تفسير ابن عرفة - ج ١

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ١

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤٦٣

المجتهد حفظ القرآن كله بل إن حفظ آية كان مجتهدا وهي آيات الأحكام.

والمفسر من شرطه حفظ القرآن كله ؛ لأن المفسر إذا استحضر آية لا يعمل له أن يفسرها لاحتمال أن يكون ثم آية أخرى ناسخة لها ، أو مقيدة ، أو مخصصة ، أو مبيّنة ، فلا بد للمفسر من حفظ القرآن كله ، هذا ولا حاجة له بطلبه ، لأن التفسير موجود في الكتب.

والثالث ناقل التفسير : ويحتاج فيه إلى المشاركة في العلوم المشترطة في المفسر الأول ليفهم ما ينقل.

ونحن الآن ناقلون لا يلزمنا حفظ القرآن كله ، ولقد كان الفقيه أبو القاسم بن البشير مدرسا بمدرسة ابن اللوز يفسر القرآن فيها وكان لا يحفظه ، فجاء الفقيه أبو الحسن علي العبدلي ، وقال له : لا يحل لك التفسير حتى تحفظ القرآن كله. فأخذ ذلك منه بالقبول ، فأقبل على درس القرآن حتى حفظه.

فقيل لابن عرفة (١) : كيف يشترط الحفظ في هذا وهو ناقل للتفسير فقط ، وإنما يشترط ذلك في المنقول عنه؟ فقال : الأولى أنا لا نجيز الفتوى والتدريس لمن ينظر في مسألة واحدة بل حتى يستحضر بجميع مسائل الكتب كلها أن يكون بعضها يقيد بعضها فكذلك لهذا ، فلعل مفسرا آخر يستحضر أنه يقيدها أو نحو ذلك.

فيحصل من هذا أن فرض الكفاية باعتبار التفسير قل أن يقع بقيام البعض به ، وفرض الكفاية باعتبار نقل التفسير لم يلزم باقيا.

قيل لابن عرفة : بل نقول : إنه فرض عين (٢) ويجب على من يقرأ أن يفهم المعنى ، فقال : كان الصحابة رضي الله عنهم في الزمن الأول يعلمون الأعاجم الأعجام ألفاظ القرآن دون معانيه ، وإن كان قد قال الفقهاء : فيما إذا اجتمع الأفقه والأقرأ إنه يقدم

__________________

أولا ثم تحول إلى نيسابور في مرافقة جماعة من الطلبة ، فلازم إمام الحرمين فبرع في الفقه في مدة المساجد ومهر في الكلام والجدل حتى صار عين المناظرين. سير أعلام النبلاء ١٩/٣٢٢.

(١) في الأصل هنا وفيما يأتي : " ابن ع". والمقصود به ابن عرفة وقد اختصره المصنف في الكتاب كله : وأثبتناه كاملا هنا وفي المواضع القادمة لئلا يلتبس على القارئ.

(٢) فرض العين : هو الواجب علمه ، وهو كل ما أوجبه الشرع على الشخص في خاصة نفسه.

٢١

الأفقه ، وحملوا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " يؤم القوم أقرؤهم" (١) على أن الأقرأ في ذلك هو الأعلم ، إذ كانوا يتعلمون مع التلاوة ما يتعلق به من الأحكام والمعاني ، قاله ابن بشير وغيره.

ويحكى أن سيدي الشيخ الفقيه الصالح أبو الحسن بن عجلان رأى رجلا يضبط المصحف بالأحمر فأنكر عليه وضربه بخرطة (٢) في وجهه ، فلقيه بعد ذلك فجعل يطلب منه المحالة ، وندم على ما فعله وإذا هي أن ذلك لا يستحق به تلك العقوبة.

ونقل عن العبدلي أنه كان يمنع الذين لا يحسنون رسم المصحف من الإقراء ، وكذا كان العمل بتونس لا يقرئ إلا من يحسن الضبط في قراءة ورش (٣) ، ولا يباع في الكنتين إلا المصحف المصحح.

__________________

(١) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ١/٤٦٥ (٦٧٣) ، والنسائي في سننه الكبرى ١/٢٧٩ (٨٥٥) ، والترمذي في سننه ١/٤٥٩ (٢٣٥) ، وابن حبان في صحيحه ٨/٥٠١ (٢١٢٧) ، وابن الجارود في منتقاه ١/٨٥ (٣٠٨) ، وابن خزيمة في صحيحه ٣/٤ (١٥٠٧) ، والبيهقي في سننه الكبرى ٣/٩٠ (٤٩١١) ، قال الهيثمي في المجمع ٢/٦٣ : حديث عمرو عن أبيه في الصحيح ، وهذا من حديثه عن الركبان ؛ رواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح.

(٢) خرطة : محور المكبس ، وهي آلة الخرط. القاموس المحيط مادة : (خ ر ط) ، لسان العرب (خ ر ط).

(٣) هو : شيخ الإقراء بالديار المصرية أبو سعيد وأبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمرو ، وقيل : اسم جده عدي بن غزوان القبطي الإفريقي مولى آل الزبير ، قيل : ولد سنة عشر ، جود ختمات على نافع ولقبه نافع بورش لشدة بياضه ، والورش لبن يصنع وقيل لقبه بطائر اسمه ورشان ثم خفف فكان لا يكرهه ويقول نافع أستاذي سماني به ، وكان في شبيبته رواسا وكان أشقر أزرق ربعة سمينا قصير الثياب ماهرا بالعربية انتهت إليه رئاسة الإقراء. الجرح والتعديل ٦/١٥٣ ، سير أعلام النبلاء ٩/٢٩٥ ، الثقات ٨/٤٥٢.

٢٢

الاستعاذة

(أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم)

قال ابن عرفة : الاستعاذة استجارة والاستجارة إيعاد والإيعاد نفى ، فالنفي متعلق بالأخص ، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، فلا يلزم من الاستعاذة من هذا الشيطان المخصوص الاستعاذة من مطلق الشيطان.

فأجاب بأن قال : النعت على قسمين : نعت تخصيص ، ونعت لمجرد الذم ، فنقول : إن هذا النعت لمجرد الذم أو كل شيطان مرجوم.

قال مالك في" المدونة" : لا يتعوذ في المكتوبة قبل القراءة ولكن يتعوذ في قيام رمضان [٢ و] إذا بدأ (١).

وقال في" المجموعة" في قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨] : إن ذلك بعد أم الكتاب لمن قرأ في الصلاة.

قال اللخمي في" البيان" فيمن افتتح الصلاة : أن لا يتعوذ ورأى ذلك ؛ لأن الافتتاح بالتكبير يجزئ عنه.

قال ابن عرفة : وإذا نسي الاستعاذة؟ فإن أطال القراءة أتمها ولم يعد ، وإن لم يكن أعاد القراءة ، ففي رجوعه إلى الاستعاذة قولان.

وكره له في" العتبية" الجهر بالاستعاذة في قيام رمضان ، ورأى أن الأمر بالاستعاذة على الندب (٢).

ابن رشد (٣) : ووجه ما في" المدونة" الاتباع ، وخفف في" العتبية" أيضا تعوذ القارئ إذا أخطأ في الصلاة ؛ لأن ذلك من الشيطان.

وحكى أبو عمر في" إعجاز البيان" في كيفيته ثلاثة أوجه : إما أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم (٤).

__________________

(١) المدونة الكبرى ١/١٦٢.

(٢) الندب : الاستحباب فالمندوب هو المستحب. القاموس المحيط مادة : (ن د ب) ، لسان العرب (ن د ب).

(٣) المقصود : قال ابن رشد.

(٤) ذكر هذا الوجه ثم جاء بياض في الأصل لا يتسع إلا لوجه آخر ولعله أراد الإشارة إلى هذا الوجه ـ

٢٣

وحكى أبو الرشد (١) في كتاب "الإقناع" أن الأولى أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان.

قال الشاطبي (٢) :

إذا ما أردت الدهر تقرأ فاستعذ

جهارا من الشيطان بالله مسجلا

علي ما أتى في النحل يسرا وإن تزد

لربك تنزيها فلست مجهلا

وقد ذكروا لفظ الرسول فلم يزد

ولو صح هذا النقل لم يك مجملا

فظاهره أن الآية مجملة.

بخلاف في الأصول فروعه

فلا تعد منها باسقا ومظللا

ومراده بالأصول له : الكتب المطولة ، وإما أصول الفقه ، قلت : وتقدم لابن عرفة.

قال أبو البقاء : الشيطان ، فيقال : من شطن يشطن إذا بعد ، ويقال فيه : شاطن وشيطان وسمي بذلك كل متمرد لبعد عذره ، وقيل : هو ، فيقال : من شاط يشيط إذا هلك.

قال ابن عرفة : ورد هذا مخالفة الاشتقاق ؛ لأن الشيطان فيه النون وشاط لا نون فيه ، والرجيم بمعنى مرجوم وقيل : بمعنى فاعل أي يرجم غيره.

__________________

فقط وهو الذي اختاره أبو عمر في كتابه. وقد ذكر الشافعي في أحكام القرآن هذه الأوجه الثلاثة فقال : " وأحب أن يقول حين يفتتح قبل أم القرآن : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ونصف كلام استعاذ به أجزأه ، وقال في الإملاء : ثم يبتدئ فيتعوذ ويقول : أعوذ بالسميع العليم. أو يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. أو : أعوذ بالله أن يحضرون ؛ لقول الله عزوجل فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. أحكام القرآن ١/٦٢.

(١) أبو الرشد هو : عبد الجليل بن أبي الحسين بن الفضل أبو الرشد القزويني يعرف بالنصير واعظ أصولي له كلام عذب في الوعظ ومصنفات في الأصول توطن الري. التدوين في أخبار قزوين ٣/١٣١ ، ١٣٢.

(٢) حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع للشاطبي ١/٢٥.

٢٤

البسملة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قال ابن رشد في "البيان" في رسم تدريسه : لم يختلف قول مالك : أنها لا تقرأ في الفريضة في أول الحمد ، ولا في أول السورة التي بعدها ؛ لأنها ليست آية فيها ، وليست من القرآن إلا في النمل وإنما ثبتت في المصحف بالاستفتاح.

قال : وفصل في قراءتها في أول الحمد في الفريضة أربعة : قراءتها للشافعي ، وكراهتها لمالك ، واستحبابها لمحمد أبي سلمة ، والرابعة قراءتها سرا استحبابا.

وأما النافلة فلمالك فيها في الحمد قولان ، وله فيما عدا الحمد ثلاثة ، فله في هذه الرواية القراءة ، وفي رواية أشهب عنه عدمها إلا أن يقرأ في صلاته عرضا ، وفي المدونة أنه يجيز ، انتهى.

قال القاضي عماد الدين : ذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها ليست آية من الفاتحة ، ولا من أول كل سورة ، وذهب الشافعي وجماعة إلى أنها آية من الفاتحة ، وعنه في كونها آية من أول كل سورة أو منها ، ومنهم من حملها على أنها هي آية برأسها في أول كل سورة آية.

ونقل السهيلي في "الروض الأنف" ، عن داود ، وأبي حنيفة : أنها مقروءة مع السورة ، انتهى.

ابن عرفة : قيل إن الفاتحة آية من كل سورة ؛ فقال القرافي في" المستصفى" : معناه أنها آية مع كل سورة وليست جزءا من كل سورة ، وقال غيره : تكرر إنزالها مع كل سورة ، مع مثل : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). وظاهر غيره من الأحاديث أنه لم يتكرر.

فإذا قلنا : إنها مع كل سورة فكيف تصح قراءة ورش بإسقاطها؟

لكن يجاب بما قال ابن الحاجب : بتعارض الشبهات أي كل واحد من الخصمين ، قال : يرى أن ما أتى به خصمه شبة أعني دليلا باطلا ، وجاءا قويان فتعارضت الشبهات.

قال ابن عرفة : ولا بد من زيادة تتمة أخرى وهي أن الإجماع على أنها قرآن من حيث الجملة ، فلذلك صح التعارض.

٢٥

قال بعضهم : والثاني هنا دليله أقوى.

وظاهر كلام ابن عطية في آخر سورة الحمد آية أن عدد آي السور قياس الاستماع ؛ لأنه قال : أجمع على آي الحمد سبع ، وهو : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) آية ، (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) آية ، (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) آية ، (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) آية ، (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية ، (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) آية ، (وَلَا الضَّالِّينَ) آية.

ونص الغزالي على أنه مسموع ، وكذا قال الزمخشري في أول البقرة ، في تفسير قوله : (الم) قال الزمخشري : وذكر الزجاج [٢ ظ] أنه تفخم الآية وعلى ذلك العرب كلهم وإطباقهم عليه دليل على الضم دون أكابر عن أكابر.

قال ابن عرفة : إنما تفخم في الرفع أو النصب ، أما الخفض فلا.

قال ابن عرفة : وكان الفقيه أبو عبد الله محمد بن سعيد بن عثمان بن أيوب بن بارمة الجوبري يحكي عن علماء الشافعية بالمشرق : أنهم يقسمون البسملة ثلاثة أقسام : قسم هي فيه آية وذلك في أول الفاتحة ، وقسم هي فيه بعض آية وذلك في النمل ، وقسم بعضها فيه آية وهو (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

قال : و (بِسْمِ اللهِ) إما متعلق بفعل أو اسم ، وقدره الزمخشري أقرأ أو أتلو ، وقدره ابن عطية (بِسْمِ اللهِ) ابتداء.

قال ابن عرفة : وكان الشيوخ يستصوبون تقدير الزمخشري ؛ لأنه يجعل قراءته من أولها إلى أخرها مصاحبة لاسم الله تعالى.

وقد قال الشيخ عز الدين في قواعده في قول الإنسان عند الأكل : بسم الله. معناه آكل بسم الله ، وليس معناه أبدأ بسم الله ؛ ولهذا كانوا ينتقدون على الشاطبي ، في قوله : بدأت ببسم الله في النظم أولا ، وهلا قيل : نظمت ببسم الله في الذكر أولا ، في الذكر حتى تكون البسملة مصاحبة له في جميع نظمه.

فإن قلت : لم قدرت الفعل متأخرا؟ فالجواب : أنه إنما قدره كذلك ليفيد الاختصاص ؛ لأنهم كانوا يقولون : واللّات والعزّى. ويبدءون بآلهتهم ، قدم الله هنا التوحيد والحصر كما تقدم في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، وابن أبي الربيع ، وغيره يقولون : إنما قدم اسم الله تعالى هنا للاهتمام به.

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

٢٦

إن قلت : لم قدم الوصف بالرحمن مع أنه أبلغ على الوصف بالرحيم فيلزم أن يكون تأكيدا للأقوى بالأضعف؟

فأجيب بوجهين : الأول : الرحمن لما كان خاصا بالله تعالى جرى مجرى الأسماء الأعلام التي للعوامل فقدم الرحيم ، قال : الثاني دال على جلائل النعم ، والرحيم على دقائقها قاله الزمخشري.

قال ابن عرفة : ولما كان يسبق لنا تقريره فإنهما مختلفان باعتبار أن المتعلق بالرحمن قسمان ؛ لأن الرحمة بالإنقاذ من الموت أشد من الرحمة بإزالة شوكة ، فقد يرحم الإنسان عدوه بالإنقاذ من الموت ، ولا تطيب نفسه أن يرحمه بإزالة شوكة تؤلمه في يده ، فبتقدير الرحمة الأولى لا يستلزم هذه بوجه.

قلت : وقدر ابن عرفة لنا في الجهة الثانية السؤال المتقدم بأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم ، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص فيبدأ في الثبوت بالأعم ثم بالأخص ، وفي النفي على العكس.

ورحمن أخص من رحيم ، وقرر لنا جوابه بأن الرحمن دال على كثير من النعم بالمطابقة وعلى دقائقها بالالتزام ، ودلالة المطابقة أولى من دلالة الالتزام ، فذكر الرحيم بعده ليدل على دقيق النعم بالمطابقة.

وإليه أشار الزمخشري بقوله : والرحيم أثنى به كمال النعمة ليتناول ما دنى منها ونما ؛ ذكره الزمخشري في أن الرحمن أبلغ لكونه أكثر حروفا ، قال : وهو من الصفات الغالبة كالدبران والعيوق ، والصعق لم يستعمل في غير الله ، وأما قول بني حنيفة في مسيلمة الكذاب رحمان اليمامة ، وقول شاعرهم فيه :

وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

فذاك من تعنتهم في كفرهم.

قال ابن عرفة : وهذا لا يحتاج إليه ، وكان يمشي لنا الجواب عنه بأن رحمانا ، في قولهم : رحمان اليمامة استعمل مضافا ، ورحمانا في البيت منكرا أو إما الرحمن المعرف بالألف واللام خاص بالله لم يستعمل في غيره فينتفي السؤال.

٢٧

وكذا نص إمام الحرمين في " الإرشاد" خلافا للفارسي في شرح الشاطبية ، فإنه نص على المختص بالله هو مجموع (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ونحوه في أسئلة ابن السيد البطلوسي.

قلت : ونقل بعضهم عن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السّلام ، أنه أجاب عن السؤال المتقدم بوجوه :

أحدها : الجواب المتقدم ، قال : أتى بالرحيم على سبيل التتمة وقد حصل الغرض بذكر الرحمن وفائدة تحقق دخول ما يتوهم من وجه.

الثاني : قراءات الفواصل عند من يرى أنها من الفاتحة.

الثالث : الرحمن يستلزم الرحيم لكنه ذكر ليدل عليه مطابقة.

قال : وأجاب ابن الربيع في" شرح الإيضاح" بأن الرحمن كثر استعماله حتى عومل معاملة العلم بخلاف الرحيم فإنه لم يخرج عن كونه وصفا.

قال أو يقول : إنها ليست للمبالغة.

قال الزمخشري : والعرب لا تزيد حرفا إلا لمعنى ممنوع ، وسند المنع قولهم [٢ و] في حذر وبطر (١) وأشر أنه أبلغ من حاذر وباطر وآشر.

قلت : وأجاب بعض النحاة المعاصرين بأن حذر ناب مناب محذور ، ومحذور أكثر حروفا من حاذر بخلاف حذر فإنه ينوب مناب شيء حسبما نص عليه ابن عصفور في مقربه في باب الأمثلة.

قلت : وأجاب ابن عرفة بأن ذلك فيما عدل فيه عن الأصل والقياس إلى غيره كحذر وحاذر ، فإن القياس في اسم الفاعل منه أن يكون على وزن فاعل فإما عدل عن ذلك لمعنى وغرض زائد وهو إرادة المبالغة ، وإما الذي لم تعدل فيه عن الأصل كرحمن ورحيم ، فنقول : الأكثر حروفا الأبلغ ، ولهذا قرر القاضي عماد كون رحمان أبلغ ، قال : رحمان ورحيم كلاهما معدولان ، وحذر معدول بخلاف حاذر فما عدل إلا للمبالغة.

__________________

(١) البطر محرّكة : النّشاط ، والأشر ، وقلّة احتمال النّعمة ، والدّهش ، والحيرة ، أو الطّغيان بالنّعمة ، وكراهية الشيء من غير أن يستحقّ الكراهة. القاموس المحيط مادة : (ب ط ر) ، لسان العرب (ب ط ر) ، مختار الصحاح (ب ط ر).

٢٨

واستشكل الغزالي قولهم : (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) مع أن الكفار في جهنم لم تصلهم بوجه ، وهنالك قال : أما في الإمكان أمكن مما كان ، وانتقدها الناس عليه.

وأجاب ابن عرفة عن الإشكال بأن ذلك باعتبار مراعاة جميع صفات الله تعالى ؛ لأن من صفاته شديد العقاب ، وذلك صادق بعقاب أهل النار وتنعيم أهل الجنة ، فرحمته هنا أشد الرحمة وعقابه هو أشد العقاب.

وعادتهم يخطّئون الغزاليّ في هذه المسألة ، ويقولون : كل عذاب فالعقل يجوز أن يكون في الوجود أشد منه ، وكل نعيم فالعقل يجوز أن يكون هناك أحسن منه.

قال الزمخشري : الرحيم لانعطافها على ما قبلها.

قلت : هو مجاز على إيهامه على عباده.

قال ابن عرفة : كل مجاز لا بد له من حقيقة إلا هذا فإن الرحمة هي العطف والشيء ، وذلك ما هو حقيقة إلا في الأجسام ، وتقرر أن غير اسم الله لا يطلق عليه الرحمن فهو مجاز لا حقيقة له.

وتكلم ابن عطية هنا في الاسم هل هو المسمى أو غيره؟!

وقال الفخر ابن الخطيب في" نهاية العقول" : المشهور عن أصحابنا أن الاسم هو المسمى.

وعن المعتزلة أنه هو التسمية.

وعن الغزالي أنه مغاير لهما والناس طولوا في هذا وهو عندي فضول ؛ لأن البحث عن ذلك مسبوق ، فتصور ماهية الاسم وماهية المسمى ، فما ألفت هو الاسم الدال بالوضع لمعنى من غير زمان ، والمسمى هو الذي وضع ذلك اللفظ بإزائه ، فقد يكون الاسم غير المسمى لعلمنا أن لفظ الجواز مغاير لحقيقة المجاز ، وقد يكون نفسه ؛ لأن لفظ الاسم اسم اللفظ الدال على المعنى المجرد على الزمان ، ومن جملة ذلك الألفاظ لفظ الاسم فيكون الاسم اسما لنفسه من حيث هو اسم.

وقال غيره : إن السؤال أسقطه.

وقال الآمدي في" أبكار الأفكار" ـ وهو أحسن من تكلم عليه ـ : إن المسألة لها تعلق باللغة فمن حيث إطلاق لفظ اسم هل المراد بها الذات فيكون الاسم هو

٢٩

المسمى ، واللفظ الدال عليه ك (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) ، وأما تعلقها بأصول الدين فهو هل المعقول منها واحد؟ كان الاسم هو المسمى كالعالم والقادر.

ابن عرفة : فالصواب أن المعقول من الذات من حيث اتصافها بالصفة غير المعقول منها مجردة من تلك الصفة.

فإنا إذا فهمنا من لفظ العالم الذات من حيث اتصافها بالعلم استحال اتصافها بالجهل ، بخلاف قولنا : إن المعقول هو الذات القابلة الاتصاف بالعلم ، وبضده ، ولا شك أن المعقولين متغايران. وانظر كلام الآمدي وهو طويل نقلته بكماله في آخر سورة الحشر ، وانظر مختصر شيخنا ابن عرفة في فصل العقيدة وما قيدته أنا في أواخر مسلم حديث : " تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة" (١).

قلت : وقال ابن عرفة مرة أخرى : منهم من قال : تارة يراد بالاسم المسمى ، مثل : زيد عاقل ، وتارة يراد به التسمية ك : زيد وقد فعل ، ومنهم من قال : تارة يراد به المسمى ك : زيد قادر إذا أردت الذات ، وتارة يراد به الصفة ، فقادر موضوع ؛ لأن يراد به القدرة وهو صفة من صفات الذات.

__________________

(١) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ٤/٢٠٦٣ (٢٦٧٧) ، والبخاري في صحيحه ٢/٩٨١ (٢٥٨٥) ، ٢٦٩١ (٦٩٥٧) ، وابن حبان في صحيحه ٣/٨٧ (٨٠٧) ، والترمذي في سننه ٥/٥٣٠ (٣٥٠٦) ، والبيهقي في سننه الكبرى ١٠/٢٧ ، ٦/٨٤ (١١٢٣٧) ، والنسائي في سننه الكبرى ٤/٣٩٣ (٧٦٥٩) ، وابن ماجة في سننه ٢/١٢٦٩ (٣٨٦٠). وقال الترمذي في سننه : وليس في هذا الحديث ذكر الأسماء ، وقال : وهذا الحديث حسن صحيح.

٣٠

سورة الفاتحة

اختلفوا فيها فقال ابن عباس وجماعة : إنها مكية ، واحتج له ابن عطية بقوله تعالى : في الحجر : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر : ٨٧].

وهي مكية بإجماع ، وفي حديث أبي بن كعب : "إنها السبع المثاني" (١) ، ورده ابن عرفة بقوله تعالى : (وَالْقُرْآنَ [٣ ظ] الْعَظِيمَ).

ولم يكن حينئذ نزل جميعه فلا بد أن يكون أوقع الماضي موضع المستقبل.

قال ابن عطية : ولا خلاف في أول الإسلام أن الصلاة لمن كانت بمكة ولم يحفظ أنها كانت صلاة في الاسم بغير : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

فرده ابن عرفة بأن أبا حنيفة لم يشترط قراءة الفاتحة بل خيّر مصل أن يقرأ بما شاء ، فلعلها لم تكن في الإسلام واجبة ، ولعل حديث : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (٢) متأخر.

قال : وذهب عطاء والزهري وجماعة إلى أنها مدنية.

وقيل : أنها نزلت بمكة والمدينة.

وأبطله القاضي العماد بأنه عليه تحصيل الحاصل وهو محال.

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه ٤/١٦٢٣ (٤٢٠٤) ، ١٧٠٤ (٤٣٧٠) ، ١٧٣٨ (٤٤٢٦) ، وابن حبان في صحيحه ٣/٥٣ (٧٧٥) ، والترمذي في سننه ٥/٢٩٧ (٢١٢٥) ، والبيهقي في سننه الكبرى ٢/٣٦٨ (٢٢١٧) ، والنسائي في سننه الكبرى ١/٣١٧ (٩٨٥) ، وابن ماجة في سننه ٢/١٢٤٤ (٣٧٨٥) ، وابن خزيمة في صحيحه ١/٢٥٢ (٥٠٠) ، والحاكم في مستدركه ١/٧٤٥ (٢٠٥٠). وقال : وقد وجدت لحديث عبد الحميد بن جعفر شاهدا في سماع أبي هريرة هذا الحديث عن أبي بن كعب من حديث المدنيين.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه ١/٢٦٣ (٧٢٣) ، والإمام مسلم في صحيحه ١/٢٩٥ (٣٩٤) ، والترمذي في سننه ٢/٢٥ (٢٤٧) ، والبيهقي في سننه الكبرى ٢/٣٨ (٢١٩٣) ، والنسائي في سننه الكبرى ١/٣١٦ (٩٨٢) ، وأبو داود في سننه ١/٢١٧ (٨٢٢) ، وأحمد في مسنده ٥/٣١٤ (٢٢٧٢٩). وقال الترمذي في سننه : وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأنس وأبي قتادة وعبد الله بن عمرو ، قال أبو عيسى : حديث عبادة حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أكثر أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وقال البيهقي في سننه : رواه البخاري في الصحيح عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وغيره عن أبي عيينة.

٣١

وأجاب ابن عرفة بأن التأكيد شائع في كلام العرب وليس فيه تحصيل ، فإن قلت : يلزم عليه أن تكون الفاتحة من القرآن مرتين لنزولها مرتين ، فكان تكريرا كما تكرر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ١٣].

قلنا : إنما ذلك إذا أنزلت على أنها غير الأولى ، فقد ذكر الأصوليون : أن الغيرين يصدقان على المثلين ، أما إذا أنزلت على أنها هي الأولى بعينها فلا يلزم ذلك فيها.

زاد القاضي العماد في إبطال النزول بمكة والمدينة : أنه يلزم منه أن يكون كل ما نزل بمكة نزل بالمدينة مرة أخرى ؛ لأن جبريل ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان يعرضه القرآن في كل سنة مرة وفي السنة الأخيرة مرتين ، فيكون ذلك إنزالا (١) آخر.

وهذا لا يقوله أحد وإنهم يعنون بنزولها مرتين : أن جبريل نزل حين حولت القبلة ، فأخبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة ، أو أقرأه فيها قراءة لم يقرئها بمكة.

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ).

قال الزمخشري : الحمد والمدح أخوان ، فقيل معناه : أنهما مترادفان ، وقيل : متغايران ، فالحمد يطلق على الله تعالى ، والمدح لا نطلقه عليه.

وأما الشكر فحكى فيه أبو حيان ثلاثة ، قال : فالحمد يطلق على الله تعالى. الطبري (٢) : هو الحمد ، وقيل غيره ، وقيل : الحمد أعم منه ، فالحمد يطلق على الصفات الجميلة ، والشكر على الأفعال الجزيلة.

وظاهر كلام الزمخشري في قوله أوقع أن بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه ، فالحمد يكون باللسان على الصفات الجميلة والأفعال الجزيلة ، والشكر يكون بالقول والفعل ، فالقلب على الأفعال خاصة ، واحتجوا له بقول الشاعر :

أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجبا

ابن عرفة : وعادتهم يتعقبونه بأنه لم يسمه شكرا وأنه سماه نعماء ، وعلى تقدير أن لو سماه فلا دليل فيه ؛ لأن العربي إنما يحتج بقوله فيما يرجع إلى نظم الكلام وأحكامه

__________________

(١) في الأصل : " إنزال" ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) المراد : قال الطبري ، وقد أشرنا فيما سبق أن ابن عرفة يختصر في الكلام ، فلينتبه.

٣٢

اللفظية العربية ، أما الحكم عليه بأنه كذا فلا حجة فيه ، كما تقدم في الإنشاء الذي عليهم في استدلالهم على كلام النفس بقول الأخطل :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وذكر هذه الأقوال الأربعة ابن هارون في" شرح ابن الحاجب الأصلي".

والألف واللام في الحمد إما للجنس أو للعهد أو للماهية.

وقرر القاضي العماد الجنس بأن الحمد يختلف فيه القديم والحادث ؛ لأن الله تعالى في الأزل حمد نفسه بنفسه فأول (١) حمد ناله حمده هو لنفسه ، وقرر العهد بأن النعم لما كان اللسان يستحضرها فكأنه يعهد إلى الله تعالى والحمد عليها.

واختار العماد أنها للماهية وضعف كونها للجنس وقرره بأن الله تعالى تعهدنا أن نحمده بما حمد به نفسه ، فالحمد القديم لا يماثل الحادث.

فمعنى اللفظ المؤد باللسان هو المعنى القديم الذي وصف الله به نفسه ، فالحمد كما أن القديم قديم أزلي ونحن نعبر عنه لفظنا الحادث فالحمد إذا حقيقة واحدة.

قال : وهنا بحث من نظري فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان.

قال ابن عرفة : وحاصله هو المعتبر في الحمد صفة الفاعل أو صفة متعلق الحمد فإن اعتبرته من حيث صفة المجموع ، كما منه الذي قال العماد.

ولما ذكر بعضهم كونها للجنس ، قال : إنها دلت على إفرادها مطابقة.

فقال ابن عرفة : هذا جائز على الخلاف في دلالة العلم على بعض أفراده هل هو مطابقة أو تضمن أو التزام؟

قال ابن عطية : وقرأ سفيان بن عيينة (٢) ، ورؤبة بن العجاج (٣)(الْحَمْدُ لِلَّهِ) بفتح الدال على إضمار فعل.

__________________

(١) في الأصل : " فتناول" ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) هو : أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي ، مولى بني هلال الكوفي سكن مكة قال عبد الله بن أبي الأسود : مات سنة ثمان وسبعين ومائة ، وقال علي عن ابن عيينة ولدت سنة سبع ومائة ، وجالست الزهري وأنا ابن ست عشرة سنة وشهرين ونصف ، وقدم علينا الزهري سنة ثلاث وعشرين ومائة وخرج إلى الشام ومات. الكنى والأسماء ١/٧٣٨ ، التاريخ الكبير ٤/٩٤ ، تذكرة الحفاظ ١/٢٦٢.

(٣) هو : رؤبة بن العجاج بن رؤبة بن العجاج ، كان بالبصرة واسم العجاج عبد الله أبو الجحاف ؛ سمع منه يحيى القطان ومعمر بن المثنى والنضر بن شميل. التاريخ الكبير ٣/٣٤٠ ، الجرح والتعديل ٣/٥٢١ ، تقريب التهذيب ١/٢١١.

٣٣

ابن عرفة قالوا : وقراءة الضم أدل على الثبوت كقوله لهم : علم ، علم الفقهاء [٣ و] بالنصب والرفع.

قال الزمخشري : ومنه قوله تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) [هود : ٦٩]. الثاني ليدل على أن إبراهيم عليه‌السلام حياهم بتحية أحسن من تحيتهم ؛ لأن الرفع دال على الثبوت ، وكذا قال السكاكي في "علم البيان".

قال ابن عرفة : وعادتهم يوردون عليه تشكيكا من ناحية أن سلام الملائكة على إضمار فعل مؤكد بالمصدر الدال على إثبات الحقيقة ، وإزالة الشك عن الحديث أعم من أن يكون وقوعه منهم ثابتا أو لا ، والاسم المرفوع دال على ثبوت وقوع السّلام منهم أعم من أن يكون حقيقة أو مجازا متأولا ، فليس أحدهما أبلغ من الآخر.

قال : وكان تمشى لنا الجواب عنه بأن سلام إبراهيم إنما هو بعد سلام الملائكة ردا عليهم ، والبعدية تقتضي الحدوث والتجدد ، فلو عبر فيه بالفعل ، لتوهم فيه الحدوث ، فإنه سلم ردا عليهم ، فعبر بالإسلام تنبيها على أن السّلام ثابت ولو لم تبدؤوني بالسلام ، وسلام الملائكة لما كان ابتداء لا يتوهم فيه العهدية ، لا أنه جواب ورد ، عبروا فيه بالفعل ، إذ لا ضرورة تدعوا إلى التعبير بالاسم.

قلت : وأورد بعض نحاة الزمان على هذا إشكالين :

الأول : كيف صح حذف الفعل مع أن المصدر مؤكد له ، والفعل المؤكد لا يؤكد ؛ لأن مقام الاختصار مناف لمقام التأكيد فيمنع أن المصدر هنا مؤكد.

الثاني : إنما يمنع أن هذا أبلغ ؛ لأن هذا المصدر ناب مناب الفعل لا مؤكد له فكأنه لم يحذف من الكلام شيء.

سلمنا أنه مؤكد لكن يقول : هو مؤكد لوجود الفعل وثبوته في نفس الأمر ، هل على سبيل الثبوت واللزوم أو على سبيل التجدد والحدوث؟ انظر آخر وانظر ما قيده في سورة الذاريات.

٣٤

قوله تبارك وتعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ).

قال الزمخشري : لفظ الرب هكذا لا يطلق إلا على الله فهو في غيره مقيد بالإضافة ، تقول : رب الدابة ، ورب الدار.

قال ابن عرفة : فإن قلت : قد قال الأصوليون : كلما صدق مقيدا صدق مطلقا ، فالجواب أن ذلك باعتبار المعقولية وهذا باعتبار الإطلاق اللفظي.

وفي حديث مسلم ، عن عبد الله بن عمر ، عن أبيه في أشراط الساعة : "أن تلد الأمة ربتها" (١).

وعن ابن عطية ، ويروى أنها تعدل ثلث القرآن والعدل على ما في المعاني باشتمالها على التوحيد وغيره ، و : (قُلْ هُوَ اللهُ) على التوحيد فقط ، وإما أن يكون فضلا من الله لا يعلل.

قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

قال ابن عرفة : قدم أولا الوصف برب العالمين تنبيها على النشأة وأنه هو الخالق المبدئ ، ثم ثنى بحال الإنسان في الدنيا من النعم والإحسان فلو لا رحمة الله تعالى لما كان ذلك.

ثم قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).

تنبيها على حال الآخرة ، وفرقوا بين الملك والمالك بأن الملك إنما يتصرف في مال غيره بالمصلحة ، والمالك يتصرف في ماله بالمصلحة.

__________________

(١) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ١/٣٧ (٨) باب الإيمان ، وابن حبان في صحيحه ١/٣٩١ (١٦٨) ، والترمذي في سننه ٥/٦ (٢٦١٠) ، والبيهقي في سننه الكبرى ١٠/٢٠٣ ، وأبو داود في سننه ٤/٢٢٣ (٤٦٩٥) ، والنسائي في سننه الكبرى ٦/٥٢٨ (١١٧٢١) ، وابن ماجة في سننه ١/٢٤ (٦٣) ، وأحمد في مسنده ١١/٥ (٣٦٧).

٣٥

وقال ابن عطية : وحكى أبو علي في حجة من قرأ : (ملك يوم الدين) أن أول ما قرأ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) مروان بن الحكم ، وأنه يقال : ملك الدنانير والطير والبهائم ، ولا يقال : مالكها.

قال ابن عرفة : عادتهم يردون الأول بأنها شاهدة على نفي فلا يقبل ، وكأنه يقول : لم يقرأ بها أحد قبل مروان ، وكذلك قالوا في قول ابن خالويه في كتاب تفسير ليس في كلام العرب : هكذا قلت ، وأجابوا بأن الشهادة على النفي عن العالم مقبولة.

قال الزمخشري : وصح الوصف بملك يوم الدين ؛ لأنه بمعنى المعنى فتعرف بالإضافة.

قال القرطبي : وليس المراد الملك الحاصل بالفعل بل الملك التقديري ؛ لأن يوم القيامة يوجد.

قال ابن عرفة : المراد بالملك على ما قال الزمخشري : القدرة باعتبار الصلاحية لا باعتبار التنجيز ، قال الزمخشري : أو لأن المراد به زمان مستمر ، مثل : زيد مالك العبيد. فإضافته محضية.

قال : ويجوز أن يكون المعنى ملك الأمور يوم الدين ، مثل : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [سورة الأعراف : ٤٤] ، (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) [سورة الأعراف : ٤٨] فيكون على هذا للماضي ، وعلى الأول مجرد قيام الصفة بالموصوف من غير تعرض لزمان مخصوص.

قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

إن قلت : لم قدم العبادة على الاستعانة مع أن الاستعانة [٤ ظ] سبب فيها؟

أجاب الزمخشري : بأن العبادة وسيلة والاستعانة مقصد فقدمت الوسيلة قبل الحاجة.

قال ابن عرفة : بل الصواب العكس فالعبادة هي القصد ، قال : وكان تمشى لنا الجواب عن ذلك ؛ لأن هذا أقرب لكمال الافتقار وخلوص النية (١) ، فإن المكلف إذا أقر أولا بأن لا قدرة على الفعل إلا بالله ثم فعل العبادة فإنه قد تحول نيته بعد ذلك

__________________

(١) خلوص النية : صفاء النية. القاموس المحيط مادة : (خ ل ص) ، لسان العرب (خ ل ص).

٣٦

وتزهو نفسه ، ويتوهم أن الفعل الواقع منه بقدرته استغلالا ، فإذا أقر بعد الفعل أن لا استعانة له عليه إلا بالله وكان نفيا للتهمة وأقرب لمقام التذلل والخضوع.

قلت : قال بعض الناس : العبادة مقصد باعتبار الحكم ، والشرع والاستعانة مقصد باعتبار نية المكلف في طلبه ؛ لأنه أخبر إنما يعبد الله لا غيره ، ثم أخبر أنه ما يستعين على تلك العبادة إلا بالله تعالى.

قلت : وأجاب القاضي العماد عن السؤال بثلاثة أوجه :

الأول : طلب المعونة من الله لا تكون إلا بعد معرفته ، ومعرفته هي التوحيد ، وهو العبادة.

والثاني : يحتمل أن ترجع العبادة لتوحيد الله ، والاستعانة طلب معونة على حوائج الدنيا والآخرة وأول السورة في توحيد الله وآخرها للعبد ، كما في حديث : "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين" (١) ، قدم العبادة ليكون ما هو لله بإزاء ما هو الله ، وما هو للعبد بإزاء ما هو للعبد.

الثالث : طلب المعونة عبادة خاصة و (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) عامة ؛ والعام مقدم على الخاص.

قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

الطلب من الأدنى للأعلى سؤال عند المنطقيين ، ودعاء عند النحويين ، ومنهم من قال : إن كان الله تعالى فهو دعائه ولغيره أمر.

والهداية لها معنيان : خاص ، وعام فالأعم للإرشاد سواء كان للخير أو للشر ، والأخص الإرشاد إلى طريق الخير والمراد هنا الأخص.

و (الصِّراطَ) قيل : أنه هو الطريق ، وقيل : الطريق الموصلة للأمن الملائم ، وهو طريق الخير ؛ لأنه مأخوذ من الشرط وهو الإبلاغ ، وإلا كان ما يبلغ إلى ما هو

__________________

(١) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ١/٢٩٦ (٣٩٥) ، وابن خزيمة في صحيحه ١/٢٥٢ (٥٠٢) ، وابن حبان في صحيحه ٣/٥٤ (٧٧٦) ، والترمذي في سننه ٥/٢٠١ (٢٩٥٣) ، والبيهقي في سننه الكبرى ٢/٣٨ (٢١٩٥) ، وأبو داود في سننه ١/٢١٦ (٨٢١) ، وابن ماجة في سننه ٢/١٢٤٣ (٣٧٨٤) ، وأحمد في مسنده ٢/٢٤١ (٧٢٨٩). وقال الترمذي في سننه : قال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، وقد روى شعبة وإسماعيل بن جعفر ، وغير واحد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نحو هذا الحديث.

٣٧

ملائم له ووصفه على هذا المستقيم ؛ لأن طريق الخير قسمان : قريبة وبعيدة ، فالمستقيم نص إقليدس على أنه أقرب خطين بين معظمين ، فالخط المستقيم أقرب من المعوج فلذلك وصفه بالمستقيم.

قال ابن عرفة : لما قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أوهم أن للإنسان في العبادة ضرب من المشاركة والاختيار فعقبته بطلب الهداية تنبيها على كمال الافتقار ، وأن كل العبادة والطاعة من الله تعالى وليس للعبد عليها قدرة فهو دليل لأهل السنة.

وكذلك قوله : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).

ودليل على أن الهداية إلى الطاعة محض نعمة وتفضل من الله تعالى لا باستحقاقه توجه ، فالمراد بالهداية خلق القدرة ، وعند المعتزلة ليس أسباب الفعل والتمكن منه وفتح الألطاف لأنهم يقولون : إن العبد يستقل بأفعاله ومخافها.

قال الزمخشري : فإن قلت : ما أفادته الوصف بغير المغضوب مع أنه معلوم من الأول؟

فأجاب بأن الإنعام يشمل الكافر والمسلم فبيّن أن المراد به المسلم.

ورده ابن عرفة بما تقدم لنا من أن المراد الإنعام الأخص وإنما الجواب أنه وصف به تنبيها وتحريضا للإنسان على استحضار مقام الخوف والرجاء خشية أن يستغرق في استحضار مقام الإنعام فيذهل عن المقام الآخر. وأشار إليه ابن الخطيب هنا.

قال ابن عرفة : وغضب الله تعالى إما راجع لإرادته من العبد المعصية والكفر ، أو راجع لخلقه الكفر والمعصية في قلبه هذا عندنا.

وعند المعتزلة راجع لإرادته الانتقام منه ؛ لأنهم يقولون : إن الله لم يخلق الشر ولا أراده ، ووافقونا في الدعوى أنه مخلوق لله تعالى ، فإن قلت : لو قال : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بلفظ الفعل و (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بلفظ الاسم ، وهلا قال : صراط المنعم عليهم كما تقول : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ).

قال في الجواب : إنه قصد التنبيه على التأدب مع الله تعالى بنسبة الإنعام إليه وعدم نسبه الشر إليه ، بل أتى بلفظ المفعول الذي لم يسم فاعله فلم ينسب الغضب إليه على معنى الفاعلية ، وإن كان هو الفاعل المختار لكل شيء ، لكن جرت العادة في مقام التأدب أن ينسب الفاعل الخير إليه دون الشر ، وأجاب القاضي العماد بوجوه :

٣٨

أحدها : من ألطاف الله تعالى أنه [٤ و] إذا ذكر نعمة أسندها إليه ، قال : (إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) [سورة الشورى : ٤٨] ، وكذلك قال إبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [سورة الشعراء : ٨٠].

الثاني : إنما قال : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) ليدخل غضبه وغضب الملائكة والأنبياء والمؤمنين فهو أعم فائدة.

الثالث : أما لم يقل : صراط المنعم عليهم ؛ لأن إبراز ضمير فاعل النعمة ذكر وشكر له باللسان وبالقلب فيكون دعاء مقرونا بالشكر والذكر.

الرابع : فيه فائدة بيانية وهو أنه من التفنين في الكلام ؛ لأنه لو أجري على أسلوب واحد لم يكن فيه تلك اللذاذة ، وإذا اختلف أسلوب الغنى السامع إليه سمعه وهو تنبيه وطلب إحضار ذهنه من قريب ومن بعيد.

قلت : أو إشارة إلى قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [سورة النساء : ٧٩] فالنعمة تفضل ورحمة ، والانتقام عدل وقصاص (١).

قلت : ونقل لي بعضهم أن القاضي أبا عبد الله محمد بن عبد السّلام سئل ما السر في إن قيل : (اهْدِنَا الصِّراطَ) بنون العظمة والداعي واحد وهو محل تضرع (٢) وخضوع فهلا قال : اهدني؟

فأجاب بأن المصلي وإن كان واحدا فهلا طالب لنفسه ولجميع المسلمين ، قال : أو يقول : إن المصلي لما صلى في مناجاة الله تعالى وهي من أعظم الأشياء فعظم لذلك وهو الجواب في (نَعْبُدُ) و (نَسْتَعِينُ).

__________________

(١) القصاص : هو العقاب والجزاء. القاموس المحيط مادة : (ق ص ص) ، لسان العرب (ق ص ص).

(٢) التضرع إلى الله تعالى : هو الابتهال والتذلل والتعرض إليه بطلب الحاجة. القاموس المحيط مادة : (ض ر ع) ، لسان العرب (ض ر ع) ، مختار الصحاح (ض ر ع).

٣٩
٤٠