المدرسة القرآنيّة

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المدرسة القرآنيّة

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٩

القرآنية لتحديد النظرية الاسلامية بشأن موضوع من مواضيع الحياة.

ومن هنا ايضا كانت عملية التفسير الموضوعي عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له ، وليست مجرد استجابة سلبية بل استجابة فعالة وتوظيفا هادفا للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى.

قال أمير المؤمنين (ع) وهو يتحدث عن القرآن الكريم «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه ، ألا ان فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم» (١) التعبير بالاستنطاق الذي جاء في كلام ابن القرآن (ع) أروع تعبير عن عملية التفسير الموضوعي بوصفها حوارا مع القرآن الكريم وطرحا للمشاكل الموضوعية عليه بقصد الحصول على الاجابة القرآنية عليها.

اذن فاول اوجه الاختلاف الرئيسية بين الاتجاه التجزيئي في التفسير والاتجاه الموضوعي في التفسير ان الاتجاه

__________________

(١) نهج البلاغة خطبة (١٥٨).

٢١

التجزيئي يكون دور المفسر فيه دورا سلبيا يستمع ويسجل بينما التفسير الموضوعي ليس هذا معناه وليس هذا كنهه وانما وظيفة التفسير الموضوعي دائما في كل مرحلة وفي كل عصر ان يحمل كل تراث البشرية الذي عاشه ، يحمل افكار عصره ، يحمل المقولات التي تعلمها في تجربته البشرية ثم يضعها بين يدي القرآن الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ليحكم على هذه الحصيلة بما يمكن لهذا المفسر ان يفهمه ان يستشفه ان يتبينه من خلال مجموعة آياته الشريفة.

إذن فهنا يلتحم القرآن مع الواقع ، يلتحم القرآن مع الحياة ، لأن التفسير يبدأ من الواقع وينتهي الى القرآن لا انه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن فتكون عملية منعزلة عن الواقع منفصلة عن تراث التجربة البشرية بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن بوصفه القيم والمصدر الذي يحدد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة الى ذلك الواقع.

ومن هنا تبقى للقرآن حينئذ قدرته على القيمومة دائما قدرته على العطاء المستجد دائما قدرته على الابداع لان المسألة هنا ليست مسألة تفسير لفظ فان طاقات التفسير

٢٢

اللغوي ليست طاقات لا متناهية بينما القرآن الكريم دلت الروايات على انه لا ينفذ وصرح القرآن الكريم بأن كلمات الله لا تنفد ، القرآن الكريم عطاء لا ينفد بينما التفسير اللغوي ينفد لأن اللغة لها طاقات محدودة ، وليس هناك تجدد في المدلول اللغوي ، ولو وجد تجدد في المدلول اللغوي فلا معنى لتحكيمه على القرآن ، ولو وجدت لغة اخرى بعد القرآن لا معنى لان يفهم القرآن من خلال لغة جديدة أو مصطلحات جديدة أو ألفاظ تحمل مدلولات وضعية استهدفت بعد القرآن.

اذن هذا العطاء الذي لا ينفد للقرآن ، هذه المعاني التي لا تنتهي للقرآن التي نص عليها القرآن نفسه ، ونصت عليه أحاديث أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ، هذه الحالة من عدم انفاد ، تكمن في هذا المنهج ، منهج التفسير الموضوعي لأننا نستنطق القرآن وان في القرآن علم ما كان وعلم ما يأتي لأن في القرآن دواء دائنا ، لأن في القرآن نظم ما بيننا ، ولأن في القرآن ما يمكن ان نستشف منه مواقف السماء تجاه تجربة الأرض.

فمن هنا كان التفسير الموضوعي قادرا على ان يتطور على

٢٣

ان ، ينمو على ان يثرى لان التجربة البشرية تثريه والدرس القرآني والتأمل القرآني على ضوء التجربة البشرية يجعل هذا الثراء محمولا الى فهم اسلامي قرآني صحيح والحمد لله رب العالمين.

٢٤

الدرس الثاني

يوم الأربعاء ١٨ / ج ١ / ١٣٩٩ ه‍

اعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

وأفضل الصلوات على أفضل النبيين وآله الطيبين الطاهرين.

كنا بصدد توضيح اوجه الاختلاف الرئيسية بين اتجاهين اساسيين في التفسير احدهما الاتجاه الموضوعي في التفسير والآخر الاتجاه التجزيئي في التفسير : يمكن ان يستخلص مما ذكرناه بالامس من التوضيحات انه يوجد هناك فارقان بارزان رئيسيان بين هذين الاتجاهين وتنبع من هذين الفارقين فوارق أخرى ثانوية :

الفارق الرئيسي الاول هو ان التفسير الموضوعي كما شرحنا بالامس يبدأ بالواقع الخارجي بحصيلة التجربة البشرية يتزود بكل ما وصلت الى يده من حصيلة هذه التجربة ومن افكارها ومن مضامينها. ثم يعود الى القرآن الكريم ليحكّم القرآن الكريم ويستنطق القرآن الكريم على

٢٥

حد تعبير الامام امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ويكون دوره دور المستنطق ، دور الحوار ، يكون دور المفسر دورا ايجابيا ايضا ، دور المحاور ، دور من يطرح المشاكل من يطرح الاسئلة ، من يطرح الاستفهامات على ضوء تلك الحصيلة البشرية على ضوء تلك التجربة الثقافية التي استطاع الحصول عليها ثم يتلقى من خلال عملية الاستنطاق ، من خلال عملية الحوار مع اشرف كتاب يتلقى الاجوبة من ثنايا الآيات المتفرقة.

فهنا الابتداء بالتفسير الموضوعي يكون من الواقع ويعود الى القرآن الكريم ، بينما التفسير التجزيئي يبدأ من القرآن وينتهي الى القرآن ليس فيه حركة من الواقع الى القرآن ومن القرآن الى الواقع وانما يبدأ بالقرآن وينتهي بالقرآن ، دور المفسر هنا دور سلبي كما شرحنا بالأمس (١) يخلي ذهنه من اي سوابق من اي طروحات يجلس جلوس المستمع ، لا جلوس المحاور لا جلوس المستفهم بل جلوس من يستمع ويسجل ما ينطبق في ذهنه نتيجة هذا الاستماع.

هذا هو الأمر الأول الذي شرحناه بالأمس (٢).

__________________

(١) الدرس الأول.

(٢) الدرس الأول.

٢٦

والأمر الثاني في المقام هو ان التفسير الموضوعي يتجاوز التفسير التجزيئي خطوة لأن التفسير التجزيئي يكتفي بإبراز المدلولات التفصيلية للآيات القرآنية الكريمة ، بينما التفسير الموضوعي يطمح الى اكثر من ذلك يتطلع الى ما هو اوسع من ذلك يحاول ان يستحصل اوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيلية يحاول ان يصل الى مركب نظري قرآني وهذا المركب النظري القرآني يحتل في اطاره كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية ، موقعه المناسب وهذا ما نسميه بلغة اليوم بالنظرية يصل الى نظرية قرآنية عن النبوة ، نظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي نظرية قرآنية عن سنن التاريخ وهكذا عن السموات والأرض فهنا التفسير الموضوعي يتقدم خطوة على التفسير التجزيئي بقصد الحصول على هذا المركب النظري الذي لا بد ان يكون معبرا عن موقف قرآن تجاه موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية. هذان فارقان رئيسيان بين التفسير الموضوعي في القرآن ، الاتجاه الموضوعي في التفسير والاتجاه التجزيئي في التفسير ونحن ذكرنا بأن البحث الفقهي اتجه اتجاها موضوعيا بينما التفسير لم يتجه على الاكثر اتجاها موضوعيا بل كان اتجاها تجزيئيا.

٢٧

اصطلاح الموضوعية هنا على ضوء الأمر الأول ، بمعنى انه يبدأ من الموضوع ، من الواقع الخارجي ، من الشيء الخارجي ويعود الى القرآن الكريم ويعبر عن التفسير بأنه موضوعي على ضوء الأمر الأول باعتبار انه يبدأ من الموضوع الخارجي وينتهي الى القرآن الكريم. وتوحيدي باعتبار انه يوحد بين التجربة البشرية وبين القرآن الكريم لا بمعنى انه يحمل التجربة البشرية على القرآن ، لا بمعنى انه يخضع القرآن للتجربة البشرية بل بمعنى انه يوحد بينهما في سياق بحث واحد لكي يستخرج نتيجة هذا السياق الموحد من البحث ، يستخرج المفهوم القرآني الذي يمكن ان يحدد موقف الاسلام تجاه هذه التجربة او المقولة الفكرية التي ادخلها في سياق بحثه. اذن التفسير موضوعي وتوحيدي على اساس الأمر الأول ، على اساس الأمر الثاني ايضا كون التفسير موضوعيا باعتبار انه يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد. وهو توحيدي باعتبار انه يوحد بين هذه الآيات ، يوحد بين مدلولات هذه الآيات ضمن مركب نظري واحد اذن اصطلاح الموضوعية واصطلاح التوحيدية في التفسير ينسجم مع كل من هذين الفارقين بما بيناه.

ولا نقصد بالموضوعية هنا الموضوعية في مقابل التحيز

٢٨

مثلا ما يقال عادة من ان هذا البحث موضوعي في مقابل ان يكون بحثا متحيزا أو منحازا! طبعا الموضوعية بذلك المعنى مرفوضة في التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي معا.

ليست الموضوعية بذلك المعنى من مزايا التفسير الموضوعي في مقابل التفسير التجزيئي الموضوعية بذلك المعنى عبارة عن الامانة في البحث ، عبارة عن الاستقامة على جادة البحث ، تلك الموضوعية مفترضة في كلا الاتجاهين وانما الموضوعية التي نجعلها في مقابل التجزيئية غير تلك الموضوعية التي تقابل الذاتية والتحيز ، الموضوعية هنا بمعنى ان يبدأ من الموضوع وينتهي الى القرآن هذا الأمر الأول. الأمر الثاني ان يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد يقوم بعملية توحيد بين مدلولاتها. من أجل ان يستخرج نظرية قرآنية شاملة بالنسبة الى ذلك الموضوع.

ان الأبحاث الفقهية سارت في الاتجاه الموضوعي بينما الابحاث التفسيرية سارت في الاتجاه التجزيئي طبعا لم نكن نعني من ذلك ايضا ان البحث الفقهي استنفد طاقة الاتجاه الموضوعي ، البحث الفقهي سار في الاتجاه الموضوعي ولكنه لم يستنفد ايضا طاقة الاتجاه الموضوعي

٢٩

والبحث الفقهي اليوم مدعو ايضا الى ان يستنفد طاقة هذا الاتجاه الموضوعي افقيا وعموديا اما افقيا لا بد وأن يستنفد طاقة الاتجاه الموضوعي باعتبار ان الاتجاه الموضوعي كما قلنا عبارة عن ان يبدأ الانسان من الواقع وينتهي الى الشريعة.

هذا كان ديدن العلماء ديدن الفقهاء كانوا بالواقع ، وقائع الحياة تكاد تنعكس عليهم على شكل جعالة ، مضاربة ، مزارعة ، مساقات ، نكاح كانت هذه الحوادث وهذه الوقائع تنعكس عليهم ثم يأخذون هذا الواقع ويأتون الى مصادر الشريعة ليستنبطوا الحكم من مصادر الشريعة هذا اتجاه موضوعي لانه يبدأ بالواقع وينتهي الى الشريعة في مقام التعرف على حكم هذا الواقع.

لكن هنا لا بد ان يمتد الفقه افقيا على هذه الساحة اكثر لان العلماء الذين ساهموا في تكوين هذا الاتجاه الموضوعي عبر قرون متعددة كانوا حريصين على ان يأخذوا هذه الوقائع ويحولوها دائما الى الشريعة لكي يستنبطوا احكام الشريعة المرتبطة بتلك الوقائع ولكن وقائع الحياة تتجدد وتتكاثر باستمرار وتتولد ميادين جديدة من وقائع الحياة ، لا بد لهذه العملية من النمو باستمرار من ان تنمو من ان تحول كل ما يستجد من وقائع الحياة ، من ان تبدأ

٣٠

من الواقع لكن ذاك الواقع الساكن المحدود الذي كان يعيشه الشيخ الطوسي او الذي كان يعيشه المحقق الحلي ، ذاك الواقع كان يفي بحاجات عصر الشيخ الطوسي ، كان يفي بحاجات عصر المحقق الحلي. لكن كم من باب وباب من أبواب الحياة فتحت بالتدريج لا بد من عرض هذه الأبواب على الشريعة إذا أردنا أن يستمر الاتجاه الموضوعي في البحث الفقهي ، لا بد وأن نمدده أفقيا على مستوى ما استجد من أبواب الحياة ، كم من باب من أبواب الحياة استجد لم يكن معروفا سابقا : التجارة والمضاربة والمزارعة والمساقات كانت تمثل السوق قبل ألف سنة أو قبل ثمانمائة سنة ولكن اليوم السوق المعاملات العلاقات الاقتصادية أوسع من هذا النطاق وأكثر تشابكا من هذا النطاق ، اذن لا بد للفقه من أن يكون كما كان على يد هؤلاء العلماء الذين كانوا حريصين على ان يعكسوا كل ما يستجد من وقائع الحياة على الشريعة ليأخذوا حكم الشريعة. لا بد أيضا من ان هذه العملية تسير افقيا كما سارت افقيا في البداية. هذا من الناحية الأفقية.

من الناحية العمودية ايضا لا بد من ان يتوغل هذا الاتجاه الموضوعي في الفقه ، لا بد وان يتوغل ، لا بد وان ينفذ عموديا ، لا بد وان يصل الى النظريات الاساسية ، لا

٣١

بد وان يكتفي بالبناءات العلوية وبالتشريعات التفصيلية ، لا بد وان ينفذ من خلال هذه البناءات العلوية الى النظريات الأساسية التي تمثل وجهة نظر الاسلام لأننا نعلم ان كل مجموعة من التشريعات في كل باب من أبواب الحياة ترتبط بنظريات أساسية ، ترتبط بتطورات رئيسية ، أحكام الاسلام ، تشريعات الاسلام ، في مجال الحياة الاقتصادية ترتبط بنظرية الإسلام بالمذهب الاقتصادي في الإسلام ، احكام الإسلام في مجال النكاح والطلاق والزواج وعلاقات المرأة مع الرجل ، ترتبط بنظرياته الاساسية عن المرأة والرجل ودور المرأة والرجل. هذه النظريات الأساسية عن المرأة والرجل ودور المرأة والرجل. هذه النظريات الأساسية التي تشكل القواعد النظرية لهذه الأبنية العلوية ، لا بد ايضا من التوغل إليها ، لا ينبغي أن ينظر الى ذلك بوصفه عملا منفصلا عن الفقه ، بوصفه ترفا ، بوصفه نوع تفنن ، بوصفه نوع أدب ليس كذلك بل هذا ضرورة من ضرورات الفقه ، لا بد من النفاذ لا بد من التوغل عموديا أيضا الى تلك النظريات ومحاولة اكتشافها بقدر الطاقة البشرية.

الآن نعود الى التفسير بما ذكرناه من اوجه الاختلاف بين التفسير الموضوعي والتفسير التجزيئي ، تبينت عدة افضليات تدعو الى تفضيل المنهج الموضوعي في التفسير

٣٢

على المنهج التجزيئي في التفسير فان المنهج الموضوعي في التفسير على ضوء ما ذكرناه يكون اوسع أفقا وأرحب وأكثر عطاء باعتبار انه يتقدم خطوة على التفسير التجزيئي كما انه قادر على التجدد باستمرار ، على التطور والابداع باستمرار ، باعتبار انه التجربة البشرية تغني هذا التفسير بما تقدمه من مواد.

ثم هذه المواد تطرح بين يدي القرآن الكريم لكي يستطيع هذا المفسر أن يتحصل الأجوبة من القرآن الكريم وهذا هو الطريق الوحيد للحصول على النظريات الأساسية للإسلام وللقرآن تجاه موضوعات الحياة المختلفة.

وقد يقال بأنه ما الضرورة الى تحصيل هذه النظريات الاساسية؟ ما الضرورة الى ان نفهم نظرية الاسلام في النبوة مثلا بشكل عام او ان نفهم نظرية الاسلام في سنن التاريخ وفي التغير الاجتماعي بشكل عام؟ ان نفهم نظرية الاسلام في الاقتصاد الاسلامي بشكل عام؟ ان نفهم مفهوم الاسلام عن السماوات والارض؟ ما الضرورة الى ان ندرس ونحدد هذه النظريات؟ فاننا نجد بان النبي (ص) لم يعط هذه النظريات على شكل نظريات محدودة وبصيغ عامة ، وانما اعطى القرآن بهذا الترتيب للمسلمين.

٣٣

ما الضرورة الى ان نتعب انفسنا في سبيل تحصيل هذه النظريات وتحديدها بعد ان لاحظنا ان النبي (ص) اكتفى باعطاء هذا المجموع ، هذا الشكل المتراكم بهذا الشكل؟

ما الضرورة الى ان نستحصل هذه النظريات؟

الحقيقة بأن هناك اليوم ضرورة اساسية لتحديد هذه النظريات ولتحصيل هذه النظريات ولا يمكن ان يفترض الاستغناء عن ذلك. النبي (ص) كان يعطي هذه النظريات ولكن من خلال التطبيق من خلال المناخ القرآني العام الذي كان يبينه في الحياة الاسلامية ، وكان كل فرد مسلم في اطار هذا المناخ ، يفهم هذه النظرية ولو فهما اجماليا ارتكازيا لان المناخ والاطار الروحي والاجتماعي والفكري والتربوي الذي وصفه النبي (ص) كان قادرا على ان يعطي النظرة السليمة ، والقدرة السليمة على تقييم المواقع والمواقف والاحداث اذا اردنا ان نقرب هذه الفكرة نقول :

حالة بين حالتين : حالة انسان يعيش داخل عرف لغة من اللغات ، وانسان يريد ان يفهم بان ابناء هذه اللغة ، ابناء هذا العرف ، كيف تنتقل اذهانهم الى المعانى من الالفاظ؟ وكيف يحددون المعاني من الألفاظ؟

هنا توجد حالتان : احداهما : ان نأتي بهذا الانسان

٣٤

ونجعله يعيش في اعماق هذا العرف ، في اعماق هذه اللغة إذا جعلته يعيش في اعماق هذا العرف وفي اعماق هذه اللغة واستمرت به الحياة في اطار هذا العرف وهذه اللغة فترة طويلة من الزمن سوف يتكون لديه الاطار اللغوي ، والاطار العرفي الذي يستطيع من خلاله ان يتحرك ذهنه وفقا لما يريده العرف واللغة منه لأن مدلولات اللغة وقواعد اللغة تكون موجودة وجودا إجماليا ارتكازيا في ذهنه ، إلفظة السليمة ، التقييم السليم للكلمة الصحيحة ، وتمييزها عن الكلمة غير الصحيحة تكون موجودة عنده باعتبار انه عاش عمق اللغة ، عاش وجدانها ، عاش اطارها ، عاش تطبيقها بينما اذا كان الانسان خارج مناخ تلك اللغة ، خارج عرف تلك اللغة عرفها وأردت أن تنشئ في ذهنه القدرة على التمييز اللغوي الصحيح ، كيف تستطيع ان تنشئ في ذهنه القدرة على التمييز اللغوي الصحيح؟ يكون ذلك عن طريق الرجوع الى قواعد تلك اللغة ، حينئذ لا بد ان ترجع الى ذلك العرف الذي تربى في ذلك الانسان ترجع الى ذلك العرف لكي تستنتج منه القواعد العامة والنظريات العامة نفس ما وقع بالنسبة الى علوم العربية كيف أن ابن اللغة لم يكن بحاجة الى أن يتعلم

٣٥

علوم العرب في البداية؟ لأنه كان يعيش في أعماق عرف اللغة ، لكن بعد أن ابتعد عن تلك الأعماق بعد ان اختلفت الأجواء بعد ان ضعفت اللغة ، بعد أن تراكمت لغات أخرى اندست الى داخل حياة هؤلاء ، بدأ هؤلاء يحتاجون الى علم اللغة ، بدأ هؤلاء يحتاجون الى نظريات اللغة لأن الواقع لا يسعفهم بنظرة سليمة فلا بد اذن من علم لا بد من نظريات لكي يفكرون ولكي يناقشون ولكي يتصرفون لغويا وفقا لتلك القواعد والنظريات.

هذا المثال مثال تقريبي لاجل توضيح الفكرة ، اذن الصحابة الذين عاشوا في كنف الرسول الاعظم (ص). اذا كانوا لم يتلقوا النظريات بصيغ عامة فقد تلقوها تلقيا اجماليا ارتكازيا ، انتقشت في اذهانهم وسرت في افكارهم ، كان المناخ العام الاطار الاجتماعي والروحي والفكري الذي يعيشونه مساعدا على تفهم هذه النظريات ولو تفهما اجماليا وعلى توليد المقياس الصحيح في مقام التقييم. اما حيث لا يوجد ذلك المناخ ، اما حيث لا يوجد ذلك الاطار اذن تكون الحاجة الى النظريات يعني الحاجة الى دراسة نظريات القرآن والاسلام ، حاجة حقيقية ملحة خصوصا مع بروز النظريات الحديثة من خلال التفاعل بين

٣٦

انسان العالم الاسلامي وانسان العالم الغربي بكل ما يملك من رصيد عظيم ومن ثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية حينما وقع هذا التفاعل بين انسان العالم الاسلامي وانسان العالم الغربي وجد الانسان المسلم نفسه امام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة فكان لا بد لكي يحدد موقف الاسلام من هذه النظريات ، كان لا بد وان يستنطق نصوص الاسلام ، ويتوغل في أعماق هذه النصوص لكي يصل الى مواقف الاسلام الحقيقية سلبا وايجابا لكي يكتشف نظريات الاسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع التي عالجتها التجارب البشرية الذكية في مختلف مجالات الحياة.

اذن فالتفسير الموضوعي في المقام هو افضل الاتجاهين في التفسير الا ان هذا لا ينبغي ان يكون المقصود منه الاستغناء عن التفسير التجزيئي ، هذه الافضلية لا تعني استبدال اتجاه باتجاه وطرح التفسير التجزيئي رأسا والأخذ بالتفسير الموضوعي ، وإنما إضافة اتجاه الى اتجاه ، لان التفسير الموضوعي ، ليس لا خطوة الى الامام بالنسبة الى التفسير التجزيئي ولا معنى للاستغناء عن التفسير التجزيئي باتجاه الموضوعي. اذن فالمسألة هنا

٣٧

ليست مسألة استبدال وانما هي مسألة ضم الاتجاه الموضوعي في التفسير الى الاتجاه التجزيئي في التفسير ، يعني افتراض خطوتين ، خطوة هي التفسير التجزيئي وخطوة أخرى هي التفسير الموضوعي.

٣٨

الدرس الثالث

السنن التاريخية

في القرآن الكريم

يوم الثلاثاء ٢٥ / ج ١ / ١٣٩٩ ه‍

٣٩
٤٠