تفسير الثعالبي - ج ٢

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٢

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

وأصحابه حين حمّلهم أبو سفيان ذلك ، «فالنّاس» الأوّل هم الرّكب ، و «النّاس» الثّاني عسكر قريش ؛ هذا قول / الجمهور ، وهو الصواب ، وقول من قال : إن الآية نزلت في خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بدر الصّغرى لميعاد أبي سفيان ، و (إِنَّ النَّاسَ) هنا هو نعيم بن مسعود ـ قول ضعيف ، وعن ابن عبّاس ؛ أنه قال : «حسبنا الله ونعم الوكيل» قالها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، حين ألقى في النّار ، وقالها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قالوا : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، رواه مسلم. والبخاريّ (١). انتهى.

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(١٧٨)

وقوله سبحانه : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ ...) الآية : إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الرّكب عن رسالة أبي سفيان ، ومن جزع من جزع من الخبر.

وقرأ الجمهور (٢) : «يخوّف أولياءه» ، قال قوم : معناه : يخوّف المنافقين ، ومن في قلبه مرض ، وحكى أبو الفتح بن جنّي (٣) ، عن ابن عبّاس ؛ أنه قرأ «يخوّفكم أولياءه» ، فهذه قراءة ظهر فيها المفعولان ، وهي مفسّرة لقراءة الجماعة ، وفي قراءة أبيّ بن كعب : «يخوّفكم بأوليائه» ، وفي كتاب «القصد إلى الله تعالى» ؛ للمحاسبيّ (٤) ، قال : وكلما عظمت هيبة الله عزوجل في صدور الأولياء ، لم يهابوا معه غيره ؛ حياء منه عزوجل أن يخافوا معه سواه. انتهى.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٧٧) كتاب «التفسير» ، باب (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) ، حديث (٤٥٦٣) عن ابن عباس.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (١ / ٥٤٤) ، و «البحر المحيط» (٣ / ١٢٥) ، و «الدر المصون» (٢ / ٢٦٣)

(٣) ينظر : «المحتسب» (١ / ١٧٧)

(٤) الحارث بن أسد ، أبو عبد الله المحاسبي ، قال ابن الصلاح : ذكره أبو منصور التميمي في الطبقة الأولى من الشافعية فيمن صحب الشافعي. قال ابن قاضي شهبة : أحد مشايخ الصوفية. توفي سنة ٢٤٣ ه‍.

ينظر : «طبقات ابن قاضي شهبة» (١ / ٥٩) ، و «طبقات الفقهاء» للعبادي (ص ٢٧) ، و «ميزان الاعتدال» (١ / ١٩٩).

١٤١

وقوله سبحانه : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ، والمسارعة في الكفر : هي المبادرة إلى أقواله وأفعاله ، والجدّ في ذلك ، وسلّى الله تعالى نبيّه ـ عليه‌السلام ـ بهذه الآية عن حال المنافقين والمجاهرين ؛ إذ كلّهم مسارع ، وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) : خبر في ضمنه وعيد لهم ، أي : وإنما يضرّون أنفسهم ، والحظّ : إذا أطلق ، فإنما يستعمل في الخير ، وقوله سبحانه : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) : نملي : معناه : نمهل ونمدّ في العمر ، والمعنى : لا تحسبنّ إملاءنا للذين كفروا خيرا لهم ، فالآية ردّ على الكفّار في قولهم : إنّ كوننا مموّلين أصحّة دليل على رضا الله بحالتنا.

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١٨٠)

وقوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) ، أي : ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين ، مشكلا أمرهم ؛ حتى يميز بعضهم من بعض ؛ بما يظهره من هؤلاء وهؤلاء في «أحد» من الأفعال والأقوال ، هذا تفسير مجاهد وغيره (١).

وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) ، أي : في أمر أحد ، وما كان من الهزيمة وأيضا : فما كان الله ليطلعكم على المنافقين تصريحا وتسمية لهم ، ولكن بقرائن أفعالهم وأقوالهم.

قال الفخر (٢) : وذلك أنّ سنة الله جارية بأنّه لا يطلع عوامّ الناس على غيبه ، أي : لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك الامتياز إلّا بامتحانات ؛ كما تقدّم ، فأمّا معرفة ذلك على سبيل الاطلاع من الغيب ، فهو من خواصّ الأنبياء ، فلهذا قال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ). انتهى.

وقال الزّجّاج (٣) وغيره : روي أنّ بعض الكفّار قال : لم لا يكون جميعنا أنبياء ،

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (١ / ٤٣٩) بنحوه ، وذكره أيضا ابن عطية في «تفسيره» (١ / ٥٤٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٨٤) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) ينظر : «مفاتيح الغيب» لفخر الدين الرازي (٩ / ٩٠)

(٣) ينظر : «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج (١ / ٤٩٢)

١٤٢

فنزلت هذه الآية ، و (يَجْتَبِي) : معناه : يختار ويصطفي ، وقوله سبحانه : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) الآية : قال السّدّيّ وجماعة من المتأوّلين : الآية نزلت في البخل بالمال ، والإنفاق في سبيل الله ، وأداء الزكاة المفروضة ، ونحو ذلك ، قال : ومعنى : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ) هو الذي ورد / في الحديث ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنه قال : «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه ، فيسأله من فضل عنده ، فيبخل عليه إلّا أخرج له يوم القيامة شجاع من النّار يتلمّظ ؛ حتّى يطوّقه» (١) ، قلت : وفي البخاريّ وغيره ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من آتاه الله مالا ، فلم يؤدّ زكاته مثّل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه ، يعني : شدقيه ، يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثمّ تلا هذه الآية : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ...) (٢) الآية.

قلت : واعلم أنه قد وردت آثار صحيحة بتعذيب العصاة بنوع ما عصوا به ؛ كحديث : «من قتل نفسه بحديدة ، فهو يجأ نفسه بحديدته في نار جهنّم ، والّذي قتل نفسه بالسّمّ ، فهو يتحسّاه في نار جهنّم» (٣) ، ونحو ذلك.

__________________

(١) أخرجه الطبراني في «الكبير» (٢ / ٣٢٢) رقم (٢٣٤٣) من حديث جرير بن عبد الله.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨ / ١٥٧) ، وقال : رواه الطبراني في «الأوسط» و «الكبير» ، وإسناده جيد.

وله شاهد من حديث حجير بن بيان : ذكره الحافظ في «المطالب العالية» (٣ / ٣١٤) رقم (٣٥٦٨) ، وعزاه لأبي بكر بن أبي شيبة.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٣١٥) ، كتاب «الزكاة» ، باب إثم مانع الزكاة ، حديث (١٤٠٣) من حديث أبي هريرة.

(٣) أخرجه البخاري (١٠ / ٢٥٨) ، كتاب «الطب» ، باب شرب السم والدواء .. ، حديث (٥٧٧٨) ، ومسلم (١ / ١٠٣) كتاب «الإيمان» ، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه ، حديث (١٠٩ / ١٧٥) ، وأبو داود (٢ / ٤٠٠) كتاب «الطب» ، باب في الأدوية المكروهة ، حديث (٣٨٧٢) ، والترمذي (٤ / ٣٨٦) كتاب «الطب» ، باب ما جاء فيمن قتل نفسه بسم أو غيره ، حديث (٢٠٤٣ ، ٢٠٤٤) ، والنسائي (٤ / ٦٦ ـ ٦٧) كتاب «الجنائز» ، باب ترك الصلاة على من قتل نفسه ، وابن ماجة (٢ / ١١٤٥) ، كتاب «الطب» ، باب النهي عن الدواء الخبيث ، حديث (٣٤٦٠) ، وأحمد (٢ / ٢٥٤ ، ٤٧٨) ، والدارمي (٢ / ١٩٢) كتاب «الديات» ، باب التشديد على من قتل نفسه ، وابن حبان (٥٩٨٦ ـ الإحسان) ، وابن منده في «الإيمان» (٦٢٧ ، ٦٢٨ ، ٦٢٩) ، والبيهقي (٨ / ٢٣ ـ ٢٤) كتاب «الجنايات» ، باب التغليظ على من قتل نفسه ، كلهم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به.

وقال الترمذي : هذا حديث صحيح.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٢٩١ ـ ٢٩٢) وقال : رواه أحمد والطبراني باختصار ، ورجال أحمد رجال الصحيح ، غير عبد الله بن جنادة ، وهو ثقة.

حديث سلمان : ـ

١٤٣

قال الغزّاليّ في «الجواهر» : واعلم أنّ المعاني في عالم الآخرة تستتبع الصّور ، ولا تتبعها ، فيتمثّل كلّ شيء بصورة توازي معناه ، فيحشر المتكبّرون في صور الذّرّ يطؤهم من أقبل وأدبر ، والمتواضعون أعزّاء. انتهى ، وهو كلام صحيح يشهد له صحيح الآثار ؛ ويؤيّده النظر والاعتبار ، اللهم ، وفّقنا لما تحبّه وترضاه.

قال ابن العربيّ (١) في «أحكامه» : قال علماؤنا : البخل : منع الواجب ، والشّحّ : منع المستحبّ ، والصحيح المختار أنّ هذه الآية في الزكاة الواجبة ؛ لأنّ هذا وعيد لمانعيها ، والوعيد إذا اقترن بالفعل المأمور به ، أو المنهيّ عنه ، اقتضى الوجوب أو التحريم. انتهى. وتعميمها في جميع أنواع الواجب أحسن.

وقوله سبحانه : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خطاب على ما يفهمه البشر ، دالّ على فناء الجميع ، وأنه لا يبقى مالك إلّا الله سبحانه.

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(١٨٢)

وقوله سبحانه : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ...) الآية : نزلت بسبب فنحاص اليهوديّ وأشباهه ؛ كحييّ بن أخطب وغيره ، لمّا نزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [الحديد : ١١] ، قالوا : يستقرضنا ربّنا ، إنما يستقرض الفقير الغنيّ ، وهذا من تحريف اليهود للتأويل على نحو ما صنعوا في توراتهم.

وقوله تعالى : (قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) : دالّ على أنّهم جماعة.

وقوله تعالى : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا ...) الآية : وعيد لهم ، أي : سنحصي عليهم قولهم ، ويتصل ذلك بفعل آبائهم من قتل الأنبياء بغير حقّ.

وقوله سبحانه : (أَنَّ اللهَ) ؛ أي : وبأنّ الله ليس بظلّام للعبيد.

__________________

ـ أخرجه الحاكم (٣ / ٦٠٤) والطبراني في «الكبير» (٦١٨٣) كلاهما من طريق سعيد بن محمد الوراق عن موسى الجهني عن زيد بن وهب عن سلمان به وصححه الحاكم.

وتعقبه الذهبي فقال : الوراق تركه الدار قطني وغيره. وقال الهيثمي في «المجمع» (١٠ / ٢٩٢) : رواه الطبراني وفيه سعيد بن محمد الوراق ، وهو متروك.

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (١ / ٣٠٣)

١٤٤

قال ص : قيل : المراد هنا نفي القليل والكثير من الظّلم ؛ كقول طرفة (١) : [الطويل].

ولست بحلّال التّلاع مخافة

ولكن متى يسترفد القوم أرفد (٢)

ولا يريد : أنه قد يحلّ التلاع قليلا.

وزاد أبو البقاء وجها آخر ، وهو أن يكون على النّسب ، أي : لا ينسب سبحانه إلى ظلم ، فيكون من باب بزّاز وعطّار. انتهى ، قلت : وهذا القول أحسن ما قيل هنا ، فمعنى وما ربّك بظلّام ، أي : بذي ظلم.

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ)(١٨٤)

وقوله سبحانه : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا ...) الآية : هذه المقالة قالتها أحبار اليهود مدافعة لأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : إنّك لم تأتنا بقربان تأكله النار ، فنحن قد عهد إلينا ألّا نؤمن لك.

__________________

(١) طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد ، البكري ، الوائلي ، أبو عمرو : شاعر جاهلي من الطبقة الأولى. ولد في بادية «البحرين» ، وتنقل في بقاع «نجد». واتصل بالملك عمرو بن هند ، فجعله في ندمائه ، ثم أمر بقتله ؛ لأبيات بلغ الملك فيها أن طرفة هجاه بها. وأشهر شعره معلقته. ومطلعها :

«لخولة أطلال ببرقة ثهمد».

وقد شرحها كثيرون من العلماء. كان غير فاحش القول في شعره خاصة في الهجاء. توفي سنة ٦٠ قبل الهجرة.

انظر : «التبريزي» (٤ / ٨) ، و «جمهرة أشعار العرب» (٣٢ ، ٨٣) ، و «الأعلام» (٣ / ٢٢٥)

(٢) وهذا البيت من معلقة طرفة. وقد عابه المرزباني في كتاب «الموشح» وقال : المصراع الثاني غير مشاكل للأول.

ينظر : «ديوانه» (ص ٢٩) ؛ و «خزانة الأدب» (٩ / ٦٦ ، ٦٧ ، ٤٧١) ؛ و «الكتاب» (٣ / ٧٨) ؛ وبلا نسبة في «شرح شذور الذهب» (ص ٤٣٥) ؛ و «مغني اللبيب» (٢ / ٦٠٦).

والحلّال : مبالغة الحالّ ، من الحلول ، وهو النّزول. والأحسن أن يكون «فعّال» للنّسبة ، أي لست بذي حلول. و (التّلاع) : جمع تلعة ، وهو مجرى الماء من رءوس الجبال إلى الأودية. قال ابن الأنباريّ : والتّلعة من الأضداد ، تكون ما ارتفع ، وما انخفض. والمراد هنا الثاني ، وهو سيل ماء عظيم. و (أرفد) بكسر الفاء ؛ لأنه مضارع رفده رفدا من باب ضرب ، أي أعطاه أو أعانه. والرّفد بالكسر اسم منه. وأرفده بالألف مثله. وترافدوا : تعاونوا. واسترفدته : طلبت رفده. قال الزوزني : المعنى : إنّي لست ممّن يستتر في التّلاع مخافة الضّيف أو غدر الأعداء إيّاي ، ولكن أظهر وأعين القوم إذا استعانوا بي ، إمّا في قرى الضيف ، وإمّا في قتال الأعداء.

١٤٥

وقوله تعالى : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) ؛ من أمر القربان ، والمعنى : أنّ هذا منكم تعلّل / وتعنّت ، ولو أتيتكم بقربان ، لتعلّلتم بغير ذلك ، ثم أنّس سبحانه نبيّه بالأسوة والقدوة فيمن تقدّم من الأنبياء.

قال الفخر (١) : والمراد (بِالْبَيِّناتِ) المعجزات. انتهى.

(وَالزُّبُرِ) : الكتاب المكتوب ، قال الزّجّاج (٢) : زبرت : كتبت.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ)(١٨٥)

وقوله سبحانه : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ...) الآية : وعظ فيه تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأمته عن أمر الدّنيا وأهلها ، ووعد بالفلاح في الآخرة ؛ فبالفكرة في الموت يهون أمر الكفّار وتكذيبهم ، (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) ، أي : على الكمال ، ولا محالة أنّ يوم القيامة تقع فيه توفية الأجور ، وتوفية العقوبات ، و (زُحْزِحَ) : معناه : أبعد ، والمكان الزّحزاح : البعيد ، و (فازَ) : معناه : نجا من خطره وخوفه ، و (الْغُرُورِ) : الخدع ، والتّرجية بالباطل والحياة الدنيا ، و (كُلُ) ما فيها من الأموال هي متاع قليل يخدع المرء ، ويمنّيه الأباطيل ؛ وعلى هذا فسّر الآية جمهور المفسّرين ، وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لموضع سوط في الجنّة خير من الدّنيا وما فيها» ، ثم تلا هذه الآية ، قلت : وأسند أبو بكر بن الخطيب ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما سكن حبّ الدّنيا قلب عبد قطّ إلّا التاط (٣) منها بخصال ثلاث : أمل لا يبلغ منتهاه ، وفقر لا يدرك غناه ، وشغل لا ينفكّ عناه» (٤). انتهى.

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(١٨٦)

وقوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ...) الآية : خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمته ، والمعنى : لتختبرنّ ولتمتحننّ في أموالكم بالمصائب والأرزاء ، وبالإنفاق في سبيل الله ،

__________________

(١) ينظر : «مفاتيح الغيب» للإمام فخر الدين الرازي (٩ / ١٠١)

(٢) ينظر : «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج (١ / ٤٩٥)

(٣) يعني لصق بقلبه ، ويقال للشيء ، إذا لم يوافق صاحبه : ما يلتاط ، ولا يلتاط هذا الأمر بصفرى ، أي : لا يلزق بقلبي ، وهو يفتعل من اللوط.

ينظر : «لسان العرب» (٤٠٩٩)

(٤) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٣ / ٣٣٦)

١٤٦

وفي سائر تكاليف الشّرع ، والابتلاء في الأنفس بالموت ، والأمراض وفقد الأحبّة ، قال الفخر (١) : قال الواحديّ (٢) : اللام في (لَتُبْلَوُنَ) : لام قسم. انتهى.

وقوله : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ...) الآية : قال عكرمة وغيره : السبب في نزولها أقوال فنحاص (٣) ، وقال الزّهريّ (٤) وغيره : نزلت بسبب كعب بن الأشرف ؛ حتى بعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قتله ، والأذى : اسم جامع في معنى الضّرر ، وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحابه ؛ من سبّ ، وأقوالهم في جهة الله سبحانه ، وأنبيائه ، وندب سبحانه إلى الصبر والتقوى ، وأخبر أنه من عزم الأمور ، أي : من أشدّها وأحسنها ، والعزم : إمضاء الأمر المروّى المنقّح ، وليس ركوب الرأي دون رويّة عزما.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ)(١٨٧)

وقوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ...) الآية : توبيخ لمعاصري النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم هو مع ذلك خبر عامّ لهم ولغيرهم ، قال جمهور من العلماء : الآية عامّة في كلّ من علّمه الله علما ، وعلماء هذه الأمّة داخلون في هذا الميثاق ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سئل عن علم ، فكتمه ، ألجمه الله بلجام من نار» (٥) ، والضمير في : (لَتُبَيِّنُنَّهُ) ، (وَلا تَكْتُمُونَهُ) : عائد على (الْكِتابَ) ، والنّبذ : الطّرح ، وأظهر الأقوال في هذه الآية أنّها نزلت في اليهود ، وهم المعنيّون ، ثم كلّ كاتم من هذه الأمّة يأخذ بحظّه من هذه المذمّة.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ

__________________

(١) ينظر : «مفاتيح الغيب» للرازي (٩ / ١٠٣)

(٢) علي بن أحمد بن محمد ، أبو الحسن الواحدي ، كان فقيها إماما في النحو واللغة وغيرهما ، وأما التفسير فهو إمام عصره فيه ، أخذ التفسير عن أبي إسحاق الثعلبي ، واللغة عن أبي الفضل العروضي صاحب أبي منصور الأزهري والنحو عن أبي الحسن القهندزي. صنف الوسيط ، والبسيط والوجيز ، ومنه أخذ الغزالي هذه الأسماء ، وله «أسباب النزول» ، وغير ذلك. مات سنة ٤٦٨.

ينظر : «طبقات ابن قاضي شهبة» (١ / ٢٥٦) ، و «الأعلام» (٥ / ٥٩) ، و «وفيات الأعيان» (٢ / ٤٦٤)

(٣) أخرجه الطبري (٣ / ٥٤١) برقم (٨٣١٦) ، وذكره ابن عطية (١ / ٥٥٠)

(٤) أخرجه الطبري (٣ / ٥٤٢) برقم (٨٣١٧) ، وعبد الرزاق في «تفسيره» (١ / ١٤٢) ، وذكره ابن عطية (١ / ٥٥١) ، والسيوطي في «الدر» (٢ / ١٨٩) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٥) تقدم تخريجه.

١٤٧

الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ)(١٩٠)

وقوله سبحانه : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ...) الآية : ذهبت جماعة إلى أن الآية في المنافقين ، وقالت جماعة كبيرة : إنما نزلت في أهل الكتاب أحبار / اليهود ، قال سعيد بن جبير (١) : الآية في اليهود ، فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم من النبوّة والكتاب ، فهم يقولون : نحن على طريقهم ، ويحبّون أن يحمدوا بذلك ، وهم ليسوا على طريقهم (٢) ، وقراءة سعيد (٣) بن جبير : «بما أوتوا» ؛ بمعنى «أعطوا» (بضم الهمزة والطاء) ؛ وعلى قراءته يستقيم المعنى الذي قال ، والمفازة مفعلة من فاز يفوز ، إذا نجا ، وباقي الآية بيّن.

ثم دلّ سبحانه على مواضع النظر والعبرة ، فقال : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ، أي : تعاقب الليل والنّهار ؛ إذ جعلهما سبحانه خلفة ، ويدخل تحت اختلافهما قصر أحدهما وطول الآخر ، وبالعكس ، واختلافهما بالنّور والظّلام ، والآيات : العلامات الدالّة على وحدانيّته ، وعظيم قدرته سبحانه.

قال الفخر (٤) : واعلم أنّ المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الاشتغال بالخلق والاستغراق في معرفة الحقّ ، فلمّا طال الكلام في تقرير الأحكام ، والجواب عن شبهات المبطلين ، عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدلّ على التوحيد والكبرياء والجلال ، وذكر الأدعية ، فختم بهذه الآيات بنحو ما في «سورة البقرة». انتهى.

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)(١٩٢)

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣ / ٥٤٦) برقم (٨٣٣٦) ، وذكره ابن عطية (١ / ٥٥٢) ، والسيوطي في «الدر» (٢ / ١٩١) ، وعزاه لابن جرير.

(٢) أخرجه الطبري (٣ / ٥٤٦) برقم (٨٣٣٧) ، وذكره ابن عطية (١ / ٥٥٢) ، وذكره السيوطي في «الدر» (٢ / ١٩٢) ، وعزاه لابن جرير.

(٣) وقرأ بها علي فيما روي عنه.

ينظر : «الكشاف» (١ / ٤٥١) ، و «مختصر الشواذ» (٣٠) ، و «المحرر الوجيز» (١ / ٥٥٢)

(٤) ينظر : «مفاتيح الغيب» للرازي (٩ / ١٠٩)

١٤٨

وقوله سبحانه : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) : الّذين : في موضع خفض صفة (لِأُولِي الْأَلْبابِ) ، وهذا وصف ظاهره استعمال التحميد والتّهليل والتّكبير ونحوه من ذكر الله ، وأن يحضر القلب اللسان ؛ وذلك من أعظم وجوه العبادات ، والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة ، وابن آدم متنقّل في هذه الثلاث الهيئات ، لا يخلو في غالب أمره منها فكأنها تحصر زمنه ، وكذلك جرّت عائشة (رضي الله عنها) إلى حصر الزّمن في قولها : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الله على كلّ أحيانه».

قلت : خرّجه أبو داود (١) ، فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغيره.

وذهب جماعة إلى أنّ قوله تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) إنما هو عبارة عن الصّلاة ، أي : لا يضيّعونها ، ففي حال العذر يصلّونها قعودا ، وعلى جنوبهم ، ثم عطف على هذه العبادة التي هي ذكر الله باللسان ، أو الصّلاة فرضها وندبها بعبادة أخرى عظيمة ، وهي الفكرة في قدرة الله تعالى ومخلوقاته ، والعبر التي بثّ. [المتقارب]

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد (٢)

قال الغزّاليّ : ونهاية ثمرة الدّين في الدّنيا تحصيل معرفة الله ، وتحصيل الأنس بذكر الله تعالى ، والأنس يحصل بدوام الذّكر ، والمعرفة تحصل بدوام الفكر. انتهى من «الإحياء».

ومرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قوم يتفكّرون في الله ، فقال : «تفكّروا في الخلق ، ولا تتفكّروا في الخالق ؛ فإنّكم لا تقدرون قدره» (٣).

قال ع (٤) : وهذا هو قصد الآية في قوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) وقبله :

ولله في كل تحريكة

وفي كل تسكينة شاهد

البيت لأبي العتاهية في ديوانه (١٢٢) ، و «المحتسب» (١ / ١٥٣)

(٣) أخرجه أبو القاسم الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (١ / ١٧٤) ، وأبو الشيخ في «العظمة» (١ / ٢١٦) رقم (٥) عن ابن عباس مرفوعا.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١١٠) ، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في كتاب «التفكر» ، والأصبهاني في «الترغيب والترهيب».

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (١ / ٥٥٥)

١٤٩

وقال بعض العلماء : المتفكّر في ذات الله كالنّاظر في عين الشمس ؛ لأنه سبحانه ليس كمثله شيء ، وإنما التفكّر وانبساط الذّهن في المخلوقات ، وفي أحوال الآخرة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا عبادة كتفكّر» (١) وقال ابن عبّاس ، وأبو الدّرداء : فكرة ساعة خير من قيام ليلة (٢) ، وقال سريّ السّقطيّ (٣) : فكرة ساعة خير من عبادة سنة ، ما هو إلّا أن تحلّ أطناب خيمتك ، فتجعلها في الآخرة (٤) ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الفكرة مرآة المؤمن / ، ينظر فيها إلى حسناته وسيّئاته (٥) ، وأخذ أبو سليمان الدّارانيّ (٦) قدح الماء ؛ ليتوضّأ لصلاة الليل ، وعنده ضيف ، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح ، أقام كذلك مفكّرا حتى طلع الفجر ، فقال له : ما هذا يا أبا سليمان؟ فقال : إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح ، تذكّرت قول الله سبحانه : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) [غافر : ٧١]،

__________________

(١) أخرجه الطبراني في «الكبير» (٣ / ٦٦ ـ ٦٨) رقم (٢٦٨٨) من طريق أبي رجاء الحبطي محمد بن عبد الله : ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي بن أبي طالب.

وذكره الهيثمي في «المجمع» (١٠ / ٢٨٣) ، وقال : رواه الطبراني ، وفيه أبو رجاء الحبطي ، واسمه محمد بن عبد الله ، وهو كذاب.

(٢) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (١ / ٥٠٩) ، والبيهقي في «الشعب» (١ / ١١٨) كلاهما عن أبي الدرداء. كما أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» (١ / ٢٩٧ ـ ٢٩٨) برقم (٤٢) ، وذكره الديلمي في «مسند الفردوس» (٢ / ١١٠) برقم (٢٢١٦) عن ابن عباس ، وفي طريق ابن عباس «ليث بن أبي سليم» وهو ضعيف. والأثر ذكره السيوطي في «الدر» (٢ / ١٩٥) ، وعزاه لأبي الشيخ في «العظيمة».

(٣) سري بن المغلس السقطي ، أبو الحسن : من كبار المتصوفة. بغدادي المولد والوفاة. وهو أول من تكلم في «بغداد» بلسان التوحيد وأحوال الصوفية ، وكان إمام البغداديين وشيخهم في وقته. وهو خال الجنيد ، وأستاذه. قال الجنيد : ما رأيت أعبد من السريّ ، أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤي مضطجعا إلا في علة الموت. من كلامه : «من عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز» توفي سنة ٢٥٣.

ينظر : «الأعلام» (٣ / ٨٢) ، و «الوفيات» (١ / ٢٠٠) ، و «صفة الصفوة» (٢ / ٢٠٩)

(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١ / ٥٥٥)

(٥) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١ / ٥٥٥)

(٦) عبد الرّحمن بن سليمان بن أبي الجون العنسيّ الدمشقيّ ، محدّث رحّال.

روى عن : ليث ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وابن أبي خالد ، والأعمش ، وعمرو بن شراحيل الدّاراني.

وعنه : إسماعيل بن عيّاش من أقرانه ، ومحمد بن عائذ ، وأبو توبة الحلبي ، وصفوان بن صالح ، وهشام بن عمّار ، وجماعة.

وثّقه دحيم وقال أبو حاتم : لا يحتج به. توفي سنة نيف وتسعين ومائة.

ينظر ترجمته في : «التاريخ الكبير» (٥ / ٢٨٩). ، و «ميزان الاعتدال» (٢ / ٥٦٧) ، و «سير أعلام النبلاء» (١٠ / ١٨٦) ، و «تهذيب التهذيب» (٦ / ١٨٨ ـ ١٨٩)

١٥٠

فتفكّرت في حالي ، وكيف أتلقّى الغلّ ، إن طرح في عنقي يوم القيامة ، فما زلت في ذلك حتى أصبح.

قال ع (١) : وهذه نهاية الخوف ، وخير الأمور أوساطها ، وليس علماء الأمّة الذين هم الحجّة على هذا المنهاج ، وقراءة علم كتاب الله ومعاني سنّة رسوله لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا ، لكن يحسن ألّا تخلو البلاد من مثل هذا.

قال ع (٢) : وحدثني أبي (رحمه‌الله) ، عن بعض علماء المشرق ، قال : كنت بائتا في مسجد الإقدام ب «مصر» فصلّيت العتمة ، فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له ، حتى أصبح ، وصلّينا نحن تلك اللّيلة ، وسهرنا ، فلمّا أقيمت صلاة الصّبح ، قام ذلك الرجل ، فاستقبل القبلة ، وصلّى مع النّاس ، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء ، فلمّا فرغت الصلاة ، خرج ، فتبعته لأعظه ، فلمّا دنوت منه ، سمعته ، وهو ينشد : [المنسوح]

منسجن الجسم غائب حاضر

منتبه القلب صامت ذاكر

منبسط في الغيوب منقبض

كذاك من كان عارفا ناكر

يبيت في ليلة أخا فكر

فهو مدى اللّيل نائم ساهر

قال : فعلمت أنه ممّن يعبد الله بالفكرة ، فانصرفت (٣) عنه.

قال الفخر (٤) : ودلّت الآية على أنّ أعلى مراتب الصّدّيقين التفكّر. انتهى.

وفي «العتبية» : قال مالك : قيل لأمّ الدّرداء : ما كان أكثر شأن أبي الدّرداء؟ قالت : كان أكثر شأنه التفكّر. قال مالك : وهو من الأعمال ، وهو اليقين ؛ قال الله عزوجل : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، قال ابن رشد : والتفكّر من الأعمال ؛ كما قاله مالك (رحمه‌الله) ، وهو من أشرف الأعمال ؛ لأنه من أعمال القلوب التي هي أشرف الجوارح ؛ ألا ترى أنه لا يثاب أحد على عمل من أعمال الجوارح من سائر الطّاعات ، إلّا مع مشاركة القلوب لها بإخلاص النّيّة لله (عزوجل) في فعلها. انتهى من «البيان والتحصيل».

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (١ / ٥٥٥)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (١ / ٥٥٥)

(٣) وهذا الفعل غير مشروع ؛ لأنه يخالف الكتاب والسنة ؛ لأن التفكر الذي يجعل العبد يعبد الله (عزوجل) على غير نهجه ، فباطل وغير مأجور عليه العبد.

(٤) ينظر : «تفسير الرازي» (١ / ١٢٢)

١٥١

قال ابن بطّال (١) : إن الإنسان إذا كمل إيمانه ، وكثر تفكّره ، كان الغالب عليه الإشفاق والخوف. انتهى.

قال ابن عطاء الله : الفكرة سير القلب في ميادين الاعتبار ، والفكرة سراج القلب ، فإذا ذهبت ، فلا إضاءة له.

قلت : قال بعض المحقّقين : وذلك أن الإنسان إذا تفكّر ، علم ، وإذا علم ، عمل.

قال ابن عبّاد (٢) : قال الإمام أبو القاسم القشيريّ (رحمه‌الله) : التفكّر نعت كلّ طالب ، وثمرته الوصول بشرط العلم ، ثم فكر الزاهدين : في فناء الدنيا ، وقلّة وفائها لطلّابها ؛ فيزدادون بالفكر زهدا ، وفكر العابدين : في جميل الثواب ، فيزدادون نشاطا ورغبة فيه ، وفكر العارفين : في الآلاء والنعماء ؛ فيزدادون محبّة للحقّ سبحانه. انتهى.

وقوله تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) ، أي : يقولون : يا ربّنا ؛ على النداء ، ما خلقت هذا باطلا ، يريد : لغير غاية منصوبة ، بل خلقته ، وخلقت البشر ؛ لينظروا فيه ؛ فيوحّدوك ، ويعبدوك ؛ فمن فعل ذلك نعّمته ، ومن ضلّ عن ذلك عذّبته ، وقولهم : (سُبْحانَكَ) ، أي : تنزيها لك عمّا / يقول المبطلون ، وقولهم : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) ، أي : فلا تفعل ذلك بنا ، والخزي : الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء.

قال أنس بن مالك ، والحسن بن أبي الحسن ، وابن جريج ، وغيرهم : هذه إشارة إلى من يخلد في النّار ، وأمّا من يخرج منها بالشفاعة والأمان ، فليس بمخزى ، أي : وما أصابه

__________________

(١) شارح «صحيح» البخاري ، العلامة أبو الحسن ؛ عليّ بن خلف بن بطال البكريّ ، القرطبي ، ثم البلنسي ، ويعرف ب «ابن اللّجّام».

أخذ عن : أبي عمر الطّلمنكي ، وابن عفيف ، وأبي المطرّف القنازعي ، ويونس بن مغيث.

قال ابن بشكوال : كان من أهل العلم والمعرفة ، عني بالحديث العناية التامة ؛ شرح «الصحيح» في عدة أسفار ، رواه الناس عنه ، واستقضي بحصن «لورقة». توفي في صفر سنة تسع وأربعين وأربعمائة.

تنظر ترجمته في : «ترتيب المدارك» (٤ / ٨٢٧) ، و «الديباج المذهب» (٣ / ١٠٥ ـ ١٠٦) ، و «شجرة النور الذكية» (١ / ١١٥) ، و «سير أعلام النبلاء» (١٨ / ٤٧)

(٢) محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد النفزي ، الحميري ، الرندي ، أبو عبد الله ، المعروف ب «ابن عباد» : متصوف باحث. من أهل «رندة» بالأندلس. تنقل بين «فاس» و «تلمسان» و «مراكش» و «سلا» و «طنجة» ، واستقر خطيبا للقرويين ب «فاس». وتوفي بها. له كتب ، منها «الرسائل الكبرى» في التوحيد والتصوف ومتشابه الآيات ، و «غيث المواهب العلية بشرح الحكم العطائية» ، و «كفاية المحتاج» و «الرسائل الصغرى».

ينظر : «الأعلام» (٥ / ٢٩٩)

١٥٢

من عذابها ، إنما هو تمحيص لذنوبه (١).

وقوله سبحانه : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) : هو من قول الدّاعين.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ)(١٩٤)

وقوله سبحانه : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ ...) الآية : حكاية عن أولي الألباب ، قال أبو الدرداء (٢) : يرحم الله المؤمنين ؛ ما زالوا يقولون : ربّنا ربّنا ، حتّى استجيب لهم ، قال ابن جريج (٣) وغيره : المنادي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال محمّد بن كعب القرظيّ : المنادي كتاب الله (٤) ، وليس كلّهم رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسمعه ، وقولهم : (ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) ، معناه : على ألسنة رسلك ، وقولهم : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) : إشارة إلى قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨] فهذا وعده تعالى ، وهو دالّ على أنّ الخزي إنما هو مع الخلود.

قال ص : قال أبو البقاء : الميعاد مصدر بمعنى الوعد. انتهى.

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لا

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣ / ٥٥٢) برقم (٨٣٥٦ ـ ٨٣٥٩) عن أنس ، وابن المسيب ، والحسن ، وابن جريج بألفاظ متقاربة ، وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (١ / ١٤٢) عن ابن المسيب بلفظ : «هذه خاصة لمن لا يخرج منها» ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١ / ٣٨٦) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١ / ٥٥٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٩٦) عن أنس ، وابن المسيب ، وابن جريج ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٢) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» «المحرر الوجيز» (١ / ٥٥٦)

(٣) أخرجه الطبري (٣ / ٥٣) برقم (٨٣٦٣ ـ ٨٣٦٤) ، عن ابن جريج وابن زيد ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١ / ٤٤٣) ، والبغوي في «التفسير» (١ / ٣٨٦) عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما ، وذكره ابن عطية (١ / ٥٥٦) ، والسيوطي في «الدر» (٢ / ١٩٦) ، عن ابن جريج وابن زيد ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري (٣ / ٥٥٣) برقم (٨٣٦١) ، (٨٣٦٢) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١ / ٤٤٢) ، والبغوي في «تفسيره» (١ / ٣٨٦) ، وابن عطية (١ / ٥٥٦). ، والسيوطي في «الدر» (٢ / ١٩٦) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والخطيب في «المتفق والمفترق».

١٥٣

يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ)(١٩٨)

وقوله سبحانه : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ...) الآية : استجاب بمعنى أجاب ، روي أنّ أمّ سلمة (رضي الله عنها) قالت : يا رسول الله ، قد ذكر الله تعالى الرّجال في الهجرة ، ولم يذكر النّساء في شيء من ذلك ، فنزلت (١) الآية. وهي آية وعد من الله ، أي : هذا فعله سبحانه مع الذي يتّصفون بما ذكر ، قال الفخر (٢) : روي عن جعفر الصادق ؛ أنه قال : من حزبه أمر فقال خمس مرّات : ربّنا ـ أنجاه الله ممّا يخاف ، وأعطاه ما أراد ، وقرأ هذه الآية ؛ قال : لأنّ الله تعالى حكى عنهم ؛ أنهم قالوا : ربّنا ؛ خمس مرّات ، ثم أخبر أنه استجاب لهم. انتهى.

وقوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ، يعني : في الأجر ، وتقبّل الأعمال ، أي : أنّ الرجال والنساء في ذلك على حدّ واحد ، قال الفخر (٣) : قوله سبحانه : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ، أي : شبه بعض ، أو مثل بعض ، والمعنى : أنه لا تفاوت في الثواب بين الذّكر والأنثى ؛ إذا استووا في الطّاعة ؛ وهذا يدلّ على أن الفضل في باب الدّين ، إنما هو بالأعمال ، لا بسرّ صفات العاملين ؛ لأن كونهم ذكرا أو أنثى ، أو من نسب خسيس أو شريف ـ لا تأثير له في هذا الباب. انتهى.

وبيّن سبحانه حال المهاجرين ، ثم الآية بعد تنسحب على كلّ من أوذي في الله ، وهاجر أيضا إلى الله إلى يوم القيامة.

وقوله سبحانه : (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) : عبارة فيها إلزام الذّنب للكفّار ، واللام في قوله : (لَأُكَفِّرَنَ) : لام القسم ، و (ثَواباً) : مصدر موكّد ، وباقي الآية بيّن.

وقوله سبحانه : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ...) الآية : نزّلت : (لا يَغُرَّنَّكَ) في هذه الآية منزلة : «لا تظنّ» ؛ أنّ حال الكفّار حسنة ، والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد أمّته ، والتقلّب : التصرّف في التجارات ، والأرباح ، والحروب ، وسائر الآمال ؛

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣ / ٥٥٥) ، وذكره البغوي في «تفسيره» «معالم التنزيل» (١ / ٣٨٦ ـ ٣٨٧)

(٢) ينظر : «تفسير الرازي» (٩ / ١٢)

(٣) ينظر : «تفسير الرازي» (٩ / ١٢٣) ..

١٥٤

وقوله : (نُزُلاً) : معناه تكرمة.

وقوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) يحتمل أن يريد : خير ممّا هؤلاء فيه ، من التقلّب والتنعّم ، ويحتمل أن يريد : خير ممّا هم فيه في الدّنيا ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدّنيا سجن المؤمن / ، وجنّة الكافر» (١) قال القاضي ابن الطّيّب : هذا بالإضافة إلى ما يصير إليه كلّ واحد منهما في الآخرة ، وقيل : المعنى أنها سجن المؤمن ؛ لأنها موضع تعبه في الطاعة.

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢٠٠)

وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ) ، قال جابر بن عبد الله وغيره : هذه الآية نزلت بسبب أصحمة النّجاشيّ سلطان الحبشة ، آمن بالله ، وبمحمّد ـ عليه‌السلام ـ ، وأصحمة (٢) : تفسيره بالعربيّة :

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٧٢) ، كتاب «الزهد» ، باب (١ / ٢٩٥٦) ، والترمذي (٤ / ٤٨٦) كتاب «الزهد» ، باب ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن ، حديث (٢٣٢٤) ، وابن ماجة (٢ / ١٣٧٨) ، كتاب «الزهد» ، باب مثل الدنيا ، حديث (٤١١٣) ، وأحمد (٢ / ٣٢٣ ، ٣٨٩ ، ٤٨٥) ، وفي «الزهد» (ص ٣٧) ، وابن حبان (٦٨٧ ، ٦٨٨) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٦ / ٣٥٠) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» (١٤٢) ، والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٣٢٥ ـ بتحقيقنا) كلهم من طريق العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وللحديث شواهد من حديث ابن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، وسلمان :

حديث ابن عمر :

أخرجه البزار (٣٦٥٤ ـ كشف) ، وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (٢ / ٣٤٠) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» رقم (١٤٣) ، والبيهقي في «الزهد الكبير» (٤٤٩ ، ٤٥٨) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٦ / ٤٠١) عن ابن عمر : والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (١٠ / ٢٩٢) وقال : رواه البزار بسندين أحدهما ضعيف ، والآخر فيه جماعة لم أعرفهم.

حديث عبد الله بن عمرو :

أخرجه أحمد (٥ / ٦٨) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» رقم (١٤٤) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ١٧٧ ، ١٨٥) ، وابن المبارك في «الزهد» (٥٩٨) ، والحاكم (٤ / ٣١٥) ، والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٣٢٦ ـ بتحقيقنا)

(٢) أخرجه الطبري (٣ / ٥٥٩) برقم (٨٣٧٦) ، وعبد الرزاق في «تفسيره» (١ / ١٤٤) عن قتادة ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١ / ٤٤٤) ، والبغوي في «تفسيره» (١ / ٣٨٨) عن ابن عباس ، وجابر ، وأنس ، وقتادة ، وذكره ابن عطية (١ / ٥٥٩) ، وذكره السيوطي في «الدر» (٢ / ٢٠٠) عن جابر وغيره.

١٥٥

عطيّة ؛ قاله سفيان وغيره ، وقال قوم : نزلت في عبد الله بن سلام (١) ، وقال ابن زيد ومجاهد : نزلت في جميع من آمن من أهل الكتاب (٢).

وقوله سبحانه : (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) : مدح لهم ، وذمّ لسائر كفّار أهل الكتاب ؛ لتبديلهم وإيثارهم مكاسب الدّنيا على آخرتهم ، وعلى آيات الله سبحانه ، ثم ختم الله سبحانه السّورة بهذه الوصاة التي جمعت الظّهور في الدنيا على الأعداء ، والفوز بنعيم الآخرة ، فحضّ سبحانه على الصبر على الطاعات ، وعن الشهوات ، وأمر بالمصابرة ، فقيل : معناه مصابرة الأعداء ؛ قاله زيد بن أسلم (٣) ، وقيل : معناه مصابرة وعد الله في النّصر ؛ قاله محمد بن كعب القرظيّ (٤) ، أي : لا تسأموا وانتظروا الفرج ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انتظار الفرج بالصّبر عبادة» (٥).

قال الفخر (٦) : والمصابرة عبارة عن تحمّل المكاره الواقعة بين الإنسان ، وبين الغير. انتهى.

وقوله : (وَرابِطُوا) : معناه عند الجمهور : رابطوا أعداءكم الخيل ، أي : ارتبطوها ؛ كما يرتبطها أعداؤكم ، قلت : وروى مسلم في «صحيحه» ، عن سلمان ، قال : سمعت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الّذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتّان» (٧) ، وخرّج الترمذيّ ، عن فضالة بن عبيد ، عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلّ ميّت يختم على عمله إلّا الّذي مات مرابطا في سبيل الله ؛ فإنّه ينمو عمله إلى يوم القيامة ، ويأمن من فتنة القبر» ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣ / ٥٦٠) برقم (٨٣٨٢) عن ابن جريج ، وذكره البغوي في «تفسيره» (١ / ٣٨٨) عن ابن جريج ، والماوردي في «تفسيره» (١ / ٤٤٥) ، وابن عطية (١ / ٥٥٩)

(٢) أخرجه الطبري (٣ / ٥٦٠) برقم (٨٣٨٤) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (١ / ٣٨٨) ، والماوردي (١ / ٤٤٥) ، وابن عطية (١ / ٥٥٩)

(٣) ذكره ابن عطية (١ / ٥٥٩)

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» رقم (٤٤ ، ٤٥) من حديث ابن عمرو ابن عباس.

(٦) ينظر : «مفاتيح الغيب» للرازي (٩ / ١٢٦)

(٧) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٢٠) كتاب «الإمارة» باب فضل الرباط في سبيل الله عزوجل ، حديث (١٦٣ / ١٩١٣) من حديث سلمان.

١٥٦

صحيح (١) ، وخرّجه أبو داود بمعناه ، وقال : «ويؤمن من فتّاني القبر» (٢) ، وخرّجه ابن ماجة بإسناد صحيح ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من مات مرابطا في سبيل الله ، أجرى الله عليه أجر عمله الصّالح الّذي كان يعمل ، وأجرى عليه رزقه ، وأمن الفتّان ، ويبعثه الله آمنا من الفزع» (٣) ، وروى مسلم والبخاريّ ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنه قال : «رباط يوم في سبيل الله خير من الدّنيا ، وما فيها» (٤). انتهى.

وجاء في فضل الرباط أحاديث كثيرة يطول ذكرها.

قال صاحب «التّذكرة» : وروى أبيّ بن كعب ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان ـ أعظم أجرا من عبادة مائة سنة ؛ صيامها ، وقيامها ، ورباط يوم في رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا» ، أراه قال : «من عبادة ألفي سنة ، صيامها ، وقيامها ...» (٥) الحديث ذكره القرطبيّ مسندا. انتهى.

والرباط : هو الملازمة في سبيل الله ؛ أصلها من ربط الخيل ، ثم سمّي كلّ ملازم لثغر من ثغور الإسلام / مرابطا ، فارسا كان أو راجلا ، واللفظة مأخوذة من الرّبط ، قلت : قال الشيخ زين الدين العراقيّ في «اختصاره لغريب القرآن» ؛ لأبي حيّان : معنى : رابطوا :

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ١٦٥) ، كتاب «فضائل الجهاد» ، باب ما جاء في فضل من مات مرابطا ، حديث (١٦٢١) ، وأبو داود (٢ / ١٢) ، كتاب «الجهاد» ، باب في فضل الرباط ، حديث (٢٥٠٠) ، وأحمد (٦ / ٢٠ ، ٢٢) ، وسعيد بن منصور (٢ / ١٩٤) رقم (٢٤١٤) ، وابن حبان (١٦٢٤ ـ موارد) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (٣ / ١٠٢) ، والحاكم (٢ / ٧٢) ، والطبراني في «الكبير» (١٨ / ٣١١) رقم (٨٠٢) كلهم من طريق أبي هانىء الخولاني عن عمرو بن مالك عن فضالة بن عبيد به.

وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان.

(٢) ينظر الحديث السابق.

(٣) أخرجه ابن ماجة (٢ / ٩٢٤) ، كتاب «الجهاد» ، باب فضل الرباط في سبيل الله ، حديث (٢٧٦٧).

وقال البوصيري في «الزوائد» (٢ / ٣٩١) ، هذا إسناد صحيح ؛ رجاله ثقات.

(٤) تقدم تخريجه.

(٥) أخرجه ابن ماجة (٢ / ٩٢٤ ـ ٩٢٥) كتاب «الجهاد» ، باب فضل الرباط في سبيل الله ، حديث (٢٧٦٨).

قال المنذري في «الترغيب» (٢ / ٢٠٣) : وآثار الوضع ظاهرة عليه. ولا عجب ؛ فراويه عمر بن صبح الخراساني.

وقال البوصيري في «الزوائد» (٢ / ٣٩٢ ـ ٣٩٣) : هذا إسناد ضعيف ؛ لضعف محمد بن يعلى وشيخه عمر بن صبح ، ومكحول لم يدرك أبي بن كعب ، ومع ذلك فهو مدلس.

١٥٧

دوموا واثبتوا ، ومتى ذكرت العراقيّ ، فمرادي هذا الشيخ. انتهى.

وروى ابن المبارك في «رقائقه» ، أنّ هذه الآية : (اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) ، إنما نزلت في انتظار الصّلاة خلف الصلاة ؛ قاله أبو سلمة بن عبد الرّحمن ، قال : ولم يكن يومئذ عدوّ يرابط فيه (١). انتهى.

وقوله سبحانه : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) : ترجّ في حقّ البشر ، والحمد لله حقّ حمده.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣ / ٥٦٢) برقم (٨٣٩٤) ، والحاكم في مستدركه (٢ / ٣٠١) وصححه ، ووافقه الذهبي ، وذكره البغوي في «تفسيره» (١ / ٣٨٩) ، وابن عطية (١ / ٥٦٠) ، والسيوطي في «الدر» (٢ / ٢٠١) ، وعزاه لابن مردويه.

١٥٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النّساء مدنيّة

إلّا آية واحدة نزلت بمكّة عام الفتح ، وهي : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ...) [النساء : ٥٨] الآية : وفي البخاريّ : عن عائشة (رضي الله عنها) ؛ أنّها قالت : ما نزلت سورة النّساء إلّا وأنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تعني : قد بنى بها (١).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ...) الآية : في الآية تنبيه على الصانع ، وعلى افتتاح الوجود ، وفيها حضّ على التواصل لحرمة هذا النّسب ، والمراد بالنّفس آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : (واحِدَةٍ) ؛ على تأنيث لفظ النّفس ، و (زَوْجَها) ، يعني : حوّاء ، قال ابن عبّاس وغيره : خلق الله آدم وحشا في الجنة وحده ، ثم نام ، فانتزع الله إحدى أضلاعه القصيرى من شماله (٢) ، وقيل : من يمينه ، فخلق منها حوّاء ، ويعضد هذا ـ الحديث الصحيح في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج ...» الحديث (٣) ، (وَبَثَ) : معناه : نشر ؛ كقوله تعالى : (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة : ٤] أي : المنتشر ، وفي تكرير الأمر بالتقوى

__________________

(١) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٢ / ٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٠٥) ، وعزاه للبخاري.

(٢) ذكره ابن عطية (٢ / ٤)

(٣) أخرجه البخاري (٦ / ٤١٨) في أحاديث الأنبياء : باب خلق آدم وذريته (٣٣٣١) ، و (٩ / ١٦٠) في النكاح : باب المداراة مع النساء (٥١٨٤) ، وباب الوصاة بالنساء (٥١٨٦) ، ومسلم (٢ / ١٠٩٠ ـ ١٠٩١) في الرضاع ، باب الوصية بالنساء (١٤٦٨) ، والترمذي (٣ / ٤٩٣ ـ ٤٩٤) في الطلاق : باب ما جاء في مداراة النساء (١١٨٨) ، وأحمد (٢ / ٤٢٨ ، ٤٤٩ ، ٤٩٧) ، والدارمي (٢ / ١٤٨) في النكاح : باب مداراة الرجل أهله ، من طرق عن أبي هريرة رفعه ـ واللفظ لمسلم ـ : «أن المرأة خلقت من ضلع ، لن تستقيم لك على طريقة ، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وكسرها طلاقها».

وقال الترمذي : حسن صحيح ، وإسناده جيد.

ويشهد له حديث سمرة رواه أحمد (٥ / ٨) ، وحديث أبي ذر عند أحمد (٥ / ١٥٠ ـ ١٥١) ، والدارمي (٢ / ١٤٧ ـ ١٤٨) وحديث عائشة رواه أحمد (٦ / ٢٧٩)

١٥٩

تأكيد لنفوس المأمورين ، و (تَسائَلُونَ) : معناه : تتعاطفون به ، فيقول أحدكم : أسألك بالله ، وقوله : (وَالْأَرْحامَ) ، أي : واتقوا الأرحام ، وقرأ حمزة «والأرحام» (بالخفض) ؛ عطفا على الضمير ؛ كقولهم : أسألك بالله وبالرّحم ؛ قاله مجاهد وغيره.

قال ع (١) : وهذه القراءة عند نحاة البصرة لا تجوز ؛ لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض إلا في ضرورة الشّعر ؛ كقوله : [البسيط]

 .............

فاذهب فما بك والأيّام من عجب (٢)

لأن الضمير المخفوض لا ينفصل ؛ فهو كحرف من الكلمة ، ولا يعطف على حرف ، واستسهل بعض النحاة هذه القراءة. انتهى كلام ع.

قال ص : والصحيح جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ ؛ كمذهب الكوفيّين ، ولا تردّ القراءة المتواترة بمثل مذهب البصريّين (٣) ، قال : وقد أمعنّا

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٤)

(٢) عجز بيت ، وصدره :

فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا

 ................

وهو بلا نسبة في «الإنصاف» (ص ٤٦٤) ؛ و «خزانة الأدب» (٥ / ١٢٣ ـ ١٢٦ ؛ ١٢٨ ، ١٢٩ ، ١٣١) ؛ و «شرح الأشموني» (٢ / ٤٣٠) ؛ و «الدرر» (٢ / ٨١) ؛ (٦ / ١٥١) ؛ و «شرح أبيات سيبويه» (٢ / ٢٠٧) ؛ و «شرح ابن عقيل» (ص ٥٠٣) ؛ و «شرح عمدة الحافظ» (ص ٦٦٢) ؛ و «شرح المفصّل» (٣ / ٧٨ ، ٧٩) ؛ و «الكتاب» (٢ / ٣٩٢) ؛ و «اللمع في العربية» (ص ١٨٥) ؛ و «المقاصد النحوية» (٤ / ١٦٣) ؛ و «المقرب» (١ / ٢٣٤) ؛ و «همع الهوامع» (٢ / ١٣٩)

(٣) اختلف النحاة في العطف على الضمير المجرور على ثلاثة مذاهب :

أحدها : وهو مذهب الجمهور من البصريين ـ : وجوب إعادة الجار إلا في ضرورة.

الثاني : أنه يجوز ذلك في السّعة مطلقا ، وهو مذهب الكوفيين ، وتبعهم أبو الحسن ويونس والشلوبيون.

والثالث : التفصيل ، وهو إن أكّد الضمير جاز العطف من غير إعادة الخافض نحو : «مررت بك نفسك وزيد» ، وإلا فلا يجوز إلا ضرورة ، وهو قول الجرميّ. والذي ينبغي أنه يجوز مطلقا لكثرة السماع الوارد به ، وضعف دليل المانعين واعتضاده بالقياس.

أما السّماع : ففي النثر كقولهم : «ما فيها غيره وفرسه» بجرّ «فرسه» عطفا على الهاء في «غيره». وقوله : (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) في قراءة جماعة كثيرة ، منهم حمزة. وفي النظم وهو كثير جدا ، فمنه قول العباس بن مرداس : [الوافر]

أكرّ على الكتيبة لا أبالي

أفيها كان حتفي أم سواها

وأمّا القياس ؛ فلأنه تابع من التوابع الخمسة ، فكما يؤكّد الضمير المجرور ويبدل منه فكذلك يعطف عليه.

وينظر : «الدر المصون» (١ / ٥٢٩ ـ ٥٣١) ، و «البحر المحيط» (٢ / ١٥٥)

١٦٠