تفسير الثعالبي - ج ٢

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٢

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً)(١٤٧)

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ...) الآية : خطابه سبحانه للمؤمنين يدخل فيه بحكم الظاهر المنافقون المظهرون للإيمان ، ففي اللفظ رفق بهم ، وهم المراد بقوله سبحانه : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) ؛ لأنّ هذا التوقيف إنما هو لمن ألمّ بشيء من الفعل المؤدّي إلى هذه الحال ، والمؤمنون المخلصون ما ألمّوا قطّ بشيء من ذلك ، ويقوّي هذا المنزع قوله تعالى : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ، أي : والمؤمنون العارفون المخلصون غيّب عن هذه الموالاة ، وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين ، بل المعنى : يا أيها الذين أظهروا الإيمان ، والتزموا لوازمه ، والسّلطان : الحجّة.

ثم أخبر تعالى عن المنافقين ؛ أنهم في الدّرك الأسفل من نار جهنّم ؛ وذلك لأنهم أسرى غوائل من الكفّار ، وأشدّ تمكّنا من أذى المسلمين ؛ قلت : وأيضا لأنهم شاهدوا من معجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما جعل الله على يديه من الخوارق ما لم يشاهد غيرهم من الكفار ، فكانت الحجّة عليهم أعظم ، وكان كفرهم محض عناد ، وروي عن أبي هريرة ، وابن مسعود ، وغيرهما ؛ أنّهم قالوا : المنافقون في الدّرك الأسفل من النار ، في توابيت من النّار تقفل (١) عليهم ، ثم استثنى عزوجل التائبين من المنافقين ، ومن شروط التائب ؛ أن يصلح في قوله وفعله ، ويعتصم بالله ، أي : يجعله منعته ، وملجأه ، ويخلص دينه لله تعالى ، وإلّا فليس بتائب ، وقوله : (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ، أي : في رحمة الله سبحانه ، وفي منازل الجنّة ، ثم وعد سبحانه المؤمنين الأجر العظيم ، وهو التخليد في الجنّة.

وقال ص : (فَأُولئِكَ) : خبره مضمر ، والتقدير : فأولئك مؤمنون مع المؤمنين ؛ قاله أبو البقاء. انتهى.

ثم قال سبحانه للمنافقين : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ ...) الآية : أي : أيّ منفعة له سبحانه في ذلك أو حاجة؟! قال أبو عبد الله اللّخميّ : زعم الطبريّ (٢) ؛ أنّ قوله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) : خطاب للمنافقين ، ولا يكاد يقوم له على ذلك دليل يقطع

__________________

(١) أخرجه الطبري (٤ / ٣٣٦) برقم (١٠٧٤٦ ، ١٠٧٤٧ ، ١٠٧٤٨) وذكره البغوي (١ / ٤٩٣)

(٢) ينظر : الطبري (٤ / ٣٣٨)

٣٢١

به ، وليس في ذكر المنافقين قبله ما يقتضي أن يحمل عليهم خاصّة ، مع احتمال الآية للعموم ، فقطعه بأنّ الآية في المنافقين حكم لا يقوم به دليل. انتهى ، وهو حسن ؛ إذ حمل الآية على العموم أحسن.

والعجب من ع : كيف تبع الطبريّ في هذا التّخصيص ، ويظهر ـ والله أعلم ـ أنهما عوّلا في تخصيص الآية على قوله تعالى : (وَآمَنْتُمْ) ، وهو محتمل أن يحمل في حقّ المنافقين على ظاهره ، وفي حقّ المؤمنين على معنى : «دمتم على إيمانكم» ، والله أعلم.

والشّكر على الحقيقة لا يكون إلّا مقترنا بالإيمان ، لكنه ذكر الإيمان تأكيدا وتنبيها على / جلالة موقعه ، ثم وعد سبحانه بقوله : (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) : أي يتقبّل أقلّ شيء من العمل ، وينمّيه ؛ فذلك شكر منه سبحانه لعباده ، والشّكور من البهائم : الّذي يأكل قليلا ، ويظهر به بدنه ، والعرب تقول في مثل : «أشكر من بروقة» ؛ لأنها يقال : تخضرّ وتتنضّر بظلّ السّحاب دون مطر ، وفي قوله : (عَلِيماً) : تحذير وندب إلى الإخلاص.

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً)(١٤٩)

وقوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ...) الآية : قراءة الجمهور (١) بضمّ الظاء ، وقرىء (٢) شاذا بفتحها ، واختلف على قراءة الجمهور ، فقالت فرقة : المعنى : لا يحبّ الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلا من ظلم ، فلا يكره له الجهر به ، ثم اختلفت هذه الفرقة في كيفيّة الجهر بالسّوء ، وما هو المباح منه ، فقال ابن عبّاس وغيره : لا بأس لمن ظلم أن ينتصر من ظلمه بمثل ظلمه ، ويجهر له بالسّوء من القول ، أي : بما يوازي الظّلامة (٣) ، وقال مجاهد وغيره : نزلت في الضّيف المحوّل رحله ، فإنّه رخّص له أن يجهر بالسّوء من القول للذي لم يكرمه ، يريد : بقدر الظلم ، والظّلامة (٤) ،

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ١٢٩) ، و «البحر المحيط» (٣ / ٣٩٨) ، و «الدر المصون» (٢ / ٤٥١)

(٢) وهي قراءة ابن أبي إسحاق ، وزيد بن أسلم ، والضحاك بن مزاحم ، وابن عباس ، وابن جبير ، وعطاء بن السائب ، وعبد الأعلى بن عبد الله بن مسلم بن يسار ، ومسلم بن يسار وغيرهم.

ينظر : السابق ، والمحتسب (١ / ٢٠٣)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» بتحقيق الشيخ شاكر (٩ / ٣٤٤) برقم (١٠٧٤٩) ، وذكره ابن عطية (٢ / ١٢٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٢٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٤١) برقم (١٠٧٦٣ ، ١٠٧٦٥) ، وذكره ابن عطية (٢ / ١٢٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٢٠) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد.

٣٢٢

وفي «صحيح البخاريّ» ، عن أبي هريرة ، قال : قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يؤذي جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرا أو ليصمت» (١). انتهى.

«وسميع عليم» : صفتان لائقتان بالجهر بالسوء ، وبالظلم أيضا ، فإنه يعلمه ويجازي عليه ، ولما ذكر سبحانه عذر المظلوم في أن يجهر بالسوء لظالمه ، أتبع ذلك عرض إبداء الخير ، وإخفائه ، والعفو عن السّوء ، ثم وعد عليه سبحانه بقوله : (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) وعدا خفيّا تقتضيه البلاغة ، ورغّب سبحانه في العفو ؛ إذ ذكر أنها صفته مع القدرة على الانتقام.

قال ع (٢) : ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأمّلها ، قال الدّاووديّ : وعن ابن عمر ؛ أنه قال : لا يحب الله سبحانه أن يدعو أحد على أحد إلّا أن يظلم ، فقد رخّص له في ذلك. انتهى.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١٥٢)

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٠ / ٥٤٨) ، كتاب «الأدب» ، باب إكرام الضيف وخدمته ، حديث (٦١٣٦) ، ومسلم (١ / ٦٨) كتاب «الإيمان» ، باب الحث على إكرام الضيف ، حديث (٧٥ / ٧٤) ، وابن ماجة (٢ / ١٣١٣) كتاب «الفتن» ، باب كف اللسان في الفتنة ، حديث (٣٩٧١) من طريق أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا.

وأخرجه البخاري (١١ / ٣١٤) ، كتاب «الرقاق» ، باب حفظ اللسان ، حديث (٦٤٧٥) ، ومسلم (١ / ٦٨) ، كتاب «الإيمان» ، باب الحث على إكرام الجار ، حديث (٤٧) ، وأبو داود (٢ / ٧٦٠ ـ ٧٦١) كتاب «الأدب» ، باب في حق الجوار ، حديث (٥٤ : ٥) ، والترمذي (٤ / ٥٦٩) ، كتاب «صفة القيامة» ، باب إكرام الضيف ، حديث (٢٥٠٠) ، وأحمد (٢ / ٢٦٧) ، والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٣٣٦ ـ بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن ، عن أبي هريرة مرفوعا.

وأخرجه البخاري (٩ / ١٦١) ، كتاب «النكاح» ، باب الوصاة بالنساء ، حديث (٥١٨٥) ، ومسلم (٢ / ١٠٩١) ، كتاب «الرضاع» ، باب الوصية بالنساء ، حديث (٦٠ / ١٤٦٨) ، والبيهقي (٧ / ٢٩٥) ، كتاب «القسم والنشوز» ، باب حق المرأة على الرجل ، وأبو يعلى (١١ / ٨٥ ـ ٨٦) رقم (٦٢١٨) من طريق أبي حازم عن أبي هريرة.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ١٣٠)

٣٢٣

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ ...) إلى آخر الآية : نزل في اليهود والنصارى ، وقد تقدّم بيان هذه المعاني.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ...) الآية : لما ذكر سبحانه أنّ المفرّقين بين الرسل هم الكافرون حقّا ، عقّب ذلك بذكر المؤمنين بالله ورسله جميعا ، وهم المؤمنون بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليصرّح بوعد هؤلاء ؛ كما صرّح بوعيد أولئك ، فبيّن الفرق بين المنزلتين.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)(١٥٤)

وقوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ...) الآية : قال قتادة سألت اليهود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم بكتاب من عند الله خاصّ لليهود ، يأمرهم فيه بالايمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ونحوه عن ابن جريج (٢) ، وزاد : «إلى فلان ، وإلى فلان أنّك رسول الله» ، ثم قال سبحانه ؛ على جهة التسلية لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) ، وفي الكلام محذوف يدلّ عليه المذكور ، تقديره : فلا تبال ، يا محمد ، من سؤالهم وتشطّطهم ؛ فإنها عادتهم ، وجمهور المتأوّلين على أنّ (جَهْرَةً) معمول ل (أَرِنَا) ، أي : حتى نراه جهارا ، أي : عيانا ، وأهل السّنّة معتقدون أنّ هؤلاء لم يسألوا محالا عقلا ، لكنّه محال من جهة الشّرع ؛ إذ قد أخبر تعالى على ألسنة / أنبيائه أنّه لا يرى سبحانه في هذه الدنيا ، والرؤية في الآخرة ثابتة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخبر المتواتر ، وهي جائزة عقلا من غير تحديد ، ولا تكييف ولا تحيّز ؛ كما هو تعالى معلوم لا كالمعلومات ؛ كذلك هو مرئيّ ، لا كالمرئيّات سبحانه ؛ هذه حجّة أهل السنة ، وقولهم ، وقد تقدّم قصص القوم في «البقرة» ، وظلمهم : هو تعنّتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه.

وقوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) : «ثمّ» : للترتيب في الأخبار ، لا في نفس الأمر ، التقدير ؛ ثم قد كان من أمرهم أن اتّخذوا العجل ، وذلك أنّ اتخاذ العجل كان عند أمر

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٤٦) برقم (١٠٧٧٥) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٢٢) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٤٦) برقم (١٠٧٧٦) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢ / ١٣١)

٣٢٤

المضيّ إلى المناجاة ، ولم يكن الّذين صعقوا ممّن اتخذ العجل ، لكنّ الذين اتّخذوه كانوا قد جاءتهم البيّنات.

وقوله سبحانه : (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) ، يعني : بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم ، ثم وقع العفو عن الباقين منهم.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً)(١٥٧)

وقوله سبحانه : (فَبِما نَقْضِهِمْ) : «ما» زائدة مؤكّدة ، التقدير : فبنقضهم ، فالآية مخبرة عن أشياء واقعوها هي ضدّ ما أمروا به ، وحذف جواب هذا الكلام بليغ مبهم متروك مع ذهن السامع ، تقديره : لعنّاهم ونحوه ، ثم قال سبحانه : (وَبِكُفْرِهِمْ) : أي : بعيسى ، (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً) ، هو رميهم إياها بالزّنا بعد رؤيتهم الآية في كلام عيسى في المهد ؛ (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ...) الآية : هذه الآية والّتي قبلها عدّد الله تعالى فيهما أقوال بني إسرائيل ، وأفعالهم ؛ على اختلاف الأزمان ، وتعاقب القرون ؛ فاجتمع من ذلك توبيخ خلفهم المعاصرين لنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهذه الطائفة التي قالت : إنا قتلنا المسيح ـ غير الذين نقضوا الميثاق في الطّور ، وغير الذين اتّخذوا العجل ، وقول بني إسرائيل إنّما هو إلى قوله : (عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ).

وقوله تعالى : (رَسُولَ اللهِ) ، إنما هو إخبار من الله تعالى بصفة لعيسى ، وهي الرسالة ، على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرّين بالقتل ، ولزمهم الذنب ، وهم لم يقتلوا عيسى ؛ لأنهم صلبوا ذلك الشخص ؛ على أنه عيسى ، وعلى أنّ عيسى كذّاب ليس برسول الله ، فلزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أنّ قتلهم وقع في عيسى.

قال ص : و (عِيسَى) : بدل أو عطف بيان من (الْمَسِيحَ) ، و (رَسُولَ اللهِ) كذلك ، ويجوز أن يكون صفة ل (عِيسَى) ، وأن يكون نصبا على إضمار أعني.

قلت : وهذا الأخير أحسنها من جهة المعنى. انتهى.

ثم أخبر سبحانه أنّ بني إسرائيل ما قتلوا عيسى ، وما صلبوه ، ولكن شبّه لهم ، واختلفت الرّواة في هذه القصّة ، والذي لا يشكّ فيه أنّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ كان يسيح في الأرض ويدعو إلى الله ، وكانت بنو إسرائيل تطلبه ، وملكهم في ذلك الزّمان يجعل عليه

٣٢٥

الجعائل ، وكان عيسى قد انضوى إليه الحواريّون يسيرون معه ؛ حيث سار ، فلمّا كان في بعض الأوقات ، شعر بأمر عيسى ، فروي أنّ رجلا من اليهود جعل له جعل ، فما زال ينقر عنه ؛ حتى دلّ على مكانه ، فلما أحسّ عيسى وأصحابه بتلاحق الطّالبين بهم ، دخلوا بيتا بمرأى من بني إسرائيل ، فروي أنهم عدّوهم ثلاثة عشر ، وروي : ثمانية عشر ، وحصروا ليلا ، فروي أنّ عيسى فرق الحواريّين عن نفسه تلك الليلة ، ووجّههم إلى الآفاق ، وبقي هو ورجل معه ، فرفع عيسى ، وألقي شبهه على الرجل ، فصلب ذلك الرجل ، وروي أنّ الشّبه ألقي على اليهوديّ الذي دلّ عليه ، فصلب / ، وروي أنّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ لما أحيط بهم ، قال لأصحابه : أيّكم يلقى عليه شبهي ، فيقتل ، ويخلّص هؤلاء ، وهو رفيقي في الجنّة ، فقال سرجس : أنا ، فألقي عليه شبه عيسى ، وروي أنّ شبه عيسى ألقي على الجماعة كلّها ، فلما أخرجهم بنو إسرائيل ، نقصوا واحدا من العدّة ، فأخذوا واحدا ممّن عليه الشّبه حسب هذه الروايات التي ذكرناها ، فصلبوه ، وروي أنّ الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر رفع عيسى ، لما رأوه من نقصان العدّة ، واختلاط الأمر.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ...) الآية : يعني اختلاف المحاولين لأخذه ؛ لأنهم حين فقدوا واحدا من العدد ، وتحدّث برفع عيسى ، اضطربوا ، واختلفوا ، لكن أجمعوا على صلب واحد من غير ثقة ، ولا يقين ، أنه هو.

وقوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) ، قال ابن عبّاس (١) وجماعة : المعنى : وما صحّ ظنّهم عندهم ، ولا تحقّقوه يقينا ، فالضمير في «قتلوه» عندهم عائد على الظّنّ ؛ كما تقول : ما قتلت هذا الأمر علما ، قلت : وعبارة السّدّيّ : «وما قتلوا أمره يقينا أنّ الرجل هو عيسى» (٢). انتهى من «مختصر الطّبريّ» ، وقال قوم : الضمير عائد على عيسى ، أخبر سبحانه أنهم ما قتلوه في الحقيقة جملة واحدة ، لا يقينا ولا شكّا ، لكن لما حصلت في ذلك الدعوى ، صار قتله عندهم مشكوكا فيه ، وقال قوم من أهل اللسان : الكلام تامّ في قوله : (وَما قَتَلُوهُ) ، و (يَقِيناً) : مصدر مؤكّد للنفي في قوله : (وَما قَتَلُوهُ) ، المعنى : نخبركم يقينا ، أو نقصّ عليكم يقينا ، أو أيقنوا بذلك يقينا.

وقال ص : بعد كلام : والظاهر أنّ الضمير في (قَتَلُوهُ) عائد إلى عيسى لتتّحد الضمائر ، و (يَقِيناً) : منصوب في موضع الحال من فاعل (قَتَلُوهُ) : أي : مستيقنين أنه

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٢ / ١٣٤)

(٢) ذكره ابن عطية (٢ / ١٣٤)

٣٢٦

عيسى ، أو نعت لمصدر محذوف ، أي : قتلا يقينا. انتهى.

(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(١٥٨)

وقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) : يعني : إلى سمائه وكرامته ، وعيسى ـ عليه‌السلام ـ في السّماء ؛ على ما تضمّنه حديث الإسراء في ذكر ابني الخالة عيسى ويحيى ، ذكره البخاريّ في حديث (١) المعراج ، وذكره غيره ، وهو هنالك مقيم ؛ حتى ينزله الله تعالى لقتل الدّجّال ، وليملأ الأرض عدلا ويحيا فيها أربعين سنة ، ثم يموت ، كما يموت البشر.

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)(١٥٩)

وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) : اختلف في معنى الآية :

فقال ابن عباس (٢) وغيره : الضمير في (مَوْتِهِ) راجع إلى عيسى ، والمعنى : أنه لا يبقى من أهل الكتاب أحد ، إذا نزل عيسى إلى الأرض ، إلّا يؤمن بعيسى ؛ كما يؤمن سائر البشر ، وترجع الأديان كلّها واحدا ، يعني : يرجعون على دين نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ عيسى واحد من أمته وعلى شريعته ، وأئمّتنا منّا كما ورد في الحديث الصّحيح.

وقال مجاهد وابن عباس أيضا وغيرهما : الضمير في (بِهِ) لعيسى ، وفي (مَوْتِهِ) للكتابيّ ، لكن عند المعاينة للموت فهو إيمان لا ينفعه (٣) ، وقال عكرمة : الضّمير في (بِهِ) لنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (قَبْلَ مَوْتِهِ) للكتابيّ (٤) قال : وليس يخرج يهوديّ ولا نصرانيّ من الدنيا حتّى يؤمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو غرق أو سقط عليه جدار ، فإنه يؤمن في ذلك الوقت ، وفي مصحف أبيّ بن كعب : «قبل موتهم» ، ففي هذه القراءة تقوية لعود الضمير على الكتابيّ (٥).

قال ص : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ...) الآية : «إن» : هنا نافية ، والمخبر عنه

__________________

(١) سيأتي تخريجه مفصلا في سورة الإسراء.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٥٦) برقم (١٠٧٩٩) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢ / ١٣٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٥٩)

(٣) ذكره ابن عطية (٢ / ١٣٤)

(٤) ذكره ابن عطية (٢ / ١٣٤)

(٥) ذكره ابن عطية (٢ / ١٣٤)

٣٢٧

محذوف قامت صفته مقامه ، أي : وما أحد من أهل الكتاب ؛ كما حذف في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] ، وقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] أي : وما أحد منا ، وما أحد منكم ، قال الشيخ أبو حيّان (١) : (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) : جواب قسم محذوف ، والقسم وجوابه هو الخبر ، وكذلك أيضا (إِلَّا لَهُ مَقامٌ) و (إِلَّا وارِدُها) ، هما الخبر ، قال الزّجّاج : وحذف «أحد» مطلوب في كلّ نفي يدخله الاستثناء ؛ نحو : ما قام إلّا زيد ، أي : ما قام أحد إلّا زيد. انتهى.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً)(١٦٢)

وقوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ...) الآية : (فَبِظُلْمٍ) : معطوف على قوله سبحانه : (فَبِما نَقْضِهِمْ) [النساء : ١٥٥] ، والطيّبات هنا : هي الشّحوم ، وبعض الذبائح ، والطّير والحوت ، وغير ذلك ، وقرأ ابن عباس (٢) : «طيّبات كانت أحلّت لهم».

(وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) : يحتمل أن يريد صدّهم في ذاتهم ، ويحتمل أن يريد صدّهم غيرهم ، (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا) ، هو الدرهم بالدرهمين إلى أجل ، ونحو ذلك ممّا هو مفسدة ، وقد نهوا عنه ، ثم استثنى سبحانه الراسخين في العلم منهم ؛ كعبد الله بن سلام ، ومخيريق ، ومن جرى مجراهم.

واختلف الناس في قوله سبحانه : (وَالْمُقِيمِينَ) ، وكيف خالف إعرابها إعراب ما تقدّم وما تأخّر.

فقال بعض نحاة البصرة والكوفة : إنما هذا من قطع النّعوت ، إذا كثرت على النصب ب «أعني» والرفع بعد ذلك ب «هم» ؛ وقال قوم : (وَالْمُقِيمِينَ) : عطف على «ما» في قوله : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ، والمعنى : ويؤمنون بالمقيمين الصّلاة ، وهم الملائكة ، أو من تقدّم من الأنبياء ، وقال قوم : (وَالْمُقِيمِينَ) : عطف على الضمير في منهم ، وقال آخرون : بل على الكاف في قوله : (مِنْ قَبْلِكَ).

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٣ / ٤٠٦)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ١٣٥) ، و «البحر المحيط» (٣ / ٤١١) ، و «الدر المصون» (٢ / ٤٦١)

٣٢٨

وزاد ص : (وَالْمُقِيمِينَ) منصوب على المدح ، قال : وقرأ جماعة : «والمقيمون» (١) انتهى.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً)(١٦٤)

وقوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ...) الآية : سبب نزولها قول بعض أحبار يهود : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ...) [الأنعام : ٩١] فأنزل الله سبحانه الآية ؛ تكذيبا لهم.

قال ع (٢) : إسماعيل هو الذبيح ؛ في قول المحقّقين ، والوحي : إلقاء المعنى في خفاء ، وعرفه في الأنبياء بوساطة جبريل ـ عليه‌السلام ـ ، وكلّم الله سبحانه موسى بكلام دون تكييف ، ولا تحديد ، ولا حرف ، ولا صوت ، والذي عليه الراسخون في العلم ؛ أنّ الكلام هو المعنى القائم في النّفس ، ويخلق الله لموسى إدراكا من جهة السّمع يتحصّل به الكلام ، وكما أنّ الله تعالى موجود لا كالموجودات ، معلوم لا كالمعلومات ؛ فكذلك كلامه لا كالكلام.

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(١٦٥)

وقوله سبحانه : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ...) الآية : رسلا : بدل من الأول ، وأراد سبحانه أن يقطع بالرّسل احتجاج من يقول : لو بعث إليّ رسول ، لآمنت ، والله سبحانه «عزيز» ؛ لا يغالبه شيء ، ولا حجّة لأحد عليه ، حكيم في أفعاله ، فقطع الحجّة بالرسل ؛ حكمة منه سبحانه.

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً

__________________

(١) وممن قرأ بها : عبد الله ، ومالك بن دينار ، والجحدري ، وعيسى الثقفي.

ينظر : «المحتسب» (١ / ٢٠٤) ، و «الكشاف» (١ / ٥٩٠) ، و «المحرر الوجيز» (٢ / ١٣٥) ، وزاد نسبتها إلى الأعمش ، وسعيد بن جبير ، ورواية يونس وهارون عن أبي عمرو ، وينظر : «البحر المحيط» (٣ / ٤١١) ، و «الدر المصون» (٢ / ٤٦١)

(٢) ينظر : «تفسير ابن عطية» (٢ / ١٣٦)

٣٢٩

(١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(١٦٩)

وقوله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ...) الآية : سببها قول اليهود : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١].

وقال ص : «لكن» : استدراك ، ولا يبتدأ بها ، فيتعيّن تقدير جملة قبلها يبيّنها سبب النزول ، وهو أنه لمّا نزل : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [النساء : ١٦٣] ، قالوا : ما نشهد لك بهذا ؛ فنزل : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ). انتهى.

وقوله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) ، هذه الآية من أقوى متعلّقات أهل السنّة في إثبات علم الله عزوجل ؛ خلافا للمعتزلة في أنهم يقولون : عالم بلا علم ، والمعنى عند أهل السّنّة : أنزله ، وهو يعلم / إنزاله ونزوله.

وقوله سبحانه : (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) : تقوية لأمر نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وردّ على اليهود.

وقوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) ، تقديره : وكفى الله شهيدا ، لكنه دخلت الباء ؛ لتدلّ على أنّ المراد اكتفوا بالله ، وباقي الآية بيّن.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)(١٧٣)

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ ...) الآية : خطاب لجميع النّاس ، وهي دعاء إلى الشرع ، ولو كانت في أمر من أوامر الأحكام ، ونحو هذا ، لكانت : «يا أيها الذين آمنوا» ، والرسول في الآية : نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال سبحانه : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وهذا خبر بالاستغناء ، وأنّ ضرر الكفر إنما هو

٣٣٠

نازل بهم ، ثم خاطب سبحانه أهل الكتاب من النصارى ، وهو أن يدعوا الغلوّ ، وهو تجاوز الحدّ.

وقوله : (فِي دِينِكُمْ) : معناه : في دين الله الّذي أنتم مطلوبون به ؛ بأن توحّدوا الله ، ولا تقولوا على الله إلا الحقّ ، وليست الإشارة إلى دينهم المضلّل ، وعن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه ، وأنّ الجنّة حقّ ، والنّار حقّ ـ أدخله الله الجنّة على ما كان من عمل» (١) رواه مسلم ، والبخاريّ والنسائيّ ، وفي مسلم : «أدخله الله من أيّ أبواب الجنّة الثّمانية شاء». انتهى.

وقوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) ؛ أي : الذين من جملتهم : عيسى ، ومحمّد ـ عليهما‌السلام ـ.

وقوله تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) : «إنّما» ؛ في هذه الآية : حاصرة ، و (سُبْحانَهُ) : معناه : تنزيها له ، وتعظيما ، والاستنكاف إباءة بأنفة.

قال ع (٢) : وقوله سبحانه : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) : زيادة في الحجّة ، وتقريب من الأذهان ، أي : وهؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين لا يستنكفون عن ذلك ، فكيف بسواهم ، وفي هذه الآية دليل على تفضيل الملائكة على الأنبياء.

وقوله سبحانه : (فَسَيَحْشُرُهُمْ) : عبارة وعيد.

قال ع (٣) : وهذا الاستنكاف إنما يكون من الكفّار عن اتباع الأنبياء ، وما جرى مجراه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً)(١٧٤)

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٥٤٦) كتاب «أحاديث الأنبياء» ، باب قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) ، حديث (٣٤٣٥) ، ومسلم (١ / ٥٧) ، كتاب «الإيمان» ، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا ، حديث (٤٦ / ٢٨) ، وأحمد (٥ / ٣١٣) ، والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول عند الموت ، حديث (١٠٩٦٩) ، والبغوي في «شرح السنة» .. (١ / ١١٥ ـ بتحقيقنا) كلهم من طريق جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت به.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ١٤٠)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ١٤٠)

٣٣١

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...) الآية : إشارة إلى نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والبرهان : الحجة النّيّرة الواضحة الّتي تعطي اليقين التّامّ ، والنّور المبين : يعني القرآن ؛ لأنّ فيه بيان كلّ شيء ، وفي «صحيح مسلم» ، عن زيد بن أرقم ، قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فينا خطيبا ، فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه ، ووعظ وذكّر ، ثمّ قال : «أمّا بعد ، ألا أيّها النّاس ، فإنّما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربّي ، فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أوّلهما كتاب الله ؛ فيه الهدى والنّور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا» ، فحثّ على كتاب الله ، ورغّب فيه ، ثمّ قال : «وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله ؛ ثلاثا في أهل بيتي ...» (١) الحديث ، وفي رواية : «كتاب الله ؛ فيه الهدى والنّور من استمسك به ، وأخذ به ، كان على الهدى ، ومن أخطأه ، ضلّ» ، وفي رواية : «ألا وإنّي تارك فيكم ثقلين : أحدهما : كتاب الله ، وهو حبل الله ، من اتّبعه كان على الهدى ، ومن تركه كان على ضلالة». انتهى.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً)(١٧٥)

وقوله سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ / وَاعْتَصَمُوا بِهِ) : أي : اعتصموا بالله ، ويحتمل : اعتصموا بالقرآن ؛ كما قال ـ عليه‌السلام ـ : «القرآن حبل الله المتين ؛ من تمسّك به عصم» (٢) ، والرحمة والفضل : الجنّة ونعيمها ، و (يَهْدِيهِمْ) : معناه : إلى الفضل ، وهذه هداية طريق الجنان ؛ كما قال تعالى : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ...) [محمد : ٥] الآية ؛ لأنّ هداية الإرشاد قد تقدّمت ، وتحصّلت حين آمنوا بالله واعتصموا بكتابه ، فيهديهم هنا بمعنى : يعرّفهم ، وباقي الآية بيّن.

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٧٦)

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ١٨٧٣) ، كتاب «فضائل الصحابة» ، باب فضل علي بن أبي طالب ، حديث (٣٦ / ٢٤٠٨) ، وأحمد (٤ / ٣٦٦ ـ ٣٦٧) ، والدارمي (٢ / ٤٣١ ـ ٤٣٢) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب فضل من قرأ القرآن ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤ / ٣٦٨) ، وابن أبي عاصم في «السنة» رقم (١٥٥٠ ، ١٥٥١) ، والطبراني في «الكبير» رقم (٥٠٢٦) ، والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٢٠٥ ـ بتحقيقنا)

(٢) تقدم في أول التفسير.

٣٣٢

وقوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) ، قد تقدّم القول في تفسير «الكلالة» في صدر السورة ، وكان أمر الكلالة عند عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) مشكلا ، والله أعلم ، ما الذي أشكل عليه منها ، وقول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : «تكفيك منها آية الصّيف» (١) الّتي نزلت في آخر سورة «النساء» بيان فيه كفاية ، قال كثير من الصحابة : هذه الآية هي من آخر ما نزل.

وقوله سبحانه : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) : التقدير : لئلّا تضلّوا ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، سبحانه ، وصلّى الله على نبيّنا محمّد ، وعلى آله وصحبه ، وسلّم تسليما.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٢٣٦) ، كتاب «الفرائض» ، باب ميراث الكلالة (٩ / ١٦١٧) ، بلفظ : ألا تكفيك آية الصيف التي في أواخر سورة النساء ، وأخرجه أبو داود (٣ / ١٢٠) ، كتاب «الفرائض» ، باب من كان ليس له ولد وله أخوات (٢٨٨٩) ، بلفظ : تجزيك آية الصيف.

٣٣٣

تفسير سورة المائدة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هذه السّورة مدنيّة بإجماع

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ)(١)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...) الآية عامّة في الوفاء بالعقود ، وهي الرّبوط في القول ، كان ذلك في تعاهد على برّ أو في عقدة نكاح ، أو بيع ، أو غيره ، فمعنى الآية أمر جميع المؤمنين بالوفاء على عقد جار على رسم الشريعة ، وفسّر بعض الناس لفظ «العقود» بالعهود ، وقال ابن شهاب : قرأت كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم (١) حين بعثه إلى نجران ، وفي صدره : «هذا بيان من الله ورسوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، فكتب الآيات إلى قوله : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٢)

__________________

(١) هو : عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار. أبو الضحاك. الأنصاري. الخزرجي ثم النجاري. أمه من بني ساعدة.

قال ابن حجر في «الإصابة» : شهد الخندق وما بعدها ، واستعمله النبيّ على نجران ، روى عنه كتابا كتبه له فيه الفرائض والزكاة والديات وغير ذلك ، أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وابن حبان ، روى عنه ابنه محمد وجماعة ، توفي بالمدينة سنة (٥١) وقيل (٥٤) : أنه توفي بالمدينة في خلافة عمر بن الخطاب. تنظر ترجمته في : «أسد الغابة» (٤ / ٢١٤) ، «الإصابة» (٤ / ٢٩٣) ، «الثقات» (٣ / ٢٦٧) ، «الاستيعاب» (٣ / ١١٧٢) ، «تجريد أسماء الصحابة» (١ / ٤٠٤) ، «بقي بن مخلد» (٢٩٧) ، «الاستبصار» (٧٣) ، «الجرح والتعديل» (٦ / ٢٢٤) ، «التاريخ الكبير» (٦ / ٣٠٥) ، «تقريب التهذيب» (٢ / ٦٨) ، «تهذيب التهذيب» (٢ / ٦٨) ، «تهذيب الكمال» (٢ / ١٠٢٩) ، «التحفة اللطيفة» (٣ / ٢٩٥) ، «عنوان النجابة» (١٣٨) ، «الكاشف» (٣٢٦) ، «الأعلام» (٥ / ٧٦) ، «الطبقات الكبرى» (١ / ٢٦٧) ، «التاريخ لابن معين» (٢ / ١٥٣) ، «بقي بن مخلد» (٢٩٧) ، «العبر» (٥٨) ، «معجم الثقات» (٣١٤)

(٢) أخرجه النسائي (٨ / ٥٧) ، كتاب «القسامة» ، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له ، حديث (٤٨٥٣) ، والدارمي (١ / ٣٨١) ـ كتاب الزكاة» ، باب في زكاة الغنم ، وأبو داود في «المراسيل» رقم (٢٥٨ ، ٢٥٩) ، والحاكم (١ / ٣٩٥ ـ ٣٩٧) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٣٤) ، والبيهقي (٤ / ٨٩) كتاب «الزكاة» ، باب كيف فرض الصدقة ، وابن عبد البر في «التمهيد» (٧ / ٣٣٩ ـ ٣٤١) ، وابن حبان (٧٩٣ ـ موارد) ، وابن حزم في «المحلى» (١٠ / ٤١١) كلهم من طريق ـ

٣٣٤

[المائدة : ٤].

قال ع (١) : وأصوب ما يقال في هذه الآية : أن تعمّم ألفاظها بغاية ما تتناول ، فيعمّم لفظ المؤمنين في مؤمني أهل الكتاب ، وفي كلّ مظهر للإيمان ، وإن لم يبطنه ، وفي المؤمنين حقيقة ، ويعمّم العقود في كلّ ربط بقول موافق للحق والشّرع.

وقوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) اختلف في معنى (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ).

فقال قتادة وغيره : هي الأنعام كلّها.

ع (٢) : كأنه قال : أحلّت لكم الأنعام. وقال الطبريّ (٣) : قال قوم : بهيمة الأنعام : وحشها ، وهذا قول حسن ؛ وذلك أنّ الأنعام هي الثمانية الأزواج ، وانضاف إليها من سائر الحيوان ما يقال له : أنعام بمجموعه معها ، والبهيمة في كلام العرب : ما أبهم من جهة نقص النّطق والفهم.

__________________

ـ سليمان بن داود ، حدثني الزهري ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده.

وصححه ابن حبان ، والحاكم ، ووافقه الذهبي.

وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على «المحلى» (١ / ٨٢) : وهو إسناد صحيح ، وأخرجه مالك (٢ / ٨٤٩) كتاب «العقول» ، باب ذكر العقول ، حديث (١) ، والشافعي في «الأم» (٨ / ٥٧١) ، والنسائي (٨ / ٦٠) كتاب القسامة ، والبيهقي (٨ / ٧٣ ، ٨٢) كلهم من طريق عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه «أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرو بن حزم في العقول : «أن في النفس مائة من الإبل ، وفي الأنف إذا أوعى جدعا مائة من الإبل ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الجائفة مثلها ، وفي العين خمسون ، وفي الرجل الواحدة خمسون ، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل ، وفي السن خمس ، وفي الموضحة خمس».

وأخرجه عبد الرزاق مختصرا (٩ / ٣١٦) رقم (١٧٣٥٨) من طريق معمر ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن جده. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الدارمي (١ / ٣٨١) ، وابن خزيمة (٤ / ١٩) رقم (٢٢٦٩) ، والدار قطني (٣ / ٢١٠) رقم (٣٧٩) ، وتابع معمرا ابن إسحاق.

أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ٤١٣ ـ ٤١٥).

وأخرجه النسائي (٨ / ٥٩) كتاب «القسامة» ، من طريق ابن وهب ، ثنا يونس بن يزيد ، عن الزهري قال : قرأت كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرو بن حزم ، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم.

وأخرجه الدار قطني (٣ / ٢٠٩) رقم (٣٧٧) من طريق محمد بن عمارة ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : كان في كتاب عمرو بن حزم ... فذكره.

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ١٤٤)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ١٤٤)

(٣) ينظر : الطبري (٤ / ٣٨٩)

٣٣٥

وقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) : استثناء ما تلي في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ...) [المائدة : ٣] الآية : «وما» في موضع نصب ؛ على أصل الاستثناء.

وقوله سبحانه : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ...) نصب «غير» ؛ على الحال من الكاف والميم في قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ) ، وهو استثناء بعد استثناء.

قال ص : وهذا هو قول الجمهور ، واعترض بأنّه يلزم منه تقييد الحلّيّة بحالة كونهم غير محلّين الصّيد ، وهم حرم ، والحلّيّة ثابتة مطلقا.

قال ص : والجواب عندي عن هذا ؛ أنّ المفهوم هنا متروك ؛ لدليل خارجيّ ، وكثير في القرآن وغيره من المفهومات المتروكة لمعارض ، ثم ذكر ما نقله أبو حيّان / من الوجوه التي لم يرتضها.

م : وما فيها من التكلّف ، ثم قال : ولا شكّ أنّ ما ذكره الجمهور من أنّ «غير» : حال ، وإن لزم عنه الترك بالمفهوم ، فهو أولى من تخريج تنبو عنه الفهوم. انتهى.

وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) : تقوية لهذه الأحكام الشرعيّة المخالفة لمعهود أحكام الجاهليّة ، أي : فأنت أيها السّامع لنسخ تلك التي عهدتّ ، تنبّه ، فإنّ الله الذي هو مالك الكلّ يحكم ما يريد لا معقّب لحكمه سبحانه.

قال ع (١) : وهذه الآية مما تلوح فصاحتها ، وكثرة معانيها على قلّة ألفاظها لكلّ ذي بصر بالكلام ، ولمن عنده أدنى إبصار ، وقد حكى النّقّاش ؛ أنّ أصحاب الكنديّ (٢) قالوا للكنديّ : أيّها الحكيم ، اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال : نعم ، أعمل لكم مثل بعضه ، فاحتجب أياما كثيرة ، ثم خرج ، فقال : والله ، ما أقدر عليه ، ولا يطيق هذا أحد ؛ إني فتحت المصحف ، فخرجت سورة المائدة ، فنظرت ، فإذا هو قد أمر بالوفاء ، ونهى عن

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ١٤٥)

(٢) يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي ، أبو يوسف : فيلسوف العرب والإسلام في عصره ، وأحد أبناء الملوك من كندة. نشأ في البصرة. وانتقل إلى بغداد ، فتعلم واشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى والهندسة والفلك. وألف وترجم وشرح كتبا كثيرة. يزيد عددها على ثلاثمائة. ولقي في حياته ما يلقاه أمثاله من فلاسفة الأمم ، فوشي به إلى المتوكل العباسي ، فضرب وأخذت كتبه ، ثم ردت إليه. وأصاب عند المأمون والمعتصم منزلة عظيمة وإكراما. قال ابن جلجل : «ولم يكن في الإسلام غيره احتذى في تواليفه حذو أرسطاطاليس».

تنظر ترجمته في : «الأعلام» (٨ / ١٩٥) (١٧٦٩) ، «طبقات الأطباء» (١ / ٢٠٦ ـ ٢١٤) ، «لسان الميزان» (٦ / ٣٠٥)

٣٣٦

النّكث ، وحلّل تحليلا عامّا ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يستطيع أحد أن يأتي بهذا إلّا في أجلاد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢)

وقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) : خطاب للمؤمنين حقّا ؛ ألّا يتعدّوا حدود الله في أمر من الأمور ، قال عطاء بن أبي رباح : شعائر الله جميع ما أمر به سبحانه ، أو نهى عنه (١) ، وهذا قول راجح ، فالشعائر : جمع شعيرة ، أي : قد أشعر الله أنّها حدّه وطاعته ، فهي بمعنى معالم الله.

وقوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) : أي : لا تحلّوه بقتال ولا غارة ، والأظهر أنّ الشهر الحرام أريد به رجب ؛ ليشتدّ أمره ، وهو شهر كان تحريمه مختصّا بقريش ، وكانت تعظّمه ، ويحتمل أنه أريد به الجنس في جميع الأشهر الحرم.

وقوله سبحانه : (وَلَا الْهَدْيَ) : أي : لا يستحلّ ولا يغار عليه ، ثم ذكر المقلّد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التّقليد ، هذا معنى كلام ابن (٢) عبّاس.

وقال الجمهور : الهدي عامّ في أنواع ما يهدى قربة ، والقلائد : ما كان النّاس يتقلّدونه من لحاء السّمر وغيره ؛ أمنة لهم.

وقال ص : (وَلَا الْقَلائِدَ) : أي : ولا ذوات القلائد ، وقيل : بل المراد القلائد نفسها ؛ مبالغة في النهي عن التعرّض للهدي. انتهى.

وقوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) : أي : قاصدينه من الكفّار ؛ المعنى : لا تحلّوهم ، فتغيرون عليهم ، وهذا منسوخ ب «آية السّيف» ؛ بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] فكلّ ما في هذه الآية ممّا يتصوّر في مسلم حاجّ ، فهو

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٩٢) برقم (١٠٩٤١) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢ / ١٢٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٥٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٩٥) برقم (١٠٩٥١) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٤٩) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

٣٣٧

محكم ، وكلّ ما كان منها في الكفّار ، فهو منسوخ.

وقوله سبحانه : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) ، قال فيه جمهور المفسّرين : معناه : يبتغون الفضل من الأرباح في التّجارة ، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنّهم وطمعهم ، وهذه الآية نزلت عام الفتح ، وفيها استئلاف من الله سبحانه للعرب ، ولطف بهم ؛ لتنبسط النفوس ؛ بتداخل النّاس ، ويردون الموسم ، فيسمعون القرآن ، ويدخل الإيمان في قلوبهم ، وتقوم عليهم الحجّة ؛ كالذي كان ، ثمّ نسخ الله ذلك كلّه بعد عام في سنة تسع ؛ إذ حجّ أبو بكر (رضي الله عنه) ، ونودي في الناس بسورة «براءة».

وقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) : مجيء / إباحة الصّيد عقب التشديد فيه حسن في فصاحة القول.

وقوله سبحانه : (فَاصْطادُوا) : أمر ، ومعناه الإباحة ؛ بإجماع.

وقوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) : معناه : لا يكسبنّكم ، وجرم الرجل : معناه : كسب ، وقال ابن عبّاس : معناه : لا يحملنّكم (١) ، والمعنى : متقارب ، والتفسير الذي يخصّ اللفظة هو معنى الكسب.

وقوله تعالى : (شَنَآنُ قَوْمٍ) : الشّنآن : هو البغض ، فأما من قرأ شنآن ـ بفتح النون ـ ، فالأظهر فيه أنه مصدر ؛ كأنّه قال : لا يكسبنّكم بغض قوم من أجل أن صدّوكم عدوانا عليهم وظلما لهم ، وهذه الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، حين أراد المسلمون أن يستطيلوا على قريش ، وألفافها المتظاهرين على صدّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحابه عام الحديبية ، وذلك سنة ستّ من الهجرة ، فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين ، وحيكة للكفّار ، فنهي المؤمنون عن مكافأتهم ، وإذ لله فيهم إرادة خير ، وفي علمه أنّ منهم من يؤمن كالذي كان.

وقرأ أبو عمرو (٢) ، وابن كثير : «إن صدّوكم» ، ومعناه : إن وقع مثل ذلك في

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٠٢) برقم (١٠٩٩٣) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٨) ، وابن عطية في «تفسيره» (٢ / ١٤٨)

(٢) وحجتهما : أن الآية نزلت قبل فعلهم وصدهم ، قال اليزيدي : معناه : لا يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا إن صدوكم.

ينظر : «السبعة» (٢٤٢) ، و «الحجة» (٣ / ٢١٢) ، و «حجة القراءات» (٢٢٠) ، والعنوان ، «إعراب القراءات» (١ / ١٤٢) ، و «شرح شعلة» (٣٤٧) ، و «شرح الطيبة» (٢٢٥) ، و «إتحاف» (١ / ٥٢٩) ، و «معاني القراءات» (١ / ٣٢٥).

٣٣٨

المستقبل ، وقراءة الجمهور أمكن.

ثم أمر سبحانه الجميع بالتعاون على البرّ والتقوى ، قال قوم : هما لفظان بمعنى ، وفي هذا تسامح ، والعرف في دلالة هذين ؛ أنّ البرّ يتناول الواجب والمندوب ، والتقوى : رعاية الواجب ، فإن جعل أحدهما بدل الآخر ، فبتجوّز.

قلت : قال أحمد بن نصر الداوديّ : قال ابن عباس : البرّ ما أمرت به ، والتقوى ما نهيت عنه (١). انتهى ، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ؛ أنّ لفظ التقوى يطلق على معان ، وقد بيّناها في آخر «سورة النّور» ، وفي الحديث الصحيح : «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (٢) ، قال ابن الفاكهانيّ ، عند شرحه لهذا الحديث : وقد روّينا في بعض الأحاديث : «من سعى في حاجة أخيه المسلم ، قضيت له أو لم تقض ـ غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وكتب له براءتان : براءة من النّار ، وبراءة من النّفاق» (٣) ، انتهى من «شرح الأربعين» حديثا.

ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم والعدوان ، ثم أمر بالتقوى ، وتوعّد توعّدا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٠٦)

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٧٤) ، كتاب «الذكر والدعاء» ، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن ، حديث (٣٨ / ٢٦٩٩) ، والترمذي (٤ / ٢٦) كتاب «الحدود» ، باب ما جاء في الستر على المسلم ، حديث (١٤٢٥) ، (٤ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨) كتاب البر والصلة» ، باب ما جاء في السترة على المسلم ، حديث (١٩٣٠) ، وأبو داود (٢ / ٧٠٤) كتاب «الأدب» ، باب في المعونة للمسلم ، حديث (٤٩٤٦) ، وابن ماجة (١ / ٨٢) المقدمة : باب فضل العلماء والحث على طلب العلم ، حديث (٢٢٥) ، وأحمد (٢ / ٢٠٢) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ١١٩) ، والبغوي في «شرح السنة» (١ / ٢٢١ ـ بتحقيقنا) كلهم من طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا.

قال النووي في «شرح مسلم» (٩ / ٢٨).

ومعنى (نفس الكربة) : أزالها.

وفيه : فضل قضاء حوائج المسلمين ، ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة وغير ذلك ، وفضل الستر على المسلمين ، وقد سبق تفصيله ، وفضل إنظار المعسر ، وفضل المشي في طلب العلم ، ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي ، بشرط أن يقصد به وجه الله تعالى ، وإن كان هذا شرطا في كل عبادة ، لكن عادة العلماء يقيدون هذه المسألة به ؛ لكونه قد يتساهل فيه بعض الناس ، ويغفل عنه بعض المبتدئين ونحوهم.

(٣) ذكره ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (٢ / ١٤٣) ، وعزاه للمنذري في «جزء غفران الذنوب» من حديث ابن عباس وقال : فيه أحمد بن بكار المصيصي ، قال الحافظ في «اللسان» : عندي أنه أحمد بن بكر البالسي خبطوا في نسبه ، والحديث موضوع.

٣٣٩

مجملا ، قال النوويّ : وعن وابصة بن معبد (١) : «أنّه أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : جئت تسأل عن البرّ والإثم؟ قال : نعم ، فقال : استفت قلبك ؛ البرّ : ما اطمأنّت إليه النّفس ، واطمأنّ إليه القلب ، والإثم : ما حاك في النّفس ، وتردّد في الصّدر ، وإن أفتاك النّاس وأفتوك» (٢) حديث حسن رويناه في مسند أحمد ، يعني : ابن حنبل ، والدّارمي وغيرهما ، وفي «صحيح مسلم» ، عن النّوّاس بن سمعان ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البرّ حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك ، وكرهت أن يطّلع عليه النّاس» (٣). انتهى.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي

__________________

(١) وابصة بن معبد بن مالك بن عبيد. وقيل : وابصة بن معبد بن عتبة بن الحارث. أبو سالم. الأسدي. قال ابن الأثير : له صحبة ، سكن الكوفة ثم تحول إلى الرقة فأقام بها إلى أن مات بها. روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث. روى عنه ابناه عمرو ، وسالم ، والشعبي ، وزياد بن أبي الجعد وغيرهم ... وتوفي وابصة بالرقّة ، وقبره عند منارة المسجد الجامع بالرافقة.

تنظر ترجمته في : «أسد الغابة» (٥ / ٤٢٧) ، «الإصابة» (٦ / ٣٠٩) ، الثقات» (٣ / ٤٣١) ، «تجريد أسماء الصحابة» (٢ / ١٢٥) ، «الاستيعاب» (٤ / ١٥٦٣) ، «بقي بن مخلد» (١٧٩) ، «تقريب التهذيب» (٢ / ٣٢٨) ، «تهذيب التهذيب» (١١ / ١٠٠) ، «تهذيب الكمال» (٣ / ١٤٥٧) ، «الكاشف» (٣ / ٢٣٢) ، «الجرح والتعديل» (٩ / ٤٧) ، «الطبقات الكبرى» (١ / ٢٩٢٨) ، «التاريخ الكبير» (٨ / ١٨٧) ، «حلية الأولياء» (٢ / ٢٣) ، «البداية والنهاية» (٥ / ٨٨)

(٢) أخرجه أحمد (٤ / ٢٢٨) ، والدارمي (٢ / ٢٤٥ ـ ٢٤٦) كتاب «البيوع» ، باب دع ما يربك إلى ما لا يريبك» ، والطبراني في «الكبير» (٢٢ / ١٤٧ ـ ١٤٨) رقم (٤٠٢) من حديث وابصة.

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ١٩٨١) ، كتاب «البر والصلة» ، باب تفسير البر والإثم ، حديث (١٤ / ٢٥٥٣) ، والبخاري في «الأدب المفرد» رقم (٢٩٥) ، والترمذي (٤ / ٥٩٧) ، كتاب «الزهد» ، باب ما جاء في البر والإثم ، حديث (٢٣٨٩) ، وأحمد (٤ / ١٨٢) ، وابن حبان (٢٣٩٧) ، والبيهقي (١٠ / ١٩٢) ، وفي «شعب الإيمان» ، (٥ / ٤٥٧) رقم (٧٢٧٢) ، والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٤٧٤ ـ بتحقيقنا) كلهم من طريق معاوية بن صالح ، عن عبد الرّحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن النواس بن سمعان به. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه أحمد (٤ / ١٨٢) ، والدارمي (٢ / ٣٢٢) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٥ / ٤٥٧) رقم (٧٢٧٣) من طريق صفوان بن عمرو ، عن يحيى بن جابر القاضي ، عن النواس بن سمعان به.

وللحديث شاهد من حديث أبي ثعلبة الخشني : أخرجه أحمد (٤ / ١٩٤) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٢ / ٣٠) ، والطبراني في «الكبير» (٢٢ / ٢١٩) عنه مرفوعا بلفظ : «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ويطمئن إليه القلب».

٣٤٠