عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٣٤

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧))

قوله (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ) أي معكم إلى الجهاد (ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) أي فسادا ، إخبار عن المنافقين بأنهم لا ينفعونكم على تقدير خروجهم معكم ، بل يضرونكم بافساد ذات البين وإيقاع الجبن بين المسلمين بتهويل الأمر (وَلَأَوْضَعُوا) أي ولأسرعوا (خِلالَكُمْ) أي بينكم ، نصب على الظرف ، يعني لسعوا بالنمائم مسرعين بينكم (يَبْغُونَكُمُ) أي يلتمسون لكم (الْفِتْنَةَ) أي ما يفتنكم من الشر ، يعني يطلبون هزيمتكم ووقوعكم في الشر ، ومحل الجملة حال من ضمير «أوضعوا» (١)(وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي وفي عسكركم جواسيس للمنافقين ، يسمعون كلامكم ويقبلون منهم ويطيعونهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [٤٧] أنفسهم بالنفاق ، فيجازيهم بظلمهم.

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨))

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) أي طلبوا العنت وإظهار الشرك والسعي في تشتيت شملك وتفريق أصحابك عنك كما فعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف بأتباعه عنك (مِنْ قَبْلُ) أي قبل غزوة تبوك (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أي الحيل ، يعني دوروا الآراء في إبطال أمرك ودبروا لإهلاكك الحيل من كل وجه (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ) أي نصر الله وتأييده لك وكثر المسلمون (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) أي علا دينه الحق وغلب وهو الإسلام (وَهُمْ كارِهُونَ) [٤٨] ذلك.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩))

قوله (وَمِنْهُمْ) أي ومن المنافقين (مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) في القعود (وَلا تَفْتِنِّي) أي لا توقعني في الفتنة بعدم إذنك لي في القعود ، نزل في شأن الجد بن قيس حين حثه النبي عليه‌السلام على الخروج إلى الغزو وببنات الأصفر ، وكان الأصفر رجلا من اليمن ملك ناحية من الروم ، فتزوج رومية فولدت له بنات اجتمع فيهن سواد الحبش وبياض الروم وكن فتنة ، فقال الجد قد علمت الأنصار إني حريص على النساء فأخشى أن لا أصبر عنهن وأضع يدي على الحرام ، فلا تفتني بهن ولكني أعينك بمال فاتركني (٢) ، فأذن له بالقعود (٣) فقال تعالى (أَلا فِي الْفِتْنَةِ) أي اعلموا أنهم في الاثم والنفاق (سَقَطُوا) أي وقعوا بالتخلف (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ) أي إنها لتحيط (بِالْكافِرِينَ) [٤٩] يوم القيامة ، وهم الجد بن قيس ومن تابعه في التخلف لكون أسباب الإحاطة معهم لا تنفك منهم.

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠))

ثم بين حالهم التي هي أثر النفاق بقوله (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) أي غنيمة ونصرة بعد تخلفهم (تَسُؤْهُمْ) أي تحزنهم تلك الحسنة (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) في بعض الغزوات ، أي شدة وهزيمة (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا) الذي نحن فيه من الحذر بالتيقظ والعمل بالجزم (مِنْ قَبْلُ) أي قبل هذه المصيبة (وَيَتَوَلَّوْا) أي ويعرضوا عنك إلى أهاليهم بالتحدث بذلك (وَهُمْ فَرِحُونَ) [٥٠] بحالهم في الانحراف عنك أو بما أصابك من الشدة نحو ما جرى في أحد.

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١))

(قُلْ) يا محمد (لَنْ يُصِيبَنا) أي لن يصل إلينا (إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ) أي ما قدره وأوجبه في كتابه (لَنا) واختصنا بايجابه وإثباته من النصرة عليكم أو من الشهادة (هُوَ مَوْلانا) أي الله الذي يتولانا بالنصرة والحفظ وغير ذلك

__________________

(١) أوضعوا ، ب : لأوضعوا ، س م.

(٢) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٥٤ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٠٩ ؛ والبغوي ، ٣ / ٦١.

(٣) بالقعود ، س : في القعود ، ب م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٥٤.

١٤١

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [٥١] أي ليثق عليه كل من آمن به لا على غيره ، فان ذلك حق المؤمنين فليفعلوا ما هو حقهم.

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢))

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ) أي ما تنتظرون أنتم (بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) أي العاقبتين الحميدتين ، وهما النصرة مع الغنيمة أو الشهادة مع المغفرة (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) إحدى العاقبتين الذميمتين وهي (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) هو الصواعق والموت (أَوْ) بعذاب نزل عليكم (١)(بِأَيْدِينا) وهو قتلنا إياكم بكفركم (فَتَرَبَّصُوا) بنا ما ذكرنا من عواقبنا (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) [٥٢] بعواقبكم ، فلا بد أن نلقي بذلك (٢) نحن وأنتم لا نتجاوز (٣) عنه.

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣))

(قُلْ) يا محمد للجد بن قيس ومن مثله من المنافقين (أَنْفِقُوا) في سبيل الله ووجوه البر ، أمر جعل بمعنى الخبر والشرط لدلالة الكلام عليه مع إفادة معنى التسوية ، أي إن أنفقتم فيه (طَوْعاً) أي طائعين من غير إلزام من النبي عليه‌السلام ولا من رغبة فيه (٤)(أَوْ كَرْهاً) أي مكرهين (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) نفقاتكم عند الله ، يعني لا ثواب لها في الآخرة ، ويجوز أن يراد بنفي التقبل رده عليهم (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) [٥٣] بتخلفكم عن الجهاد في سبيل الله.

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤))

ثم بين سبب عدم قبولها بقوله (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ) بالياء والياء (٥) ، و (أَنْ) نصب بدل من «هم» في «مَنَعَهُمْ» (نَفَقاتُهُمْ) رفع ب (تُقْبَلَ) مجهولا ، أي ما منع قبول نفاقهم (٦)(إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا) في محل الرفع فاعل «منع» ، أي إلا كفرهم (بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) في السر وهو عالم به (وَلا يَأْتُونَ) أي لا يعلمون (الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) جمع كاسل ، من الكسل وهو التثاقل ، أي إلا متثاقلين لو اضطروا إلى إتيانها ، لأنهم لا يرونها فرضا عليهم (وَلا يُنْفِقُونَ) في الجهاد (إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) [٥٤] على النفقة فيه لعدم احتسابهم في الآخرة ، يعني أنهم لا يرجون ثوابا منها فيها.

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥))

ثم زهد النبي عليه‌السلام من الميل إلى دنياهم بقوله (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) أي لا تستحسن منهم كثرتهما فتميل إليهم بها ، وأصل الإعجاب السرور بالشيء مع الرضا به (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها) أي بسبب الأموال والأولاد (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وتعذيبهم فيها أمرهم أن يخرجوا (٧) الزكوة منها وأن ينفقوا علي كره في سبيل الله وأن يميت (٨) أولادهم بين أيديهم (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) أي تخرج (٩) أرواحهم (وَهُمْ كافِرُونَ) [٥٥] عند الموت فيعذبهم في الآخرة بالنار ، فالمراد الاستدراج بالنعم إلى أن يموتوا وهم كافرون غافلون بالتمتع عن النظر للعاقبة.

__________________

(١) بعذاب نزل عليكم ، ب م : نزول العذاب عليكم ، س.

(٢) بذلك ، س م : بذلكم ، ب.

(٣) نتجاوز ، س : يتجاوز ، ب م.

(٤) من رغبة فيه ، ب م : عن رغبة منه ، س.

(٥) «تقبل» : قرأ الأخوان وخلف بياء التذكير ، والباقون بتاء التأنيث. البدور الزاهرة ، ١٣٧.

(٦) أي ما منع قبول نفاقهم ، ب م : أي مانع قبول نفاقهم ، س.

(٧) أن يخرجوا ، ب س : أن تخرجوا ، م.

(٨) يميت ، ب م : يمت ، س.

(٩) تخرج ، س : يخرج ، ب م.

١٤٢

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦))

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) أي على دينكم الإسلام في السر كما في العلانية (وَما هُمْ مِنْكُمْ) أي ليسوا على دينكم في السر وهم كاذبون في حلفهم (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) [٥٦] من الفرق وهو الخوف ، أي يخافون القتل والسبي فيتظاهرون بالإسلام لذلك وأسروا النفاق.

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧))

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) أي ما يلجأ إليه الرجل عند خوفه (أَوْ مَغاراتٍ) جمع مغارة ، وهي كالغار في الجبل ، وأصلها ما يغاب فيه (أَوْ مُدَّخَلاً) أي موضعا يدخلونه بضم الميم وتشديد الدال (١) ، أصله متدخلا مفتعل ، من الدخول وهو السرب في الأرض (لَوَلَّوْا) أي لانصرفوا وذهبوا عنك (إِلَيْهِ) وتركوا منفردا (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) [٥٧] أي يسرعون في المشي إليه لا يردهم شيء من قولهم هذا فرس جموح إذا لم يرده اللجام في عدوه.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨))

قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) بضم الميم وكسرها (٢) ، من لمز إذا عاب ، أي يعيبك ويطعن عليك (فِي الصَّدَقاتِ) نزل فيمن طعن النبي عليه‌السلام في قسمة الصدقات والغنائم ، فقال : اعدل يا رسول الله وهو ابن ذي الخويصرة التيمي ، فقال : ويلك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ، فقال عمر : يا رسول الله أتأذن لي أن أضرب عنقه؟ ةفقال : دعه حتى لا يقال يقتل محمد أصحابه (٣)(فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها) أي من الصدقات (رَضُوا) بالقسمة (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها) لحكمة يعلمها الله ورسوله (إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) [٥٨] أي فاجؤوا ، ف «إذا» للمفاجأة بمعنى فاء الجزاء ، والعامل فيها (يَسْخَطُونَ) ، والحكمة : أن رسول الله استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه فوصفهم الله بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين وما فيه صلاح أهله.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩))

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) من العطية والرزق (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) أي كافينا الله وعليه ثقتنا (سَيُؤْتِينَا اللهُ) أي سيعطينا (مِنْ فَضْلِهِ) أي من رزقه (وَرَسُولُهُ) من الغنيمة أكثر مما آتانا اليوم إذا كان عنده سعة (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) [٥٩] أي إلى رحمته راجون فيغنينا عن الصدقات ، وجواب «لو» محذوف وهو لكان خيرا لهم من الطعن عليك.

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠))

ثم بين مصارف الصدقات بالاختصاص ليخرج اللامزين بالنبي عليه‌السلام عن استحقاقها بقوله (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) وهم الذين لهم أدنى شيء (وَالْمَساكِينِ) وهم الذين لا شيء لهم منه ، وأبو حنيفة يعكس التفسير ، فيعطي الشافعي منها من ليس له كفاية سنة ، ويمنعها أبو حنيفة عمن يملك مائتي درهم (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) وهم الذين يجبون الصدقات من أهلها فيعطون على قدر عمالتهم وإن كانوا أغنياء لا على قدر حاجتهم ، وقيل : «لهم الثمن» (٤)(وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) وهم الذين تستألف قلوبهم لتقوى على الإيمان بالإعطاء منها ، وقيل : من يتقى شره من الكفار لقلة من المسلمين وكانوا رؤساء في كل قبيلة ، منهم أبو سفيان وأقرع بن

__________________

(١) «مدخلا» : قرأ يعقوب بفتح الميم وإسكان الدال ، والباقون بضم الميم وفتح الدال مشددة. البدور الزاهرة ، ١٣٧.

(٢) «يلمزك» : قرأ يعقوب بضم الميم ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ١٣٧.

(٣) عن أبي سعيد الخدري ، انظر الواحدي ، ٢١٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٦٥ ـ ٦٦.

(٤) عن الضحاك ومجاهد ، انظر البغوي ، ٣ / ٦٩.

١٤٣

حابس ، فيعطيهم الإمام ما يراه منها (١)(وَفِي الرِّقابِ) عطف على (لِلْفُقَراءِ) ، وإنما عدل عن اللام إلى (فِي) هنا إذانا بأن الأربعة الأخيرة أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن (فِي) للظرفية ، أي وفي فكها من الكتابة أو من الأسر أو من الرق ، وهم المكاتبون (٢) أو الأسارى من الكفار أو المسلمون المأسورون في أيدي الكفار فتبتاع (٣) الرقاب من الصدقات فتعتق عند مالك (وَالْغارِمِينَ) وهم الذين عليهم ديون لغير فساد ولا وفاء عندهم فيعطون على قدر الوفاء بديونهم.

وقيل : هم الذين استدانوا في إصلاح ذات البين أو في عمل الخير أو للإنفاق على عيالهم من غير إسراف لعدم كفاية ما في أيديهم فيعطون ما يؤدون ذلك مع غناهم (٤)(وَفِي سَبِيلِ اللهِ) وهم الذين خرجوا للجهاد فيعطون منها ما يستعان به في غزوهم من زاد وحمولة وسلاح مع غناهم (وَابْنِ السَّبِيلِ) والمراد منه جنس المسافرين سفرا مباحا فيعطون منها ما يقطع به سفرهم إن لم يكن معهم ذلك ، وإن كان لهم في البلد المنتقل إليه مال الغناء (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) نصب على الحال من الضمير في (لِلْفُقَراءِ) في موضع الخبر ، أي ثابتة لهم مفروضة ، ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لفعل محذوف ، أي فرضت الصدقات فريضة لهذه الأصناف الثمانية لحكمة اقتضته في ذلك الزمان ، فالشافعي أوجب صرفها إلى الأصناف على السوية ، وإن انعدم صنف منها رد نصيبه على الموجودين ، وأقل ما يجزى عنده ثلاثة من كل صنف ، وقد أجاز أبو حنيفة صرفها إلى بعضها دون بعض ، ويجيز صرفها إلى فرد من صنف واحد (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعلم من يستحقها ومن لا يستحقها (حَكِيمٌ) [٦٠] يحكم بقسمتها ويبين أهلها لحكمة علمها.

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١))

قوله (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) نزل في جماعة من المنافقين كجلاس بن سويد وأبي ياسر بن قيس ومخشي بن خويلد ، كانوا يعيبون رسول الله عليه‌السلام ، فقال رجل منهم : لا تفعلوا مثله عسى أن يبلغه الخبر فيضرهم ، فقال الجلاس : نقول ما نشاء ونأتيه ونحلف فانه يصدقنا ، لأنه أذن سامعة (٥) ، سمي الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة فيؤذونه (٦)(وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) بضمتين وبسكون الذال (٧) ، أي يسمع كل ما قيل له ويقبله فأمر الله تعالى نبيه بأن يقول (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ) بالإضافة ، أي هو أذن صلاح ونعمة (لَكُمْ) فلا يكشف سركم ولا يفضحكم ولا يكافيكم على سوء فعلكم كما يفعل بالمشركين أو هو مبالغ في الخير ، فيسمع قول الخير خاصة (يُؤْمِنُ بِاللهِ) أي يصدقه في مقالته بالإخلاص (٨)(وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ويصدق المخلصين في مقالتهم بقبولها وتسليمها (٩) لهم ، ولا يصدق مقالتكم ولا يسمعها بالقبول منكم ، فالمراد من الإيمان الأول نقيض الكفر ولذا عدي بالباء ، ومن الثاني السماع والقبول ولذا عدي باللام كقوله (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ)(١٠) ، وهذا تعريض لهم (١١)(وَرَحْمَةٌ)

__________________

(١) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٦٩.

(٢) المكاتبون ، ب س : مكاتبون ، م.

(٣) فتبتاع ، ب س : فيبتاع ، م.

(٤) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٥٧ ؛ والبغوي ، ٣ / ٧٠.

(٥) سامعة ، ب س : سامعه ، م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ٢٠٠.

(٦) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٥٨ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢١٠ ؛ والبغوي ، ٣ / ٧٣.

(٧) «أذن» : قرأ نافع باسكان الذال ، والباقون بضمها. البدور الزاهرة ، ١٣٧.

(٨) بقبولها وتسليمها ، م : بقبولها وبتسليمها ، ب ، أي يسمعها ويسلمها ، س.

(٩) بالإخلاص ، ب س : بالإخلاص فلذا عدي الإيمان هنا بالباء ، م.

(١٠) يوسف (١٢) ، ١٧.

(١١) ولا يسمعها بالقبول ... تعريض لهم ، ب س : بتسليمها لكم ولذا عدي الإيمان هنا اللام فهو تعريض لهم ، م.

١٤٤

بالرفع عطف على (أُذُنٌ) وبالجر (١) عطف على (خَيْرٍ) ، أي هو أذن خير ورحمة (٢)(لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) في السر (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [٦١] أي وجيع دائما (٣).

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢))

ثم أتوا رسول الله وحلفوا على صدق نيتهم ، فكذبهم الله تعالى بقوله (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) والخطاب للمسلمين ، أي أنهم يعتذرون إليكم بحلفهم لترضوا عنهم (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) والهاء للنبي عليه‌السلام وحده ، وفيه حذف تخفيفا ، تقديره : فالله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه أو الهاء لله تعالى ، لأن رضاء الله رضاء نبيه عليه‌السلام ، فلذا وحد الضمير ، وإنما لم يثن تعظيما لله تعالى.

روي : أن خطيبا قال في خطبته عند النبي عليه‌السلام : من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن عصاهما فقد غوى ، فقال عليه‌السلام : «بئس الخطيب أنت» (٤) ، قوله (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) [٦٢] أي مصدقين بقلوبهم في السر ، شرط محذوف الجزاء بدلالة (أَحَقُّ) قبله ، أي فهو أحق أن يرضوه.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣))

قوله (أَلَمْ يَعْلَمُوا) نزل حين كانوا يستهزؤون الإسلام وأهله ويحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم تهديدا لهم (٥) ، أي ألم يعرفوا (أَنَّهُ) أي أن الشأن (مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يخالف أمر الله وأمر رسوله فيما بين لهم ، شرط ، جزاؤه (فَأَنَّ) بالفتح مع ما بعدها في محل الرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي فجزاؤه أن (لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) حال مقدرة من ضمير «له» في معنى الجمع (ذلِكَ) أي عذابه في نار جهنم (الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) [٦٣] يوم القيامة على رؤوس الأشهاد.

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤))

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) أي على المؤمنين (سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ) أي تخبر المؤمنين (بِما فِي قُلُوبِهِمْ) أي قلوب المنافقين ، يعني بما يضمرون من النفاق فيفتضحون ، وهم مع ذلك لا يخلفون عن الاستهزاء (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) بالقرآن والإسلام والمسلمين (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ) أي مظهر (ما تَحْذَرُونَ) [٦٤] من إظهار النفاق.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥))

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) يا محمد ، أي المستهزئين بالقرآن وبك ما هذا الكلام الذي تتحدثون ، وذلك حين ساروا إلى غزوة تبوك مع النبي عليه‌السلام ، وكانوا بين يديه يقولون : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه ، هيهات هيهات! فيضحكون ، فاطلع الله نبيه على ما قالوا ، فقال احبسوا الركب فجاءهم ، فقال : قلتم كذا وكذا ، قالوا : يا نبي الله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك ولكنا كنا في شيء مما يخوض الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر ، فقال تعالى ولئن سألتهم من استهزائهم (لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) أي نتحدث ونقطع الطريق كراكبي السفر (قُلْ) يا محمد لهم (أَبِاللهِ وَآياتِهِ) أي القرآن (وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) [٦٥].

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦))

ثم اعتذروا عن فعلهم القبيح فقال تعالى (لا تَعْتَذِرُوا) أي لا تظهروا عذركم الكاذب فانه لا ينفعكم بعد ظهور سركم (قَدْ كَفَرْتُمْ) في السر (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) في العلانية ، فقيل : فيه دليل على أن الجد واللعب في إظهار

__________________

(١) «ورحمة» : قرأ حمزة بخفض التاء ، والباقون برفها. البدور الزاهرة ، ١٣٧.

(٢) رحمة ، ب م : ـ س.

(٣) دائما ، ب س : دائم ، م.

(٤) هذا منقول عن السمرقندي ، ٢ / ٥٨.

(٥) اختصره من الكشاف ، ٢ / ٢٠١.

١٤٥

كلمة الكفر سواء (١)(إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) بالتوبة وبترك الاستهزاء بالإخلاص (نُعَذِّبْ طائِفَةً) في الدنيا أو في الآخرة (بِأَنَّهُمْ كانُوا) أي بسبب كونهم (مُجْرِمِينَ) [٦٦] أي مستهزئين من غير توبة ، قرئ بالنون في الفعلين وكسر الدال ونصب «طائفة» مفعولا ، وبالياء في الأول والتاء في الثاني مجهولين ورفع «طائفة» (٢) لاسناد الفعل إليه.

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧))

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) في الدين والنفاق لا في دين الإسلام بالإخلاص لتكذيبهم آيات الله ورسوله في السر وبحلفهم بالله كذبا أنهم لمنكم ، ثم بين آثار نفاقهم بقوله (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) أي بالمعصية والكفر (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) أي عن الطاعة والإيمان عكس شأن المخلصين (وَيَقْبِضُونَ) أي يمسكون (أَيْدِيَهُمْ) عن الإنفاق في سبيل الله (نَسُوا اللهَ) أي غفلوا عن ذكره وتركوا طاعته (فَنَسِيَهُمْ) الله من هدايته ورحمته ، فحرموا وخذلوا (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [٦٧] أي الخارجون عن أمره أصلا وفرعا.

(وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨))

(وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ) من الرجال (وَالْمُنافِقاتِ) من النساء (وَالْكُفَّارَ) من الفريقين (نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي مقدرين الخلود في النار (هِيَ حَسْبُهُمْ) أي كافيتهم جزاء لكفرهم (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أي طردهم من رحمته في الدنيا والآخرة لإهانتهم مع التعذيب ملحقين بالشياطين ، لأن الكفر مؤثر في السر والعلانية (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) [٦٨] في الدنيا لا ينفك عنهم من تعب النفاق والخوف من المسلمين ومن الفضاحة بنزول الآيات للاطلاع على أسرارهم أو نوع عذاب في الآخرة سوى الصلي في النار.

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩))

قوله (كَالَّذِينَ) خبر مبتدأ محذوف ، نزل ذما للأولين بحالهم القبيح من الكفار وتشبيها للمخاطبين بهم في مثل حالهم (٣) ، أي أنتم أيها المنافقون مثل الذين (مِنْ قَبْلِكُمْ) من بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون الكاف منصوبا محلا مفعولا لفعل مقدر ، أي فعلتم نبيكم مثل الذين فعلوا قبلكم بأنبيائهم (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) أي منعة وعساكر (وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) فلم ينفعهم منعتهم وأموالهم وأولادهم من عذاب الله شيئا ، فكذلك لا ينفعكم جمعكم وأموالكم وأولادكم (فَاسْتَمْتَعُوا) أي انتفع من تقدمكم (٤)(بِخَلاقِهِمْ) أي بنصيبهم الذي أوتوا في الدنيا من الحظوظ الفانية بدل حظوظ الآخرة (٥) الباقية (فَاسْتَمْتَعْتُمْ) أيضا (بِخَلاقِكُمْ) أي بنصيبكم الذي أوتيتم في الدنيا من الحظوظ الفانية ورضيتم بها وقطعتم النظر عن العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة (كَمَا اسْتَمْتَعَ) أي كاستمتاع (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأمم الماضية (بِخَلاقِهِمْ) أي بنصيبهم من الدنيا استغناء عن نصيب الآخرة ، وإنما ذكر قوله (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أولا مع أن هذا التشبيه يغني عنه ، لأنه أراد أن ينبه المخاطبين على خساسة

__________________

(١) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٢) «إن نعف عن طائفة» ، «نعذب طائفة» : قرأ عاصم ، «نعف» بنون مفتوحة مع ضم الفاء ، و «نعذب» بنون مضمومة مع كسر الذال ، و «طائفة» بنصب التاء ، وقرأ الباقون «يعف» بياء تحتية مضمومة مع فتح الفاء ، و «تعذب» بتاء مضمومة مع فتح الذال و «طائفة» بالرفع. البدور الزاهرة ، ١٣٨.

(٣) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٦٠ ؛ والكشاف ، ٢ / ٢٠٢.

(٤) من تقدمكم ، م : من تقدمهك ، ب ، من تقدمهم ، س.

(٥) الأخرة ، ب س : ـ م.

١٤٦

أمر الاستمتاع قبل التشبيه لئلا يرضوا به ويرجعوا عما هم فيه فيؤمنوا (وَخُضْتُمْ) أي شرعتم في الباطل من تكذيب رسول الله وآياته (كَالَّذِي خاضُوا) أريد به الجنس ، فاستعمل في معنى الجمع كقوله (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(١) أو الذي ك «ما» المصدرية ، وهو نادر ، أي كخوضهم في الباطل نحو على الذي أحسن ، أي على إحسانه (أُولئِكَ) أي أهل هذه الصفة (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي بطل ثواب حسناتهم بسبب تلك الصفة (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [٦٩] أي المغبونون في الآخرة ، لأنه ما ربحت تجارتهم.

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠))

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ) أي ألم يصل أهل مكة (٢)(نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي خبر المتقدمين من الأمم الكفرة باخبار القرآن لهم عند تكذيبهم الرسل كيف فعلنا بهم من التعذيب والإهلاك (قَوْمِ نُوحٍ) بالجر بدل من «الذين» ، أي أهلكناهم بالأغراق لتكذيب نوح (وَعادٍ) أي وقوم عاد بالريح العقيم لتكذيب هود (وَثَمُودَ) أي وقوم ثمود بصيحة جبرائيل لتكذيب صالح (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) وهم قوم نمرود بن كنعان بالبعوضة الذي هو أضعف الخلق بسبب عتوه وتجبره على الخلق لتكذيب إبراهيم وأصحاب مدين ، أي وقوم شعيب بعذاب يوم الظلة لتكذيب شعيب (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) أي مدائن قوم لوط بجعلها (٣) عليها سافلها وإمطارنا (٤) الحجارة عليها لتكذيب لوط ، جمع «مؤتفكة» ، أي المكذبة ، وقيل : بمعنى المنقلبة (٥)(أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحة على صدقهم فكذبوهم أو بالآيات الظاهرة من الأمر والنهي فتركوا طاعة الله واتبعوا أهواءهم فأهلكناهم (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي ليهلكهم بغير ذنب (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [٧٠] بتكذيب رسله وترك طاعته.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١))

ثم أخبر عن حسن حال المؤمنين في الدنيا والآخرة في مقابلة حال المنافقين فقال (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) سرا وعلانية في الدين والإعانة (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالإيمان واتباع محمد في الشريعة (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي عن الشرك (٦) والمعصية (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يتمونها في أوقاتها (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يؤدونها على من يستحقها (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الفرائض والسنن (أُولئِكَ) أي أهل هذه الصفة (سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) بالأمن من عذاب النار والإدخال في الجنة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) بالانتقام لمن لم يطعه ورسوله (حَكِيمٌ) [٧١] يحكم بحكمته للمؤمنين بالجنة وللكافرين بالنار فهو واضع كلا موضعه بحسب الاستحقاق.

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢))

ثم صرح وعده بذلك إياهم في دار الكرامة لتنتزع نفوسهم إلى ما وعده لهم بالطاعة والصبر فقال (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي من الرجال والنساء (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) أي منازل طاهرة تطيب فيها النفوس وهي القصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) علم لدار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها (٧) غير ثلاثة ، النبيون والصديقون والشهاداء ، يقول

__________________

(١) الزمر (٣٩) ، ٣٣.

(٢) أي ألم يصل أهل مكة ، ب س : ـ م.

(٣) بجعلها ، ب س : يجعلها ، م.

(٤) وإمطارنا ، ب س : وأمطرنا ، م.

(٥) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٨٠.

(٦) أي عن الشرك ، س : أي الشرك ، ب م.

(٧) لا يسكنها ، ب م : لا تسكنها ، س.

١٤٧

الله تعالى لها طوبى لمن دخلك ، وقيل : «علم لنهر جناته على حافاته» (١)(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) أي شيء من رضاء الله (أَكْبَرُ) أي أعظم من ذلك كله (ذلِكَ) أي الرضوان أو ما وعد لهم من الثواب والنعيم (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [٧٢] أي الظفر الكبير الذي لا ينال إلا برضاه الأكبر دون ما يعده الناس فوزا.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣))

ثم أمر النبي عليه‌السلام أن يستعمل الغلظة على الكفار والمنافقين ما أمكن منها فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف (وَالْمُنافِقِينَ) بالحجة وإقامة الحدود عليهم (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي اشدد على الفريقين جميعا في المنطق ولا تحابهم (وَمَأْواهُمْ) أي منزلهم ومقرهم (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [٧٣] أي المرجع الذي صاروا إليه في العاقبة.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤))

ثم بين للنبي عليه‌السلام سوء معاملتهم وخبث فعالهم بقوله (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) أي لم يقلولوا كلمة الكفر ، نزل حين خطب رسول الله في غزوة تبوك ذات يوم ، فذكر المنافقين وسماهم رجسا ، فقال الجلاس لئن محمد صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير ، فسمع عامر بن قيس فقال : والله إن محمدا لصادق ولأنتم شر (٢) من الحمير ، فأخبر بذلك رسول الله فقال الجلاس لقد كذب عامر علي وحلق ما قال ، فرفع عامر يده فقال : اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب ، فقال النبي عليه‌السلام والمسلمون آمين (٣) ، فنزل جبرائيل قبل أن يتفرقوا ، وقال يحلفون بالله ما قالوا (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أي أظهروا الكفر بعد إظهارهم الإسلام (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) أي وقصدوا بشيء لم يصلوا أن يفعلوه وهو الفتك برسول الله ليلا ، وذلك (٤) عند مرجعه من تبوك ، فانه توافق خمسة عشر رجلا من المنافقين أن يقتلوه في مضيق من جبل ، وقد أخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته عليه‌السلام يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبيناهم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح فالتفت فاذا قوم متلثمون بعمائمهم ، فقالوا إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا فدفعهم الله بذلك عنه عليه‌السلام فقال (وَما نَقَمُوا) أي ما عابوا وما طعنوا على محمد والمؤمنين (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ) أي إلا بسبب أن وسع الله (وَرَسُولُهُ) عيشهم (مِنْ فَضْلِهِ) أي من رزقه وكان أهل المدينة في شدة وضيق من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة ، فلما قدم النبي عليه‌السلام المدينة استغنوا فقال تعالى (فَإِنْ يَتُوبُوا) من نفاقهم (يَكُ خَيْراً لَهُمْ) من الإقامة عليه ، قيل : لما نزلت هذه الآية تاب الجلاس وحسنت توبته (٥) ، وقتل مولى له خطأ ، فأمر رسول الله بديته اثني عشر ألفا فاستغنى بذلك (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) أي إن أبوا عن التوبة (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا) بالقتل وإظهار سرهم (وَالْآخِرَةِ) بالنار (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ) أي قريب ينفعهم (وَلا نَصِيرٍ) [٧٤] أي مانع يمنعهم من العذاب.

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥))

قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) نزل في شأن خاطب بن أبي بلتعة ، وكان له مال كثير بالشام (٦) ، فحلف بالله (لَئِنْ آتانا) أي أعطينا (مِنْ فَضْلِهِ) المال الذي بالشام (لَنَصَّدَّقَنَّ) أي لأؤدين حق الله منه (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) [٧٥] أي ولنعملن عمل أهل الصالح به.

__________________

(١) عن عطاء بن السائب ، انظر البغوي ، ٣ / ٨١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ٢٠٣.

(٢) ولأنتم شر ، ب س : وأنتم أشر ، م.

(٣) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٣ / ٧٢ ـ ٧٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٦٢.

(٤) وذلك ، س : ـ ب م.

(٥) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٦٢.

(٦) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٦٣.

١٤٨

(فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦))

(فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) أي منعوا حق الله منه (وَتَوَلَّوْا) أي أعرضوا عما عاهدوا (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [٧٦] عن الوفاء بما قالوا.

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧))

(فَأَعْقَبَهُمْ) أي وأورثهم البخل أو جعل الله البخل في عاقبتهم (نِفاقاً) ثابتا (فِي قُلُوبِهِمْ) فلا يؤمنون (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) وهو يوم القيامة (بِما أَخْلَفُوا اللهَ) أي بخلفهم (ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [٧٧] في حلفهم بأنهم يتصقون ، قال عليه‌السلام : «آية المنافق ثلاثة ، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» (١) ، وفي رواية «وإذا عاهد غدر» (٢) ، وقد ذكر الثلاثة في هذه الآية.

وقيل : نزلت الآية في شأن ثعلبة بن خاطب حين جاء إلى رسول الله ، فقال ادع الله لي أن يرزقني مالا ، فقال : ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، ثم قال : يا رسول الله! ادع لي أن يرزقني مالا فو الله لئن آتاني الله مالا لأؤدين كل ذي حق حقه ، فقال : اللهم ارزق ثعلبة مالا ، فاتخذ غنما فنمت كما ينمي الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة ، فسأل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقيل :

كثر ماله حتى لا يسعه واد ، فقال : يا ويح ثعلبة ، أي يا هلاكا له ، فبعث رسول الله مصدقين لأخذ الصدقات ، فقال : ما هذه إلا جزية وقال ارجعا حتى أرى رأيي ، فلما رجعا إلى المدينة قال لهما رسول الله عليه‌السلام قبل أن يكلماه يا ويح ثعلبة مرتين فنزلت ، فجاء ثعلبة بالصدقة فقال إن الله منعني أن أقبل منك ، فجعل التراب على رأسه ، فقال عليه‌السلام : هذا عملك قد أمرتك فلم تعطني ، فقبض رسول الله ، فجاء بها إلى أبي بكر فلم يقبلها وجاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها وهلك في خلافة عثمان (٣).

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨))

قوله (أَلَمْ يَعْلَمُوا) استفهام لتقرير عناد المنافقين يتعلق بقوله (لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ) ، أي ألم يعرفوا (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) وهو ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه (وَنَجْواهُمْ) وهو ما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين والفتك بالنبي عليه‌السلام حين هموا به على العقبة ، وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها عن مستحقيها (٤)(وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [٧٨] أي يعلم سر كل شيء وما يضمرونه في قلوبهم.

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩))

قوله (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) جاز أن ينصب ويرفع على الذم ، أي هم الذين يعيبون (الْمُطَّوِّعِينَ) أي المتبرعين (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) يتعلق ب (يَلْمِزُونَ) ، والمراد عبد الرحمن بن عوف ، جاء إلى النبي عليه‌السلام بأربعة آلاف درهم صدقة حين حث الناس على التصدق عند الخروج إلى غزوة تبوك (وَالَّذِينَ) أي ويعيبون الذين (لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) أي قدرتهم الجهد بالضم الطاقة ، وبالفتح المشقة ، قيل : جاء ابن قيس بصاع من تمر وجاء عاصم بن عدي بسبعين وساقا من تمر ، فجاء كل واحد منهم بمقدار طاقته ، وكان نفر من المنافقين جلوسا (٥)(فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) أي من المؤمنين ، قوله (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) خبر غير دعاء ، أي جازاهم بجزاء سخريتهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [٧٩] أي مؤلم لا ينقطع لعدم رجوعهم عن سوء فعلهم.

__________________

(١) أخرجه البخاري ، الشهادات ، ٢٨ ؛ ومسلم ، الإيمان ، ١٠٧ ، ١٠٨ ؛ وانظر أيضا اللبغوي ، ٣ / ٨٧.

(٢) رواه مسلم ، الإيمان ، ١٠٦.

(٣) عن أبي أمامة ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٦٣ ؛ والواحدي ، ٢١٣ ـ ٢١٥.

(٤) مستحقيها ، س م : مستحقها ، ب.

(٥) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٦٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٨٧ ـ ٨٨

١٤٩

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠))

قوله (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) نزل حين جاء نفر منهم إلى النبي عليه‌السلام فقالوا يا رسول الله! استغفر لنا (١) ، فقال الله تعالى لنفي الغفران عنهم (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وهو أمر في معنى الخبر (٢) ، وكذا (لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ، أي نهي في معنى الخبر ، وفيهما معنى الشرط (٣) ، و (أَوْ) بينهما لأفادة التسوية ، كأنه قيل لا يغفر الله لهم ، استغفرت لهم أم لا تستغفر لهم (٤) ، يعني إن شئت استغفر لهم وإن شئت فلا تستغفر لهم (٥) ، أي للمنافقين (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) نصب (سَبْعِينَ) على أنه مصدر ، إذ العدد بعد ذكر الفعل يقع موقع المصدر نحو ضربته عشرين ضربة ، وإنما ذكر هذا العدد حسما لطمعهم عن المغفرة على عادة العرب ، لأنه مثل لغاية الكثرة عندهم ، يعني إن بالغت في الاستغفار (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ) أي عدم غفرانه لهم (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) في السر الذي هو مقر الإيمان (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [٨٠] أي الذين يضمرون الكفر في قلوبهم بدل الإيمان.

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١))

قوله (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ) أي رضي المخلفون عن الغزو ، نزل إخبارا عن حال المنافقين الذين استأذنوا رسول الله بالتخلف عن الخروج إلى الجهاد (٦) ، فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك ، فرضوا ضاحكين مسرة (بِمَقْعَدِهِمْ) أي بقعودهم (خِلافَ رَسُولِ اللهِ) نصبه ظرف ، أي بعد ذهابه أو بمعنى المخالفة ، فنصبه مفعول له ، أي لمخالفته أو حال ، أي قعدوا مخالفين له (٧)(وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا) كما فعل المؤمنون (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا) أي قال بعضهم لبعض (لا تَنْفِرُوا) أي لا تخرجوا إلى الجهاد (فِي الْحَرِّ) فانه شديد (قُلْ) لهم (نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) أي من حر تبوك (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) [٨١] أي يعلمون ذلك ، وهذا استجهال لهم ، لأن من صان نفسه من مشقة ساعة فوقع بذلك في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل.

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢))

قوله (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) تهديد وتوبيخ لهم بصيغة الأمر ، أي سيضحكون قليلا في الدنيا (وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) أي ويبكون كثيرا في الآخرة (جَزاءً) أي عقوبة لهم (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [٨٢] من الكفر والنفاق وإنما أخرجهما في صورة الأمر ليدل على أنه واجب الثبوت لا يكون غيره.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرسل الله البكاء على أهل النار فيبكون حتى ينقطع الدموع ، ثم يبكون الدم حتى يرى في وجوههم كهيئة الأخدود» (٨).

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣))

ثم قال لنبيه عليه‌السلام (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) أي ردك الله من غزوتك هذه (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) أي من المخلفين

__________________

(١) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٦٥.

(٢) وهو أمر في معنى الخبر ، س م : وهو أمر في معنى الخبر بمعنى يعني إن شئت استغفر لهم وإن شئت لا تستغفر لهم ، س.

(٣) وفيهما معنى الشرط ، ب : ـ ب س.

(٤) كأنه قيل لا يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لا تستغفر لهم ، ب : ـ س م.

(٥) يعني إن شئت استغفر لهم وإن شئت فلا تستغفر لهم ، ب م : ـ س.

(٦) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٦٥.

(٧) أي قعدوا مخالفين له ، س : أي مخالفين ، ب م.

(٨) أخرجه ابن ماجة ، الزهد ، ٣٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٦٥ ـ ٦٦.

١٥٠

من غزوة تبوك (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) معك إلى غزوة أخرى (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) إلى الغزو (وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) ولو كان اعتذارهم صحيحا ، وعلله بقوله (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بالتخلف عن غزوة تبوك (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) [٨٣] أي مع النساء والصبيان وأصحاب الأعذار.

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤))

قوله (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) ظرف لقوله (لا تُصَلِّ) ، و (ماتَ) صفة (أَحَدٍ) ، نزل حين طلب عبد الله بن أبي بن سلول عند حضور الموت له أن يصلى النبي عليه‌السلام عليه إذا مات ، وأن يقوم على قبره ويكفنه في القميص الذي يلي جلده فقبل كله ، فقال عمر أتصل على عدو الله وتعطيه قميصك وهو كافر منافق ، فقال عليه‌السلام : يا عمر ما يغنيه قميصي وصلوتي لظاهر إيمانهم من عذاب الله ، ولكني أرجو أن يسلم به ألف رجل لما يرون من تبركه به (١) ، روي : أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب ثوب رسول الله للتبرك به ، وقالوا لو لا عرفه حقا لما تبرك بقميصه نهيا للنبي عليه‌السلام أن يفعل ذلك كله (٢) ، أي ولا تصل (٣) يا محمد أبدا على من يموت من المنافقين (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) للدفن وكان يقوم أولا على قبورهم ويستغفر لهم إلى أن يدفنوا ، وعلل النهي بقوله (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) في السر (وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) [٨٤] بالنفاق.

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥))

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) أي لا يحسن في عينك ذلك ولا تمل إليهم (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها) أي بأموالهم (فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ) أي وتخرج (أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) [٨٥].

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦))

ثم أكد فسقهم بقوله (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) بتمامها أو أريد بعضها (أَنْ آمِنُوا) تفسير للسورة ، أي صدقوا (بِاللهِ) بقلوبكم كما أقررتم بلسانكم (وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ) في سبيله (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) أي ذوو السعة والغناء من المنافقين في القعود (وَقالُوا ذَرْنا) أي اتركنا (نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) [٨٦] أي نقعد مع الذين تخلفوا عن الجهاد من الناس بعذر.

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧))

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي مع النساء والصبيان بالمدينة (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي قست وخرجت الرحمة منها (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [٨٧] ما في التخلف من الشقاوة والهلاك أو لا يعلمون ثواب الخروج إلى الغزو.

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨))

ثم قال تعالى إن لم يجاهد المنافقون وتخلفوا فقد قام إلى الجهاد من هو خبر منهم وأخلص نية وبينة بقوله (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أو بأموالهم إن لم يخرجوا إليه (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) جمع الخيرة ، وهي الزوجة ، وقيل : الفاضلة (٤) ، أي الزوجات الحسان في الجنة أو الفاضلات من كل

__________________

(١) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٦٦.

(٢) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٦٦.

(٣) ولا تصل ، س : ولا تصلي ، ب م.

(٤) عن القتبي والأخفش ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٦٧.

١٥١

شيء ، وقيل : من (حُورٌ عِينٌ)(١) ، (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ)(٢) ، قال ابن عباس : «لا يعلم معنى الخيرات إلا الله» (٣) ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [٨٨] أي الناجون من عذاب الآخرة.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩))

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [٨٩] أي الثواب الجزيل.

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠))

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) أي الذين يعتذرون ولا عذر لهم من عذر في الشيء إذا قصر فيه ، وهؤلاء قوم (مِنَ الْأَعْرابِ) كأسد وغطفان جاؤا إلى رسول الله وقالوا إن لنا عيالا وإن بنا (٤) جهدا ، فأذن لنا في التخلف (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) فيه ، فأتوا بالعذر الكاذب وبالغوا فيه (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) وهم منافقون من الأعراب الذين لم يجيئوا إلى رسول الله ولم يعتذروا فظهر بذلك أنهم كاذبون في ادعائهم الإيمان ، ثم بين حال الفريقين بقوله (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي من الأعراب (عَذابٌ أَلِيمٌ) [٩٠] أي وجيع في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار.

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١))

ثم بين حال القاعدين بالعذر الصحيح بقوله (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) أي الشيخ الكبير السن والزمن (وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) في الجهاد (حَرَجٌ) أي إثم في تخلفهم ، قيل : هم مزينة وجهينة وبنو عدرة (٥)(إِذا نَصَحُوا) أي أخلصوا الإيمان (لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) وأطاعوا أمرهما الإخلاص (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي ليس للمعتذرين الناصحين (مِنْ سَبِيلٍ) أي طريق إلى العقوبة أو إلى العيب للعاتب عليهم ، لأن تخلفهم بالعذر (وَاللهُ غَفُورٌ) لهم بتخلفهم عن الغزو ومع نبيهم (رَحِيمٌ) [٩١] بهم بالإذن فيه.

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢))

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ) أي ولا حرج على الذين إذا جاؤوك (لِتَحْمِلَهُمْ) على الجهاد معك (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا) أي انصرفوا عنك (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ) أي تسيل (مِنَ الدَّمْعِ) الواو للحال ، و (٦) (مِنَ) فيه للبيان (٧) ، وهو في المعنى نصب على التمييز ، أي تفيض دمعا (حَزَناً) مفعول له ، أي للحزن قوله (أَلَّا يَجِدُوا) أي لأن لم يجدوا (ما يُنْفِقُونَ) [٩٢] في الجهاد ، يتعلق ب (حَزَناً).

قيل : هم ستة نفر من الأنصار (٨) ، وقيل : أبو موسى الأشعري مع أصحابه جاؤا إلى النبي عليه‌السلام وطلبوا ما يحملهم عليه ليغزوا معه فلم يكن عنده ذلك ، فرجعوا باكين ، فقال تعالى ليس إلى عقوبة هؤلاء سبيل (٩).

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣))

(إِنَّمَا السَّبِيلُ) إلى العقوبة (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) في التخلف (وَهُمْ أَغْنِياءُ) أي ذوو سعة للخروج (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) بالمدينة (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي ختمها بقهره (فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [٩٣] ثواب الخروج

__________________

(١) الواقعة (٥٦) ، ٢٢.

(٢) الرحمن (٥٥) ، ٥٨ ؛ انظر السمرقندي ، ٢ / ٦٧.

(٣) انظر البغوي ، ٣ / ٩٣.

(٤) وإن بنا ، س : وبنا ، ب م.

(٥) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٢ / ٢٠٨.

(٦) أو للحال و ، ب س : ـ م.

(٧) من فيه للبيان ، م : من للبيان ، ب س.

(٨) نقله عن الكشاف ، ٢ / ٢٠٨.

(٩) اختصره من البغوي ، ٣ / ٩٥ ؛ والكشاف ، ٢ / ٢٠٨.

١٥٢

وعقاب التخلف.

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤))

ثم أخبر تعالى عن اعتذارهم الكاذب وأمر بجوابه بقوله (يَعْتَذِرُونَ) أي يعتذر المنافقون عن تخلفهم عن الخروج إلى الغزو معكم (إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ) من الغزو (إِلَيْهِمْ قُلْ) يا محمد (لا تَعْتَذِرُوا) إلينا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي لن نصدقكم أن لكم عذرا في تخلفكم عن الغزو (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أي أيخبرنا عنكم بأنه ليس لكم عذر فيه ، فالجملة علة لانتفاء تصديقهم ، لأن الإعلام عن سوء ضميرهم وفساد عملهم (١) بالوحي إلى رسول الله يوجب عدم تصديقهم في معاذيرهم (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) في المستقبل أنكم ترجعون (٢) عن نفاقكم أم تثبتون عليه (وَرَسُولُهُ) والمؤمنون ، أي وسيراه نبيه وكل من آمن به (ثُمَّ تُرَدُّونَ) أي ترجعون بعد الموت (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي إلى من يعلم ما غاب من السر عن الخلق وما شاهدوه من العلانية (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٩٤] من الخير والشر في الدنيا ، فيجازيكم على حسب ذلك.

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥))

ثم قال تعالى (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) أي لطلب رضاكم (إِذَا انْقَلَبْتُمْ) أي إذا رجعتم (إِلَيْهِمْ) من الغزو (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي لتجاوزوا عن معاتبتهم (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي فتجاوزوا عن عتابهم (٣) ، لأن العتاب (٤) لا يصلحهم ولا ينفع فيهم (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) أي لأنهم نجس لا سبيل لكم إلى تطهيرهم ، قيل : هم كانوا ثمانين رجلا منافقين (٥) ، فحين قدم النبي عليه‌السلام إلى المدينة قال لأصحابه : «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» (٦)(وَمَأْواهُمْ) أي مستقرهم في الآخرة (جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [٩٥] من النفاق وعمل الكفر.

(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦))

ثم جاء عبد الله بن أبي منهم إلى النبي عليه‌السلام يحلف أن لا يتخلف عن الغزو أبدا ، فقال تعالى (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) أي غرضهم بالحلف طلب رضاكم لينفعهم في دنياهم (فَإِنْ تَرْضَوْا) أي إن ترض (٧) أنت يا محمد والمؤمنون (عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) [٩٦] بالنفاق والكفر والمعصية ، وفي هذه الآية دفع وهم من يتوهم أن رضا المؤمنين يقتضي رضا الله تعالى ، المعنى : أن رضا المؤمنين لا ينفعهم إذا كان ساخطا عليهم.

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧))

ثم أخبر تعالى عن حال أهل البدو وكان أكثر المنافقين منهم بقوله (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) من أهل الحضر لقساوة قلوبهم وتوحشهم وبعدهم عن سماع القرآن والسنن وصحبة العلماء العاملين (٨) لله كغطفان وأسد وتميم (وَأَجْدَرُ) أي هم (٩) أولى وأحق (أَلَّا يَعْلَمُوا) أي منافقوهم (حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي أحكام الله في كتابه وشرائعه ، يعني هم أحق بجهلها لعدم نفعها لهم ، ومنه قوله عليه‌السلام : «إن الجفاء والقسوة في الفدادين» (١٠)(وَاللهُ عَلِيمٌ) يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر (حَكِيمٌ) [٩٧] يحكم بعقاب

__________________

(١) عملهم ، ب م : علمهم ، س.

(٢) ترجعون ، ب س : يرجعون ، م.

(٣) عتابهم ، ب م : عقابهم ، س.

(٤) لأنه العتاب ، ب س : لأن العقاب ، م.

(٥) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٩٥.

(٦) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٩٦.

(٧) ترض ، ب س : ترضوا ، م.

(٨) العاملين ، ب س : العالمين ، م.

(٩) هم ، ب م : ـ س.

(١٠) أخرجه البخاري ، المغازي ، ٧٤ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ٢٠٩.

١٥٣

مسيئهم وبثواب محسنهم.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨))

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ) أي يحتسب (ما يُنْفِقُ) في الجهاد (مَغْرَماً) أي غرما وخسرانا لا يحتسب فيه أجرا وثوابا ، لأنه لا يعطي إلا خوفا من المسلمين ورياء لا لوجه الله (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي ينتظر بكم دائرة الموت والهلاك ، قيل : «الدوائر دوائر الزمان ، وهي صروفه التي تأتي الإنسان مرة بالخير ومرة بالشر» (١) ، فقال تعالى (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي عليهم عاقبة الهلاك وهو دعاء معترض دعي عليهم بمثل ما دعوا به ، قرئ بضم السوء وهو العذاب وبالفتح (٢) وهو ذم الدائرة ، وأجمع القراء على فتح سين امرأ سوء وظن السوء وقوم سوء ، لأنه ليس فيها بمعنى العذاب ليضم ، بل هو ضد قولك رجل صدق (وَاللهُ سَمِيعٌ) بما يقولون إذا توجهت الصدقة عليهم (عَلِيمٌ) [٩٨] بحالهم وهلاكهم ، وهم الجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما ، وقيل : غطفان وأسد وتميم (٣).

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهم مزينة وجهينة وبنو مقرن (وَيَتَّخِذُ) أي يعتقد (ما يُنْفِقُ) في الجهاد (قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ) نصبه مفعول ثان ل (يَتَّخِذُ) و (عِنْدَ اللهِ) ظرفه ، جمع قربة وهي ما يتقرب به إلى الله ، أي يجعل ما ينفقه في سبيله سببا لحصول التقربات إليه تعالى (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) أي وسببا لحصول الدعوات من الرسول عليه‌السلام واستغفاره له ، لأن الرسول عليه‌السلام كان يدعو المتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) بضم الراء وإسكانها (٤) ، أي اعلموا أن نفقاتهم في سبيل الله تقرب وفضيلة لهم عند الله حقا ، وهو شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقاته قربات وصلوات مع حرف التنبيه المصدر وحرف التحقيق المؤكد المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) أي في جنته (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لذنوبهم (رَحِيمٌ) [٩٩] بتكرمتهم في الآخرة.

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠))

قوله (وَالسَّابِقُونَ) مبتدأ ، والخبر (الْأَوَّلُونَ) أي السابقون إلى الجنة هم الأولون إلى الهجرة أو الذين صلوا إلى القبلتين (مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) أو أهل بيعة الرضوان منهم في الحديبية ، وهم أهل بيعة العقبة الأولى ، وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين أو أهل بدر أو كل من صحب النبي عليه‌السلام أو أول من أسلم كأبي بكر وعلي وخديجة من الأحرار وزيد بن حارثة من العبيد لهم السبق على غيرهم ، قوله (وَالَّذِينَ) بالواو عطف على (الْأَوَّلُونَ) ، أي والسابقون إلى الجنة أيضا هم الذين (اتَّبَعُوهُمْ) على دينهم (بِإِحْسانٍ) أي باحسانهم وهم بقية المهاجرين والأنصار أو جميع من استن بهم إلى يوم القيامة ، وقيل : (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) مبتدأ (٥) ، والخبر (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بأعمالهم الحسنة (وَرَضُوا عَنْهُ) أي عن الله بافاضته عليهم نعم الدنيا والآخرة (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) بحذف «من» ونصب «تحت» بنزع (٦) الخافض وباثبات «من» (٧) كما في

__________________

(١) عن القتبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٦٩.

(٢) «دائرة السوء» : قرأ المكي والبصري بضم السين والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ١٣٩.

(٣) أخذ المفسر هذا الرأي عن البغوي ، ٣ / ٩٧.

(٤) «قربة» : قرأ ورش بضم الراء ، والباقون باسكانها. البدور الزاهرة ، ١٣٩.

(٥) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٦) بنزع ، س : لنزع ، ب م.

(٧) «تحتها» : قرأ المكي بزيادة «من» قبل «تحتها» مع جز التاء ، والباقون بحذف «من» وفتح تاء «تحتها». البدور الزاهرة ، ١٣٩.

١٥٤

مصاحف أهل مكة (خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [١٠٠] أي الثواب الوافر.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١))

ثم أخبر عن حال المنافقين القاعدين حول المدينة بقوله (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) وهم جهينة وغفار وأسلم وأشجع ، وعن حال المنافقين في المدينة بقوله (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على (مِمَّنْ حَوْلَكُمْ) الخبر للمبتدأ بعده ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي ومن أهل المدينة قوم (مَرَدُوا) أي استمروا (عَلَى النِّفاقِ) وتمهروا فيه ، يعني استحكم نفاقهم فلا يرجعون عنه إلى الإخلاص بالتوبة (لا تَعْلَمُهُمْ) بسبب إيمانهم باللسان (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) بما يبطنون في سويدات قلوبهم من النفاق لا نشك فيه ، إذ لا يخفى علينا السر والعلانية ونعرفك حالهم (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) الأولى إخراجهم من المسجد بأسمائهم يوم الجمعة ، والثانية عذاب القبر ، وقيل : القحط والقتل (١) ، وقيل : ما يصيبهم (٢) في الدنيا والآخرة من المصائب والشدائد (٣)(ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) [١٠١] بأن يخلدوا في عذاب جهنم وهو أعظم من كل عذاب.

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢))

قوله (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) مبتدأ وصفة ، وخبره (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً) وهو توبتهم واعتذارهم الصحيح (وَآخَرَ سَيِّئاً) عطف على (عَمَلاً) ، فيكون من قبيل خلطت الماء واللبن ، أي جعلت كل واحد منهما مخلوطا بالآخر ، ويجوز أن يجعل الواو بمعنى الباء ليظهر المخلوط به الذي يقتضيه الخلط والآخر السيء وهو تخلفهم عن الغزو وهم أوس بن ثعلبة ووديعة بن خزام وأبو لبانة ، قيل : «ربط هو نفسه بعمود المسجد ، ثم قال والله لا أحل نفسي منه حتى يكون رسول الله عليه‌السلام هو يحلني ، فجاء النبي عليه‌السلام فحله بيده ، ثم قال : يا رسول الله! إن توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت الذنب فيها وأن أنخلع من مالي كله وأجعله صدقة لله تعالى ولرسوله ، فقال يجزيك الثلث يا أبا لبانة» (٤) ، وفي قوله (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) إشارة إلى طلب التوبة منهم فقال تعالى (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) وفي ذكر (عَسَى) من الله دلالة على وجوب أن يتجاوز الله عنهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [١٠٢] يغفر ذنوب التائبين ويرحمهم بقبولهم بالمحبة.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣))

ثم جاؤا بأموالهم إلى النبي عليه‌السلام ، فقالوا هذه أموالنا فخذها وتصدق بها فانا تخلفنا عنك بسببها فاستكره الأخذ منها ، لأنه ما أمر به فنزل (٥)(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) من الذنوب ، وهي الصدقة المفروضة وكان هذا ابتداء الفرض (وَتُزَكِّيهِمْ) أي وتصلح (بِها) أعمالهم ، لأن بالزكوة تصلح الأعمال للقبول (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي ادع لهم واستغفر (إِنَّ صَلاتَكَ) مفردا وجمعا (٦) ، أي إن دعواتك (٧) عليهم (سَكَنٌ) أي طمأنينة (لَهُمْ) لأنها تؤذن أن الله قد قبل منهم الصدقة والتوبة (وَاللهُ سَمِيعٌ) لاعترافهم بذنوبهم (عَلِيمٌ) [١٠٣]

__________________

(١) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٧١.

(٢) الأولى إخراجهم من المسجد بأسمائهم يوم الجمعة والثانية عذاب القبر وقيل القحط والقتل وقيل ما يصيبهم ، ب م : ـ س.

(٣) لعله اختصره من البغوي ، ٣ / ١٠١.

(٤) عن الزهري ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٧١ ؛ والبغوي ، ٣ / ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٥) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٧٢.

(٦) «صلوتك» : قرأ حفص والأخوان وخلف بالتوحيد ونصب التاء ، والباقون بالجمع وكسر التاء. البدور الزاهرة ، ١٣٩.

(٧) دعواتك ، س م : دعوتك ، ب.

١٥٥

بما في ضما رهم من الغم والندم ، وقيل : السنة للمصدق (١) أن يدعو لصاحب الصدقة إذا أخذها ، قال الشافعي أحب إلي أن يقول له آجرك الله فيما أعطيت وجعله طهورا وبارك لك فيما أبقيت (٢).

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤))

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) إذا تابوا عن الشرك (٣) والمعاصي توبة مقرونة بالصحة (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أي ويقبلها منهم إذا تصدقوا بخلوص النية فما منعهم عن التوبة والتصدق ، قيل : «إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل» (٤) ، يعني يتقبلها ويضاعف عليها ، وفي رواية : «فيربيها كما يربي أحدكم فصيله حتى تكون اللقمة مثل أحد» (٥) ، قوله (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [١٠٤] عطف على مفعول (يَعْلَمُوا) ، أي ألم يعلموا أنه هو المتجاوز عن الذنوب بالتوبة لمن تاب الرحيم له بادخاله جنته.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

(وَقُلِ) لهم يا محمد (اعْمَلُوا) خيرا (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) ويجازيكم به (وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) ويشهدون لكم يوم القيامة ، فلا تغفلوا عن التوبة وعمل الخير ، وفيه تهديد وتحذير من عاقبة الإصرار على الكفر وعمل الشر ، وأكد ذلك بقوله (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) الذي لا يغرب عن شيء في الأرض ولا في السماء بالبعث يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [١٠٥] في الدنيا.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))

قوله (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) بالهمزة وغيره (٦) ، من أرجأته إذا أخرته ، مبتدأ وخبر ، أي وقوم آخرون من المتخلفين التائبين مؤخرون عن قبول توبتهم ، يعني لم يتبين بالوحي شيء فيهم (٧)(لِأَمْرِ اللهِ) أي لأن يحكم (٨) فيهم بما يشاء ، فانتظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في توبتهم (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) إن لم يتوبوا (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أي يقبل توبتهم إن تابوا (وَاللهُ عَلِيمٌ) بحالهم (حَكِيمٌ) [١٠٦] يحكم بما يشاء فيهم.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧))

قوله (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً) بواو العطف وتركها (٩) مبتدأ ، وخبره محذوف يقدر بعد من قبل (١٠) ، وهو يعذبون ، نزل في جماعة من المنافقين كانوا اثني عشر رجلا (١١) ، وهم بنو غنم بن عوف بعد ما بنى إخوتهم بنو عمرو بن عوف مسجدا قباء ، ودعوا رسول الله إلى مسجدهم ليصلي فيه بهم تبركا ، فأتى وصلى ، فحسدتهم إخوتهم وقالوا : نبني نحن أيضا مسجدا وندعوا رسول الله ويصلي فيه بنا كما صلى بهم ، ثم يصلي بنا فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام ، وكان النبي عليه‌السلام سماه فاسقا ، وقال لهم : لا تقولوا له راهب ولكن قولوا فاسق ، لأنه قد آمن به مرتين ، ثم رجع عن الإسلام ، وكان قد قال لهم : ابنوا مسجدا فاني ذاهب

__________________

(١) للمصدق ، ب : للمتصدق ، س م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ٢١٢.

(٢) نقله عن الكشاف ، ٢ / ٢١٢.

(٣) عن الشرك ، م : من الشرك ، ب س.

(٤) عن ابن مسعود ، انظر الكشاف ، ٢ / ٢١٢.

(٥) أخرجه الترمذي ، الزكوة ، ٢٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٧٢.

(٦) «مرجون» : قرأ المكي والبصريان والشامي وشعبة بهمزة مضمومة ممدودة بعد الجيم ، والباقون بواو ساكنة بعد الجيم من غير همز. البدور الزاهرة ، ١٣٩.

(٧) فيهم ، ب س : منهم ، م.

(٨) أي لأن يحكم ، ب س : ـ م.

(٩) «والذين» : قرأ المدنيان والشامي بحذف الواو قبل «الذين» ، والباقون باثباتها. البدور الزاهرة ، ١٣٩.

(١٠) يقدر بعد من قبل ، ب س : مقدر بعد قيل ، م.

(١١) كانوا اثني عشر رجلا ، ب س : ـ م.

١٥٦

إلى قيصر فآتي بجنود فأخرج محمدا من المدينة (١) ، فأتوا رسول الله فاستأذنوه في بناء المسجد تعللا لبعد المسير عليهم إلى الصلوة مع النبي عليه‌السلام ، فأذن لهم في ذلك غرضهم تفريق الجماعة من مسجد النبي عليه‌السلام والإيقاع بين المؤمنين فتنة وتقوية نفاقهم (٢) ، فقال تعالى إظهارا لنفاقهم (٣) والذين اتخذوا ، أي القوم الذين بنوا مسجدا مضرة للمؤمنين (وَكُفْراً) أي وإظهارا لكفرهم المخفي في قلوبهم (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) من مسجد قباء ، يعني لكي يصلي بعضهم في مسجدهم وبعضهم في مسجد قباء فتختلف كلمتهم (وَإِرْصاداً) أي انتظارا (لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي لمنافق كان يقاتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى هزم يوم حنين (٤)(مِنْ قَبْلُ) أي قبل بناء مسجد الضرار (٥) وهو الراهب المذكور ، ف (مِنْ قَبْلُ) يتعلق ب (حارَبَ) على هذا المعنى لا ب (اتَّخَذُوا) ، يعني هم يعذبون بالنار بسبب مسجدهم الذي بنوه وأعدوه (٦) لأجله فاذا قدم من الشام يؤمهم ليثبت لهم الفضل على إخوانهم (٧) ، ويظهر بذلك على رسول الله فيتقوى نفاقهم وكفرهم ، فدعا رسول الله عليه فمات كافرا بالشام (٨) ، فلما ظهر نفاقهم جاؤا يحلفون ما أردنا ببنائه إلا خيرا فنزل (٩)(وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا) ببناء المسجد (إِلَّا) الفعلة (الْحُسْنى) وهي أن لا تفوتنا الصلوة بالجماعة وليرجع الراهب فيسلم ويصلي بنا ونذكر الله تعالى فيه (١٠)(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [١٠٧] في حلفهم ، قيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياء أو سمعة أو لغرض غير وجه الله أو بمال غير طيب فهو لا حق بمسجد الضرار (١١).

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨))

ثم أنهم طلبوا من رسول الله عليه‌السلام حين خرج إلى غزوة تبوك أن يأتي ويصلي بهم فيه ليتبركوا بصلوته ، فقال عليه‌السلام : إنا على جناح سفر فان قدمنا إن شاء الله صلينا لكم فيه فنزل (١٢)(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) للصلوة فيه ، ثم قال (لَمَسْجِدٌ) مبتدأ موصوف بقوله (أُسِّسَ) أي أصل (عَلَى التَّقْوى) أي على التوحيد (١٣) ولوجه الله لا على النفاق (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) من أيام وجوده (أَحَقُّ) خبره ، أي أولى وأجدر (أَنْ تَقُومَ) أي بقيامك للصلوة (فِيهِ) وهو مسجد رسول الله أو مسجد قباء (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي يتوضؤا بالماء أو يتطهروا من الذنوب بالتوبة والعمل الصالح (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [١٠٨] أي المتطهرون بالماء أو بالتوبة.

روي : أن النبي عليه‌السلام قال : يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء والغائظ؟ قالوا : نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ، ثم نتبع الأحجار الماء ، فقرأ عليهم الآية ، فهم أول من استنجى بالماء ، ثم استن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستنجاء بالماء (١٤).

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩))

__________________

(١) وكان قد قال لهم ابنوا مسجدا فاني ذاهب إلى قيصر فآتي بجنود فأخرج محمدا من المدينة ، ب س : ـ م.

(٢) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٧٣ ؛ والكشاف ، ٢ / ٢١٣ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢١٩.

(٣) لنفاقهم ، س م : لنفاقها ، ب.

(٤) أي لمنافق كان يقاتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى هزم يوم حنين ، ب س : ـ م.

(٥) الضرار ، ب م : ضرار ، س.

(٦) وهو الراهب المذكور فمن قبل يتعلق بحارب على هذا المعنى لا باتخذوا يعني هم يعذبون بالنار بسبب مسجدهم الذي بنوه وأعدوه ، ب س : وهو الراهب يعني عدوه ، م.

(٧) ليثبت لهم الفضل على إخوانهم ، ب س : ـ م.

(٨) بالشام ، ب س : في الشام ، م.

(٩) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٧٣.

(١٠) ونذكر الله تعالى فيه ، ب ، ونذكر الله تعالى ، س ، ـ م.

(١١) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٢ / ٢١٣.

(١٢) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٧٤.

(١٣) أي على التوحيد ، ب س : مبتدأ أي على التوحيد ، م.

(١٤) نقله عن الكشاف ، ٢ / ٢١٤.

١٥٧

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) بالنصب مفعول المعلوم وبالرفع فاعل المجهول (١) ، الاستفهام فيه لنفي الاستواء بين الإخلاص والرياء ، أي أمن أصل بنيان دينه (عَلى تَقْوى) بلا تنوين ، لأنه فعلى لا ينصرف ، وبالتنوين إلحاقا بجعفر فالألف للإلحاق لا للتأنيث كتترى على قراءة الصرف (٢) ، أي على قاعدة قوية (مِنَ اللهِ) وهي خشية (٣) الله تعالى وتوحيده (وَرِضْوانٍ) أي ورضا منه (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ) بضم الراء وسكونها (٤) ، أي شفير جانب واد منحفر أصله بجريان الماء فيه ، وصفة «جرف» (هارٍ) أي منصدع مائل إلى السقوط ، أصله هائر ، فقلب إلى هاري فصار كقاض ، وهو كناية على أضعف القواعد الذي أسس عليه البنيان (فَانْهارَ بِهِ) أي سقط معه ، من هار يهور أو يهير إذا سقط (فِي نارِ جَهَنَّمَ) ومعنى قوله (فَانْهارَ بِهِ) في نار جهنم أنه لما جعل الجرف الهائر عبارة عن الباطل مجازا قال فانهار به بمعنى فطاح به الباطل وهو الكفر في قعر جهنم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [١٠٩] أنفسهم بكفرهم ونفاقهم.

روي : أنه عليه‌السلام أرسل بعد رجوعه من تبوك وحشيا قاتل حمزة بجماعة فحرقوا مسجدهم وهدموه وتفرق أهله وجعل مكانه كناسة تلقي فيه الجيف (٥) ، قيل : حفرت بقعة من مسجد الضرار فرئي الدخان يخرج منه (٦).

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً) أي شكا في الدين ونفاقا (فِي قُلُوبِهِمْ) فريبة ، نصب ب (لا يَزالُ) خبرا ، أي لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوه بسبب شك ونفاق زائد (٧) على شكهم ونفاقهم لا ينقطع وسمه عن قلوبهم ، لأنهم غافلون (٨) من ذلك فزاد مقتهم للإسلام وصمم النفاق في قلوبهم لا يخرج منها (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) بفتح التاء معلوما ، والفعل للقلوب أي تتصدع وتتفرق أجزاء فيخلصون عنه ، لأنها ما دامت سالمة لا يضمحل عنها الريبة أو إلا أن تقطع قلوبهم ندما على تفريطهم فيتوبوا ، وبضم التاء (٩) ورفع (قُلُوبِهِمْ) مجهولا والفعل لغير القلوب (وَاللهُ عَلِيمٌ) بنياتهم (حَكِيمٌ) [١١٠] حكم بهدم بنيانهم الضرار.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١))

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) التي هو خلقها (وَأَمْوالَهُمْ) التي رزقها لهم (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) أي طلب الله منهم أن يفدوا أنفسهم وأموالهم ويخرجوا إلى الغزو وليثيبهم الجنة ، نزل حين بايع رسول الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وأن ينصروه ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم ، ولهم الجنة إن وفوا بذلك فقبلوا ، وقالوا : لا نقيل ولا نستقيل (١٠) ، يعني لا ننصرف من هذه البيعة ولا نطلب انصراف أحد منها.

(يُقاتِلُونَ) أي حال كونهم يجاهدون أعداء الله ورسوله (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في دينه (فَيَقْتُلُونَ) معلوما

__________________

(١) «بنيانه» : قرأ نافع وابن عامر برفع النون ، والباقون بنصبها. البدور الزاهرة ، ١٤٠.

(٢) أخذ هذه القراءة عن الكشاف ، ٢ / ٢١٤.

(٣) خشية ، ب س : تقوى ، م.

(٤) «جرف» : أسكن الراء الشامي وشعبة وحمزة وخلف وضمها غيرهم. البدور الزاهرة ، ١٤٠.

(٥) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٦) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ٢١٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ١١٠.

(٧) زائد ، س م : زائدا ، ب.

(٨) غافلون ، س : غافلوا ، ب م.

(٩) «تقطع» : قرأ الشامي وحفص وحمزة وأبو جعفر ويعقوب بفتح التاء ، والباقون بضمها. البدور الزاهرة ، ١٤٠.

(١٠) عن محمد بن كعب القرظي ، انظر البغوي ، ٣ / ١١١ ـ ١١٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ٢١٥.

١٥٨

(وَيُقْتَلُونَ) مجهولا وبالعكس (١) ، فان قتل بعضهم قاتل من بقي منهم (وَعْداً عَلَيْهِ) مصدر مؤكد (حَقًّا) صفته ، أي وعد الله للمجاهدين في سبيله وعدا ثابتا (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) يعني لا في القرآن وحده ، وهذا دليل على أن الجهاد كان في شرائع المتقدمين على هذه الأمة (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) مبتدأ وخبر ، وفيه (٢) استفهام على سبيل الإنكار ، أي ليس أحد أوفى من الله في عهده وشرطه ، وفيه ترغيب في الجهاد أشد ترغيب وأبلغ ، لأن إخلاف الوعد قبيح من كرام المخلوقين ومستحيل من الله الغني الذي لا يجوز عليه فعل القبيح ، ثم قال (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) إعلاما لهم بأنهم ربحوا في تجارتهم ربحا وافرا يدل عليه قوله (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [١١١] أي البيع الذي بايعتم به مع الله هو الثواب الجزيل والنجاة الوافرة يوم القيامة.

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))

قوله (التَّائِبُونَ) رفع على المدح بالابتداء والخبر محذوف ، أي هم التائبون ، يعني المؤمنين المذكورين أو (التَّائِبُونَ) مبتدأ والخبر (٣)(الْعابِدُونَ) أي التائبون من الذنوب والكفر والنفاق هم الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة وحرضوا الناس عليها ، قوله (الْحامِدُونَ) وما بعده من المرفوعات خبر بعد خبر ، أي التائبون على الحقيقة هم الجامعون لهذه الأوصاف وهي العابدون المخلصون الحامدون لله على كل حال من السراء والضراء (السَّائِحُونَ) أي الذين يصومون شهر رمضان ، والسيح في الأصل السير في الأرض وسموا بذلك ، لأن السائح يكون ممنوعا من الشهوات واللذات المطعم والمشرب والمنكح ، قال عليه‌السلام : «سياحة أمتي الصوم» (٤) ، وقيل : «هم السائرون لطلب العلم للعمل في مظانه» (٥) أو إلى الغزو في سبيل الله (٦)(الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) في الصلوة المفروضة ، والمراد المحافظون على الصلوات الخمس (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالتوحيد وبأعمال الخير (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي عن الشرك والنفاق والأعمال الخبيثة في الشرع ، ودخول الواو فيه ليدل على أن السبعة عندهم عقد تام أو هي الواو الداخلة بين الضدين (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أي العاملون بفرائضه ويداومون عليها (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [١١٢] أي المصدقين العاملين بهذه الشروط أن لهم الجنة وإن لم يجاهدوا.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣))

قوله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية نزل نهيا للمؤمنين عن الاستغفار للمشركين ، حين سمع علي بن أبي طالب رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فمنعه عن ذلك ، فقال الرجل ألم يستغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان؟ قال علي رضي الله عنه : فذكرت ذلك للنبي عليه‌السلام فأوحي إليه ما جاز للنبي والمؤمنين الاستغفار للمشركين (٧)(وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) أي ذوي قرابة في الرحم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ) أي ظهر (لَهُمْ) أي للمؤمنين (أَنَّهُمْ) أي المشركين (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [١١٣] أي أهل النار بالاستحقاق إذا ماتوا على الكفر ، وعن أبي هريرة أن النبي عليه‌السلام قال : «استأذنت ربي أن أستغفر لوالدي فلم يأذن لي واستأنته أن أزور قبرهما فأذن لي» (٨) فنزلت الآية.

__________________

(١) «فيقتلون ويقتلون» : قرأ الأخوان وخلف «فيقتلون» بضم الياء التحتية وفتح التاء الفوقية مبنيا للمفعول ، «ويقتلون» بفتح الياء التحتية وضم التاء الفوقية مبنيا للفاعل ، والباقون بفتح الياء وضم التاء في الأول وبضم الياء وفتح التاء في الثاني. البدور الزاهرة ، ١٤٠.

(٢) مبتدأ وخبر وفيه ، ب س : ـ م.

(٣) محذوف أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين أو «التائبون» مبتدأ والخبر ، ب س : ـ م.

(٤) ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٥) عن عكرمة ، انظر البغوي ، ٣ / ١١٣ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ٢١٥ ؛ والقرطبي ، ٨ / ٢٧٠.

(٦) لعله اختصره من البغوي ، ٣ / ١١٣.

(٧) نقله عن البغوي ، ٣ / ١١٥.

(٨) رواه مسلم ، الجنائز ، ١٠٥ ، ١٠٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٧٧ ؛ والبغوي ، ٢ / ١١٥.

١٥٩

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤))

ثم قال تعالى بيانا لعذر إبراهيم في الاستغفار لأبيه (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) أي أباه بقوله «لأستغفرن لك إن تؤمن» ، ووعدها أبوه إبراهيم وهي أن يسلم وكان إبراهيم يستغفر له رجاء أن يؤمن ، لأن العقل لا يأباه (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي ظهر لإبراهيم بالوحي (أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) حين مات على الكفر (تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي أعرض عن الاستغفار لأبيه آزر بعد موته على الكفر (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) أي كثير الدعاء ملح فيه أو كثير التأوه ، يعني كان يقول «آه» تضرعا وخشوعا ، وأصل الأوه الرجوع في الشيء والتردد فيه (حَلِيمٌ) [١١٤] أي متجاوز عن جهل الجاهل وذنب من أساء له.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥))

قوله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) الآية نزل بيانا لعذر من خاف المؤاخذة في عمل الأشياء المباحة بالعقل قبل ورود النهي عنه (١) كشرب الخمر والصلوة إلى القبلة الأولى وبيع الصاع بالصاعين والاستغفار للمشركين قبل التحريم حين سألوا النبي عليه‌السلام عنها ، فقال تعالى لم يكن الله أن يحكم بضلالة قوم وخذلانهم ويعاقبهم على ذنب لا يعرف بالعقل بعد زمان هدايتهم للإسلام (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ) أي يعلمهم (ما يَتَّقُونَ) أي الذي يجب اتقاؤه للنهي ، فاذا أعلمهم بأنه ذنب يؤاخذهم الله (٢) لو يقدموا (٣) على ارتكابه ، وأما قبل الإعلام بذلك فلا يخذلهم ولا يؤاخذهم ، قيل : في هذه الآية دلالة على أن المهدي للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله داخل في حكم الإضلال والخذلان (٤)(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [١١٥] مما يصلح للخلق وما لا يصلح لهم.

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦))

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يحكم في أهلهما بما يشاء فيأمر بشيء ، ثم يأمر بغيره ويقر ما يشاء ثبوته فلا ينسخه (يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي شأنه الإحياء والإماتة في الدنيا (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غيره (مِنْ وَلِيٍّ) أي قريب ينفعكم شيئا من عذاب الله (وَلا نَصِيرٍ) [١١٦] أي مانع يمنعكم منه ، وفيه ترغيب في الجهاد كيلا يمتنعوا عنه حذر الموت والقتل.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧))

قوله (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) نزل حين أذن النبي عليه‌السلام للمنافقين في التخلف (٥) ، فقال تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم ، فكأنه قال أخطأت في هذا الأذن ومال الفريقان إلى التخلف عن الذهاب معه في الطريق إلى غزوة تبوك لشدة الحر وقلة الزاد والماء والظهر ، أي تجاوز الله عن خطأ النبي عليه‌السلام وعن ذنوبهم لما أصابهم من الشدة في ذلك الطريق ، ثم وصفهم بقوله (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي في وقت الشدة لغزوة تبوك ، وسموا (٦) جيش العسرة لقلة الظهر ، قيل : كان العشرة يعتقبون على البعير الواحد (٧) ولقلة الزاد والماء وشدة الحر حتى كاد تنقطع أعناقهم عطشا فاتبعوا النبي عليه‌السلام في ذلك الوقت

__________________

(١) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٢ / ٢١٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ١١٨.

(٢) فاذا أعلمهم بأنه ذنب يؤاخذهم الله ، ب س : ـ م.

(٣) لو يقدموا ، ب : لو تقدموا ، س ، ويقدموا ، م.

(٤) وهذا الرأي منقول عن الكشاف ، ٢ / ٢١٦.

(٥) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٧٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ١١٨.

(٦) لغزوة تبوك وسموه ، ب س : لغزو تبوك وسموا ، م.

(٧) نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ١١٩.

١٦٠