فتح القدير - ج ٢

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٢

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٢

الآية ، هي محاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومحاربة المسلمين في عصره ومن بعد عصره بطريق العبارة دون الدلالة ودون القياس ، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول فيحتاج في تعميم الخطاب لغيرهم إلى دليل آخر ؛ وقيل : إنها جعلت محاربة المسلمين محاربة لله ولرسوله إكبارا لحربهم وتعظيما لأذيتهم ، لأن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب. والأولى أن تفسّر محاربة الله سبحانه بمعاصيه ومخالفة شرائعه ، ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي ، وحكم أمته حكمه ، وهم أسوته. والسعي في الأرض فسادا يطلق على أنواع من الشرّ كما قدمنا قريبا. قال ابن كثير في تفسيره : قال كثير من السلف منهم سعيد ابن المسيب : إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض ، وقد قال تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) انتهى.

إذا تقرّر لك ما قررناه من عموم الآية ومن معنى المحاربة والسعي في الأرض فسادا ، فاعلم أن ذلك يصدق على كلّ من وقع منه ذلك ، سواء كان مسلما أو كافرا ، في مصر وغير مصر ، في كل قليل وكثير ، وجليل وحقير ، وأن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل أو الصلب ، أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، أو النفي من الأرض ، ولكن لا يكون هذا حكم من فعل أيّ ذنب من الذنوب ، بل من كان ذنبه هو التعدّي على دماء العباد وأموالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم في كتاب الله أو سنة رسوله كالسرقة وما يجب فيه القصاص ، لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تقع منه ذنوب ومعاص غير ذلك ، ولا يجري عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الحكم المذكور في هذه الآية ، وبهذا تعرف ضعف ما روي عن مجاهد في تفسير المحاربة المذكورة في هذه الآية : أنها الزنا والسرقة ، ووجه ذلك أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهما حكم غير هذا الحكم.

وإذا عرفت ما هو الظاهر من معنى هذه الآية على مقتضى لغة العرب التي أمرنا بأن نفسّر كتاب الله وسنة رسوله بها ، فإياك أن تغترّ بشيء من التفاصيل المروية ، والمذاهب المحكية ، إلا أن يأتيك الدليل الموجب لتخصيص هذا العموم أو تقييد هذا المعنى المفهوم من لغة العرب فأنت وذاك اعمل به وضعه في موضعه ، وأما ما عداه :

فدع عنك نهبا صيح في حجراته

وهات حديثا ما حديث الرّواحل

على أنا سنذكر من هذه المذاهب ما تسمعه : اعلم أنه قد اختلف العلماء فيمن يستحقّ اسم المحاربة ؛ فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وأبو ثور : إن من شهر السلاح في قبة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله. وبهذا قال مالك وصرّح بأن المحارب عنده من حمل على الناس في مصر أو في بريّة أو كابرهم على أنفسهم وأموالهم دون نائرة (١) ولا ذحل ولا عداوة. قال ابن المنذر :

__________________

(١). «نائرة» : فتنة حادثة وعداوة. ويقال : نار الحرب ونائرتها : شرّها وهيجها. و «الذّحل» : الثأر (النهاية ٥ / ١٢٧)

٤١

اختلف عن مالك في هذه المسألة فأثبت المحاربة في المصر مرّة ونفى ذلك مرة. وروي عن ابن عباس غير ما تقدّم فقال في قطاع الطريق : إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض. وروي عن ابن مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسديّ وعطاء على اختلاف في الرواية عن بعضهم ، وحكاه ابن كثير عن الجمهور. وقال أيضا : وهكذا عن غير واحد من السلف والأئمة. وقال أبو حنيفة : إذا قتل قتل وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخيّر فيه : إن شاء قطع يديه ورجليه ، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه. وقال أبو يوسف : القتل يأتي على كلّ شيء ، ونحوه قول الأوزاعي. وقال الشافعي : إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت ، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي ، لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة ؛ وإذا قتل قتل وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب. وروي عنه أنه قال : يصلب ثلاثة أيام. وقال أحمد : إن قتل قتل ، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي ، ولا أعلم لهذه التفاصيل دليلا لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره وتفرّد بروايته فقال : حدثنا عليّ بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن يزيد بن أبي حبيب : أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة ، قال أنس : «فارتدّوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام ؛ قال أنس : فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب ، فقال : من سرق وأخاف الطريق فاقطع يده لسرقته ورجله بإخافته ، ومن قتل فاقتله ؛ ومن قتل وأخاف السبيل واستحلّ الفرج الحرام فاصلبه». وهذا مع ما فيه من النكارة الشديدة لا يدرى كيف صحته؟ قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لشيء من هذه التفاصيل التي ذكرناها ما لفظه : ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره إن صحّ سنده ثم ذكره. قوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) هو إما منتصب على المصدرية ، أو على أنه مفعول له ، أو على الحال بالتأويل : أي مفسدين. قوله : (أَوْ يُصَلَّبُوا) ظاهره أنهم يصلبون أحياء حتى يموتوا ، لأنه أحد الأنواع التي خير الله بينها. وقال قوم : الصلب إنما يكون بعد القتل ، ولا يجوز أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب. ويجاب بأن هذه عقوبة شرعها الله سبحانه في كتابه لعباده. قوله : (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) ظاهرة قطع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من خلاف سواء كانت المقطوعة من اليدين هي اليمنى أو اليسرى ، وكذلك الرجلان ولا يعتبر إلا أن يكون القطع من خلاف إما يمنى اليدين مع يسرى الرجلين أو يسرى اليدين مع يمنى الرجلين ؛ وقيل : المراد بهذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى فقط. قوله : (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) اختلف المفسرون في معناه ، فقال السديّ : هو أن يطلب بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه الحدّ أو يخرج من دار الإسلام هربا. وهو محكّي عن ابن عباس وأنس ومالك والحسن البصري والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري ، حكاه الرماني في كتابه عنهم.

٤٢

وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ويطلبون لتقام عليهم الحدود ، وبه قال الليث بن سعد. وروي عن مالك أنه ينفى من البلد الذي أحدث فيه إلى غيره ويحبس فيه كالزاني ، ورجحه ابن جرير والقرطبي. وقال الكوفيون : نفيهم سجنهم ، فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها. والظاهر من الآية أنه يطرد من الأرض التي وقع منه فيها ما وقع من غير سجن ولا غيره. والنفي قد يقع بمعنى الإهلاك وليس هو مرادا هنا. قوله : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) الإشارة إلى ما سبق ذكره من الأحكام ، والخزي : الذلّ والفضيحة. قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) استثنى الله سبحانه التائبين قبل القدرة عليهم من عموم المعاقبين بالعقوبات السابقة ، والظاهر عدم الفرق بين الدماء والأموال وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقوبات المعينة المحدودة ، فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك ، وعليه عمل الصحابة. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة ، والحق الأوّل. وأما التوبة بعد القدرة فلا تسقط بها العقوبة المذكورة في الآية ، كما يدل عليه ذكر قيد (قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) قال القرطبي : وأجمع أهل العلم على أن السلطان وليّ من حارب فإن قتل محارب أخا امرئ وأتاه في حال المحاربة ، فليس إلى طالب الدم من أمر المحاربة شيء ، ولا يجوز عفو وليّ الدم.

وقد أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) يقول : من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما. وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قيل له في هذه الآية يعني قوله : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال : إي والذي لا إله غيره. وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال : نزلت في المشركين ، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل ، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحدّ إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله. وأخرج ابن جرير والطبراني في الكبير عنه في هذه الآية قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد وميثاق ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض ، فخيّر الله نبيه فيهم : إن شاء قتل ، وإن شاء صلب ، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وأما النفي فهو الضرب في الأرض ، فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه ، ولم يؤخذ بما سلف. وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أن هذه الآية نزلت في الحرورية. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن نفرا من عكل قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلموا واجتووا (١) المدينة ، فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتوا إبل الصدقة ، فيشربوا من أبوالها وألبانها ، فقتلوا راعيها واستاقوها ، فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلبهم قافة (٢) ، فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، ولم يحسمهم ، وتركهم حتى ماتوا ، فأنزل الله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ) الآية. وفي مسلم عن أنس أنه قال : إنّما سمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين

__________________

(١). اجتووا : أي أصابهم الجوى ؛ وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول.

(٢). القافة : جمع قائف ، الذي يتتبع الأثر.

٤٣

الرعاة. وأخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال : إذا خرج المحارب فأخذ المال ولم يقتل قطع من خلاف ، وإذا خرج فقتل ولم يأخذ المال قتل ، وإذا خرج وأخذ المال وقتل قتل وصلب وإذا خرج فأخاف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل نفي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : من شهر السلاح في قبة الإسلام وأفسد السبيل فظهر عليه وقدر ، فإمام المسلمين مخيّر فيه : إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله ، قال : (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) يهربوا ويخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب. وأخرج ابن جرير عنه قال : نفيه أن يطلب. وأخرج أيضا عن أنس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي قال : كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب ، فكلّم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني ، فأتى عليا فقال : يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا؟ قال : (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ثم قال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) فقال سعيد : وإن كان حارثة بن بدر ، قال : وإن كان حارثة بن بدر ، قال : هذا حارثة بن بدر ، قد جاء تائبا فهو آمن ، قال : نعم ، فجاء به إليه فبايعه ، وقبل ذلك منه وكتب له أمانا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧))

(ابْتَغُوا) اطلبوا (إِلَيْهِ) لا إلى غيره ، و (الْوَسِيلَةَ) فعيلة من توسلت إليه : إذا تقربت إليه. قال عنترة :

إنّ الرّجال لهم إليك وسيلة

أن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي

وقال آخر :

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا

وعاد التّصابي (١) بيننا والوسائل

فالوسيلة : القربة التي ينبغي أن تطلب ، وبه قال أبو وائل والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد. وروي عن ابن عباس وعطاء وعبد الله بن كثير. قال ابن كثير في تفسيره : وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا

__________________

(١). في تفسير القرطبي (٦ / ١٥٩) : التّصافي.

٤٤

خلاف بين المفسرين فيه. والوسيلة أيضا درجة في الجنة مختصّة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال حين يسمع النداء : اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، إلا حلّت له الشّفاعة يوم القيامة». وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلّوا عليّ ، فإنه من صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشّفاعة» وفي الباب أحاديث ، وعطف (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) على (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) يفيد أن الوسيلة غير التقوى ؛ وقيل : هي التقوى ، لأنها ملاك الأمر وكلّ الخير ، فتكون الجملة الثانية على هذا مفسرة للجملة الأولى. والظاهر أنّ الوسيلة التي هي القربة تصدق على التقوى وعلى غيرها من خصال الخير التي يتقرب العباد بها إلى ربهم (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) من لم يقبل دينه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) كلام مبتدأ مسوق لزجر الكفار وترغيب المسلمين في امتثال أوامر الله سبحانه (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من أموالها ومنافعها ؛ وقيل : المراد لكلّ واحد منهم ليكون أشدّ تهويلا ، وإن كان الظاهر من ضمير الجمع خلاف ذلك ، و (جَمِيعاً) تأكيد. وقوله : (وَمِثْلَهُ) عطف على ما في الأرض ، و (مَعَهُ) في محل نصب على الحال (لِيَفْتَدُوا بِهِ) يجعلوه فدية لأنفسهم ، وأفرد الضمير إما لكونه راجعا إلى المذكور أو لكونه بمنزلة اسم الإشارة : أي ليفتدوا بذلك ، و (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بالفعل المذكور (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) ذلك ، وهذا هو جواب لو. قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) هذا استئناف بياني ، كأنه قيل : كيف حالهم فيما هم فيه من هذا العذاب الأليم؟ فقيل : يريدون أن يخرجوا من النار. وقرئ : (أَنْ يَخْرُجُوا) من أخرج ، ويضعف هذه القراءة (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) ومحل هذه الجملة أعني قوله : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) النصب على الحال ؛ وقيل : إنّها جملة اعتراضية.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) قال : الوسيلة : القربة. وأخرج الحاكم وصحّحه عن حذيفة مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) قال : تقرّبوا إلى الله بطاعته والعمل بما يرضيه. وأخرج مسلم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة». قال : يريد الفقير ، فقلت لجابر يقول الله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) قال : اتل أوّل الآية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) ألا إنهم الذين كفروا. وأخرج ابن جرير عن عكرمة : أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس : تزعم أنّ قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) فقال ابن عباس : ويحك ، اقرأ ما فوقها ، هذه للكفار. قال الزمخشري في الكشاف بعد ذكره لهذا : إنه مما لفّقته المجبرة ، ويا لله العجب من رجل لا يفرق بين أصحّ الصحيح وبين أكذب الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يتعرّض للكلام على ما لا

٤٥

يعرفه ولا يدري ما هو؟ وقد تواترت الأحاديث تواترا لا يخفى على من له أدنى إلمام بعلم الرواية بأن عصاة الموحدين يخرجون من النار ، فمن أنكر هذا فليس بأهل للمناظرة لأنه أنكر ما هو من ضروريات الشريعة ، اللهم غفرا.

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))

لما ذكر سبحانه حكم من يأخذ المال جهارا وهو المحارب ، عقبه بذكر من يأخذ المال خفية وهو السارق ، وذكر السارقة مع السارق لزيادة البيان لأن غالب القرآن الاقتصار على الرجال في تشريع الأحكام. وقد اختلف أئمة النحو في خبر السارق والسارقة هل هو مقدر أم هو فاقطعوا؟ فذهب إلى الأول سيبويه ، وقال تقديره : فيما فرض عليكم أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة : أي حكمهما. وذهب المبرد والزجاج إلى الثاني ، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، إذ المعنى : الذي سرق والتي سرقت ، وقرئ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بالنصب على تقدير اقطعوا ، ورجح هذه القراءة سيبويه ، قال : الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيدا اضربه ، ولكن العامة أبت إلا الرفع ، يعني عامة القراء ، والسرقة بكسر الراء اسم الشيء المسروق والمصدر من سرق يسرق سرقا قاله الجوهري : وهو أخذ الشيء في خفية من الأعين ، ومنه استرق السمع ، وسارقه النظر. قوله : (فَاقْطَعُوا) القطع معناه الإبانة والإزالة ، وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين تثنيتين ، وقد بينت السّنّة المطهرة أن موضع القطع الرسغ. وقال قوم : يقطع من المرفق. وقال الخوارج : من المنكب. والسرقة لا بدّ أن تكون ربع دينار فصاعدا ، ولا بد أن تكون من حرز كما وردت بذلك الأحاديث الصّحيحة. وقد ذهب إلى اعتبار الربع الدينار الجمهور. وذهب قوم إلى التقدير بعشرة دراهم. وذهب الجمهور إلى اعتبار الحرز. وقال الحسن البصري : إذا جمع الثياب في البيت قطع. وقد أطال الكلام في بحث السرقة أئمة الفقه وشرّاح الحديث بما لا يأتي التطويل به هاهنا بكثير فائدة. قوله : (جَزاءً بِما كَسَبا) مفعول له : أي فاقطعوا للجزاء أو مصدر مؤكد لفعل محذوف : أي : فجاوزهما جزاء ، والباء سببية ، وما مصدرية : أي بسبب كسبهما ، أو موصولة : أي جزاء بالذي كسباه من السرقة. وقوله : (نَكالاً) بدل من جزاء ؛ وقيل : هو علة للجزاء ، والجزاء علة للقطع ، يقال : نكلت به : إذا فعلت به ما يجب أن ينكل به عن ذلك الفعل. قوله : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ) السياق يفيد أن المراد بالظلم هنا السرقة ؛ أي فمن تاب من بعد سرقته وأصلح أمره (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) ولكن اللفظ عام فيشمل السارق وغيره من المذنبين ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد استدلّ بهذا عطاء وجماعة على أن القطع يسقط بالتوبة ، وليس هذا الاستدلال بصحيح ، لأنّ هذه الجملة الشرطية لا تفيد إلا مجرد قبول التوبة ، وإن الله يتوب على من تاب ، وليس فيها ما يفيد أنه لا قطع على التائب. وقد كان في زمن النبوّة يأتي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجب عليه حدّ

٤٦

تائبا عن الذنب الذي ارتكبه طالبا لتطهيره بالحدّ فيحدّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال للسارق بعد قطعه : «تب إلى الله ، ثم قال : تاب الله عليك». أخرجه الدار قطني من حديث أبي هريرة. وأخرج أحمد وغيره ، أن هذه الآية نزلت في المرأة التي كانت تسرق المتاع ، لما قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد قطعها : هل لي من توبة؟ وقد ورد في السّنّة ما يدلّ على أن الحدود إذا رفعت إلى الأئمة وجبت وامتنع إسقاطها. قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا الاستفهام للإنكار مع تقرير العلم وهو كالعنوان لقوله : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أي من كان له ملك السموات والأرض ، فهو قادر على هذا التعذيب الموكول إلى المشيئة والمغفرة الموكولة إليها.

وقد أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) قال : لا ترثوا لهم فيه فإنه أمر الله الذي أمر به. قال : وذكر لنا أنّ عمر بن الخطاب كان يقول : اشتدّوا على الفساق واجعلوهم يدا يدا ورجلا رجلا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) يقول : الحدّ كفارته. والأحاديث في قدر نصاب السرقة وفي سائر ما يتعلق بتفاصيل هذا الحدّ مذكورة في كتب الحديث فلا نطيل بذلك.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤))

قوله : (لا يَحْزُنْكَ) قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي ، والحزن والحزن خلاف السرور ، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين ؛ وأحزنه غيره وحزنه. قال اليزيدي : حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم ، وقد قرئ بهما. وفي الآية النهي له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التأثر لمسارعة الكفرة في كفرهم تأثرا بليغا ، لأن الله سبحانه قد وعده في غير موطن بالنصر عليهم ، والمسارعة إلى الشيء : الوقوع فيه بسرعة.

٤٧

والمراد هنا وقوعهم في الكفر بسرعة عند وجود فرصة ، وآثر لفظ (فِي) على لفظ إلى للدلالة على استقرارهم فيه ، ومن في قوله : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا) بيانية ، والجملة مبينة للمسارعين في الكفر ، والباء في (بِأَفْواهِهِمْ) متعلّقة بقالوا : لا بآمنا ، وهؤلاء الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون. (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) يعني اليهود ، وهو معطوف على (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا) وهو تمام الكلام. والمعنى : أن المسارعين في الكفر طائفة المنافقين وطائفة اليهود. وقوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) خبر مبتدأ محذوف : أي هم سماعون للكذب ، فهو راجع إلى الفريقين أو إلى المسارعين ، واللام في قوله : (لِلْكَذِبِ) للتقوية أو لتضمين السماع معنى القبول ؛ وقيل : إن قوله : (سَمَّاعُونَ) مبتدأ خبره (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي ومن الذين هادوا قوم (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) أي قابلون لكذب رؤسائهم المحرّفين للتوراة. قوله : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) خبر ثان ، واللام فيه كاللام في (لِلْكَذِبِ) ؛ وقيل : اللام للتعليل في الموضعين أي سماعون لكلام رسول الله لأجل الكذب عليه ، وسماعون لأجل قوم آخرين وجهوهم عيونا لهم لأجل أن يبلغوهم ما سمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (لَمْ يَأْتُوكَ) صفة لقوم : أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبرا وتمرّدا ؛ وقيل : هم جماعة من المنافقين كانوا يتجنبون مجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الفراء : ويجوز سماعين كما قال : (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا) (١). قوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) من جملة صفات القوم المذكورين : أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها ويتأوّلونه على غير تأويله. والمحرّفون هم اليهود ؛ وقيل : إن هذه الجملة خبر مبتدأ محذوف ؛ وقيل : في محل نصب على الحال من (لَمْ يَأْتُوكَ) وقيل : مستأنفة لا محل لها من الإعراب لقصد تعداد معايبهم ومثالبهم. ومعنى : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) من بعد كونه موضوعا في مواضعه ، أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها من حيث لفظه ، أو من حيث معناه. قوله : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) جملة حالية من ضمير يحرفون ، أو مستأنفة ، أو صفة لقوم ، أو خبر مبتدأ محذوف ، والإشارة بقوله : (هذا) إلى الكلام المحرّف : أي إن أوتيتم من جهة محمد هذا الكلام الذي حرّفناه فخذوه واعلموا به وإن لم تؤتوه بل جاءكم بغيره فاحذروا من قبوله والعمل به. قوله : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) أي ضلالته (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي فلا تستطيع دفع ذلك عنه ولا تقدر على نفعه وهدايته ، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها ، وظاهرها العموم ويدخل فيها هؤلاء الذين سياق الكلام معهم دخولا أوّليا ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى من تقدم ذكرهم من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا ، وهو مبتدأ وخبره الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ؛ أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق كما طهر قلوب المؤمنين (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) بظهور نفاق المنافقين وبضرب الجزية على الكافرين وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة. قوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) كرّره تأكيدا لقبحه ، وليكون كالمقدّمة لما بعده ، وهو أكالون للسحت ، وهما من جملة أخبار ذلك المبتدأ المقدّر سابقا. والسحت بضم السين وسكون الحاء : المال الحرام ، وأصله الهلاك والشدّة ، من سحته : إذا هلكه ، ومنه (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) ، ومنه قول الفرزدق :

__________________

(١). الأحزاب : ٦١.

٤٨

وعضّ زمان يا بن مروان لم يدع

من المال إلا مسحت أو محلّق (١)

ويقال للحالق أسحت : أي استأصل ؛ وسمّي الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات : أي يذهبها ويستأصلها ، وقال الفراء : أصله كلب الجوع ؛ وقيل هو الرشوة ، والأوّل أولى ، والرشوة تدخل في الحرام دخولا أوّليا. وقد فسّره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضي له حاجة ، وحلوان الكاهن ، والتعميم أولى بالصواب. قوله : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) فيه تخيير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الحكم بينهم والإعراض عنهم.

وقد استدلّ به على أنّ حكام المسلمين مخيّرون بين الأمرين. وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم. واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم ؛ فذهب قوم إلى التخيير ، وذهب آخرون إلى الوجوب ، وقالوا : إن هذه الآية منسوخة بقوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (٢) وبه قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسديّ ، وهو الصحيح من قولي الشافعي ، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء. قوله : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم فلا سبيل لهم عليك ، لأن الله حافظك وناصرك عليهم ، وإن اخترت الحكم بينهم (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك. قوله : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) فيه تعجيب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تحكيمهم إياه مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به ، مع أن ما يحكمونه فيه هو موجود عندهم في التوراة كالرجم ونحوه ، وإنما يأتون إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحكمونه طمعا منهم في أن يوافق تحريفهم وما صنعوه بالتوراة من التغيير. قوله : (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ) عطف على يحكمونك (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد تحكيمهم لك ، وجملة قوله : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) لتقرير مضمون ما قبلها. وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) استئناف يتضمّن تعظيم التوراة وتفخيم شأنها وأن فيها الهدى والنور ، وهو بيان الشرائع والتبشير بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيجاب اتباعه. قوله : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) هم أنبياء بني إسرائيل ، والجملة إما مستأنفة أو حالية ، و (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) صفة مادحة للنبيين ، وفيه إرغام لليهود المعاصرين له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام الذي دان به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقيل : المراد بالنبيين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعبر عنه بلفظ الجمع تعظيما. قوله : (لِلَّذِينَ هادُوا) متعلّق بيحكم. والمعنى : أنه يحكم بها النبيون للذين هادوا وعليهم. والربانيون : العلماء الحكماء ، وقد سبق تفسيره ، والأحبار : العلماء ، مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبرون العلم ؛ أي يحسّنونه. قال الجوهري : الحبر واحد أحبار اليهود بالفتح وبالكسر والكسر أفصح ، وقال الفراء : هو بالكسر. وقال أبو عبيدة : هو بالفتح. قوله : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) الباء للسببية ، واستحفظوا أمروا بالحفظ ؛ أي أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة

__________________

(١). في لسان العرب مادة «سحت» : مجلّف. الذي بقيت منه بقية.

(٢). المائدة : ٤٩.

٤٩

عن التغيير والتّبديل ، والجار والمجرور متعلق بيحكم : أي يحكمون بها بسبب هذا الاستحفاظ. قوله : (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أي على كتاب الله ، والشهداء : الرقباء ، فهم يحمونه عن التغيير والتبديل بهذه المراقبة ، والخطاب بقوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) لرؤساء اليهود ، وكذا في قوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) والاشتراء الاستبدال ، وقد تقدّم تحقيقه. قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) لفظ (مِنْ) من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختصّ بطائفة معينة بل بكل من ولي الحكم ؛ وقيل : إنها مختصّة بأهل الكتاب ؛ وقيل : بالكفار مطلقا لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبيرة ؛ وقيل : هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله وقع استخفافا ، أو استحلالا ، والإشارة بقوله : (فَأُولئِكَ) إلى من ، والجمع باعتبار معناها ، وكذلك ضمير الجماعة في قوله : (هُمُ الْكافِرُونَ).

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) قال : هم اليهود (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) قال : هم المنافقون. وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال : إن الله أنزل (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(الظَّالِمُونَ الْفاسِقُونَ) أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية ، حتى اصطلحوا على أن كلّ قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ لم يظهر عليهم ، فقتلت الذليلة من العزيزة ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق ، فقالت الذليلة : وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ودية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم ، فأما إذ قدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما ، ففكّرت العزيزة فقالت : والله ما محمد يعطيكم منهم ضعف ما نعطيهم منكم ، ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيما وقهرا لهم ، فدسّوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يخبر لكم رأيه ، فإن أعطاكم ما تريدون حكّمتوه ، وإن لم يعطكم حذرتموه ولم تحكّموه ؛ فدسّوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسا من المنافقين يختبرون لهم رأيه ، فلما جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ) إلى قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ثم قال فيهم : «والله فيهم أنزلت وإياهم عنى». وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : «أوّل مرجوم رجمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود ، زنى رجل منهم وامرأة ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبيّ ، فإنه نبيّ بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا : فتيا نبيّ من أنبيائك ، قال : فأتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في المسجد وأصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منّا زنيا ، فلم يكلّمهم حتى أتى بيت مدراسهم ، فقام على الباب فقال : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة

٥٠

على من زنى إذا أحصن؟ قالوا : يحمّم (١) ويجبّه ويجلد ، والتجبية : أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما ، وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سكت ألظّ به النشدة فقال : اللهم إذ نشدتنا نجب فإنا نجد في التوراة الرجم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فما أوّل ما ارتخصتم أمر الله؟ قال : زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخّر عنه الرجم ، ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه ، فحال قومه دونه ، وقالوا : والله لا ترجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه ، فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإني أحكم بما في التوراة ، فأمر بهما فرجما» قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) فكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم. وأخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق أخرى عن أبي هريرة ، وذكر فيه أن الشاب المذكور هو عبد الله بن صوريا. وأخرج نحو حديث أبي هريرة أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث البراء ابن عازب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر : أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكروا له أنّ رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تجدون في التوراة؟ قالوا : نفضحهم ويجلدون ، قال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها آية الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفع يده فإذا آية الرجم ، قالوا : صدق ، فأمر بهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجما. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله في قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) قال : يهود المدينة (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) قال : يهود فدك (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) قال : يهود فدك يقولون ليهود المدينة (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا) الجلد (فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) الرجم. وأخرج أبو داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عنه قال : زنى رجل من أهل فدك ، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا ، وذكر القصة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) قال : أخذوا الرشوة في الحكم ، وقضوا بالكذب. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال : السّحت : الرّشوة في الدين. قال سفيان : يعني في الحكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أيضا قال : من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة أو يردّ عليه حقا فأهدى له هدية فقبلها فذلك السّحت ، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن إنا كنا نعدّ السحت الرشوة في الحكم ، فقال ذلك الكفر (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ). وقد روي نحو هذا عنه من طرق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : رشوة الحكّام حرام. وهي السّحت الذي ذكر الله في كتابه. وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت قال : السّحت الرشوة. وأخرج عبد بن حميد عن عليّ بن أبي طالب أنه سئل عن السحت ، فقال : الرشا ، فقيل له : في الحكم؟

__________________

(١). يحمّم : يسوّد وجهه.

٥١

قال : ذاك الكفر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عمر قال : بابان من السحت يأكلهما الناس : الرشاء في الحكم ، ومهر الزانية. وقد ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحريم الرشوة ما هو معروف. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : آيتان نسختا من سورة المائدة : آية القلائد ، وقوله : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخيّرا : إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم ، فردّهم إلى أحكامهم ، فنزلت (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) (١) قال : فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا. وأخرج نحوه في الآية الآخرة عنه أبو عبيدة وابن المنذر وابن مردويه. وأخرج عبد الرزاق عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أنّ الآيات من المائدة التي قال فيها : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) إلى قوله : (الْمُقْسِطِينَ) إنما نزلت في الدية من بني النضير وقريظة ، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يودون الدية كاملة ، وأن بني قريظة كانوا يودون نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحقّ في ذلك ، فجعل الدية سواء. وأخرج نحوه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) يعني حدود الله ، فأخبره الله بحكمه في التوراة ، قال : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) إلى قوله : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) (٢). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِلَّذِينَ هادُوا) يعني اليهود. وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال : الذين أسلموا : النبي ومن قبله من الأنبياء يحكمون بما فيها من الحقّ. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : الربانيون والأحبار : الفقهاء والعلماء. وأخرج عن مجاهد قال : الربانيون : العلماء الفقهاء ، وهم فوق الأحبار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : الربانيون : العبّاد ، والأحبار : العلماء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الربانيون : الفقهاء العلماء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : الربانيون هم المؤمنون ، والأحبار هم القراء. وأخرج ابن جرير عن السدي (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) فتكتموا ما أنزلت (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) على أن تكتموا ما أنزلت. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) قال : لا تأكلوا السّحت على كتابي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ) يقول : من جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر ، ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) قال : إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه ، وإنه ليس كفر ينقل من الملة ، بل دون كفره. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء ابن أبي رباح في قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(هُمُ الظَّالِمُونَ هُمُ الْفاسِقُونَ) قال : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ،

__________________

(١). المائدة : ٤٩.

(٢). المائدة : ٤٥.

٥٢

وفسق دون فسق. وأخرج سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنّما أنزل الله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ـ و ـ (الظَّالِمُونَ) ـ و ـ (الْفاسِقُونَ) في اليهود خاصة. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن حذيفة ، أن هذه الآيات ذكرت عنده (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ـ و ـ (الظَّالِمُونَ) ـ و ـ (الْفاسِقُونَ) فقال رجل : إنّ هذا في بني إسرائيل ، فقال حذيفة : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرّة ، كلا ؛ والله لتسلكنّ طريقهم قدّ الشراك. وأخرج ابن المنذر نحوه عن ابن عباس.

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠))

قوله : (وَكَتَبْنا) معطوف على أنزلنا التوراة ، ومعناها فرضنا ، بيّن الله سبحانه في هذه الآية ما فرضه على بني إسرائيل ؛ من القصاص في النفس ، والعين ، والأنف ، والأذن ، والسنّ ، والجروح. وقد استدلّ أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم بهذه الآية فقالوا : إنه يقتل المسلم بالذميّ لأنه نفس. وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم : إن هذه الآية خبر عن شرع من قبلنا وليس بشرع لنا. وقد قدّمنا في البقرة في شرح قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) (١) ما فيه كفاية.

وقد اختلف أهل العلم في شرع من قبلنا هل يلزمنا أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه يلزمنا إذا لم ينسخ وهو الحق. وقد ذكر ابن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه. قال ابن كثير في تفسيره : وقد احتجّ الأئمة كلّهم على أن الرجل يقتل بالمرأة لعموم هذه الآية الكريمة ، انتهى.

وقد أوضحنا ما هو الحقّ في هذا في شرحنا على «المنتقى» ، وفي هذه الآية توبيخ لليهود وتقريع لكونهم

__________________

(١). البقرة : ١٧٨.

٥٣

يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا ، ويفاضلون بين الأنفس كما سبق بيانه ، وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير. قوله : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بالنصب أيضا في الكل إلا في الجروح فبالرفع. وقرأ الكسائي وأبو عبيد بالرفع في الجميع عطفا على المحل ، لأنّ النفس قبل دخول الحرف الناصب عليها كانت مرفوعة على الابتداء. وقال الزجاج : يكون عطفا على المضمر في النفس ، لأن التقدير : إنّ النفس هي مأخوذة بالنفس ، فالأسماء معطوفة على هي. قال ابن المنذر : ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام يتضمّن بيان الحكم للمسلمين. والظاهر من النظم القرآني أنّ العين إذا فقئت حتى لم يبق مجال للإدراك أنها تفقأ عين الجاني بها ، والأنف إذا جدعت جميعها فإنها تجدع أنف الجاني بها ، والأذن إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها ، وكذلك السنّ ؛ فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين ، أو ببعض الأنف ، أو ببعض الأذن ، أو ببعض السنّ ، فليس في هذه الآية ما يدلّ على ثبوت القصاص.

وقد اختلف أهل العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته ، وكلامهم مدوّن في كتب الفروع. والظاهر من قوله : (وَالسِّنَّ بِالسِّنِ) أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس والرباعيات ، وأنه يؤخذ بعضها ببعض ، ولا فضل لبعضها على بعض. وإليه ذهب أكثر أهل العلم ، كما قال ابن المنذر ، وخالف في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن تبعه ، وكلامهم مدوّن في مواطنه ، ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسنّ المأخوذة من المجنيّ عليه ، فإن كانت ذاهبة فما يليها. قوله : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أي ذوات قصاص. وقد ذكر أهل العلم أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف ، ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقا أو طولا أو عرضا. وقد قدّر أئمة الفقه أرش كل جراحة بمقادير معلومة ، وليس هذا موضع بيان كلامهم ، ولا موضع استيفاء بيان ما ورد له أرش مقدّر. قوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أي من تصدّق من المستحقين للقصاص بالقصاص ، بأن عفا عن الجاني فهو كفارة للمتصدّق يكفر الله عنه بها ذنوبه. وقيل : إن المعنى : فهو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه. والأوّل أرجح ، لأنّ الضمير يعود على هذا التفسير الآخر إلى غير مذكور. قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ضمير الفصل مع اسم الإشارة وتعريف الخبر يستفاد منها أن هذا الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية. قوله : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) هذا شروع في بيان حكم الإنجيل بعد بيان حكم التوراة ؛ أي جعلنا عيسى ابن مريم يقفو آثارهم ؛ أي آثار النبيين الذين أسلموا من بني إسرائيل ، يقال قفيته مثل عقبته : إذا أتبعته ؛ ثم يقال : قفيته بفلان وعقبته به فيتعدى إلى الثاني بالباء ، والمفعول الأول محذوف استغناء عنه بالظرف ، وهو على آثارهم لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه ، وانتصاب (مُصَدِّقاً) على الحال من عيسى (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) عطف على قفينا ، ومحل الجملة أعني (فِيهِ هُدىً) النصب على الحال من الإنجيل (وَنُورٌ) عطف على هدى. وقوله : (وَمُصَدِّقاً) معطوف على محل (فِيهِ هُدىً) أي أن الإنجيل أوتيه عيسى حال كونه

٥٤

مشتملا على الهدى والنور مصدقا لما بين يديه من التوراة ؛ وقيل : إن مصدّقا معطوف على مصدّقا الأوّل فيكون حالا من عيسى مؤكدا للحال الأوّل ومقرّر له. والأوّل أولى لأن التأسيس خير من التأكيد. قوله : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) عطف على مصدّقا داخل تحت حكمه منضما إليه : أي مصدقا وهاديا وواعظا للمتقين. قوله : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) هذا أمر لأهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه ، فإنه قبل البعثة المحمدية حقّ ، وأما بعدها فقد أمروا في غير موضع بأن يعملوا بما أنزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن الناسخ لكل الكتب المنزلة. وقرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل من (لْيَحْكُمْ) على أنّ اللام لام كي ، وقرأ الباقون بالجزم على أنّ اللام للأمر. فعلى القراءة الأولى تكون اللام متعلقة بقوله : وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه ، وعلى القراءة الثانية هو كلام مستأنف. قال مكي : والاختيار الجزم ، لأنّ الجماعة عليه ، ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدلّ على أنه إلزام من الله لأهل الإنجيل. وقال النحاس : والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان لأن الله سبحانه لم ينزل كتابا إلا ليعمل بما فيه. قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) خطاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكتاب : القرآن ، والتعريف للعهد ، و (بِالْحَقِ) متعلق بمحذوف وقع حالا : أي متلبسا بالحق ؛ وقيل : هو حال من فاعل أنزلنا ؛ وقيل : من ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) حال من الكتاب ، والتعريف في الكتاب أعني قوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) للجنس ؛ أي أنزلنا إليك يا محمد القرآن حال كونه متلبسا بالحق ، وحال كونه مصدّقا لما بين يديه من كتب الله المنزلة ؛ لكونه مشتملا على الدعوة إلى الله والأمر بالخير والنهي عن الشرّ ، كما اشتمل عليه قوله : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) عطف على مصدّقا ، والضمير في عليه عائد إلى الكتاب الذي صدقه القرآن وهيمن عليه ، والمهيمن الرقيب ؛ وقيل : الغالب المرتفع ؛ وقيل : الشاهد ، وقيل : الحافظ ؛ وقيل : المؤتمن. قال المبرد : أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء ، كما قيل في أرقت الماء هرقت ، وبه قال الزجاج وأبو عليّ الفارسي. وقال الجوهري : هو من أمن غيره من الخوف ، وأصله أأمن فهو مؤامن بهمزتين قلبت الثانية ياء كراهة لاجتماعهما فصار مؤيمن ثم صيرت الأولى هاء ، كما قالوا : هراق الماء وأراقه ، يقال : هيمن على الشيء يهيمن : إذا كان له حافظا ، فهو له مهيمن كذا عن أبي عبيد. وقرأ مجاهد وابن محيصن (مُهَيْمِناً عَلَيْهِ) بفتح الميم ، أي هيمن عليه الله سبحانه. والمعنى على قراءة الجمهور : أن القرآن صار شاهدا بصحة الكتب المنزلة ومقرّرا لما فيها مما لم ينسخ ، وناسخا لما خالفه منها ، ورقيبا عليها وحافظا لما فيها من أصول الشرائع ، وغالبا لها لكونه المرجع في المحكم منها والمنسوخ ، ومؤتمنا عليها لكونه مشتملا على ما هو معمول به منها وما هو متروك. قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي بما أنزله إليك في القرآن لاشتماله على جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي أهواء أهل الملل السابقة. وقوله : (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) متعلّق بلا تتبع على تضمينه معنى لا تعدل أو لا تنحرف (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) متبعا لأهوائهم ؛ وقيل متعلّق بمحذوف : أي لا تتبع أهواءهم عادلا أو منحرفا عن الحق. وفيه النهي له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يتبع أهوية أهل الكتاب ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه ، فإن كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر على ما هم عليه وما أدركوا

٥٥

عليه سلفهم وإن كان باطلا منسوخا أو محرّفا عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء ، كما وقع في الرجم ونحوه مما حرّفوه من كتب الله. قوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الشرعة والشريعة في الأصل : الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ، ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين. والمنهاج : الطريقة الواضحة البينة. وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد : الشريعة : ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستمر. ومعنى الآية : أنه جعل التوراة لأهلها ، والإنجيل لأهله ، والقرآن لأهله وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) بشريعة واحدة وكتاب واحد ورسول واحد (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ) أي ولكن لم يشأ ذلك الاتحاد ، بل شاء الابتلاء لكم باختلاف الشرائع ، فيكون (لِيَبْلُوَكُمْ) متعلقا بمحذوف دلّ عليه سياق الكلام وهو ما ذكرنا ، ومعنى (فِي ما آتاكُمْ) فيما أنزله عليكم من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والرسل ، هل تعملون بذلك وتذعنون له ، أو تتركونه وتخالفون ما اقتضته مشيئة الله وحكمته ، وتميلون إلى الهوى وتشترون الضلالة بالهدى. وفيه دليل على أنّ اختلاف الشرائع هو لهذه العلة ، أعني الابتلاء والامتحان لا لكون مصالح العباد مختلفة باختلاف الأوقات والأشخاص. قوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي إذا كانت المشيئة قد قضت باختلاف الشرائع فاستبقوا إلى فعل ما أمرتم بفعله وترك ما أمرتم بتركه. والاستباق : المسارعة. (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) لا إلى غيره وهذه الجملة كالعلة لما قبلها. قوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) عطف على الكتاب : أي أنزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه. وقد استدلّ بهذا على نسخ التخيير المتقدّم في قوله : (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) وقد تقدم تفسير (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) قوله : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) أي يضلّوك عنه ويصرفوك بسبب أهوائهم التي يريدون منك أن تعمل عليها وتؤثرها (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي إن أعرضوا عن قبول حكمك بما أنزل الله عليك فذلك لما أراده الله من تعذيبهم ببعض ذنوبهم وهو ذنب التولي عنك والإعراض عما جئت به (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) متمرّدون عن قبول الحق خارجون عن الإنصاف. قوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدّر كما في نظائره. والمعنى : أيعرضون عن حكمك بما أنزل الله عليك ويتولون عنه ويبتغون حكم الجاهلية ، والاستفهام في (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) للإنكار أيضا : أي لا أحسن من حكم الله عند أهل اليقين لا عند أهل الجهل والأهواء.

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس (كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) في التوراة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه ، قال : كتب عليهم هذا في التوراة ، وكانوا يقتلون الحر بالعبد فيقولون كتب علينا أن النفس بالنفس. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن ابن عمر في قوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) قال : يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدّق به. وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) قال : للمجروح. وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من مسلم يصاب بشيء في جسده

٥٦

فيتصدّق به إلا رفعه الله به درجة ، وحطّ عنه به خطيئة». وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) قال : مؤتمنا عليه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال : المهيمن : الأمين ، والقرآن أمين على كل كتاب قبله. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه في قوله : (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) قال : سبيلا وسنّة. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا أن نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وإنا إن اتّبعناك اتّبعنا يهود ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدّقك ، فأبى ذلك ، وأنزل الله فيهم (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) إلى قوله : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) قال : يهود. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : هذا في قتيل اليهود.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦))

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا) الظاهر أنه خطاب للمؤمنين حقيقة ؛ وقيل : المراد بهم المنافقون ، ووصفهم بالإيمان باعتبار ما كانوا يظهرونه. وقد كانوا يوالون اليهود والنصارى فنهوا عن ذلك. والأولى أن يكون خطابا لكل من يتصف بالإيمان أعمّ من أن يكون ظاهرا وباطنا أو ظاهرا فقط ، فيدخل المسلم والمنافق ، ويؤيد هذا قوله : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) والاعتبار بعموم اللفظ ، وسيأتي في بيان سبب نزول الآية ما يتضح به المراد. والمراد من النهي عن اتخاذهم أولياء أن يعاملوا معاملة الأولياء في المصادقة والمعاشرة والمناصرة. وقوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) تعليل للنهي ، والمعنى : أنّ بعض اليهود أولياء البعض الآخر منهم ، وبعض النصارى أولياء البعض الآخر منهم ، وليس المراد بالبعض إحدى طائفتي اليهود والنصارى ، وبالبعض الآخر الطائفة الأخرى للقطع بأنهم في غاية من العداوة والشقاق (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) (١) وقيل : المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالي الأخرى وتعاضدها وتناصرها على عداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعداوة ما جاء به ؛ وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادّين.

__________________

(١). البقرة : ١١٣.

٥٧

ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أن هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم ، فلا تفعلوا ما هو من فعلهم فتكونوا مثلهم ، ولهذا عقب هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فقال : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي فإنه من جملتهم وفي عدادهم ، وهو وعيد شديد فإنّ المعصية الموجبة للكفر هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية. وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تعليل للجملة التي قبلها ؛ أي أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالي الكافرين. قوله : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) الفاء للسببية ، والخطاب إما للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أو لكلّ من يصلح له : أي ما ارتكبوه من الموالاة ووقعوا فيه من الكفر هو بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق. وقوله : (يُسارِعُونَ) في محل نصب إما على أنه المفعول الثاني إذا كانت الرؤية قلبية أو على أنه حال إذا كانت بصرية ، وجعل المسارعة في موالاتهم مسارعة فيهم للمبالغة في بيان رغوبهم في ذلك حتى كأنهم مستقرّون فيهم داخلون في عدادهم. وقد قرئ فيرى بالتحتية. واختلف في فاعله ما هو؟ فقيل : هو الله عزوجل ؛ وقيل : هو كل من تصح منه الرؤيا ؛ وقيل : هو الموصول. ومفعوله : (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) على حذف أن المصدرية : أي فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم ، فلما حذفت ارتفع الفعل كقوله :

ألا أيّهذا الّلائمي أحضر الوغى (١)

والمرض في القلوب : هو النفاق والشك في الدين. وقوله : (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) جملة مشتملة على تعليل المسارعة في الموالاة : أي أن هذه الخشية هي الحاملة لهم على المسارعة ؛ وقيل : إن الجملة حال من ضمير يسارعون. والدائرة : ما تدور من مكاره الدهر : أي نخشى أن تظفر الكفار بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتكون الدولة لهم وتبطل دولته فيصيبنا منهم مكروه ، ومنه قوله الشاعر :

يردّ عنك القدر المقدورا

ودائرات الدّهر أن تدورا

أي دولات الدهر الدائرة من قوم إلى قوم. وقوله : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) ردّ عليهم ودفع لما وقع لهم من الخشية ، وعسى في كلام الله وعد صادق لا يتخلّف. والفتح : ظهور النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الكافرين ، ومنه ما وقع من قتل مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم ، وإجلاء بني النضير ؛ وقيل : هو فتح بلاد المشركين على المسلمين ؛ وقيل : فتح مكة. والمراد بالأمر من عنده سبحانه هو كلّ ما تندفع به صولة اليهود ومن معهم وتنكسر به شوكتهم ؛ وقيل : هو إظهار أمر المنافقين وإخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أسروا في أنفسهم وأمره بقتلهم ؛ وقيل : هو الجزية التي جعلها الله عليهم ؛ وقيل : الخصب والسعة للمسلمين ، فيصبح المنافقون (عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ) من النفاق الحامل لهم على الموالاة (نادِمِينَ) على ذلك لبطلان الأسباب التي تخيلوها وانكشاف خلافها. قوله : (يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) قرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق وأهل الكوفة بإثبات الواو ،

__________________

(١). وتمامه : وأن أشهد اللذات ، هل أنت مخلدي؟ وهو من معلقة طرفة بن العبد البكري.

٥٨

وقرأ الباقون بحذفها ، فعلى القراءة الأولى مع رفع يقول يكون كلاما مبتدأ مسوقا لبيان ما وقع من هذه الطائفة ، وعلى قراءة النصب يكون عطفا على (فَيُصْبِحُوا) وقيل : على (يَأْتِيَ) والأولى أولى ، لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامة الكافرين لا عند إتيان الفتح ؛ وقيل : هو معطوف على الفتح كقول الشاعر :

للبس عباءة وتقرّ عيني (١)

وأما على قراءة حذف الواو فالجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والإشارة بقوله : (أَهؤُلاءِ) إلى المنافقين : أي يقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) بالمناصرة والمعاضدة في القتال ، أو يقول بعض المؤمنين لبعض مشيرين إلى المنافقين ، وهذه الجملة مفسرة للقول. وجهد الأيمان : أغلظها ، وهو منصوب على المصدر أو على الحال : أي أقسموا بالله جاهدين. قوله : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت وهو من تمام قول المؤمنين أو جملة مستأنفة والقائل الله سبحانه. والأعمال هي التي عملوها في الموالاة أو كل عمل يعملونه. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ) قرأ أهل المدينة والشام يرتدد بدالين بفك الإدغام ، وهي لغة تميم ، وقرأ غيرهم بالإدغام. وهذا شروع في بيان أحكام المرتدّين بعد بيان أن موالاة الكافرين من المسلم كفر ، وذلك نوع من أنواع الردّة. والمراد بالقوم الذين وعد الله سبحانه بالإتيان بهم هم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجيشه من الصحابة والتابعين الذين قاتل بهم أهل الردّة ، ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدّين في جميع الزمن ، ثم وصف سبحانه هؤلاء القوم بهذه الأوصاف العظيمة المشتملة على غاية المدح ونهاية الثناء من كونهم يحبون الله وهو يحبهم ، ومن كونهم (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) والأذلّة : جمع ذليل لا ذلول ، والأعزّة : جمع عزيز ، أي يظهرون العطف والحنوّ والتّواضع للمؤمنين ويظهرون الشدّة والغلظة والترفع على الكافرين ، ويجمعون بين المجاهدة في سبيل الله وعدم خوف الملامة في الدين ، بل هم متصلّبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين وقلب محاسنهم مساوئ ومناقبهم مثالب حسدا وبغضا وكراهة للحق وأهله ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم من الصفات التي اختصهم الله بها. والفضل : اللطف والإحسان. قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) لما فرغ سبحانه من بيان من لا تحلّ موالاته بيّن من هو الوليّ الذي تجب موالاته ، ومحل (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) الرفع على أنه صفة للذين آمنوا أو بدل منه أو النصب على المدح. وقوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) جملة حالية من فاعل الفعلين اللذين قبله. والمراد بالركوع : الخشوع والخضوع ، أي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم خاشعون خاضعون لا يتكبرون ؛ وقيل : هو حال من فاعل الزكاة. والمراد بالركوع هو المعنى المذكور : أي يضعون الزكاة في مواضعها غير متكبرين على الفقراء ولا مترفعين عليهم ؛ وقيل : المراد بالركوع على المعنى الثاني : ركوع

__________________

(١). وتمام البيت : أحبّ إليّ من لبس الشفوف. وهو لميسون بنت بحدل ، وكانت زوجة لمعاوية بن أبي سفيان.

٥٩

الصلاة ، ويدفعه عدم جواز إخراج الزكاة في تلك الحال ، ثم وعد سبحانه من يتولّى الله ورسوله والذين آمنوا بأنهم الغالبون لعدوّهم ، وهو من وضع الظاهر موضع المضمر ، ووضع حزب الله موضع ضمير الموالين لله ولرسوله وللمؤمنين. والحزب : الصنف من الناس ، من قولهم حزبه كذا : أي نابه ، فكأن المتحزّبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة التي تنوب ، وحزب الرجل : أصحابه ، والحزب : الورد. وفي الحديث : «فمن فاته حزبه من الليل» وتحزّبوا : اجتمعوا. والأحزاب : الطوائف. وقد وقع ـ ولله الحمد ـ ما وعد الله به أولياءه وأولياء رسله وأولياء عباده المؤمنين من الغلب لعدوّهم ، فإنهم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية ، حتى صاروا لعنهم الله أذلّ الطوائف الكفرية وأقلها شوكة ، وما زالوا تحت كلكل المؤمنين يطحنونهم كيف شاؤوا ، ويمتهنونهم كما يريدون من بعد البعثة الشريفة المحمدية إلى هذه الغاية.

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول وقام دونهم ، ومشى عبادة بن الصّامت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبرّأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وكان أحد بني عوف بن الخزرج ، وله من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، فخلعهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم. وفيه وفي عبد الله بن أبيّ نزلت الآيات في المائدة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) إلى قوله : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ). وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أسلم عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، ثم قال : إنّ بيني وبين قريظة والنضير حلفا وإنّي أخاف الدوائر ، فارتدّ كافرا. وقال عبادة بن الصامت : أتبرأ إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله ، فنزلت. وأخرج ابن مردويه أيضا من طريق عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جدّه نحو ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة فذكر نحو ما تقدّم. وأخرج ابن جرير عن الزهري قال : لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من يهود : آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر ، فقال مالك بن الصيف : غرّكم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال ، أما لو أصررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يدان بقتالنا ، فقال عبادة وذكر نحو ما تقدم عنه وعن عبد الله بن أبيّ. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) قال : إنها في الذبائح «من دخل في دين قوم فهو منهم». وأخرج عبد بن حميد عن حذيفة قال : ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر ، وتلا (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كعبد الله بن أبيّ (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) في ولايتهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في سننه وابن عساكر عن قتادة قال : أنزل الله هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ) وقد علم أنه سيرتدّ مرتدّون من الناس ، فلما قبض الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتدّ عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد : أهل المدينة ، وأهل مكة ، وأهل الجؤاثا من عبد القيس ؛

٦٠