المدرسة القرآنيّة

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المدرسة القرآنيّة

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٩

خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(١) بينما يقول في موضع آخر (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(٢). فالعقاب الأخروي دائما ينصب على العامل مباشرة ، وأما العقاب الدنيوي فيكون اوسع من ذلك ، اذن هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان عن سنن التاريخ لا عن العقاب بالمعنى الاخروي والعذاب بمعنى مقاييس يوم القيامة ، بل عن سنن التاريخ وما يمكن ان يحصل نتيجة كسب الامة ، سعي الامة ، جهد الامة.

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً)(٣)

هذه الآية الكريمة أيضا تؤكد المفهوم العام ، يقول (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) ، هذه سنة سلكناها مع الانبياء من قبلك ، وسوف تستمر ولن تتغير. أهل مكة يحاولون أن يستفزوك لتخرج من مكة لانهم عجزوا عن امكانية القضاء

__________________

(١) سورة الانفال : الآية (٢٥).

(٢) سورة فاطر : الآية (١٨).

(٣) سورة الاسراء : الآية (٧٦ ـ ٧٧).

٦١

عليك ، وعلى كلمتك وعلى دعوتك ، ولهذا صار أمامهم طريق واحد وهو اخراجك من مكة.

وهناك سنة من سنن التاريخ سوف يأتي ان شاء الله شرحها بعد ذلك يشار اليها في هذه الآية الكريمة. وهي أنه اذا وصلت عملية المعارضة الى مستوى اخراج النبي من هذا البلد ، بعد عجز هذه المعارضة عن كل الوسائل والاساليب الاخرى ، فانهم لا يلبثون الا قليلا. ليس المقصود من انهم لا يلبثون الا قليلا ، يعني انه سوف ينزل عليهم عذاب الله سبحانه وتعالى من السماء ، لأن أهل مكة اخرجوا النبي بعد نزول هذه السورة. استفزوه وارعبوه وخرج النبي (ص) من مكة اذ لم يجد له ملجأ وأمامنا في مكة فخرج الى المدينة ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكة ، وانما المقصود في أكبر الظن من هذا التعبير أنهم لا يمكثون كجماعة صامدة معارضة يعني كموقع اجتماعي لا يمكثون ، لا كأناس ، كبشر ، وانما هذا الموقع سوف ينهار نتيجة هذه العملية ، سوف ينهار هذا الموقع ، لا يمكثون الا قليلا لان هذه النبوة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها سوف تستطيع بعد ذلك ان تهز هذه الجماعة كموقع للمعارضة ، وهذا ما وقع فعلا. فان رسول

٦٢

الله (ص) حينما أخرج من مكة لم يمكثوا بعده الا قليلا ، اذ فقدت المعارضة في مكة موقعها ، وتحولت مكة الى جزء من دار الاسلام بعد سنين معدودة.

اذن الآية تتحدث عن سنة من سنن التاريخ ، وتؤكد وتقول (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً).

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(١). تؤكد هذه الآية على السنن وتؤكد على الحق والتتبع لاحداث التاريخ من اجل استكشاف هذه السنن من اجل الاعتبار بهذه السنن. (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ...)(٢). هذه الآية ايضا تثبّت قلب رسول الله (ص) ، تحدثه عن التجارب السابقة ، تربطه بقانون التجارب السابقة ، توضح له ان هناك سنة تجري عليه وتجري على الانبياء الذين مارسوا هذه التجربة من قبله وان النصر سوف يأتيه ولكن للنصر شروطه الموضوعية : الصبر ، والثبات ، واستكمال الشروط ، هذا هو طريق الحصول

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية (١٣٧).

(٢) سورة الانعام : الآية (٣٤).

٦٣

على هذا النصر ، ولهذا يقول (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) اذن هناك كلمة لله لا تتبدل على مر التاريخ ، هذه الكلمة التي لا تتبدل هي علاقة قائمة بين النصر وبين مجموعة من الشروط والقضايا والمواصفات وضحت من خلال الآيات المتفرقة وجمعت على وجه الاجمال هنا. اذن فهناك سنة للتاريخ. (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً)(١). (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(٢). هناك آيات استعرضت نماذج من سنن التاريخ (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(٣) المحتوى الداخلي النفسي الروحي للانسان هو القاعدة ، الوضع الاجتماعي هو البناء العلوي ، لا يتغير هذا البناء العلوي الا وفقا لتغيّر القاعدة على ما يأتي ان شاء الله شرحه بعد ذلك.

__________________

(١) سورة فاطر : الآية (٤٣).

(٢) سورة الفتح : الآية (٢٣).

(٣) سورة الرعد : الآية (١١).

٦٤

هذه الآية اذن تتحدث عن علاقة معينة بين القاعدة والبناء العلوي ، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للانسان ، وبين الوضع الاجتماعي ، بين داخل الانسان وبين خارج الانسان ، فخارج الانسان ، يصنعه داخل الانسان ، مرتبط بداخل الانسان ، فاذا تغير ما بنفس القوم تغير ما هو وضعهم ، وما هي علاقاتهم وما هي الروابط التي تربط بعضهم ببعض.

اذن فهذه سنة من سنن التاريخ ، ربطت القاعدة بالبناء العلوي (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(١). (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)(٢). يستنكر عليهم ان يأملوا في ان يكون لهم استثناء من سنة التاريخ ، هل تطمعون ان يكون لكم استثناء من سنة التاريخ! وان تدخلوا الجنة وان تحققوا النصر ، وانتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الامم التي انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية (٥٣).

(٢) سورة البقرة : الآية (٢١٤).

٦٥

والضراء التي تصل الى حد الزلزال على ما عبّر القرآن الكريم؟ ان هذه الحالات ، حالات البأساء والضراء التي تتعلق على مستوى الزلزال هي في الحقيقة مدرسة للامة ، هي امتحان لارادة الامة ، لصمودها ، لثباتها ، لكي تستطيع بالتدريج ان تكتسب القدرة على ان تكون امة وسطا بين الناس.

اذن نصر الله قريب لكن نصر الله له طريق. هكذا يريد ان يقول القرآن ، نصر الله ليس أمرا عفويا ، ليس أمرا على سبيل الصدفة ، ليس امرا عمياويا ، نصر الله قريب ولكن اهتد الى طريقه ، الطريق لا بد وان تعرف فيه سنن التاريخ ، لا بد وان تعرف فيه منطق التاريخ لكي تستطيع ان تهتدي الى نصر الله سبحانه وتعالى. قد يكون الدواء قريبا من المريض لكن اذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلمية التي تؤدي الى اثبات ان هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء ، لا يستطيع ان يستعمل هذا الدواء حتى ولو كان قريبا منه.

اذن الاطلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكّن الانسان من التوصل الى النصر. فهذه الآية تستنكر على المخاطبين لها ان يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن

٦٦

التاريخ (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ...)(١) هذه علاقة قائمة بين النبوة على مر التاريخ ، وبين موقع المترفين والمسرفين في الامم والمجتمعات. هذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاريخ ، وليست ظاهرة وقعت في التاريخ صدفة والا لما تكررت بهذا الشكل المطرد لما قال (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) اذن هناك علاقة سلبية ، هناك علاقة تطارد وتناقض ، بين موقع النبوة الاجتماعي في حياة الناس على الساحة التاريخية والموقع الاجتماعي للمترفين والمسرفين ، هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوة في المجتمع ودور المترفين والمسرفين في المجتمع. هذه العلاقة جزء من رؤية موضوعية عامة للمجتمع ، كما سوف يتضح ان شاء الله حينما نبحث عن دور النبوة في المجتمع والموقع الاجتماعي للنبوة ، سوف يتضح حينئذ ان النقيض الطبيعي للنبوة هي موقع المترفين والمسرفين.

اذن هذه سنة من سنن التاريخ (.. وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ

__________________

(١) سورة سبأ : الآيات (٣٤ ـ ٣٥)

٦٧

قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(١).

هذه الآية أيضا تتحدث عن علاقة معينة بين ظلم يسود وظلم يسيطر وبين هلاك تجر اليه الامة جرا. وهذه العلاقة ايضا الآية تؤكد انها علاقة مطلقة ، علاقة مطردة على مر التاريخ وهي سنة من سنن التاريخ.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ...)(٢)

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٣).

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(٤)(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها

__________________

(١) سورة الاسراء : الآية (١٦ ـ ١٧).

(٢) سورة المائدة : الآية (٦٦).

(٣) سورة الاعراف : لآية (٩٦).

(٤) سورة الجن الآية ١٦.

٦٨

إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(١).

هذه الآيات الثلاث ايضا تتحدث عن علاقة معينة هي علاقة بين الاستقامة وتطبيق احكام الله سبحانه وتعالى وبين وفرة الخيرات ووفرة الانتاج ، وبلغة اليوم بين عدالة التوزيع وبين وفرة الانتاج ، القرآن يؤكد ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع هذه العدالة في التوزيع التي عبر عنها القرآن تارة بأنه. (لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) واخرى بانه (لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) واخرى بأنه (لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) ، لان شريعة السماء نزلت من اجل تقرير عدالة التوزيع ، من اجل انشاء علاقات التوزيع على اسس عادلة ، يقول لو انهم طبقوا عدالة التوزيع ، اذن لما وقعوا في ضيق من ناحية الثروة المنتجة ، لما وقعوا في فقر من هذه الناحية لازداد الثراء ، لازداد المال وازدادت الخيرات والبركات. لكنهم تخيلوا ان عدالة التوزيع تقتضي الفقر تقتضي التقسيم وبالتالي تقتضي فقر الناس ، بينما الحقيقة السنة التاريخية تؤكد عكس ذلك ، تؤكد بأن تطبيق شريعة

__________________

(١) سورة الزخرف : الآية (٢٢).

٦٩

السماء وتجسيد احكامها في علاقات التوزيع تؤدي دائما وباستمرار الى وفرة الانتاج والى زيادة الثروة ، الى ان يفتح على الناس بركات السماء والارض.

اذن هذه ايضا سنة من سنن التاريخ.

وهناك آيات اخرى اكدت وحثت على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية من اجل تكوين نظرة استقرائية ، من اجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها)(١).

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(٢)

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ، أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها او آذان يسمعون بها فانها لا

__________________

(١) سورة محمد : الآية (١٠).

(٢) سورة يوسف : الآية (١٠٩).

٧٠

تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)(١)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ...)(٢).

من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني الذي اوضحناه ، وهو تأكيد القرآن على ان الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الاخرى. وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم ... لاننا في حدود ما نعلم القرآن اول كتاب عرفه الانسان اكد على هذا المفهوم ، وكشف عنه وأصر عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الاقناع والتفهيم ، قاوم النظرة العفوية او النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الاحداث ، الانسان الاعتيادي كان يفسر احداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الاحداث ، يفسرها على اساس الصدفة تارة ، وعلى اساس

__________________

(١) سورة الحج : الآية (٤٦).

(٢) سورة ق : الآية (٣٦ ـ ٣٧).

٧١

لقضاء والقدر والاستسلام لامر الله سبحانه وتعالى ، القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية وقاوم هذه النظرة الاستسلامية ونبه العقل البشري الى ان هذه الساحة لها سنن ، ولها قوانين وانه لكي تستطيع ان تكون انسانا فاعلا مؤثرا لا بد لك أن تكتشف هذه السنن ، لا بد لك ان تتعرف على هذه القوانين لكي تستطيع ان تتحكم فيها والا تحكمت هي فيك وانت مغمض العينين ، افتح عينيك على هذه القوانين افتح عينيك على هذه السنن لكي تكون انت المتحكم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكمة فيك.

هذا الفتح القرآني الجليل هو الذي مهد الى تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرون الى ان تجري محاولات لفهم التاريخ فهما علميا بعد نزول القرآن بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات بدأت على ايدي المسلمين انفسهم ، فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه ، ثم بعد ذلك بأربعة قرون (على اقل تقدير) اتجه الفكر الاوربي في بدايات ما يسمى بعصر النهضة ، بدأ لكي يجسد هذا المفهوم الذي ضيعه المسلمون ، والذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا الى اعماقه ، هذا المفهوم اخذه

٧٢

الفكر الغربي في بدايات عصر النهضة وبدأت هناك ابحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سنن التاريخ ونشأت على هذا الاساس اتجاهات مثالية ومادية ومتوسطة ومدارس متعددة ، كل واحدة منها تحاول ان تحدد نواميس التاريخ.

وقد تكون المادية التاريخية اشهر هذه المدارس وأوسعها تغلغلا واكثرها تأثيرا في التاريخ نفسه ، اذن كل هذا الجهد البشري في الحقيقة هو استمرار لهذا التنبيه القرآني ويبقى للقرآن الكريم مجده في انه طرح هذه الفكرة لاول مرة على الساحة على ساحة المعرفة البشرية.

٧٣
٧٤

الدرس الخامس

يوم الثلاثاء ٣ / ج ٢ / ١٣٩٩ ه‍

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى

الهداة الميامين من آله الطاهرين.

من خلال استعراضنا السابق للنصوص القرآنية الكريمة التي أوضحت فكرة السنن التاريخية وأكدت عليها ، يمكننا أن نستخلص من خلال المقارنة بين تلك النصوص ثلاث حقائق أكد عليها القرآن الكريم بالنسبة الى سنن التاريخ.

الحقيقة الاولى :

هي الاطّراد بمعنى أن السنة التاريخية مطردة ليست علاقة عشوائية وليست رابطة قائمة على أساس الصدفة والاتفاق وإنما هي علاقة ذات طابع موضوعي لا تتخلف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون على السنن العامة ، وكان التأكيد على طابع الاطراد في السنة تأكيدا على الطابع العلمي للقانون التاريخي ،

٧٥

لأن القانون العلمي أهم مميز يميزه عن بقية المعادلات والفروض هو الإطراد والتتابع وعدم التخلف.

ومن هنا استهدف القرآن الكريم ، من خلال التأكيد على طابع الإطراد في السنة التاريخية ، استهدف أن يؤكد على الطابع العلمي لهذه السنة وأن يخلق في الانسان المسلم شعورا واعيا على جريان أحداث التاريخ متبصرا لا عشوائيا ولا مستسلما ولا ساذجا.

(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً ...)(١) ، (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً ...)(٢)(وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ ...)(٣) هذه النصوص القرآنية تقدم استعراضها تؤكد هذه النصوص طابع الاستمرارية والاطراد أي طابع الموضوعية والعلمية للسنة التاريخية ، وتستنكر هذه النصوص الشريفة كما تقدم في بعضها ، أن يكون هناك تفكير أو طمع لدى جماعة من الجماعات ، بأن تكون مستثناة من سنة التاريخ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ

__________________

(١) سورة الاحزاب : الآية (٦٢).

(٢) سورة الاسراء : الآية (٧٧).

(٣) سورة الانعام : الآية (٣٤).

٧٦

آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)(١) هذه الآية. تستنكر على من يطمع في أن يكون حالة استثنائية من سنة التاريخ كما شرحنا في ما مضى. اذن الروح العامة للقرآن تؤكد على هذه الحقيقة الاولى وهي حقيقة الإطراد في السنة التاريخية الذي يعطيها الطابع العلمي من أجل تربية الانسان على ذهنية واعية عليمة يتصرف في اطارها ومن خلالها مع أحداث التاريخ.

الحقيقة الثانية :

الحقيقة الثانية التي أكدت عليها النصوص القرآنية ربانية السنة التاريخية ، ان السنة التاريخية ، ربانية مرتبطة بالله سبحانه وتعالى ، سنة الله ، كلمات الله على اختلاف التعبير ، بمعنى أن كل قانون من قوانين التاريخ ، فهو كلمة من الله سبحانه وتعالى ، وهو قرار رباني ، هذا التأكيد من القرآن الكريم على ربانية السنة التاريخية وعلى طابعها الغيبي ، يستهدف شدّ الانسان حتى حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعية للكون بالله سبحانه وتعالى ، واشعار الانسان بان الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف

__________________

(١) سورة البقرة : الآية (٢١٤).

٧٧

الساحات الكونية والاستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في هذه الساحات ، ليس ذلك انعزالا عن الله سبحانه وتعالى لان الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن ، ولان هذه السنن والقوانين هي إرادة الله ، وهي ممثلة لحكمة الله وتدبيره في الكون. وقد يتوهم البعض أن هذا الطابع الغيبي الذي يلبسه القرآن الكريم للتاريخ وللسنن التاريخية يبعد القرآن عن التفسير العلمي الموضوعي للتاريخ ويجعله يتجه اتجاه التفسير الإلهي للتاريخ الذي مثلته مدرسة من مدارس الفكر اللاهوتي على يد عدد كبير من المفكرين المسيحيين اللاهوتيين حيث فسروا تفسيرا إلهيا قد يخلط هذا الاتجاه القرآني بذلك التفسير الإلهي الذي اتجه اليه أغسطين وغيره من المفكرين اللاهوتيين ، فيقال بأن اسباغ هذا الطابع الغيبي على السنة التاريخية يحول المسألة الى مسألة غيبية وعقائدية ويخرج التاريخ عن اطاره العلمي الموضوعي لكن الحقيقة أن هناك فرقا أساسيا بين الاتجاه القرآني وطريقة القرآن في ربط التاريخ بعالم الغيب وفي اسباغ الطابع الغيبي على السنة التاريخية ، وبين ما يسمى بالتفسير الإلهي للتاريخ الذي تبناه اللاهوت ، هناك فرق كبير بين هذين الاتجاهين وهاتين

٧٨

النزعتين ، وحاصل هذا الفرق هو أن الاتجاه اللاهوتي ، للتفسير الإلهي للتاريخ يتناول الحادثة نفسها ويربط هذه الحادثة بالله سبحانه وتعالى قاطعا صلتها وروابطها مع بقية الحوادث فهو يطرح الصلة مع الله بديلا عن صلة الحادثة مع بقية الحوادث ، بديلا عن العلاقات والارتباطات التي تزخر بها الساحة التاريخية والتي تمثل السنن والقوانين الموضوعية لهذه الساحة ، بينما القرآن الكريم لا يسبغ الطابع الغيبي على الحادثة بالذات ، لا ينتزع الحادثة التاريخية من سياقها ليربطها مباشرة بالسماء ، لا يطرح صلة الحادثة بالسماء كبديل عن أوجه الانطباق والعلاقات والاسباب والمسببات على هذه الساحة التاريخية بل إنه يربط السنة التاريخية بالله ، يربط اوجه العلاقات والارتباطات بالله ، فهو يقرر أولا ويؤمن بوجود روابط وعلاقات بين الحوادث التاريخية الا أن هذه الروابط والعلاقات بين الحوادث التاريخية هي في الحقيقة تعبير عن حكمة الله سبحانه وتعالى وحسن تقديره وبنائه التكويني للساحة التاريخية ، اذا أردنا أن نستعين بمثال لتوضيح الفرق بين هذين الاتجاهين من الظواهر الطبيعية. نستطيع أن نستخدم هذا المثال : قد يأتي انسان فيفسر ظاهرة المطر التي هي ظاهرة

٧٩

طبيعية فيقول بأن المطر نزل بارادة من الله سبحانه وتعالى ويجعل هذه الارادة بديلا عن الأسباب الطبيعية التي نجم عنها نزول المطر ، فكأن المطر حادثة لا علاقة لها ولا نسب لها ، وانما حادثة مفردة ترتبط مباشرة بالله سبحانه وتعالى بمعزل عن تيار الحوادث ، هذا النوع من الكلام يتعارض مع التفسير العلمي لظاهرة المطر ، لكن اذا جاء شخص وقال بأن الظاهرة ، ظاهرة المطر لها أسبابها وعلاقاتها وانها مرتبطة بالدورة الطبيعية للماء مثلا ، الماء يتبخر فيتحول الى غاز ، والغاز يتصاعد سحابا والسحاب يتحول بالتدريج الى سائل نتيجة انخفاض الحرارة فينزل المطر الا أن هذا التسلسل السببي المتقن ، هذه العلاقات المتشابكة بين هذه الظواهر الطبيعية هي تعبير عن حكمة الله وتدبيره وحسن رعايته فمثل هذا الكلام لا يتعارض مع الطابع العلمي والتفسير الموضوعي لظاهرة المطر ، لاننا ربطنا هنا السنة بالله سبحانه وتعالى لا الحادثة مع عزلها عن بقية الحوادث وقطع ارتباطها مع مؤثراتها وأسبابها.

اذن القرآن الكريم حينما يسبغ الطابع الرباني على السنة التاريخية لا يريد أن يتجه اتجاه التفسير الإلهي في التاريخ ، ولكنه يريد أن يؤكد أن هذه السنن ليست هي

٨٠