المدرسة القرآنيّة

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المدرسة القرآنيّة

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٩

وبهذا صحّ القول بأن المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس لحركة التاريخ ، والبناء الاجتماعي العلوي بكل ما يضم من علاقات ومن انظمة ومن افكار وتفاصيل هذا البناء العلوي في الحقيقة مرتبط بهذه القاعدة ، بالمحتوى الداخلي للانسان مرتبط بهذه القاعدة ويكون تغيره وتطوره تابعا لتغير هذه القاعدة وتطورها ، فاذا تغير الاساس تغير البناء العلوي ، واذا بقي الاساس ثابتا ، بقي البناء العلوي ثابتا.

فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للانسان والبناء الفوقي والتاريخي للمجتمع ، هذه العلاقة علاقة تبعية ، علاقة سبب بسبب ، هذه العلاقة تمثل سنة تاريخية تقدم الكلام عنها في قوله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(١). هذه الآية واضحة جدا في المفهوم الذي اعطيناه وهو ان المحتوى الداخلي للانسان ، هو القاعدة والاساس للبناء العلوي ، للحركة التاريخية ، لان الآية الكريمة تتحدث عن تغييرين : احدهما تغيير القوم (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) يعني تغيير اوضاع القوم ، شئون القوم ، الأبنية العلوية للقوم ، ظواهر القوم ، هذه لا

__________________

(١) سورة الرعد الآية ١١

١٤١

تتغير حتى يتغير ما بأنفسهم. اذن التغيير الاساس هو تغيير ما بنفس القوم والتغيير النابع المترتب على ذلك هو تغيير حالة القوم ، النوعية ، التاريخية ، الاجتماعية ومن الواضح ان المقصود من تغيير ما بالانفس ، تغيير ما بأنفس القوم ، بحيث يكون المحتوى الداخلي للقوم كقوم وكأمة وكشجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين ، متغيرا ، والا تغير الفرد الواحد او الفردين او الافراد الثلاثة لا يشكل الاساس لتغير ما بالقوم ، وانما يكون تغير ما بالقوم تابعا لتغير ما بأنفسهم كقوم ، كأمة ، كشجرة مباركة تؤتي اكلها كل حين.

فالمحتوى النفسي والداخلي للامة كأمة لا لهذا الفرد او لذلك الفرد هو الذي يعتبر أساسا وقاعدة للتغييرات في البناء العلوي للحركة التاريخية كلها.

والاسلام والقرآن الكريم يؤمن بأن العمليتين يجب ان تسيرا جنبا الى جنب ، عملية صنع الانسان لمحتواه الداخلي وبناء الانسان لنفسه ، لفكره ، لارادته ، لطموحاته ، هذا البناء الداخلي يجب ان يسير جنبا الى جنب مع البناء الخارجي ، مع بناء الابنية العلوية ولا يمكن ان يفترض انفكاك البناء الخارجي عن البناء الداخلي الا اذا بقي البناء الخارجي بناء مهزوزا متداعيا.

١٤٢

ولهذا سمى الاسلام عملية بناء المحتوى الداخلي اذا اتجهت اتجاها صالحا سمّاها «بالجهاد الاكبر». وسمى عملية البناء الخارجي اذا اتجهت اتجاها صالحا بعملية «الجهاد الاصغر» وربط الجهاد الاصغر بالجهاد الاكبر ، واعتبر ان الجهاد الاصغر اذا فصل عن الجهاد الاكبر فقد محتواه وفقد مضمونه ، وفقد قدرته على التغيير الحقيقي على الساحة التاريخية والاجتماعية.

اذن هاتان العمليتان يجب ان تسيرا جنبا الى جنب. واذا انفكت احداهما عن الأخرى فقدت حقيقتها ومحتواها ، وسمى الاسلام العملية الأولى ، عملية بناء المحتوى الداخلي بالجهاد الأكبر تأكيدا على الصفة الأساسية للمحتوى الداخلي وتوضيحا لهذه الحقيقة ، حقيقة ان المحتوى الداخلي للانسان هو الأساس ، ولهذا سمي بالجهاد الأكبر. فاذا بقي الجهاد الأصغر منفصلا عن الجهاد الأكبر ، حينئذ لا يحقق ذلك في الحقيقة أي مضمون تغييري صالح.

القرآن الكريم يعرض لحالة من حالات انفصال عملية البناء الخارجي عن عملية البناء الداخلي قال سبحانه

١٤٣

وتعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ. وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)(١) يريد ان يقول بان الانسان اذا لم ينفذ بعملية التغيير الى قلبه ، الى اعماق روحه ، اذا لم يبن نفسه بناء صالحا لا يمكنه ابدا ان يطرح الكلمات الصالحة ، الكلمات الصالحة انما يمكن ان تتحول الى بناء صالح في المجتمع اذا نبعت عن قلب يعمر بتلك القيم التي تدل عليها تلك الكلمات ، والا فتبقى الكلمات مجرد الفاظ جوفاء دون ان يكون لها مضمون ومحتوى.

فمسألة القلب هي التي تعطي للكلمات معناها ، للشعارات ابعادها ولعملية البناء الخارجي اهدافها ومسارها.

الى هنا عرفنا ان الاساس في حركة التاريخ هو المحتوى الداخلي للانسان ، وهذا المحتوى الداخلي للانسان يشكل القاعدة. الآن نتساءل :

ما هو الأساس في هذا المحتوى الداخلي نفسه؟ ما هي

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٠٥.

١٤٤

نقطة البدء في بناء هذا المحتوى الداخلي للانسان؟ وما هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للانسانية؟ المحور الذي يستقطب عملية البناء الداخلي للإنسانية هو المثل الاعلى.

عرفنا ان المحتوى الداخلي للانسان يجسد الغايات التي تحرك التاريخ ، يجسدها من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الارادة بالتفكير. وهذه الغايات التي تحرك التاريخ يحددها المثل الاعلى. فانها جميعا تنبثق عن وجهة نظر رئيسية الى مثل اعلى للانسان في حياته ، للجماعة البشرية في حياتها. وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية ، وينبثق عنه هذا الهدف الجزئي وذلك الهدف الجزئي ، فالغايات بنفسها محركات للتاريخ وهي بدورها نتاج لقاعدة اعمق منها في المحتوى الداخلي للانسان وهو المثل الأعلى الذي تتمحور فيه كل تلك الغايات وتعود اليه كل تلك الاهداف.

فبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحا وعاليا وممتدا تكون الغايات صالحة وممتدة ، وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدودا او منخفضا تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة ايضا.

١٤٥

اذن المثل الاعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية ، وهذا المثل الاعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامة الى الحياة والكون ، يتحدد من قبل كل جماعة بشرية على اساس وجهة نظرها العامة نحو الحياة والكون ، على ضوء ذلك تحدد مثلها الاعلى.

ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع ذلك المثل الاعلى ومع وجهة نظرها الى الحياة والكون تحقق ارادتها للسير نحو هذا المثل ، وفي طريق هذا المثل.

اذن هذا المثل الاعلى هو في الحقيقة ايضا يتجسد من خلال رؤية فكرية ، ومن خلال طاقة روحية تزحف بالانسان في طريقه ، وكل جماعة اختارت مثلها الاعلى ، فقد اختارت في الحقيقة سبيلها وطريقها ومنعطفات هذا السبيل وهذا الطريق.

كما رأينا ان الحركة التاريخية تتميّز عن اي حركة أخرى في الكون بانها حركة غائية ، حركة هادفة ، كذلك تتميز وتتمايز الحركات التاريخية انفسها بعضها عن بعض بمثلها العليا. فلكل حركة تاريخية مثلها الاعلى ، وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد الغايات والاهداف وهذه الاهداف

١٤٦

والغايات هي التي تحدد النشاطات والتحركات ضمن مسار ذلك المثل الاعلى.

والقرآن الكريم والتعبير الديني يطلق على المثل الاعلى في جملة من الحالات اسم الإله ، باعتبار ان المثل الاعلى هو القائد الآمر المطاع الموجّه ، وهذه صفات يراها القرآن للإله ، ولهذا يعبر عن كل من يكون مثلا اعلى ، كل ما يحتل هذا المركز مركز المثل الاعلى يعبر عنه بالإله لانه هو الذي يصنع مسار التاريخ. حتى ورد في قوله سبحانه وتعالى (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ)(١) عبر حتى عن الهوى بانه إله حينما يتصاعد هذا الهوى تصاعدا مصطنعا فيصبح هو المثل الاعلى وهو الغاية القصوى لهذا الفرد او لذاك. فالمثل العليا بحسب التعبير القرآني والديني هي آلهة في الحقيقة لانها هي المعبودة حقا وهي الآمرة والناهية حقا وهي المحركة حقا ، فهي آلهة في المفهوم الديني والاجتماعي.

وهذه المثل العليا التي تتبناها الجماعات البشرية على ثلاثة اقسام :

__________________

(١) سورة الفرقان الآية ٤٣.

١٤٧

القسم الأول : المثل الاعلى الذي يستمد تصوره من الواقع نفسه ، ويكون منتزعا من واقع ما تعيشه الجماعة البشرية من ظروف وملابسات ، أي ان الوجود الذهني الذي صاغ المستقبل هنا لم يستطع ان يرتفع على هذا الواقع وان يتجاوز هذا الواقع بل انتزع مثله الاعلى من هذا الواقع بحدوده ، بقيوده ، بشئونه.

وحينما يكون المثل الاعلى منتزعا عن واقع الجماعة بحدودها وقيودها وشئونها يصبح حالة تكرارية ، يصبح بتعبير آخر محاولة لتجميد هذا الواقع وحمله الى المستقبل ، بدلا عن التطلع الى المستقبل يكون في الحقيقة تجميدا لهذا الواقع وتحويلا لهذا الواقع من حالة نسبية ومن امر محدود الى امر مطلق لان الانسان يعترضه هدفا ومثلا اعلى وحينما يتحول هذا الواقع من امر محدود الى هدف مطلق ، الى حقيقة مطلقة لا يتصور الانسان شيئا وراءها ، حينما يتحول الى ذلك ، سوف تكون حركة التاريخ حركة تكرارية سوف يكون المستقبل تكرارا للواقع وحيث ان هذا الواقع هو نفسه كان تكرارا لحالة سابقة ، ولهذا سوف يكون المستقبل تكرارا للواقع وللماضي.

١٤٨

هذا النوع من الآلهة يعتمد على تجميد الواقع وتحويل ظروفه النسبية الى ظروف مطلقة ، لكي لا تستطيع الجماعة البشرية ان تتجاوز الواقع وان ترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع.

تبني هذا النوع من المثل العليا له أحد سببين :

السبب الاول الالفة والعادة والخمول والضياع ، هذا سبب نفسي ، الألفة والخمول والضياع سبب نفسي اذا انتشرت هذه الحالة النفسية : حالة الخمول والركود والالفة والضياع في قوم ، في مجتمع حينئذ يتجمد ذلك المجتمع ، لانه سوف يصنع إلهه من واقعه ، سوف يحول هذا الواقع النسبي المحدود الذي يعيشه الى حقيقة مطلقة ، الى مثل اعلى الى هدف لا يرى وراءه شيئا.

وهذا في الحقيقة هو ما عرضه القرآن الكريم في كثير من الآيات التي تحدثت عن المجتمعات التي واجهت الانبياء حينما جاء الأنبياء الى تلك المجتمعات بمثل عليا حقيقة ترتفع عن الواقع وتريد ان تحرك هذا الواقع وتنتزعه من حدوده النسبية الى وضع آخر ، واجه هؤلاء الانبياء مجتمعات سادتها حالة الالفة والعادة والتميع فكان هذا

١٤٩

المجتمع يرد على دعوة الانبياء ويقول باننا وجدنا آباءنا على هذه السنة ، وجدنا آباءنا على هذه الطريقة ونحن متمسكون بمثلهم الاعلى ، سيطرة الواقع على اذهانهم وتغلغل الحس في طموحاتهم بلغ الى درجة تحول هذا الإنسان من خلالها الى انسان حسي لا الى انسان مفكر ، الى انسان يكون ابن يومه دائما ، ابن واقعه دائما لا أبا يومه ولا أبا واقعه ، ولهذا لا يستطيع ان يرتفع على هذا الواقع.

استمعوا الى القرآن الكريم وهو يقول : (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١).

(قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(٢). (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ)(٣) ، (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(٤) ،(قالَتْ رُسُلُهُمْ

__________________

(١) سورة البقرة الآية (١٧٠).

(٢) سورة المائدة الآية (١٠٤).

(٣) سورة يونس الآية (٧٨).

(٤) سورة هود الآية (٦٢).

١٥٠

أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(١)(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(٢)

في كل هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم السبب الاول لتبني المجتمع هذا المثل الاعلى المنخفض. هؤلاء بحكم الالفة والعادة وبحكم التميّع والفراغ وجدوا سنة قائمة ، وجدوا وضعا قائما فلم يسمحوا لانفسهم بأن يتجاوزوه ، جسدوه كمثل اعلى وعارضوا به دعوات الانبياء على مر التاريخ ، هذا هو السبب الاول لتبني هذا المثل الاعلى المنخفض.

والسبب الثاني لتبني هذا المثل الاعلى المنخفض هو التسلط الفرعوني على مرّ التاريخ ، الفراعنة على مر التاريخ حينما يحتلون مراكزهم يجدون في أي تطلع الى المستقبل ،

__________________

(١) سورة إبراهيم : الآية (١٠).

(٢) سورة الزخرف الآية (٢٢).

١٥١

وفي أي تجاوز للواقع الذي سيطروا عليه ، يجدون في ذلك زعزعة لوجودهم وهزّا لمراكزهم.

من هنا من مصلحة فرعون على مرّ التاريخ ان يغمض عيون الناس على هذا الواقع ، ان يحول الواقع الذي يعيشه مع الناس الى مطلق ، الى إله ، الى مثل أعلى لا يمكن تجاوزه ، يحاول ان يحبس وان يضع كل الامة في اطار نظرته هو ، في اطار وجوده هو لكي لا يمكن لهذه الامة ان تفتش عن مثل اعلى ينقلها من الحاضر الى المستقبل من واقعه الى طموح آخر اكبر من هذا الواقع. هنا السبب اجتماعي لا نفسي ، السبب خارجي لا داخلي.

وهذا ايضا ما عرضه القرآن الكريم (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي)(١)(قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ)(٢)

هنا فرعون يقول ما أريكم الا ما ارى يريد ان يضع الناس الذين يعبدونه كلهم في اطار رؤيته في اطار نظرته ، يحول هذه النظرة وهذا الواقع ، الى مطلق لا يمكن تجاوزه هنا الذي يجعل المجتمع يتبنى مثلا اعلى مستمدا من

__________________

(١) سورة القصص الآية ٣٨

(٢) سورة الغافر الآية ٢٩

١٥٢

الواقع هو التسلط الفرعوني الذي يرى في تجاوز هذا المثل الأعلى خطرا عليه وعلى وجوده.

قال الله سبحانه وتعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ. فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ)(١) نحن غير مستعدين ان نؤمن بهذا المثل الاعلى الذي جاء به موسى لأنه سوف يزعزع عبادة قوم موسى وهارون لهم. اذن هذا التجميد ضمن اطار الواقع الذي تعيشه الجماعة أي جماعة بشرية ينشأ من حرص أولئك الذين تسلطوا على هذه الجماعة على أن يضمنوا وجودهم ويضمنوا الواقع الذي هم فيه وهم بناته هذا هو السبب الثاني الذي عرضه القرآن الكريم. والقرآن الكريم يسمي هذا النوع من القوى التي تحاول ان تحول هذا الواقع المحدود الى مطلق وتحصر الجماعة البشرية في أطار هذا المحدود ، يسمي هذا بالطاغوت. قال سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا

__________________

(١) سورة المؤمنون : الآية (٤٥ ـ ٤٧).

١٥٣

الْأَلْبابِ)(١). لاحظوا ذكر صفة اساسية مميزة لمن اجتنب عبادة الطاغوت.

ما هي الصفة الأساسية المميزة التي ذكرها القرآن لمن اجتنب عبادة الطاغوت؟

قال (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(٢).

يعني لم يجعلوا هناك قيدا على ذهنهم ، لم يجعلوا اطارا محدودا لا يمكنهم ان يتجاوزوه ، جعلوا الحقيقة مدار همّهم جعلوا الحقيقة هدفهم ولهذا يستمعون القول فيتبعون أحسنه يعني هم في حالة طموح ، في حالة تطلع وموضوعية في حالة تسمح لهم بان يجدوا الحقيقة. بينما لو كانوا يعبدون الطاغوت ، حينئذ سوف يكونون في اطار هذا الواقع الذي يريده الطاغوت ، سوف لن يستطيعوا أن يستمعوا الى القول فيتبعون أحسنه ، وانما يتبعون فقط ما يراد لهم ان يتبعوه. هذا هو السبب الثاني لا تباع وتبني هذه المثل.

__________________

(١) سورة الزمر الآية (١٧ ـ ١٨).

(٢) سورة الزمر الآية (١٧ ـ ١٨).

١٥٤

اذن خلاصة ما مرّ بنا حتى الآن : أن التاريخ يتحرك من خلال البناء الداخلي للانسان ، الذي يصنع للانسان غاياته هذه الغايات تبنى على أساس المثل الاعلى الذي تنبثق عنه تلك الغايات. لكل مجتمع مثل أعلى ولكل مثل أعلى مسار ومسيرة ، وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد في تلك المسيرة معالم الطريق وهذا المثل الاعلى على ثلاثة أقسام حتى الآن استعرضنا القسم الأول من المثل العليا وهو المثل الاعلى الذي ينبثق تصوره عن الواقع ويكون منتزعا عن الواقع الذي تعيشه الجماعة وهذا مثل أعلى تكراري ، وتكون الحركة التاريخية في ظل هذا المثل الاعلى حركة تكرارية ، أخذ الحاضر لكي يكون هو المستقبل وقلنا بان تبني هذا النوع من المثل الاعلى يقود الى أحد سببين بحسب تصورات القرآن الكريم :

السبب الأول سبب نفسي وهو الألفة والعادة والضياع.

والسبب الآخر سبب خارجي وهو تسلط الفراعنة والطواغيت على مرّ التاريخ.

١٥٥
١٥٦

الدرس العاشر

يوم الأربعاء ١٨ / ج ٢ / ١٣٨٩ ه

اعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

وافضل الصلوات على سيد الخلق محمد وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين

هذه المثل العليا المنخفضة المنتزعة عن الواقع والتي تحدثنا عنها في الأمس في كثير من الاحيان تتخذ طابع الدين ، ويسبغ عليها هذا الطابع من اجل اعطائها قدسية تحافظ على بقائها واستمرارها على الساحة ، كما رأينا في الآيات الكريمة المتقدمة ، كيف ان المجتمعات التي رفضت دعوة الانبياء كثيرا ما كانت تصر على التمسك بعبادة الآباء وبدين الآباء بالمثل الاعلى المعبود للآباء ، بل ان الحقيقة أن كل مثل اعلى من هذه المثل العليا المنخفضة لا ينفك عن الثوب الديني سواء أبرز بشكل صريح او لم يبرز لان المثل الاعلى دائما يحتل مركز الإله بحسب التعبير القرآني والاسلامي ، ودائما تستبطن علاقة الامة بمثلها الاعلى نوعا من العبادة ، من العبادة لهذا المثل

١٥٧

الاعلى وليس الدين بشكله العام الا علاقة عابد بمعبود.

اذن المثل الاعلى لا ينفك عن الثوب الديني سواء كان ثوبا دينيا صريحا ، او ثوبا دينيا مستترا مبرقعا تحت شعارات اخرى فهو في جوهره دين وفي جوهره عبادة وانسياق. الا ان هذه الاديان التي تفرزها هذه المثل العليا المنخفضة اديان محدودة تبعا لمحدودية نفس هذه المثل ، لمّا كانت هذه المثل مثلا منخفضة ومحدودة قد حولت بصورة مصطنعة الى مطلقات والا هي في الحقيقة ليست الا تصورات جزئية عبر الطريق الطويل الطويل للانسان ، الا أنها حولت الى مطلقات بصورة مصطنعة.

اذن هذه المحدودية في المثل تعكس الاديان التي تفرزها ، فالاديان التي تفرزها هذه المثل او بالتعبير الأحرى الاديان التي يفرزها الانسان من خلال صنع هذه المثل ، ومن خلال عملقة هذه المثل وتطويرها من تصورات الى مطلقات ، هذه الاديان تكون اديانا محدودة ضئيلة ، أديان التجزئة ، هذه الأديان هي أديان التجزئة في مقابل دين التوحيد الذي سوف نتكلم عنه حينما نتحدث عن مثله الأعلى القادر على استيعاب البشرية بابعادها ، هذه الأديان

١٥٨

أديان التجزئة هذه الآلهة ، الآلهة التي يفرزها الانسان بين حين وحين هي التي يعبر عنها القرآن الكريم بقوله (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ)(١) هذا الإله الذي يفرزه الانسان ، هذا الدين الذي يصنعه الانسان ، وهذا المثل الاعلى الذي هو نتاج بشري ، هذا لا يمكن ان يكون هو الدين القيم ، لا يمكن ان يكون هو المصعّد الحقيقي للمسيرة البشرية ، لان المسيرة البشرية لا يمكن ان تخلق إلهها بيدها.

المجتمعات والامم التي تعيش هذا المثل الاعلى المنخفض المستمد من واقع الحياة ، قلنا بأنها تعيش حالة تكرارية يعني ان حركة التاريخ تصبح حركة تماثلية وتكرارية وهذه الأمة تأخذ بيدها ماضيها الى الحاضر ، وحاضرها الى المستقبل ليس لها مستقبل في الحقيقة وانما مستقبلها هو ماضيها.

ومن هنا اذا تقدمنا خطوة في تحليل ومراقبة ومشاهدة اوضاع هذه الامة التي تتمسك بمثل من هذا القبيل ، اذا تقدمنا خطوة الى الامام نجد ان هذه الامة بالتدريج سوف تفقد ولاءها لهذا المثل ايضا ، لن تظل متمسكة بهذا المثل

__________________

(١) سورة النجم الآية ٢٣.

١٥٩

لان هذا المثل بعد ان يفقد فاعليته وقدرته على العطاء ، بعد ان يصبح نسخة من الواقع ، بعد ان يصبح أمرا مفروضا ومحسوسا وملموسا ، بعد ان يصبح غير قادر على تطوير البشرية وتصعيدها في مسارها الطويل ، تفقد هذه البشرية ، هذه الجماعة تفقد بالتدريج ولاءها لهذا المثل ومعنى انها تفقد ولاءها لهذا المثل يعني ان القاعدة الجماهيرية الواسعة في هذه الامة سوف تتمزق وحدتها لأن وحدة هذه القاعدة انما هي بالمثل الواحد فاذا ضاع المثل ضاعت هذه القاعدة. هذه الامة بعد ان تفقد ولاءها لهذا المثل تصاب بالتشتت ، بالتمزق ، بالتبعثر ، تكون كما وصف القرآن الكريم (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)(١) بأسهم بينهم شديد باعتبار أن التناقضات تبدأ في داخل هذه الأمة هذه الامة التي لا يجمعها مثل اعلى لا تجمعها طريقة مثلى ، لا يجمعها سبيل واحد قلوب متفرقة أهواء متشتتة ، ارواح متبعثرة ، عقول مجمدة في حالة من هذا القبيل لا تبقى امة وانما يبقى شبح امة فقط. وفي ظل هذا الشبح سوف ينصرف كل فرد في هذه الامة ينصرف الى همومه الصغيرة ، الى قضاياه

__________________

(١) سورة الحشر الآية (١٤).

١٦٠