المدرسة القرآنيّة

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المدرسة القرآنيّة

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٩

الدرس السابع

يوم الثلاثاء ١٠ / ج ١ / ١٣٩٩ ه‍

اعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

وافضل الصلوات على سيد الخلق محمد وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين

حان الأوان لكي نتعرف على الصيغ المتنوعة التي تتخذها السنة التاريخية القرآنية.

كيف يتم التعبير موضوعيا عن القانون التاريخي في القرآن الكريم؟

ما هي الاشكال التي تتخذها سنن التاريخ في مفهوم القرآن الكريم؟

هناك ثلاثة أشكال تتخذها السنة التاريخية في القرآن الكريم ، لا بد من استعراضها ومقارنتها والتدقيق في أوجه الفرق بينها.

الشكل الاول للسنة التاريخية هو شكل القضية

١٠١

الشرطية ، في هذا الشكل تتمثل السنة التاريخية في قضية شرطية تربط بين حادثتين او مجموعتين من الحوادث على الساحة التاريخية ، وتؤكد العلاقة الموضوعية بين الشرط والجزاء ، وانه متى ما تحقق الشرط تحقق الجزاء. وهذه صياغة نجدها في كثير من القوانين والسنن الطبيعية والكونية في مختلف الساحات الاخرى.

فمثلا : حينما نتحدث عن قانون طبيعي لغليان الماء ، نتحدث بلغة القضية الشرطية ، نقول بأن الماء اذا تعرض الى الحرارة وبلغت الحرارة درجة معينة مائة مثلا في مستوى معين من الضغط ، حينئذ سوف يحدث الغليان ، هذا قانون طبيعي يربط بين الشرط والجزاء ويؤكد ان حالة التعرض الى الحرارة ، ضمن مواصفات معينة تذكر في طرف الشرط تستتبع حادثة طبيعية معينة ، وهي غليان هذا الماء ، تحول هذا الماء من سائل الى غاز ، هذا القانون مصاغ على نهج القضية الشرطية ومن الواضح ان هذا القانون الطبيعي لا ينبئنا شيئا عن تحقق الشرط وعدم تحققه ، لا ينبئنا هذا القانون الطبيعي عن ان الماء هل سوف يتعرض للحرارة او لا يتعرض للحرارة؟ هل ان حرارة الماء ترتفع الى الدرجة المطلوبة ضمن هذا القانون او لا ترتفع؟ هذا القانون لا

١٠٢

يتعرض الى مدى وجود الشرط وعدم وجوده ، ولا ينبئنا بشيء عن تحقق الشرط ايجابا او سلبا ، وانما ينبئنا عن ان الجزاء لا ينفك عن الشرط ، متى ما وجد الشرط وجد الجزاء ، فالغليان نتيجة مرتبطة موضوعيا بالشرط هذا تمام ما ينبئنا عنه هذا القانون المصاغ بلغة القضية الشرطية.

ومثل هذه القوانين تقدم خدمة كبيرة للانسان في حياته الاعتيادية وتلعب دورا عظيما في توجيه الانسان ، لان الانسان ضمن تعرفه على هذه القوانين يصبح بامكانه ان يتصرف بالنسبة الى الجزاء ، ففي كل حالة يرى انه بحاجة الى الجزاء يعمل هذا القانون يوفر شروط هذا القانون ، ففي كل حالة يكون الجزاء متعارضا مع مصالحه ومشاعره يحاول الحيلولة دون توفر شروط هذا القانون.

متى ما كان غليان الماء مقصودا للانسان يطبق شروط هذا القانون ، ومتى لم يكن مقصودا للانسان يحاول ان لا تتطبّق شروط هذا القانون. اذن القانون الموضوع بنهج القضية الشرطية موجه عملي للانسان في حياته.

ومن هنا تتجلى حكمة الله سبحانه وتعالى في صياغة نظام الكون على مستوى القوانين وعلى مستوى الروابط

١٠٣

المضطردة والسنن الثابته ، لان صياغة الكون ضمن روابط مضطردة وعلاقات ثابتة هو الذي يجعل الانسان يتعرف على موضع قديمه ، وعلى الوسائل التي يجب ان يسلكها في سبيل تكييف بيئته وحياته والوصول الى اشباع حاجته ، لو ان الغليان في الماء كان يحدث صدفة ومن دون رابطة قانونية مضطردة مع حادثة اخرى كالحرارة ، اذن لما استطاع الانسان ان يتحكم في هذه الظاهرة ، ان يخلق هذه الظاهرة متى ما كانت حياته بحاجة اليها ، وان يتفاداها متى ما كانت حياته بحاجة الى تفاديها ، انما كان له هذه القدرة باعتبار ان هذه الظاهرة وضعت في موضع ثابت من سنن الكون وطرح على الانسان القانون الطبيعي بلغة القضية الشرطية فأصبح ينظر في نور لا في ظلام ويستطيع في ضوء هذا القانون الطبيعي ان يتصرف.

نفس الشيء نجده في الشكل الاول من السنن التاريخية القرآنية فان عددا كبيرا من السنن التاريخية في القرآن قد تمت صياغته على شكل القضية الشرطية التي تربط ما بين حادثتين اجتماعيتين او تاريخيتين فهي لا تتحدث عن الحادثة الاولى انها متى توجد ، ومتى لا توجد لكن تتحدث

١٠٤

عن الحادثة الثانية بأنه متى ما وجدت الحادثة الاولى ، وجدت الحادثة الثانية.

قرأنا في ما سبق استعراضا للآيات الكريمة التي تدل على سنن التاريخ في القرآن : جملة من تلك الآيات الكريمة مفادها هو السنة التاريخية بلغة القضية الشرطية. تتذكرون ما قرأناه سابقا (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(١).

هذه السنة التاريخية للقرآن والتي تقدم الكلام عنها ويأتي ان شاء الله الحديث عن شرح محتواها ، هذه السنة التاريخية للقرآن بينت بلغة القضية الشرطية لان مرجع هذا المفاد القرآني الى ان هناك علاقة بين تغييرين : بين تغيير المحتوى الداخلي للانسان وتغيير الوضع الظاهري للبشرية والانسانية ، مفاد هذه العلاقة قضية شرطية ، انه متى ما وجد ذاك التغيير في أنفس القوم وجد هذا التغيير في بناء القوم وكيان القوم ، هذه القضية قضية شرطية بيّن القانون فيها بلغة القضية الشرطية.

__________________

(١) سورة الرعد : الآية (١١).

١٠٥

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(١).

قلنا في ما سبق ان هذه الآية الكريمة تتحدث عن سنة من سنن التاريخ ، عن سنة تربط وفرة الانتاج بعدالة التوزيع هذه السنة ايضا هي بلغة القضية الشرطية كما هو الواضح من صياغتها النحوية ايضا.

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)(٢)

ايضا سنة تاريخية بينت بلغة القضية الشرطية ربطت بين امرين ، بين تأمير الفساق والمترفين في المجتمع ، وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله ، هذا القانون التاريخي ايضا مبين على نهج القضية الشرطية ، فهو لا يبين انه متى يوجد الشرط ، لكن يبين متى ما وجد هذا الشرط يوجد الجزاء ، هذا هو الشكل الاول من اشكال السنة التاريخية في القرآن.

الشكل الثاني الذي تتخذه السنن التاريخية شكل

__________________

(١) سورة الجن : الآية (١٦).

(٢) سورة الاسراء : الآية (١٦).

١٠٦

القضية الفعلية الناجزة الوجودية المحققة. وهذا الشكل ايضا نجد له أمثلة وشواهد في القوانين الطبيعية والكونية. مثلا : العالم الفلكي حينما يصدر حكما علميا على ضوء قوانين مسارات الفلك بأن الشمس سوف تنكسف في اليوم الفلاني أو أن القمر سوف ينخسف في اليوم الفلاني ، هذا قانون علمي وقضية علمية ، الا أنها قضية وجودية ناجزة ، ليست قضية شرطية ، لا يملك الانسان اتجاه هذه القضية أن يغير من ظروفها وأن يعدل من شروطها ، لانها لم تبين كلغة قضية شرطية ، وانما بينت على مستوى القضية الفعلية الوجودية ، الشمس سوف تنكسف ، القمر سوف ينخسف ، هذه قضية فعلية تنظر الى الزمان الآتي وتخبر عن وقوع هذه الحادثة على أي حال. كذلك القرارات العلمية التي تصدر عن الانواء الجوية ، المطر ينهمر على المنطقة الفلانية ، هذا أيضا يعبر عن قضية فعلية وجودية لم تصغ بلغة القضية الشرطية ، وانما صيغت بلغة التنجيز والتحقيق بلحاظ مكان معين وزمان معين هذا هو الشكل الثاني من السنن التاريخية وسوف اذكر فيما بعد ان شاء الله تعالى عند تحليل عناصر المجتمع الى أمثلة هذا الشكل من القرآن الكريم.

١٠٧

هذا الشكل من السنن التاريخية هو الذي أوحي في الفكر الاوروبي بتوهم التعارض بين فكرة سنن التاريخ وفكرة اختيار الانسان وارادته ، نشأ هذا التوهم الخاطئ الذي يقول بأن فكرة سنن التاريخ لا يمكن أن تجتمع الى جانب فكرة اختيار الانسان لان سنن التاريخ هي التي تنظم مسار الانسان وحياة الانسان اذن ما ذا يبقى لارادة الانسان؟

هذا التوهم أدى الى أن بعض المفكرين يذهب الى ان الانسان له دور سلبي فقط حفاظا على سنن التاريخ وعلى موضوعية هذه السنن ، ضحّى باختيار الانسان من أجل الحفاظ على سنن التاريخ فقال بأن الانسان دوره دور سلبي وليس دورا ايجابيا ، يتحرك كما تتحرك الآلة وفقا لظروفها الموضوعية ، ولعله يأتي بعض التفصيل أيضا عن هذه الفكرة.

وذهب بعض آخر في مقام التوفيق ما بين هاتين الفكرتين ولو ظاهريا الى أن اختيار الانسان نفسه هو ايضا يخضع لسنن التاريخ ولقوانين التاريخ ، لا نضحي باختيار الانسان ، لكن نقول بان اختيار الانسان لنفسه حادثة تاريخية ايضا ، اذن هو بدوره يخضع للسنن هذه تضحية باختيار الانسان لكن بصورة مبطنة ، بصورة غير مكشوفة.

١٠٨

وذهب بعض آخر الى التضحية بسنن التاريخ لحساب اختيار الانسان فذهب جملة من المفكرين الاوروبيين الى أنه ما دام الإنسان مختار فلا بد من أن تستثنى الساحة التاريخية من الساحات الكونية في مقام التقنين الموضوعي ، لا بد وان يقال بأنه لا سنن موضوعية للساحة التاريخية حفاظا على إرادة الانسان وعلى اختيار الانسان.

وهذه المواقف كلها خاطئة لانها جميعا تقوم على ذلك الوهم الخاطئ ، وهم الاعتقاد بوجود تناقض أساسي بين مقولة السنة التاريخية ومقولة الاختيار ، وهذا التوهم نشأ من قصر النظر على الشكل الثاني من اشكال السنة التاريخية أي قصر النظر على السنة التاريخية المصاغة بلغة القضية الفعلية الوجودية الناجزة ، لو كنا نقصر النظر على هذا الشكل من سنن التاريخ ولو كنا نقول بأن هذا الشكل هو الذي يستوعب كل الساحة التاريخية لا يبقي فراغا لذي فراغ ، لكان هذا التوهم واردا ، ولكنا يمكننا ابطال هذا التوهم عن طريق الالتفات الى الشكل الاول من اشكال السنة التاريخية الذي تصاغ في السنة التاريخية بوصفها قضية شرطية ، وكثيرا ما تكون هذه القضية الشرطية في شرطها معبرة عن إرادة الانسان واختيار الانسان ، يعني ان

١٠٩

اختيار الانسان يمثل محور القضية الشرطية شرط القضية الشرطية اذن فالقضية الشرطية كالأمثلة التي ذكرناها من القرآن الكريم تتحدث عن علاقة بين الشرط والجزاء ، لكن ما هو الشرط؟

الشرط : هو فعل الانسان ، هو إرادة الانسان

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(١) ،

التغيير هنا أسند اليهم فهو فعلهم ، إبداعهم وارادتهم. اذن السنة التاريخية حينما تصاغ بلغة القضية الشرطية وحينما يحتل ابداع الانسان واختياره موضوع الشرط في هذه القضية الشرطية ، في مثل هذه الحالة تصبح هذه السنة متلائمة تماما مع اختيار الانسان ، بل إن السنة حينئذ تطغي اختيار الانسان ، تزيده اختيارا وقدرة وتمكنا من التصرف في موقفه ، كيف أن ذلك القانون الطبيعي للغليان كان يزيد من قدرة الانسان لانه يستطيع حينئذ ان يتحكم في الغليان بعد أن عرف شروطه وظروفه ، كذلك السنن التاريخية ذات الصيغ الشرطية ، هي في الحقيقة ليست على حساب إرادة الانسان وليست نقيضا لاختيار

__________________

(١) سورة الرعد : الآية (١١).

١١٠

الانسان بل هي مؤكدة لاختيار الانسان ، توضح للانسان نتائج الاختيار لكي يستطيع أن يقتبس ما يريده من هذه النتائج ، لكي يستطيع ان يتعرف على الطريق الذي يسلك به الى هذه النتيجة او الى تلك النتيجة فيسير على ضوء وكتاب منير. هذا هو الشكل الثاني للسنة التاريخية.

الشكل الثالث للسنة التاريخية وهو شكل اهتم به القرآن الكريم اهتماما كبيرا ، هو السنة التاريخية المصاغة على صورة اتجاه طبيعي في حركة التاريخ لا على صورة قانون صارم حدي ، وفرق بين الاتجاه والقانون. ولكي تتضح الفكرة في ذلك لا بد وان نطرح الفكرة الاعتيادية التي نعيشها في اذهاننا عن القانون.

القانون العلمي كما نتصوره عادة عبارة عن تلك السنة التي لا تقبل التحدي من قبل الانسان ، لانها قانون من قوانين الكون والطبيعة فلا يمكن للانسان ان يتحداها ، أن ينقضها ، أن يخرج عن طاعتها ، يمكنه ان لا يصلي لان وجوب الصلاة حكم تشريعي وليس قانونا تكوينيا ، يمكنه أن يشرب الخمر لان حرمة شرب الخمر قانون تشريعي وليس قانونا تكوينيا ، لكنه لا يمكنه ان يتحدى القوانين الكونية والسنن الموضوعية ، مثلا لا يمكنه أن يجعل الماء

١١١

لا يغلي اذا توفرت شروط الغليان ، لا يمكنه ان يتحدى الغليان ان يؤخر الغليان لحظة عن موعده المعين لأن هذا قانون والقانون صارم والصرامة تأبى التحدي. هذه هي الفكرة التي نتصورها عادة عن القوانين وهي فكرة صحيحة الى حد ما ، لكن ليس من الضروري ان تكون كل سنة طبيعية موضوعية على هذا الشكل بحيث تأبى التحدي ولا يمكن تحديها من قبل الانسان بهذه الطريقة ، بل هناك اتجاهات موضوعية في حركة التاريخ وفي مسار الانسان الا ان هذه الاتجاهات لها شيء من المرونة بحيث انها تقبل التحدي ولو على شوط قصير ، وان لم تقبل التحدي على شوط طويل ، لكن على الشوط القصير تقبل التحدي أنت لا تستطيع أن تؤخر موعد غليان الماء لحظة ، لكن تستطيع أن تجمد هذه الاتجاهات لحظات من عمر التاريخ لكن هذا لا يعني أنها ليست اتجاهات تمثل واقعا موضوعيا في حركة التاريخ ، هي اتجاهات ولكنها مرنة تقبل التحدي لكنها تحطم المتحدي حينما يتحدى هذا المتحدي تحطمه بسنن التاريخ نفسها. ومن هنا كانت اتجاهات : هناك اشياء يمكن تحديها دون ان يتحطم المتحدي ، لكن هناك اشياء يمكن ان تتحدى على شوط قصير ولكن المتحدي

١١٢

يتحطم على يد سنن التاريخ نفسها ، هذه هي طبيعة الاتجاهات الموضوعية في حركة التاريخ. لكي أقرّب الفكرة اليكم نستطيع أن نقول بأن هناك اتجاها في تركيب الانسان وفي تكوين الانسان اتجاها موضوعيا لا تشريعيا الى اقامة العلاقات المعينة بين الذكر والانثى في مجتمع الانسان ضمن اطار من أطر النكاح والاتصال ، هذا الاتجاه ليس تشريعيا ليس تقنينا اعتباريا وانما هو اتجاه موضوعي اعملت العناية في سبيل تكوينه في مسار حركة الانسان ، لا نستطيع أن نقول إن هذا مجرد قانون تشريعي ، مجرد حكم شرعي لا وانما هذا اتجاه ركب في طبيعة الانسان وفي تركيب الانسان وهو الاتجاه الى الاتصال بين الذكر والانثى وادامة النوع عن طريق هذا الاتصال ضمن اطار من أطر النكاح الاجتماعي. هذه سنة لكنها سنة على مستوى الاتجاه ، لا على مستوى القانون.

لماذا؟

لان التحدي لهذه السنة لحظة او لحظات ممكن ، أمكن لقوم لوط أن يتحدوا هذه السنة فترة من الزمن بينما لم يكن بامكانهم ان يتحدوا سنة الغليان بشكل من الاشكال ،

١١٣

لكنهم تحدوا هذه السنة الا ان تحدي هذه السنة يؤدي الى أن يتحطم المتحدي ، المجتمع الذي يتحدى هذه السنة يكتب بنفسه فناء نفسه لانه يتحدى ذلك عن طريق ألوان اخرى من الشذوذ التي رفضها هذا الاتجاه الموضوعي وتلك الالوان من الشذوذ تؤدي الى فناء المجتمع والى خراب المجتمع.

ومن هنا كان هذا اتجاها موضوعيا يقبل التحدي على شوط قصير ، لكن لا يقبل التحدي على شوط طويل لأنه سوف يحطم المتحدي بنفسه.

الاتجاه الى توزيع الميادين بين المرأة والرجل ، هذا الاتجاه اتجاه موضوعي وليس اتجاها ناشئا من قرار تشريعي ، اتجاه ركّب في طبيعة الرجل والمرأة ، ولكن هذا الاتجاه يمكن ان يتحدى ، يمكن استصدار تشريع يفرض على الرجل بأن يبقى في البيت ليتولى دور الحضانة والتربية ، وان تخرج المرأة الى الخارج لكي تتولى مشاق العمل والجهد ، هذا بالامكان ان يتحقق عن طريق تشريع معين وبهذا يحصل التحدي لهذا الاتجاه. لكن هذا التحدي سوف لن يستمر لان سنن التاريخ سوف تجيب على هذا التحدي ، لاننا بهذا سوف نخسر ونجمد كل تلك

١١٤

القابليات التي زودت بها المرأة من قبل هذا الاتجاه للممارسة دور الحضانة والامومة ، وسوف نخسر كل تلك القابليات التي زود بها الرجل من اجل ممارسة دور يتوقف على الجلد والصبر والثبات وطول النفس. تماما ، كما أن من قبيل ان تسلم بناية تسلم نجارياتها الى حداد وحدادياتها الى نجار يمكن ان تصنع هكذا ويمكن ان تنشأ البناية أيضا لكن هذه البناية سوف تنهار ، سوف لن يستمر هذا التحدي على شوط طويل سوف ينقطع في شوط قصير كل اتجاه من هذا القبيل هو في الحقيقة سنة موضوعية من سنن التاريخ ، ومن سنن حركة الانسان ، ولكنها سنة مرنة تقبل التحدي على الشوط القصير ولكنها تجيب على هذا التحدي.

وأهم مصداق يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن ، هذا الشكل من السنن اهم مصداق يعرضه هو الدين ، القرآن الكريم يرى أن الدين نفسه سنة من سنن التاريخ ، سنة موضوعية من سنن التاريخ ، ليس الدين فقط تشريعا وانما هو سنة من سنن التاريخ ولهذا يعرض الدين على شكلين : تارة يعرضه بوصفه تشريعا كما يقول علم الاصول ، بوصفه إرادة تشريعية مثلا يقول :

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا

١١٥

إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ)(١).

هنا يبين الدين كتشريع ، كقرار ، كأمر من الله سبحانه وتعالى ، لكن في مجال آخر يبينه سنة من سنن التاريخ وقانونا داخلا في صميم تركيب الانسان وفطرة الانسان. قال سبحانه وتعالى :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٢).

هنا الدين لم يعد مجرد تشريع ، مجرد قرار من أعلى وانما الدين هنا فطرة للناس ، هو فطرة الله التي فطر عليها الناس ولا تبديل لخلق الله. هذا الكلام كلام موضوعي خبري لا تشريعي انشائي ، لا تبديل لخلق الله ، يعني كما انك لا يمكنك ان تنتزع من الانسان أي جزء من اجزائه التي تقوّمه ، كذلك لا يمكنك ان تنزع من الانسان دينه ، الدين ليس مقولة حضارية مكتسبة على مرّ التاريخ يمكن

__________________

(١) سورة الشورى : الآية (١٣).

(٢) سورة الروم : الآية (٣٠).

١١٦

اعطاؤها ويمكن الاستغناء عنها لانها في حالة من هذا القبيل لا تكون فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تكون خلق الله الذي لا تبديل له ، بل تكون من المكاسب التي حصل عليها الانسان من خلال تطوراته المدنية والحضارية على مرّ التاريخ. القرآن يريد ان يقول بأن الدين ليس مقولة من هذه المقولات بالامكان اخذها وبالامكان عطاؤها ، الدين خلق الله (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) هذا الكلام «لا» ليست ناهية بل نافية يعني هذا الدين لا يمكن أن ينفك عن خلق الله ما دام الانسان انسانا فالدين يعتبر سنة لهذا الانسان.

هذه سنة ولكنها ليست سنة صارمة على مستوى قانون الغليان ، سنة تقبل التحدي على الشوط القصير ، كما كان بامكان تحدي سنة النكاح سنة اللقاء الطبيعي والتزاوج الطبيعي ، كما كان بالامكان تحدي ذلك عن طريق الشذوذ الجنسي ، لكن على شوط قصير كذلك يمكننا ايضا تحدي هذه السنة على شوط قصير عن طريق الالحاد ، وغمض العين عن هذه الحقيقة الكبرى بإمكان الانسان ان يرى الشمس ، أن يغمض عينه عن الشمس ويلحد ولا يرى هذه الحقيقة ، ولكن هذا التحدي لا يكون الا على شوط قصير

١١٧

لان العقاب سوف ينزل بالمتحدي ، العقاب هنا ليس بمعنى العقاب الذي ينزل على من يرتكب مخالفة شرعية على يد ملائكة العذاب في السماء في يوم القيامة ليس هو ذاك العقاب الذي ينزل على من يخالف القانون على يد الشرطي ، يضربه بالعصا على رأسه ، وانما العقاب هنا ينزل من سنن التاريخ نفسها تفرض العقاب على كل أمة تريد أن تبدل خلق الله سبحانه وتعالى ، ولا تبديل لخلق الله :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)(١).

نحن نقول بأن السنن التاريخية من الشكل الثالث اذا تحداها الانسان فسوف يأخذ العقاب من السنن التاريخية ، سرعان ما ينزل عليه العقاب من السنن التاريخية نفسها. كلمة سرعان هنا يجب أن تؤخذ بمعنى السرعة التاريخية لا السرعة التي نفهمها في حياتنا الاعتيادية. وهذا ما أرادت أن تقوله هذه الآية الكريمة. هذه الآية الكريمة في المقام تتحدث عن العذاب واقعة في سياق العذاب

__________________

(١) سورة الحج : الآية (٤٧).

١١٨

الجماعي الذي نزل بالقرى السابقة الظالمة ثم بعد ذلك يتحدث عن استعجال الناس في ايام رسول الله (ص) الناس يستعجلون رسول الله (ص) ويقولون له أين هذا العقاب؟ اين هذا العذاب؟ لما ذا لا ينزل بنا نحن الآن. كفرنا تحديناك لم نؤمن بك ، صممنا آذاننا عن قرآنك لما ذا لا ينزل بنا هذا العذاب؟ هنا القرآن يتحدث عن السرعة التاريخية التي تختلف عن السرعة الاعتيادية يقول :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ)(١) ، لانها سنة ، والسنة التاريخية ثابتة ، لكن

(وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)(٢) ، اليوم الواحد في سنن التاريخ عند ربك باعتبار أن سنن التاريخ هي كلمات الله كما قرأنا في ما سبق ، كلمات الله سنن التاريخ. اذن في كلمات الله. في سنن الله ، اليوم الواحد ، المهملة القصيرة ، هي ألف سنة. طبعا في آية أخرى عبر بخمسين الف سنة ، لكن أريد بذلك أيام القيامة لا يوم الدنيا وهذا هو وجه الجمع بين الآيتين ، الكلمتين. في آية أخرى قيل :

__________________

(١) سورة الحج : الآية (٤٧).

(٢) نفس الآية السابقة.

١١٩

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ)(١)

هذا ناظر الى يوم القيامة ، الى يوم تكون السماء كالمهل فيوم القيامة قدر بخمسين ألف سنة اما هنا يتكلم عن يوم توقيت نزول العذاب الجماعي وفقا لسنن التاريخ يقول وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون. اذن فهذا شكل ثالث من السنن التاريخية ، هذا الشكل هو عبارة عن اتجاهات موضوعية في مسار التاريخ وفي حركة الانسان وفي تركيب الانسان ، يمكن ان يتحدى على الشوط القصير ، ولكن سنن التاريخ لا تقبل التحدي على الشوط الطويل الا أن الشوط القصير والطويل هنا ليس بحسب طموحاتنا ، بحسب حياتنا الاعتيادية يوم أو يومين لان اليوم الواحد في كلمات الله وفي سنن الله كألف سنة مما نحسب.

هذا هو الشكل الثالث ، الدين هو المثال الرئيسي للشكل الثالث ، من أجل أن نعرف كيف ان الدين ليس سنة من سنن التاريخ؟ ما هو دوره؟ ما هو موقعه؟ لما ذا اصبحت سنة

__________________

(١) سورة المعارج : الآية (٤ ـ ٨).

١٢٠