فتح القدير - ج ٢

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٢

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٢

وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

قوله : (قُلْ تَعالَوْا) أي تقدّموا. قال ابن الشّجري : إنّ المأمور بالتقدّم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعدا ، فقيل له تعال : أي ارفع شخصك بالقيام وتقدّم ، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي. وهكذا قال الزمخشري في الكشاف : إنه من الخاص الذي صار عاما ، وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ، ثم كثر واتسع فيه حتى عمّ. قوله : (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) أتل : جواب الأمر ، وما : موصولة في محل نصب به ، أي : أتل الذي حرّمه ربكم عليكم. والمراد من تلاوة ما حرّم الله تلاوة الآيات المشتملة عليه ، ويجوز أن تكون ما مصدرية ، أي : أتل تحريم ربكم. والمعنى : ما اشتمل على التحريم ؛ قيل : ويجوز أن تكون ما استفهامية ، أي : أتل أي شيء حرّم ربكم ، على جعل التلاوة بمعنى القول ، وهو ضعيف جدّا ، وعليكم : إن تعلق بأتل ، فالمعنى : أتل عليكم الذي حرّم ربكم ، وإن تعلّق بحرّم ، فالمعنى أتل الذي حرّم ربكم عليكم ، وهذا أولى ، لأن المقام مقام بيان ما هو محرّم عليكم لا مقام بيان ما هو محرّم مطلقا ؛ وقيل : إن : عليكم ، للإغراء ولا تعلق لها بما قبلها. والمعنى : عليكم أن لا تشركوا إلى آخره ، أي : الزموا ذلك كقوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (١) وهو أضعف مما قبله ، وأن في (أَلَّا تُشْرِكُوا) : مفسرة لفعل التلاوة ، وقال النحاس : يجوز أن تكون في موضع نصب بدلا من ما ، أي : أتل عليكم تحريم الإشراك ؛ وقيل : يجوز أن يكون في محل رفع بتقدير مبتدأ ، أي : المتلوّ أن لا تشركوا ، وشيئا : مفعول أو مصدر ، أي : لا تشركوا به شيئا من الأشياء ، أو شيئا من الإشراك. قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي : أحسنوا بهما إحسانا ، والإحسان إليهما : البرّ بهما ، وامتثال أمرهما ونهيهما. وقد تقدّم الكلام على هذا. قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) لما ذكر حقّ الوالدين على الأولاد ، ذكر حقّ الأولاد على الوالدين ، وهو أن لا يقتلوهم من أجل إملاق. والإملاق : الفقر ، فقد كانت الجاهلية تفعل ذلك بالذكر والإناث خشية الإملاق ، وتفعله بالإناث خاصّة خشية العار. وحكى النقاش عن مؤرّج أن الإملاق : الجوع بلغة لخم ، وذكر منذر بن سعيد البلوطي أن الإملاق : الإنفاق. يقال أملق ماله : بمعنى أنفقه. والمعنى الأوّل هو الذي أطبق عليه أئمة اللغة ، وأئمة التفسير هاهنا (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) أي المعاصي ، ومنه (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) (٢) وما : في (ما ظَهَرَ) بدل من الفواحش ، وكذا ما بطن. والمراد بما ظهر : ما أعلن به منها ، وما بطن : ما أسرّ. وقد تقدّم (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ) اللام في النفس للجنس ، و (الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) صفة للنفس ، أي : لا تقتلوا شيئا من الأنفس التي حرّمها الله (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا بما يوجبه

__________________

(١). المائدة : ١٠٥.

(٢). الإسراء : ٣٢.

٢٠١

الحق ، والاستثناء مفرّغ ؛ أي لا تقتلوه في حال من الأحوال إلا في حال الحق ، أو لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ، ومن الحق : قتلها قصاصا وقتلها بسبب زنا المحصن ، وقتلها بسبب الردّة ، ونحو ذلك من الأسباب التي ورد الشّرع بها ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى ما تقدّم مما تلاه عليهم ، وهو مبتدأ ، و (وَصَّاكُمْ بِهِ) خبره ، أي : أمركم به ، وأوجبه عليكم (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) أي : لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه (إِلَّا) الخصلة (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) من غيرها ، وهي ما فيه صلاحه وحفظه وتنميته ، فيشمل كل وجه من الوجوه التي فيها نفع لليتيم وزيادة في ماله ؛ وقيل : المراد بالتي هي أحسن : التجارة (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي : إلى غاية هي أن يبلغ اليتيم أشدّه ، فإن بلغ ذلك فادفعوا إليه ماله ، كما قال تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (١).

واختلف أهل العلم في الأشدّ ؛ فقال أهل المدينة : بلوغه وإيناس رشده. وقال أبو حنيفة : خمس وعشرون سنة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو البلوغ. وقيل : إنه انتهاء الكهولة ، ومنه قول سحيم الرّياحي :

أخو خمسين مجتمع أشدّي

ونجّدني مداورة الشّؤون

والأولى في تحقيق بلوغ الأشد : أنه البلوغ إلى سنّ التكليف مع إيناس الرشد ، وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكا مسلك العقلاء ، لا مسلك أهل السفه والتبذير ، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة النساء : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (٢) فجعل بلوغ النكاح ، وهو بلوغ سنّ التكليف مقيدا بإيناس الرشد ، ولعله قد سبق هنالك كلام في هذا ، والأشد : واحد لا جمع له ؛ وقيل : واحده شدّ كفلس وأفلس وأصله من شدّ النهار : أي ارتفع. وقال سيبويه : واحده شدة. قال الجوهري : وهو حسن في المعنى ، لأنه يقال : بلغ الكلام شدته ، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل. قوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل في الأخذ والإعطاء عند البيع والشراء (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : إلا طاقتها في كل تكليف من التكاليف ، ومنه التكليف بإيفاء الكيل والوزن ، فلا يخاطب المتولي لهما بما لا يمكن الاحتراز عنه في الزيادة والنقصان (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) أي : إذا قلتم بقول في خير أو شهادة أو جرح أو تعديل فاعدلوا فيه وتحرّوا الصواب ، ولا تتعصبوا في ذلك لقريب ولا على بعيد ، ولا تميلوا إلى صديق ولا على عدو ، بل سوّوا بين الناس فإن ذلك من العدل الذي أمر الله به ، والضمير في (وَلَوْ كانَ) راجع إلى ما يفيده (وَإِذا قُلْتُمْ) فإنه لا بد للقول من مقول فيه ، أو مقول له : أي ولو كان المقول فيه ، أو المقول له (ذا قُرْبى) أي صاحب قرابة لكم. وقيل إن المعنى : ولو كان الحق على مثل قراباتكم والأوّل أولى ، ومثل هذه الآية قوله : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (٣). قوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي أوفوا بكلّ عهد عهده الله إليكم ، ومن جملة ما عهده إليكم ما تلاه عليكم رسوله بأمره في هذا المقام ، ويجوز أن يراد به كل عهد ولو كان بين المخلوقين ، لأنّ الله سبحانه لما أمر بالوفاء به في كثير من الآيات القرآنية كان ذلك مسوّغا لإضافته إليه ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى ما تقدّم ذكره (وَصَّاكُمْ بِهِ) أمركم به أمرا مؤكدا (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فتتعظون بذلك. قوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) أنّ

__________________

(١). النساء : ٦.

(٢). النساء : ٦.

(٣). النساء : ١٣٥.

٢٠٢

في موضع نصب ، أي : واتل أنّ هذا صراطي ، قاله الفراء والكسائي. قال الفرّاء : ويجوز أن يكون خفضا ؛ أي وصّاكم به ، وبأن هذا. وقال الخليل وسيبويه : إنّ التقدير : ولأن هذا صراطي مستقيما كما في قوله سبحانه : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) (١). وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي (وَأَنَّ هذا) بكسر الهمزة على الاستئناف ، والتقدير : الذي ذكر في هذه الآيات صراطي. وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وإن هذا صراطي بالتخفيف على تقدير ضمير الشأن. وقرأ الأعمش وهذا صراطي وفي مصحف عبد الله بن مسعود وهذا صراط ربكم وفي مصحف أبيّ وهذا صراط ربّك والصراط : الطريق ، وهو طريق دين الإسلام ، ونصب مستقيما على الحال ، والمستقيم المستوي الذي لا اعوجاج فيه ، ثم أمرهم باتباعه ونهاهم عن اتّباع سائر السّبل ، أي : الأديان المتباينة طرقها (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ) أي تميل بكم (عَنْ سَبِيلِهِ) أي عن سبيل الله المستقيم الذي هو دين الإسلام. قال ابن عطية : وهذه السبل تعمّ اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشّذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمّق في الجدل والخوض في الكلام.

هذه كلّها عرضة للزّلل ومظنّة لسوء المعتقد ، والإشارة ب (ذلِكُمْ) إلى ما تقدّم ، وهو مبتدأ وخبره (وَصَّاكُمْ بِهِ) أي : أكد عليكم الوصية به (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ما نهاكم عنه.

وقد أخرج الترمذي وحسّنه ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة ابن الصامت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيّكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا (قُلْ تَعالَوْا) إلى ثلاث آيات ، ثم قال : فمن وفي بهنّ فأجره على الله ، ومن انتقص منهنّ شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخّره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه». وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضّريس وابن المنذر عن كعب الأحبار قال : أوّل ما أنزل في التوراة عشر آيات ، وهي العشر التي أنزلت من آخر الأنعام (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخرها. وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله ابن عبد الله بن عدي بن الخيار قال : سمع كعب رجلا يقرأ : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) فقال كعب : والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة : بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر الآيات انتهى. قلت : هي الوصايا العشر التي في التوراة ، وأوّلها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك إله آخر غيري. ومنها : أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك ، لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد على قريبك شهادة زور ، ولا تشته بنت قريبك ، ولا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك ، فلعل مراد كعب الأحبار هذا ؛ ولليهود بهذه الوصايا عناية عظيمة وقد كتبها أهل الزبور في آخر زبورهم ، وأهل الإنجيل في أوّل إنجيلهم. وهي مكتوبة في لوحين ، وقد تركنا منها ما يتعلّق بالسبت. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) قال : من خشية الفاقة ، قال : وكان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته مخافة الفاقة عليها والسبي (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما

__________________

(١). الجن : ١٨.

٢٠٣

ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) قال : سرّها وعلانيتها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) قال : خشية الفقر (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) قال : كانوا في الجاهلية لا يرون بالزّنا بأسا في السرّ ويستقبحونه في العلانية ، فحرّم الله الزنا في السرّ والعلانية. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) قال : اعلموا أنّ السّبيل سبيل واحد جماعه الهدى ومصيره الجنة ، وأن إبليس اشترع سبلا متفرّقة جماعة الضلالة ومصيرها النار. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبزار والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال : «خطّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطا بيده ثم قال : هذا سبيل الله مستقيما ، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). وأخرج أحمد وابن ماجة وابن مردويه من حديث جابر نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود أنّ رجلا سأله : ما الصّراط المستقيم؟ قال : تركنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أدناه وطرفه الجنة ، وعن يمينه جوادّ وعن شماله جوادّ ، وثم رجال يدعون من مرّ بهم ، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار ، ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة ، ثم قرأ ابن مسعود (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) قال : الضّلالات.

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

هذا الكلام مسوق لتقرير التوصية التي وصى الله عباده بها ، وقد استشكل العطف بثم مع كون قصة موسى وإيتائه الكتاب قبل المعطوف عليه ، وهو ما تقدم من قوله : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) فقيل : إنّ ثم هاهنا بمعنى الواو ؛ وقيل : تقدير الكلام : ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقيل : المعنى : قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ، ثم أتل إيتاء موسى الكتاب ، وقيل : إن التوصية المعطوف عليها قديمة لم يزل كل نبيّ يوصي بها أمته ؛ وقيل : إن ثم للتراخي في الإخبار كما تقول : بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت بالأمس أعجب. قوله : (تَماماً) مفعول لأجله أو مصدر ، و (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) قرئ بالرفع وهي قراءة يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق ، فيكون رفع أحسن على تقدير مبتدأ : أي على الذي هو أحسن ، ومنه ما حكى سيبويه عن الخليل أنه سمع : ما أنا بالذي قائل لك شيئا. وقرأ الباقون بالنصب على أنه فعل ماض عند البصريين ، وأجاز الفراء والكسائي أن يكون اسما نعتا للذي ، وهذا محال عند البصريين لأنه نعت للاسم

٢٠٤

قبل أن يتمّ ، والمعنى عندهم تماما على من أحسن قبوله والقيام به كائنا من كان ، ويؤيد هذا أن ابن مسعود قرأ «تماما على الذين أحسنوا» وقال الحسن : كان فيهم محسن وغير محسن ، فأنزل الله الكتاب تماما على المحسنين ؛ وقيل المعنى : أعطينا موسى التوراة زيادة على ما كان يحسنه موسى مما علمه الله قبل نزول التوراة عليه ؛ وقيل المعنى : تماما على الذي أحسن به الله عزوجل إلى موسى من الرسالة وغيرها ، وقيل : تماما على إحسان موسى بطاعة الله عزوجل ، قاله الفراء. قوله : (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) معطوف على تماما ، أي : ولأجل تفصيل كل شيء ، وكذا (هُدىً وَرَحْمَةً) معطوفتان عليه : أي : وللهدى والرحمة ، والضمير في لعلهم راجع إلى بني إسرائيل المدلول عليه بذكر موسى ، والباء في (بِلِقاءِ) متعلقة بيؤمنون. قوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) الإشارة إلى القرآن ، واسم الإشارة مبتدأ وخبره كتاب ، وأنزلناه صفة لكتاب ، ومبارك صفة أخرى له ، وتقديم صفة الإنزال لكون الإنكار متعلقا بها ، والمبارك : كثير البركة لما هو مشتمل عليه من المنافع الدنيوية والدينية (فَاتَّبِعُوهُ) فإنه لما كان من عند الله وكان مشتملا على البركة ، كان اتباعه متحتما عليكم (وَاتَّقُوا) مخالفته والتكذيب بما فيه (لَعَلَّكُمْ) إن قبلتموه ولم تخالفوه (تُرْحَمُونَ) برحمة الله سبحانه ، وأن في (أَنْ تَقُولُوا) في موضع نصب. قال الكوفيون : لئلا تقولوا. وقال البصريون : كراهة أن تقولوا : وقال الفراء والكسائي : المعنى : فاتقوا أن تقولوا يا أهل مكة (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) : أي التوراة والإنجيل (عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) وهم اليهود والنصارى ولم ينزل علينا كتاب (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ) أي عن تلاوة كتبهم بلغاتهم (لَغافِلِينَ) أي : لا ندري ما فيها ، ومرادهم إثبات نزول الكتابين مع الاعتذار عن اتباع ما فيهما بعدم الدراية منهم والغفلة عن معناهما. قوله : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ) معطوف على (تَقُولُوا) أي : أو أن تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على الطائفتين من قبلنا (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) إلى الحق الذي طلبه الله ، فإن هذه المقالة والمعذرة منهم مندفعة بإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، وإنزال القرآن عليه ، ولهذا قال : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : كتاب أنزله الله على نبيكم ، وهو منكم يا معشر العرب ، فلا تعتذروا بالأعذار الباطلة وتعللوا أنفسكم بالعلل الساقطة ، فقد أسفر الصبح لذي عينين (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) معطوف على (بَيِّنَةٌ) أي جاءكم البينة الواضحة والهدى الذي يهتدي به كلّ من له رغبة في الاهتداء ، ورحمة من الله يدخل فيها كل من يطلبها ويريد حصولها ، ولكنكم ظلمتم أنفسكم بالتكذيب بآيات الله والصدوف عنها ، أي : الانصراف عنها ، وصرف من أراد الإقبال إليها (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) التي هي رحمة وهدى للناس (وَصَدَفَ عَنْها) فضلّ بانصرافه عنها ، وأضلّ بصرف غيره عن الإقبال إليها (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) أي العذاب السيئ ـ ب سبب ما (كانُوا يَصْدِفُونَ) وقيل معنى صدف : أعرض ، ويصدفون : يعرضون ، وهو مقارب لمعنى الصرف ، وقد تقدّم تحقيق معنى هذا اللفظ ، والاستفهام في (فَمَنْ أَظْلَمُ) : للإنكار ، أي : إنكار أن يكون أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ، مع ما يفيده ذلك من التبكيت لهم.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)

٢٠٥

قال : على المؤمنين المحسنين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صخر (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) قال : تماما لما كان قد أحسن الله. وأخرج أيضا عن ابن زيد قال : تماما لنعمته عليهم وإحسانه إليهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (وَهذا كِتابٌ) قال : هو القرآن الذي أنزل الله على محمد (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا) يقول : فاتبعوا ما أحلّ الله فيه واتقوا ما حرّم. وأخرج هؤلاء عن مجاهد في قوله : (عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) قال : اليهود والنصارى ، خاف أن تقوله قريش. وأخرج ابن المنذر وابن حاتم عن ابن عباس قال : هم اليهود والنصارى (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ) قال : تلاوتهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) قال : هذا قول كفار العرب. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يقول : قد جاءتكم بينة لسان عربي مبين حين لم يعرفوا دراسة الطائفتين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (صَدَفَ عَنْها) قال : أعرض عنها. وأخرج عبد بن حميد عن الضحّاك في قوله : (يَصْدِفُونَ) قال : يعرضون.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨))

أي : لما أقمنا عليهم الحجّة وأنزلنا الكتاب على رسولنا المرسل إليهم ، فلم ينفعهم ذلك ولم يرجعوا به عن غوايتهم فما بقي بعد هذا إلا أنهم (يَنْظُرُونَ) أي : ينتظرون (أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي : ملائكة الموت لقبض أرواحهم ، وعند ذلك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) يا محمد كما اقترحوه بقوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) (١) وقيل : معناه أو يأتي أمر ربك بإهلاكهم ؛ وقيل المعنى : أو يأتي كل آيات ربك بدليل قوله : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وقيل : هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله ، وقد جاء في القرآن حذف المضاف كثيرا كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) وقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) (٣) أي حب العجل ؛ وقيل : إتيان الله : مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه كقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٤). قوله : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ). قرأ ابن عمر وابن الزبير يوم تأتي بالفوقية ، وقرأ الباقون بالتحتية. قال المبرد : التأنيث على المجاورة لمؤنث لا على الأصل ومنه قول جرير :

لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع

وقرأ ابن سيرين «لا تنفع» : بالفوقية. قال أبو حاتم : إن هذا غلط عن ابن سيرين. وقد قال الناس في هذا شيء دقيق من النحو ذكره نفطويه ، وذلك أن الإيمان والنفس كل واحد منهما مشتمل على الآخر ، فأنث الإيمان إذ هو من النفس. قال النحاس : وفيه وجه آخر وهو أن يؤنث الإيمان ، لأنه مصدر كما يذكر المصدر المؤنث مثل (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ). ومعنى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) يوم يأتي الآيات

__________________

(١). الفرقان : ٢١.

(٢). يوسف : ٨٢.

(٣). البقرة : ٩٣.

(٤). الفجر : ٢٢.

٢٠٦

التي اقترحوها ، وهي التي تضطرهم إلى الإيمان (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) أو ما هو أعمّ من ذلك فيدخل فيه ما ينتظرونه ؛ وقيل : هي الآيات التي هي علامات القيامة المذكورة في الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهي التي إذا جاءت لا ينفع نفسا إيمانها. قوله : (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل إتيان بعض الآيات ، فأما التي قد كانت آمنت من قبل مجيء بعض الآيات فإيمانها ينفعها ، وجملة (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) في محل نصب على أنها صفة نفسها. قوله : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) معطوف على (آمَنَتْ) والمعنى : أنه لا ينفع نفسا إيمانها عند حضور الآيات متّصفة بأنها لم تكن آمنت من قبل ، أو آمنت من قبل ولكن لم تكسب في إيمانها خيرا ، فحصل من هذا أنه لا ينفع إلا الجمع بين الإيمان من قبل مجيء بعض الآيات مع كسب الخير في الإيمان ، فمن آمن من قبل فقط ولم يكسب خيرا في إيمانه أو كسب خيرا ولم يؤمن فإن ذلك غير نافعه ، وهذا التركيب هو كقولك : لا أعطي رجلا اليوم أتاني لم يأتني بالأمس أو لم يمدحني في إتيانه إليّ بالأمس ، فإن المستفاد من هذا أنه لا يستحقّ العطاء إلا رجل أتاه بالأمس ومدحه في إتيانه إليه بالأمس ، ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم : انتظروا ما تريدون إتيانه إنا منتظرون له ، وهذا تهديد شديد ووعيد عظيم ، وهو يقوّي ما قيل في تفسير (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) أنها الآيات التي اقترحوها من إتيان الملائكة وإتيان العذاب لهم من قبل الله كما تقدّم بيانه.

وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) قال : عند الموت (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قال : يوم القيامة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في تفسير الآية مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قال يوم القيامة في ظلل من الغمام. وأخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده والترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) قال : طلوع الشمس من مغربها. قال الترمذي : غريب. ورواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي سعيد موقوفا. وأخرجه الطبراني وابن عدي وابن مردويه من حديث أبي هريرة مرفوعا. وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ونعيم بن حماد والطبراني عن ابن مسعود موقوفا. فإذا ثبت رفع هذا التفسير النبوي من وجه صحيح لا قادح فيه فهو واجب التقديم له متحتم الأخذ به ، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها ، ثم قرأ الآية». وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي ذرّ مرفوعا نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا نحوه أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) يقول : كسبت في تصديقها عملا صالحا هؤلاء أهل القبلة ، وإن كانت مصدقة لم تعمل قبل ذلك خيرا فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها ، وإن عملت قبل الآية خيرا ، ثم عملت بعد الآية خيرا قبل منها. وأخرج ابن أبي حاتم أبو الشيخ عن مقاتل في قوله : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) قال : يعني المسلم الذي لم يعمل في إيمانه خيرا وكان

٢٠٧

قبل الآية مقيما على الكبائر. والآيات التي هي علامات القيامة قد وردت الأحاديث المتكاثرة في بيانها وتعدادها ، وهي مذكورة في كتب السّنّة.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

قرأ حمزة والكسائي «فارقوا دينهم» وهي قراءة عليّ بن أبي طالب ؛ أي تركوا دينهم وخرجوا عنه. وقرأ الباقون : فرّقوا بالتشديد إلا النخعي فإنه قرأ بالتخفيف. والمعنى : أنهم جعلوا دينهم متفرّقا ، فأخذوا ببعضه وتركوا بعضه ، قيل : المراد بهم اليهود والنصارى. وقد ورد في معنى هذا ؛ في اليهود قوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (١) ؛ وقيل : المراد بهم المشركون عبد بعضهم الصّنم وبعضهم الملائكة ؛ وقيل : الآية عامة في جميع الكفار وكلّ من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله ، وهذا هو الصّواب لأنّ اللفظ يفيد العموم فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب وطوائف المشركين وغيرهم ممن ابتدع من أهل الإسلام ، ومعنى شيعا : فرقا وأحزابا ، فتصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحدا مجتمعا ، ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم يخالف الصواب ، ويباين الحق (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي لست من تفرّقهم ، أو من السؤال عن سبب تفرّقهم والبحث عن موجب تحزبهم في شيء من الأشياء ، فلا يلزمك من ذلك شيء ولا تخاطب به إنما عليك البلاغ ، وهو مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من غشّنا فليس منّا» أي نحن برآء منه ، وموضع (فِي شَيْءٍ) نصب على الحال. قال الفراء : هو على حذف مضاف : أي لست من عقابهم في شيء ، وإنما عليك الإنذار ، ثم سلاه الله تعالى بقوله : (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) فهو مجاز لهم بما تقتضيه مشيئته ، والحصر بإنما : هو في حكم التعليل لما قبله والتأكيد له (ثُمَ) هو يوم القيامة (يُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم بما ينزله بهم من المجازاة (بِما كانُوا) يعملونه من الأعمال التي تخالف ما شرعه الله لهم وأوجبه عليهم ، وهذه الآية من جملة ما هو منسوخ بآية السيف. قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) لما توعد سبحانه المخالفين له بما توعد بين عقب ذلك مقدار جزاء العاملين بما أمرهم به ؛ الممتثلين لما شرعه لهم ؛ بأن من جاء بحسنة واحدة من الحسنات ؛ فله من الجزاء عشر حسنات ، والتقدير : فله عشر حسنات أمثالها ، فأقيمت الصفة مقام الموصوف. قال أبو علي الفارسي : حسن التأنيث في عشر أمثالها لما كان الأمثال مضافا إلى مؤنث ، نحو ذهبت بعض أصابعه. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير والأعمش (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) برفعهما.

وقد ثبت هذا التضعيف في السنة بأحاديث كثيرة ، وهذا التضعيف هو أقلّ ما يستحقه عامل الحسنة. وقد وردت الزيادة على هذا عموما وخصوصا ، ففي القرآن كقوله : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) (٢). وورد في بعض الحسنات أن فاعلها يجازى عليها بغير حساب ، وورد في السنة المطهرة تضعيف الجزاء إلى ألوف مؤلفة. وقد قدمنا تحقيق هذا في موضعين من هذا التفسير ، فليرجع إليهما (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) من الأعمال

__________________

(١). البينة : ٤.

(٢). البقرة : ٢٦١.

٢٠٨

السيئة (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) من دون زيادة عليها ، على قدرها في الخفّة والعظم ، فالمشرك يجازى على سيئة الشرك بخلوده في النار ، وفاعل المعصية من المسلمين يجازى عليها بمثلها مما ورد تقديره من العقوبات ، كما ورد بذلك كثير من الأحاديث المصرّحة بأن من عمل كذا فعليه كذا ، وما لم يرد لعقوبته تقدير من الذنوب ؛ فعلينا أن نقول : يجازيه الله بمثله وإن لم نقف على حقيقة ما يجازى به ، وهذا إن لم يتب ، أما إذا تاب أو غلبت حسناته سيئاته ، أو تغمده الله برحمته ، وتفضل عليه بمغفرته ، فلا مجازاة ، وأدلة الكتاب والسنة مصرّحة بهذا تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب ، (وَهُمْ) أي من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة (لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب حسنات المحسنين ، ولا بزيادة عقوبات المسيئين.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : اختلفت اليهود والنّصارى قبل أن يبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتفرقوا ، فلما بعث محمد أنزل عليه (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الآية. وأخرج النحّاس عنه في ناسخه (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) قال : اليهود والنّصارى تركوا الإسلام والدين الذي أمروا به (وَكانُوا شِيَعاً) فرقا أحزابا مختلفة (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) نزلت بمكة ثم نسخها (قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) (١). وأخرج أبو الشيخ عنه (وَكانُوا شِيَعاً) قال : مللا شتّى. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الآية قال : هم في هذه الأمة. وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير والطبراني ، والشيرازي في الألقاب ، وابن مردويه عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية قال : «هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة» ، وفي إسناده عباد بن كثير ، وهو متروك الحديث ، ولم يرفعه غيره ، ومن عداه وقفوه على أبي هريرة. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي أمامة في الآية قال : هم الحرورية ، وقد رواه ابن أبي حاتم والنحاس وابن مردويه عن أبي غالب عن أبي أمامة مرفوعا ، ولا يصحّ رفعه. وأخرج الحكيم الترمذي وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن شاهين وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، وأبو نصر السجزي في الإبانة ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة : «يا عائش ؛ إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة ، يا عائشة إنّ لكلّ صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة ، وهم مني برآء» قال ابن كثير : هو غريب ، ولا يصحّ رفعه. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) قال رجل من المسلمين : يا رسول الله! لا إله إلا الله حسنة؟ قال : «نعم أفضل الحسنات» ، وهذا مرسل ولا ندري كيف إسناده إلى سعيد. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ). قال : لا إله إلا الله. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس مثله. وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة مثله أيضا. وقد قدّمنا الإشارة إلى أنها قد ثبتت الأحاديث الصحيحة بمضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها ، فلا نطيل بذكرها ، ووردت أحاديث كثيرة في الزيادة على هذا المقدار ، وفضل الله واسع ، وعطاؤه جمّ.

__________________

(١). التوبة : ٣٦.

٢٠٩

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣))

لما بيّن سبحانه أنّ الكفار تفرّقوا فرقا وتحزبوا أحزابا أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) أي أرشدني بما أوحاه إليّ (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو ملة إبراهيم عليه‌السلام ، و (دِيناً) منتصب على الحال كما قال قطرب ، أو على أنه مفعول هداني كما قال الأخفش ؛ وقيل : منتصب بفعل يدل عليه هداني ، لأن معناه عرّفني ، أي : عرفني دينا ؛ وقيل : إنه بدل من محل إلى صراط ، لأن معناه هداني صراطا مستقيما ، كقوله تعالى : (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وقيل : منصوب بإضمار فعل ، كأنه قيل : اتبعوا دينا. قوله : (قِيَماً) قرأه الكوفيون وابن عامر بكسر القاف ، والتخفيف وفتح الياء. وقرأه الباقون بفتح القاف وكسر الياء المشدّدة ، وهما لغتان : ومعناه الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ، وهو صفة لدينا ، وصف به مع كونه مصدرا ، مبالغة ، وانتصاب (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) على أنها عطف بيان لدينا ، ويجوز نصبها بتقدير أعني ، و (حَنِيفاً) منتصب على أنه حال من إبراهيم ، قاله الزّجّاج. وقال علي بن سليمان : هو منصوب بإضمار أعني. والحنيف : المائل إلى الحق ، وقد تقدّم تحقيقه (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في محل نصب معطوف على حنيفا ، أو جملة معترضة مقررة لما قبلها. قوله : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي) أمره الله سبحانه أن يقول لهم بهذه المقالة عقب أمره بأن يقول لهم بالمقالة السابقة ؛ قيل : ووجه ذلك أنّ ما تضمنه القول الأوّل إشارة إلى أصول الدين ، وهذا إلى فروعها. والمراد بالصلاة : جنسها فيدخل فيه جميع أنواعها ؛ وقيل : المراد بها هنا : صلاة الليل ، وقيل : صلاة العيد. والنسك : جمع نسيكة ، وهي الذبيحة كذا قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وغيرهم ، أي : ذبيحتي في الحج والعمرة. وقال الحسن : ديني. وقال الزجاج : عبادتي من قولهم : نسك فلان هو ناسك : إذا تعبد ، وبه قال جماعة من أهل العلم. (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي : ما أعمله في حياتي ومماتي من أعمال الخير ، ومن أعمال الخير في الممات الوصية بالصدقات وأنواع القربات ؛ وقيل : نفس الحياة ونفس الموت (لِلَّهِ). وقرأ الحسن نسكي بسكون السين. وقرأ الباقون بضمها. وقرأ أهل المدينة محياي بسكون الياء. وقرأ الباقون بفتحها ، لئلا يجتمع ساكنان قال النحاس : لم يجزه ، أي السكون أحد من النحويين إلا يونس ، وإنما أجازه لأن المدّة التي في الألف تقوم مقام الحركة. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري محيي من غير ألف وهي لغة عليا مضر ، ومنه قول الشاعر (١) :

سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم

فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع

(لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي خالصا له لا شريك له فيه ، والإشارة (بِذلِكَ) إلى ما أفاده (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ) من الإخلاص في الطاعة وجعلها لله وحده. قوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي أوّل

__________________

(١). هو أبو ذؤيب.

٢١٠

مسلمي أمته ؛ وقيل : أوّل المسلمين أجمعين ، لأنه وإن كان متأخرا في الرسالة فهو أولهم في الخلق ، ومنه قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) (١) الآية ، والأوّل أولى. قال ابن جرير الطبري : استدل بهذه الآية الشافعي على مشروعية افتتاح الصلاة بهذا الذكر ، فإن الله أمر به نبيه وأنزله في كتابه ، ثم ذكر حديث عليّ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال : «وجهت وجهي للذي فطر السّموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين» إلى قوله : «وأنا أول المسلمين» قلت : هذا هو في صحيح مسلم مطوّلا. وهو أحد التوجهات الواردة ، ولكنّه مقيّد بصلاة الليل كما في الروايات الصحيحة ، وأصح التوجهات الذي كان يلازمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرشد إليه هو «اللهم باعد بيني وبين خطاياي» إلى آخره ، وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى بما لا يحتاج إلى زيادة عليه هنا.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : (إِنَّ صَلاتِي) قال : يعني المفروضة (وَنُسُكِي) يعني الحج. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير (وَنُسُكِي) قال : ذبيحتي. وأخرجا أيضا عن قتادة (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) قال : حجّي وذبيحتي. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَنُسُكِي) قل : ذبيحتي في الحج والعمرة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَنُسُكِي) قال : ضحيتي. وفي قوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) قال : من هذه الأمة. وأخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا فاطمة! قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأوّل قطرة تقطر من دمها كلّ ذنب عملته ، وقولي : إنّ صلاتي إلى وأنا أوّل المسلمين ، قلت : يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصّة ـ فأهل ذلك أنتم ـ أم للمسلمين عامة؟ قال : لا ، بل للمسلمين عامة».

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

الاستفهام في (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) للإنكار ، وهو جواب على المشركين لما دعوه إلى عبادة غير الله ، أي : كيف أبغي غير الله ربا مستقلا وأترك عبادة الله أو شريكا لله فأعبدهما معا ، والحال أنه ربّ كل شيء ، والذي تدعونني إلى عبادته هو من جملة من هو مربوب له مخلوق مثلي لا يقدر على نفع ولا ضرّ ، وفي هذا الكلام من التقريع والتوبيخ لهم ما لا يقادر قدره ، وغير : منصوب بالفعل الذي بعده ، وربا : تمييز أو مفعول ثان على جعل الفعل ناصبا لمفعولين قوله : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) أي لا يؤاخذ مما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها ، فكل كسبها للشر عليها لا يتعداها إلى غيرها ، وهو مثل قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) (٢) وقوله : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى). قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أصل الوزر : الثقل ، ومنه قوله تعالى : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) (٣) وهو هنا : الذنب

__________________

(١). الأحزاب : ٧.

(٢). البقرة : ٢٨٦.

(٣). الشرح : ٢.

٢١١

(وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) قال الأخفش : يقال : وزر يوزر ، ووزر يزر وزرا ، ويجوز إزرا ، وفيه ردّ لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه ، والواحد من القبيلة بذنب الآخر وقد قيل : إن المراد بهذه الآية في الآخرة وكذلك التي قبلها لقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (١) ، ومثله قول زينب بنت جحش : «يا رسول الله! أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال : نعم إذا كثر الخبث». والأولى : حمل الآية على ظاهرها ، أعني : العموم وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة ونحو ذلك ، فيكون في حكم المخصص بهذا العموم ويقرّ في موضعه ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) (٢) فإنّ المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرى (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٣). (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) في الدنيا ، وعند ذلك يظهر حق المحقين وباطل المبطلين. قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) خلائف : جمع خليفة ، أي : جعلكم خلفاء الأمم الماضية والقرون السالفة ، قال الشّمّاخ :

تصيبهم وتخطئني المنايا

وأخلف في ربوع عن ربوع

أو المراد أنه يخلف بعضهم بعضا ، أو أن هذا النوع الإنساني خلفاء الله في أرضه (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) في الخلق ، والرزق ، والقوة ، والفضل ، والعلم ، ودرجات : منصوب بنزع الخافض ، أي : إلى درجات (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ليختبركم فيما آتاكم من تلك الأمور ، أو ليبتلي بعضكم ببعض كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) (٤) ثمّ خوّفهم فقال : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) فإنه وإن كان في الآخرة فكل آت قريب كما قال : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (٥) ثم رغب من يستحق الترغيب من المسلمين فقال : (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : كثير الغفران والرحمة.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) قال : لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السديّ في قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ) قال : أهلك القرون الأولى فاستخلفنا فيها بعدهم (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) قال : في الرّزق.

* * *

__________________

(١). الأنفال : ٢٥.

(٢). العنكبوت : ١٣.

(٣). النحل : ٢٥.

(٤). الفرقان : ٢٠.

(٥). النحل : ٧٧.

٢١٢

سورة الأعراف

هي مكيّة إلا ثمان آيات ، وهي قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) إلى قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) (١). وقد أخرج ابن الضّريس ، والنحّاس في ناسخه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس ، قال : سورة الأعراف نزلت بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزّبير مثله. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة : قال : آية من الأعراف مدنية ، وهي (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) (٢) إلى آخر الآية ، وسائرها مكية. وقد ثبت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ بها في المغرب يفرّقها في الرّكعتين. وآياتها مائتان وستّ آيات.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧))

قوله : (المص) قد تقدّم في فاتحة سورة البقرة ما يغني عن الإعادة ، وهو : إما مبتدأ وخبره كتاب ، أي : (المص) حروف (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أو هو : خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا (المص) أي المسمى به ، وأما إذا كانت هذه الفواتح مسرودة على نمط التّعديد فلا محلّ له ، وكتاب : خبر المبتدأ على الوجه الأوّل ، أو خبر مبتدأ محذوف على الثاني ، أي : هو كتاب. قال الكسائي : أي : هذا كتاب ، وأنزل إليك صفة له (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) الحرج : الضيق ، أي : لا يكن في صدرك ضيق منه من إبلاغه إلى الناس مخافة أن يكذبوك ويؤذوك فإن الله حافظك وناصرك. وقيل : المراد : لا يضق صدرك حيث لم يؤمنوا به ولم يستجيبوا لك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) ، وقال مجاهد وقتادة : الحرج هنا : الشك ، لأن الشاك ضيق الصدر ، أي : لا تشك في أنه منزل من عند الله ، وعلى هذا يكون النهي له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من باب التعريض ، والمراد أمته ، أي : لا يشك أحد منهم في ذلك ، والضمير في منه راجع إلى الكتاب ، فعلى الوجه الأوّل يكون على تقدير مضاف محذوف ، أي : من إبلاغه ، وعلى الثاني يكون التقدير ، من إنزاله ، والضمير في (لِتُنْذِرَ بِهِ) راجع إلى الكتاب أي : لتنذر الناس بالكتاب الذي أنزلناه إليك ، وهو متعلق بأنزل ، أي : أنزل إليك لإنذارك

__________________

(١). الأعراف : ١٦٣ ـ ١٦٥.

(٢). الأعراف : ١٦٣.

٢١٣

للناس به ، أو متعلق بالنهي ، لأن انتفاء الشك في كونه منزّلا من عند الله أو انتفاء الخوف من قومه يقوّيه على الإنذار ويشجعه ، لأن المتيقن يقدم على بصيرة ويباشر بقوّة نفس. قوله : (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) الذكرى : التذكير. قال البصريون : الذكرى : في محل رفع على إضمار مبتدأ. وقال الكسائي : هي في محل رفع عطفا على كتاب ، ويجوز النصب على المصدر ، أي : وذكر به ذكرى ، قاله البصريون. ويجوز الجر حملا على موضع لتنذر ، أي : للإنذار والذكرى ، وتخصيص الذكرى بالمؤمنين لأنهم الذين ينجع فيهم ذلك ، وفيه إشارة إلى تخصيص الإنذار بالكافرين. قوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني : الكتاب ومثله السنة لقوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١) ونحوها من الآيات ، وهو أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته ؛ وقيل : هو أمر للأمة بعد أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتبليغ ، وهو منزل إليهم بواسطة إنزاله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) نهي للأمة عن أن يتبعوا أولياء من دون الله يعبدونهم ويجعلونهم شركاء لله ، فالضمير على هذا في (مِنْ دُونِهِ) يرجع إلى ربّ ، ويجوز أن يرجع إلى (ما) في (ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) ، أي : لا تتبعوا من دون كتاب الله أولياء تقلدونهم في دينكم كما كان يفعله أهل الجاهلية من طاعة الرؤساء فيما يحللونه لهم ويحرمونه عليهم. قوله : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) انتصاب قليلا على أنه صفة لمصدر محذوف للفعل المتأخر ، أي : تذكرا قليلا ، وما : مزيدة للتوكيد أو هو منتصب على الحال من فاعل لا تتبعوا ، وما : مصدرية ، أي : لا تتبعوا من دونه أولياء قليلا تذكرهم ، قرئ تذكرون بالتخفيف بحذف إحدى التاءين ، وقرئ بالتشديد على الإدغام ، قوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) كم : هي الخبرية المفيدة للتكثير وهي في موضع رفع على الابتداء و (أَهْلَكْناها) الخبر ، ومن قرية : تمييز ، ويجوز أن تكون في محل نصب بإضمار فعل بعدها لا قبلها ، لأن لها صدر الكلام ، ولو لا اشتغال أهلكناها بالضمير لجاز انتصاب كم به ، والقرية : موضع اجتماع الناس ، أي : كم من قرية من القرى الكبيرة أهلكناها نفسها بإهلاك أهلها ، أو أهلكنا أهلها ، والمراد : أردنا إهلاكها. قوله : (فَجاءَها بَأْسُنا) معطوف على أهلكنا بتقدير الإرادة كما مرّ ، لأن ترتيب مجيء البأس على الإهلاك لا يصح إلا بهذا التقدير ، إذ الإهلاك هو نفس مجيء البأس. وقال الفراء : إن الفاء بمعنى الواو فلا يلزم التقدير ، والمعنى : أهلكناها وجاءها بأسنا ، والواو لمطلق الجمع لا ترتيب فيها ؛ وقيل : إن الإهلاك واقع لبعض أهل القرية ؛ فيكون المعنى : وكم من قرية أهلكنا بعض أهلها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع ؛ وقيل المعنى : وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا ؛ وقيل : أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها فجاءها بأسنا ، والبأس : هو العذاب. وحكي عن الفراء أنه إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت فيكون المعنى : وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها ، مثل دنا فقرب ، وقرب فدنا (بَياتاً) أي : ليلا ، لأنه يبات فيه ، يقال : بات يبيت بيتا وبياتا ، وهو مصدر واقع موقع الحال ، أي : بائتين. قوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) معطوف على بياتا ، أي : بائتين أو قائلين ، وجاءت الجملة الحالية بدون واو استثقالا لاجتماع الواوين ، واو العطف وواو الحال ، هكذا قال الفراء. واعترضه الزجاج فقال : هذا خطأ بل لا يحتاج إلى الواو ، تقول : جاءني زيد راكبا أو هو ماش لأن في الجملة ضميرا قد عاد إلى الأوّل ، وأو في هذا الموضع :

__________________

(١). الحشر : ٧.

٢١٤

للتفصيل لا للشك. والقيلولة : هي نوم نصف النهار. وقيل : هي مجرد الاستراحة في ذلك الوقت لشدّة الحرّ من دون نوم ، وخص الوقتين لأنهما وقت السكون والدعة فمجيء العذاب فيهما أشدّ وأفظع. قوله : (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا : إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) الدعوى : الدعاء ، أي : فما كان دعاؤهم ربهم عند نزول العذاب إلا اعترافهم بالظلم على أنفسهم ، ومثله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) (١) أي : آخر دعائهم ؛ وقيل : الدعوى هنا بمعنى الادّعاء ، والمعنى : ما كان ما يدّعونه لدينهم وينتحلونه إلا اعترافهم ببطلانه وفساده ، واسم كان (إِلَّا أَنْ قالُوا) وخبرها (دَعْواهُمْ) ويجوز العكس ؛ والمعنى : ما كان دعواهم إلا قولهم : إنا كنا ظالمين. قوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) هذا وعيد شديد ، والسؤال للقوم الذين أرسل الله إليهم الرسل من الأمم السالفة للتقريع والتوبيخ ، واللام لام القسم ، أي : لنسألنهم عما أجابوا به رسلهم عند دعوتهم ، والفاء : لترتيب الأحوال الأخروية على الأحوال الدنيوية (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) أي : الأنبياء الذين بعثهم الله ، أي : نسألهم عما أجاب به أممهم عليهم ومن أطاع منهم ومن عصى ؛ وقيل : المعنى : فلنسألن الذين أرسل إليهم : يعني : الأنبياء ، ولنسألن المرسلين : يعني الملائكة ، ولا يعارض هذا قول الله سبحانه : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٢) لما قدّمنا غير مرة أن الآخرة مواطن ، ففي موطن يسألون ، وفي موطن لا يسألون ، وهكذا سائر ما ورد مما ظاهره التعارض بأن أثبت تارة ونفى أخرى بالنسبة إلى يوم القيامة ، فإنه محمول على تعدّد المواقف مع طول ذلك اليوم طولا عظيما (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) أي : على الرسل والمرسل إليهم ما وقع بينهم عند الدعوة منهم لهم بعلم لا بجهل ، أي : عالمين بما يسرون وما يعلنون (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم في حال من الأحوال حتى يخفى علينا شيء مما وقع بينهم.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، وابن النجار في تاريخه ، عن ابن عباس في قوله : (المص) قال : أنا الله أفصل. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن هذا ونحوه من فواتح السور : قسم أقسم الله به ، وهي من أسماء الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (المص) قال : هو المصوّر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي في قوله : (المص) قال : الألف من الله ، والميم من الرحمن ، والصاد من الصمد. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال : معناه أنا الله الصّادق. ولا يخفى عليك أن هذا كلّه قول بالظن وتفسير بالحدس ، ولا حجّة في شيء من ذلك ، والحق ما قدّمنا في فاتحة سورة البقرة. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) قال : الشك ، وقال لأعرابيّ : ما الحرج فيكم؟ قال : اللبس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال : ضيق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود : ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم ، ثم قرأ (فَما كانَ دَعْواهُمْ) الآية. وأخرجه ابن جرير عنه مرفوعا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) قال : نسأل الناس عما أجابوا المرسلين ونسأل المرسلين عما بلغوا فلنقصنّ

__________________

(١). يونس : ١٠.

(٢). القصص : ٧٨.

٢١٥

عليهم بعلم قال : يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون. وأخرج عبد بن حميد عن فرقد في الآية قال : أحدهما الأنبياء ، وأحدهما الملائكة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : نسأل الناس عن قول لا إله إلا الله ونسأل جبريل.

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨))

قوله : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) الوزن : مبتدأ وخبره الحق ، أي : الوزن في هذا اليوم العدل الذي لا جور فيه ، أو الخبر : يومئذ ، والحق : وصف للمبتدأ ، أي : الوزن العدل كائن في هذا اليوم ؛ وقيل : إن الحق خبر مبتدأ محذوف.

واختلف أهل العلم في كيفية هذا الوزن الكائن في هذا اليوم ، فقيل : المراد به وزن صحائف أعمال العباد بالميزان وزنا حقيقيا ، وهذا هو الصحيح ، وهو الذي قامت عليه الأدلة ؛ وقيل : توزن نفس الأعمال وإن كانت أعراضا فإن الله يقلبها يوم القيامة أجساما كما جاء في الخبر الصحيح : «إن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صوافّ». وكذلك ثبت في الصحيح أنه يأتي القرآن في صورة شاب شاحب اللون ونحو ذلك ؛ وقيل : الميزان : الكتاب الذي فيه أعمال الخلق ؛ وقيل : الوزن والميزان : بمعنى العدل والقضاء ، وذكرهما من باب ضرب المثل ، كما تقول : هذا الكلام في وزن هذا. قال الزجاج : هذا سائغ من جهة اللسان ، والأولى أن نتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان. قال القشيري : وقد أحسن الزجّاج فيما قال ، إذ لو حمل الصراط على الدين الحقّ ، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد ، والشياطين والجنّ على الأخلاق المذمومة ، والملائكة على القوى المحمودة ، ثم قال : وقد أجمعت الأمة في الصدر الأوّل على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر وصارت هذه الظواهر نصوصا. انتهى. والحق هو القول الأوّل : وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فما يأتون في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه ، بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية ، وليس في ذلك حجة على أحد ، فهذا إذا لم تقبله عقولهم فقد قبلته عقول قوم هي أقوى

٢١٦

من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى جاءت البدع كالليل المظلم وقال كلّ ما شاء ، وتركوا الشّرع خلف ظهورهم وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ، ويتحد قبولهم لها ، بل كلّ فريق يدّعي على العقل ما يطابق هواه ، ويوافق ما يذهب إليه هو أو من هو تابع له ، فتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم ، يعرف هذا كلّ منصف ، ومن أنكره فليصفّ فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه.

وقد ورد ذكر الوزن والموازين في مواضع من القرآن كقوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) (١) ، وقوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٢) ، وقوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ـ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (٣) ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٤) ، وقوله : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ـ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ـ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ـ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٥) ، والفاء في (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) للتفصيل. والموازين : جمع ميزان ، وأصله موزان قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها ، وثقل الموازين هذا يكون بثقل ما وضع فيها من صحائف الأعمال ؛ وقيل : إن الموازين جمع موزون ، أي : فمن رجحت أعماله الموزونة ، والأوّل أولى. وظاهر جمع الموازين المضافة إلى العامل أن لكل واحد من العاملين موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله ؛ وقيل هو ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع كما يقال : خرج فلان إلى مكة على البغال ، والإشارة بقوله : (فَأُولئِكَ) إلى من ، والجمع باعتبار معناه ، كما رجع إليه ضمير (مَوازِينُهُ) باعتبار لفظه ، وهو مبتدأ ، خبره (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والكلام في قوله : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) مثله ، والباء في (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) سببية ، وما مصدرية. ومعنى (يَظْلِمُونَ) يكذبون. قوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي جعلنا لكم فيها مكانا ، وهيأنا لكم فيها أسباب المعايش. والمعايش جمع معيشة ، أي : ما يتعايش به من المطعوم والمشروب وما تكون به الحياة ، يقال : عاش يعيش عيشا ومعاشا ومعيشا. قال الزجاج : المعيشة ما يتوصلون به إلى العيش ، والمعيشة عند الأخفش وكثير من النحويين مفعلة. وقرأ الأعرج «معائش» بالهمز ، وكذا روى خارجة بن مصعب عن نافع. قال النحاس : والهمز لحن لا يجوز ، لأن الواحدة معيشة والياء أصلية كمدينة ومداين وصحيفة وصحايف. قوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) الكلام فيه كالكلام فيما تقدّم قريبا من قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٦). وقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) هذا ذكر نعمة أخرى من نعم الله على عبيده. والمعنى : خلقناكم نطفا ثم صوّرناكم بعد ذلك ، وقيل المعنى : خلقنا آدم من تراب ثم صورناكم في ظهره ؛ وقيل : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) يعني : آدم ، ذكر بلفظ الجمع لأنه أبو البشر (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) راجع إليه ، ويدلّ عليه (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فإنّ ترتيب هذا القول على الخلق والتصوير يفيد أن المخلوق المصوّر آدم عليه‌السلام. وقال الأخفش : إن ثم في (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) بمعنى الواو ؛ وقيل : المعنى : خلقناكم من ظهر آدم ثم صوّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق. قال النحاس : وهذا أحسن الأقوال ؛ وقيل المعنى : ولقد خلقنا الأرواح أوّلا ، ثم صوّرنا الأشباح ، ثم قلنا

__________________

(١). الأنبياء : ٤٧.

(٢). المؤمنون : ١٠١.

(٣). المؤمنون : ١٠٢ و ١٠٣.

(٤). النساء : ٤٠.

(٥). القارعة : ٦ ـ ٩.

(٦). الأعراف : ٣.

٢١٧

للملائكة اسجدوا لآدم ، أي : أمرناهم بذلك فامتثلوا الأمر ، وفعلوا السجود بعد الأمر (إِلَّا إِبْلِيسَ) قيل : الاستثناء متصل بتغليب الملائكة على إبليس لأنه كان منفردا بينهم ، أو كما قيل : لأن من الملائكة جنسا يقال لهم الجنّ ؛ وقيل غير ذلك ، وقد تقدّم تحقيقه في البقرة. قوله : (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) جملة مبينة لما فهم من معنى الاستثناء ومن جعل الاستثناء منقطعا قال معناه : لكن إبليس لم يكن من الساجدين ، وجملة (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل فماذا قال له الله؟ ولا في (أَلَّا تَسْجُدَ) زائدة للتوكيد بدليل قوله تعالى في سورة ص (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) (١) ؛ وقيل : إن منع بمعنى قال ، والتقدير : من قال لك أن لا تسجد؟ وقيل : منع بمعنى دعا ، أي : ما دعاك إلى أن لا تسجد؟ وقيل : في الكلام حذف ، والتقدير : ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى أن لا تسجد (إِذْ أَمَرْتُكَ) أي : وقت أمرتك ، وقد استدل به على أن الأمر للفور ، والبحث مقرر في علم الأصول ، والاستفهام في (ما مَنَعَكَ) للتقريع والتوبيخ ، وإلا فهو سبحانه عالم بذلك ، وجملة (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فما قال إبليس؟ وإنما قال في الجواب : أنا خير منه ، ولم يقل : منعني كذا ، لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة ما يدل على المانع وهو اعتقاده أنه أفضل منه. والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول مع ما تفيده هذه الجملة من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله. ثم علل ما ادّعاه من الخيرية بقوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) اعتقادا منه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين. وقد أخطأ عدوّ الله فإن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من جهة رزانته وسكونه وطول بقائه وهي خفيفة مضطربة سريعة النفاد ، ومع هذا فهو (٢) موجود في الجنة دونها ، وهي (٣) عذاب دونه ، وهي محتاجة إليه لتتحيز فيه ، وهو مسجد وطهور ، ولو لا سبق شقاوته (٤) وصدق كلمة الله عليه لكان له بالملائكة المطيعين لهذا الأمر أسوة وقدوة ، فعنصرهم النوري أشرف من عنصره الناري ، وجملة (قالَ فَاهْبِطْ) استئنافية كالتي قبلها ، والفاء لترتيب الأمر بالهبوط على مخالفته للأمر ، أي : اهبط من السماء التي هي محل المطيعين من الملائكة الذين لا يعصون الله فيما أمرهم إلى الأرض التي هي مقرّ من يعصي ويطيع ، فإن السماء لا تصلح لمن يتكبر ويعصي أمر ربه مثلك ، ولهذا قال : (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها). ومن التفاسير الباطلة ما قيل : إن معنى (فَاهْبِطْ مِنْها) أي اخرج من صورتك النارية التي افتخرت بها إلى صورة مظلمة مشوّهة ؛ وقيل : المراد هبوطه من الجنة ؛ وقيل : من زمرة الملائكة ، وجملة (فَاخْرُجْ) لتأكيد الأمر بالهبوط ، وجملة (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) تعليل للأمر ، أي : إنك من أهل الصغار والهوان على الله وعلى صالحي عباده ، وهكذا كل من تردّى برداء الاستكبار عوقب بلبس رداء الهوان والصغار. ومن لبس رداء التواضع ألبسه الله رداء الترفع ،

__________________

(١). ص : ٧٥.

(٢). أي : الطين.

(٣). أي : النار.

(٤). أي : إبليس.

٢١٨

وجملة (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) استئنافية كما تقدّم في الجمل السابقة ، أي : أمهلني إلى يوم البعث ، وكأنه طلب أن لا يموت ، لأن يوم البعث لا موت بعده ، والضمير في (يُبْعَثُونَ) لآدم وذريته ، فأجابه الله بقوله : (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي : الممهلين إلى ذلك اليوم ، ثم تعاقب بما قضاه الله لك ، وأنزله بك في دركات النار. قيل : الحكمة في إنظاره ابتلاء العباد ليعرف من يطيعه ممن يعصيه ، وجملة (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) مستأنفة كالجمل السابقة واردة جوابا لسؤال مقدّر ، والباء في (فَبِما) للسببية ، والفاء : لترتيب الجملة على ما قبلها ؛ وقيل : الباء للقسم كقوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (١) أي فبإغوائك إياي (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) والإغواء : الإيقاع في الغيّ ؛ وقيل : الباء بمعنى اللام ، وقيل : بمعنى مع. والمعنى : فمع إغوائك إياي ، وقيل ما في (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) للاستفهام. والمعنى : فبأي شيء أغويتني؟ والأوّل أولى. ومراده بهذا الإغواء الذي جعله سببا لما سيفعله مع العباد هو ترك السجود منه وأن ذلك كان بإغواء الله له ، حتى اختار الضلالة على الهدى ؛ وقيل : أراد به اللعنة التي لعنه الله ، أي : فبما لعنتني فأهلكتني لأقعدن لهم ، ومنه : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (٢) أي : هلاكا. وقال ابن الأعرابي : يقال غوى الرجل يغوي غيا : إذا فسد عليه أمره أو فسد هو في نفسه ، ومنه (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٣) أي : فسد عيشه في الجنة (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) أي لأجهدنّ في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسبب تركي السجود لأبيهم. والصراط المستقيم : هو الطريق الموصل إلى الجنة. وانتصابه على الظرفية ، أي : في صراطك المستقيم كما حكى سيبويه : ضرب زيد الظهر والبطن ، واللام في (لَأَقْعُدَنَ) لام القسم ، والباء (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) متعلقة بفعل القسم المحذوف ، أي : فبما أغويتني أقسم لأقعدنّ. قوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) ذكر الجهات الأربع لأنها هي التي يأتي منها العدو عدوّه ، ولهذا ترك ذكر جهة الفوق والتحت ، وعدى الفعل إلى الجهتين الأوليين بمن ، وإلى الأخريين بعن ، لأنّ الغالب فيمن يأتي من قدام وخلف أن يكون متوجها إلى ما يأتيه بكلية بدنه ، والغالب فيمن يأتي من جهة اليمين والشمال أن يكون منحرفا ، فناسب في الأوليين التعدية بحرف الابتداء ، وفي الأخريين التعدية بحرف المجاورة ، وهو تمثيل لوسوسته وتسويله بمن يأتي حقيقة ؛ وقيل المراد (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من دنياهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من آخرتهم (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) من جهة حسناتهم (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) من جهة سيئاتهم ، واستحسنه النحاس. قوله : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أي : وعند أن أفعل ذلك لا تجد أكثرهم شاكرين لتأثير وسوستي فيهم وإغوائي لهم ، وهذا قاله على الظنّ ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) (٤) ، وقيل : إنه سمع ذلك من الملائكة فقاله ، وعبر بالشكر عن الطاعة ، أو هو على حقيقته وأنهم لم يشكروا الله بسبب الإغواء ، وجملة (قالَ اخْرُجْ مِنْها) استئناف كالجمل التي قبلها ، أي : من السماء أو الجنة أو من بين الملائكة كما تقدّم (مَذْؤُماً) أي مذموما من ذأمه إذا ذمه يقال ذأمته وذممته بمعنى. وقرأ الأعمش «مذموما». وقرأ الزهري (مَذْؤُماً) بغير همزة ؛ وقيل : المذءوم : المنفي ، والمدحور : المطرود. قوله : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) قرأ الجمهور بفتح اللام على أنها لام القسم ، وجوابه (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)

__________________

(١). ص : ٨٢.

(٢). مريم : ٥٩.

(٣). طه : ١٢١.

(٤). سبأ : ٢٠.

٢١٩

وقيل اللام في (لَمَنْ تَبِعَكَ) للتوكيد ، وفي (لَأَمْلَأَنَ) لام القسم. والأوّل أولى ، وجواب القسم سدّ مسدّ جواب الشرط ، لأن من شرطية ، وفي هذا الجواب من التهديد ما لا يقادر قدره. وقرأ عاصم في رواية عنه (لَمَنْ تَبِعَكَ) بكسر اللام ، وأنكره بعض النحويين. قال النحاس : وتقديره والله أعلم : من أجل من اتبعك ، كما يقال : أكرمت فلانا لك ؛ وقيل : هو علة لأخرج ، وضمير (مِنْكُمْ) له ولمن اتبعه ، وغلب ضمير الخطاب على ضمير الغيبة ، والأصل منك ومنهم.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) قال : العدل (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) قال : حسناته (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) قال : حسناته. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي : توزن الأعمال. وقد ورد في كيفية الميزان والوزن والموزون أحاديث كثيرة. وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تسعة وتسعون سجلا ، كلّ سجل منها مدّ البصر ، فيقول : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول : لا ، يا ربّ! فيقول : أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول : لا ، يا ربّ ، فيقول : بلى ، إنّ لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقول : يا ربّ! ما هذه البطاقة مع هذه السّجلات؟ فيقال : إنك لا تظلم ، فتوضع السّجلات في كفة والبطاقة في كفّة ؛ فطاشت السّجلات وثقلت البطاقة» وقد صححه أيضا الترمذي ، وإسناد أحمد حسن. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) قال : خلقوا في أصلاب الرجال وصوّروا في أرحام النساء. وأخرج الفريابي عنه أنه قال : خلقوا في ظهر آدم ثم صوّروا في الأرحام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : أما خلقناكم : فآدم ، وأما ثم صوّرناكم : فذريته. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : خلق إبليس من نار العزّة. وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من نار ، وخلق آدم مما وصفه لكم». وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : أوّل من قاس إبليس في قوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وإسناده صحيح إلى الحسن. وأخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أوّل من قاس أمر الدّين برأيه إبليس ، قال الله له : اسجد لآدم ، فقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين» قال جعفر : فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله يوم القيامة بإبليس ؛ لأنه اتبعه بالقياس. وينبغي أن ينظر في إسناد هذا الحديث فما أظنه يصح رفعه وهو لا يشبه كلام النبوّة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أضللتني. وأخرج عبد ابن حميد عنه في قوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) قال : طريق مكة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس

٢٢٠