) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢١٠ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٢٧.

(٨) انظر البغوي ، ٣ / ٢١٠ ـ ٢١١.

(٩) الصافات (٣٧) ، ٧٩.

(١٠) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٢١١.

(١١) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ١٢٦.

(١٢) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ١٢٦. وهذه الرواية من الإسرائيليّات على ما أظن.

٢٠١

فأتت السفينة الكعبة فطافت بها أسبوعا» (١) ، وقيل : رفع البيت الذي بناه آدم إلى السماء السادسة ، وهو البيت المعمور وجعل الحجر الأسود على أبي قبيس مودعا له وخرجوا من السفينة يوم عاشوراء (٢) ، فذلك ستة أشهر (٣) ، قوله (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) جملة اسمية من الخبر المقدم ، والمبتدأ (وَمُرْساها) عطف على المبتدأ ، كلامها بضم الميم والإمالة ، وبفتحها في الأول مع الإمالة دون الثاني على معنى المصدرين (٤) ، يعني إذا ركبتموها قولوا بسم الله إجراؤها أو جريها وإرساؤها أي ثبوتها ، وكان نوح إذا أراد أي تجري السفينة قال بسم الله فجرت ، وإذا أراد أن ترسو وتثبت قال بسم الله فرست ، ومحل الجملة الاسمية نصب على الحال المقدرة من الضمير في (ارْكَبُوا) ، أي قائلين بسم الله إجراؤها وإرساؤها ، وقيل : لفظة «اسم» صلة (٥) ، أي بالله إجراؤها ، أي بمشيته وقدرته (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [٤١] بالتجاوز عن ذنوب المؤمنين وبانجائهم من الغرق ، فركبوا فيها.

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢))

(وَهِيَ) أي السفينة (تَجْرِي بِهِمْ) وهم فيها (فِي مَوْجٍ) أي في ارتفاع الماء واضطرابه أو الموج موج الطوفان ، وهو ما علا فوق الماء (كَالْجِبالِ) في تراكمها وارتفاعها وعظمتها ، وذلك إذا اشتدت عليه الريح فشبه كل موج منه بالجبل في ذلك ، قيل : هذا قبل تطبيق الماء الأرض (٦) ، وأما إذا طبق الماء الأرض لم يكن موج (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) كنعان (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) أي في مكان منقطع عن نوح وعن مركب المؤمنين ، وقيل : في معزل عن دين إبراهيم (٧)(يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) بفتح الياء وبالكسر (٨) اقتصارا من بنيا ومن بني بالإضافة تصغير «ابن» لامه ياء أو واو حذفت كما في اسم ، ثم لما جاء ياء التصغير ردت اللام وجيئ بياء المتكلم ، فاجتمعت ثلاث ياءات ، فحذفت ياء المتكلم تخفيفا لدلالة الكسرة عليها ، وكذا حذفت الألف المبدلة عن ياء الإضافة في بنيا ، يعني أسلم وادخل في السفينة تسلم مع المسلمين (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) [٤٢] أي لا تتخلف معهم بكفرهم.

(قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣))

(قالَ) ابن نوح (سَآوِي) أي سأصعد (إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي يمنعني من الغرق ولا أسلم ولا أركب السفينة (قالَ) نوح لابنه (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي لا مانع من عذابه اليوم وهو الغرق لا جبل ولا غير الجبل أعظم منه (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي إلا الله الراحم من يشاء ، ف (مِنَ) في محل الرفع خبر المبتدأ أو (عاصِمَ) بمعنى المعصوم ، أي لا معصوم من الغرق إلا من رحمه‌الله أو الاستثناء منقطع بمعنى لكن من رحمه‌الله ينجو من الغرق (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) أي فرق بين نوح وابنه كنعان الموج أو بين الجبل وابنه (فَكانَ) أي فصار ابنه (مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [٤٣] بالماء ، قيل : علا الماء رؤوس الجبال بقدر أربعين ذراعا (٩) ، وقيل : بخمس عشرة ذراعا (١٠) ، وذلك

__________________

(١) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢١٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٢٨.

(٢) وقال ابن كثير في تفسيره : «وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير أثرا غريبا من حديث علي بن زيد بن جدعان» ، ثم ذكر مثل هذه الروايات ، انظر تفسير القرآن العظيم ، ٤ / ٢٥٣. وقد ذكر الطوفان في التورية ، انظر تكوين ، ٦ / ١٨ ـ ٢٢ ، ٧ / ١ ـ ٢٤ ، ٨ / ١ ـ ١٩.

(٣) نقله المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ١٢٨.

(٤) «مجريها» : قرأ حفص والأخوان وخلف بفتح الميم ، والباقون بضمها. البدور الزاهرة ، ١٥٤.

(٥) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٣٩.

(٦) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٣ / ٣٩.

(٧) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٣٩.

(٨) «يا بني» : قرأ عاصم بفتح الياء ، والباقون بكسرها ، ولا خلاف في تشديد الياء. البدور الزاهرة ، ١٥٤.

(٩) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٢١٣.

(١٠) هذا القول مأخوذ عن البغوي ، ٣ / ٢١٣.

٢٠٢

بعد ما عقمت النساء أربعين سنة وأدرك الصغائر على دين آبائهم وماتت البهائم بآجالهم.

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤))

ثم أهلكوا بالطوفان فأخبر الله تعالى إيماء إلى قدرته بقوله (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) أي ادخلي الماء الذي خرج منك فيك (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) أي أمسكي عن إنزال المطر وكانت قبل ذلك لا تقلع (وَغِيضَ الْماءُ) أي انتقص ، من غاض إذا نقص وهو متعد ولازم (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي فرغ من إغراق الكفار ومن إنجاء المؤمنين (وَاسْتَوَتْ) أي استقرت السفينة (عَلَى الْجُودِيِّ) وهو جبل بأرض الجزيرة بقرب الموصل (وَقِيلَ بُعْداً) أي هلاكا ، من بعد بعدا وبعدا (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [٤٤] أي الكافرين المكذبين برسل الله من رحمة الله ، عن قتادة : «كانت السفينة في الماء خمسين ومائة يوم واستقرت بهم على الجودي شهرا وهبط بهم يوم عاشوراء» (١) ، فصام نوح عليه‌السلام يوم الهبوط وأمر من معه من المؤمنين فصاموا شكرا لله تعالى (٢).

وروي : أن نوحا بعث الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع ، فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجلها بالطين ، فعلم نوح أن الماء قد نبض فدعا على الغراب بالخوف ، ولذا لا يألف البيوت ودعا للحمامة بالأمان فمن ثم تألف البيوت (٣).

وروي : أنه ما نجا من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق ، وكان سبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقله ، فحمله عوج إليه من الشام فأنجاه الله من الغرق (٤).

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥))

(وَنادى) أي أراد الدعاء (نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ) بالفاء ولو قصد النداء نفسه لقال «قال» بغير فاء استئنافا (رَبِّ إِنَّ ابْنِي) كنعان (مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ولا خلف في وعدك (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [٤٥] أي أعلمهم وأعدلهم ، لأن حكمك بالعدل تحكم على قوم بالنجاة وعلى قوم بالهلاك لحكمة تعلمها ونحن لا نعلمها.

(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦))

(قالَ) الله (يا نُوحُ إِنَّهُ) أي إن ابنك (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الذين وعدتك أن أنجيهم (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) قرئ بكسر الميم وفتح اللام ونصب «غير» ، أي عمل عمل المشركين دون عمل المؤمنين ، وبفتح الميم ورفع اللام وتنوينه ورفع «غير» (٥) ، أي ذو عمل غير صالح أو جعلت ذاته عملا غير صالح مبالغة في ذمه ، وهو تعليل لانتفاء كونه من أهله ، وقيل : الضمير في (إِنَّهُ) لنداء نوح عليه‌السلام (٦) ، أي إن السؤال إياي أن أنجيه عمل غير صالح ، لأنه التماس غير صواب ، وأنت تعلمه وليس بشيء ، وإنما لم يقل عمل فاسق ليؤذن أن النجاة بسبب الصلاح فقط (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي لا تلتمس مني شيئا حتى تقف على كنهه بالصواب أو بغير الصواب ، وذكر السؤال يدل على أن النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه ، وإنما سمي دعاؤه سؤالا مع أنه لا سؤال فيه ، لأنه دعاءه قد تضمن معنى السؤال لذكره الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة ولده الغرق ،

__________________

(١) انظر الكشاف ، ٣ / ٤٠.

(٢) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢١٣ ـ ٢١٤ ؛ أو الكشاف ، ٣ / ٤٠.

(٣) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ١٢٨.

(٤) نقله المصنف عن البغوي ، ٣ / ٢١٤.

(٥) «عمل غير» : قرأ الكسائي ويعقوب بكسر الميم وفتح اللام وحذف تنوينها ونصب راء «غير» ، والباقون بفتح الميم ورفع اللام وتنوينها ورفع راء «غير». البدور الزاهرة ، ١٥٥.

(٦) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٤١.

٢٠٣

قرئ بفتح اللام وتشديد النون مكسورة تأكيدا إرادة الإضافة وبفتح النون أيضا مشددة وبإسكان اللام وكسر النون مخففا (١) ، ثم أكده بقوله (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [٤٦] أي أمنعك من أن تسأل ما لا تعرف كنهه جهلا وغباوة فتعد من الجاهلين بسؤال نجاة الكافرين أو بدعائك إهلاك الكفار ثم بسؤال نجاة كافر منهم ، وإنما عاتبه ونسبه إلى الجهل مع أنه وعده أن ينجي أهله ولم يكن عالما بكفر ابنه ، لما (٢) رأى أن ابنه قد شارف الغرق (٣) اشتبه (٤) عليه الأمر فاقتضى المقام أن يسأل الإماطة الشبهة ، لأن تقديم الوعد له بانجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم كان مستوجبا أن يعتقد أن في جملة أهله من ليس بناج لكونه غير صالح بلا شبهة ، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب عليه أن لا يشتبه ، والأكثر أنه كان ابن نوح من صلبه لقوله (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) ، وقوله (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) بمعنى من أهل دينك ، قال ابن عباس : «ما بغت امرأة نبي قط» (٥) ، ولما كان نداء نوح ربه متضمنا بمعنى السؤال.

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧))

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ) بعد اليوم (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) يعني اغفر لي واحفظني من سؤال ذلك حتى لا أعود إليه وإلى أمثاله (وَإِلَّا) أي إن لم (تَغْفِرْ لِي) ما فرط مني من ذلك (وَ) لم (تَرْحَمْنِي) بالتوبة (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) [٤٧] أعمالا ، قيل : هذه عادة الصالحين أنهم إذا وعظوا اتعظوا وإذا نبهوا للخطأ استغفروا وتعوذوا (٦) ، وإنما حكى الله تعالى ما صدر من الأنبياء من التعوذ والاستغفار بعدهم ليقتدي بهم في ذلك من غير قنوط عن رحمته.

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨))

قوله (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) خطاب لنوح عليه‌السلام بالهبوط من السفينة بعد ما استوت على الجودي ، أي أنزل من السفينة مسلما محفوظا من الغرق من جهتنا (وَبَرَكاتٍ) أي بخيرات نامية وسعادات كاملة (عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) مؤمنين (٧) في السفينة ، لأنهم كانوا أمما مختلفة بكثرة التوالد والتناسل و «من» للبيان ، فالسلام والبركة مختصة بمن كان معه ، ويجوز أن يكون «من» ابتدائية بمعنى وعلى أمم ناشئة ممن معك ، فيعم السّلام جميع المؤمنين إلى يوم القيامة ، قوله (وَأُمَمٌ) مبتدأ ، صفته (سَنُمَتِّعُهُمْ) خبره محذوف ، وهو ممن معك بتقدير التقديم على أمم (٨) ، يعني ينشأ من الذين معك أمم يتمتعون (٩) بالدنيا كافرون (١٠)(ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) [٤٨] في الآخرة ، فدخل في التمتع والعذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة ، قيل : مات الأمم الذين كانوا معه في السفينة ولم يكن منهم نسل إلا من أولاد نوح سام وهو أبو العرب وأشراف الناس ، وحام وهو أبو السودان والزنج ونوبة ، ويافث وهو أبو الترك والخوز ويأجوج ومأجوج (١١) لقوله تعالى (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ

__________________

(١) «فلا تسألن» : قرأ قالون والشامي بفتح اللام وتشديد النون مكسورة وحذف الياء في الحالين وورش وأبو جعفر كذلك إلا أنهما يثبتان الياء وصلا فقط ، وابن كثير بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وأبو عمرو ويعقوب باسكان اللام وتخفيف النون مكسورة وإثبات الياء بعدها وصلا لأبي عمرو وفي الحالين ليعقوب ، والباقون كذلك لكنهم حذفوا الياء في الحالين وإذا وقف عليه حمزة فبالنقل فقط. البدور الزاهرة ، ١٥٥.

(٢) ولم يكن عالما بكفر ابنه لما ، ب : ولم يعلم أن ابنه كافرا ولما ، س ، ـ م.

(٣) قد شارف الغرق ، ب م : شارف ، س.

(٤) اشتبه ، س : فاشتبه ، ب م.

(٥) انظر البغوي ، ٣ / ٢١٥.

(٦) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٧) مؤمنين ، ب س : ـ م.

(٨) بتقدير التقديم على أمم ، ب س : ـ م.

(٩) يتمتعون ، ب س : تتمتعون ، م.

(١٠) كافرون ، ب س : ـ م.

(١١) راجع في هذا الموضوع إلى تفسير قوله «قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ...» ، رقم الآية (٩٤) من سورة الكهف.

٢٠٤

الباقون (١)» (٢).

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))

قوله (تِلْكَ) خطاب للنبي عليه‌السلام ، أي ما سبق ذكره من أخبار نوح وقومه يا محمد (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي من أخبار ما غاب عنك (نُوحِيها إِلَيْكَ) بجبريل (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) كفار مكة (مِنْ قَبْلِ هذا) أي قبل نزول القرآن إليك (فَاصْبِرْ) على القيام بأمر الله وعلى تكذيبهم كما صبر نوح على تكذيب قومه (إِنَّ الْعاقِبَةَ) أي آخر الأمر بالسعادة والنصرة (لِلْمُتَّقِينَ) [٤٩] أي للموحدين المطيعين بالتقوى.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠))

قوله (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) عطف على (نُوحاً) ، أي وأرسلنا إلى قوم هود أخاهم في النسب نبيا هو هود (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وحدوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي رب سواه (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) [٥٠] أي ما أنتم إلا (٣) كاذبون في قولكم إن لله شريكا.

(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢))

(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على تبليغ الرسالة والإيمان (أَجْراً) أي رشوة وجعلا (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما ثوابي (إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) أي خلقني (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [٥١] أن الله هو أحق بالعبادة دون غيره ولما حبس المطر عن قومه ثلاث سنين قال (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) من الشرك وآمنوا به (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي إلى الله من ذنوبكم (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي متتابعا كلما تحتاجون إليه لسقي الزروع والبساتين (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) أي شدة مع شدتكم الموجودة لكم في العدد والعدد والمال والدين والجسد والولد وطول العمر (وَلا تَتَوَلَّوْا) أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه من الإيمان والعبادة لله تعالى (مُجْرِمِينَ) [٥٢] أي مشركين آثمين.

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣))

(قالُوا) أي قومه (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) أي بحجة واضحة على قولك (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) أي لا نترك عبادة آلهتنا بقولك هذا (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) [٥٣] أي بمصدقين بأنك رسول الله.

(إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥))

(إِنْ نَقُولُ) أي ما نقول لك (إِلَّا) قولا هو (اعْتَراكَ) أي أصابك (بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) وهو الجنون والتخبل لسبك إياها حتى قلت ما قلت فلا نتبعك ، فثم (قالَ) هود ردا عليهم واستخفافا بهم وبآلهتهم بتأكيد براءته من شركهم كما هو عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله وشهادة العباد (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ) على نفسي (وَاشْهَدُوا) أنتم علي أيضا (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [٥٤] أي من إشراككم آلهة (٤)(مِنْ دُونِهِ) أي من غيره (٥) ولم يقل إن أشهدكم كما قال أشهد الله ، لأن إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح في معنى التوحيد ، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بهم وتحقير بحالهم ، فجاءه بلفظ الأمر تهكما بهم (فَكِيدُونِي) أي اقصدوا إهلاكي أنتم وهم (جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) [٥٥] أي لا تمهلوني.

__________________

(١) الصافات (٣٧) ، ٧٧.

(٢) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ١٣٠.

(٣) ما أنتم إلا ، ب س : ـ م.

(٤) آلهة ، ب م : آلهتهم ، س.

(٥) من غيره ، ب م : غير الله ، س.

٢٠٥

(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦))

(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ) أي فوضت أمري إليه ، وصفه (١)(رَبِّي وَرَبِّكُمْ) أي خالقي وخالقكم (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ) أي ما حيوان يتحرك في الأرض إلا الله (٢)(آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي قادر ومالك يتصرف في كل دابة بالإحياء والإماتة وهو يرزقها في ملكه ، وذكر الناصية ليدل على أنه تعالى يقهر كل دابة بسهولة ، ويقال ناصية فلان بيد فلان إذا كان محكوما له بالمذلة (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٥٦] فهو يدعوكم إليه وهو دين الإسلام بارسالي إليكم فآمنوا به.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧))

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فان تتولوا (٣) ، يعني إن تعرضوا (٤) عن الإيمان به (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) أي فلا أعاتب بعد تبليغي إياكم ما أمرت به من الرسالة فلم يبق لي عذر بعده حتى ألام عليه ، وهذا التقدير يدفع قول من قال الإبلاغ كان قبل التولي ، فكيف وقع جزاء للشرط ، ثم قال مستأنفا (وَيَسْتَخْلِفُ) بالرفع ، أي يستبدل (رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) إن شاء ، يعني خيرا منكم وأطوع له تعالى (وَلا تَضُرُّونَهُ) أي لا تنقصون من ملكه (شَيْئاً) إن لم تؤمنوا (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) [٥٧] أي لا يغيب عنه شيء يحفظني ويجازي كلا بعمله (٥).

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨))

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) في الدنيا وهم كانوا أربعة آلاف من الذكور والإناث (بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ) في الآخرة (مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [٥٨] أي شديد بسبب الإيمان كما نجيناهم من العذاب في الدنيا بسببه وهو الريح التي أهلك بها عادا ، قيل : «إن الله تعالى بعث عليهم ريح السموم وكانت تدخل في آذانهم وأنوفهم ويخرج (٦) من أدبارهم فيقطعهم عضوا عضوا» (٧).

(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩))

قوله (وَتِلْكَ عادٌ) إشارة إلى آثار قوم هود المهلكين في طريق الشام ، أي تلك الآثار آثار عاد يا أهل مكة (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي علامات توحيده (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) أي هودا وحده ، وذكره بلفظ الجمع ، لأن من كذب رسولا كان كمن كذب جميع الرسل (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [٥٩] أي معاند معرض عن الحق ، قيل : الجبار الذي يضرب ويقتل عند الغضب والعنيد الذي لا يقول الحق ولا يقبله من القائل وإن عرفه (٨) ، المعنى : أنهم عملوا بقول المبطل وأعرضوا عن قول المحق ، هذا هو جرمهم.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))

قوله (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي وألحقوا في الحيوة الدنيا العذاب وهو الريح العقيم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وألحقوا في الآخرة لعنة أخرى وهي عذاب النار إلى الأبد (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) تنبيه لكفار مكة على أنهم جحدوا نعمة ربهم وهي (٩) دين الإسلام فأهلكوا بذلك ، ثم عقبه بتنبيه آخر بقوله (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) [٦٠] أي إلا سحقا وخزيا لهم من رحمة الله ، وهم قوم هود ، وهو عطف بيان بعد البيان كقوله (أَخاهُمْ هُوداً)(١٠) لقطع مادة الشبهة بوجه كلي ، لأنهم عاد الأولى والثانية عاد إرم وهم قوم صالح ، والبعد يستعمل بضد القرب ،

__________________

(١) وصفه ، ب س : ـ م.

(٢) أي ما حيوان يتحرك في الأرض إلا الله ، ب س : ـ م.

(٣) أي فان تتولوا ، ب س : ـ م.

(٤) أي إن أعرضتم ، م : يعني إن أعرضوا ، ب س.

(٥) بعمله ، ب م : بعلمه ، س.

(٦) ويخرج ، ب م : تخرج ، س.

(٧) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٣ / ٤٤.

(٨) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١٣١.

(٩) وهي ، ب م : وهو ، س.

(١٠) الأعراف (٧) ، ٦٥ ؛ وهود (١١) ، ٥٠.

٢٠٦

من بعد يبعد بضم العين فيهما ، وللهلاك من بعد بكسر العين يبعد بفتحها ، والدعاء بالهلاك عليهم بعد هلاكهم ليدل على استحقاقهم به يقينا.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١))

(وَإِلى ثَمُودَ) أي وأرسلنا إلى قبيلة ثمود (أَخاهُمْ صالِحاً) في النسب لا ينصرف للتأنيث والتعريف وفي موضع ينصرف هو اسم للقوم (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وحدوه وأطيعوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ) أي خلقكم ابتداء (مِنَ الْأَرْضِ) يعني من آدم وآدم منها (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي أطال عمركم بطول الحيوة في الأرض أو أسكنكم فيها وأسكن من بعدكم من العمري ، يعني جعلها لكم ما عشتم ، قيل : «كانت أعمارهم ألف سنة أو ثلثمائة» (١)(فَاسْتَغْفِرُوهُ) أي الله من الشرك (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) بالطاعة والدعوة (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) أي سهل المطلب داني الرحمة (مُجِيبٌ) [٦١] لدعاء من دعاه من أهل طاعته.

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢))

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا) أي كنا نرجو منك الانتفاع بك في ديننا وتدبير أمورنا (قَبْلَ هذا) أي قبل أن تدعونا (٢) إلى دين غير دين آبائنا ، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الآلهة (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [٦٢] أي موقع في الريبة (٣) والتهمة ، من أرابني فلان إذا رأيت منه ما يريبك ، وفي معناه رابني (٤) ، يعني لا طمأنينة لنا فيما دعوتنا إليه باليقين.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣))

(قالَ) صالح لهم (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على حجة واضحة أتتني منه (وَآتانِي) أي أعطاني (مِنْهُ رَحْمَةً) أي من عنده نبوة وحكمة لأبلغكم إياها ثم تركت أمره ودعوتكم إلى دينه (فَمَنْ يَنْصُرُنِي) أي يمنعني (مِنَ اللهِ) أي من عذابه (إِنْ عَصَيْتُهُ) وتركت أمره لدينكم الباطل (فَما تَزِيدُونَنِي) بقولكم هذا (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) [٦٣] أي إلا نسبتي إياكم إلى الخسران والضلال ، يعني أقول لكم إنكم خاسرون أو معناه : إنكم تخسرون أعمالي وتبطلونها وهو كالتفسيق بمعنى النسبة إلى الفسق.

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥))

ثم قال (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) أي علامة لنبوتي وعبرة لتعتبروا بها فتؤمنوا وهو نصب على الحال ، و (لَكُمْ) متعلق به معنى ، لأنه أيضا حال من (آيَةً) مقدما عليه ، إذ لو تأخر لكان صفة لها ، وذلك أن قومه طلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من هذه الصخرة ، فدعا صالح فخرجت تلك الناقة وولدت في الحال مثلها ، ثم قال (فَذَرُوها تَأْكُلْ) أي اتركوها ترتع (فِي أَرْضِ اللهِ) أي في وادي الحجر (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) أي ولا تصيبوها بعقر (فَيَأْخُذَكُمْ) إن عقرتموها (عَذابٌ قَرِيبٌ) [٦٤] أي عاجل لا يتأخر عن مسكم لها بسوء إلا يسيرا ، وذلك ثلاثة أيام ، ثم يقع عليكم وكانت لهم بئر واحدة عذبة ، فجعل صالح للناقة شرب يوم لا يقربونها ولهم شرب يوم لا تحضرها ، وكانت امرأة جميلة غنية تتأذى بالناقة لأجل سائمتها ، فقالت من عقر الناقة أزوج نفسي منه ، فخرجت جماعة منهم قدار بن سالف ومصدع وجاؤا إلى ممرها ، فرماها مصدع بسهم فأصاب رجلها ،

__________________

(١) عن الضحاك ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٢١.

(٢) تدعونا ، ب : يدعونا ، س م.

(٣) في الريبة ، ب س : في الريب ، م.

(٤) رابني ، ب س : أرابني ، م.

٢٠٧

ثم ضرب قدار بالسيف فعقرها وقسموا لحمها على جميع أهل القرية ، فلذلك قال (فَعَقَرُوها) أي قتلوها يوم الأربعاء (فَقالَ) لهم صالح تهديدا (تَمَتَّعُوا) أي عيشوا (فِي دارِكُمْ) أي في دنياكم (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) ثم تهلكون بالعذاب (ذلِكَ) أي نزول العذاب بكم بعد ثلاثة أيام (وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [٦٥] أي غير كذب ، وهو مصدر كالمصدوق بمعنى الصدق.

روي : أنه قال يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام فتصبحون في اليوم الأول باصفرار الوجوه وفي الثاني باحمرارها وفي الثالث باسودادها ، فكان كما قال وأتاهم العذاب يوم السبت فأهلكوا فيه (١).

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦))

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا (نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي بنعمة من عندنا (وَمِنْ خِزْيِ) عطف على (نَجَّيْنا) ، أي ونجيناهم من هوان (يَوْمِئِذٍ) بكسر الميم إعرابا لإضافة الخزي إليه وبفتح الميم (٢) بناء لإضافة «يوم» إلى مبني وهو «إذ» ، لأن ظرف الزمان متى أضيف إلى مبني جاز فيه الإعراب والبناء ، وخزيهم إما في الدنيا أو في الآخرة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ) أي المتين في أخذه بالشدة (الْعَزِيزُ) [٦٦] أي المنتقم ممن عصاه.

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧))

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي كفروا بالرسل (الصَّيْحَةُ) أي صياح جبريل وهو الصوت الذي سمعوا من السماء فتقطعت قلوبهم في صدورهم فماتوا (فَأَصْبَحُوا) أي فصاروا (فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) [٦٧] أي صرعى خامدين هالكين.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي كأن لم يكونوا مقيمين في ديارهم (أَلا إِنَّ ثَمُودَ) قرئ بالصرف اسم للحي وبعدم الصفر (٣) علم للقبيلة (كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) [٦٨] أي تنبهوا يا كفار مكة فاحذروا من عقوبتهم كيلا يصيبكم بكفركم مثل ما أصابهم بكفرهم.

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩))

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا) وهم الملائكة من السماء ، واختلفوا في عددهم ، والأصح وهو قول ابن عباس : «أنهم كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل» (٤) ، جاؤا (إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) أي ببشارة الولد له وهم في صورة غلام أمرد ، وسلموا عليه (قالُوا سَلاماً قالَ) إبراهيم (سَلامٌ) أي عليكم سلام ، وقرئ سلم بكسر السين وسكون اللام (٥) بمعنى السّلام أو تقديره : أمري سلم بمعنى السلامة ، أي ما أريد عليكم إلا الأمن والصلاح (فَما لَبِثَ) إبراهيم (أَنْ جاءَ) أي عن المجيء (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) [٦٩] أي مشوي بالحجارة في حفيرة يقطر دسمه ، والعجل ولد البقرة ، قيل : كان عامة مال إبراهيم البقر فلما قرب إليهم ووضعه بين أيديهم كفوا عنه ولم يأكلوا منه (٦).

(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠))

(فَلَمَّا رَأى) إبراهيم (أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ) أي إلى العجل (نَكِرَهُمْ) أي استنكرهم وهو ضد المعرفة ، وكان

__________________

(١) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١٣٣ ؛ والكشاف ، ٣ / ٤٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٢٣.

(٢) «يومئذ» : قرأ أبو جعفر ونافع والكسائي بفتح الميم ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ١٥٦.

(٣) «ثمود» : قرأ حفص ويعقوب وحمزة بغير تنوين الدال ، والباقون بتنوينها. البدور الزاهرة ، ١٥٦.

(٤) انظر السمرقندي ، ٢ / ١٣٤ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٢٤.

(٥) «سلام» : قرأ الأخوان بكسر السين وإسكان اللام ، والباقون بفتح السين واللام وألف بعدها. البدور الزاهرة ، ١٥٦.

(٦) هذا مأخوذ عن السمرقندي ، ٢ / ١٣٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٢٥.

٢٠٨

من عادة إبراهيم وقومه أنه إذا أكل الضيف من طعامهم أمنوا منه ، فلما لم يأكلوا منه خاف أن يريدوا به سوء ولم يعرفهم (وَأَوْجَسَ) أي أضمر في قلبه (مِنْهُمْ خِيفَةً) أي خوفا ظهر أثره عليه أو عرفوه بتعريف الله إياهم (قالُوا) أي الملائكة (لا تَخَفْ) يا إبراهيم (إِنَّا) ملائكة (أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) [٧٠] أي لإهلاكهم ، وقيل : علم إبراهيم أنهم ملائكة ولكنه خاف أن يكونوا جائين بعذاب قومه فردوا عليه ذلك (١).

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١))

(وَامْرَأَتُهُ) أي سارة بنت هاران عمه (قائِمَةٌ) خلف الستر تسمع كلامهم أو قائمة تخدمهم وإبراهيم جالس معهم (فَضَحِكَتْ) سرورا بزوال الخوف عنها وعن إبراهيم بقولهم لا تخف أو تعجبا من عدم أكلهم وهم أضياف ، وقيل : بمعنى حاضت من قولهم ضحكت الأرنب إذا حضت (٢)(فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ) أي وبعده (يَعْقُوبَ) [٧١] أي بيعقوب ، عطف على «باسحق» عند من قرأه بنصب الباء أو هو مبتدأ ، خبره الظرف قبله عن من قرأه مرفوعا (٣) ، كأنه قيل ومن وراء إسحق يعقوب موجود أو مولود وهو ولد الولد.

(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢))

(قالَتْ يا وَيْلَتى) كلمة نداء ندبة ، يقال عند ورود أمر عظيم ، أي يا ويلتي ، فألفه مبدلة من ياء الإضافة بمعنى يا عجبا (٤)(أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) أي عقيم لم ألد قط وقد كبرت في السن (وَهذا بَعْلِي) أي زوجي مبتدأ وخبر ، ومحل الجملة حال بما دل عليه «ذا» من معنى الإشارة كأنها أشارت إلى المعروف عندهم بقولها (هذا بَعْلِي) ثم قالت (شَيْخاً) تعني أشير إليه في حال كبره ولو لم يقدر كونه معروفا عندهم للزم أن يكون إبراهيم بعلها مدة شيخوخته ولم يكن بعلها في مدة شيبته ، ومثله قولك هذا زيد قائما فانك إن أخبرت به من يعرفه استقام المعنى ، وإن أخبرت من لا يعرفه لم يستقم ، لأنه يفهم أنه زيد مادام قائما ، فاذا زال القيام لم يكن زيدا ، قيل : «بشرت سارة بالولد وهي بنت ثمان وتسعين سنة ، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة أكبر منها بسنة (٥) ، وقيل : «كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة وسارة بنت تسعة وتسعين سنة» (٦) ، فأنكرت ذلك عادة ، وقالت (إِنَّ هذا) أي حدوث الولد من الكبيرين (لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) [٧٢] أي لأمر مستبعد غريب من حيث العادة.

(قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣))

(قالُوا) أي الملائكة إنكارا عليها وهي من أهل بيت النبوة (أَتَعْجَبِينَ) يا سارة كسائر النساء (مِنْ أَمْرِ اللهِ) بايجاد الولد من كبيرين ، يعني لا تعجبين من أمره ذلك (رَحْمَةِ اللهِ) أي نعمته ونبوته (وَبَرَكاتُهُ) أي وزيادات خيره تحلان (٧)(عَلَيْكُمْ) يا (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي بيت النبوة ، يعني ألا تعلمين أن نبوة الوحي (٨) من الله ، وأكثر الأنبياء من الأسباط وهم من هذا البيت ، يعني من ولد إبراهيم ، روي : «أن جبريل أخذ عودا من الأرض يابسا فدلكه بين أصبعيه فاذا هو شجرة تهتز فعرفت أنه من الله» (٩) ، ثم قال (إِنَّهُ) أي الله (حَمِيدٌ) أي محمود في فعاله (مَجِيدٌ) [٧٣] أي واسع الكرم كثير الإحسان.

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤))

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) أي الخوف (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) باسحق ويعقوب حال بتقدير «قد» ، وجواب «لما» محذوف ، أي أقبل علينا (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [٧٤] أي في شأنهم ، حال أقيم مقام الجواب ، أي

__________________

(١) لعله اختصره من الكشاف ، ٣ / ٤٦.

(٢) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ١٣٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٢٥.

(٣) «يعقوب» : قرأ حفص وحمزة وابن عامر بنصب الباء ، والباقون برفعها. البدور الزاهرة ، ١٥٧.

(٤) يا عجبا ، س م : يا عجباء ، ب.

(٥) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٣٥.

(٦) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٣٥.

(٧) تحلان ب س : تخلان ، م.

(٨) أن نبوة الوحي ، ب م : أن بيت النبوة الوحي ، س.

(٩) عن السدي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٣٥.

٢٠٩

مجادلا لرسلنا ، لأن إبراهيم لا يجادل ربه ، والمعنى : أنه سأل ربه ويطلب إليه تضرعا وإلحاحا ، وقيل : مجادلته إياهم أن قال لهم أتهلكون قوما فيهم خمسون مؤمنا من مدائن قوم لوط؟ قالوا : لا ، قال : أو أربعون؟ قالوا : لا ، قال : أو ثلاثون؟ قالوا : لا حتى بلغ خمسة ، قالوا : لا ، قال إبراهيم : لو كان فيها واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا : لا ، قال إبراهيم عليه‌السلام عند ذلك : أن فيها لوطا ، قالوا : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (١)(٢) ، قال ابن عباس : «لو كان فيهم خمسة يصلون رفع عنهم العذاب» (٣).

(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥))

(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) أي غير عجول على المسيء (أَوَّاهٌ) أي يتأوه إذا ذكر الله (مُنِيبٌ) [٧٥] أي رجاع إليه بالتوبة والاستغفار ، قيل : «هذه الصفات حملته على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع عنهم العذاب ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة والإنابة» (٤).

(يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦))

ثم قال له جبريل (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) أي عن جدالك فان الرأفة عادتك ولا تنفعهم الآن (إِنَّهُ) أي الشأن (قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بعذابهم وإهلاكهم وحكم به (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ) أي نازل بهم (عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) [٧٦] أي غير مصروف عنهم بجدال ولا بدعاء وشفاعة ، ثم خرجوا من عنده مقبلين إلى قوم لوط ، فوصلوا نصف النهار إلى جوار يسقين من الماء فأبصرتهم ابنة لوط ، فقالت لهم : ما شأنكم ومن أين أقلبتم؟ فقالوا : أقلبنا من سكان كذا مسافرين ، هل أحد يضيفنا؟ قالت : ليس فيها أحد يضيفكم إلا ذلك الشيخ ، فأشارت إلى أبيها لوط وهو على بابه فذهبوا إليه.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧))

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) أي تحزن بمجيئهم ، لأنه رآهم على صورة الغلمان (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي ضاق صدره اغتماما ومخافة عليهم من خبث قومه وعجزا عن مقاومتهم (٥) لا يدري أيأمرهم بالنزول أم بالرجوع لما رآى جمالهم (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [٧٧] أي شديد فجاء بهم منزله سرا ، وقال لامرأته : قومي واخبزي ولا تعلمني أحدا ، وكانت امرأته منافقة فانطلقت تطلب بعض حاجتها فأخبرت قومها أن عندنا أضيافا من هيئتهم كذا وكذا.

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨))

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ) أي يسرعون (إِلَيْهِ) كأنما يدفعون دفعا (٦) ، والهرع مشي بين مشيين (٧) لنيل شهوتهم (وَمِنْ قَبْلُ) أي قبل أن يبعث إليهم لوط أو قبل اتيان الرسل (كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي الفواحش وهي الاتيان من الأدبار ، فلما أراد الدخول في بيته (قالَ) لهم لوط (يا قَوْمِ هؤُلاءِ) مشيرا إلى نساء أمته أو إلى ابنتيه (بَناتِي) وأضافها إلى نفسه على التقدير الأول ، لأن كل نبي أبو أمته (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) بالتزويج بشرط الإسلام ، وقيل : كان في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزا كما زوج النبي عليه‌السلام ابنته من عتبة بن أبي لهب قبل الوحي وكان كافرا (٨) ، وقيل ذكر ذلك على سبيل الدفع وإظهار التواضع ليستحيوا منه لا على التحقيق

__________________

(١) العنكبوت (٢٩) ، ٣٢.

(٢) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٣ / ٤٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٣) انظر الكشاف ، ٣ / ٤٧.

(٤) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٤٧.

(٥) عن مقاومتهم ، س : عن مقاولتهم ، ب م.

(٦) كأنما يدفعون دفعا ، ب س : ـ م.

(٧) مشيين ، ب م : المشيين ، س.

(٨) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢٣٠ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٤٨.

٢١٠

ولم يرضوا بهذا (١) فقال (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) أي لا تفضحوني (فِي ضَيْفِي) بفعلكم الخبيث ، لأنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي ذلك ، والضيف مصدر يعم القليل والكثير ، أي في أضيافي (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) [٧٨] أي مرشد صالح أو عاقل يزجركم عن هذا الفعل.

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩))

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ) يا لوط (ما لَنا) أي ليس لنا (٢)(فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ) أي حاجة ، لأن اتيان الإناث ليس مذهبا (٣) لنا (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) [٧٩] من اتيان الذكور.

(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢))

(قالَ) لوط (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أي بطشا بنفسي (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [٨٠] أي أو أنضم إلى عشيرة مانعة أتمنع (٤) بهم ، شبه القوي المانع بركن (٥) الجبل (٦) في الالتجاء به ، قاله تهييجا لناصره لا شكا (٧) منه في عدم ناصره (٨) ، وجواب «لو» محذوف ، أي لفعلت بكم ما علمت أو لقاتلكم ولمنعتكم مما تريدون ، روي : أن لوطا قد أغلق عليه وعلى أضيافه بابه ، فجعلوا يستفتحون الباب وهو يعظهم ويناشدهم (٩) ، فثم (قالُوا) أي الملائكة (يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) أي لن يقدر قومك أن يصيبوك (١٠) بسوء ولن يخزوك فينا وإن ركنك لشديد ، لأن الله ناصرك فخل بيننا وبينهم ، ففتح الباب وأرادوا الدخول فمسح جبريل جناحه على وجوههم ، فذهبت أعينهم فرجعوا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم ، وقالوا : يا لوط جئت بالسحرة حتى طمسوا أعيننا والله لنهلكنك غدا ، فلما سمع لوط تهديدهم إياه خاف ، وقالت الملائكة عند ذلك (فَأَسْرِ) يا لوط ، قرئ بسكون الألف من السير ، وبفتحها (١١) من الإسراء وهو السير بالليل ، أي سر (بِأَهْلِكَ) أي بابنتيك وامرأتك (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي في قطعة (١٢) منه وهي آخر السحر (وَلا يَلْتَفِتْ) أي لا يتخلف (١٣)(مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) بالرفع بدل من «أحد» ، وبالنصب (١٤) استثناء من الأهل (١٥) لا من «أحد» ، لأنه غير فصيح لقوة البدل ، قيل : على قراءة النصب الاستثناء من «أهلك» تناقض في الأخبار ، لأنه يلزم أن يكون امرأة لوط مسراة وغير مسراة لثبوت القراءتين البدل والاستثناء ، أجيب بأن الأمر بالإسراء أمر مربوط بالنهي عن الالتفات بواو العطف الجامع بينهما في سلك واحد ، فالاستثناء إذن واقع عن إسراء مقيد بترك الالتفات ، فهو كقولك يا قوم ائتوني راكبين إلا زيدا فزيد مستثنى عن الاتيان المقيد بالركوب لا عن اتيان مطلق حتى إنه لو أتاك راجلا لا يناقض الاستثناء ، فكذلك امرأة لوط مستثنى من الإسراء المقيد بترك الالتفات لا عن الإسراء المطلق ، فلا يناقض (١٦) الإسراء بالتخلف ، يعني

__________________

(١) لعل المفسر اختصره من الكشاف ، ٣ / ٤٨.

(٢) أي ليس لنا ، س : ـ ب م.

(٣) مذهبا ، ب م : مذهب ، س.

(٤) أتمنع ، ب : أمنع ، س.

(٥) بركن ، ب : بالركن ، س.

(٦) الجبل ، ب : ـ س.

(٧) شكا ، ب : شكاية ، س.

(٨) أتمنع بعن شبه القوي المانع بركن الجبل في الالتجاء قاله تهييجا لناصره لا شكا منه في عدم ناصره ، ب س : ـ م.

(٩) اختصره المصنف من البغوي ، ٣ / ٢٣١.

(١٠) أي لن يقدر قومك أن يصيبوك ، ب س : ـ م.

(١١) «فأسر» : قرأ المدنيان والمكي بهمزة وصل فتسقط في حالة الدرج ، وحينئذ يصير النطق بسين ساكنة بعد الفاء ، والباقون بهمزة قطع مفتوحة بعد الفاء. البدور الزاهرة ، ١٥٧.

(١٢) أي في قطعة ، ب س : أي بقطعة ، م.

(١٣) أي لا يتخلف ، ب س : أي لا تخلف ، م.

(١٤) «إلا امرأتك» : قرأ المكي والبصري برفع التاء ، والباقون بنصبها. البدور الزاهرة ، ١٥٧.

(١٥) الأهل ، ب م : أهل ، س.

(١٦) فلا يناقض ، س م : فلا تناقض ، ب.

٢١١

لا تسر امرأتك مع أهلك (إِنَّهُ) أي الشأن (١)(مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) من العذاب ، المعنى : أنها لو سرت فتلتفت لتهلك ، قيل : «كان لوط قد أخرجها معه ونهي من تبعه ممن أسرى بهم أن يلتفت سوى زوجته ، فانها لما سمعت صوت العذاب من خلفها التفتت ، وقالت : يا قوماه فأدركها حجر فقتله» (٢) ، وقيل : سار لوط وخلف امرأته مع قومها (٣) ، لأنها كانت منهم ، فقال للملائكة متى وقت هلاكهم؟ فقالوا (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) فقال لوط : أريد أسرع من ذلك ، فقالوا (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) [٨١] فحمل جبرائيل لوطا وابنتيه وماله على جناحه فأوصلهم إلى مدينة ذعر من مدائن لوط الخمسة ، ولم يكن قومها على مثل عملهم الخبيث ، فلما كان وقت الصبح أدخل جبريل جناحه تحت المدائن الأربعة ، فاقتلعها من الماء الأسود ورفعها إلى السماء حتى سمعت الملائكة نباح الكلب وصياح الديكة ، ثم قلبها ، فأخبر تعالى عن ذلك بقوله (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) فأقبلت تهوي من السماء إلى الأرض (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها) أي على أهلها (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) أي من طين وقيل : (سِجِّيلٍ) كلمة فارسية معربة من سنك وكل (٤) ، وقيل : اسم جبل في السماء (٥)(مَنْضُودٍ) [٨٢] أي متتابع نضد بعضه فوق بعض في السماء معدا للعذاب وهو صفة (سِجِّيلٍ).

(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))

(مُسَوَّمَةً) نصب على الحال من الحجارة ، أي معلمة لا تشاكل حجارة الأرض ، وقيل : «مكتوب في كل حجر اسم من يرمي به» (٦)(عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ) أي تلك الحجارة المعلمة عند الله (مِنَ الظَّالِمِينَ) أي من المشركين أو من هذه الأمة (بِبَعِيدٍ) [٨٣] أي بشيء أو بمكان بعيد ، لأنها وإن كانت في السماء إلا أنها تهوي بسرعة للحوق بالمرمى وهو تهديد لأهل مكة وغيرهم لكيلا يعملوا مثل عملهم ، روي : «أن الحجر اتبع شذاذهم ومسافريهم أينما كانوا في البلاد ودخل رجل منهم في الحرم فكان الحجر معلقا في السماء أربعين يوما حتى خرج منه فأصابه فأهلكه» (٧).

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤))

قوله (وَإِلى مَدْيَنَ) أي وأرسلنا إلى أهل مدين (أَخاهُمْ شُعَيْباً) نزل إخبارا عن حالهم التي هي التطفيف في الكيل والاكتيال مع شركهم تهديدا لكفار مكة (٨)(قالَ) شعيب (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وحدوه وأطيعوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي رب سواه (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) في البيع والشرى (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي موسرين في نعمة وخصب (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) [٨٤] أي يحيط بكم فيهلككم جميعا ، ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب بها ، لأن «اليوم» إذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل اليوم عليه منه ، قيل : «حذرهم بزوال النعمة وغلاء السعر وحلول النقمة في الدنيا إن لم يتوبوا عن عملهم السوء» (٩) ، وذلك في يوم القيامة (١٠) نهوا أولا عن صريح النقص القبيح تعييرا لهم.

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥))

__________________

(١) إنه ، + س.

(٢) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢٣٢.

(٣) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٢٣٢.

(٤) عن ابن عباس وسعيد بن جبير ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٣٨ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٣٣.

(٥) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٢٣٣.

(٦) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٢٣٣.

(٧) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢٣٣.

(٨) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١٣٩ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٣٤.

(٩) عن مجاهد ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٣٤.

(١٠) وذلك في يوم القيامة ، ب س : وقيل هو يوم القيامة ، م.

٢١٢

ثم أمروا بالإيفاء الحسن في العقل ترغيبا فيه بقوله (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي أتموهما بالعدل والتسوية من غير زيادة ونقصان ، وفي ورود الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول بعد النهي عن النقصان زيادة ترغيب فيه وبعث (١) عليه (٢) ، ثم أكد بقوله (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي لا تنقصوا حقوقهم ولو بشيء قليل كالتطفيف (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [٨٥] أي لا تسعوا فيها بشدة الفساد قاصدين بنقص حقوق الناس على وجه السرقة والغارة وغيرهما.

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦))

(بَقِيَّتُ اللهِ) أي ما يبقى لكم من الحلال بعد ترك الحرام أو طاعة الله تعالى وعطاؤه (خَيْرٌ لَكُمْ) من التطفيف في البيع والشرى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي مصدقين فيما أقول لكم (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [٨٦] أي بوكيل أحفظ أعمالكم عليكم وأجازيكم عليها وإنما علي البلاغ والتنبيه على الخير وإنما قال ذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم وكان شعيب عليه‌السلام كثير الصلوة وكان قومه إذا رأوه يصلي تضاحكوا واستهزؤا به ولذلك قالوا طنزا وسخرية.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧))

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ) مفردا وجمعا (٣)(تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام فجعلوا صلوته آمرة على سبيل التهكم بصلوته ، وعطف (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ) على (ما يَعْبُدُ) ، أي أو تأمرك أن نترك أن نفعل (٤)(فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) من الزيادة والنقصان ، وقيل : كانوا يقطعون الدنانير والدراهم وحكم عليهم بأنه حرام لينتهوا عن ذلك (٥) ، ثم قالوا على سبيل المبالغة في الاستهزاء (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [٨٧] أي السفيه الضال ، والعرب تصف الشيء بضده مدحا أو ذما أو تفألا كما تقول للمخنث شجاع وللأسود كافور وللزيغ سليم ، وقيل : هو حقيقة (٦) ، أي إنك يا شعيب حليم رشيد فينا لا تكن سفيها (٧) في مخالفة دين قومك ولا تهدمه.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨))

(قالَ) شعيب (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) أي على دين بالحق وبيان على بصيرة (مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) أي نبوة وعلما من لدنه أو حلالا طيبا ، وكان شعيب كثير المال ، وجواب الشرط محذوف للعلم به من معنى الكلام وهو اتبع الضلال مثلكم وأشوب الحلال بالحرام كما تشوبون ولا آمركم بترك الشرك والمعاصي كالأنبياء (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ) أي إلى الذي أمنعكم (عَنْهُ) وأرتكبه أنا وليس بواعظ من يعظ الناس بلسانه دون عمله (إِنْ أُرِيدُ) أي ما أقصد بوعظكم (إِلَّا الْإِصْلاحَ) أي إلا إصلاحكم وبيان ما فيه مصلحة لكم وهو العدل (مَا اسْتَطَعْتُ) في محل النصب على الظرف ، أي مدة استطاعتي (وَما تَوْفِيقِي) أي وما كوني موفقا لإصابة الحق فيما أعمل وأدع (إِلَّا بِاللهِ) أي إلا بتأييده وإعانته ، وفي ضمنه تهديد للكفار وقطع لأطماعهم فيه ، لأنه طلب من الله في إمضاء أمره التأييد (٨) والإظهار على عدوه ، وأصل التوفيق تسهيل سبيل الخير والطاعة (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي أعتمدت (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [٨٨] أي أرجع في جميع أموري والنوائب النازلة علي.

__________________

(١) وبعث عليه ، ب : وحث عليه ، م.

(٢) وفي ورود الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول بعد النهي عن النقصان زيادة ترغيب فيه وبعث عليه ، ب م : ـ س.

(٣) «أصلوتك» : قرأ حفص والأخوان وخلف بالإفراد ، والباقون بالجمع. البدور الزاهرة ، ١٥٨.

(٤) أن نفعل ، ب س : أن لا يفعل ، م.

(٥) اختصره من البغوي ، ٣ / ٢٣٥.

(٦) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٢٣٥.

(٧) سفيها ، س : ـ ب م.

(٨) التأييد ، س م : التأبيد ، ب ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٥١.

٢١٣

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩))

قوله (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ) من جرم ذنبا إذا كسبه نهي عن مخالفتهم لشعيب فيما أمرهم ونهاهم ، أي لا يحملنكم (شِقاقِي) أي مخالفتي وهو فاعل (لا يَجْرِمَنَّكُمْ) ، يعني مخافتكم إياي أو عداوتكم وبغضكم علي ، ومفعوله الثاني (أَنْ يُصِيبَكُمْ) أي على فعل يصيبكم بسببه بلا توبة عنه (مِثْلُ ما) أي الذي (١)(أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الصيحة (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ) أي ليس عذابهم (بِبَعِيدٍ) [٨٩] منكم ولذا لم يقل ببعيدة على تأنيث القوم ، يعني إن طال عهدكم بعذاب هؤلاء فاعتبروا بعذاب من هو قريب منكم وهو قوم لوط ، وقيل : تقديره بمكان أو زمان بعيد (٢).

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠))

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) عن الشرك (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) عن عمل المعاصي (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) بعباده بقبول توبتهم (وَدُودٌ) [٩٠] أي محب لأهل طاعته منهم أو محبوب لهم فهو بمعنى الواد أو المودود ، وقيل : إن شعيبا كان خطيب الأنبياء عليهم‌السلام فهو يعظهم ويدعوهم إلى التوحيد (٣).

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١))

(قالُوا) على سبيل الاستهزاء (يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ) أي ما نعقل (كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) أي مما تدعونا إليه من الإيمان ومن وفاء الكيل والوزن ، وذلك خلاف ما عليه آباؤنا (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) أي ذليلا لا قوة لك لتمنعنا عنه أو ضرير البصر لا تصلح للنبوة فينا ، قيل : ذهب بصره من كثرة بكائه من خشية الله أو محبته له (٤)(وَلَوْ لا رَهْطُكَ) أي عشيرتك (لَرَجَمْناكَ) أي لقتلناك بالحجر والرجم أقبح القتل ، وقالوا : ذلك تألفا لقومه لا خوفا منهم ، لأن الرهط ما دون العشرة (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [٩١] أي بكريم ليكون لك حرمة عندنا ، بل العزة لقومك فينا.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢))

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) والأصل أن يقول «مني» مكان (مِنَ اللهِ) ، لأن الكلام واقع فيه وفي رهطه إلا أنه لما أعز عليهم (٥) رهطه دونه وهو نبي الله كان رهطه أعز من الله ، أي أرهطي أهيب عندكم من خوف الله إن تركتم قتلي لمكان رهطي ، فأولى أن تحفظوني في الله لأني نبيه أو هم أعظم عندكم من أمر الله وكتابه (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) أي الله (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي منسوبا إلى الظهر ، وكسر الظاء من تغيير النسب كما يقال أمسي في النسبة إلى أمس ، يعني جعلتم أمر الله وراء ظهوركم فتركتموه تهاونا به (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [٩٢] أي عالم بجميع أعمالكم فيجازيكم بها ، والإحاطة إدراك الشيء بكماله.

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣))

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على قوتكم طالبين هلاكي وإبطال أمري (إِنِّي عامِلٌ) في إبطال كيدكم وهلاك دينكم بقوة الله ونصرته والمكان والمكانة بمعنى التمكن من عمل شيء ، ثم حذرهم مستأنفا بترك الفاء التي للوصل الظاهر اكتفاء بالوصل الخفي التقديري لكونه جوابا لسؤال مقدر ، كأنهم قالوا : ماذا يكون لنا

__________________

(١) أي الذي ، ب س : ـ م.

(٢) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٣ / ٥٢.

(٣) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢٣٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٥٢.

(٤) هذا منقول عن السمرقندي ، ٢ / ١٤٠.

(٥) أعز عليهم ، ب : لما أعزوا عليه ، س ، لما عز عليهم ، م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٥٢.

٢١٤

بعد ذلك فقال (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أينا الجاني على نفسه والمخطئ بفعله (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ) من الله (يُخْزِيهِ) أي يذله ويهلكه (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) على الحقيقة لا بزعمكم ، والأصل أن يقول ومن هو صادق ، وإنما قال ذلك تجهيلا لهم ، لأنهم كانوا يدعونه كاذبا ، أي ويخزي الكاذب على الله بأن له شريكا ، ف (مَنْ) عطف على الضمير المفعول (١)(وَارْتَقِبُوا) أي انتظروا بي العذاب (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) [٩٣] بمعنى الراقب ، أي منتظر بكم العذاب ونزوله في الدنيا.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤))

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أشركوا بالله وعصوا أمره (الصَّيْحَةُ) أي صيحة جبريل ، فخرجت أرواحهم من أبدانهم (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) [٩٤] أي ميتين في أمكنتهم لا يتحركون.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي كأن لم يقيموا في الأرض ولم يعمروا متصرفين فيها (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ) من رحمة الله (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) [٩٥] من رحمته ، والبعد ضد القرب ، وقيل : معناه ألا هلاكا لمدين كهلاك ثمود (٢) ، قيل : «لم يعذب أمتان بعذاب واحد إلا قوم صالح وشعيب ، صاح بهم جبريل فأهلكهم الله تعالى» (٣).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧))

ثم قال لزيادة تذكير وتهديد لكفار مكة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي بعلاماتنا التسع (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) [٩٦] أي بحجة بينة (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي إلى أشراف قومه (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) أي أطاعوا قوله حين قال : (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى)(٤) فأطاعوه في ذلك ، وتركوا أمر موسي (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ) أي قوله (بِرَشِيدٍ) [٩٧] أي بصواب ، بل هو ضلال ظاهر لمن له عقل ، وهو تجهيل لمتبعيه.

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨))

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ) أي يتقدمهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهم خلفه كما كانوا يتبعونه في الدنيا (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) أي أدخلهم فيها أورده بلفظ الماضي لا بلفظ المستقبل المطابق قوله (يَقْدُمُ) ليدل على أنه مقطوع به ، كأنه قال : يقدمهم فيوردهم النار لا محالة (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [٩٨] أي الدخول المحضور النار ، وهي المخصوص بالذم ، حذف للعلم به ، من وردت الماء أي حضرته ، جعل الورد عين النار مبالغة في التهويل ، يعني بئس المورود النار ، لأن الورد انما يراد لتسكين العطش وتبريد الكبد ، والنار ضده.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩))

(وَأُتْبِعُوا) أي ألحقوا (فِي هذِهِ) الدنيا (لَعْنَةً) وهي الغرق (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) لعنة أخرى ، وهي عذاب النار ، يعني لعنوا في الدارين (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) [٩٩] أي العون المعان ، أي العطاء المعطى ، وذلك أنه ترادفت اللعنتان ، لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة أو الرفد المدد ، فكأن اللعنة في الدنيا رفدت ، أي أمددت باللعنة الأخرى يوم القيامة.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠))

(ذلِكَ) النبأ ، أي الخبر ، مبتدأ ، خبره (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) أي بعض أخبار القرى المهلكة (نَقُصُّهُ) خبر بعد

__________________

(١) فمن عطف على الضمير المفعول ، ب س : ـ م.

(٢) لعله اختصره من الكشاف ، ٣ / ٥٣.

(٣) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٤١.

(٤) المؤمن (٤٠) ، ٣٩.

٢١٥

خبر للمبتدأ ، أي مقصوص منا (عَلَيْكَ) بنزول جبريل لتقرأه عليهم دلالة على نبوتك ، ثم استأنف قوله (مِنْها) أي من القرى (قائِمٌ) أي عامر بقيام الحيطان دون أهله (وَحَصِيدٌ) [١٠٠] أي ومنها خراب هالك بهلاك أهله وحيطانه وهو بمعنى المحصود.

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١))

(وَما ظَلَمْناهُمْ) أي لم نهلكهم ظلما (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعصية (فَما أَغْنَتْ) أي ما نفعت (عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ) أي يعبدونها (مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي من صرف عذاب الله تعالى عنهم (لَمَّا) أي حين (جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي عذابه (وَما زادُوهُمْ) أي ما زادت آلهتهم إياهم بعبادتهم (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) [١٠١] أي غير تدمير وإهلاك.

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢))

(وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك العقاب (أَخْذُ رَبِّكَ) أي عقوبته (إِذا أَخَذَ الْقُرى) أي عاقبهم (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي والحال أن أهلها جاحدون بتوحيد الله ومختارون الشرك به (إِنَّ أَخْذَهُ) أي عقوبته (أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [١٠٢] أي وجيع صعب على المأخوذ ، وهو تحذير من عاقبة الظلم لكل قرية ظالمة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» (١) ، ثم قرأ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) الآية.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣))

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في الإخبار عن الأمم الخالية الهالكة بذنوبهم (لَآيَةً) أي لعبرة وعظة (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) أي لمن أيقنه وأقر به (ذلِكَ) أي يوم القيامة (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) أي يوم يجمع له الأولون والآخرون للحساب والجزاء ، وصف اليوم بلفظ الاسم دون الفعل ليدل على ثبات الجمع في ذلك اليوم وتمكنه البتة (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [١٠٣] أي يشهدون فيه من أهل السماء والأرض لا يغيب عن أحد منهم ، جعل اليوم مشهودا فيه تهويلا له وتمييزا من بين الأيام كتمييز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهودا فيه دونها.

(وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤))

(وَما نُؤَخِّرُهُ) أي ذلك اليوم ونحن قادرون على أن نقيمه الآن (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) [١٠٤] أي لوقت معلوم محسوب بعد انقضاء الدنيا.

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥))

(يَوْمَ يَأْتِ) أي ذلك اليوم أو الفاعل الله كما في قوله تعالى (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)(٢) ، أي أمره ، قرئ باثبات الياء وبحذفها (٣) كما في مصحف عثمان رضي الله عنه ، وهو لغة هزيل ، والعامل في الظرف محذوف ، أي اذكر يوم يأتي هوله وشدائده أو العامل (لا تَكَلَّمُ) أي لا يتكلم لهول ذلك اليوم وشدته (نَفْسٌ) في الشفاعة (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي إلا بأمره تعالى للقيامة مواطن ، ففي بعضها يتكلمون وفي بعضها يمنعون عن التكلم (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ) أي من سبقت له الشقاوة (وَسَعِيدٌ) [١٠٥] أي ومنهم من سبقت له السعادة.

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦))

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) لشركه وإساءته (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أي الصوت الشديد (وَشَهِيقٌ) [١٠٦] أي

__________________

(١) رواه مسلم ، البر ، ٦٢ ؛ وابن ماجة ، الفتن ، ٢٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٤٠.

(٢) النحل (١٦) ، ٣٣.

(٣) «يأت» : أثبت الياء وصلا المدنيان والبصري والكسائي ، وفي الحالين ابن كثير ويعقوب ، وحذفها الباقون في الحالين. البدور الزاهرة ، ١٥٩.

٢١٦

الصوت الضعيف وهما صفتا صوت الحمار ، يعني أول ما ينهق وآخر ما ينهق عند الفراغ من نهيقه.

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧))

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي سماء الجنة وأرضها ، فانهما خلقتا للأبد لقوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ)(١) الآية ، وقيل : هو كناية عن التأبيد على عادة العرب (٢) ، أي مدة دوامها في ظنهم (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أي لكن من آمن في الدنيا أخرجهم الله تعالى من الأشقياء الداخلين في النار بإيمانهم ، ف (ما) بمعنى «من» ، والاستثناء منقطع لكون الإخراج من غير جنس الداخلين فيها (٣) ، لأنهم سعداء أخرجوا من النار أو متصل من داخلي النار بالمعصية أو من الواردبين فيها ، فأخرجوا وأدخلوا الجنة بالشفاعة أو برحمة الله (٤) أو استثناء من أوقات الخلود ، لأنهم استحقوا الخلود (٥) في النار من حين أخرجوا من القبور ، لكنهم أخروا عنه قدر الحساب في المحشر ف (ما) على بابها (٦)(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ) بأهل النار (٧)(لِما يُرِيدُ) [١٠٧] إن شاء أخرج من يعذب في النار ويدخله الجنة بايمانه وإن شاء أبقاه معذبا في النار أبدا بكفره.

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨))

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) بضم السين وبفتحها (٨) ، أي الذين خلقوا للسعادة أو استوجبوا دخول الجنة بالإيمان والطاعة (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) استثناء من أوقات الخلود ، وهو مقدار الحبس في الحشر وعلى الصراط وتعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ ، وهو ما بين الموت والبعث أربعين سنة قبل مصيرهم إلى الجنة والنار ، وقيل : «معناه سوى ما شاء الله من الزيادة على قدر مدة بقاء السموات والأرض» (٩) ، وذلك هو الخلود في الموضعين ، وقيل : «إلا» بمعنى الواو (١٠) ، أي وما شاء ربك من خلود هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة ، وقيل : معناه لو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء ، لأنه حكم لهم بالخلود فيهما (١١)(عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [١٠٨] أي رزقا غير منقطع عنهم ، وهو مصدر منصوب بفعل مقدر ، أي يعطون عطاء غير منقوص.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩))

ثم قال تعالى لنبيه عليه‌السلام وأراد غيره (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) أي في شك (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) في أنهم ضلال يستحقون العذاب المؤبد (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) يعني لا يرغبون التوحيد فتقلدوا آياءهم من غير حجة في ذلك (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ) أي لمتمون (نَصِيبَهُمْ) من العذاب (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [١٠٩] هو نصب على الحال ، أي وافيا لهم ولآبائهم بلا نقص من كل واحد منهم ، وفيه تأكيد لتوفية (١٢) نصيبهم الكامل ، عن ابن مسعود : «ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا» (١٣) ، وعن أبي هريرة مثله (١٤) ، ومعناه عند أهل السنة أن لا يبقي فيها أحد من أهل الإيمان ، أما مواضع الكفار فممتلئة أبدا.

__________________

(١) إبراهيم (١٤) ، ٤٨.

(٢) قاله أهل المعاني ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٤٢.

(٣) الداخلين فيها ، ب س : ـ م.

(٤) أو من الواردبين فيها فأخرجوا وأدخلوا الجنة بالشفاعة أو برحمة الله ، ب س : ـ م.

(٥) لأنهم استحقوا الخلود ، ب م : ـ س.

(٦) فما على بابها ، ب س : ـ م.

(٧) بأهل النار ، ب س : يا أهل النار ، م.

(٨) «سعدوا» : قرأ حفص والأخوان وخلف بضم السين ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ١٥٩.

(٩) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٢٤٣.

(١٠) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٢٤٣.

(١١) وهذا المعنى مأخوذ عن البغوي ، ٣ / ٢٤٣.

(١٢) لتوفية ، ب س : لتوفيه ، م.

(١٣) انظر البغوي ، ٣ / ٢٤٣.

(١٤) انظر البغوي ، ٣ / ٢٤٣.

٢١٧

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠))

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التورية (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) كما اختلف في القرآن ، بعضهم آمن به وبعضهم كفر به ، وفيه تسلية للنبي عليه‌السلام ليصبر على تكذيبهم كما صبر موسى عليه‌السلام (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي لو لا وجب قول ربك بتأخير العذاب عن أمتك إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لحكم في الحال بلا مهملة بنزول العذاب بهم ولفرغ من إهلاكهم (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي من القرآن (مُرِيبٍ) [١١٠] أي موقع الريبة والتهمة.

(وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١))

(وَإِنَّ كُلًّا) قرئ بالتشديد والتخفيف (١) ، وأعملت في «كلا» ، والتنوين فيه عوض من المضاف إليه ، أي كل واحد من المختلفين والخبر على الوجهين (لَمَّا) بالتخفيف و «ما» نكرة بمعنى شيء واللام فيه لا أن للتأكيد ، أي وإن كلا لخلق ولو جعلت «ما» زائدة للفصل بين لام (إِنَّ) ولام القسم (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) كان خبر «إِنَّ» «لَيُوَفِّيَنَّهُمْ» ، فاللام الأولى لتوطئة القسم ، واللام في (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) جواب قسم محذوف ، أي وإن كلا من المختلفين والله ليوفينهم ، أي ليعطينهم (٢) وافيا (رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) أي جزاء أعمالهم من خير وشر ، وقرئ «لما» بالتشديد (٣) ، أصله «لمن ما» بمعنى لخلق ما قلبت النون ميما فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت الأولى تخفيفا (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [١١١] أي عالم به فيجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا.

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢))

ثم خاطب نبيه عليه‌السلام بعد ذكر كونه خبيرا (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) على دين ربك والعمل به والدعاء إليه ، وقيل : «افتقر إلى الله بصحة العزم» (٤) ، وهو الوثوق به والتوكل عليه وربطه القلب به ، قوله (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) عطف على الضمير في «استقم» للفصل بينهما ، أي وليستقم من تاب من الشرك وآمن معك في التوحيد والعمل بما أمروا به (وَلا تَطْغَوْا) أي لا تخرجوا عن حدود الله ولا تروغوا روغان الثعلب (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [١١٢] أي لا يخفى عليه من أعمالهم شيء.

قال ابن عباس رضي الله عنه : «ما نزل على رسول الله عليه‌السلام آية هي أشد عليه من هذه الآية ولذا قال شيبتني سورة هود» (٥).

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣))

(وَلا تَرْكَنُوا) أي لا تجعلوا أنفسكم راكنين أي مائلين (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي وجد منهم الظلم (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) أي فيصيبكم عذاب النار ، والركون هو الميل والمحبة بالقلوب (٦) ، يعني لا تطيعوهم ولا ترضوا أعمالهم السيئة وأقوالهم الباطلة ولا تداهنوهم (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) أي أعوان ينفعونكم (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [١١٣] أي لا تمنعون من عذابه حين تمسكم النار ، و «ثم» فيه لاستبعاد نصرهم منه ، قال سفيان : «إن في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون الملوك» (٧) ، من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه.

__________________

(١) «وإن كلا» : قرأ نافع وابن كثير وشعبة بتخفيف «وإن» ، وأبو عمرو والكسائي وبعقوب وخلف وابن عامر وحفص وأبو جعفر بتشديد «وإن». البدور الزاهرة ، ١٥٩.

(٢) ليعطينهم ، ب م : لنعطينهم ، س.

(٣) «لما» : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب وخلف بتخفيف «لما» ، وابن عامر وحفص وحمزة وأبو جعفر وشعبة بتشديد «لما». البدور الزاهرة ، ١٥٩.

(٤) عن جعفر الصادق ، انظر الكشاف ، ٣ / ٥٧.

(٥) انظر البغوي ، ٣ / ٢٤٦.

(٦) القلوب ، ب م : القلب ، س.

(٧) انظر الكشاف ، ٣ / ٥٨.

٢١٨

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤))

قوله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) عطف على (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) في معنى النهي عن أداء الصلوة قبل وقتها ، أي أد الصلوة (طَرَفَيِ النَّهارِ) أي أوله وآخره ، وهو منصوب على الظرفية لإضافته إلى الظرف ، وطرفان الغداة والعشي ، والمراد الصبح والظهر والعصر ، لأن ما بعد الزوال عشي (وَزُلَفاً) جمع زلفة وهي قطعة (مِنَ اللَّيْلِ) أو ساعة منه نصب على الظرف ، والمراد المغرب والعشاء ، يعني أقم الصلوة في هذه الأوقات الخمسة (إِنَّ الْحَسَناتِ) أي الصلوات الخمس في أوقاتها (يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) أي الخطيئات ، قيل : نزلت الآية في شأن أبي اليسر ، وقد جاءته امرأة لتبتاع منه تمرا ، فقال لها : إن في البيت تمرا أطيب منه ، فدخلت معه في البيت فقبلها فندم عليه ، فأتى أبا بكر فذكر له ذلك ، فقال : استر على نفسك وتب ، فأتى عمر وقال كذلك ، ثم أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ذلك فأطرق عليه‌السلام حتى أوحي إليه الآية (١) ، فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال : بل للناس عامة ، وقال عليه‌السلام : «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» (٢) ، وقيل : الحسنات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله أكبر (٣) أو جميع الخيرات (٤)(ذلِكَ) أي المذكور من قوله «فاستقم» وما بعده من المواعظ (ذِكْرى) أي موعظة (لِلذَّاكِرِينَ) [١١٤] أي للتائبين المتعظين.

(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))

(وَاصْبِرْ) يا محمد على الشدائد وعلى ما تلقى من أذى قومك والصلوات الخمس (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [١١٥] في أعمالهم من الصلوة (٥) وغيرها.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦))

قوله (فَلَوْ لا) من حروف التحضيض بمعنى «هلا» أو المراد منه النفي إذا لم يكن له جواب ، أي فما (كانَ مِنَ الْقُرُونِ) المهلكة (مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) أي أهل خير وأصحاب فضل ، يقال فلان على بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) أي لكن قليلا منهم (٦) نهوا عن الفساد ، وهم أتباع الأنبياء ، ف «من» في (مِمَّنْ أَنْجَيْنا) للبيان (٧) لا للتبعيض ، والاستثناء منقطع ، ولا يجوز أن يكون متصلا على ما عليه الظاهر من الكلام ، لأنه يلزم أن يكون معنى الآية تخصيصا لأولي البقية عن النهي عن الفساد دون القليل من الناجين منهم وهو فاسد ، وعطف على «نهوا» المقدر معنى قوله (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بشركهم ، أي اشتغلوا (ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي الذي أنعموا به في الدنيا من المال والرياسة وأسباب التنعم واللذات النفسانية من الحلال والحرام ، ورفضوا ما وراء ذلك من أركان الدين وشرائع الإسلام فنبذوه وراء ظهورهم ، ولم يهتموا بما هو خير لهم في الدنيا والآخرة (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) [١١٦] عطف على «أترفوا» ، أي صاروا متأثمين بذلك التنعم (٨) مستحقين للعقاب.

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧))

(وَما كانَ رَبُّكَ) أي وما صح وما استقام (لِيُهْلِكَ الْقُرى) أي أن يعذب أهلها (بِظُلْمٍ) أي بغير جرم وهو

__________________

(١) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢٤٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٤٥ ؛ والواحدي ، ٢٢٥.

(٢) روى أحمد بن حنبل نحوه ، ١ / ٤٠٢ ، ٢ / ٤١٤ ، ٤٨٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٤٨.

(٣) هذا القول لمجاهد ، انظر القرطبي ، ٩ / ١١٠.

(٤) وهذا الرأي لابن عطية ، انظر القرطبي ، ٩ / ١١٠.

(٥) الصلوة ، ب س : الصلوات ، م.

(٦) منهم ، ب م : ـ س.

(٧) للبيان ، ب س : ـ م.

(٨) التنعم ، ب س : ـ م.

٢١٩

حال من الفاعل (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) [١١٧] أي موحدون مطيعون ، والجملة في محل النصب على الحال من المفعول ، واللام في (لِيُهْلِكَ) لتأكيد النفي الداخل على «كان» ، يعني استحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها وهم مصلحون في أعمالهم ، ولكنه يهلكهم بكفرهم وركوبهم السيئات ، وقيل : معناه أنه لا يهلكهم بكفرهم وأهلها عادلون فيما بينهم ولا يظلم بعضهم بعضا ، وإنما يهلكهم إذا تظالموا (١).

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨))

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) مشية قسر وإلجاء (لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أي لخلق كلهم مكرمين بدين واحد ، وهو دين الإسلام بالاضطرار ولكنه علم أن بعضهم ليسوا بأهل لذلك فلم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [١١٨] على أديان شتى من نصراني ويهودي ومجوسي ومشرك ومسلم ، لأن الله تعالى مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف ، فاختار بعضهم الباطل وبعضهم الحق فاختلفوا.

(إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩))

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي إلا ناسا هداهم الله ولطف بهم بتأييده فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه (وَلِذلِكَ) أي وللاختلاف (٢) الذي ينشأ من تمكين الاختيار (خَلَقَهُمْ) ليثيب مختار الحق ويعاقب مختار الباطل فيكون فريق في الجنة وفريق في السعير ، وقيل معناه : «وللرحمة خلقهم» (٣) ، يعني للإسلام والعبادة التي هي سبب الرحمة ، قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(٤)(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي سبق حكمه في علمه ووجب للمختلفين في دينه بكفرهم وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [١١٩] لعلمه بكثرة من يختار الباطل ويترك الحق.

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠))

(وَكُلًّا) أي كل نبأ ، فالتنوين عوض من المضاف إليه (نَقُصُّ عَلَيْكَ) أي نبين لك (مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) أي من أخبارهم وأخبار أممهم ، وهو بيان لكل (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي الذي نقوي به قلبك من الاضطرار ، وهو بدل من «كلا» ، يعني نحن نقص عليك كل ما تحتاج إليه من أخبار الأنبياء وأممهم مما نثبت به قلبك لنزيدك يقينا وطمأنينة ، لأن تكاثر الشواهد والأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم ولو ذكرت مكررة ، لأن النبي عليه‌السلام إذا سمعها كان في ذلك تقوية في قلبه على الصبر على أذى قومه (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) أي في سورة هود أو في هذه الأنباء المقتصة (الْحَقُّ) أي ما هو الحق من الأحكام والعلوم المتعلقة بالنبوة فاعمل به ومن تاب معك وإنما خص هذه السورة تشريفا لها وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور (وَمَوْعِظَةٌ) أي وجاءك تأدبة (وَذِكْرى) أي وتذكرة وعبرة (لِلْمُؤْمِنِينَ) [١٢٠] أي الموحدين المطيعين لله ورسوله.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢))

ثم قال تهديدا لكفار مكة (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بالله ورسوله (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على جهتكم وقوتكم التي أنتم عليها في أمرنا (إِنَّا عامِلُونَ) [١٢١] في أمركم (وَانْتَظِرُوا) بنا الدوائر (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) [١٢٢] أن يحل بكم العذاب كما حل بأشباهكم.

__________________

(١) لعله اختصره من البغوي ، ٣ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

(٢) وللاختلاف ، ب م : وللاختيار ، س.

(٣) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٥٠.

(٤) الذاريات (٥١) ، ٥٦.

٢٢٠