تفسير ابن عرفة - ج ١

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ١

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤٦٣

سورة البقرة

قوله تعالى : (الم).

قال ابن عطية : اختلف في الحروف التي في أوائل السور ، فقال الشعبي وسفيان الثوري وجماعة : إنها من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه.

قال ابن عرفة : قال الفخر في المحصول : هل يرد في القرآن ما لا يفهم أو لا على قولين؟.

وقال الشارح في اختصاره : إنما ذلك في الألفاظ الحادثة ، وأما الكلام القديم الأزلي فجمع عليه.

قال ابن عرفة : وهذا لا يحتاج إليه إلا لو قال : اختلفوا هل يصح أن يرد في القرآن اللفظ المهمل الذي لا معنى له ، وقوله : ما لا يفهم دليل على أن له عنده معنى ودلالة لم يفهم.

قال ابن عطية والجمهور : على أنه له معان ثم اختلفوا على اثني عشر قولا.

فقال ابن عرفة : اعلم أن قول الصحابي إذا كان مخالفا للقياس هو عندهم من قبيل المسند ؛ لأن المجانس على التفسير بمثل هذا لا يكون إلا عن توقيف من نص أو إجماع ، وقال قوم : معنى حساب أبي جد دليل على مدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذكر الأزهري في الروض الأنف حديثا واستخرج منه المدة ومن أوائل السور ، وأسقط المتكرر من الحروف ، وقال : هي أمارة على أنه كان الله تعالى وعد أهل الكتاب أنه سينزل على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كتابا في أول كل سورة منه حروف مقطعة.

ابن عرفة : يقال له : وما معنى تلك الحروف فلم يزل الإشكال فيها وهذه (الم) مبنية على الوقف ، فإن قلت : إنما تكون موقوفة قبل التركيب ، مثل : واحد اثنين ثلاثة إذا أردت مجرد العدد وهذه جزء وكلام وقع الإسناد بزوال الوقف وتعرف ، قال : في الجواب ألفا محكية ، مثل سائر الأسماء المحكية.

قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ).

أورد الزمخشري هنا سؤالا ، قال : الإشارة بذلك للبعيد وهو هنا للقريب؟ وأجاب بأن المراد القرب المعنوي.

٤١

قال ابن عرفة : السؤال غير واحد رد ؛ لأنه هذه أجاب في غير هذا الموضع ، في قوله تعالى : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [يوسف : ٣٢]. وفي قوله : (بَيْنَ ذلِكَ) [الإسراء : ١١٠]. لأن الإشارة بلفظ البعيد على سبيل التعظيم وهو معنى البيانيين ، قال : وغير عند باسم الإشارة دون ضمير تنبيها على أنه كالمحبوس المشار إليه فهو دليل على عظمته في النفوس.

قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ).

إما خبر في معنى النهي وإما خبر على بابه ، والمراد إما معنى وقوع ذلك حقيقة ليكون عاما مخصوصا بمن ارتاب فيه ، أي المراد لا ينبغي فيه ريب أي ليس بأهل لأن يرتاب فيه أحد.

قال : ومن الناس من يقف على ريب وكان يتعقبه بأن فيه شبيهة تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه ، ومنهم من وقف على (لا رَيْبَ فِيهِ) وعادتهم يصوبونه بأنه يبتدئ (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فيجعله خير مبتدأ مضمر أي هو هدى فيكون القرآن كله نفس الهدى فهو أبلغ ممن جعل الهداية فيه.

فإن قلت : لم أخر المجرور هنا وقدمه ، في قوله : (لا فِيها غَوْلٌ) ، و (عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ). [٦/١] والجواب أن المراد نفي الريب بالإطلاق فيتناول جميع الكتاب لكتب من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، فليس نفي الريب خاص بالقرآن فقط بل هو عام في الجميع بخلاف ما لو قيل : لا ريب فيه لا وهم ، بخصوص النفي به ، وبخلاف : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) خاص بأبصارهم دون أبصار المؤمنين.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).

قال : الغيب ما لم ينصب عليه دليل فمن الناس من أجاز النظر في علم النجوم وعلم الهيئة والكسوفات.

وقال أبو العز : المقترح في شرح عقيدته أجمعوا على أن النظر في علم الهيئة محرم.

قال ابن عرفة : إنما ذلك إذا نظر للحكم أما نظره ليعلم الكواكب والنجوم فجائز لكن الاشتغال بالعبادة وتعلم ما ينفعه أولى.

قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

٤٢

قال القرطبي : الآية حجة على المعتزلة ويلزمهم الكفر في قولهم : أن لفظ الرزق لا يطلق إلا على الحلال ؛ لأن من تغذى من صغره إلى كبره بالحرام يلزمهم أن لا يدخل في عموم قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦].

فقال ابن عرفة : يكون عاما مخصوصا ، أو مما رزقنا مجازا أو من باب التغليب باعتبار الأكثر فإن الأكثر حلال ، وقال غيره : هذا الخلاف لفظي لا يبنى عليه كفر ولا إيمان.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ).

قال الزمخشري : إن قلت : إن معناها أنزل إليك كل القرآن فليس بماض ، وإن أراد سبق إنزال منه فهو إيمان ببعض المنزل والإيمان بالجميع واجب.

ورده ابن عرفة إنما يجب مع العلم بإنزال ما سينزل معه أما مع عدم العلم فلا يجب الإيمان إلا بما أنزل منه فقط وما لم في الحال يعلم فإنه سينزل لسنا مكلفين بالإيمان به.

وأجاب الزمخشري : إن المراد الإيمان بالجميع ، وعبر بالماضي تغليبا لما أنزل على ما سينزل.

ابن عرفة : فيلزمه استعمال اللفظة الواحدة في حقيقتها ومجازها وفيه خلاف عند الأصوليين.

ابن عرفة : فيلزمه أو يجاب بأن المراد إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، وقد كان ماضيا.

قال ابن عرفة : وعادة الشيوخ يوردون هنا سؤالا وهو إن لم أره لأحد وهو هلا قيل : والذين يؤمنون بما أنزل من قبلك وما أنزل إليك فهو أنسب ليكون الأسبق في الوجود متقدما في اللفظ؟

قال : وعادتهم يجيبون عنه بأنا لا نؤمن إلا بما أنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه سبب في الإيمان بما أنزل لمن قبله لأن المكلف إذا آمن به يسمع القرآن المعجز والسنة المعجزة ويروي سائر المعجزات فيطلع من ذلك على أخبار الكتب السابقة وصحتها فيؤمن بها إيمانا حقيقيا أقوى من إيمانه بها مستندا لأخبار اليهود

٤٣

والنصارى عنها ، قيل له : أو يجاب بأنه تقدم لكونه أشرف ، وأحد أسباب التقدم والشرف لا يقال : هلا أخبر ويكون رزقا.

قوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ).

المنعوت ، والتشبيه الآخرة ، أو الدار الآخرة ، أو الملة الآخرة ، والموصوف لا يحذف إلا إذا كانت الصفة خاصة ، عمومها هنا في نوع الموصوف فلا يمتنع الخصوص.

قوله : (هُمْ يُوقِنُونَ).

إن قلنا : إن العلوم تتفاوت فنقول : ليقين أعلاها ، وإن قلنا : إنها لا تتفاوت في نفسها ، فنقول : ليقين منتهاه هنا هو العلم الذي لا يقبل التشكيك ، وغيره هو العلم القابل للتشكيك هو ضمان بديهي ، ونظري كالتشكيك في الأمور البديهية الضرورية غير قادح بوجه ، والتشكيك في النظريات ممكن شائع وهذا يفهم اختلاف العلماء والمجتهدين فيصوب أحدهما قولا ويخطئه الآخر ، وفيه ألف الناس التشكيك على كتاب أظنه بين في الهندسة.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ).

قال ابن عرفة : لما كان المخاطب في مادة أن ينكر مساواة حالة إنذارهم كحالة عدم الإنذار ، بل يقول : إنها مظنة لحصول الانزجار والفلاح ، والنجاح احتيج إلى تأكيد المساواة ، بأن قال ابن عطية : قيل : المزارع كافر لأنه لا يغطي الحب.

ويقال : كفر إذا غطى قلبه بالرين عن الآيات أو غطى الحق بأقواله وأفعاله ، ابن عرفة : أما الأول فظاهر ؛ لأن الرين يجامع القلب ، فيصح تغطيته إياه واعتقاد الحق لا يجامع اعتقاد الباطل بل هو نقيضه وستره له لا يكون إلا مع إجماعه معه والغرض أنه لا يجامعه ، وأما باعتبار الأفعال فظاهر.

قيل لابن عرفة : يصح اجتماعهما باعتبار اختلاف التعلق.

فقال : تحول المسألة وما كلامنا إلا فيما إذا كان متعلق الكفر هو متعلق الإيمان فحينئذ تعقل التغطية.

قيل له : تكون التغطية مجازا عبر به عن معاندة أحد الاعتقادين للآخر.

٤٤

فقال : إنما هو مخبر عن أصل هذه اللفظة بماذا هي مشتقة فما حقه أن يأتي إلا بالحقيقة اللغوية ، وأما المجاز فليس بأصلي ، واختلف الأصوليون في الألف واللام الداخلة على الموصول. فقيل : إنها للجنس ويكون عاما مخصوصا كأكثر عموميات القرآن ، وقيل : إنها مطلقة فتكون للحقيقة أعني الماهية فلا يحتاج إلى تخصيص ، ويحتمل أن تكون للعهد.

ابن عطية : وقال الربيع بن أنس : الآية نزلت في قادة الأحزاب وهم أهل القلب ببدر وفي بعض وأهل القلب ببدر.

ابن عرفة : وهو الصحيح فإن غزوة الأحزاب متأخرة عن بدر ، وأهل القلب ببدر قتلوا فلم يبق منهم أحد للأحزاب.

ابن عرفة إلا أن يريد بالأحزاب الجماعة ولا يريد الغزوة.

قال الإمام ابن الخطيب : والآية دليل على جوازنا غير البيان إلى وقت الحاجة فإنها لم تبين متعلقها.

فرده ابن عرفة بأنها ليس المراد بها التكليف فيحتاج إلى البيان فإنما هي تخويف وإنذار ، والعموم ادعى لخصوص التخويف من التخويف.

قوله تعالى : (أَأَنْذَرْتَهُمْ).

أنكر الزمخشري هنا قراءة ورش وجعلها لجهاد كفره الطبيعي هذا أن السبع قراءات أخبرا آحاد وليس بمتواتر ، قال ابن عرفة : وحاصل الكلام فيها أنها على وجهين : فأما ما يرجع إلى آحاد الكلام ك : ملك ، ومالك ، ويخادعون ويخدعون فمتواتر اتفاقا من غير خلاف المنصوص ، إلا أن ظاهر كلام الدارمي ، على ما نقل عنه الأنباري : أنها غير متواترة.

وأما ما يرجع إلى كيف النطق بها من إعراب وبناء وإمالة ، وكيفية وقف ، ففيه ثلاثة أقوال : الأول : نقل الأنباري شارح البرهان ، عن أبي المعالي : أنها متواترة ، وأنكره عليه وهو اختيار الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد السّلام فآمن أشياخنا أنها متواترة عند القراءة فقط ، نقله المازري في شرح البرهان.

٤٥

قلت : واختاره الشيخان ابن عرفة الثالث : أنها غير متواترة قاله ابن العربي في القواصم والعواصم ، والأنباري ، وابن رشد في كتاب" الصلاة الأول" ، وفي كتاب" الجامع الرابع من البيان" ، و" التحصيل".

قال ابن عرفة : وهو اختيار ابن إسحاق الجزري ، وشيخنا القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السّلام ، وصاحبنا الفقيه أبي عبد الله العباس أحمد بن إدريس الحاوي.

قال أبو حيان : وأنذرتهم استفهام في معنى الخبر أو بمعنى المصدر أي إنذارك وعدم إنذارك و (سَواءٌ) ، قال : وسواء ابتداء و (أَأَنْذَرْتَهُمْ) إما فاعل به ، وإما خبره ، ويصح أن يكون مبتدأ لأنه يكون الخبر أفاد غير ما أفاده المبتدأ فلا فائدة فيه.

ورده ابن عرفة بأنه يفيد التسوية إذ لعل المراد إنذارك وعدم إنذارك مختلفان.

قال ابن عرفة : والصواب أنه على حذف مضاف ، أي (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) جواب (أَأَنْذَرْتَهُمْ) ويكون استفهاما حقيقة ؛ لأن الاستفهام في قوله مجازا ، والمصدر يحتاج إلى أداة تصير الفعل مقدرا بالمصدر ، وهو بمنزلة قول ، قيل : مشتمل على إنذار ، وجوابه إما معه أو قبله ويكون هنا جواب الأمرين عندهم سواء.

قوله تعالى : (لا يُؤْمِنُونَ).

احتراس لأنه قد يكون الإخبار باستواء الحالين عندهم يقتضي مبادرتهم إلى الإيمان وعدم توافقهم على الآية فاحترز ، من ذلك بيان أنهم على العكس.

قيل لابن عرفة : إبطال هذه الآية قاعدة التحسين والتقبيح.

قال : لأن الله تعالى أخبر أن الإنذار لا ينفع فيهم وقد أمر بإنذارهم ومراعاة الأصلح نقيض كان عدم تكليفهم وعدم إنذارهم ، فقال : تقدم هذا في جواز تكليف ما لا يطاق وهذا متفق عليه ، فإن قول المخبر عنهم بذلك معينين فليست هذه كقضية أبي لهب فليس في هذه الآية دليل بوجه.

قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ).

قدر ابن عرفة وجه المناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها بأنها سبب فيه كأنه قيل لا ينفع فيهم [٧/١] الإنذار ، فقيل : بسبب الختم على قلوبهم.

قال ابن عرفة : هكذا قدره بعضهم ويرد عليه إن كان تكون المناسبة بأن امتناع تأثير الفعل في المفعول إما لخلل في الفاعل ، أو لمانع في القائل ، فقد يضرب بالسيف

٤٦

شجاع قوي ويكون على المضروب مصفح من حديد فلا يؤثر فيه شيئا ، فأخبر هنا أن تعذر تأثير الإنذار فيهم لا يتوهم أنه لإخلال واقع في الرسول في تبليغه بوجه بل لمانع فيهم وهو المطبع على قلوبهم.

وفسر ابن عطية الختم بثلاثة أوجه :

الأول : أنه حسي حقيقة فإن القلب على هيئة الكف ينقض مع زيادة الضلال كيف ينقض الكف إصبعا إصبعا.

الثاني : أنه مجاز عبارة عن خلق الضلال في قلوبهم.

الثالث : أنه مجاز في الإسناد كما يقال : أهلك المال فلانا وإنما أهلكه سوء تصرفه فيه.

قال ابن عرفة : وسكت ابن عطية عن هذا الثالث : وهو إنما يناسب مذهب المعتزلة ، ولما جاءت الآية مصادقة لمذهبهم تناولها الزمخشري وأطال ، وقال : إنه مجاز واستعارة.

وقال ابن عرفة : فجعله تمثيلا ، قال : والفرق بين التشبيه والتمثيل والاستعارة أن إطلاق الصفة على الموصوف إن كان بأداة التشبيه ، مثل : زيد كالأسد فهو تشبيه ، وإلا فإن كان بواسطة ما يدل على التمثيل فهو تمثيل ، نحو : زيد الأسد ، وإن لم يكن بواسطة فهو استعارة ، مثل : رأيت أسدا يكر ويفر في الحرب ، وظاهر كلام الطيبي أنه لا فرق بين التشبيه والتمثيل.

قال : والآية حجة لمن يقول إن العقل في القلب ولو كان في الدماغ ، قال : ختم على أدمغتهم ، فإن قلت : لم قدم القلب والأصل تأخيره؟ قلت : لوجهين ، إما لأن السمع والبصر طريقان إليه فما يلزم من الختم عليها ، الختم عليه إذ لعله يعلم المعقولات بقلبه ، ويلزم من الختم على القلب عدم الإيقاع بمدركات السمع ، وإما لأن المدركات قسمان : وجدانيات ، ومحسوسات فما يلزم من نفي المحسوسات نفي الوجدانيات بخلاف العكس.

قال : وأجاب الطيبي بأن المدركات على ثلاثة أقسام : معقولات ، ومسموعات ، ومبصرات ، قال : فالمعقولات أغمض وإدراكها أضعف ، والمحسوسات أبين وإدراكها

٤٧

أهون فقدم الختم على القلب ليكون تأسيسا إذ لا يلزم من عدم إدراكهم الدليل الضعيف الغميض عدم إدراكهم الدليل البين الظاهر.

وقال بعض الناس أفلاطون ، وأرسطو ، وغيرهما على أن المعقولات فرع المحسوسات ونفي الفرع لا يستلزم نفي الأصل بخلاف العكس.

قوله تعالى : (وَعَلى سَمْعِهِمْ).

أفرد السمع إما لأن اللبس ، أو لأنه مصدر فيهم يحتمل القليل والكثير أو لإضافته إلى المجموع فأغنى عن جمعه ، أو لأنه على حذف مضاف قدره الزمخشري ، وعلى جواز سمعهم وابن عطية : وعلى مواضع سمعهم.

وضعف ابن عرفة : الأول بأنه أمن اللبس في القلوب ، فهلا قيل : على قلبهم ، وضعف الثاني بأن الختم إذا كان حقيقة تأول تأويلات.

ابن عطية : فيه أنه حسي فلا يصح نقله بالسمع ؛ لأن المصدر معنى من المعاني إلا أن يتجوز في الختم ، أو يتجوز في السمع فيراد به محله.

قال الزمخشري : في نور العين ، وهو ما يبصر به الرأي ويدرك به المرئيان ، كما أن البصيرة نور القلب وهو ما يستبصر ويتأمل فيه.

قيل لابن عرفة : إن ابن رشد قال : هذا لا يجري على قواعده ، وإنما يتم على مذهب أهل السنة.

قال ابن عرفة : بل هو محتمل للأمرين ؛ لأن ذلك النور هل هو ما بأشعة بتفضل من الرأي للمرئي ، أو يحتمل المذهبين.

قال : وإعادة حرف الجر دليل على أن كل واحد منهما ختم ، فهو بمنزلة الكلية لا الكل.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

قال ابن عرفة : العظيم للتهكم.

قال الزمخشري : والعظيم نقيض الحقير ، والكبير نقيض الصغير ، والعظيم فوق الكبير ، كما أن الحقير دون الصغير.

قال ابن عرفة : هذا ينتج له العكس ؛ لأن نفي الأبلغ يجعل ثبوت الأدون نقائضه فنفي أحقر العذاب يصدق عليه أنه عذاب عظيم ؛ لأن نفي الأبلغ في الحقارة عنه عنف

٤٨

فإذا كان ضد الخير عظيما لزم أن يكون الكبير عظيما أعظم من الكبير قطعا ؛ لأنه إذا انتفى عن العذاب اسم الحقارة ثبت له نقيضه وهو العظيم ، وإن كان في نفسه صغيرا ، وإذا انتفى ما فوق الحقارة ، وهو الصغر ثبت له ما فوق ذلك وهو الكبر فكان أعظم من العظيم ، قلت : هذا عند مالك خلافا لأبي حنيفة فإنه أجاز الصلاة بأنه العظيم أو السميع أو الكبير أو نحو ذلك ، والزمخشري حنفي المذهب.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ).

قال ابن عرفة : ذكر أولا المؤمنين وأهل التقوى والصفات الحسنة ، ثم ألف بين أهل الضلال والصفات القبيحة ، ثم المتصفين بأقبح من ذلك وهو الصنف والموجب للحلول في الدرك الأسفل من النار.

أو يقال : ذكر أولا من اتصف بالإيمان البسيط ، ثم اتصف بالكفر البسيط ، ثم اتصف بالدين المركب من الأمرين ظاهرا والكفر باطنا ، والمركب متأخر عن البسيط في الرتبة والألف واللام في الناس للعموم ، في أنواع بني آدم.

ومن للتبعيض في أشخاص تلك الأنواع ، وهذا القول إما من اليهود أو من المنافقين ، فإن كان من اليهود فهو قول حقيقي موافق للاعتقاد ، ومعناه : من الناس من يقول : آمنا بوجود الله واليوم الآخر ؛ لأنهم قد ادعوا الشرك ، فقالوا : عزير ابن الله ، وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة ، فإن كان من المنافقين فمعناه : ومن الناس من يقول آمنا بوجود وحدانية الله.

ويجري هذا على اختلاف في كلام النفس هل يمكن فيه تعمد الكذب ويكون الاعتقاد فيه مخالفا للعلم أو لا يمكن ذلك؟ وهي مسألة تكلم عليها الأصوليون لما قسموا العلم إلى تصور وإلى تصديق.

فإن قلنا بجواز الكلام النفسي فيكون هذا قولا حقيقيا بألسنتهم ، وقلوبهم وإن منعنا وقوع الكذب فيه فيكون قولا باللسان فقط.

قال : وانظر كيف لم يصرحوا بالإيمان بالرسول مطابقة بل عبروا بلفظ يدل عليه باللزوم لا بالمطابقة؟ لأن مقصودهم كف الأذى عنهم لا الإيمان حقيقة.

قال ابن عطية : في الآية رد على الكرامية في قولهم : إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب.

٤٩

قال ابن عرفة : ليس فيها دليل عليهم ؛ لأنهم لم يقولوا إن الإيمان قول باللسان يخالفه الاعتقاد بالقلب ، بمعنى أنه يقول بلسانه ولا يعتقد بقلبه شيئا لا هو ولا نقيضه ، هكذا حكى الشهرستاني في النحل والملل ، وليست الآية كذلك.

قيل له : نص الطبري هنا على أن مذهبهم كما قال ابن عطية : وألزمهم نسبة الكذب إلى الله عزوجل.

قال الزمخشري : فإن قلت : لم قال عنهم آمنا بلفظ الفعل؟

وفي الرد بالاتصاف بالإيمان ، فرد عليهم بأنهم ليسوا من نوع المؤمنين ، ولا من جنسهم بوجه.

قال ابن عرفة : وهذا الجواب ضعيف ، ومما يؤكد السؤال أن الفعل أعم والاسم أخص ، ونفي الأعم أخص من نفي الأخص ، وهلا كان الأمر بالعكس فهو أولا قال : والجواب أن المنافقين لما كان مقصدهم التوراة لم يعبروا بلفظ صريح في الإيمان بل عبروا بما يدل على الإضافة بمطلق الإيمان لا يخلصه وأتوا بالفعل الماضي ليدل على وقوعه وانقطاعه وعدم الدوام عليه ، ولما كان المقصود الرد عليهم ، وأنهم لم يتصفوا بالإيمان النافع بل بإيمان لا ينفع لم ينف عنهم مطلق الإيمان ؛ لأنهم قد آمنوا ظاهرا فنفى عنهم الإيمان الشرعي الموجب لعصمة دمائهم وأموالهم قد اتصفوا بها ظاهرا فأخبر الله أن ذلك الإيمان النافع في الدنيا بالعصمة من القتل والأسر لا ينفعهم في الآخرة فلذلك نفاه بلفظ الاسم.

قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا).

قال الزمخشري : في هذه الجملة إما تفسير لما قبلها أو استئناف.

قال ابن عرفة : الفرق بينهما على الأول يكونوا وصفوا بأمرين بعدم الإيمان ، وبالخداع ، وعلى الثاني وصفوا بعدم الإيمان.

فكان قائلا يقول : لم حكم عليهم بعدم الإيمان ، فقيل : لأنهم يخادعون الله.

قال أبو حيان ما نصه : يخادعون مستأنفة أو بدل من يقول آمنا أولها ولا موضع لها ، أو حال من فاعل يقول فموضعها نصب ، قال : فأجاز أبو البقاء كونها حالا من الضمير في مؤمنين ، قال : واعترض بأنه يلزم منه نفي الإيمان المقيد بالخداع وهو فاسد ؛ لأن المقيد بقيد إذا نفي فله طريقان ، إما نفي القيد فقط وإثبات المقيد وهو

٥٠

الأكثر فيلزم إثبات الإيمان ونفي الخداع وهو فاسد ، وأما نفيهما معا فيلزم نفي الإيمان والخداع وهو فاسد.

قال : ومنع أن تكون [٨/١] الجملة حالا من الضمير في (آمَنَّا) لأن (آمَنَّا) تحكي فتقول فيلزم أن يكونوا أخبروا عن أنفسهم بأنهم يخادعون وهو باطل ، وأيضا فلو كان من قولهم : لكان نخادع بالنون.

وأجاب ابن عرفة بأنك تقول : قال زيد : إن عمرو منطلق وهو كاذب ، فالجملة الأخيرة في موضع الحال مع أنها ليست من قول زيد ، فلما يلزم من ذلك أن يكون (يُخادِعُونَ اللهَ) مقولا لهم بوجه ، قلت : ورد بعضهم هذا بأن المعنى يقول : آمنا مخادعين الله ، فبالضرورة أنها من قولهم ، قال : إن لو كان يخدعون حالا من الضمير الفاعل في يقولون.

قال : وقوله : يلزم إثبات الإيمان ونفي الخداع ؛ لأنه إنما أخذه من المفهوم ، ونحن نقول : لا مفهوم له ؛ لأنه مفهوم خرج مخرج الغالب إذ الغالب عليهم الخداع ، فلا يوجدون غير مخادعين من الله ، فبالضرورة أنها من قولهم.

قال : وإنما يتم هذا الجواب كما قال في سائبة الغنم الرحالة ، أو يقال : إن المفهوم يقف بالنص على تفسير في غير هذه الآية ، أو معلوم من السياق.

وأورد الزمخشري سؤالا قال : كيف يصح وقوع الخديعة بالله مع أنه عالم بكل شيء؟ وكيف صح وقوعها فيه مع أنه يستحيل عليه القبيح ، فأجاب بأجوبة أحدها : أنه نعمهم في الدنيا وعصم دمائهم وأموالهم ثم عذبهم والآخرة وذلك مشبه الخديعة ، قال : وكذلك المؤمنين منهم.

قال ابن عرفة : لا يتصور الخديعة من المؤمنين ؛ لأنهم عصمهم في الدنيا خاصة وفي الآخرة لا حكم لهم فيها ، قيل له : قد يتصور باعتبار أنهم عالمون ، ومع هذا تركوا قتالهم.

قال ابن عرفة : وعادتهم يوردون سؤالا ، وهو أنه عبر عن نفيهم عن المؤمنين ، في قوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ). بالوصف المقتضي إعلام درجات الفلاح فيه ، ولو أريد ، وما هم بمؤمنين الإيمان الكامل للزم عليه حصول بعض الفلاح لهم ، والغرض أنهم لم يحصلوا لهم منه شيء ، فإذا ثبت أن الفلاح منحصر في مسمى المؤمنين لا في مسمى

٥١

من آمن ، فهلا قيل : يخادعون الله تعالى ، وكل من اتصف بمطلق الإيمان حتى أنهم يخدعون بعضهم فيظن بعضهم في بعض أنه غير منافق فيخادعه والكل منافقون.

قوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ).

نفى عنهم الشعور وهو مبادئ الإدراك فينتفي مبادئ الإدراك ينتفي كل الإدراك من باب أحرا.

قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

قال ابن عرفة : هذا احتراس ؛ لأنه لما أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمخادع على نوعين فالغالب عليه أن يكون صاحب فكر ونظر وذهن يدير الأمور التي يخدع بها عدوه ، ومنهم من يخادع على غير أصل ، وذلك موجب لاستهزائه على ضخامة عقله ، فأخبر الله تعالى أن المنافقين من القسم الثاني.

وقال الطبري : أي في اعتقاد قلوبهم.

ابن عرفة : بل المرض في القلوب أنفسها كما قلنا.

قوله تعالى : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً).

الفاء للسببية وفيه للعقوبة على الذنب بذنب أشد منه ، فإن قلت : هذا مرض واحد والزيادة إن كانت مثله لزم اجتماع المثلين في المحل الواحد وهو باطل كما يمتنع اجتماع الضدين والنقيضين ، فأجيب بوجوه :

الأول : قال ابن عرفة : إنما يمتنع ذلك في الواحد الشخص وهذا واحد بالنوع أو بالجنس ، فاشتركا في جنس المرض وتغايرا في الفضل واجتماع الغيرين جائز جانبها.

الثاني : قال ابن عرفة أيضا : الضمير في : (فَزادَهُمُ). عائد على ذواتهم لا على قلوبهم إذ لو كان عائدا على القلوب لقال : فزادها الله مرضا ، وهو أولا لأنهم لم يكونوا عوقبوا ، فإن نزل المرض بجميع ذواتهم لمحل المثل الثاني ، أو مع محل المثل الثالث الأول ، فصحت الزيادة ، ولا يلزم منه اجتماع المثلين إلا أن يقال : إنه على حذف المضاف تقديره : فزاد الله قلوبهم.

الجواب الثالث : قال بعض الطلبة : ذكر الإسفراييني وغيره في صحة اجتماع المثلين أنه يخلق جوهرا آخر يكون فيه المثل الآخر زيادة في نعيم المنعم وعذاب المعذب.

٥٢

وقال ابن عرفة : إنما ذكر ذلك في المثلين حقيقة وهذان مختلفان في الفضل بينهما فيزال كما تقدم مثلان.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

أليم بمعنى مؤلم بينهم عرف وجميع ، أو بمعنى مؤلم فيكون الألم حالا بالعذاب مجازا وتنبيها على شدته ، مثل : جد جده وشعر شاعر.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ).

هذا القول واقع فيما مضى ودائم في المستقبل ودوامه محقق فلذلك دخلت عليه إذا ؛ لأنه من باب تغيير المنكر فهو واجب ، وحذف القائل قصد العموم والشيوع في العامل ، أو لأن القائل عظيما أو حقيرا لا يقبلون منه ، وفائدة ذكر المجرور وهو في الأرض التنبيه على أن إفسادهم عام في الاعتقاد الديني ، وفي الأمر الدنيوي والفساد يعم في جلب المؤلم ودفع الملائم شرعا.

قال ابن عطية : وإذا حرف زمان ، وحكى ابن المبرد : أنها حرف مفاجأة نحو خرجت فإذا زيد ظرف مكان لتضمنها معنى الجنة وظروف الزمان لا تكون إخبارا عن الجنة.

ابن عرفة : وتقدم لنا إبطال كونها ظرف مكان ؛ لأنه لا يلزم عليه مفاجآت من بالمشرق لمن بالمغرب ، ولا يلزم ذلك في الزمان.

ابن عطية : وقال سلمان الفارسي : لم يبح هؤلاء بعد ابن عطية ، ومعناه لم يتفرضوا بل يجيبون في كل زمان.

قال ابن عرفة : والقول إما لفظي وهو الأظهر ويفيد أن يكون نفسيا ولا يمتنع الاحتمال أن يخلق الله في خواطرهم النهي عن ذلك وعدم امتثال ذلك النهي.

وأورد الزمخشري سؤالا كيف يصح أن يقام مقام الفاعل جملة ، والجملة لا تكون فاعلة؟

ورده ابن عرفة ؛ لأنهم نصوا في باب الحكاية على عمل القول في الجمل المحكية ، مثل : قال زيد : أن عمرو منطلق ، واحتجوا بقوله :

كما تقول القلص الرواسما

يدنين أم قاسم وقاسما

٥٣

فإذا صح تعدي القول إلى الجملة على المفعولية إقامة ذلك مقام المفعول مقام الفاعل.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ).

قال ابن عرفة : (أَلا) تنبيه ، والتنبيه لا يؤتى به إلا في الأمر الغريب ، وكونهم مفسدون ولا يشعرون من الأمر الغريب.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ).

قال الفخر رحمه‌الله : بدأ بالنهي عن الفساد ؛ لأنه راجع لدفع المؤلم ، ثم عقبه بالأمر بالإيمان لرجوعه إلى جلب المصالح ؛ لأن دفع المفاسد آكد من جلب المصالح.

قال ابن عرفة : والآية عندي حجة لمن يقول إن النظر واجب بالعقل إذ لو كان واجب بالشرع لما كلفوا بالإيمان ، بل كانوا يكلفون بالنظر.

فإن قلت : ليس هذا بأول تكليفهم ، فلعلهم كلفوا به بخطاب آخر قبل هذا.

قلت : الآية خرجت مخرج ذمهم ، والذم الأغلب فيه أنه إنما يصح على المخالفة في الأصل لا في الفرع.

قال ابن عرفة : ويمكن أن يجاب عنه بوجهين :

الأول : أن الآية خرجت مخرج التقسيم بين الشيء وضده ، والإيمان نقيض الكفر وليس بينهما اشتراك والنظر لا يناقض الكفر ؛ لأنه يكون صحيحا ويكون فاسدا فقد ينظر المكلف فيهتدي وقد ينظر فيضل بالنظر اشتراك بين الكفر والإيمان ، فلأجله لم يقل : وإذا قيل لهم : انظروا كما نظر الناس ؛ لأنه لا يدل صريحا على تكليفهم بالنظر الصحيح.

الوجه الثاني : أن النفوس مجبولة على النظر في غرائب الأمور ، ولو كلفوا بالنظر لأشبه ذلك الأمر تحصيل الحاصل.

قيل لابن عرفة : إن يجاب بأن تكليفهم بالإيمان وذمهم على عدمه يستلزم تكليفهم بالنظر.

٥٤

فقال : والكاف منهم من جعلها نعت لمصدر محذوف أي إيمانا شبيها بإيمان الناس ، والمشبه بالشيء لا يقوى ، ومنه ففيه حجة لمن يقول إن الإيمان يزيد وينقص فكلفوهم بتحصيل أقل ما يكفي منه فلم يقبلوا ذلك.

قال أبو حيان : ومنهم من أعربه حالا من الإيمان أي آمنوا الإيمان كما آمن الناس ؛ لأن الإيمان المقدر يعرف بالألف واللام.

قال ابن عرفة : ولا يحتاج إلى هذا ؛ لأن سيبويه قال في قوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق : ١٧]. حال من المصدر المقدر وهو إمهال وصح إتيانها منه ، وإن كان نكرة ؛ لأنه لما لم ينظر ما أشبه المضمر المعرفة فكذلك يكون هذا.

قوله تعالى : (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ).

أجابوا بعدم الامتثال مع ذكر الموجب لذلك ، فإما أن يريدوا بالسفهاء المؤمنين فتكون جرأة منهم ومباهتة أي أنتم سفهاء ضعفاء فلا ينفعكم ، أو لم يقصدوا إيمان المؤمنين ، بل قالوا هذا على سبيل المقابلة الجواب.

فنقول لهم : المؤمنون على هذا نعم نقول بموجبه ، ونحن لم نأمركم بإيمان السفهاء ولسنا بسفهاء ، وعلى الأول لا يحبوا أن يقول لهم ذلك المؤمنون ؛ لأنهم يباهتون ، ويقولون : أنتم هم السفهاء.

قال الزمخشري : وإنما أطلقوا عليهم ذلك باتباع الغالب ؛ لأن أتباع النبي [٩/١] صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول الإسلام كان أكثرهم فقراء.

قيل لابن عرفة : إنما كان هذا في المدينة ، فقال : كان أكثر المهاجرين معه فقراء.

قال الزمخشري : وختمت هذه الآية بقوله : (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) وتلك بلا يشعرون ، إما لأن الفساد في الأرض محسوس فناسب الشعور الذي هو أوائل الإدراك والإيمان معنوي فناسب العلم وإما لتقدم السفه ، وهو جهل فناسب ذكر العلم طباقا.

قال ابن عرفة : وانظر هل فيها دليل على أن التقليد كان لقوله : (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ؟) ، الظاهر أنه ليس فيها دليل لأن المراد انظروا لتؤمنوا كما آمن الناس ، لأن الأمر بالإيمان أمر بما هو من لوازمه ومقدماته ومفعول يعلمون ، إما عاقبة أمرهم أو

٥٥

المراد لا يعلمون صحة ما أمروا أو لا يعلمون علما نافعا وحذف المفعول قصدا للعموم.

قال ابن عرفة : وفي هذا آيتان ، آية من الله تعالى بعمله ذلك ، وآية أخرى بإعلامه به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا).

إنما عبر بإذا اعتبارا بالأمر العادي لأنهم مجازون لهم وقريبون منهم فهم في مظنة أن يكون لقائهم لهم محقق الوقوع ، فإن قلت : لم قال : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) ، ولم يقل : وإذا لقيهم الذين آمنوا ، وأي فرق بين قولك : لقيت زيدا ولقيني زيد مع أنه أمر نسبي ، فمن لقيك فقل : لقيته.

قال ابن عرفة : فرق بعضهم بأن المتلاقين إن كانت لأحدهما مندوحة عن اللقاء ويجد ملجأ ومفرا فهو مفعول ، والآخر الذي لم يجد ملجأ ولا مفرا بل اضطر إلى لقاء صاحبه يستحسن أن يكون فاعلا للقاء ، والمنافقون كانوا يكرهون لقاء المؤمنين ، وإذا لقوهم في طريق يحيدون عنهم ، فلذلك كانوا في الآية فاعلين ؛ لأنهم مضطرون إلى اللقاء.

قوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ).

قال الزمخشري : لم عبر في الأول : بالفعل ، وفي الثاني : بالاسم ، وأجاب بأنهم عبروا بالفعل ؛ لأن مقصودهم الإخبار بتحصيل مطلق الاسم ، بأن ولم يلتزموا تحصيل أعلاه ، وأخبروا شياطينهم بحقيقة أمرهم على جهة الثبوت.

قال ابن عرفة : وتقدم لنا الجواب عنه بأنهم إنما عبروا بالفعل لكونهم التزموا أنفسهم منزلة البريء الذي به يقبل قوله ولا يتهم فلوا أكدوا كلامهم لكانوا مقرين بأن المؤمنين يتهمونهم بالكفر ، وينكرون عليهم زعمهم أنهم مؤمنون ، فأرادوا أن لا يوقعوا في أنفسهم ريبة بل مخبرون بذلك على البراءة الأصلية خبر من يكتفي منهم بأدنى العبارة ، ويقبل كلامه ولا ينكر عليه ، وقولهم لشياطينهم إنا معكم ، أكدوا ذلك لأمرين : إما لكون ذلك محبوبا لهم فبالغوا فيه كما يبالغ الإنسان في مدح ما هو محبوب له ، وإما تقرير لمعذرتهم ؛ لأنهم أظهروا الإسلام ، فقد يتوهم فيهم أصحابهم أنهم مسلمون فبالغوا في تمهيد العذر لنيتهم.

٥٦

قال ابن عطية : قال الشافعي وأصحابه رحمهم‌الله : إنما منع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام بألسنتهم مع العلم بنفاقهم ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله. فمن قائل أن عقوبة الزنادقة أشد من عقوبة الكفار فقد خالف الكتاب والسنة.

قال الشافعي رضي الله عنه : إنما كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل المنافقين مع العلم بهم ؛ لأن الله نهاه عن قتلهم إذا أظهروا الإيمان فكذلك الزنديق.

قال ابن عرفة : لأن الفرق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلم أن المنافقين يموتون على نفاقهم ، والزنديق لا يقدر أحد منا أن يعلم أنه مات على الزندقة.

قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ).

قال ابن عرفة : هذا تشريف واعتناء بمقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث تولى الله عقوبتهم بنفسه ، ولم يقل : ملائكة الله يستهزءون بهم ، قال : وأوردوا هنا سؤالا في إسناد الاستهزاء إلى الله فقدره المعتزلة بأن الاستهزاء قبيح وصدور القبح من الله تعالى محال ، وقدر أهل السنة بأن الاستهزاء في حقه محال.

وأجاب ابن عطية بثلاثة أوجه : إما أنه من مجاز المقابلة ، كقولك :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخة

قلت : اطبخوا لي جبة وقميصا

وقول لبيد :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وإما بأنه يفعل بهم من الإملاء بالنعم كفعل المستهزئ حسبما إذ النار تحمل كما تحمل الإهالة وهي الشحم فيثبتون عليها يطنونها منجاة فتخسف بهم.

قال الزمخشري : هلا قيل : الله مستهزئ بهم كما قالوا : هم : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ، وأجاب بأن الفعل يفيد حصول الاستهزاء ويجدده وقتا بعد وقت.

فرده ابن عرفة دوامه عليهم أشد وأمتع بحدوث ، قال : ويجاب عنه بأن التجدد يقتضي تنويعه واختلافه عليهم شيئا بعد شيء فلا يستهزئ بهم بنوع واحد.

وأجاب الطيبي : بأن دوام العذاب فيه توطين لهم فقد تألف نفوسهم ، وتدرب عليه بخلاف تجدده عليهم فإنه إذا ارتفع عنهم يرجون انقطاعه فإذا عاد إليهم كان أشد عليهم.

٥٧

قيل لابن عرفة : نقل بعض الشيوخ عن الأستاذ ابن تراك أنه كان ينهى عن الوقف على : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ؛ لأن قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، مقابل لما قبله فالصواب اتصاله به.

فقال ابن عرفة : كان غيره يختار في مثل هذا الوقف في الفصل من كلام الله وكلامهم كما ينهى عن الوقف على أنا معكم.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى).

الإشارة بالبعيد إلى القريب للبعد من جهة المعنى.

وفسر ابن عطية : الشراء بأوجه متقاربة إلا أنها عبارات مختلفة فالأولان : في كلامه واجبات لنفس المعنى ، والأخيران : بكيفية ضرب اللفظ على ذلك المعنى.

قال ابن عرفة : وأدخل (الَّذِينَ) ، للحصر.

قال أبو حيان : ودخول الفاء في خبر الموصول لا يجوز إلا إذا كان الموصول عاما ، ويشترط أن يكون فيه معنى التعليل للخبر ، وعادتهم يردون عليه بقوله تعالى :

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) ؛ لأنه ليس بعام ولا هو علة في الخبر ، إذ ليس الخلق علة في الهداية وإلا لزم عليه مذهب المعتزلة.

قال : وهنا سؤال وهو لم أثبت الضلالة دون الهدى ، والمناسب العكس ، أو كان يقال : اشتروا الضلالة فهو أبلغ في الذم لاقتضائه أنهم اشتروا الضلال الكثير بخلاف الضلالة الواحدة لا يفيد ذلك الذم.

قال : والجواب بوجهين :

أحدهما : أنهم إذا ذموا على أخذ واحدة من الضلال فأحرى أن يذموا على كثير.

الثاني : إن هذا أشنع من حيث إنهم بدلوا الهدى الكثير الشريف فأخذوا عوضه الشيء القليل في مقداره الحقير في ذاته ، فإن قلنا : الهدى الذي اشتروا الضلالة له لم يكن حصل لهم بوجه ، قلنا : إما أنه يعد حاصلا لأجل تمكنهم منه أو هو حاصل بالفعل لحديث : " كل مولود يولد على الفطرة"" أو إفراد المنافقين ، وقد حصل لهم الهدى بالنطق اللساني فخالفوا بالكفر الاعتقادي وبكفرهم بلسانهم عند خلوهم مع شيطاينهم.

قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ).

٥٨

فإن قلت : هلا قيل : فخسرت تجارتهم فهو أصرح لأن عدم الربح لا يستلزم الخسران.

قيل لابن عرفة : عادتهم بأنهم يجيبون بأنهم إذا ذموا على عدم الربح فأحرى أن يذموا على الخسران.

قوله تعالى : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

ابن عرفة : وتقدم لنا أن الصواب غير هذا كله ، وهو أن الخسارة في التجارة تكون لأجل جواله الأسواق برخص أو لجهل تجاوله البيع والشراء أو لأجل الفساد ، وتبذير المال بإنفاقه في غير مصلحة أو فيما لا يحل فلما أخبر عن هولاء بالخسارة في متجرهم بقي أن يتوهم أنهم في القسم الأول الذين لهم عذر في الخسارة ؛ لأن ذلك أمر جلي فعين حتى يتعين أنهم من قسم من كانت خسارته في التجارة من قبل نفسه وسبب فساده ، وقبح تصرفهم.

وهذا أصوب من قول الزمخشري : إن المراد بذلك إضاعتهم رأس المال ، ونظن ابن عطية يمنع هنالك الاشتراء أن تخير المبتاع فيما يختلف آحاده ويمتنع التفاصيل فيه.

ابن عرفة : الخيار والاختيار في آخر كتاب الخيار منع فيها أن يشتري الرجل عدد شجرة تمر بخياره اتفق الجنس أو اختلف ، وتدخله المفاضلة في الجنس الواحد وبيع الطعام قبل قبضه إن كان على الكيل لأن من [١٠/١] خير بين شيئين بعد منتقلا فيدع هذه ، وقد يملك اختيارها أو يأخذ هذه وبينهما فضل في الكيل ، وكذلك منعه في الجنس الواحد المختلف الثمن من غير الطعام للضرر ، فإن اتفقت آحاده أو استوت قيمته جاز الاختيار وإن اختلف منع.

قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً).

قال ابن عرفة : كيف شبه الجمع بالواحد؟ وأجاب بأنه كلية روعي فيها آحادها ، والمراد بالموصول الجمع أو هو واحد بالنوع لا بالشخص ، والتشبيه يستدعي تشبيها ومشبها به ، ووجه التشبيه نتيجة كما أن القياس التمثيلي يقتضي فرعا وأصلا وعلة جامعة ونتيجة وهي الحكم ، فالمشبه المنافقون ، والمشبه به مستوقد النار ، ووجه التشبيه حكى فيه ابن عطية خمسة أقوال ونتيجته هي الخسران والندم.

٥٩

قوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ).

قال السهيلي في الروض : إن قلت : لم عداه هنا بالباء؟ وقال في سورة الأحزاب : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) [الأحزاب : ٣٣]. فعداه بنفسه؟ فأجاب بأن الباء تقتضي المصاحبة ، فإذا قلت : ذهبت بزيد فأنت أذهبته وذهبت معه ، والنور محبوب طبعا وشرعا فناسب إسناد الذهاب إليه باعتبار الفهم والتصور ، وإن كان في حق الله تعالى محالا لكنه على معنى يليق به ، كما وصف نفسه بالمجيء ، في قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢]. والرجس مذموم طبعا وشرعا فناسب إبعاده عنه وأعاد إسناده إليه.

قال ابن عرفة : وفي التعدية بالباء التي للمصاحبة زيادة نفس عليهم ، وإشعار بذم أم الذهاب وملازمته بسبب ملازمة فاعل العذاب فلا يزال ذاهبا عنهم فهو أشد في عقوبتهم حتى لا يتصور رجوعه إليهم بوجه ، وتكلم الطيبي هنا في الضياء والنور.

قال الزمخشري : النور ضوء النار وضوء كل شيء وهو نقيض الظلمة ، والضياء إفراط الإنارة ، فالنور عنده زيادة في الضياء ، قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس : ٥]. وقدره صاحب المثل السائر بأن الضياء هنا مشبه والنور منفي ، والقاعدة استعمال الأخص في الثبوت والأعم في النفي ، فإذا ثبت أعلا الضياء فأحرى أدناه ، وإذا انتفى أقل النور ومبادئه فأحرى لكثره وأعلاه.

وتعقب عليه صاحب الفلك الدائر : بأن يعقوب ابن السكيت نص في المنطق على أن الضياء هو النور لا فرق بينهما.

وقال بعضهم قول من قال : إن القمر يستمد من نور الشمس مخالف لمذهب أكثر أهل السنة ، ولا يتم إلا على مذهب الطبائعية ، ورد بعضهم على الفخر ابن الخطيب في سورة النور ، عند قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال فيهما : أن النور هو الضوء الفياض من الشمس ، قالوا : ما يتم إلا على القول بالطبع والطبيعة.

وأجاب ابن عرفة بأنه أخطأ في العبارة فقط ، ومراده أنه نور يخلقه الله تعالى في القمر عند مقابلة الشمس ، ومذهب أهل السنة أن الظلمة أمر وجودي ، وذهب الحكماء والفلاسفة إلى أنها أمر عدمي.

قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ).

٦٠