فتح القدير - ج ٢

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٢

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٢

ما أتوك به من شيء فخذه ، وهذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقة وتفصيلها. وأخرج ابن جرير والنحاس في ناسخه عن السدّي في الآية قال : الفضل من المال نسخته الزكاة. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : لما نزل (خُذِ الْعَفْوَ) الآية. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كيف بالغضب يا ربّ؟ فنزل (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ)». وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) قال : هم المؤمنون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) قال : الغضب. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الطيف : الغضب. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله (تَذَكَّرُوا) قال : إذا زلّوا تابوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : الطّائف : اللمّة من الشيطان (تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) يقول : فإذا هم منتهون عن المعصية آخذون بأمر الله عاصون للشيطان. (وَإِخْوانُهُمْ) قال : إخوان الشيطان (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) قال : لا الإنس يمسكون عما يعملون من السيئات ، ولا الشياطين تمسك عنهم ، و (إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) يقول : لو لا أحدثتها ، لو لا تلقّيتها فأنشأتها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) قال : هم الجنّ يوحون إلى أولياؤهم من الإنس (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) يقول : لا يسأمون (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) يقول : هلا افتعلتها من تلقاء نفسك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة في قوله (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) الآية قال : نزلت في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال : يعني في الصلاة المفروضة. وأخرج ابن مردويه والبيهقي عنه قال : صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ خلفه قوم فخلطوا ، فنزلت (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) الآية. فهذه في المكتوبة. قال : وإن كنّا لم نستمع لمن يقرأ بالأخفى من الجهر. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والبيهقي عن محمد بن كعب القرظي نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن عبد الله بن مغفل نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن ابن مسعود نحوه أيضا. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف ، وصرّحوا بأن هذه الآية نزلت في قراءة الصلاة من الإمام. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن في الآية قال : عند الصلاة المكتوبة ، وعند الذكر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال : في الصلاة وحين ينزل الوحي. وأخرج البيهقي عنه في الآية أنه قال : هذا في الصلاة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) الآية ، قال : أمره الله أن يذكره ، ونهاه عن الغفلة ، أما بالغدوّ : فصلاة الصبح ، والآصال : بالعشي. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صخر. قال : الآصال ما بين الظهر والعصر. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية قال : لا تجهر بذاك (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) بالبكر والعشيّ. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد

٣٢١

(بِالْغُدُوِّ) قال : آخر الفجر : صلاة الصّبح ، والآصال : آخر العشي ، صلاة العصر. والأحاديث والآثار عن الصحابة في سجود التلاوة ، وعدد المواضع التي يسجد فيها ، وكيفية السجود وما يقال فيه مستوفاة في كتب الحديث والفقه ، فلا نطوّل بإيراد ذلك هاهنا.

* * *

٣٢٢

سورة الأنفال

صرّح كثير من المفسرين بأنها مدنية ، ولم يستثنوا منها شيئا ، وبه قال الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء. وقد روي مثل هذا عن ابن عباس ، أخرجه النحّاس في ناسخه ، وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال : سورة الأنفال نزلت بالمدينة. وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير ، وأخرجه ابن مردويه أيضا عن زيد بن ثابت. وأخرج سعيد بن منصور والبخاري وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت في بدر. وفي لفظ تلك سورة بدر. قال القرطبي : قال ابن عباس هي مدنية إلا سبع آيات من قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخر سبع آيات ، وجملة آيات هذه السورة ست وسبعون آية ، وقد كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب ، كما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن أبي أيوب. وأخرج أيضا عن زيد بن ثابت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقرأ في الركعتين من المغرب بسورة الأنفال.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١))

الأنفال : جمع نفل محرّكا ، وهو : الغنيمة ، ومنه قول عنترة :

إنّا إذا احمرّ الوغى نروي القنا

ونعفّ عند مقاسم الأنفال

أي : الغنائم ، وأصل النفل : الزيادة ، وسميت الغنيمة به لأنها زيادة فيما أحلّ الله لهذه الأمة مما كان محرما على غيرهم ، أو لأنها زيادة على ما يحصل للمجاهد من أجر الجهاد ، ويطلق النفل على معان أخر منها : اليمين ، والانتفاء ، ونبت معروف. والنافلة التطوّع لكونها زائدة على الواجب. والنافلة : ولد الولد ، لأنه زيادة على الولد وكان سبب نزول الآية : اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في يوم بدر كما سيأتي بيانه فنزع الله ما غنموه من أيديهم وجعله لله والرسول ، فقال : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي حكمها مختص بهما يقسمها بينكم رسول الله عن أمر الله سبحانه وليس لكم حكم في ذلك.

وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الأنفال كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء حتى نزل قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ). ثم أمرهم بالتقوى ، وإصلاح ذات البين ، وطاعة الله والرسول بالتسليم لأمرهما ، وترك الاختلاف الذي وقع بينهم ، ثم قال : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : امتثلوا هذه الأوامر الثلاثة إن كنتم مؤمنين بالله ، وفيه من التهييج والإلهاب ما لا يخفى ، مع

٣٢٣

كونهم في تلك الحال على الإيمان فكأنه قال : إن كنتم مستمرّين على الإيمان بالله ، لأنّ هذه الثلاثة الأمور التي هي تقوى الله ، وإصلاح ذات البين ، وطاعة الله والرسول ، لا يكمل الإيمان بدونها ، بل لا يثبت أصلا لمن لم يمتثلها ، فإن من ليس بمتق وليس بمطيع لله ورسوله ليس بمؤمن.

وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن أبي أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النّفل ، وساءت فيه أخلاقنا. فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقسمه رسول الله بين المسلمين عن بواء ، يقول : عن سواء. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان ، والحاكم وصحّحه ، وأبو الشيخ وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشهدت معه بدرا ، فالتقى الناس فهزم الله العدوّ ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصيب العدوّ منه غرّة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ : لستم بأحق بها منا نحن نفينا عنه العدوّ وهزمناهم ، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّة فاشتغلنا به ، فنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) قسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المسلمين ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أغار في أرض العدوّ نفل الربع ، وإذا أقبل راجعا وكلّ الناس نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال ويقول : ليرد قويّ المسلمين على ضعيفهم. وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده ، وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية فنصرها الله وفتح عليها ، فكان من آتاه بشيء نفله من الخمس ، فرجع رجال كانوا يستقدمون ويقتلون ويأسرون وتركوا الغنائم خلفهم ، فلم ينالوا من الغنائم شيئا ، فقالوا : يا رسول الله! ما بال رجال منا يستقدمون ويأسرون ، وتخلف رجال لم يصلوا بالقتال فنفلتهم بالغنيمة؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزل (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) الآية ، فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ردّوا ما أخذتم ، واقتسموا بالعدل والسوية ؛ فإنّ الله يأمركم بذلك ، فقالوا : قد أنفقنا وأكلنا ، فقال : احتسبوا ذلك». وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن سعد بن أبي وقاص قال قلت : يا رسول الله! قد شفاني الله اليوم من المشركين ، فهب لي هذا السيف ، فقال : «إنّ هذا السيف لا لك ولا لي ، ضعه ، فوضعته ، ثم رجعت قلت : عسى يعطي هذا السيف اليوم من لا يبلى بلائي إذا رجل يدعوني من ورائي ، قلت : قد أنزل الله فيّ شيئا؟ قال : كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي ، وإنه قد وهب لي فهو لك» وأنزل الله هذه الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) وفي لفظ لأحمد أن سعدا قال : لما قتل أخي يوم بدر وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكنيفة فأتيت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ذكر نحو ما تقدّم وقد روي هذا الحديث

٣٢٤

عن سعد من وجوه أخر. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه : أن الناس سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنائم يوم بدر فنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ). وأخرج ابن مردويه عنه قال : لم ينفل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إذ نزلت عليه (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) إلا من الخمس فإنه نفل يوم خيبر من الخمس. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال لما كان يوم بدر قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا ، فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات ، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم ، فقالت المشيخة للشبان : أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردءا ، ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا ، فاختصموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) الآية ، فقسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنائم بينهم بالسوية». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) قال : الأنفال المغانم ، كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء ما أصاب من سرايا المسلمين من شيء أتوه به ، فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعطيهم منها شيئا فأنزل الله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ) لي جعلتها ولرسولي ليس لكم فيها شيء (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) إلى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ثم أنزل الله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية ، ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذي القربى واليتامى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ، وجعل أربعة أخماس الناس فيه سواء ، للفرس سهمان ، ولصاحبه سهم ، وللراجل سهم. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) قال : هي الغنائم ، ثم نسخها (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية. وأخرج مالك وابن أبي شيبة وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحّاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن الأنفال فقال : الفرس من النفل والسلب من النفل ، فأعاد المسألة فقال ابن عباس : هذا مثل ضبيع الذي ضربه عمر ؛ وفي لفظ : فقال : ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بضبيع العراقي ، وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : الأنفال المغانم ، أمروا أن يصلحوا ذات بينهم فيها فيرد القويّ على الضعيف. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ عن عطاء في قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) قال : هو ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال ، من عبد أو دابة أو متاع فذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع به ما شاء. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن عمرو قال : أرسلنا إلى سعيد ابن المسيب نسأله عن الأنفال فقال : تسألوني عن الأنفال وإنه لا نفل بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج عبد الرزاق عن سعيد أيضا قال : ما كانوا ينفلون إلا من الخمس وروى عبد الرزاق عنه أنه قال : لا نفل في غنائم المسلمين إلا في خمس الخمس. وأخرج عبد الرزاق عن أنس أن أميرا من الأمراء أراد أن ينفله قبل أن يخمسه فأبى أنس أن يقبله حتى يخمسه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الشعبي

٣٢٥

في قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) قال : ما أصابت السرايا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير والنحاس في ناسخه عن مجاهد وعكرمة قال : كانت الأنفال لله والرسول حتى نسخها آية الخمس (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد ، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) قال : هذا تخريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله وأن يصلحوا ذات بينهم حيث اختلفوا في الأنفال. وأخرج ابن أبي حاتم عن مكحول قال : كان صلاح ذات بينهم أن ردت الغنائم ، فقسمت بين من ثبت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين من قاتل وغنم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) قال : طاعة الرسول : اتّباع الكتاب والسّنّة.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

الوجل : الخوف والفزع ، والمراد : أنّ حصول الخوف من الله والفزع منه عند ذكره هو شأن المؤمنين الكاملي الإيمان ، المخلصين لله ، فالحصر باعتبار كمال الإيمان لا باعتبار أصل الإيمان. قال جماعة من المفسرين : هذه الآية متضمنة للتحريض على طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أمر به من قسمة الغنائم ، ولا يخفاك أن هذا وإن صحّ إدراجه تحت معنى الآية من جهة : أن وجل القلوب عند الذكر وزيادة الإيمان عند تلاوة آيات الله يستلزمان امتثال ما أمر به سبحانه من كون الأنفال لله والرسول ، ولكن الظاهر أن مقصود الآية هو إثبات هذه المزية لمن كمل إيمانه من غير تقييد بحال دون حال ، ولا بوقت دون وقت ، ولا بواقعة دون واقعة ، والمراد من تلاوة آياته : تلاوة الآيات المنزلة ، أو التعبير عن بديع صنعته وكمال قدرته في آياته التكوينية بذكر خلقها البديع وعجائبها التي يخشع عند ذكرها المؤمنون. قيل : والمراد بزيادة الإيمان ، هو زيادة انشراح الصدر ، وطمأنينة القلب ، وانثلاج الخاطر عند تلاوة الآيات ؛ وقيل : المراد بزيادة الإيمان : زيادة العمل ، لأن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ، والآيات المتكاثرة ، والأحاديث المتواترة ، ترد ذلك وتدفعه (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) لا على غيره ، والتوكل على الله : تفويض الأمر إليه في جميع الأمور ، والموصول في قوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) في محل رفع على أنه وصف للموصول الذي قبله ، أو بدل منه ، أو بيان له ، أو في محل نصب على المدح ، وخص إقامة الصلاة والصدقة لكونهما أصل الخير وأساسه ، و «من» في (مِمَّا) للتبعيض ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى المتصفين بالأوصاف المتقدّمة ، وهو مبتدأ وخبره (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) أي : أنّ هؤلاء هم الكاملون الإيمان ، البالغون فيه إلى أعلى درجاته وأقصى غاياته و (حَقًّا) مصدر مؤكّد لمضمون جملة هم المؤمنون ، أي : حق ذلك حقا ، أو صفة مصدر محذوف ، أي : هم المؤمنون إيمانا حقا ، ثم ذكر ما أعدّ لمن كان جامعا بين هذه الأوصاف من الكرامة فقال : (لَهُمْ دَرَجاتٌ) أي : منازل خير وكرامة وشرف في الجنة كائنة عند ربهم ، وفي كونها عنده سبحانه : تشريف لهم وتكريم وتعظيم وتفخيم ، وجملة (لَهُمْ

٣٢٦

دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبر ثان ل (أُولئِكَ) أو مستأنفة جوابا لسؤال مقدر ، (وَمَغْفِرَةٌ) معطوف على درجات ، أي : مغفرة لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) يكرمهم الله به من واسع فضله وفائض جوده.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) قال : فرقت قلوبهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ، ولا يتوكلون على الله ، ولا يصلون إذا غابوا ، ولا يؤدّون زكاة أموالهم ، فأخبر الله أنّهم ليسوا بمؤمنين ، ثم وصف المؤمنين فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) فأدّوا فرائضه. وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير وأبو الشيخ من طريق شهر بن حوشب عن أمّ الدرداء قالت : إنما الوجل في القلب كاحتراق السعفة يا شهر بن حوشب ، أما تجد قشعريرة؟ قلت : بلى ، قالت : فادع عندها فإن الدعاء يستجاب عند ذلك. وأخرج الحكيم الترمذي عن ثابت البناني قال : قال فلان : إني لأعلم متى يستجاب لي؟ قالوا : ومن أين لك؟ قال : إذا اقشعرّ جلدي ، ووجل قلبي ، وفاضت عيناي ، فذلك حين يستجاب لي. وأخرج أيضا عن عائشة قالت : ما الوجل في قلب المؤمن إلا كضرمة السّعفة ، فإذا وجل أحدكم فليدع عند ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في الآية قال : هو الرجل يريد أن يظلم ، أو يهمّ بمعصية فيقال له اتق الله فيجل قلبه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (زادَتْهُمْ إِيماناً) قال : تصديقا. وأخرج هؤلاء عن الربيع بن أنس في قوله : (زادَتْهُمْ إِيماناً) قال : خشية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يقول : لا يرجون غيره. وأخرجا عنه في قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) قال : برئوا من الكفر. وأخرج أبو الشيخ عنه (حَقًّا) قال : خالصا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (لَهُمْ دَرَجاتٌ) يعني : فضائل ورحمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (لَهُمْ دَرَجاتٌ) قال : أعمال رفيعة. وأخرج عبد ابن حميد وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : (لَهُمْ دَرَجاتٌ) قال : أهل الجنة بعضهم فوق بعض ، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه. ولا يرى الذي هو أسفل أنه فضل عليه أحد. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : (وَمَغْفِرَةٌ) قال : بترك الذنوب (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) قال : الأعمال الصالحة. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : إذا سمعتم الله يقول (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فهي الجنة.

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

٣٢٧

قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) قال الزجّاج : الكاف في موضع نصب ؛ أي : الأنفال ثابتة لك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ؛ أي : مثل إخراج ربك ، والمعنى : امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا ، لأنّ بعض الصحابة قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جعل لكل من أتى بأسير شيئا قال : بقي أكثر الناس بغير شيء ، فموضع الكاف نصب كما ذكرنا ، وبه قال الفراء وقال أبو عبيدة : هو قسم ، أي : والذي أخرجك ، فالكاف : بمعنى الواو ، وما : بمعنى الذي. وقال الأخفش سعيد بن مسعدة : المعنى أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك ربك. وقال عكرمة : المعنى : أطيعوا الله ورسوله كما أخرجك ربك ؛ وقيل : كما أخرجك متعلق بقوله : (لَهُمْ دَرَجاتٌ) أي : هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) الواجب له ، فأنجز وعدك وظفرك بعدوّك وأوفى لك ، ذكره النحاس واختاره ، وقيل : الكاف في «كما» كاف التشبيه على سبيل المجازاة كقول القائل لعبده : كما وجهتك إلى أعدائي فاستضعفوك ، وسألت مددا فأمددتك ، وقوّيتك ، وأزحت علتك ، فخذهم الآن ، فعاقبهم ؛ وقيل : إن الكاف في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الحال كحال إخراجك ، يعني : أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة ، مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب ، ذكره صاحب الكشاف ، وبالحق متعلق بمحذوف ، والتقدير : إخراجا متلبسا بالحق الذي لا شبهة فيه ، وجملة (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) في محل نصب على الحال ، أي : كما أخرجك في حال كراهتهم لذلك ، لأنه لما وعدهم الله إحدى الطائفتين : إما العير أو النفير ، رغبوا في العير لما فيها من الغنيمة ، والسلامة من القتال ، كما سيأتي بيانه ، وجملة (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) وما : في محل نصب على أنها حال بعد حال ، أو مستأنفة ، جواب سؤال مقدّر ، ومجادلتهم لما ندبهم إلى إحدى الطائفتين ، وفات العير ، وأمرهم بقتال النفير ، ولم يكن معهم كثير أهبة ، لذلك شق عليهم ، وقالوا : لو أخبرتنا بالقتال لأخذنا العدة وأكملنا الأهبة ، ومعنى : (فِي الْحَقِ) أي : في القتال بعد ما تبين لهم أنك لا تأمر بالشيء إلا بإذن الله ، أو بعد ما تبين لهم أن الله وعدهم بالظفر بإحدى الطائفتين ، وأن العير إذا فاتت ظفروا بالنفير ، و (بَعْدَ) ظرف ليجادلونك ، وما مصدرية ، أي : يجادلونك بعد ما تبين الحق لهم. قوله : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) الكاف : في محل نصب على الحال من الضمير في (لَكارِهُونَ) أي : حال كونهم في شدة فزعهم من القتال يشبهون حال من يساق ليقتل ، وهو مشاهد لأسباب قتله ، ناظر إليها ، لا يشك فيها. قوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) الظرف : منصوب بفعل مقدّر ، أي : واذكروا وقت وعد الله إياكم إحدى الطائفتين ، وأمرهم بذكر الوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث ، لقصد المبالغة ، والطائفتان : هما العير والنّفير ، وإحدى : هو ثاني مفعولي يعد ، و (أَنَّها لَكُمْ) بدل منه ، بدل اشتمال ، ومعناه : أنها مسخّرة لكم ، وأنكم تغلبونها ، وتغنمون منها ، وتصنعون بها ما شئتم من قتل وأسر وغنيمة ، لا يطيقون لكم دفعا ، ولا يملكون لأنفسهم منكم ضرا ولا نفعا ، وفي هذه الجملة تذكير لهم بنعمة من النعم التي أنعم الله عليهم. قوله : (وَتَوَدُّونَ) معطوف على (يَعِدُكُمُ) من جملة الحوادث التي أمروا بذكر وقتها (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) من الطائفتين ،

٣٢٨

وهي طائفة العير (تَكُونُ لَكُمْ) دون ذات الشوكة ، وهي طائفة النفير. قال أبو عبيدة : أي غير ذات الحدّ. والشوكة : السلاح ، والشوكة : النبت الذي له حدّ ، ومنه : رجل شائك السلاح ، أي : حديد السلاح ثم يقلب فيقال شاكي السلاح ؛ فالشوكة مستعارة من واحدة الشوك ، والمعنى : وتودّون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح ، وهي طائفة العير لأنها غنيمة صافية عن كدر القتال إذ لم يكن معها من يقوم بالدفع عنها. قوله : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) معطوف على (تَوَدُّونَ) وهو من جملة ما أمروا بذكر وقته ، أي : ويريد الله غير ما تريدون ، وهو أن يحقّ الحقّ بإظهاره لما قضاه من ظفركم بذات الشوكة. وقتلكم لصناديدهم ، وأسر كثير منهم ، واغتنام ما غنمتم من أموالهم التي أجلبوا بها عليكم وراموا دفعكم بها ، والمراد بالكلمات : الآيات التي أنزلها في محاربة ذات الشوكة ، ووعدكم منه بالظفر بها (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) الدابر : الآخر ، وقطعه عبارة عن الاستئصال. والمعنى : ويستأصلهم جميعا. قوله : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) هذه الجملة علة لما يريده الله ، أي : أراد ذلك ، أو يريد ذلك ليظهر الحق ويرفعه (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) ويضعه ، أو اللام متعلقة بمحذوف ، أي : فعل ذلك ليحق الحق ، وقيل : متعلق بيقطع ، وليس في هذه الجملة تكرير لما قبلها لأن الأولى لبيان التفاوت فيما بين الإرادتين ، وهذه لبيان الحكمة الداعية إلى ذلك ، والعلة المقتضية له ، والمصلحة المترتبة عليه ، وإحقاق الحق : إظهاره ، وإبطال الباطل : إعدامه (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) (١) ومفعول (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) محذوف ، أي : ولو كرهوا أن يحقّ الحق ويبطل الباطل ، والمجرمون : هم المشركون من قريش ، أو جميع طوائف الكفار. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : «قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن بالمدينة ، وبلغه أنّ عير أبي سفيان قد أقبلت فقال : ما ترون فيها لعلّ الله يغنمناها ويسلمنا ، فخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نتعادّ ، ففعلنا فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر ، فأخبرنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدّتنا ، فسرّ بذلك وحمد الله وقال : عدّة أصحاب طالوت ، فقال : ما ترون في قتال القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟ فقلنا : يا رسول الله! لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم ، إنما خرجنا للعير ، ثم قال : ما ترون في قتال القوم؟ فقلنا مثل ذلك ، فقال المقداد : لا تقولوا كما قال قوم موسى لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٢) فأنزل الله (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) إلى قوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين ، إما القوم وإما العير ، طابت أنفسنا ، ثم إنا اجتمعنا مع القوم فصففنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم إني أنشدك وعدك ، فقال ابن رواحة : يا رسول الله! إنّي أريد أن أشير عليك ـ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من أن يشير عليه ـ إنّ الله أجلّ وأعظم من أن تنشده وعده. فقال : يا بن رواحة! لأنشدنّ الله وعده ، فإنّ الله لا يخلف الميعاد ، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وجوه القوم فانهزموا ، فأنزل الله (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٣) فقتلنا وأسرنا ، فقال عمر : يا رسول الله! ما أرى أن يكون لك أسرى فإنما نحن داعون مؤلفون ، فقلنا : يا معشر الأنصار إنما يحمل عمر على ما قال حسد لنا ، فنام

__________________

(١). الأنبياء : ١٨.

(٢). المائدة : ٢٤.

(٣). الأنفال : ١٧.

٣٢٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم استيقظ فقال : ادعوا لي عمر ، فدعي له فقال : إن الله قد أنزل عليّ (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآية» ، وفي إسناده ابن لهيعة ، وفيه مقال معروف. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن مردويه عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبيه عن جدّه قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بدر حتى إذا كان بالرّوحاء خطب الناس فقال : كيف ترون؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله! بلغنا أنهم كذا وكذا ثم خطب الناس فقال : كيف ترون؟ فقال عمر مثل قول أبي بكر ، ثم خطب الناس فقال : كيف ترون؟ فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله! إيانا تريد؟ فو الذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ، ولا لي بها علم ، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرنّ معك ولا نكونن كالذين قالوا لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (١) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون ، ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره ، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له ، فصل حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت ، وعاد من شئت ، وسالم من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، فنزل القرآن على قول سعد (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) إلى قوله : (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) وإنما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد الغنيمة مع أبي سفيان فأحدث الله إليه القتال. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) قال : كذلك يجادلونك في خروج القتال. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) فقال : خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بدر (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) قال : لطلب المشركين (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) قال : هي عير أبي سفيان ، ودّ أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن العير كانت لهم ، وأن القتال صرف عنهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي : شأفتهم. ووقعة بدر قد اشتملت عليها كتب الحديث والسير والتاريخ مستوفاة فلا نطيل بذكرها.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)

قوله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) الظرف متعلق بمحذوف ، أي : واذكروا وقت استغاثتكم ؛ وقيل بدل من (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ) معمول لعامله ؛ وقيل متعلق بقوله : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) والاستغاثة : طلب الغوث ، يقال : استغاثني فلان فأغثته ، والاسم : الغياث ؛ والمعنى : أنّ المسلمين لما علموا أنه لا بدّ من قتال الطائفة ذات الشوكة وهم النفير ، كما أمرهم الله بذلك ، وأراده منهم ، ورأوا كثرة عدد النفير ، وقلّة عددهم ، استغاثوا بالله سبحانه ، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عدد المشركين يوم بدر ألف ، وعدد المسلمين ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى ذلك استقبل القبلة ، ثم

__________________

(١). المائدة : ٢٤.

٣٣٠

مدّ يديه فجعل يهتف بربّه : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» الحديث. (فَاسْتَجابَ لَكُمْ) عطف على تستغيثون داخل معه في التذكير ، وهو وإن كان مستقبلا فهو بمعنى الماضي ، ولهذا عطف عليه : استجاب. قوله : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) أي : بأني ممدكم ، فحذف حرف الجرّ وأوصل الفعل إلى المفعول ، وقرئ بكسر الهمزة على إرادة القول ، أو على أن في ، استجاب : معنى القول. قوله : (مُرْدِفِينَ) قرأ نافع بفتح الدال اسم مفعول ، وقرأ الباقون بكسرها اسم فاعل ، وانتصابه على الحال ، والمعنى على القراءة الأولى : أنه جعل بعضهم تابعا لبعض ، وعلى القراءة الثانية : أنهم جعلوا بعضهم تابعا لبعض ؛ وقيل : إن مردفين على القراءتين ، نعت لألف ، وقيل : إنه على القراءة الأولى حال من الضمير المنصوب في ممدكم ، أي : ممدكم في حال إردافكم بألف من الملائكة ، وقد قيل : إن ردف وأردف بمعنى واحد ، وأنكره أبو عبيدة قال لقوله تعالى : (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (١) ولم يقل المردفة ، قال سيبويه : وفي الآية قراءة ثالثة وهي «مردّفين» بضم الراء وكسر الدال مشدّدة. وقراءة رابعة بفتح الراء وتشديد الدال. وقرأ جعفر بن محمد وعاصم الجحدري «بآلاف» جمع ألف ، وهو الموافق لما تقدّم في آل عمران ، والضمير في (وَما جَعَلَهُ اللهُ) راجع إلى الإمداد المدلول عليه بقوله : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) ، (إِلَّا بُشْرى) أي : إلا بشارة لكم بنصره ، وهو استثناء مفرّغ ، أي : ما جعل إمدادكم لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بالنصر (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ) أي : بالإمداد (قُلُوبُكُمْ) ، وفي هذا إشعار بأن الملائكة لم يقاتلوا ، بل أمدّ الله المسلمين بهم للبشرى لهم وتطمين قلوبهم وتثبيتها ، واللام في لتطمئن : متعلقة بفعل محذوف يقدر متأخرا ، أي : ولتطمئن قلوبكم فعل ذلك لا لشيء آخر (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا من عند غيره ، ليس للملائكة في ذلك أثر ، فهو الناصر على الحقيقة ، وليسوا إلا سببا من أسباب النصر التي سببها الله لكم ، وأمدكم بها (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يغالب (حَكِيمٌ) في كلّ أفعاله.

وقد أخرج ابن جرير عن عليّ رضي الله عنه قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيها أبو بكر ، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا في الميسرة. وأخرج سنيد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال : ما أمدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأكثر من هذه الألف التي ذكر الله في الأنفال ، وما ذكر الثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف إلا بشرى. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (مُرْدِفِينَ) قال : متتابعين. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (مُرْدِفِينَ) يقول : المدد. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عنه أيضا في الآية قال : وراء كل ملك ملك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال : كان ألف مردفين وثلاثة آلاف منزلين ، فكانوا أربعة آلاف ، وهم مدد المسلمين في ثغورهم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (مُرْدِفِينَ) قال : مجدّين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : متتابعين أمدّهم الله بألف ثم بثلاثة ، ثم أكملهم خمسة آلاف (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) لكم (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) قال : يعني نزول الملائكة. قال : وذكر لنا أن عمر قال : أما يوم بدر فلا نشكّ أن الملائكة

__________________

(١). النازعات : ٧.

٣٣١

كانوا معنا وأما بعد ذلك فالله أعلم. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد (مُرْدِفِينَ) قال : بعضهم على أثر بعض.

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

قوله : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ) الظرف منصوب بفعل مقدّر كالذي قبله ، أو بدل ثان من إذ يعدكم ، أو منصوب بالنصر المذكور قبله ؛ وقيل غير ذلك مما لا وجه له ، و (يُغَشِّيكُمُ) هي قراءة نافع وأهل المدينة على أن الفاعل هو الله سبحانه ، وهذه القراءة هي المطابقة لما قبلها : أعني قوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ولما بعدها أعني (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ) فيتشاكل الكلام ويتناسب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو يغشاكم على أن الفاعل النعاس ، وقرأ الباقون (يُغَشِّيكُمُ) بفتح الغين وتشديد الشين ، وهي كقراءة نافع وأهل المدينة في إسناد الفعل إلى الله ، ونصب النعاس قال مكي : والاختيار ضم الياء والتشديد ، ونصب النعاس لأن بعده (أَمَنَةً مِنْهُ) والهاء في منه : لله فهو الذي يغشيهم النعاس ، ولأن الأكثر عليه ، وعلى القراءة الأولى والثالثة يكون انتصاب أمنة على أنها مفعول له. ولا يحتاج في ذلك إلى تأويل وتكلف ، لأن فاعل الفعل المعلل والعلة واحد بخلاف انتصابها على العلة ، باعتبار القراءة الثانية فإنه يحتاج إلى تكلف ، وأما على جعل الأمنة مصدرا فلا إشكال ، يقال أمن أمنة وأمنا وأمانا ، وهذه الآية تتضمن ذكر نعمة أنعم الله بها عليهم ، وهي أنهم مع خوفهم من لقاء العدوّ ، والمهابة لجانبه سكن الله قلوبهم وأمنها حتى ناموا آمنين غير خائفين ، وكان هذا النوم في الليلة التي كان القتال في غدها. قيل : وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان : أحدهما : أنه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد ، الثاني : أنه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم ؛ وقيل : إن النوم غشيهم في حال التقاء الصفين ، وقد مضى في يوم أحد نحو من هذا في سورة آل عمران. قوله : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) هذا المطر كان بعد النعاس ، وقيل : قبل النعاس. وحكى الزجّاج : أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر ، فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم ، فأنزل الله المطر ليلة بدر. والذي في سيرة ابن إسحاق وغيره أن المؤمنين هم الذين سبقوا إلى ماء بدر وأنه منع قريشا من السبق إلى الماء مطر عظيم ، ولم يصب المسلمين منه إلا ما شدّ لهم دهس الوادي (١) ، وأعانهم على المسير ، ومعنى (لِيُطَهِّرَكُمْ

__________________

(١). الدهس : الأرض يثقل فيها المشي للينها.

٣٣٢

بِهِ) ليرفع عنكم الأحداث (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي : وسوسته لكم ، بما كان قد سبق إلى قلوبهم من الخواطر التي هي منه ، من الخوف والفشل ، حتى كانت حالهم حال من يساق إلى الموت (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) فيجعلها صابرة قوية ثابتة في مواطن الحرب ، والضمير في (بِهِ) من قوله : (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) راجع إلى الماء الذي أنزله الله ، أي : يثبت بهذا الماء الذي أنزله عليكم عند الحاجة إليه أقدامكم في مواطن القتال ؛ وقيل : الضمير راجع إلى الرابط المدلول عليه بالفعل. قوله : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) الظرف منصوب بفعل محذوف خاص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لا يقف على ذلك سواه ، أي : واذكر يا محمد وقت إيحاء ربك إلى الملائكة ؛ وقيل : هو بدل من (إِذْ يَعِدُكُمُ) كما تقدّم ، ولكنه يأبى ذلك أن هذا لا يقف عليه المسلمون فلا يكون من جملة النعم التي عدّدها الله عليهم ؛ وقيل : العامل فيه يثبت فيكون المعنى : يثبت الأقدام وقت الوحي وليس لهذا التقييد معنى ، وقيل : العامل فيه (لِيَرْبِطَ) ولا وجه لتقييد الربط على القلوب بوقت الإيحاء ، ومعنى الآية : أني معكم بالنصر والمعونة ، فعلى قراءة الفتح للهمزة هو مفعول (يُوحِي) وعلى قراءة الكسر يكون بتقدير القول. ومعنى (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) بشروهم بالنصر أو ثبتوهم على القتال بالحضور معهم ، وتكثير سوادهم ، وهذا أمر منه سبحانه للملائكة الذين أوحى إليهم بأنه معهم ، والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها. قوله : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) قد تقدّم بيان معنى إلقاء الرعب في آل عمران ، قيل : هذه الجملة تفسير لقوله : (أَنِّي مَعَكُمْ). قوله : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) قيل : المراد الأعناق أنفسها و (فَوْقَ) زائدة. قاله الأخفش وغيره. وقال محمد بن يزيد : هذا خطأ ، لأن فوق يفيد معنى فلا يجوز زيادتها ولكن المعنى أنه أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها ؛ وقيل المراد بما فوق الأعناق : الرؤوس ؛ وقيل : المراد بفوق الأعناق : أعاليها لأنها المفاصل الذي يكون الضرب فيها أسرع إلى القطع. قيل : وهذا أمر للملائكة ، وقيل : للمؤمنين ، وعلى الأوّل قيل : هو تفسير لقوله : (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا). قوله : (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) قال الزجّاج : واحد البنان بنانة ، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء ، والبنان مشتق من قولهم : أبّن الرجل بالمكان : إذا أقام به ، لأنه يعمل بها ما يكون للإقامة والحياة ؛ وقيل : المراد بالبنان هنا : أطراف الأصابع من اليدين والرجلين ، وهو عبارة عن الثبات في الحرب ، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء. قال عنترة :

وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها

ويضرب عند الكرب كلّ بنان

وقال عنترة أيضا :

وإنّ الموت طوع يدي إذا ما

وصلت بنانها بالهندواني

قال ابن فارس : البنان : الأصابع ، ويقال : الأطراف ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما وقع عليهم من القتل ، ودخل في قلوبهم من الرعب ، وهو مبتدأ ، و (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) خبره ، أي : ذلك بسبب مشاقتهم ، والشقاق أصله : أن يصير كل واحد من الخصمين في شق ، وقد تقدّم تحقيق ذلك (وَمَنْ

٣٣٣

يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) له ، يعاقبه بسبب ما وقع منه من الشقاق. قوله : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) الإشارة إلى ما تقدّم من العقاب ، أو الخطاب هنا للكافرين ، كما أن الخطاب في قوله : (ذلِكُمْ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يصلح للخطاب. قال الزجاج : ذلكم : رفع بإضمار الأمر أو القصة ، أي : الأمر أو القصة ذلكم فذوقوه. قال : ويجوز أن يضمر واعلموا. قال في الكشاف : ويجوز أن يكون نصبا على : عليكم ذلكم فذوقوه ، كقولك زيدا فاضربه. قال أبو حيان : لا يجوز تقدير عليكم ، لأنه اسم فعل ، وأسماء الأفعال لا تضمر ، وتشبيهه : بزيدا فاضربه ، غير صحيح لأنه لم يقدّر فيه : عليك ، بل هو من باب الاشتغال ، وجملة (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) معطوفة على ما قبلها ، فتكون الإشارة على هذا : إلى العقاب العاجل الذي أصيبوا به ويكون (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) : إشارة إلى العقاب الآجل.

وقد أخرج أبو يعلى ، والبيهقي في الدلائل ، عن عليّ قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي تحت شجرة حتى أصبح. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب في الآية قال : بلغنا أن هذه الآية أنزلت في المؤمنين يوم بدر ، فيما أغشاهم الله من النعاس أمنة منه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (أَمَنَةً مِنْهُ) قال : أمنا من الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (أَمَنَةً مِنْهُ) قال : رحمة منه ، أمنة من العدو. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : النعاس في الرأس ، والنوم في القلب. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا قال : كان النعاس أمنة من الله ، وكان النّعاس نعاسين : نعاس يوم بدر ، ونعاس يوم أحد. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب في قوله : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) قال : طش (١) كان يوم بدر. وأخرج هؤلاء عن مجاهد في الآية قال : المطر أنزله الله عليهم قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار ، والتبدت به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم. وأخرج ابن أبي حاتم وابن إسحاق عن عروة بن الزبير قال : بعث الله السّماء وكان الوادي دهسا ، وأصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ما لبد الأرض ولم يمنعهم المسير ، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : إن المشركين غلبوا المسلمين في أوّل أمرهم على الماء ، فظمئ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين ، فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء الله وتصلون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وثبتت أقدامهم ، وذهبت وسوسته. وقد قدّمنا المشهور في كتب السير المعتمدة أن المشركين لم يغلبوا المؤمنين على الماء بل المؤمنون هم الذين غلبوا عليه من الابتداء ، وهذا المرويّ عن ابن عباس في إسناده العوفي ، وهو ضعيف جدا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو

__________________

(١). قال في القاموس : الطّشّ والطّشيش : المطر الضعيف وهو فوق الرذاذ.

٣٣٤

الشيخ عن مجاهد في قوله : (رِجْزَ الشَّيْطانِ) قال : وسوسته. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) قال : بالصبر (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) قال : كان بطن الوادي دهاسا ، فلما مطروا اشتدت الرملة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) قال : حتى تشتدّ على الرمل وهو كهيئة الأرض. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن عليّ قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي تلك الليلة ويقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد» ، وأصابهم تلك الليلة مطر شديد فذلك قوله : (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ). وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : قال لي أبي : يا بنيّ! لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السّيف. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب على الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد احترق به. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) يقول : الرؤوس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطية (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) قال : اضربوا الأعناق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) يقول : اضربوا الرقاب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) قال : يعني بالبنان : الأطراف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطية (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) قال : كلّ مفصل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨))

الزحف : الدنوّ قليلا قليلا ، وأصله : الاندفاع على الإلية ، ثم سمّي كلّ ماش في الحرب إلى آخر : زاحفا ، والتزاحف : التداني والتقارب ، تقول : زحف إلى العدوّ زحفا ، وازدحف القوم : أي مشى بعضهم إلى بعض ، وانتصاب زحفا : إما على أنه مصدر لفعل محذوف : أي تزحفون زحفا ، أو على أنه حال من المؤمنين ، أي : حال كونكم زاحفين إلى الكفار ، أو حال من الذين كفروا : أي حال كون الكفار زاحفين إليكم ، أو حال من الفريقين أي متزاحفين (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) نهى الله المؤمنين أن ينهزموا عن الكفار إذا لقوهم وقد دبّ بعضهم إلى بعض للقتال ، فظاهر هذه الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن ، وعلى كل حال إلا حالة التحرّف والتحيز. وقد روي عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي نضرة وعكرمة ونافع والحسن وقتادة وزيد بن أبي حبيب والضحّاك : أنّ تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية مختصّ بيوم

٣٣٥

بدر ، وأن أهل بدر لم يكن لهم أن ينحازوا ، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين ، إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم ولا لهم فئة إلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض ، وبه قال أبو حنيفة. قالوا : ويؤيده قوله : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) فإنه إشارة إلى يوم بدر ؛ وقيل : إن هذه الآية منسوخة بآية الضعف. وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة ، وأنّ الفرار من الزحف محرّم ، ويؤيد هذا : أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر. وأجيب عن قول الأوّلين : بأن الإشارة في (يَوْمَئِذٍ) إلى يوم بدر : بأن الإشارة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق ، ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف ، بل هذه الآية مقيدة بها ، فيكون الفرار من الزحف محرما بشرط ما بينه الله في آية الضعف ، ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها ، فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخروج ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال. ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر ، كما في حديث «اجتنبوا السّبع الموبقات ، وفيه : والتولّي يوم الزّحف» ونحوه من الأحاديث ، وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه ، وهو مبين في مواطنه. قال ابن عطية : والأدبار : جمع دبر ، والعبارة بالدبر في هذه الآية ، متمكنة في الفصاحة لما في ذلك من الشناعة على الفارّ والذمّ له ، قوله : (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) التحرف : الزوال عن جهة الاستواء ، والمراد به هنا : التحرّف من جانب إلى جانب في المعركة طلبا لمكايد الحرب وخدعا للعدوّ ، وكمن يوهم أنه منهزم ليتبعه العدوّ فيكرّ عليه ويتمكن منه ، ونحو ذلك من مكائد الحرب فإن الحرب خدعة. قوله : (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أي : إلى جماعة من المسلمين غير الجماعة المقابلة للعدوّ ، وانتصاب متحرّفا ومتحيزا على الاستثناء من المولين ، أي : ومن يولهم دبره إلا رجلا منهم متحرّفا أو متحيزا ، ويجوز انتصابهما على الحال ، ويكون حرف الاستثناء لغوا لا عمل له ، وجملة (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) جزاء للشرط. والمعنى : من ينهزم ويفرّ من الزحف فقد رجع بغضب كائن من الله إلا المتحرّف والمتحيز (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أي : المكان الذي يأوي إليه هو النار : ففراره أوقعه إلى ما هو أشدّ بلاء مما فرّ منه وأعظم عقوبة. والمأوى : ما يأوي إليه الإنسان (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ما صار إليه من عذاب النار. وقد اشتملت هذه الآية على هذا الوعيد الشديد لمن يفرّ عن الزحف ، وفي ذلك دلالة على أنه من الكبائر الموبقة. قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) الفاء جواب شرط مقدّر ، أي : إذا عرفتم ما قصه الله عليكم من إمداده لكم بالملائكة ، وإيقاع الرعب في قلوبهم ، فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم ، بما يسره لكم من الأسباب الموجبة للنصر. قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) اختلف المفسّرون في هذا الرمي على أقوال : فروي عن مالك أن المراد به : ما كان منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يوم حنين ، فإنه رمى المشركين بقبضة من حصباء الوادي فأصابت كل واحد منهم ؛ وقيل : المراد به : الرمية التي رمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبيّ بن خلف بالحربة في عنقه فانهزم ومات منها ؛ وقيل : المراد به : السهم الذي رمى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حصن خيبر ، فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه ، وهذه الأقوال ضعيفة ، فإن الآية نزلت عقب وقعة بدر. وأيضا المشهور في كتب السير

٣٣٦

والحديث في قتل ابن أبي الحقيق أنه وقع على صورة غير هذه الصورة. والصحيح كما قال ابن إسحاق وغيره أن المراد بالرمي المذكور في هذه الآية : هو ما كان منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يوم بدر ، فإنه أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فأصابت كل واحد منهم ، ودخلت في عينيه ومنخريه وفمه. قال ثعلب : المعنى (وَما رَمَيْتَ) الفزع والرعب في قلوبهم (إِذْ رَمَيْتَ) بالحصباء فانهزموا (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أي : أعانك وأظفرك ، والعرب تقول : رمى الله لك ، أي : أعانك وأظفرك وصنع لك. وقد حكى مثل هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز. وقال محمد بن يزيد المبرد : المعنى : (وَما رَمَيْتَ) بقوّتك (إِذْ رَمَيْتَ) ولكنك بقوّة الله رميت ؛ وقيل المعنى : إن تلك الرمية بالقبضة من التراب التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة ، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر ، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم ، فأثبت الرمية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله عزوجل ، فكأنّ الله فاعل الرمية على الحقيقة ، وكأنها لم توجد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصلا ، هكذا في الكشاف. قوله : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) البلاء هاهنا : النعمة ؛ والمعنى : ولينعم على المؤمنين إنعاما جميلا ، واللام متعلقة بمحذوف ، أي : وللإنعام عليهم بنعمه الجميلة فعل ذلك لا لغيره ، أو الواو عاطفة لما بعدها على علة مقدرة قبلها ، أي : ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) لدعائهم عليم بأحوالهم ، والإشارة بقوله : ذلكم ، إلى البلاء الحسن ، وهو في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : الغرض (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) أي : إن الغرض منه سبحانه بما وقع مما حكته الآيات السابقة إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين ؛ وقيل : المشار إليه القتل والرمي. وقد قرئ بتشديد الهاء وتخفيفها مع التنوين. وقرأ الحسن بتخفيف الهاء مع الإضافة. والكيد : المكر ، وقد تقدّم بيانه.

وقد أخرج البخاري في تاريخه والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن نافع أنه سأل ابن عمر قال : إنا قوم لا نثبت عند قتال عدوّنا ، ولا ندري من الفئة ، أمامنا أو عسكرنا؟ فقال لي : الفئة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : إن الله يقول (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) قال : إنما نزلت هذه الآية في أهل بدر لا لقبلها ولا لبعدها. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والنحّاس في ناسخه ، وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري في قوله : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) الآية قال : إنها كانت لأهل بدر خاصة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال : لا تغرّنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكلّ مسلم. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في أهل بدر خاصة ما كان لهم أن ينهزموا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتركوه. وقد روي اختصاص هذه الآية بأهل بدر عن جماعة من التابعين ومن بعدهم وقد قدمنا الإشارة إلى ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) يعني مستطردا يريد الكرّة على المشركين (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) يعني : أو ينحاز إلى أصحابه من غير هزيمة (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) يقول : استوجبوا سخطا من الله (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فهذا يوم بدر خاصّة ،

٣٣٧

كأن الله شدّد على المسلمين يومئذ ليقطع دابر الكافرين وهو أوّل قتال قاتلوا فيه المشركين من أهل مكة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحّاك قال : المتحرف : المتقدّم من أصحابه أن يرى عورة من العدوّ فيصيبها. والمتحيّز : الفارّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره وأصحابه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عطاء بن أبي رباح في قوله : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) قال : هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) الآية. وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ، والبخاري في الأدب المفرد واللفظ له ، وأبو داود ، والترمذي وحسّنه ، وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ابن عمر قال : كنّا في غزاة فحاص الناس حيصة ، قلنا : كيف نلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فأتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل صلاة الفجر ، فخرج فقال : من القوم؟ فقلنا : نحن الفرّارون ، فقال : لا ، بل أنتم العكارون (١) ، فقبلنا يده فقال : أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ، ثم قرأ (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ). وقد روي في تحريم الفرار من الزحف ، وأنه من الكبائر أحاديث ، وورد عن جماعة من الصحابة أنه من الكبائر ، كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) قال لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال : هذا قتلت ، وهذا قتلت. (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) قال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين حصب الكفار. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) قال : رماهم يوم بدر بالحصباء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر سمعنا صوتا من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك الحصباء وقال : شاهت الوجوه ، فانهزمنا ، فذلك قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) الآية. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن جابر قال : سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست ، فلما اصطفّ النّاس أخذهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرمى بهنّ في وجوه المشركين ، فانهزموا ، فذلك قوله (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى). وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) قال : قال رسول الله لعليّ : ناولني قبضة من حصباء ، فناوله ، فرمى بها في وجوه القوم فما بقي أحد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء ، فنزلت هذه الآية (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال : لما كان يوم أحد أخذ أبيّ بن خلف يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعترض رجال من المسلمين لأبيّ بن خلف ليقتلوه. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استأخروا ، فاستأخروا ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حربته في يده

__________________

(١). قال في القاموس : العكّار : الكرار ، العطّاف.

٣٣٨

فرمى بها أبيّ بن خلف وكسر ضلعا من أضلاعه ، فرجع أبيّ بن خلف إلى أصحابه ثقيلا ، فاحتملوه حين ولوا قافلين ، فطفقوا يقولون لا بأس ، فقال أبيّ حين قالوا له ذلك : والله لو كانت بالناس لقتلتهم ، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله ، فانطلق به أصحابه ينعشونه حتى مات ببعض الطريق فدفنوه. قال ابن المسيب : وفي ذلك أنزل الله (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب والزهري نحوه ، وإسناده صحيح إليهما ، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك. قال ابن كثير : وهذا القول عن هذين الإمامين غريب جدا ، ولعلهما أرادا أن الآية تتناولهما بعمومها ، وهكذا قال فيما قال عبد الرحمن ابن جبير كما سيأتي ـ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم ابن أبي الحقيق دعا بقوس فرمى بها الحصن ، فأقبل السهم يهوي حتّى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه ، فأنزل الله (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى). وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أي : لم يكن ذلك برميتك لو لا الذي جعل الله من نصرك وما ألقى في صدور عدوّك حتى هزمهم (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي : ليعرف المؤمنين من نعمته عليهم في إظهارهم على عدوّهم مع كثرة عدوّهم وقلة عددهم ، ليعرفوا بذلك حقه ، ويشركوا بذلك نعمته.

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩))

الاستفتاح : طلب النّصر ، وقد اختلف في المخاطبين بالآية من هم؟ فقيل : إنها خطاب للكفار تهكما بهم ، والمعنى : إن تستنصروا الله على محمد ، فقد جاءكم النصر ، وقد كانوا عند خروجهم من مكة سألوا الله أن ينصر أحق الطائفتين بالنصر فتهكم الله بهم ، وسمّى ما حلّ بهم من الهلاك نصرا ؛ ومعنى بقية الآية على هذا القول (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عما كنتم عليه من الكفر والعداوة لرسول الله (فَهُوَ) أي : الانتهاء (خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا) إلى ما كنتم عليه من الكفر والعداوة (نَعُدْ) بتسليط المؤمنين عليكم ونصرهم كما سلطناهم ونصرناهم في يوم بدر (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ) أي : جماعتكم (شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) أي : لا تغني عنكم في حال من الأحوال ولو في حال كثرتها ، ثم قال (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ومن كان الله معه فهو المنصور ، ومن كان الله عليه فهو المخذول. وقرئ بكسر إن وفتحها فالكسر : على الاستئناف ، والفتح على تقدير : ولأن الله مع المؤمنين فعل ذلك. وقيل : إن الآية خطاب للمؤمنين ، والمعنى : إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر في يوم بدر ، وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم ، وفداء الأسرى قبل الإذن لكم بذلك ، فهو خير لكم ، وإن تعودوا إلى مثل ذلك ، نعد إلى توبيخكم كما في قوله (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) الآية ، ولا يخفى أنه يأبى هذا القول معنى (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً) ويأباه أيضا (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) وتوجيه ذلك لا يمكن إلا بتكليف وتعسف ، وقيل : إن الخطاب في (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) للمؤمنين ، وما بعده للكافرين ، ولا يخفى ما في هذا من تفكيك النّظم ، وعود الضمائر الجارية

٣٣٩

في الكلام على نمط واحد إلى طائفتين مختلفتين.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن مندة ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير أن أبا جهل قال حين التقى القوم : اللهم! أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة ، فكان ذلك استفتاحا منه فنزلت (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية قال : قال أبو جهل يوم بدر : اللهم انصر أهدى الفئتين ، وأفضل الفئتين ، وخير الفئتين ، فنزلت الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) يعني : المشركين ، أي : إن تستنصروا فقد جاءكم المدد. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) قال : كفار قريش في قولهم : ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه ، ففتح بينهم يوم بدر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة في قوله (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) قال : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء في يوم بدر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله (وَإِنْ تَنْتَهُوا) قال : عن قتال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) قال : إن تستفتحوا الثانية ، أفتح لمحمد (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) قال : مع محمد وأصحابه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) يقول : نعد لكم بالأسر والقتل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

أمر الله سبحانه المؤمنين بطاعته ، وطاعة رسوله ، ونهاهم عن التولّي عن رسوله ، فالضّمير في (عَنْهُ) عائد إلى الرسول ، لأن طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي من طاعة الله ، و (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ويحتمل أن يكون هذا الضمير راجعا إلى الله وإلى رسوله كما في قوله (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) وقيل : الضمير راجع إلى الأمر الذي دلّ عليه أطيعوا ، وأصل تولوا : تتولوا ، فطرحت إحدى التاءين ، هذا تفسير الآية على ظاهر الخطاب للمؤمنين ، وبه قال الجمهور ؛ وقيل : إنه خطاب للمنافقين ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط. قال ابن عطية : وهذا وإن كان محتملا على بعد فهو ضعيف جدّا ، لأن الله وصف من خاطبه في هذه الآية بالإيمان وهو التصديق ، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء ، وأبعد من هذا من قال : الخطاب لبني إسرائيل ، فإنه أجنبيّ من الآية ، وجملة (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) في محل نصب على الحال ، والمعنى : وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين ، وتصدقون بها ولستم كالصمّ البكم (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) وهم المشركون ، أو المنافقون ، أو اليهود ، أو الجميع من هؤلاء ، فإنّهم يسمعون بآذانهم من غير فهم ولا عمل ، فهم كالذي لم يسمع أصلا ، لأنه لم ينتفع بما سمعه. ثم أخبر سبحانه بأنّ (شَرَّ

٣٤٠