عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٢

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٣٤

فقال النبي عليه‌السلام : «يا رب كيف والغضب» ، فنزل قوله (١)(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) أي يوسوسك فيما أمرت به لتعمل على خلافه ، وأصل النزغ أدنى حركة خفية في القلب (مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) أي وسوسة ما ، وهو مصدر بمعنى النازغ كرجل عدل (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي ولا تطع الشيطان (إِنَّهُ) أي إن الله (سَمِيعٌ) لدعائك بالاستعاذة (عَلِيمٌ) [٢٠٠] بنيتك وبوسوسة الشيطان.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١))

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الذنب لخوف عقاب الله (إِذا مَسَّهُمْ) أي أصابهم (طائِفٌ) أي ما يطوف حول الشيء وهو ذنب ينزل على صاحبه بوسوسة (مِنَ الشَّيْطانِ) أي من جنسه ، وقرئ «طيف» بالتخفيف من طيف أو مصدر ، من طاف طيفا و «طيف» بالتشديد (٢) بمعنى الطائف ، أي لمة من الشيطان وهي معصية نازلة منه بسبب إغرائه عليها (تَذَكَّرُوا) ما أمرهم الله به ونهاهم عنه ، فاستغفروا الله من خطئهم واستعانوا (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [٢٠١] أي فاذا جاءتهم بصيرة من الله فابصروا السداد والصواب ودفعوا ما وسوس به إليهم ولم يتبعوه (٣) أنفسهم.

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢))

(وَإِخْوانُهُمْ) مبتدأ ، أي الشياطين من إخوان الذين ليسوا بمتقين وهم الجاهلون ، فالضمير ل «هم» ، والخبر (يَمُدُّونَهُمْ) أي يكونون مددا لهم ويعاونونهم ، وقرئ معلوما (٤) من الإمداد والمد ، ومعناهما الزيادة ، أي يزيدونهم (فِي الغَيِّ) أي في الضلال ، ويجوز أن يراد بال «إخوان» الجهال ، وبالضمير الشياطين ، فيكون الخبر جاريا على غير ما هو له ، وهذا أوجه ، لان إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا ، المعنى : أن الشياطين يزيدون الكافرين ضلالا (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) [٢٠٢] أي لا يمتنعون عن إغوائهم أو الجاهلون لا يقصرون في عمل السيئات ، أي يصرون ولا يرجعون بالتوبة.

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣))

قوله (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) نزل حين سأل أهل مكة النبي عليه‌السلام شيئا من العلامات على صدقه وأبطأ عليه جبرائيل ، فقالوا : لم لا يقول من تلقاء نفسه؟ فقال تعالى إذا لم تجئهم يا محمد بآية من الآيات المقترحة لهم (٥)(قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أي هلا جمعتها (٦) واختلقتها من تلقاء نفسك وغرضهم أن تكذب لأجلهم (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) وليس بمفتعل للآيات من عندي (هذا) أي القرآن (بَصائِرُ) أي حجج واضحة (مِنْ رَبِّكُمْ) يصير من آمن بها بصيرا بعد كونه أعمى ، يعني آياته بمنزلة بصائر القلوب (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) أي سبب هداية من الصلالة ، وسبب أمان من العذاب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [٢٠٣] أي يصدقون بالقرآن ويعملون به.

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤))

قوله (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا) نزل حين كانوا يتكلمون في الصلوة نهيا للتكلم فيها ثم صار سنة في غير الصلوة أن يسكت القوم في مجلس يقرأ فيه القرآن (٧) ، وقيل : «معناه إذا قرأ عليكم الرسول القرآن عند

__________________

(١) عن عبد الرحمن بن زيد ، انظر البغوي ، ٢ / ٥٨٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ١٥٢.

(٢) «طائف» : قرأ المكي والبصريان والكسائي بحذف الألف التي بعد الطاء وإثبات ياء ساكنة بعدها في مكان الهمزة ، وقرأ الباقون بألف بعد الطاء وهمزة مكسورة بعد الألف في موضع الياء. البدور الزاهرة ، ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٣) ولم يتبعوه ، ب س : ولم يتبعوا ، م.

(٤) «يمدونهم» : قرأ المدنيان بضم الياء وكسر الميم ، والباقون بفتح الياء وضم الميم. البدور الزاهرة ، ١٢٨.

(٥) اختصره المصنف من السمرقندي ، ١ / ٥٩١ ؛ والبغوي ، ٢ / ٥٨٩.

(٦) جمعتها ، ب م : اجتمعتها ، س.

(٧) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٥٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٥٩١ ؛ والواحدي ، ١٩٣ (عن قتادة) ؛ والبغوي ، ٢ / ٥٨٩ (عن أبي هريرة).

١٠١

نزوله فاستمعوا» (١)(لَهُ) أي للنبي عليه‌السلام أو للقرآن (وَأَنْصِتُوا) أي أصغوا لتفهموا معناه وتعملوا به (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [٢٠٤] أي لكي ترحمون في الآخرة ولا تعذبوا ، وقيل : «كانت الصحابة خلف النبي يقرؤن القرآن مع قراءته» (٢) ، وقيل : «كانوا يرفعون الأصوات عند ذكر الجنة والنار» (٣) ، وقيل : «كانوا يتكلمون في الجمعة والإمام يخطب» (٤) ، فنهوا عن ذلك كله ، فالأولى أن يكون الآية عامة إلا أن يرد دليل الخصوص.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥))

قوله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) عام في كل ذكر من التهليل والتسبيح والتحميد وقراءة القرآن والدعاء (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) أي متضرعا بالاستكانة وخائفا من الله (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) أي ومتكلما بكلام في الصدور دون رفع الصوت به ، لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص من الجهر (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي بكرة وعشية وأراد الدوام ، وإنما قيد الوقتين لفضلهما على غيرهما ، ومعنى «بالغدو» بأوقات الغدو ليطابق الآصال ، جمع أصيل وهو العشي (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) [٢٠٥] أي من الذين يغفلون عن ذكر الله وعن قراءة القرآن وتدبرها ، قال عليه‌السلام : «اذكروا الله ذكرا خاملا» ، قالوا : يا رسول الله! وما الذكر الخامل؟ قال : «الذكر الخفي» (٥) ، أي الذي لا يسمعه غيرك ، وقال : «المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة والمعلن بالقرآن كالمعلن بالصدقة» (٦).

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

قوله (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي لا يتعظمون (عَنْ عِبادَتِهِ) أي عن طاعته ، نزل حين قال أهل مكة : وما الرحمن؟ أنسجد له إذا قيل لهم اسجدوا للرحمن؟ فاستكبروا عن السجود له (٧) فقال تعالى إن الملائكة المكرمين عند الله لا يستنكفون عن السجود له تعالى (وَيُسَبِّحُونَهُ) أي يذكرونه بقولهم سبحان الله (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [٢٠٦] أي يعبدونه بالسجود في الصلوة وغيرها ، لا يشركون به شيئا ، وفيه تعريض لغيرهم من المكلفين ، قال عليه‌السلام : «ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفع الله له درجة في الجنة وحط بها عنه خطيئة» (٨).

__________________

(١) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٢ / ١٥٣.

(٢) عن أبي العالية الرياحي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٥٩١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٥٨٩ (عن ابن مسعود).

(٣) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٢ / ٥٨٩.

(٤) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ١ / ٥٩١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٥٩٠ (عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد).

(٥) روى أحمد بن حنبل نحوه ، ١ / ١٧٢ ، ١٨٠ ، ١٨٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٥٩٢.

(٦) أخرجه أحمد بن حنبل ، ٤ / ١٥٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٥٩٢.

(٧) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٥٩٢.

(٨) روى البخاري نحوه ، الصلوة ، ٨٧ ، والأذان ، ٣٠ ، البيوع ، ٤٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٥٩٢.

١٠٢

سورة الأنفال

كلها مدنية على الأصح

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢))

قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) نزل حين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر بعد نزول آية السيف تحريضا على البلاء في حرب الجاهلين من المشركين : من أسر أسيرا أو قتل قتيلا فله سلبه أو قال للسرية : ما أصبتم فهو لكم كله أو نصفه أو ربعه ، فتسارع الشبان وثبت الشيوخ والسادات عند الرايات ، فلما فتح الله عليهم غنائم بدر وقع الاختلاف بين المسلمين في قسمتها ، فقال الشبان : نحن المقاتلون ، وقال غيرهم : نحن عند الرايات وكنا ردء لكم وفئة (١) تحازون (٢) إليها إن انهزمتم ، فسألوا رسول الله كيف نقسم (٣) ولمن الحكم في قسمتها أللمهاجرين أو لهما جميعا (٤) ، فقال تعالى يسألك المسلمون عن كيفية قسمة الأنفال ، وهي جمع نفل بمعنى الغنيمة ويطلق على ما ينفله الإمام الغازي أيضا ، وأصله الزيادة ، فعلى تفسير الأنفال بالغنائم يكون السؤال بمعنى الاستخبار عن قسمتها ، وعلى تفسيرها بالزوائد المشروطة عن سهام الغزاة من المغنم يكون السؤال بمعنى طلب المشروط من الغنائم فيكون (عَنِ) زائدة أو بمعنى من ، أي يقولون لك أعطنا من الغنائم ما شرطتنا به.

واختلف العلماء فيه ، الأصح أنه يلزم الإمام الوفاء بما وعد منه ولا يخمسه ، ثم أمر النبي عليه‌السلام في جواب ذلك قوله (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي حكم الغنائم لله ولرسوله مختصة بهما لا حكم لأحد فيها ، يجعلانها حيث شاء أو قيل : إن الملك لهما فيعطي الرسول منها ما أمره الله بالإعطاء بالمشروط لمن شاء على ما يقتضيه حكمته ولا يستأثر منها لمن شرطه ، لأنه لو فعل ذلك لارتفع التحاب والتصافي من بين المسلمين (٥) ، ثم نسخ هذا بقوله (٦)(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ)(٧) الآية ، ثم قال (فَاتَّقُوا اللهَ) في الاختلاف والتخاصم بسبب حطام الدنيا وكونوا متحدين متحابين (٨) في الله (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي حقيقة وصلكم ، يعني أصلحوا الأحوال التي بينكم من الاجتماع على ما أمركم الله ورسوله والألفة والمحبة ، وسميت الأحوال ذات البين لكونها

__________________

(١) وفئة ، م : أو فئة ، ب س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ١٥٤.

(٢) تحازون ، م : تخازون ، ب س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ١٥٤.

(٣) نقسم ، ب س : يقسم ، م.

(٤) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٢ / ١٥٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٥٩٣.

(٥) اختصره من الكشاف ، ٢ / ١٥٤.

(٦) قاله مجاهد وعكرمة والسدي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤ ؛ والبغوي ، ٢ / ٥٩٥ ؛ وانظر أيضا النحاس ، ١٤٩ ـ ١٥١.

(٧) الأنفال (٨) ، ٤١.

(٨) متحابين ، ب م : المتحابين ، س.

١٠٣

ملابسة للبين ، ومنه ذات الصدور ، أي مضمراتها (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في أمر الصلح والعدل في الغنيمة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [١] أي كاملي الإيمان ، وفسر بذلك ، لأنهم كانوا مؤمنين بلا شك في الإيمان ، واللام في قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) إشارة إليهم ، أي إنما كاملو الإيمان (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ) عندهم واقتداره على عقوبتهم (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي خشيت من الله وقبلت عنده بالوجل (وَإِذا تُلِيَتْ) أي قرئت (عَلَيْهِمْ آياتُهُ) بالأمر والنهي في أمر إصلاح ما بينهم وغيره من الوعد والوعيد والقصص والأمثال والناسخ والمنسوخ (زادَتْهُمْ إِيماناً) أي تصديقا ويقينا ، يعني ازدادوا بها طمأنينة نفس بحكم الله ، كيف يشاء من غير اضطراب في التصديق به ، لأن تظاهر الأدلة الدالة على صدق محمد عليه‌السلام والقرآن أقوى وأثبت ، وقد حمل على زيادة العمل الخير أيضا مع تصديقهم بالله ، روي : «أن للإيمان سننا وفرائض وشرائع ، فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان» (١)(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [٢] أي يثقون به في الرزق وغيره لا على ما تكسب أيديهم من الغنائم وغيرها.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

ثم استأنف (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) مبتدأ ، أي المؤمنون الذين يتمون الصلوة سجودا وركوعا في مواقيتها (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [٣] أي مما أعطيناهم من الأموال يتصدقون في سبيل الله ، خبره جملة (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي أهل هذه الصفة ، هم المصدقون بالله يقينا لا شك في ذلك ، ف «حقا» مصدر مؤكد للجملة التي هي (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) أو صفة مصدر محذوف ، أي إيمانا حقا (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي علو منزلة وكرامة وشرف عنده (وَمَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [٤] أي ثواب حسن في الجنة ، قيل : «سأل الحسن رجل أمؤمن أنت؟ فقال الإيمان إيمانان ، فان كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن (٢) ، وإن كنت تسألني عن قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) الآية فو الله لا أدري أمنهم أنا أم لا ، فبهذا الجواب تعلق من يستثنى في الإيمان ومن لا يستثنى.

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦))

قوله (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) الكاف فيه مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة إخراجك ربك إلى حرب بدر من المدينة ، وهم لا يعلمون أن ذلك خير لهم ، فكرهوا ويجوز أن يكون منصوب المحل على أنه صفة مصدر محذوف ، تقديره : استقرت الأنفال لله وللرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك (مِنْ بَيْتِكَ) أي من المدينة (٣) التي هو مهاجرته ومسكنه كبيته المخصوص به إلى حرب بدر إخراجا ملتبسا (بِالْحَقِّ) أي باذن الله وحكمته (٤)(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) [٥] والواو للحال ، يعني أخرجك ربك منه وهم كارهون ذلك حال كونهم (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ) أي في خروجك للقتال بالحكمة التي اقتضته (٥)(بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أي ظهر لهم خروجك الحق ، لأنك لا تفعل إلا حقا ، ثم شبه حالهم في الجدال لأجل الخروج الحق في فرط رعبهم مع ما أعلمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النصرة والغنيمة بحال من يجر إلى القتل ويساق إلى الموت المتيقن وهو يشاهد أسبابه لا يشك فيها بقوله (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) أي إلى أسبابه (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) [٦] إليها ، قيل : إنما كره الخروج إلى الحرب بعض المسلمين لا

__________________

(١) عن عمر بن عبد العزيز ، انظر البغوي ، ٢ / ٥٩٦ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٥٥.

(٢) فأنا بها مؤمن ، م : ـ ب س ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٥٩٦.

(٣) أي من المدينة ، س م : أي النبيت ، ب.

(٤) أي باذن الله وحكمته ، ب س : ـ م.

(٥) اقتضته ، ب س : تقتضيه ، م.

١٠٤

كلهم ، وجدالهم قولهم يا رسول الله ما كان خروجنا إلا للعير وأنت لم تعلمنا أنك تلقي عدوا بنا ، فنستعد لهم ونتأهب ، وذلك لكراهتهم القتال (١) ، وكان ذلك في السنة الثانية من مقدم رسول الله عليه‌السلام المدينة ، وفيها حولت القبلة ووقعت غزوة بدر في شهر رمضان.

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧))

وقصته أن النبي عليه‌السلام أعلمه جبرائيل عليه‌السلام أن عير قريش في أربعين رجلا من تجارهم خرجوا من الشام ، فيهم أبو سفيان بن حرب ، فقال النبي عليه‌السلام أصحابه : قد أقبلت عير قريش من الشام ، فاخرجوا إليها ، لعل الله أن يفتح عليكم وتتقوا على جهاد عدوكم ، فسروا به ، فبلغ الخبر إلى أبي جهل بمكة أن محمدا وأصحابه اجتمعوا على قصد العير التي أقبلت من الشام ، فاجتمع قريش من مكة مع أبي جهل ليخرجوا إليهم ذابين عنها ، فقالت عاتكة بنت عبد المطلب لأخيها العباس : إني رأيت في المنام كان راكبا نزل من السماء ، فأخذ صخرة من جبل أبي قبيس ، ثم رماها على أهل مكة ، فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه فلقة منها ، فحدث بها العباس لوليد بن عتبة وكان صديقا له فذكر ذلك عتبة لأبي جهل ، فقال أبو جهل : ما يرضى رجالهم أن يتنبؤا حتى تتنبأ نساؤهم ، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير ، فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس إلى مكة ، فقال : لا والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم الملاهي في بدر ، فيتسامع العرب بخروجنا وبأن محمدا لم يصب العير ، فسار بمن معه إلى بدر ، ونزل جبرائيل فقال يا محمد : إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير ، وهم قريش ، فاستشار النبي عليه‌السلام أصحابه فقال : إن العير أحب إليكم أم النفير؟ فقالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدو ، فتغير وجه رسول الله عليه‌السلام ، فقال أبو بكر وعمر فأحسنا الكلام ، فقام المقداد فقال : امض بنا يا رسول الله لما أمرك الله فانا معك حيث أحببت ، فسر رسول الله بقوله ودعا له ، ثم قال : أشيروا علي أيها الناس وهو يريد الأنصار وكان متخوفا أن لا يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة ، فقام سعد بن معاذ ، فقال لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال أجل ، فقال : امض بنا يا رسول الله لما أردت ، فو الذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، فسر بذلك النبي عليه‌السلام ، ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا ، فان الله قد وعدني العير أو النفير والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم ، فساروا واجتمعوا مع قريش في بدر وهزموهم باذن الله ، فلما فرغ رسول الله من بدر قال له أصحابه : عليك بالعير يا رسول الله ليس دوننا شيء ، فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح هذا الرأي ، فقال له النبي عليه‌السلام : لم قال لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك ، فامتنع من ذلك ولما علم ثبوت الكراهة من بعضهم بقوله (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ)(٢).

أخبر عن تحقيق ذلك بقوله (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ) أي واذكروا وقت وعد الله لكم (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) العير أو النفير (أَنَّها لَكُمْ) أي إحديهما ، والمراد النفير (وَتَوَدُّونَ) أي وتحبون حرصا (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) أي طائفة غير صاحبة القوة في الحرب ، والشوكة شدة البأس والسلاح ، والشوكة في النفير لكثرة عددهم وعدتهم ، وإنتفاء الشوكة في العير لقلة فرسانها ، يعني أنكم تمنون (٣) أن العير (تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي يظهر الإسلام الذي هو الحق ويعزه بآياته المنزلة عليكم (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) [٧] أي يستأصلهم بالهلاك ففعل كما أراد.

__________________

(١) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٢ / ١٥٦ ـ ١٥٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٦.

(٢) وهذا مأخوذ عن الكشاف ، ٢ / ١٥٦.

(٣) تمنون ، ب م : تتمنون ، س ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٦.

١٠٥

(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

(لِيُحِقَّ الْحَقَّ) أي ليثبت الإسلام (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي ويمحق الكفر (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [٨] أي مشركو مكة.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩))

قوله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) نصب بمحذوف ، أي اذكروا وقت استغاثتكم (رَبَّكُمْ) حين رأيتم العدو في قتال بدر ألفا وأنتم ثلثمائة ، فطلبتم الغوث وهو النصر عليه قائلين : اللهم أغثنا يا غياث المستغيثين ، وقال نبيكم : «اللهم أنجز لي ما وعدتني مادا يديه مستقبل القبلة ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» (١)(فَاسْتَجابَ) أي أجاب (لَكُمْ) ربكم دعاءكم (أَنِّي) بالفتح ، أي بأني (مُمِدُّكُمْ) أي معينكم وزائد في مددكم (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [٩] بكسر الدال اسم فاعل من أردفته إياه إذا أتبعته إياه ، وكان ألف من الملائكة متبعين أنفسهم غيرهم منهم ، وبفتح الدال (٢) اسم مفعول منه أيضا ، أي أتبعهم غيرهم بملائكة آخرين ، قيل : نزل جبرائيل بخمسمائة ملك على الميمنة ، فيها أبو بكر ، ونزل ميكائيل بخمسمائة ملك على الميسرة ، فيها على بن أبي طالب في صورة الرجال عليهم ثياب بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم ، فقاتلت مع المؤمنين الأعداء يوم بدر دون يوم حنين ويوم الأحزاب (٣).

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠))

(وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي ولم يجعل الإمداد بالملائكة (إِلَّا بُشْرى) أي للبشارة لكم بالنصرة والظفر (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ) أي بالإمداد (قُلُوبُكُمْ) فلا تجزعوا لقلتكم وكثرة عدوكم (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا بكثرة العدد والعدد (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي غالب على كل شيء بالنقمة (حَكِيمٌ) [١٠] حيث هزم المشركين ونصر المسلمين باقتضاء حكمته.

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١))

قوله (إِذْ يُغَشِّيكُمُ) من التفعيل ومن الإفعال معلوما ، وما بعده مفعول له ، بدل من (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) أو نصب بمقدر ، أي اذكروا وقت تغشية الله ، وهي إلقاؤه النوم عليكم ، وقرئ يغشاكم معلوما (٤) ، فاعله (النُّعاسَ) من غشية النعاس ، أي أخذه النوم (أَمَنَةً مِنْهُ) أي للأمن من الله ، فنصبه مفعول له و «منه» صفته ، أي أمنة حاصلة لكم من الله ، ويجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحدا (٥) ، وليس كذلك هنا ، ولكن لما كان معنى (يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) تنعسون صح كون (أَمَنَةً) مفعولا له ، وفي غير هذه القراءة «الأمنة» بمعنى الإيمان ، أي ينعسكم الله إيمانا منه ، قيل : «النعاس في الحرب أمنة من الله ، وفي الصلوة وسوسة من الشيطان» (٦) ، وكان أصحاب رسول الله نازلين على كثيب أعفر ، وهو رمل أحمر ، تدخل وتغيب فيه الأقدام وأجنب بعضهم تلك الليلة ، وعطشوا لفقد الماء فوسوس لهم الشيطان بأنكم لو كنتم على الحق لما كنتم كذا وكان المشركون

__________________

(١) أخرجه أحمد بن حنبل ، ١ / ٣٠ ، ٣٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٦٠٣ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٥٧.

(٢) «مردفين» : قرأ المدنيان ويعقوب بفتح الدال ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ١٢٨.

(٣) نقله عن الكشاف ، ٢ / ١٥٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٦٠٣.

(٤) «يغشيكم النعاس» : قرأ نافع وأبو جعفر بضم الياء وسكون الغين وكسر الشين مخففة وبعدها ياء ساكنة مدية ونصب «النعاس» ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين مخففة وألف بعدها و «النعاس» بالرفع ، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الغين وكسر الشين مشددة وياء ساكنة مدية بعدها و «النعاس» بالنصب. البدور الزاهرة ، ١٢٩.

(٥) واحدا ، ب م : واحدة ، س.

(٦) عن ابن عباس ، انظر الكشاف ، ٢ / ١٥٩ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٩ (عن ابن مسعود) ؛ والبغوي ، ٢ / ٦٠٤ (عن ابن مسعود).

١٠٦

على ماء بدر ، فأنزل الله تعالى مطرا من السماء فتطهروا من الأحداث والجنابة وارتووا من العطش وذهبت عنهم وسوسة الشيطان ، فأخبر تعالى عن ذلك منة عليهم ليشكروا على أنعامه عليهم بقوله (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) أي بماء المطر من الأحداث (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي وسوسته ، وأصل الرجز العذاب وسميت به ، لأنها سبب العذاب (وَلِيَرْبِطَ) أي وليحبس (١)(عَلى قُلُوبِكُمْ) بالصبر الحاصل (٢) منه عند القتال (وَيُثَبِّتَ بِهِ) أي المداد أو بالربط (الْأَقْدامَ) [١١] في الحرب على اليقين أو لتستقروا رجلكم على الرمل بسبب المطر حتى أمكنكم الوقوف عليه للحرب.

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢))

قوله (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ) بدل من (إِذْ) قبله أو ظرف ل (يُثَبِّتَ) ، أي اذكروا (٣) وقت قول ربك للملائكة (أَنِّي) أي بأني (مَعَكُمْ) أي معينكم وناصركم (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي بشروهم بالنصر فكان الملك يمشي بين الصفين في صورة إنسان ، فيقول أبشروا أيها المؤمنون بالنصرة من الله ، فانكم كثير وعدوكم قليل وإن الله ناصركم ، قوله (سَأُلْقِي) أي سأقذف (فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي الخوف من النبي عليه‌السلام ، ومن آمن به تفسير لقوله (أَنِّي مَعَكُمْ) ، لأن في إلقاء الخوف في قلوب المشركين نصرا للملائكة (فَاضْرِبُوا) هذا تعليم للمؤمنين كيف يقتلون الكافرين ، أي اضربوا بسيوفكم (فَوْقَ الْأَعْناقِ) أي فوق رؤوسهم ، لأنه أوجب للقتل أو على الأعناق التي هي المذابح ، لأنه تطيير للرؤوس لدقتها (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) [١٢] أي أطراف الأصابع التي بها يقاتلونكم أو المفاصل لسرعة القتل فيها.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣))

(ذلِكَ) أي ذلك العذاب الواقع بهم (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي بسبب مخالفتهم أمر الله وأمر رسوله (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي ومن يخالف أمرهما (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [١٣] إذا عاقبه.

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

(ذلِكُمْ) مبتدأ ، خطاب للكفار على سبيل الالتفات ، أي ذلك العقاب النازل بكم يوم بدر (فَذُوقُوهُ) خبره ، والفاء للسببية أو محل (ذلِكُمْ) نصب بقوله (فَذُوقُوهُ) ، والفاء زائدة للتأكيد ، وتعطف (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) [١٤] بفتح (أَنَّ) على المبتدأ ، والخبر محذوف ، تقديره : كون عذاب النار للكافرين عقاب لهم يوم القيامة ، ويجوز أن يكون محله نصبا على أن الواو بمعنى مع ، يعني ذوقوا هذا العقاب العاجل مع العقاب الآجل الذي لكم في الآخرة ، فوضع (لِلْكافِرِينَ) موضع الضمير ولا تظنوا أن هذا العقاب صار كفارة لكم عن عذاب النار يوم القيامة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥))

ثم قال حثا على القتال وتصبيرا عليه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بتوحيد الله والقرآن (زَحْفاً) حال من «الكافرين» ، أي متزاحفين بمعنى متكاثرين في غاية الكثرة ، وأصله السير ببطء ، ويوصف الجيش العظيم به ، كأنه يزحف في الأرض لعظمته ، أي يبطؤ في سيره أو من زحف الصبي إذا دب على جلوسه ، يعني إذا لقيتم الكافرين ودنوتموهم للقتال (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) [١٥] أي لا تعرضوا عنهم إلى ظهوركم منهزمين.

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ

__________________

(١) أي وليحبس ، س : أي ليجلس ، م ، أي ويجلس ، ب.

(٢) الحاصل ، س م : ـ ب.

(٣) اذكروا ، م : اذكر ، س ، ـ ب.

١٠٧

وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦))

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ) أي يصرف عنهم (يَوْمَئِذٍ) أي يوم قتالهم (دُبُرَهُ) أي ظهره منهزما ليلا أو نهارا (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) نصب على الحال من الضمير الفاعل ، أي إلا منصرفا بعد الفرار يريد الكرة للقتال ، يعني بأن يخدعهم ويريهم الفرة وهو يريد الكرة (أَوْ) إلا (مُتَحَيِّزاً) من حازه يحوزه إذا ضمه ، وأصله متحيوز ، أي إلا منضما إذا كان منفردا من فئة هو فيها (إِلى فِئَةٍ) أي جماعة من أصحابه يمنعونه من العدو (فَقَدْ باءَ) أي رجع (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي باستحقاقه (وَمَأْواهُ) أي مستقره (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [١٦] هي ، قال ابن عباس : «إن الفرار من الزحف من أكبر الكبائر» (١) ، يعني به إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ، قيل : «حكم هذه الآية عام في كل فار» (٢) ، وقيل : «خاص بيوم بدر» (٣) ، «لأنهم لم ينحازوا إلا إلى المشركين ، إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم لينحازوا إليهم» (٤) ، فأما بعد فالمسلمون فئة لكل فار فلا يكون كبيرة ، وقيل : هي منسوخة بقوله (٥)(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ)(٦).

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧))

قوله (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) بقوتكم لضعفكم عن قتلهم ، نزل حين افتخروا بعد انهزام قوم بدر من المشركين بقولهم قتلنا فلانا وقتلنا فلانا نهيا عن الافتخار والإعجاب بأنفسهم (٧) ، والفاء فيه في جواب شرط محذوف ، تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) بنصره إياكم ، وذلك بانزال الملائكة وإلقاء الرعب في قلوبهم وتشجيع أنفسكم على القتال باذهاب الفزع والجزع عنكم ، روي : أن النبي عليه‌السلام لما التقى الجمعان أخذ قبضة من حصباء الوادي فرمى بها في وجوه الكافرين ، وقال : شاهت الوجوه فلم يبق كافر منهم إلا شغل بعينه فانهزموا فأتبعهم المسلمون بالقتل والأسر ، فقال لهم فلم تقتلوهم (٨) ، وقال للنبي على السّلام (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) أي لم يفعل رميك بالكافرين ما فعلت بقوتك ، لأن قوة البشر لا تؤثر ذلك الأمر العظيم (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) بفتح النون وتشديدها ، ونصب (اللهَ) ، وقرئ بكسرها والتخفيف ورفع «الله» (٩) ، أي ولكن الله فعل الرمي وأثر رميته فيهم ليقهر الكافرين فأثبت الرمية للنبي عليه‌السلام صورة ونفاها عنه حقيقة لضعف الطاقة البشرية عنها ، فكان الفاعل في الحقيقة هو الله تعالى ، قوله (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على «ليقهر» المقدر المذكور ، وهو من الإبلاء بمعنى الإعطاء ، أي ليعطي الموحدين بالله (مِنْهُ) أي من فضله (بَلاءً حَسَناً) أي عطاء جميلا ، وهو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لدعاء الرسول عليه‌السلام (عَلِيمٌ) [١٧] بنيته وباجابة دعائه.

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨))

(ذلِكُمْ) أي البلاء الحسن ، خبر مبتدأ محذوف ، أي الغرض ذلكم ، قوله (وَأَنَّ) بالفتح مع ما بعده ، عطف على «ذلكم» ، أي والغرض أن (اللهَ مُوهِنُ) أي مضعف (كَيْدِ الْكافِرِينَ) [١٨] ببدر ، قرئ بالتخفيف والتشديد

__________________

(١) انظر الكشاف ، ٢ / ١٦٠.

(٢) أخذه عن البغوي ، ٢ / ٦٠٩ ـ ٦١٠ ؛ وقال الحسن نحوه ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٠.

(٣) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٠.

(٤) عن أبي نضرة ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٠.

(٥) عن أبي أبي رباح ، انظر البغوي ، ٢ / ٦١٠ ؛ وانظر أيضا النحاس ، ١٤٩ ـ ١٥١.

(٦) الأنفال (٨) ، ٦٦.

(٧) عن مجاهد ، انظر البغوي ، ٢ / ٦١٠ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١١.

(٨) أخذه المصنف عن البغوي ، ٢ / ٦١١.

(٩) «ولكن الله رمى» : قرأ الشامي والأخوان وخلف بتخفيف نون «ولكن» وكسرها وصلا ورفع لفظ الجلالة ، والباقون بتشديد النون وفتحها ونصب لفظ الجلالة. البدور الزاهرة ، ١٢٩.

١٠٨

مع الإضافة وتركها (١) اسم فاعل من أوهنته ووهنته إذا جعلته ضعيفا.

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩))

قوله (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) نزل خطابا لأهل مكة على سبيل التهكم حين قال أبو جهل وأصحابه : اللهم انصر أعز الجندين إليك وأهدى الفئتين في دينك (٢) ، فاستجيب دعاؤهم على أنفسهم ، أي إن تطلبوا الفتح حين قلتم ذلك متعلقين بأستار الكعبة والقضاء بالحق (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أي النصر وهو القتل من المؤمنين (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن الكفر وقتال الرسول عليه‌السلام (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من الإقامة عليهما (وَإِنْ تَعُودُوا) لقتاله مع الكفر (نَعُدْ) لنصره ، فقتل أبو جهل وغيره من أصحابه المشركين حيث لم ينتهوا (وَلَنْ تُغْنِيَ) أي لا تنفع قط (عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ) أي جماعتكم (شَيْئاً) من النصرة (وَلَوْ كَثُرَتْ) في العدد (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) [١٩] بكسر «إن» على معنى الاستئناف ، وهو الأوجه ، وقرئ بالفتح (٣) بتقدير لكفركم وعداوتكم ، ولأن الله معين المؤمنين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) نزل حثا للمؤمنين على طاعة الرسول وامتثال أمره في الحرب معه والصلح في أمر الغنيمة وغير ذلك (٤)(وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي لا تعرضوا عن الرسول ، لأن طاعته طاعة الله (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [٢٠] المواعظ (٥) في القرآن.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١))

قوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) بآذاننا (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [٢١] بقلوبهم ، نزل في الذين لم يفهموا الحق ولم يتفكروا فيما سمعوا وهم المنافقون من بني عبد الدار ، فانه لم يسلم منهم إلا رجلان (٦).

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢))

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ) أي كل ما يتحرك على وجه الأرض (عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ) عن استماع الحق (الْبُكْمُ) أي الخرس (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [٢٢] الحق ولا يتكلمونه عند سماعهم إياه وكانوا يقولون نحن صم بكم عما جاء به محمد ، أي لا نسمعه ولا نجيبه ، فقتلوا جميعا في حرب أحد.

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ) أي في هؤلاء الصم البكم من الحق بعلم الأزل (٧)(خَيْراً) أي انتفاعا (لَأَسْمَعَهُمْ) أي لخلقهم سامعين بلطفه بهم سماع المصدقين ، ثم قال مستأنفا (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) أي لو لطف بهم فرضا حال كونه عالما أن لا خير فيهم فسمعوا وصدقوا (لَتَوَلَّوْا) أي لارتدوا بعد ذلك ولما نفع فيهم اللطف (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [٢٣] الواو للحال ، أي معرضين عن الإيمان عنادا فلم يستقيموا فيما سمعوا لعلمه تعالى عاقبتهم على خلافه واستحالة أن يقع غير ما علمه تعالى.

__________________

(١) «موهن كيد» : قرأ نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو بفتح الواو وتشديد الهاء وتنوين النون ونصب دال «كيد» ، وقرأ الشامي وشعبة والأخوان ويعقوب وخلف بسكون الواو وتخفيف الهاء وتنوين النون ونصب دال «كيد» ، وقرأ حفص بسكون الواو وتخفيف الهاء وحذف التنوين وخفض دال «كيد». البدور الزاهرة ، ١٢٩.

(٢) عن السدي والكلبي ، انظر الواحدي ، ١٩٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٢ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٦١.

(٣) «وأن» قرأ المدنيان والشامي وحفص بفتح همزة «وأن» ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ١٢٩.

(٤) لعله اختصره من الكشاف ، ٢ / ١٦١.

(٥) المواعظ ، ب م : الموعظة ، س.

(٦) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٢ / ٦١٥.

(٧) الأزل ، ب م : الأزلي ، س.

١٠٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا) أي أجيبوا (لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) الرسول (لِما يُحْيِيكُمْ) أي للقرآن الذي به تحيى القلوب أو للقتال (١) الذي فيه الحيوة الدائمة في الآخرة ، لأنه سبب الشهادة التي تورث الحيوة (٢) ، نزل ترغيبا للمؤمنين في إجابة النبي عليه‌السلام إذا دعاهم لأمر الدين أو الدنيا (٣) ، قيل : دعا النبي عليه‌السلام أبي ابن كعب وكان على الصلوة في بيته فلم يجبه ، فعجل في صلوته ، ثم جاءه ، فقال : فقال ما منعك عن إجابتي؟ قال كنت أصلي ، قال ألم تسمع فيما أوحي إلى «إستجيبوا لله والرسول» ، فقال : لا جرم ، لا تدعوني إلا أجبت (٤) بعد اليوم (٥) ، وهو مما اختص به النبي عليه‌السلام أو كان دعاؤه لأمر لا يحتمل التأخير ، فاذا وقع للمصلي مثله فله أن يقطع الصلوة ويجيبه ، قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) نزل حين جبنوا عن القتال ، فقيل لهم : قاتلوا في سبيل الله ، واعلموا أن الله يحول بين الإنسان وإرادة قلبه وإخلاصه له تعالى فلا يستطيع شيئا إلا بمشيته وإذنه (٦) ، فألجؤوا إليه معتمدين عليه ، لأنه هو الهادي والمضل ، وقيل : «يحول بين المؤمن ومعصيته التي تجره إلى النار وبين الكافر وطاعته التي تجره إلى الجنة» (٧) ، ولذلك كان عليه‌السلام يقول كثيرا : «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (٨)(وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [٢٤] في الآخرة فيجازيكم بما في قلوبكم وأعمالكم.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥))

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً) أي ذنبا أو عذابا إن أصابكم (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) بمعنى لا تصبهم بالاختصاص بل يعمكم أثرها فلا تعملوا المنكرات ، قال النبي عليه‌السلام : «إن الله لا يعذب العامة بفعل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه ، فاذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة» (٩) ، قيل : يجوز أن يكون (لا تُصِيبَنَّ) نفيا مجزوما في جواب الأمر (١٠) ، أكد بالنون مبالغا في تحقق (١١) إصابة الفتنة للظلمة ، وذلك لأن دخولها مختص بالطلب ولا طلب في جواب الأمر ، وإنما دخلت فيه لأن في هذا النفي معنى النهي ، وفي النهي طلب ، فهو عدول عن الخبر إلى الإنشاء لضرب (١٢) من المبالغة إذ لا يقال ذلك إلا في أمر يتردد القائل فيه فلذلك أكد بالنون ، و «من» في (مِنْكُمْ) للتبعيض ، أي لا يصيبن بعضكم وهم الذين ظلموا خاصة ، وأن يكون صفة ل (فِتْنَةً) حال كونه منفيا بتقدير (١٣) مقولا فيها ، ويكون دخول النون على المنفي في غير القسم شاذا (١٤) ، وأن يكون نهيا بعد الأمر ، فكأنه قيل احذروا فتنة ، ثم قيل لا تتعرضوا للظلم فيصيب أثر الفتنة وهو عقاب (١٥) الذين ظلموا خاصة ، وهم أنتم ف (مِنْكُمْ) للبيان ، وذلك (١٦) التفسير حسن (١٧) ، لأن النهي في (لا تُصِيبَنَّ) وإن كان متوجها إلى الفتنة في الظاهر لكن المراد نهيهم عن التعرض لها ، فيؤول

__________________

(١) للقتال ، ب س : القتال ، م.

(٢) الحيوة ، ب م : ـ س.

(٣) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١٣ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٦٢.

(٤) أجبت ، س : أجيب ، ب م ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٦١٦ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٦٢.

(٥) أخذه عن البغوي ، ٢ / ٦١٦ ؛ أو الكشاف ، ٢ / ١٦٢.

(٦) لعل المؤلف اختصره من البغوي ، ٢ / ٦١٦.

(٧) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٦١٦.

(٨) رواه الترمذي ، القدر ، ٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٦١٧.

(٩) أخرجه أحمد بن حنبل ، ٤ / ١٩٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٦١٨.

(١٠) أخذه المصنف عن البغوي ، ٢ / ٦١٧ ؛ أو الكشاف ، ٢ / ١٦٣.

(١١) تحقق ، ب س : تحقيق ، م.

(١٢) لضرب ، ب : ولضرب ، س ، أضرب ، م.

(١٣) بتقدير مقولا فيها ، م : ـ ب س.

(١٤) شاذا ، س م : شاذ ، ب.

(١٥) عقاب ، م : العقاب ، ب س.

(١٦) وذلك ، ب م : وهذا ، س.

(١٧) التفسير حسن ، س : التفسير أحسن ، م ، ـ ب.

١١٠

المعنى إلى قوله لا تتعرضوا (١) إلى آخره فيكون من قبيل (لا يَحْطِمَنَّكُمْ)(٢) في أن النهي لسليمان لفظا وللنمل معنى (٣)(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [٢٥] لمن تعرض للظلم.

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦))

ثم ذكر لأصحاب النبي عليه‌السلام نعمة التي أنعمها عليهم بقوله (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) خطاب للمهاجرين ، أي وقت كونكم ضعفاء بقلة العدد (مُسْتَضْعَفُونَ) أي مقهورين (فِي الْأَرْضِ) أي أرض مكة قبل الهجرة (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) أي يستلبكم (٤) الكفار بسرعة من العرب والعجم حولكم ، لأنهم كانوا أعداءكم بسبب إيمانكم (فَآواكُمْ) أي فنزلكم بالمدينة (٥)(وَأَيَّدَكُمْ) أي وقواكم (بِنَصْرِهِ) أي بأن نصركم بالملائكة والأنصار يوم بدر بعد الهجرة فارتفع ضعفكم (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من الغنائم التي لم تحل لأحد قبلكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [٢٦] أي لكي تعرفوا ذلك منه وتطيعوه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) نزل فيمن كان يفشي الحديث الذي يسمع من النبي عليه‌السلام حتى يبلغ الكفار بمكة نهيا عن ذلك (٦) ، وقيل : نزل في شأن أبي لبانة حين حاصر النبي عليه‌السلام قريظة ، وشاوروه في النزول على حكم سعد ، وأشار بيده إلى حلق نفسه أن حكمه الذبح فلا تنزلوا لكون ماله وأولاده معهم (٧) ، أي لا تفعلوا الخيانة في أمر الله ورسوله ، وأصل الخوف النقصان ، أي لا تنقصوا ما ائتمنتم عليه بالإفشاء والإظهار للأعداء (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) جزم بالعطف على النهي قبله أو نصب بواو الصرف بعد النهي ، أي احفظوا عهد الله ورسوله بالوفاء لهما وفي الأمانات بينكم (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [٢٧] أي أن الخيانة قبيحة في كل شيء ، وهي أن يؤتمن الرجل على شيء من غيره ، فلا يؤديه إليه وقد يسمى العاصي خائنا ، لأنه قد ائتمن على دينه فنقصه (٨).

(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨))

ثم نصحهم بقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي محنة وبلاء من الله ليبلوكم كيف تحفظون فيهم حدود الله ، فعليكم أن تزهدوا إليه في الدنيا ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد حتى تهلكوا أنفسكم (وَ) اعلموا أيضا (أَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [٢٨] لمن صبر ولم يخن ، وهو الجنة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله (إِنْ تَتَّقُوا) أي تطيعوا (اللهَ) بالخشية من عقابه ولا تعصوه (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أي أمرا يفرق بين الحق والباطل بنصركم في الدين على أهل الكفر لإعزازكم وإذلالكم في الدنيا والآخرة (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي ويمح كبائركم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم ، أي ويستر عليكم عيوبكم (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [٢٩] أي ذو التجاوز (٩) عن سيئات عباده.

__________________

(١) لا تتعرضوا ، ب س : لا يتعرضوا ، م.

(٢) النمل (٢٧) ، ١٨.

(٣) معنى ، ب : معنى ويجوز أن يكون صفة ل «فتنة» حال كونها نهيا على تقدير فتنة مقولا فيها ، س م.

(٤) يستلبكم ، ب م : يسلبكم ، س.

(٥) بالمدينة ، ب س : في المدينة ، م.

(٦) عن السدي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٤ ؛ والبغوي ، ٢ / ٦١٩.

(٧) عن الزهري والكلبي ، انظر البغوي ، ٢ / ٦١٩ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٤ ؛ والواحدي ، ١٩٧ ـ ١٩٨.

(٨) فنقصه ، ب م : فنقضه ، س.

(٩) أي ذو التجاوز ، م : أي المتجاوز ، س ، أي التجاوز ، ب.

١١١

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠))

قوله (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم أكابر قريش مجتمعين في دار الندوة مشاورين في الفتك بالنبي (١) عليه‌السلام في مضجعه.

وذلك بعد إسلام الأنصار حول المدينة وتمثل لهم إبليس عليه اللعنة في مشاورتهم بصورة شيخ نجدي ، فقال بعضهم : خذوه واحبسوه في بيت ، وسدوا عليه مع طعامه وشرابه حتى يهلك ، فقال اللعين : بئس الرأي ذلك ، فانه يأتيكم (٢) من يخلصه من البيت ، وقال بعضهم أخرجوه من بين أظهرهم وغربوه فلا يضركم ما صنع ، فقال اللعين : بئس الرأي ذلكم يذهب إلى قوم فيستميل قلوبهم فيأتي بهم ويخرجونكم (٣) من بلادكم ، وقال أبو جهل : خذوا من كل بطن شابا بسيف صارم فيضربوه ضربة رجل واحد حتى يقتل فنستريح من يده ، فقال اللعين : ذلكم الرأي ، فتفرقوا على ذلك الرأي ليأتوه ليلا ، فأخبر جبرائيل عليه‌السلام بذلك ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه فأمر النبي عليه‌السلام عليا أن يبيت مكانه وأمره أن يلبس بردائه ليأمن ببركته ، ثم خرج النبي عليه‌السلام ومعه أبو بكر إلى الغار ، ونام على مكانه ، فلما أصبحوا دخلوا البيت ، فاذا هو علي ، فسألوه عنه ، فقال : لا أدري ، فطلبوه فلم يجدوه (٤).

فأخبر تعالى عن ذلك ، أي واذكر وقت مكر الكافرين بك (لِيُثْبِتُوكَ) أي ليحبسوك في البيت بالوثاق (أَوْ يَقْتُلُوكَ) بالسيف (أَوْ يُخْرِجُوكَ) من مكة (وَيَمْكُرُونَ) أي وهم يمكرون بك الشر (وَيَمْكُرُ اللهُ) أي ويجازيكم جزاء مكرهم حين أخرجهم إلى بدر ، فقتل بعضهم فيه وأسر بعضهم (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [٣٠] لأن مكره أنفذ من غيره وأبلغ تأثيرا أو لأن مكره حق وعدل لا يصيب أحدا إلا بما هو يستوجبه.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١))

قوله (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي القرآن (قالُوا قَدْ سَمِعْنا) قولك هذا يا محمد (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) أي مثل القرآن (إِنْ هذا) أي ما القرآن (٥)(إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [٣١] أي أكاذيب المتقدمين.

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢))

نزل كان النبي عليه‌السلام يقرأ القرآن ويذكر أخبار الأمم الماضية ، فقال النضر بن الحارث : لو أشاء لقلت مثل الذي جاء به محمد ، فقال له عثمان بن مظعون : اتق الله يا نضر ، فانه ما يقول إلا حقا (٦)(وَإِذْ قالُوا) أي اذكر وقت (٧) قول (٨) النضر ومن مثله من الكفار (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا) أي ما يقوله محمد (هُوَ الْحَقَّ) بنصبه ب (كانَ) وبرفعه (٩) خبر هو والجملة خبر (كانَ) ، أي إن كان القرآن (مِنْ عِنْدِكَ) لا من رأيه (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) كأصحاب الفيل ، قيل : فائدة قوله (مِنَ السَّماءِ) و «الأمطار» لا يكون إلا منها أنه أراد حجارة من سجيل ، فوضع (مِنَ السَّماءِ) موضع من سجيل ليكون إشارة إلى عذاب أصحاب الفيل (١٠) ، قيل : «يقال في الرحمة مطر ، وفي النقمة أمطر» (١١) ، ثم قال (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [٣٢] فاستجيب دعاؤه على نفسه ، فقتله النبي

__________________

(١) في الفتك بالنبي ، ب م : في قتل النبي ، س.

(٢) فانه يأتيكم ، س : يأتيكم ، ب م.

(٣) ويخرجونكم ، ب م : ويخرجوكم ، س.

(٤) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١٥ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٦٤.

(٥) أي ما القرآن ، ب س : ـ م.

(٦) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٢ / ٦٢٤ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٦ (عن السدي) ؛ والواحدي ، ١٩٨.

(٧) اذكر وقت ، ب س : ـ م.

(٨) قول ، ب س : قال ، م.

(٩) هذه القراءة مأجوذة عن الكشاف ، ٢ / ١٦٥.

(١٠) نقله المفسر عن الكشاف ، ٢ / ١٦٥.

(١١) عن أبي عبيدة ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٦.

١١٢

عليه‌السلام يوم بدر صبرا ، قيل : سأل معاوية لرجل من سبأ ما أجهل قومك بتمليكهم امرأة عليهم ، فقال الرجل : أجهل منهم قومك حين قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ولم يقولوا (١) فاهدنا به (٢).

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣))

قوله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ) يا محمد (فِيهِمْ) أي بين ظهراني قريش حتى يخرجك عنهم كما أخرج الأنبياء قبلك عن قومهم ثم عذبهم ، لأن العذاب إذا نزل عم ، فأمروا بالخروج مع المؤمنين منهم ، نزل حين أسر النضر المقداد ، فجاء به الرسول عليه‌السلام ، فقال أسيري فقال عليه‌السلام هو الذي كان يقول في شأن الله ورسوله ما يقول قال يا رسول الله أسيري فقال عليه‌السلام : اللهم أغن المقداد من فضلك ، فقال هو الذي أردت منك (٣) ، فأخبر تعالى بذلك أنه لا يعذبهم وأنت فيهم وهم أخرجوك من بين ظهرانيهم ، ثم قال تعالى (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ) أي الكافرون (يَسْتَغْفِرُونَ) [٣٣] من الكفر فيؤمنون أو لا يعذب الكافرين والمؤمنون مستغفرون فيهم ، لأن النبي عليه‌السلام لما خرج بقي بقية من المؤمنين بمكة مستغفرين فأمنوا من العذاب بسببهم.

(وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤))

ثم رجع إلى ذكر حال المشركين فقال (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) أي أي شيء لهم من انتفاء عذاب الله عنهم ، يعني لا حظ لهم فيه وهم معذبون البتة ، وكيف لا يعذبون (وَهُمْ يَصُدُّونَ) أي وحالهم أنهم يمنعون المؤمنين (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي عن الطواف به كما صدوا رسول الله عليه‌السلام عام الحديبية والمسلمين معه لقولهم نحن أولياء البيت فنترك للطواف به من نشاء ونصد من نشاء ، فقال تعالى (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي ولاة أمر البيت وأربابه ، لأنهم أعداء الدين القيم ، فلم يستحقوا ولايته بعداوته (إِنْ أَوْلِياؤُهُ) أي ما أربابه (إِلَّا الْمُتَّقُونَ) أي الموحدون الأبرار المطيعون بالتقوى من المسلمين ، يعني لا يصلح كل مسلم أيضا أن يلي أمره ، فكيف يصلح له الكفرة عبدة الأوثان (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [٣٤] ذلك ويطلبون الرياسة بالجهالة أو يعلمون ويعاندون في طلبها لا بمقتضى العلم.

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥))

ثم قال توبيخا لهم (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ) أي بيت الله (إِلَّا مُكاءً) بالنصب خبر «كان» ، أي صفيرا وهو بأن يشبك الرجل أصابعه فينفخ فيها (وَتَصْدِيَةً) أي تصفيقا وهو ضرب إحدى اليدين بالأخرى ، وهو من قبيل قولهم إكرامه لي الضرب والشتم ، وكانوا يفعلون ذلك في طوافهم البيت عراة رجالهم ونساؤهم مختلطون ، وهم قد أمروا بالصلوة في المسجد مع تعظيمه ، فجعلوا المكاء والتصدية صلاتهم فيه ، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله عليه وسلم في صلوته يخلطون عليه (فَذُوقُوا الْعَذابَ) أي فقلنا لهم ذوقوا عذاب القتل والأسر يوم بدر (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [٣٥] أي بسبب كفركم وإقدامكم على أعمال الكفرة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦))

قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) نزل في المطعمين من المشركين الذين خرجوا لحرب رسول الله

__________________

(١) ولم يقولوا ، س : ولم يقل ، ب م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ١٦٥.

(٢) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ١٦٥.

(٣) وهذا منقول عن السمرقندي ، ٢ / ١٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٦٢٥.

١١٣

وأصحابه في طريقهم إلى بدر (١) ، وقيل : كانوا ثلاثة عشر رجلا ، وكان كل واحد منهم يطعم عشرة جزائر (٢) ، جمع جزور (٣)(لِيَصُدُّوا) أي ليصرفوا الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن دينه (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ) نفقتهم في العاقبة (٤)(عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي ندامة ، لأنها تكون (٥) لهم زيادة العذاب يوم القيامة (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) أي يهزمون في الدنيا فيرجعون أسراء وقتلاء (٦)(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) منهم ولم يؤمنوا إلى الموت (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [٣٦] بعد الموت في الآخرة ولم يكن الأسر والقتل كفارة لذنوبهم كما كانا للمؤمنين.

(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧))

(لِيَمِيزَ) بالتخفيف من ماز وبالتشديد من ميز (٧) بمعنى واحد ، أي ليظهر (اللهُ الْخَبِيثَ) بالكفر والمعصية (مِنَ الطَّيِّبِ) بالإيمان والعمل الصالح (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ) أي الفريق الطالح (بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ) أي فيضمه (جَمِيعاً) أي مجموعا حتى (٨) يتراكبوا (فَيَجْعَلَهُ) أي المجموع المتراكم (فِي جَهَنَّمَ) أي في جملة من يعذبون فيها من الكفار (أُولئِكَ) أي الفريق الخبيث (هُمُ الْخاسِرُونَ) [٣٧] أي المغبونون في العقوبة بانفاقهم أموالهم في عداوة رسول الله عليه‌السلام.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨))

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لأبي وأصحابه ولمن مثلهم إلى يوم القيامة (إِنْ يَنْتَهُوا) عن الكفر وعداوة رسول الله والمؤمنين بالإسلام (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) أي الذي (٩) مضى من ذنوبهم قبل الإسلام (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى كفرهم بالله وقتال رسوله (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) [٣٨] منهم ومن غيرهم بأن يهلكوا إذا لم يؤمنوا ، قيل : الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تبعة قط ، وأما الذمي إذا أسلم يلزمه قضاء حق الآدمي دون حق الله ، وبه احتج أبو حنيفة رحمه‌الله في المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء حق الله قبل الردة وبعدها. (١٠)

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩))

ثم حث المؤمنين على قتال الكفار المصرين بقوله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي إلى أن لا يوجد فيهم شرك قطعا (١١)(وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ) أي جميعه في الناس (١٢)(لِلَّهِ) ويضمحل عنهم الدين الباطل أينما كان (١٣) ، فلا يكون دين غير دين الإسلام (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر وقتال المسلمين (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) بالياء غيبة (١٤)(بَصِيرٌ) [٣٩] فيجازيهم بأعمالهم.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠))

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن أعرضوا (١٥) عن الإيمان (فَاعْلَمُوا) أيها المؤمنون (أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) أي ناصركم

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٧ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ١٩٩ (عن مقاتل والكلبي) ؛ والبغوي ، ٢ / ٦٢٨ (عن الكلبي ومقاتل).

(٢) أخذه المفسر عن البغوي ، ٢ / ٦٢٨.

(٣) جمع جزور ، ب س : ـ م.

(٤) نفقتهم في العاقبة ، ب : أي نفقتهم في العاقبة ، م ، نفقتهم ، س.

(٥) تكون ، ب س : يكون ، م.

(٦) وقتلاء ، م : قتلاء ، ب س.

(٧) «ليميز» : قرأ الأخوان ويعقوب وخلف بضم الياء الأولى وفتح الميم وكسر الياء الثانية مشددة ، والباقون بفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الثانية. البدور الزاهرة ، ١٣٠.

(٨) مجموعا حتى ، ب م : ـ س.

(٩) الذي ، ب س : ـ م.

(١٠) نقله عن الكشاف ، ٢ / ١٦٧.

(١١) قطعا ، ب س : قط ، م.

(١٢) في الناس ، ب س : ـ م.

(١٣) كان ، ب م : كانوا ، س.

(١٤) «يعملون» : قرأ رويس بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ١٣٠.

(١٥) أي إن أعرضوا ، س : أي أعرضوا ، ب م.

١١٤

وحافظكم ، فتوكلوا بولايته ونصرته (نِعْمَ الْمَوْلى) أي الحافظ (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [٤٠] أي المعين المانع من العدو.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١))

قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) نزل تعليما لقسمة الغنيمة الحاصلة من الكفار عنوة بقتال (١) ، أي الذي أخذتموه منهم بالقهر من شيء من الأموال حتى الخيط والمخيط ، ف «ما» موصولة اسم «أن» (٢) ، والعائد محذوف ، و (مِنْ شَيْءٍ) بيانه ، والخبر (٣)(فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) بفتح الهمزة محلها (٤) مع ما بعدها رفع خبر مبتدأ محذوف ، أي فالحكم أن لله منه خمسه (وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) أي ولأقاربه كبني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل ، لأن هؤلاء لم يفارقوه في الجاهلية والإسلام (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) قيل : كان النبي عليه‌السلام يؤتي بالغنيمة فيقسمها على خمسة أسهم ، فيعطي أربعة منها لمن قاتل عليها ، ثم يقسم الخمس الآخر خمسة أقسام فيأخذ قسما منها لنفسه ويعطي قسما لأقاربه والأقسام الثلاثة لليتامى والمساكين وابن السبيل ، لكن أبا حنيفة رحمه‌الله أسقط قسم النبي عليه‌السلام بموته ، وخص قسم ذي القربى لفقرائهم دون أغنيائهم وما فضل يقسم على الطواف الثلاث ، والشافعي رحمه‌الله يجعل قسم النبي عليه‌السلام للجهاد ولما فيه قوة الإسلام ، ويقسم قسم ذي القربى بين الفقير والغني على السوية لقرابتهم ، لكنه يعطي الذكر مثل الانثيين ، فعلى هذا كان ذكر اسم الله تبركا (٥) ، وأضيف اسمه إلى المال تشريفا له ، وجعل بعضهم الخمس على ستة أسهم ، سهم لله فيجعله للكعبة والباقي كما ذكر ، فمن جعل الفيء والغنيمة واحدا ، وهو ما أصابه المسلمون من الكفار جعل آية (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)(٦) منسوخة بهذه الآية ومن جعله غير الغنيمة وهي المأخوذة من الكفار عنوة بالقتال ، ويكون الفيء ما أصابوه من الكفار عن صلح بغير قتال فلا نسخ ، قوله (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) شرط ، جوابه محذوف يدل عليه (اعْلَمُوا) قبله ، أي إن صدقتم بالله وآياته فاعلموا وأقروا بحكمه أن قسمة الغنيمة كذلك ، فالمراد من العلم المتضمن بالعمل والطاعة لا العلم المجرد ، لأنه يستوي فيه المؤمن والكافر ، قوله (وَما أَنْزَلْنا) عطف على قوله (بِاللهِ) ، أي إن كنتم آمنتم بالله (٧) وبما أنزلنا (عَلى عَبْدِنا) محمد عليه‌السلام من الآيات والملائكة والنصر (يَوْمَ الْفُرْقانِ) أي يوم بدر ، فرق فيه الحق من الباطل ، وأبدل من (يَوْمَ الْفُرْقانِ) قوله (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي الفريقان من المؤمنين والكافرين (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٤١] أي على نصرة المؤمنين وهزيمة الكافرين.

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢))

قوله (إِذْ أَنْتُمْ) بدل أيضا من (يَوْمَ الْفُرْقانِ) والأوجه أن ينتصب (٨) بفعل مقدر ، أي اذكروا وقت كونكم (بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) بضم العين وكسرها (٩) ، أي في شط الوادي القربى إلى جهة المدينة ، فالدنيا تأنيث الأدنى (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) أي البعدى عن المدينة مما يلي مكة ، تأنيث الأقصى ، والقياس القصيا كالدنيا والعليا ، فثبوت

__________________

(١) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٢) اسم أن ، ب س : ـ م.

(٣) والخبر ، ب س : ـ م.

(٤) محلها ، ب س : ومحلها ، م.

(٥) اختصره المصنف من الكشاف ، ٢ / ١٦٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٩ ؛ والبغوي ، ٢ / ٦٣٢.

(٦) الأنفال (٨) ، ١.

(٧) أي إن كنتم آمنتم بالله ، ب م : ـ س.

(٨) أن ينتصب ، ب س : أن ينصب ، م.

(٩) «بالعدوة» : قرأ المكي والبصريان بكسر العين ، والباقون بالضم. البدور الزاهرة ، ١٣١.

١١٥

الواو فيها شاذ (وَالرَّكْبُ) مفرد لفظا جمع معنى للراكب ، أي العير التي فيها أبو سفيان وأصحابه من التجار (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي مكانا أسفل من مكانكم وهو نصب على الظرف ، محله رفع ، لأنه (١) خبر المبتدأ ، وفائدة هذه القيود كلها هي الإخبار عن قوة العدو وشوكته وضعف المسلمين وقلة أسباب الحرب ، وإن غلبتهم في مثل هذه الحالة ليست (٢) إلا بحول الله وقوته وباهر قدرته ، يعني من الله عليكم بتدبير النصر لكم (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أي أنتم وأولئكم المشركون بالاجتماع للقتال (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) لأنهم خرجوا للذب عن العير وأنتم خرجتم لطلب العير (وَلكِنْ) الله جمع بينكم على غير ميعاد (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً) من إعزاز دينه وإعلاء كلمته (كانَ مَفْعُولاً) أي ثابتا واجبا بتقديره هزيمة الكافرين ونصر (٣) المؤمنين ، ويتعلق قوله (لِيَهْلِكَ) ب «يقضي» أو ب (مَفْعُولاً) ، أي ليموت (مَنْ هَلَكَ) أي من مات بالكفر (عَنْ بَيِّنَةٍ) أي عن حجة (٤) قائمة عليه ، لأنه بين (٥) له الحق مرة بعد مرة (وَيَحْيى) أي ليعيش (٦)(مَنْ حَيَّ) أي من عاش بالإيمان (عَنْ بَيِّنَةٍ) قائمة عليه بظهور الحق له كذلك ، قرئ «حي» بياء واحدة مشددة وبياءين ظاهرتين (٧) على الأصل (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [٤٢] بكفر من كفر وعقابه وبايمان من آمن وثوابه.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣))

واذكروا (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ) أي المشركين (فِي مَنامِكَ) يا محمد قبل أن يلتقوا بكم (قَلِيلاً) لتقدموا عليهم (٨)(وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) أي لجبنتم وتركتم الصف (وَلَتَنازَعْتُمْ) أي اختلفتم (فِي الْأَمْرِ) أي في أمر (٩) القتال (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أي أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع عليكم (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [٤٣] أي بحقيقة ما في القلوب من المضمرات.

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤))

واذكروا (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) أي يبصركم الله إياهم (إِذِ الْتَقَيْتُمْ) أي وقت التقائكم إياهم (فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) لئلا تجبنوا ولتصديق رؤيا النبي عليه‌السلام (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) ليقدموا عليكم بقلة المبالاة بكم (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) من نصرة المؤمنين وذل الكافرين بالهزيمة والقتل (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [٤٤] أي عواقب أمور الخلق في الآخرة من إثابة المؤمنين وعقاب الكافرين لا إلى غيره تعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥))

ثم قال تحريضا للمؤمنين على قتال الكفار (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) أي جماعة من المشركين المحاربين (فَاثْبُتُوا) لقتالهم مع نبيكم (وَاذْكُرُوا اللهَ) ذكرا (كَثِيراً) أي ادعوه بالنصر (١٠) في مواطن الحرب (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [٤٥] أي تظفرون بمرادكم من النصرة فتأمنون (١١) من عدوكم ، والمراد من الكثرة الدوام.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦))

__________________

(١) لأنه ، س : ـ ب م.

(٢) ليست ، ب م : ليس ، س.

(٣) نصر ، ب م : نصرة ، س.

(٤) أي عن حجة ، س : أي حجة ، ب م.

(٥) بين ، ب م : تبين ، س.

(٦) أي ليعيش ، ب م : يعيش ، س.

(٧) «حيي» : قرأ المدنيان والبزي وشعبة ويعقوب وخلف العاشر بياءين الأولى مكسورة والثانية مفتوحة مخففتين ، والباقون بياء واحدة مشددة مفتوحة. البدور الزاهرة ، ١٣١.

(٨) وثوابه واذكروا (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ) أي المشركين (فِي مَنامِكَ) يا محمد قبل أن يلتقوا بكم (قَلِيلاً) لتقدموا عليهم ، ب م : ـ س.

(٩) أي في أمر ، س : أي أمر ، ب م.

(١٠) بالنصر ، ب س : بالنصرة ، م.

(١١) فتأمنون ، ب م : فتأمنوا ، س.

١١٦

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمركم من القتال وغيره (وَلا تَنازَعُوا) في أمر القتال بينكم (فَتَفْشَلُوا) أي تجبنوا من عدوكم (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي دولتكم بالغلبة ونصرتكم كما وقع ذلك يوم أحد ، نصب الفعلين على أنه جواب النهي ، يعني لا تختلفوا عند لقاء عدوكم (وَاصْبِرُوا) على القتال لوجه الله (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [٤٦] بالنصرة والعون.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧))

ثم أكد ذلك بقوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) لأجل القتال بالرياء والسمعة ، وهم كفار مكة الذين خرجوا منها (بَطَراً) أي فرحا بطغيانهم في النعمة ، وهو مصدر في موضع الحال أو مفعول له ، وعطف عليه قوله (وَرِئاءَ النَّاسِ) أي لأن يروا الناس مسيرتهم ويسمعوهم إياهم فنهاهم الله أن يكون مثل أولئك مرائين (١) بطرين فرحين بأعمالهم ، بل أمرهم أن يكونوا من أهل التقوى والتحزن من خشية الله مخلصين أعمالهم لله ، وعطف على معنى المصدر (وَيَصُدُّونَ) أي يصرفون الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن دينه الحق وهو الإسلام (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [٤٧] أي عالم بجميع أعمالهم ، قرئ بالياء غيبة.

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨))

ثم أكد كون خروجهم لا لوجه الله بقوله (وَ) اذكر (إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ) أي لكفار مكة (٢)(الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) بأن جسرهم على قتال المسلمين ، قيل : جاء إبليس على صورة سراقة بن مالك شريف كنانة ، فقال : حين وجدوا العير وأرادوا الرجوع إلى مكة ، لا ترجعوا حتى تستأصلوهم فانكم كثير وعدوكم قليل (٣)(وَقالَ) أي الشيطان للمشركين (لا غالِبَ) كائن (لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) لقوتكم وكثرتكم (وَإِنِّي جارٌ) أي معين (لَكُمُ) من كنانة وهؤلاء بنوا كنانة تأتيكم على أثري (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي الطائفتان المؤمنة والكافرة ورأى أبليس الملائكة مع المؤمنين (نَكَصَ) أي رجع (عَلى عَقِبَيْهِ) هاربا وراءه ، فقال له الحارث بن هشام : أين ما ضمنت لنا؟ فضرب في صدره (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) ومن جواركم (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) قيل : رأى الملائكة وجبرائيل معتجرا بردائه يقود فرس النبي عليه‌السلام (٤) ، وأبدل من «إني أرى» (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أن يهلكني (٥) ويعاقبني (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) [٤٨] قال ابن عباس : «خاف إبليس أن يأخذه جبرائيل أسيرا فيعرفه الناس فلا يطيعوه بعد ذلك» (٦) ، لأنه لم يخف على نفسه بناء على الإنظار الذي طلبه من الله إلى نفخ الصور ، فلما تولى إبليس قال الكفار هزم الناس سراقة فبعد رجوعهم إلى مكة وجد سراقة ، وسألوه عن ذلك وقال والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم ، فحلفوه عليه فحلف أنه لم يحضر هنا لك ، فلما أسلم القوم علموا أنه كان إبليس.

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩))

قوله (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) نزل في عبد الله بن أبي وأصحابه (٧) الذين لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين (٨) ، أي اذكر وقت قول المنافقين بالمدينة (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) الواو فيه للعطف التفسيري (٩) ، أي

__________________

(١) مثل أولئك مرائين ، ب : مثلهم مرائين ، م ، مثل أولئك المرائين ، س.

(٢) أي لكفار مكة ، ب س : ـ م.

(٣) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٢١.

(٤) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٢١.

(٥) أن يهلكني ، ب م : أي أخاف أن يهلكني ، س.

(٦) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٦٤٠ ـ ٦٤١ (عن الكلبي).

(٧) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢١.

(٨) عن الحسن ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢١.

(٩) التفسيري ، ب س : التفسير ، م.

١١٧

هم الذين في صدورهم ريب ، وقيل : هم المشركون (١) من أهل مكة ، لأن فيهم مرض الشرك (غَرَّ هؤُلاءِ) يعنون بالمؤمنين (دِينُهُمْ) إذ هم توهموا أن نصرتهم بسبب دينهم ، ثم قال تعالى جوابا لهم (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي ومن يثق بالله دون غيره (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) بالنقمة (حَكِيمٌ) [٤٩] بالهزيمة على المشركين وفضاحة المنافقين.

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠))

(وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذْ يَتَوَفَّى) بالياء ، أي يقبض الله (الَّذِينَ كَفَرُوا) في قتال بدر و (الْمَلائِكَةُ) مبتدأ ، خبره (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أي أستاههم بالسياط عند الموت أو المراد ب (وُجُوهَهُمْ) و (أَدْبارَهُمْ) ما أقبل منهم وما أدبر ، فان الملائكة كانوا يضربون وجوههم بالسيف إذا أقبلوا وإذا أدبروا يضربون أدبارهم بالسيف أيضا ، وقرئ «تتوفى» بتائين (٢) وفاعله (الْمَلائِكَةُ) و «يَضْرِبُونَ» حال من و «هم» ، فالمراد من التوفى على هذه القراءة الموت ، وعلى الأولى القتل ، قيل : يضربهم الملائكة بمقامع من حديد كلما ضربوهم بها تلتهب عليهم نار (٣)(وَ) يقولون لهم (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [٥٠] بشارة لهم بعذاب الآخرة ، لأنه مقدمة لعذاب النار فيها ، وجواب «لو» محذوف ، أي لو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما ، يعني منكرا فظيعا.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١))

(ذلِكَ) أي العذاب النازل بكم (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بسبب عملكم القبيح من الكفر والتكذيب وترككم الإيمان وهو يحتمل أن يكون من كلام الملائكة ، وهو الظاهر وأن يكون من كلام الله ، وعطف عليه قوله (وَأَنَّ اللهَ) أي وبأنه تعالى (لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [٥١] ليعذبهم بغير ذنب والتكثير في الظلام لأجل تكثير العبيد.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢))

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) خبر مبتدأ محذوف ، أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون (٤) ، أي عادتكم يا كفار مكة كعادة قوم فرعون وصنيعهم في الكفر والتكذيب (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وكعادة الذين قبل آل فرعون من الأمم المتقدمة ، ثم فسر دأبهم بقوله (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي بالبينات التي جاءتهم رسلهم بها من الأمر والنهي وخبر العذاب (٥) فلم يؤمنوا بها (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي عاقبهم (بِذُنُوبِهِمْ) أي بكفرهم ومعاصيهم (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ) في أخذه بالقدرة والمشية (شَدِيدُ الْعِقابِ) [٥٢] لمن أعرض عن الإيمان به وعصاه.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣))

(ذلِكَ) أي العذاب الذي نزل بهم مسبب (٦)(بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) كما أن الله أنعم أهل مكة بمحمد والقرآن ، وكفروا به وبالقرآن ، فنقلهما إلى الأنصار بالمدينة ، وقيل : «أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف فلم يشكروا الله لذلك فجعل لهم الخوف مكان الأمن والجوع مكان الرخاء» (٧) ، قيل : «ما عذب الله قوما ولا سلبهم النعم حتى كذبوا رسلهم ، فاذا فعلوا ذلك سلبهم العز وألزمهم الذل والمسكنة» (٨)(وَأَنَّ اللهَ) أي وبأنه تعالى (سَمِيعٌ) بمقالتهم (عَلِيمٌ) [٥٣] بأعمالهم.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ

__________________

(١) وقد أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٢ / ١٧٢.

(٢) «يتوفى» : قرأ الشامي بالتاء الفوقية مكان الياء ، والباقون بالياء. البدور الزاهرة ، ١٣٢.

(٣) نقله المصنف عن البغوي ، ٢ / ٦٤٢ ؛ أو الكشاف ، ٢ / ١٧٢.

(٤) خبر مبتدأ محذوف أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون ، ب : ـ س م.

(٥) بها من الأمر والنهي وخبر العذاب ، ب م : من الأمر والنهي ، س.

(٦) مسبب ، ب س : ـ م.

(٧) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٢٢.

(٨) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٢.

١١٨

كانُوا ظالِمِينَ (٥٤))

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) تأكيد لما قبله ، محله رفع خبر مبتدأ محذوف ، أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون في الهلاك (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل آل فرعون (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) التي جاءتهم بها رسلهم (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي بكفرهم ومعاصيهم (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) معه لا دعائه الربوبية وإطاعتهم إياه بالعبادة (وَكُلٌّ) أي كل من غرقى القبط وقتلى قريش (كانُوا ظالِمِينَ) [٥٤] أنفسهم بالكفر والمعاصي.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦))

قوله (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ) أي شر الناس (عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [٥٥] أي يصرون في كفرهم ، نزل في شأن بني قريظة ، كعب بن الأشرف وأصحابه (١) ، وتبدل من «الَّذِينَ كَفَرُوا» (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) أي في كل وقت من غير مبالاة بالنقض (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) [٥٦] الله وعذابه بنقض العهد ، روي : أنهم عاهدوا النبي عليه‌السلام أن لا يعينوا الكفار عليه فعاونوا المشركين بالسلاح على قتاله ، وقالوا بعد ذلك أخطأنا ونسينا العهد ، ثم عاهدوا النبي عليه‌السلام مرة ثانية فأعانوا الأحزاب يوم الخندق ، وذهب كعب بن الأشرف إلى مكة فعاهد المشركين فيها (٢) ، فهم شر الكافرين الذين هم شر الناس بنكث العهود بعد الإصرار في الكفر مع ظهور الحق لهم.

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧))

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) أي تدركنهم يا محمد (فِي الْحَرْبِ) وتظفر بهم في القتال (فَشَرِّدْ) أي فرق (بِهِمْ) أي بعقوبتهم (مَنْ خَلْفَهُمْ) أي من وراءهم من أعدائك لأنك إذا عاقبت هؤلاء تفرق الأعداء من ورائهم ولم يقدموا عليك (لَعَلَّهُمْ) أي لعل المفرقين من بعدهم (يَذَّكَّرُونَ) [٥٧] أي يتعظون بعقوبة هؤلاء فلا يحاربوك ولا ينقضوا عهدك.

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨))

(وَإِمَّا تَخافَنَّ) أي إن علمت يا محمد (مِنْ قَوْمٍ) عاهدوك (خِيانَةً) أي أماراتها اللائحة بنقض العهد (فَانْبِذْ) أي اطرح (إِلَيْهِمْ) عهدهم (عَلى سَواءٍ) محله نصب على الحال من النابذ والمنبوذ إليهم ، أي حاصلين على استواء في العلم والعداوة ، يعني كن أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء حذرا من أن تتهم بخيانة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) [٥٨] بنقض العهد فلا يكن منك إخفاء نكث العهد والخداع.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩))

قوله (وَلا يَحْسَبَنَّ) بالكسر والفتح (٣)(الَّذِينَ كَفَرُوا) بالياء فالفاعل «الكافرون» والمفعول الأول مضمر والثاني (سَبَقُوا) أي فاتوا ، تقديره : لا يحسبن الكافرون أنفسهم فائتين من العذاب ، وبالتاء خطابا للنبي عليه‌السلام فالمفعول الأول «الذين» والثاني «سبقوا» ، نزل في القوم الذين انهزموا من المشركين ببدر (٤) ، أي لا يظنن الذين كفروا من العرب وغيرهم مفلتين من أن يظفر بهم بأعمالهم الخبيثة (إِنَّهُمْ) بالكسر استئناف في معنى التعليل وبالفتح (٥) تعليل صريح ، أي لأنهم (لا يُعْجِزُونَ) [٥٩] أي لا يجدوني عاجزا عن إدراكهم.

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٦٤٤ (عن الكلبي ومقاتل).

(٢) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٣ ؛ والبغوي ، ٢ / ٦٤٤.

(٣) «ولا يحسبن» : قرأ ابن عامر وحفص وحمزة وأبو جعفر بياء الغيب مع فتح السين وشعبة بتاء الخطاب مع فتح السين ، والباقون بتاء الخطاب مع كسر السين. البدور الزاهرة ، ١٣٢.

(٤) أخذه عن البغوي ، ٢ / ٦٤٦.

(٥) «إنهم» : قرأ الشامي بفتح الهمزة ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ١٣٢.

١١٩

تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠))

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ) أي اتخذوا العدة لقتالهم (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) أي مما (١) يتقوى به في الحرب من السلاح وكثرة العدد ، في محل النصب حال من «ما» بمعنى الذي ، قال عليه‌السلام : «ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي» (٢) وفي خبر آخر زيادة «لهو المؤمن في الخلاء وقوته عن القتال» (٣) ، وقال : «من ترك الرمي بعد ما علمه فقد كفر» (٤) أو «عصى» (٥)(وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أي وأعدوا أيضا من احتباس الخيل الذكور والإناث للغزو ، والرباط اسم للخيل التي تربط (٦) ، وأصل الربط الشد ، والمختار الإناث لقلة صهيلها ، وخص الخيل بالذكر تفضيلا لها ، قال عليه‌السلام : «الخيل معقود بنواصيها الخير ـ أي ـ الأجر والمغنم إلى يوم القيامة» (٧)(تُرْهِبُونَ) أي تخوفون ، في محل النصب حال من فاعل «أَعِدُّوا» (بِهِ) أي بالقوة والسلاح (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) وهم كفار مكة (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي وتخوفون قوما آخرين من غيرهم كاليهود والنصارى وأهل فارس (لا تَعْلَمُونَهُمُ) أي لا تعرفونهم (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) أي يعلمهم فيعرفهم إياهم فأعدوا لهم أيضا بالإنفاق في تحصيله من القوس والسلاح ، قوله (٨)(وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) شرط (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في دين الإسلام ، جزاؤه (يُوَفَّ) أي يكمل (٩)(إِلَيْكُمْ) ثوابه (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [٦٠] بنقض ثواب أعمالكم.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١))

(وَإِنْ جَنَحُوا) أي مالوا (لِلسَّلْمِ) بكسر السين وفتحها (١٠) ، أي إلى الصلح وهي مؤنثة كنقيضها الحرب لقوله (فَاجْنَحْ لَها) أي مل إليها ، قيل : هذا إذا لم يكن للمسلمين قوة القتال وأما إذا كانت فينبغي أن يقاتلوهم حتى يسلموا إو يعطوا الجزية إن لم يكونوا من العرب ، وإنما لم توضع الجزية على العرب لرفع (١١) الكفر من أنساب النبي عليه‌السلام ، لأن العرب كلهم من نسبه بالقتل أو بالإسلام (١٢)(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي ثق بالله ولا تخف من ميلهم إلى الصلح ، فالله حافظك فلا يخذلك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالك وأقوالهم (الْعَلِيمُ) [٦١] بأحوالك وأحوالهم من نقض العهد وغيره.

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢))

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) بأن يكيدوك بالصلح وهم بنو قريظة من اليهود أرادوا أن يصالحوك لتمتنع عن قتالهم رجاء أن يصل بهم مشركوا العرب فيعينوهم عليك (فَإِنَّ حَسْبَكَ) أي كافيك (اللهُ) بالنصرة من خدعهم ، وهو مصدر بمعنى المحسب (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ) أي قواك (بِنَصْرِهِ) إياك بملائكته (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [٦٢] من الأنصار وهم الأوس والخزرج ، وكان بينهم عداوة وإحن.

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣))

__________________

(١) أي مما ، ب م : كل ما ، س.

(٢) رواه مسلم ، الإمارة ، ١٦٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٤ ؛ والبغوي ، ٢ / ٦٤٦.

(٣) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٤. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٤) رواه الدارمي ، الجهاد ، ١٤.

(٥) أخرج مسلم نحوه ، الإمارة ، ١٦٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٦٤٧.

(٦) والرباط اسم للخيل التي تربط ، س : ـ ب م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ١٧٤.

(٧) رواه النسائي ، الخيل ، ٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٦٤٨.

(٨) قوله ، س : ـ ب م.

(٩) (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) شرط (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في دين الإسلام جزاؤه (يُوَفَّ) أي يكمل ، س : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في دين الإسلام (يُوَفَّ) أي يكمل ، ب م.

(١٠) «للسلم» : قرأ شعبة بكسر السين ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ١٣٢.

(١١) لرفع ، ب م : لدفع ، س.

(١٢) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٢٤.

١٢٠