المدرسة القرآنيّة

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المدرسة القرآنيّة

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٩

خارجة ومن وراء قدرة الله سبحانه وتعالى وانما هي تعبير وتجسيد وتحقيق لقدرة الله ، فهي كلماته وهي سننه وارادته وحكمته في الكون لكي يبقى الانسان دائما مشدودا الى الله ، لكي تبقى الصلة الوثيقة بين العلم والايمان ، فهو في نفس الوقت الذي ينظر فيه الى هذه السنن نظرة علمية ، ينظر أيضا اليها نظرة ايمانية.

وقد بلغ القرآن الكريم في حرصه على تأكيد الطابع الموضوعي للسنن التاريخية وعدم جعلها مرتبطة بالصدف ، ان نفس العمليات الغيبية أناطها في كثير من الحالات بالسنة التاريخية نفسها أيضا ، عملية الامداد الإلهي بالنص ، المداد الإلهي الغيبي الذي يساهم في كسب النص ، هذا الامداد جعله القرآن الكريم مشروطا بالسنة التاريخية ، مرتبطا بظروفها غير منفك عنها ، وهذه الروح أبعد ما تكون عن أن تكون روحا تفسير التاريخ على أساس الغيب وانما هي روح تفسر التاريخ على أساس المنطق والعقل والعلم وحتى ذاك الامداد الإلهي الذي يساهم بالنص ذاك الامداد أيضا ربط بالسنة التاريخية.

قرأنا في ما سبق صيغة من صيغ السنن التاريخية للنص حينما قرأنا قوله سبحانه وتعالى (... أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا

٨١

الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ)(١) الآن تعالوا نقرأ الآيات التي تتحدث عن الامداد الإلهي الغيبي لنلاحظ كيف ان هذه الآيات ربطت هذا الامداد الإلهي الغيبي بتلك السنة نفسها أيضا إذ تقول للمؤمنين

(أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)(٢). هناك إمداد إلهي غيبي ولكنه شرط بسنة التاريخ ، شرط بقوله : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) اجملت هنا شروط التاريخ التي فصلت في الآيات الأخرى ، اذن هذا الإمداد الغيبى ايضا مرتبط بسنة التاريخ.

اذن فمن الواضح أن الطابع الرباني الذي يسبقه القرآن الكريم ليس بديلا عن التفسير الموضوعي وانما هو ربط لهذا التفسير الموضوعي بالله سبحانه وتعالى من أجل

__________________

(١) سورة البقرة : الآية (٢١٤).

(٢) سورة آل عمران الآية (١٢٤ ـ ١٢٦).

٨٢

اكمال اتجاه الاسلام نحو التوحيد بين العلم والايمان في تربية الانسان المسلم.

الحقيقة الثالثة :

والحقيقة الثالثة التي أكد عليها القرآن الكريم من خلال النصوص المتقدمة هي حقيقة اختيار الانسان وإرادة الانسان. والتأكيد على هذه الحقيقة في مجال استعراض سنن التاريخ مهم جدا اذ سوف يأتي ان شاء الله تعالى بعد محاضرتين. ان البحث في سنن التاريخ خلق وهما ، وحاصل هذا الوهم الذي خلقه هذا البحث عند كثير من المفكرين أن هناك تعارضا وتناقضا بين حرية الانسان واختياره وبين سنن التاريخ ، فاما أن نقول بأن للتاريخ سننه وقوانينه وبهذا نتنازل عن إرادة الانسان واختياره وعن حريته ، واما أن نسلم بأن الانسان كائن حر مريد مختار ، وبهذا يجب أن نلغي سنن التاريخ وقوانينه ونقول بأن هذه الساحة قد أعفيت من القوانين التي لم تعف منها بقية الساحات الكونية.

هذا الوهم وهم التعارض والتناقض بين فكرة السنة التاريخية أو القانون التاريخي ، وبين فكرة اختيار الانسان وحريته ، هذا الوهم كان من الضروري للقرآن الكريم أن

٨٣

يزيحه وهو يعالج هذه النقطة بالذات.

ومن هنا أكد سبحانه وتعالى على أن المحور في تسلسل الأحداث والقضايا انما هو إرادة الانسان ، وسوف أتناول ان شاء الله تعالى بعد محاضرتين الطريقة الفنية في كيفية التوفيق بين سنن التاريخ وإرادة الانسان ، وكيف استطاع القرآن الكريم أن يجمع بين هذين الأمرين من خلال فحص للصيغ التي يمكن في اطارها صياغة السنة التاريخية ، سوف أتكلم عن ذلك بعد محاضرتين ، لكن يكفي الآن أن نستمع الى قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(١)(... وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(٢)(.... وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)(٣) انظروا كيف أن السنن التاريخية لا تجري من فوق رأس الانسان بل تجري من تحت يده ، فان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وان لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا اذن هناك مواقف ايجابية للانسان تمثل حريته واختياره وتصميمه وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن

__________________

(١) سورة الرعد : الآية (١١).

(٢) سورة الجن : الآية (١٦).

(٣) سورة الكهف : الآية (٥٩).

٨٤

التاريخية ، تستتبع جزاءاتها المناسبة ، تستتبع معلولاتها المناسبة. اذن فاختيار الانسان له موضعه الرئيسي في الساحة التاريخية ، وذات طابع انساني لانها لا تفصل ، الانسان عن دوره الايجابي ولا تعطل فيه ارادته وحريته واختياره ، وانما تؤكد أكثر فأكثر مسئوليته على الساحة التاريخية.

الآن بعد استعراضنا الخصائص الثلاث التي تتميز بها السنن التاريخية في القرآن الكريم نواجه هذا السؤال : ما هو ميدان هذه السنن التاريخية؟

كنا حتى الآن نعبر ونقول بأن هذه السنن تجري على الساحة التاريخية ، لكن ، هل أن الساحة التاريخية بامتدادها هي ميدان للسنن التاريخية أو أن ميدان السنن التاريخية يمثل جزأ من الساحة التاريخية بمعنى أن الميدان الذي يخضع للسنن التاريخية بوصفها قوانين ذات طابع نوعي مختلف عن القوانين الأخرى الفيزيائية والفسلجية والبيولوجية والفلكية ، هذا الميدان الذي يخضع لقوانين ذات طابع نوعي مختلف ، هذا الميدان هل تتسع له الساحة التاريخية؟ هل يستوعب كل الساحة التاريخية ، أو يعبر عن جزء من الساحة التاريخية؟

٨٥

التصور القرآني لسنن التاريخ وسوف أعود الى هذه النقطة مرة أخرى إنشاء الله تعالى. اذن نستخلص مما سبق أن السنن التاريخية ، ان السنن القرآنية في التاريخ ذات طابع علمي ، لانها تتميز بالاطراد الذي يميز القانون العلمي ، وذات طابع رباني لانها تمثل حكمة الله وحسن تدبيره على لكن قبل هذا يجب أن نعرف ما ذا نقصد بالساحة التاريخية؟ الساحة التاريخية عبارة عن الساحة التي تحوي تلك الحوادث والقضايا التي يهتم بها المؤرخون ، المؤرخون أصحاب التواريخ يهتمون بمجموعة من الحوادث والقضايا يسجلونها في كتبهم والساحة التي تزخر بتلك الحوادث التي يهتم بها المؤرخون ويسجلونها هي الساحة التاريخية ، فالسؤال هنا اذن هو هكذا ، هل أن كل هذه الحوادث والقضايا التي يربطها المؤرخون وتدخل في نطاق مهمتهم التاريخية والتسجيلية هل كلها محكومة بالسنن التاريخية ، بسنن التاريخ ذات الطابع النوعي المتميز عن سنن بقية حدود الكون والطبيعة ، أو أن جزءا معينا من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ؟

الصحيح أن جزءا معينا من هذه الحوادث والقضايا هو

٨٦

الذي تحكمه سنن التاريخ ، هناك حوادث لا تنطبق عليها سنن التاريخ بل تنطبق عليها القوانين الفيزيائية أو الفسلجية او قوانين الحياة أو أي قوانين أخرى لمختلف الساحات الكونية الاخرى.

مثلا : موت أبي طالب ، موت خديجة في سنة معينة ، حادثة تاريخية مهمة تدخل في نطاق ضبط المؤرخين وأكثر من هذا هي حادثة ذات بعد في التاريخ ترتبت عليها آثار كثيرة في التاريخ ولكنها لا يحكمها سنّة تاريخية ، تحكمها قوانين فسلجية ، تحكمها قوانين الحياة التي فرضت أن يموت أبو طالب (رضوان الله عليه) وأن تموت خديجة (ع) في ذلك الوقت المحدد ، هذه الحادثة تدخل في نطاق صلاحيات المؤرخين ولكن الذي يتحكم في هذه الحادثة هي قوانين فسلجة جسم أبي طالب وجسم خديجة ، قوانين الحياة التي تفرض المرض والشيخوخة ضمن شروط معينة وظروف معينة. حياة عثمان بن عفان ، طول عمر الخليفة الثالث هذا حادثة تاريخية الخليفة الثالث ناهز الثمانين ، طبعا هذه الحادثة التاريخية كان لها أثر عظيم في تاريخ الاسلام ، لو قدر لهذا الخليفة أن يموت موتا طبيعيا وفقا لقوانينه الفسلجية قبل يوم الثورة كان من الممكن أن تتغير

٨٧

كثير من معالم التاريخ ، كان من المحتمل أن يأتي الامام أمير المؤمنين الى الخلافة بدون تناقضات وبدون ضجيج وبدون خلاف لكن قوانين فسلجة جسم عثمان بن عفان اقتضت أن يمتد به العمر الى أن يقتل من قبل الثائرين عليه من المسلمين هذه حادثة تاريخية ، أعني أنها تدخل في اهتمامات المؤرخين ولها بعد تاريخي أيضا لعبت دورا سلبا أو إيجابا في تكييف الأحداث التاريخية الاخرى ، ولكنها لا تتحكم فيها سنن التاريخ ، ان الذي يتحكم في ذلك قوانين بنية جسم عثمان بن عفان ، قوانين الحياة وقوانين جسم الانسان التي أعطت لعثمان بن عفان عمرا طبيعيا ناهز الثمانين. مواقف عثمان بن عفان تصرفاته الاجتماعية تدخل في نطاق سنن التاريخ ، ولكن طول عمر عثمان بن عفان مسألة أخرى ، مسألة حياتية أو مسألة فسلجية أو مسألة فيزيائية وليست مسألة تتحكم فيها سنن التاريخ.

اذن سنن التاريخ لا تتحكم على كل الساحة التاريخية ، لا تتحكم على كل القضايا التي يدرجها الطبري في تاريخه بل على ميدان معين من هذه الساحات يأتي الحديث ان شاء الله عنها.

٨٨

الدرس السادس

يوم الأربعاء ٤ / ج ٢ / ١٣٩٩ ه‍

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

وأفضل الصلوات على سيد الخلق محمد وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين

قلنا إن الساحة التاريخية ، ساحة اهتمامات المؤرخين لا تستوعبها سنن التاريخ لان هذه الساحة تشتمل على ظواهر كونية وطبيعية وفيزيائية وحياتية وفسلجية أيضا. هذه الظواهر تحكمها قوانينها النوعية على الرغم من أن بعض هذه الظواهر ذات أهمية بالناظور التاريخي ، من منظار المؤرخين تعتبر هذه حوادث ذات أهمية ، لها بعد زمني في امتداد وتيار الحوادث التاريخية ولكنها مع هذا لا تحكمها سنن التاريخ بل تحكمها سننها الخاصة. سنن التاريخ تحكم ميدانا معينا من الساحة التاريخية ، هذا الميدان يشتمل على ظواهر متميزة تميزا نوعيا عن سائر الظواهر الكونية والطبيعية وباعتبار هذا التميز النوعي استحقت سننا

٨٩

متميزة أيضا تميزا نوعيا عن سنن بقية الساحات الكونية.

المميز العام للظواهر التي تدخل في نطاق سنن التاريخ هو أن هذه الظواهر تحمل علاقة جديدة لم تكن موجودة في سائر الظواهر الأخرى الكونية والطبيعية والبشرية. الظواهر الكونية والطبيعية كلها تحمل علاقة ظاهرة بسبب ، مسبّب بسبب ، نتيجة بمقدمات ، هذه العلاقة موجودة في كل الظواهر الكونية والطبيعية ، الغليان ظاهرة طبيعية مرتبطة بظروف معينة ، بدرجة حرارة معينة ، بدرجة معينة من قرب هذا الماء من النار ، هذا الارتباط ارتباط المسبب بالسبب ، العلاقة هنا علاقة السببية ، علاقة الحاضر بالماضي ، بالظروف المسبقة المنجزة ، لكن هناك ظواهر على الساحة التاريخية تحمل علاقة من نمط آخر وهي علاقة ظاهرة بهدف ، علاقة نشاط بغاية أو ما يسميه الفلاسفة بالعلة الغائية ، تمييزا عن العلة الفاعلية ، هذه العلاقة علاقة جديدة متميزة ، غليان الماء بالحرارة ، يحمل علاقة مع سببه مع ماضيه لكن لا يحمل علاقة مع غاية ومع هدف ما لم يتحول الى فعل انساني والى جهد بشري بينما العمل الانساني الهادف يحتوي على علاقة لا فقط مع السبب ، لا فقط مع الماضي ، بل مع الغاية التي هي غير موجودة حين

٩٠

انجاز هذا العمل ، وانما يترقب وجودها. أي العلاقة هنا علاقة مع المستقبل لا مع الماضي ، الغاية دائما تمثل المستقبل بالنسبة الى العمل ، بينما السبب يمثل الماضي بالنسبة الى هذا العمل.

فالعلاقة التي يتميز بها العمل التاريخي ، العمل الذي تحكمه سنن التاريخ هو انه عمل هادف ، عمل يرتبط بعلة غائية سواءً كانت هذه الغاية صالحة أو طالحة ، نظيفة أو غير نظيفة ، على أي حال هذا يعتبر عملا هادفا ، يعتبر نشاطا تاريخيا ، يدخل في نطاق سنن التاريخ ، على هذا الأساس وهذه الغايات التي يرتبط بها هذا العمل الهادف المسئول ، هذه الغايات حيث انها مستقبلية بالنسبة الى العمل ، فهي تؤثر من خلال وجودها الذهني في العامل لا محالة ، لانها بوجودها الخارجي ، بوجودها الواقعي ، طموح وتطلع الى المستقبل ، ليست موجودة وجودا حقيقيا وانما تؤثر من خلال وجودها الذهني في الفاعل.

اذن فالمستقبل أو الهدف الذي يشكل الغاية للنشاط التاريخي يؤثر في تحريك هذا النشاط وفي بلورة هذا النشاط من خلال الوجود الذهني أي من خلال الفكر الذي يتمثل فيه الوجود الذهني للغاية ضمن شروط ومواصفات ،

٩١

حينئذ يؤثر في ايجاد هذا النشاط ، اذن حصلنا الآن على مميز نوعي للعمل التاريخي لظاهرة على الساحة التاريخية هذا المميز غير موجود بالنسبة الى سائر الظواهر الأخرى على ساحات الطبيعة المختلفة ، هذا المميز ظهور علاقة فعل بغاية ، نشاط بهدف بالتعبير بالتفسير الفلسفي ، ظهور دور العلة الغائية ، كون هذا الفعل متطلعا الى المستقبل ، كون المستقبل محركا لهذا الفعل من خلال الوجود الذهني الذي يرسم للفاعل غايته أي من خلال الفكر اذن هذا هو في الحقيقة دائرة السنن النوعية للتاريخ. السنن النوعية للتاريخ موضوعها ذلك الجزء من الساحة التاريخية الذي يمثل عملا له غاية ، عملا يحمل علاقة اضافية الى العلاقات الموجودة في الظواهر الطبيعية وهي العلاقة بالغاية والهدف ، بالعلة الغائية.

لكن ينبغي هنا أيضا انه ليس كل عمل له غاية فهو عمل تاريخي ، هو عمل تجري عليه سنن التاريخ بل يوجد بعد ثالث لا بد أن يتوفر لهذا العمل لكي يكون عملا تاريخيا أي عملا تحكمه سنن التاريخ. البعد الأول كان هو «السبب» والبعد الثاني كان هو الغاية «الهدف».

لا بد من بعد ثالث لكي يكون هذا العمل داخلا في

٩٢

نطاق سنن التاريخ ، هذا البعد الثالث هو أن يكون لهذا العمل أرضية تتجاوز ذات العامل ، أن تكون أرضية العمل هي عبارة عن المجتمع ، العمل الذي يخلق موجا ، هذا الموج يتعدى الفاعل نفسه ، ويكون أرضيته الجماعة التي يكون هذا الفرد جزءا منها ، طبعا الأمواج على اختلاف درجاتها هناك موج محدود ، هناك موج كبير. لكن العمل لا يكون عملا تاريخيا الا اذا كان له موج يتعدى حدود العامل الفردي ، قد يأكل الفرد اذا جاع ، قد يشرب اذا عطش ، قد ينام اذا أحس بحاجته الى النوم ، لكن هذه الاعمال على الرغم من انها أعمال هادفة أيضا ، تريد أن تحقق غايات ولكنها أعمال لا يمتد موجها أكثر من العامل خلافا لعمل يقوم به الانسان من خلال نشاط اجتماعي وعلاقات متبادلة مع أفراد جماعته. التاجر حينما يعمل عملا تجاريا. القائد حينما يعمل عملا حربيا. السياسي حينما يمارس عملا سياسيا. المفكر حينما يتبنى وجهة نظر في الكون والحياة. هذه الأعمال لها موج يتعدى شخص العامل ، هذا الموج يتخذ من المجتمع أرضية له ، ويمكننا أيضا أن نستعين بمصطلحات الفلاسفة فنقول : المجتمع يشكل علة مادية لهذا العمل ، نتذكر من مصطلحات

٩٣

الفلاسفة التمييز الأرسطي بين العلة الفاعلية والعلة الغائية والعلة المادية ، هنا نستعين بهذه المصطلحات لتوضيح الفكرة. يعني المجتمع يشكل علة مادية لهذا العمل ، أرضية العمل ، في حالة من هذا القبيل يعتبر هذا العمل عملا تاريخيا ، يعتبر عملا للأمة وللمجتمع وان كان الفاعل المباشر في جملة من الأحيان لا يكون الا فرد واحد أو عدد من الأفراد ولكن باعتبار الموج يعتبر عمل المجتمع ، اذن العمل التاريخي الذي تحكمه سنن التاريخ هو العمل الذي يكون حاملا لعلاقة مع هدف وغاية ، ويكون في نفس الوقت ذا أرضية أوسع من حدود الفرد ، ذا موج يتخذ من المجتمع علة مادية له وبهذا يكون عمل المجتمع.

وفي القرآن الكريم نجد تمييزا بين عمل الفرد وعمل المجتمع ونلاحظ في القرآن الكريم انه من خلال استعراضه للكتب الغيبية الاحصائية تحدث القرآن عن كتاب للفرد وتحدث عن كتاب للامة ، عن كتاب يحصي على الفرد عمله ، وعن كتاب يحصي على الامة عملها ، وهذا تمييز دقيق بين العمل الفردي الذي ينسب الى الفرد وبين عمل الامة ، اي العمل الذي له ثلاثة ابعاد ، والعمل الذي له بعدان ، العمل الذي له بعدان لا يدخل الا في كتاب الفرد واما

٩٤

العمل الذي له ثلاثة ابعاد فهو يدخل في الكتابين معا باعتبار البعدين في كتاب الفرد ويحاسب الفرد عليه وباعتبار البعد الثالث يدخل في كتاب الأمة ويعرض على الامة وتحاسب الامّة على أساسه. لاحظوا قوله سبحانه وتعالى (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١).

هنا القرآن الكريم يتحدث عن كتاب للامة ، أمة جاثية بين يدي ربها ويقدم لها كتابها ، يقدم لها سجل نشاطها وحياتها التي مارستها كأمة ، هذا العمل الهادف ذو الابعاد الثلاثة يحتويه هذا الكتاب ، وهذا الكتاب ـ انظروا الى العبارة ـ يقول (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذا الكتاب ليس تاريخ الطبري لا يسجل الوقائع الطبيعية ، الفسلجيّة ، الفيزيائية إنّما يحدد ويستنسخ ما كانوا يعملون كأمة. ما كانت الامة تعمله كأنه يعني العمل الهادف ذو الموج بحيث ينسب للامة وتكون الامة مدعوة الى كتابها. هذا العمل هو الذي يحويه هذا الكتاب. بينما في آية اخرى نلاحظ قوله سبحانه وتعالى (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي

__________________

(١) سورة الجاثية : الآية (٢٨ ـ ٢٩).

٩٥

عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ، اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(١) هنا الموقف يختلف ، هنا كل انسان مرهون بكتابه ، لكل انسان كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من اعماله من حسناته وسيئاته من هفواته وسقطاته من صعوده ونزوله الا وهو محصي في ذلك الكتاب ، الكتاب الذي كتب بعلم من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الارض والسماء. كل انسان قد يفكر ان بامكانه ان يخفي نقطة ضعف ، ان يخفي ذنبا ، ان يخفي سيئة عن جيرانه عن قومه عن امته ، عن اولاده ، قد يحاول ان يخفي حتى عن نفسه ، يخدع نفسه ويرى نفسه انه لم يرتكب سيئة ولكن هذا الكتاب الحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ، في ذلك اليوم يقال انت حاسب نفسك لان هذه الاعمال التي مارستها سوف تواجهها في هذا الكتاب ان تحكم على نفسك بموازين ومقاييس الحق في يوم القيامة في ذلك اليوم لا يمكن لاي انسان ان يخفي شيئا عن الموقف ، عن الله سبحانه وتعالى ، عن نفسه

هذا كتاب الفرد وذاك كتاب الامة. هناك كتاب لامة جاثية بين يدي ربها ، وهنا لكل فرد كتاب. هذا التمييز النوعي القرآني بين كتاب الامة وكتاب الفرد هو تعبير آخر عما

__________________

(١) سورة الاسراء : الآية (١٣).

٩٦

قلناه من ان العمل التاريخي هو ذاك العمل الذي يتمثل في كتاب الامة. العمل الذي له ابعاد ثلاثة. بل ان الذي يستظهر ويلاحظ من عدد آخر من الآيات القرآنية الكريمة انه ليس فقط يوجد كتاب للفرد ويوجد كتاب للامة بل يوجد احضار للفرد ويوجد احضار للامة ، هناك احضاران بين يدي الله سبحانه وتعالى الاحضار الفردي يأتي فيه كل انسان فردا فردا ، لا يملك ناصرا ولا معينا ، لا يملك شيئا يستعين به في ذلك الموقف الا العمل الصالح والقلب السليم والايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، هذا هو الاحضار الفردي. قال الله تعالى (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً)(١) هذا الاحضار هو احضار فردي بين يدي الله تعالى.

وهناك احضار آخر ، احضار للفرد في وسط الجماعة ، احضار للامة بين يدي الله سبحانه وتعالى كما يوجد هناك سجلان ، كذلك يوجد احضاران كما تقدم ، ترى كل امة جاثية كل امة تدعى الى كتابها ، ذاك احضار للجماعة ، والمستأنس به من سياق الآيات الكريمة ان هذا الاحضار

__________________

(١) سورة مريم آية (٩٥).

٩٧

الثاني يكون من اجل اعادة العلاقات الى نصابها الحق ، العلاقات من داخل كل امة قد تكون غير قائمة على اساس الحق ، قد يكون الانسان المستضعف فيها جديرا بأن يكون في اعلى الامة ، هذه الامة تعاد فيها العلاقات الى نصابها الحق. هذا هو الشيء الذي سماه القرآن الكريم بيوم التغابن ، كيف يحصل التغابن؟ ... يحصل التغابن عن طريق اجتماع المجموعة ثم كل انسان كان مغبونا في موقعه في الامة ، في وجوده في الامة ، بقدر ما كان مغبونا في موقعه في الامة يأخذ حقه ، يأخذ حقه يوم لا كلمة الا للحق.

اسمعوا قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ)(١). اذن فهناك سجلان : هناك سجل لعمل الفرد ، وهناك سجل لعمل الامة وعمل الامة هو عبارة عما قلناه من العمل الذي يكون له ثلاث ابعاد ، بعد من ناحية العامل ما يسميه ارسطو ب «العلة الفاعلية» ، بعد من ناحية الهدف ما يسميه ارسطو ب «العلة الغائية» ، بعد من ناحية الارضية وامتداد الموج ما يسمونه ب «العلة المادية». هذا العمل ذو الابعاد الثلاثة هو موضوع سنن التاريخ ، هذا هو عمل المجتمع.

__________________

(١) سورة التغابن : الآية (٩).

٩٨

لكن لا ينبغي ان يوهم ذلك ما توهمه عدد من المفكرين الفلاسفة الاوروبيين من ان المجتمع كائن عملاق له وجود وحدوي عضوي متميز عن سائر الافراد وكل فرد فرد ليس الا بمثابة الخلية في هذا العملاق الكبير ، هكذا تصور هيجل مثلا وجملة من الفلاسفة الاوروبيين ، تصوروا عمل المجتمع بهذا النحو ، ارادوا أن يميزوا بين عمل المجتمع وعمل الفرد فقالوا بأنه يوجد عندنا كائن عضوي واحد عملاق هذا الكائن الواحد هو في الحقيقة يلف في احشائه كل الافراد تندمج في كيانه كل الافراد ، كل فرد يشكل خلية في هذا العملاق الواحد ، وهو يتخذ من كل فرد نافذة على الواقع على العالم بقدر ما يمكن ان يجسد في هذا الفرد من قابلياته هو ، ومن ابداعه هو ، اذن كل قابلية وكل ابداع ، وكل فكرة هو قابلية ذلك العملاق وابداع ذلك العملاق وفكر ذلك العملاق الطاغية وكل فرد انما هو تعبير عن نافذة من النوافذ التي يعبر عنها ذلك العملاق الهيجلي.

هذا التصور اعتقد به جملة من الفلاسفة الاوروبيين تمييزا لعمل المجتمع عن عمل الفرد الا ان هذا التصور ليس صحيحا ، ولسنا بحاجة اليه ، الى الاغراق في الخيال الى هذه الدرجة لكي ننحت هذا العملاق الاسطوري من

٩٩

هؤلاء الافراد ، ليس عندنا الا الافراد الا زيد وبكر وخالد ، ليس عندنا ذلك العملاق المستتر من ورائهم ، طبعا مناقشة هيجل من الزاوية الفلسفية يخرج من حدود هذا البحث ، متروك الى بحث آخر لان هذا التفسير الهيجلي للمجتمع مرتبط بحسب الحقيقة بكامل الهيكل النظري لفلسفته ، الا ان الشيء الذي نريد أن نعرفه ، نعرف موقع اقدامنا من هذا التصور ، هذا التصور ليس صحيحا ، نحن لسنا بحاجة الى مثل هذا الافتراض الاسطوري ، لكي نميز بين عمل الفرد وعمل المجتمع ، التمييز بين عمل الفرد وعمل المجتمع يتم من خلال ما اوضحناه من البعد الثالث. عمل الفرد هو العمل الذي يكون له بعد ان فان اكتسب بعدا ثالثا كان عمل المجتمع ، باعتبار ان المجتمع يشكل أرضية له ، يشكل علة مادية له. يدخل حينئذ في سجل كتاب الامة الجاثية بين يدي ربها. هذا هو ميزان الفرق بين العملين.

اذن الشيء الذي نستخلصه مما تقدم ان موضوع السنن التاريخية هو العمل الهادف الذي يشكل أرضية ويتخذ من المجتمع أو الأمة أرضية له على اختلاف سعة الموجة وضيق الموجة اتساعها وضيقها هذا هو موضوع السنن التاريخية

١٠٠