تفسير الثعالبي - ج ٢

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٢

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

وقوله : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) : معناه : ولا أعلم ما عندك من المعلومات ، وما أحطت به ، وذكر «النفس» هنا مقابلة لفظيّة ، وفي اللسان العربي ؛ يقتضيها الإيجاز ؛ وهذا ينظر من طرف خفيّ إلى قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] ؛ و (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] فتسمية العقوبة باسم الذّنب إنما قاد إليها طلب المقابلة اللفظية ، إذ هي من فصيح الكلام ، وبارع العبارة.

ثم أقر عيسى ـ عليه‌السلام ـ لله تعالى ؛ بأنه ـ سبحانه ـ علّام الغيوب ، أي : ولا علم لي أنا بغيب.

وقوله : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) : أي : قبضتني بالرّفع ، والتصيير في السّماء ، و (الرَّقِيبَ) : الحافظ المراعي.

وقوله : (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) : أي : في قدرتك ، (الْحَكِيمُ) في أفعالك.

والمعنى : إن يكن لك في النّاس معذّبون ، فهم عبادك ، وإن يكن مغفور لهم ، فعزّتك وحكمتك تقتضي هذا كله.

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٢٠)

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) ؛ فدخل تحت هذه العبارة كل مؤمن بالله ـ سبحانه ـ ، وكلّ ما كان أتقى ، فهو أدخل في العبارة ، وجاءت هذه العبارة مشيرة إلى عيسى ـ عليه‌السلام ـ في حاله ، وصدقه ؛ فيحصل له بذلك في الموقف شرف عظيم ، وإن كان اللفظ يعمه وسواه.

ثم ذكر ـ تعالى ـ ما أعدّه لهم برحمته ، وطوله ، جعلنا الله منهم بمنّه ، وسعة جوده ، لا ربّ غيره ، ولا مرجو في الدّارين سواه ، وباقي الآية بيّن. جعل الله ما كتبناه من هذه الأحرف نورا يسعى بين أيدينا بمنّه. والحمد لله كما هو أهله ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم.

٤٤١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأنعام

قال ابن عبّاس : نزلت سورة الأنعام ، وحولها سبعون ألف ملك ، لهم زجل يجأرون بالتسبيح (١).

قلت : وعن جابر بن عبد الله ، قال : لما نزلت سورة الأنعام ، سبّح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «لقد شيّع هذه السّورة من الملائكة ما سدّ الأفق». رواه الحاكم في «المستدرك على الصحيحين». وقال : صحيح على شرط مسلم (٢). انتهى من «السلاح».

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (٢)

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ).

قال علي بن عبد الرّحمن اليفرني في شرحه ل «البرهانية» : قال الإمام الفخر (٣) : لفظ الحمد معرّفا لا يقال إلا في حقّ الله عزوجل ؛ لأنه يدلّ على التعظيم ، ولا يجوز أن يقال : الحمد لزيد. قاله سيبويه.

وذكر ابن العربيّ في «القانون» عن أنس ؛ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من شيء أحبّ إلى الله من الحمد ، وأبلغ الحمد الحمد لله على كلّ حال» (٤).

__________________

(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢ / ٢٦٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣) ، وعزاه لأبي عبيد ، وابن الضريس ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الحاكم (٢ / ٣١٤ ـ ٣١٥) ، وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٤٧٠) رقم (٢٤٣١) من طريق جعفر بن عون ، ثنا إسماعيل بن عبد الرّحمن ، ثنا محمد بن المنكدر ، عن جابر مرفوعا وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، فإن إسماعيل هذا هو السدي وتعقبه الذهبي فقال : ولم يدرك جعفر السدي ، وأظن هذا موضوعا.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣) ، وزاد نسبته إلى الإسماعيلي في «معجمه».

(٣) ينظر : «مفاتيح الغيب» (١٢ / ١١٨ ، ١١٩)

(٤) أخرجه أبو يعلى (٧ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨) برقم (٤٢٥٦) عن أنس بن مالك به. ـ

٤٤٢

قال ابن العربي : وفي بعض الآثار : «ما من نعمة عظمت إلا والحمد لله أعظم منها» (١). انتهى.

قال ع (٢) : و (جَعَلَ) هاهنا بمعنى : «خلق» ، ولا يجوز غير ذلك.

قال قتادة ، والسّدّيّ ؛ وجمهور من المفسرين : الظلمات الليل ، والنور النهار.

وقالت فرقة : الظّلمات الكفر ، والنور الإيمان.

قال / ع (٣) : وهذا على جهة التّشبيه صحيح ، وعلى ما يفهمه عبّاد الأوثان غير جيد ؛ لأنه إخراج لفظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة ، وهذا هو طريق اللّغز الذي برىء القرآن منه ، والنور أيضا هنا للجنس.

وقوله تعالى : (ثُمَ) دالة على قبح فعل الذين كفروا ؛ لأن المعنى : أن خلقه السّموات والأرض ، وغيرها الموجبة لحمده ، وتوحيده قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك على العباد قد تبيّن ، فكان الواجب عليهم إخلاص التوحيد له ، ثم هم بعد هذا كله بربّهم يعدلون ؛ أي : يسوّون ، ويمثلون ، وعدل الشيء قرينه ومثيله.

و (الَّذِينَ كَفَرُوا) في هذا الموضع كل من عبد شيئا سوى الله إلا أن السّابق من حال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الإشارة إلى عبدة الأوثان من العرب ؛ لمجاورتهم له ، ولفظ الآية أيضا يشير إلى المانويّة العابدين للنور ، القائلين : إن الخير من فعل النور ، والشر من فعل الظلام.

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) فالمعنى : خلق آدم من طين.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) اختلف في هذين الأجلين ، فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : (أَجَلاً) أجل الإنسان من لدن ولادته إلى موته ،

__________________

ـ وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨ / ٢٢) وقال : رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.

وذكره الحافظ في «المطالب العالية» (٣ / ٣٥) رقم (٢٨١٢) وعزاه إلى أبي بكر ، وأحمد بن منيع ، والحارث ، وأبي يعلى.

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٤٣) برقم (١٣٠٤٣) عن السدي ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢ / ٢٦٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦) ، وعزاه لابن جرير.

(٢) ينظر : «المحرر» (٢ / ٢٦٥)

(٣) ينظر : «المحرر» (٢ / ٢٦٦)

٤٤٣

والأجل المسمى عنده من وقت موته إلى حشره ، ووصفه ب (مُسَمًّى عِنْدَهُ) ؛ لأنه استأثر ـ سبحانه ـ بعلم وقت القيامة. وقال ابن عباس : (أَجَلاً) الدنيا ، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) الآخرة (١).

وقيل غير هذا.

و (تَمْتَرُونَ) معناه : تشكون.

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)(٦)

وقوله سبحانه : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) قاعدة الكلام في هذه الآية : أن حلول الله في الأماكن مستحيل ـ تعالى ـ أن يحويه مكان ، كما تقدّس أن يحدّه زمان ، بل كان قبل أن خلق المكان والزمان ، وهو الآن على ما عليه كان.

وإذا تقرّر هذا ، فقالت فرقة من العلماء : تأويل ذلك على تقدير صفة محذوفة من اللفظ ثابتة في المعنى ، كأنه قال : وهو الله المعبود في السموات ، وفي الأرض. وعبر بعضهم بأن قدر : وهو الله المدبر للأمر في السموات والأرض.

وقال الزّجّاج : (فِي) متعلقة بما تضمّنه اسم الله من المعاني ، كما يقال : أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب.

قال ع (٢) : وهذا عندي أفضل الأقوال ، وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ ، وجزالة المعنى.

وإيضاحه : أنه أراد أن يدلّ على خلقه ، وآثار قدرته ، وإحاطته ، واستيلائه ، ونحو هذه الصفات ، فجمع هذه كلها في قوله : (وَهُوَ اللهُ) أي : الذي له هذه كلها في السموات ، وفي الأرض ، كأنه قال : وهو الله الخالق ، الرازق ، المحيي ، المحيط في السموات وفي

__________________

(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢ / ٢٦٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٧) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، والحاكم ، وصححه عن ابن عباس.

(٢) ينظر : «المحرر» (٢ / ٢٧١)

٤٤٤

الأرض ، كما تقول : زيد السلطان في المشرق والمغرب و «الشام» و «العراق» ، فلو قصدت ذات زيد لقلت محالا ، وإذا كان مقصد قولك الآمر ، النّاهي ، الناقض ، المبرم ، الذي يعزل ويولّي في المشرق والمغرب ، فأقمت السلطان مقام هذه ، كان فصيحا صحيحا ، فكذلك في الآية أقام لفظة (اللهُ) مقام تلك الصّفات المذكورة.

وقالت فرقة : (وَهُوَ اللهُ) ابتداء وخبر ، تم الكلام عنده ، ثم استأنف ، وتعلق قوله : (فِي السَّماواتِ) بمفعول (يَعْلَمُ) ، كأنه قال : وهو الله يعلم سرّكم وجهركم في السموات ، وفي الأرض.

وقوله تعالى : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) خبر في ضمنه تحذير وزجر ، و (تَكْسِبُونَ) لفظ / عام لجميع الاعتقادات ، والأقوال ، والأفعال.

وقوله سبحانه : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) تضمنت هذه الآية مذمّة هؤلاء الذين يعدلون بالله سواه ، بأنهم يعرضون عن كل آية ، وكذبوا بالحق ، وهو محمد ـ عليه‌السلام ـ وما جاء به.

قال ص : (مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) «من» الأولى زائدة للاستغراق ، وما بعدها فاعل بقوله : (تَأْتِيهِمْ).

و «من» الثانية للتبعيض انتهى.

وقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هذا وعيد لهم شديد ، وهذه العقوبات التي توعّدوا بها تعمّ عقوبات الدنيا كبدر وغيرها ، وعقوبات الآخرة.

وقوله سبحانه : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) هذا حضّ على العبرة ، والرؤية هنا رؤية القلب ، والقرن : الأمة المقترنة في مدّة من الزمن.

واختلف في مدة القرن (١) كم هي؟

فالأكثر على أنها مائة سنة.

وقيل غير هذا.

__________________

(١) ينظر هذا الاختلاف في «لسان العرب» (٣٦٠٩) (قرن)

٤٤٥

وقيل : القرن الزمن نفسه ، وهو على حذف مضاف ، تقديره : من أهل قرن. قال عياض في «الإكمال» : واختلف في لفظ القرن ، وذكر الحربي (١) فيه الاختلاف من عشر سنين إلى مائة وعشرين ، ثم قال يعني الحربي : وليس منه شيء واضح ، وأرى القرن كلّ أمة هلكت ، فلم يبق منها أحد. انتهى.

والضمير في (مَكَّنَّاهُمْ) عائد على القرن ، والمخاطبة في (لَكُمْ) هي للمؤمنين ، ولجميع المعاصرين لهم من سائر الناس ، و (السَّماءَ) هنا المطر ، و (مِدْراراً) بناء تكثير ، ومعناه : يدرّ عليهم بحسب المنفعة.

وقوله سبحانه : (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ).

(أَنْشَأْنا) : اخترعنا ، وخلقنا ، ويظهر من الآية أن القرن إنما هو وفاة الأشياخ ، ثم ولادة الأطفال.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)(٩)

وقوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) الآية.

لما أخبر عنهم ـ سبحانه ـ بأنهم كذبوا بكل ما جاءهم من آية أتبع ذلك بإخبار فيه مبالغة ، والمعنى : ولو نزلنا بمرأى منهم عليك كتابا أي : كلاما مكتوبا في قرطاس ، أي : في صحيفة.

(فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) يريد : أنهم بالغوا في ميزه وتقليبه ؛ ليرتفع كل ارتياب لعاندوا فيه ، وتابعوا كفرهم وقالوا : هذا سحر مبين.

وقوله سبحانه : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي : يصدّق محمدا في نبوءته ، ثم ردّ

__________________

(١) إبراهيم بن إسحاق بن بشير بن عبد الله البغدادي الحربي ، أبو إسحاق ، من أعلام المحدثين. أصله من مرو ، واشتهر وتوفي ببغداد ، ونسبته إلى محلة فيها. كان حافظا للحديث عارفا بالفقه بصيرا بالأحكام ، قيما بالأدب ، زاهدا ، أرسل إليه المعتضد ألف دينار فردها. تفقه على الإمام أحمد ، وصنف كتبا كثيرة منها «غريب الحديث» و «سجود القرآن» و «الهدايا والسنة فيها» و «الحمام وآدابه» و «دلائل النبوة» وكان عنده اثنا عشر ألف جزء ، في اللغة وغريب الحديث ، كتبها بخطه.

ينظر : «الأعلام» (١ / ٣٢) ، «تذكرة الحفاظ» (٢ / ١٤٧) ، و «إرشاد الأريب» (١ / ٣٧) ، و «صفوة الصفوة» (٢ / ٢٢٨)

٤٤٦

الله عليهم بقوله : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) قال ابن عبّاس وغيره : في الكلام حذف (١) ، تقديره : ولو أنزلنا ملكا ، فكذبوه لقضي الأمر بعذابهم ، ولم ينظروا حسبما سلف في كل أمة اقترحت بآية ، وكذبت بعد أن أظهرت إليها.

وقالت فرقة : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي : لماتوا من هول رؤية الملك في صورته ، ويؤيد هذا التّأويل ما بعده من قوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) فإن أهل التأويل مجمعون أن ذلك ؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته ، فإذ قد تقعّد أنهم لا يطيقون رؤية الملك في صورته ، فالأولى في قوله : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي : لماتوا ؛ لهول رؤيته ، (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) ، أي : لا يؤخّرون.

ومما يؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن الرجلين اللذين صعدا على الجبل يوم بدر ليريا ما يكون في حرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمشركين ، فسمعا حسّ الملائكة ، وقائلا يقول في السحاب : أقدم حيزوم ، فانكشف قناع قلب أحدهما ، فمات لهول ذلك ، فكيف برؤية ملك في خلقته.

(وَلَلَبَسْنا) أي : لفعلنا لهم / في ذلك فعلا ملبسا يطرق لهم إلى أن يلبسوا به ، وذلك لا يحسن.

قلت : وفي البخاري (٢) : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) : لشبهنا.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١٢)

وقوله سبحانه : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) الآية تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأسوة في الرسل ، وتقوية لنفسه على محاجّة المشركين ، وإخبار يتضمّن وعيد مكذّبيه ، والمستهزئين به.

و (فَحاقَ) معناه : نزل ، وأحاط ، وهي مخصوصة في الشر ؛ يقال : حاق يحيق حيقا.

وقوله سبحانه : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) حضّ على الاعتبار بآثار من مضى ممن

__________________

(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢ / ٢٧٠)

(٢) ينظر : صحيح البخاري (٨ / ١٣٦) كتاب «التفسير» ، باب سورة الأنعام.

٤٤٧

فعل مثل فعلهم.

وقوله سبحانه : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ).

قال بعض أهل التّأويل : تقدير الكلام : قل لمن ما في السموات والأرض ، فإذا تحيروا فلم يجيبوا قل لله.

والصحيح من التّأويل أن الله ـ عزوجل ـ أمر نبيه ـ عليه‌السلام ـ أن يقطعهم بهذه الحجّة ، والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم ، ولا عند أحد ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ، ثم يتركّب احتجاجه عليه ، فكأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : يا أيها الكافرون العادلون بربهم لمن ما في السموات والأرض ، ثم سبقهم فقال : لله أي لا مدافعة في هذا عندكم ، ولا عند أحد.

ثم ابتدأ يخبر عن الله تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) معناه : قضاها وأنفذها. وفي هذا المعنى أحاديث صحيحة ؛ ففي «صحيح مسلم» ؛ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جعل الله الرّحمة مائة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدّابّة حافرها عن ولدها ؛ خشية أن تصيبه» (١).

ولمسلم في طريق آخر : «كلّ رحمة منها طباق ما بين السّماء والأرض ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرّحمة» (٢).

وخرج مسلم ، والبخاري ، وغيرهما عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب ، فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي» (٣).

وفي طريق : «سبقت غضبي» إلى غير ذلك من الأحاديث. انتهى.

قال ع (٤) : فما أشقى من لم تسعه هذه الرّحمات. تغمّدنا الله بفضل منه.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٠٨) كتاب «التوبة» ، باب في سعة رحمة الله تعالى ، وأنها سبقت غضبه ، حديث (١٧ / ٢٧٥٢) والبخاري (١٠ / ٤٤٦) كتاب «الأدب» ، باب جعل الله الرحمة في مائة جزء ، حديث (٦٠٠٠) وفي «الأدب المفرد» (١٠٠) ، والدارمي (٢ / ٣٢١) ، والمروزي في «زوائد الزهد» لابن المبارك (١٠٣٩) ، وابن حبان (٦١٤٨) كلهم من طريق الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة به.

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٠٩) كتاب «التوبة» باب في سعة رحمة الله ـ تعالى ـ وأنها سبقت غضبه ، حديث (٢١ / ٢٧٥٣) من حديث سلمان.

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) ينظر : «المحرر» (٢ / ٢٧١)

٤٤٨

ويتضمن هذا الإخبار عن الله ـ سبحانه ـ بأنه كتب الرّحمة لتأنيس الكفار ، ونفي يأسهم من رحمة الله إذا أنابوا.

واللام في قوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) لام قسم ، والكلام مستأنف ، وهذا أظهر الأقوال (١) وأصحها.

وقوله سبحانه : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

(الَّذِينَ) رفع بالابتداء ، وخبره : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ)(١٦)

وقوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الآية.

(وَلَهُ) عطف على قوله : (لِلَّهِ) ، و (سَكَنَ) هي من السّكنى ، ونحوه ؛ أي : ما ثبت وتقرّر. قاله السدي (٢) ، وغيره.

وقالت فرقة : هو من السّكون ، وهو ضعيف.

وقوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية.

قال الطبري (٣) وغيره : أمر ـ عليه‌السلام ـ أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم ، فتجيء الآية على هذا جوابا لكلامهم.

قال ع (٤) : وهذا يحتاج إلى سند ، والفصيح أنه لما قرّر معهم أن الله ـ تعالى ـ له ما في السّموات والأرض ، وله ما سكن في اللّيل والنهار ، أمر أن يقول لهم على جهة التّوبيخ والتوقيف : أغير الله الذي هذه أفعاله أتخذ وليّا ، بمعنى : أن هذا خطأ بيّن / ممن يفعله.

والولي لفظ عام لمعبود وغير ذلك.

__________________

(١) ينظر : «الدر المصون» (٣ / ١٧)

(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢ / ٢٧٢)

(٣) ينظر الطبري (٥ / ١٥٨)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٢٧٣)

٤٤٩

ثم أخذ في صفات الله ـ تعالى ـ فقال : (فاطِرِ) بخفض الراء نعت لله عزوجل.

قال ص : (فاطِرِ) الجمهور (١) بالجرّ ، ووجّهه ابن عطيّة (٢) ، وغيره على أنه نعت (لِلَّهِ).

وأبو البقاء على أنه بدل ، وكأنه رأى الفصل بين البدل والمبدل أسهل ؛ لأن البدل في المشهور على نيّة تكرار العامل. انتهى.

و «فطر» معناه : ابتدع ، وخلق ، وأنشأ ، وفطر أيضا في اللّغة : شقّ ، ومنه (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣] أي : من شقوق.

و (يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) المقصود به : يرزق ولا يرزق.

وقوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ ...) إلى (عَظِيمٍ).

قال المفسرون : المعنى أول من أسلم من هذه الأمة ، وبهذه الشّريعة ، ولفظة (عَصَيْتُ) عامة في أنواع المعاصي ، ولكنها هاهنا إنما تشير إلى الشّرك المنهيّ عنه. واليوم العظيم هو يوم القيامة.

وقرأ نافع (٣) وغيره «من يصرف عنه» مسندا إلى المفعول ، وهو الضمير العائد على العذاب.

وقرأ حمزة وغيره «من يصرف» بإسناد الفعل إلى الضمير العائد إلى «ربي» ، ويعمل في ضمير العذاب المذكور ، ولكنه محذوف.

وقوله : (وَذلِكَ) إشارة إلى صرف العذاب ، وحصول الرحمة ، و (الْفَوْزُ) النّجاة.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٤ / ٩٠) و «الدر المصون» (٣ / ٢٠)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٢٧٣)

(٣) ينظر : «الدر المصون» (٣ / ٢٢) ، و «حجة القراءات» (٢٤٣) ، و «الكشاف» (٢ / ١٠) ، و «النشر» (٢ / ٢٥٧) ، و «البحر المحيط» (٤ / ٩١) ، و «السبعة» (٢٥٤) ، و «التبيان» (١ / ٤٨٤) (٤٨٥) ، و «الزجاج» (٢ / ٢٥٦) ، و «المشكل» (٢ / ٢٤٧) ، و «معاني القراءات» (١ / ٣٤٦) ، و «الحجة» (٣ / ٢٨٥) ، و «العنوان» (٩٠) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٢٤٢) ، و «إعراب القراءات» (١ / ١٥٢)

٤٥٠

وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(١٩)

وقوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ).

يمسسك : معناه يصبك ، وينلك ، والضّرّ بضم الضاد : سوء الحال في الجسم وغيره ، وبفتحها ضدّ النّفع ، ومعنى الآية : الإخبار أن الأشياء كلها بيد الله ؛ إن ضرّ فلا كاشف لضره غيره ، وإن أصاب بخير ، فكذلك أيضا.

وعن ابن عبّاس قال : كنت خلف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فقال : «يا غلام إنّي أعلّمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفّت الصّحف». رويناه في الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح (١).

وفي رواية غير الترمذي زيادة : «احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرّخاء يعرفك في الشّدّة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ...» وفي آخره : «واعلم أن النّصر مع الصّبر ، وأنّ الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا» (٢).

قال النووي : هذا حديث عظيم الموقع. انتهى من «الحلية».

وقرأت فرقة : «وأوحى إليّ هذا القرآن» على بناء الفعل للفاعل ، ونصب «القرآن» ، وفي «أوحى» ضمير يعود على الله تعالى.

وقوله : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) معناه على قول الجمهور : بلاغ القرآن ، أي : لأنذركم وأنذر من بلغه ، ففي «بلغ» ضمير محذوف ؛ لأنه في صلة «من» فحذف لطول الكلام.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٦٦٧) كتاب «صفة القيامة» ، باب (٥٩) ، حديث (٢٥١٦) وأحمد (١ / ٣٠٧).

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(٢) أخرجه عبد بن حميد في «المنتخب» (ص ٢١٤) رقم (٦٣٦) من طريق المثنى بن الصباح ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس به.

والمثنى بن الصباح ضعيف.

٤٥١

وقالت فرقة : ومن بلغ الحلم.

وروي في معنى التأويل الأوّل أحاديث. وظاهر الآية أنها في عبدة الأصنام.

وذكر الطبري (١) أنه قد ورد من وجه لم تثبت صحته أنها في قوم من اليهود ، قالوا : يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره ، فقال لهم : «لا إله إلّا الله وبذلك أمرت» فنزلت الآية. والله أعلم.

وأمر الله ـ سبحانه ـ نبيّه ـ عليه‌السلام ـ أن يعلن بالتّبرّي من شهادة الكفرة ، والإعلان بالتوحيد لله ـ عزوجل ـ والتبرّي من إشراكهم.

قال الغزالي في «الإحياء». وينبغي للتّالي أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن ، فإن سمع أمرا أو نهيا قدّر المنهيّ ، والمأمور ، وكذا إن سمع وعدا أو وعيدا ، وكذا ما يقف عليه من القصص / ، فالمقصود به الاعتبار. قال تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) [هود : ١٢٠].

وقال تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٨].

وقال : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).

قال محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما كلّمه الله عزوجل (٢) انتهى.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٢٢)

وقوله سبحانه : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ).

قال قتادة ، وغيره : يعرفون محمدا ـ عليه‌السلام ـ (٣).

وقوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية ؛ روي أن كل عبد له منزل في الجنّة ، ومنزل في النار ، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنّة ، والكافرون ينزلون منازل أهل الجنّة

__________________

(١) ينظر الطبري (٥ / ١٦٣)

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٦٢) (١٣١٢٧) بلفظ : «من بلغه القرآن ، فقد أبلغه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وذكره البغوي (٢ / ٨٨) بلفظ : «من بلغه القرآن ، فكأنما رأى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسمع منه».

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٦٢) برقم (١٣١٣٣) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢ / ٢٧٦)

٤٥٢

في النار ، فهنا هي الخسارة البيّنة ، والربح للآخرين. وباقي الآية بيّن.

وقوله سبحانه : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) المعنى : واذكر يوم نحشرهم.

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(٢٦)

وقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

الفتنة في كلام العرب لفظة مشتركة ، تقال بمعنى حبّ الشيء ، والإعجاب به ، وتقال بمعنى الاختبار. ومن قال : إن أصل الفتنة الاختبار من : فتنت الذّهب في النّار ، ثم يستعار بعد ذلك في غير ذلك ، فقد أخطأ ؛ لأن الاسم لا يحكم عليه بمعنى الاستعارة حتى يقطع عليه باستحالة حقيقته في الموضع الذي استعير له ، كقول ذي الرّمّة : [الطويل]

ولفّ الثّريّا في ملاءته الفجر (١)

ونحوه ، والفتنة لا يستحيل أن تكون حقيقة في كل موضع قيلت عليه ، وباقي الآية مضى تفسيره عند قوله سبحانه : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢] فانظره هناك.

قال ع (٢) : وعبر قتادة عن الفتنة هنا بأن قال : معذرتهم (٣).

وقال الضّحّاك (٤) : كلامهم.

وقيل غير هذا مما هو في ضمن ما ذكرناه.

وقوله سبحانه : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) هذا خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنظر نظر القلب ، وقال : (كَذَبُوا) في أمر لم يقع ؛ إذ هي حكاية عن يوم القيامة ، فلا إشكال في

__________________

(١) ينظر : «المحرر» (٢ / ٢٧٨)

(٢) ينظر : «المحرر» (٢ / ٢٧٩)

(٣) أخرجه الطبري (٥ / ١٦٦) برقم (١٣١٤١) ، وذكره ابن عطية (٢ / ٢٧٩) والسيوطي (٣ / ١٤) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.

(٤) أخرجه الطبري (٥ / ١٦٦) برقم (١٣١٤٠) ، وذكره ابن عطية (٢ / ٢٧٩)

٤٥٣

استعمال الماضي فيها موضع المستقبل ، ويفيدنا استعمال الماضي تحقيقا في الفعل ، وإثباتا له ، وهذا مهيع في اللّغة.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ) معناه : ذهب افتراؤهم في الدنيا ، وكذبهم على الله.

وقوله سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) الآية.

«أكنّة» جمع : كنان ، وهو الغطاء (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي : يفهموه ، والوقر الثقل.

وقوله سبحانه : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها). الرؤية هنا رؤية العين ، يريد كانشقاق القمر وشبهه.

وقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إشارة إلى القرآن ، والأساطير جمع أسطار ، كأقوال وأقاويل ، وأسطار جمع سطر أو سطر. وقيل : أساطير جمع إسطارة ، وهي التّرّهات.

وقيل : جمع أسطورة كأعجوبة ، وأضحوكة. وقيل : هو اسم جمع ، لا واحد له من لفظه كعباديد وشماطيط (١) ، والمعنى : إخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تسطّر ، وتحكى ، ولا تحقّق كالتواريخ ، وإنما شبّهها الكفار بأحاديث النّضر بن الحارث ، وعبد الله بن أبي أميّة ، عن رستم ونحوه ، ومجادلة الكفار كانت مرادّتهم نور الله بأقوالهم المبطلة.

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) قال / قتادة وغيره : المعنى : ينهون عن القرآن (٢).

وقال ابن عباس وغيره : ينهون عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى : ينهون غيرهم ، ويبعدون هم بأنفسهم (٣) ، والنّأي البعد.

__________________

(١) العباديد : الخيل المتفرقة في ذهابها ومجيئها ، ولا واحد له ، ولا يقع إلا في جماعة. ولا يقال للواحد : عبديد.

وكذلك الشماطيط. قال الفراء : العباديد والشماطيط لا يفرد له واحد. ينظر : «لسان العرب» (٢٣٢٧ ، ٢٧٨٠)

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٧١) برقم (١٣١٦٨) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٩١) ، وابن عطية (٢ / ٢٨٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٦) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ عن قتادة.

(٣) أخرجه الطبري (٥ / ١٧١) برقم (١٣١٦٣) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٢ / ٢٨٠) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٥) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

٤٥٤

قال ص : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) : إن نافية بمعنى «ما» ، و (أَنْفُسَهُمْ) مفعول ب (يُهْلِكُونَ) انتهى. (وَما يَشْعُرُونَ) معناه : ما يعلمون علم حسّ ، ونفي الشعور مذمّة بالغة ؛ إذ البهائم تشعر وتحسّ ، فإذا قلت : فلان لا يشعر ، فقد نفيت عنه العلم النفي العام الذي يقتضي أنه لا يعلم ولا المحسوسات.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٢٨)

وقوله جلّت عظمته : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) الآية : المخاطبة فيه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجواب «لو» محذوف ، تقديره في آخر الآية : لرأيت هولا عظيما ونحوه.

و (وُقِفُوا) معناه : حسّوا ، ويحتمل قوله : (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) بمعنى «دخلوها». قاله الطّبريّ (١).

ويحتمل أن يكون أشرفوا عليها ، وعاينوها.

وقولهم : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) معناه إلى الدنيا.

وقوله سبحانه : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) الآية : يتضمّن أنهم كانوا يخفون أمورا في الدنيا ، فظهرت لهم يوم القيامة ، أو ظهر وبال ذلك وعاقبته ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه.

وقيل : إن الكفّار كانوا إذا وعظهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خافوا ، وأخفوا ذلك الخوف لئلّا يشعر بهم أتباعهم ، فظهر لهم ذلك يوم القيامة.

ويصح أن يكون مقصد الآية الإخبار عن هول ما لقوه ، فعبّر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغيرها ، فكيف الظّنّ بما كانوا يعلنونه من كفر ونحوه. وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تعظيم شأن يوم القيامة : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩]. وقوله سبحانه : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا) إخبار عن أمر لا يكون كيف كان يوجد ، وهذا النوع مما استأثر الله ـ تعالى ـ بعلمه ، فإن أعلم بشيء منه علم ، وإلا لم يتكلّم فيه.

قال الفخر (٢) : قال الواحديّ : هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فساد قول المعتزلة ؛

__________________

(١) ينظر : الطبري (٥ / ١٧٣) بلفظ : حبسوا.

(٢) ينظر : «مفاتيح الغيب» (١٢ / ١٦٠)

٤٥٥

لأن الله ـ تعالى ـ حكى عن هؤلاء أنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه ، وما ذاك إلا للقضاء السابق فيهم. انتهى.

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)(٣١)

وقوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) هذا على تأويل الجمهور ابتداء كلام ، وإخبار عنهم بهذه المقالة ، و «إن» نافية ، ومعنى الآية عنهم التكذيب بالحشر والعودة إلى الله.

وقوله سبحانه : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) الإشارة بهذا إلى البعث الذي كذبوا به / في الدنيا ، وقولهم : (بَلى وَرَبِّنا) أيمان ، ولكنه حين لا ينفع.

وقوله : (فَذُوقُوا) استعارة بليغة ، والمعنى باشروه مباشرة الذائق ، و (بَغْتَةً) معناه : فجأة ، تقول : بغتني الأمر ؛ أي : فجأني ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

ولكنّهم بانوا ولم أخش بغتة

وأفظع شيء حين يفجأك البغت (١)

ونصبها على المصدر في موضع الحال.

وقولهم : (يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) نداء الحسرة على تعظيم الأمر ، وتشنيعه.

و (فَرَّطْنا) معناه : قصّرنا ، والضمير في قوله : (فِيها) عائد على السّاعة ؛ أي : في التّقدمة لها. قاله الحسن (٢).

ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا ، إذ المعنى يقتضيها ، ومجيء الظرفية أمكن.

قلت : قال عبد الحق في «العاقبة» : لا يعرف مقدار الحياة إلا الموتى ؛ لأنهم قد ظهرت لهم الأمور ، وانكشفت لهم الحقائق ، وتبدّت لهم المنازل ، وعلموا مقدار الأعمال الصّالحة ، ولما استبان لهم ذلك ، وعلموا مقدار ما ضيعوا ، وقيمة ما فيه فرّطوا ، ندموا وأسفوا ، وودّوا أنهم إلى الدنيا رجعوا ، فالذي عمل صالحا ودّ أن لو رجع إلى الدنيا ليزداد

__________________

(١) البيت ليزيد بن ضبة. اللسان (بغت)

(٢) ذكره ابن عطية (٢ / ٢٨٤)

٤٥٦

من عمله الصالح ، ويكثر من تجره الرابح ، والمقصّر يودّ أنه لو ردّ ليستدرك ما فيه فرّط ، وقد قال عليه‌السلام : «ما من أحد يموت إلّا ندم» قالوا : وما ندامته يا رسول الله؟ قال : «إن كان محسنا ندم ألّا يكون ازداد ، وإن كان مسيئا ندم ألا يكون نزع» خرجه الترمذي (١). انتهى.

وقوله تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ) الواو واو الحال ، والأوزار جمع وزر بكسر الواو ، وهو الثّقل من الذنوب ، والوزر هنا تجوّز وتشبيه بثقل الأحمال. ومن قال : إنه من الوزر ، وهو الجبل الذي يلجأ إليه ، فهو قول غير بيّن.

وقال الطبري (٢) وغيره : هذا على جهة الحقيقة ، ورووا في ذلك خبرا : أنّ المؤمن يلقاه عمله في أحسن صورة وأفوحها فيسلّم عليه ويقول طال ما ركبتك في الدّنيا وأجهدتك ، فاركبني اليوم. قال : فيحمله تمثال العمل. وإن الكافر يلقاه عمله في أقبح صورة وأنتنها فيشتمه ، ويقول : أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدّنيا بشهواتك فأنا أركبك اليوم ، قال : فيحمل تمثال عمله الخبيث وأوزاره على ظهره.

قلت : والأحاديث الصحيحة في معنى ما ذكره الطبري كثيرة كأحاديث مانعي الزكاة ، وغيرها.

قال مكي : وروى المقبريّ عن أبي هريرة في حديث يرفعه ، قال : «إذا كان يوم القيامة بعث الله مع كل امرئ مؤمن عمله ، وبعث مع الكافر عمله فلا يرى المؤمن شيئا يروعه ، ولا شيئا يفزعه ويخافه إلّا قال له عمله : أبشر بالّذي يسرّك فإنّك لست بالّذي يراد بهذا. ولا يرى الكافر شيئا يفزعه ويروعه ويخافه إلا قال له عمله : أبشر يا عدوّ الله بالذي يسوءك ، فو الله إنك لأنت الذي تراد بهذا». انتهى.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٦٠٣ ـ ٦٠٤) كتاب «الزهد» باب (٥٨) ، حديث (٢٤٠٣) وابن المبارك في «الزهد» (ص ١١) رقم (٣٣) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ١٧٨) والبيهقي في «الزهد» (ص ٢٧٩) رقم (٧١٦) كلهم من طريق يحيى بن عبيد الله قال : سمعت أبي يقول : سمعت أبا هريرة يقول : فذكر الحديث. وقال الترمذي : هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه ، ويحيى بن عبيد الله تكلم فيه شعبة ، وهو يحيى بن عبيد الله بن موهب مدني ا ه.

وقال أبو نعيم : غريب من حديث يحيى.

(٢) ينظر : الطبري (٥ / ١٧٨)

٤٥٧

إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(٣٣)

وقوله سبحانه : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) الآية. هذا ابتداء خبر عن حال الدنيا ، والمعنى : أنها إذ كانت فانية لا طائل لها أشبهت اللّعب ، واللهو الذي لا طائل له إذا تقضّى. وهذه الآية تتضمن الرّدّ على قولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الأنعام : ٢٩] وهو المقصود بها.

قال عبد الحق في «العاقبة» : اعلم ـ رحمك الله ـ أن حبّ الدّنيا هو سبب طول الأمل ، والإكباب عليها يمنع من الفكرة في الخروج عنها ، والجهل بغوائلها يحمل على الإرادة لها ، والازدياد منها ؛ لأن من أحبّ شيئا أحبّ / الكون معه ، والازدياد منه ، ومن كان مشغوفا بالدنيا محبّا لها قد خدعته بزخرفها وأمالته برونقها كيف يحبّ مفارقتها ، أو يحب مزايلتها ، هذا أمر لم تجر العادة به ، ولا حدّثنا عنه ، بل نجد من كان على هذه الصفة أعمى عن طريق الخير ، أصم عن داعي الرشد ، أفن الرأي ، سيّىء النظر ، ضعيف الإيمان ، لم تترك له الدّنيا ما يسمع به ، ولا ما يرى ، إنما دينه وشغله وحديثه دنياه ، لها ينظر ، ولها يسمع ، قد ملأت عينه وقلبه ، ثم قال : واعلم أن أهل القبور إنما يندمون على ما يتركون ، ويفرحون بما يقدّمون ، فما عليه أهل القبور يندمون ، أهل الدنيا عليه يقتتلون. انتهى.

وقوله سبحانه : (قَدْ نَعْلَمُ ...) الآية : (نَعْلَمُ) إذا كانت من الله ـ تعالى ـ تتضمّن استمرار العلم وقدمه ، فهي تعمّ الماضي ، والحال ، والاستقبال.

قلت : ونحو هذا لأبي (١) حيّان قال : وعبر هنا بالمضارع ؛ لأنّ المراد الاتصاف بالعلم ، واستمراره ، ولم يلحظ فيه الزمان ، كقولهم : فلان يعطي ويمنع. انتهى.

وقرأ نافع (٢) وحده «ليحزنك» من أحزن.

وقرأ الباقون : «ليحزنك» من حزنت الرجل.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة «لا يكذّبونك» (٣) ـ بتشديد

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٤ / ١١٥)

(٢) ينظر : «حجة القراءات» ص (٢٤١) ، «السبعة» ص (٢٥٧) ، «النشر» (٢ / ٢٥٧) ، «التبيان» (١ / ٤٩٠) ، «المشكل» (١ / ٢٥١) ، «المصاحف» لابن أبي داود ص (٤٥) ، «البحر المحيط» (٤ / ١١٤) ، «الدر المصون» (٣ / ٤٦) ، و «الحجة» (٣ / ٣٠٤) ، و «العنوان» (٩٠)

(٣) ينظر : «الدر المصون» (٣ / ٤٨) ، «البحر المحيط» (٤ / ١١٦) ، «حجة القراءات» ص (٢٤٧) ، «الكشاف» (٢ / ١٨) ، «النشر» (٢ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨) ، «إتحاف فضلاء البشر» (٢ / ١٠) ، و «السبعة» ـ

٤٥٨

الذال ، وفتح الكاف ـ وقرأها ابن عباس ، وردّها على قارئ قرأ عليه «يكذبونك» بضم الياء ، وقال : إنهم كانوا يسمونه الأمين.

وقرأ نافع والكسائي ـ بسكون الكاف ، وتخفيف الذال ـ ، وهما قراءتان مشهورتان صحيحتان ، وهما بمعنى واحد ، فمعنى : لا يكذبونك ، أي : لا يعتقدون كذبك ، وإنهم يعلمون صدقك ، ولكنهم يجحدون عنادا وظلما ، وهذا تأويل قتادة والسّدي وغيرهما (١).

وحكي عن طائفة من الكفّار أنها كانت تقول : إنا لنعلم أن محمدا صادق ، ولكن إذا آمنّا به فضلنا بنو هاشم بالنبوءة ، فنحن لا نؤمن به أبدا. رويت هذه المقالة عن أبي جهل (٢) ، ومن جرى مجراه.

وأسند الطّبريّ (٣) : «أن جبريل وجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حزينا فسأله ، فقال : كذبني هؤلاء ، فقال : إنهم لا يكذبونك بل يعلمون أنّك صادق ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون» وجحد العناد جائز الوقوع بمقتضى النظر ، وظواهر القرآن تعطيه ، و (يَجْحَدُونَ) : حقيقته في كلام العرب الإنكار بعد معرفة ، وهو ضد الإقرار.

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً

__________________

ـ (٢٥٧) ، و «الحجة» (٣ / ٣٠٢) ، و «إعراب القراءات» (١ / ١٥٥) ، و «العنوان» (٩٠) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٢٤٨) ، و «شرح شعلة» (٣٦٠)

(١) أخرجه الطبري (٥ / ١٨١) رقم (١٣١٩٥ ، ١٣١٩٦) ، بنحوه ، وذكره البغوي (٢ / ٩٣ ، ٩٤) عن السدي ، وذكره ابن عطية (٢ / ٢٨٦) ، وذكره ابن كثير (٢ / ١٢٩ ، ١٣٠) بنحوه ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٨) وعزاه لعبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة ، ولابن أبي حاتم ، عن الحسن بنحوه.

(٢) عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي : أشد الناس عداوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأحد سادات قريش ، وأبطالها ودهاتها في الجاهلية ، كان يقال له : أبو الحكم ، كان عنيدا عنيفا ، حتى كانت وقعة بدر الكبرى ، فشهدها مع المشركين فكان من قتلاها سنة ٢ ه‍.

ينظر : «الكامل» (٢ / ١٢٧) ، و «فتح الباري» (٧ / ٢٩٣ ـ ٢٩٦) ، «عيون الأخبار» (١ / ٢٣٠) ، «السيرة الحلبية» (٢ / ٣٣) ، «دائرة المعارف الإسلامية» (١ / ٣٢٢) ، «إمتاع الأسماع» (١ / ١٨) ، «الأعلام» (٥ / ٨٧)

(٣) أخرجه الطبري (٥ / ١٨٢) رقم (١٣٢٠٢ ، ١٣٢٠٣) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٢ / ٢٨٧) بنحوه ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٩) ، وعزاه لابن جرير عن الضحاك ، ولابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج بنحوه.

٤٥٩

فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(٣٦)

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا) الآية.

قال ابن جريج ، والضحاك : عزّى الله بهذه الآية نبيّه ـ عليه‌السلام ـ (١) ثم قوّى سبحانه رجاء نبيّه فيما وعده من النصر ، بقوله : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) ، أي : لا رادّ لأمره ، وكلماته السابقة بما يكون ، فكأن المعنى : فاصبر كما صبروا ، وانتظر ما يأتي ، وثق بهذا الإخبار ، فإنه لا مبدّل له.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ...) الآية فيها إلزام الحجة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أن لا وجه إلا الصّبر ، والمعنى : إن كنت تعظم تكذيبهم ، وكفرهم على نفسك ، وتلتزم الحزن ، فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعمال الأرض ، أو على ارتقاء سلّم في السماء ، فافعل ، أي : ولست بقادر على شيء من هذا ، ولا بدّ لك من التزام الصّبر ، واحتمال المشقة ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله ، وأمضاه. وروى الدّار قطنيّ في «سننه» / عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «إذا أصاب أحدكم همّ أو حزن فليقل سبع مرّات : الله الله ربّي لا أشرك به شيئا» (٢) انتهى من «الكوكب الدّري».

و (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي : بعلامة.

وقال مكّي ، والمهدوي : الخطاب بقوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته ، وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ. قلت وما قاله ع : فيه عندي نظر ؛ لأن هذا شأن التأويل إخراج اللّفظ عن ظاهره لموجب ، على أن أبا محمد مكّيّا ـ رحمه‌الله ـ نقل هذا القول عن غيره نقلا ، ولفظه : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي : ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجمع على الهدى جميع خلقه.

وقيل : معنى الخطاب لأمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : فلا تكونوا من الجاهلين ، ومثله في القرآن كثير. انتهى من «الهداية».

وقوله سبحانه : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) هذا من النّمط المتقدّم في التسلية ،

__________________

(١) ينظر : الطبري (٥ / ١٧٨)

(٢) ذكره الهندي في «كنز العمال» (٢ / ١١٧) رقم (٣٤١٠) ، وعزاه للطبراني في «الأوسط».

٤٦٠