فتح القدير - ج ٢

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٢

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٢

مستأنفا من جهة الله سبحانه. قوله : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) الظرف معمول لفعل محذوف هو اذكر ، ويجوز أن يتعلق بنكص ، أو بزين ، أو بشديد العقاب ؛ قيل : المنافقون : هم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم الشاكون من غير نفاق ، بل لكونهم حديثي عهد بالإسلام فوافقوا المنافقين في قولهم بهذه المقالة ، أعني (غَرَّ هؤُلاءِ) أي : المسلمين (دِينُهُمْ) حتى تكلفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش ؛ وقيل الذين في قلوبهم مرض هم المشركون ، ولا يبعد أن يراد بهم اليهود الساكنون في المدينة وما حولها ، وأنهم هم والمنافقون من أهل المدينة قالوا هذا المقالة عند خروج المسلمين إلى بدر ، لما رأوهم في قلة من العدد وضعف من العدد ، فأجاب الله عليهم بقوله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يغلبه غالب ، ولا يذلّ من توكل عليه (حَكِيمٌ) له الحكمة البالغة التي تقصر عندها العقول.

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (وَاذْكُرُوا اللهَ) قال : افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون : عند الضّراب بالسيوف. وأخرج الحاكم وصححه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثنتان لا يردّان : الدعاء عند النّداء ، وعند البأس ، حين يلحم بعضهم بعضا». وأخرج الحاكم وصححه عن أبي موسى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكره الصوت عند القتال. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) يقول : لا تختلفوا فتجبنوا ويذهب نصركم. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) قال : نصركم ، وقد ذهب ريح أصحاب محمد حين نازعوه يوم أحد. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) الآية ، يعني المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر. وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدّفوف ، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في الآية قال : أبو جهل وأصحابه يوم بدر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر خرجوا ولهم بغي وفخر ، وقد قيل لهم : ارجعوا فقد انطلقت عيركم وقد ظفرتم ، فقالوا : لا والله ، حتى يتحدّث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا ، وذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يومئذ : «اللهم إن قريشا قد أقبلت بفخرها وخيلائها لتجادل رسولك» ، وذكر لنا أنه قال يومئذ : «جاءت من مكة أفلاذها». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) وأقبل جبريل على إبليس ، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده وولى مدبرا هو وشيعته ، فقال الرجال : يا سراقة إنك جار لنا فقال : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) وذلك حين رأى الملائكة (إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) قال : ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلّل الله المسلمين في أعين المشركين ، وقلّل المشركين في أعين المسلمين ،

٣٦١

فقال المشركون : وما هؤلاء؟ غرّ هؤلاء دينهم ، وإنما قالوا ذلك من قلّتهم في أعينهم وظنّوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك ، فقال الله (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). وأخرج الطبراني وأبو نعيم عن رفاعة بن رافع الأنصاري قال : لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه ، فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظنّ أنه سراقة بن مالك ، فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر ، ورفع يديه فقال : اللهم إني أسألك نظرتك إياي. وأخرج الواقدي وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) قال : ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة ، فعلم عدوّ الله أنه لا يدان له بالملائكة ، وقال : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) وكذب عدوّ الله ، ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوّة له به ولا منعة له. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن معمر قال : ذكروا أنهم أقبلوا على سراقة بن مالك بعد ذلك ، فأنكر أن يكون قال شيئا من ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) قال : وهم يومئذ في المسلمين. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبي في قوله : (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : هم قوم كانوا أقرّوا بالإسلام وهم بمكة ثم خرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا المسلمين قالوا : (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ). وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن الشعبي نحوه.

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤))

قوله : (وَلَوْ تَرى) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل من يصلح له ، كما تقدّم تحقيقه في غير موضع ، والمعنى : ولو رأيت ، لأن لو تقلب المضارع ماضيا ، و (إِذْ) ظرف لترى ، والمفعول محذوف ، أي : ولو ترى الكافرين وقت توفي الملائكة لهم ؛ قيل أراد بالذين كفروا : من لم يقتل يوم بدر ؛ وقيل هي فيمن قتل ببدر وجواب لو محذوف ، تقديره : لرأيت أمرا عظيما ، وجملة (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) في محل نصب على الحال ، والمراد بأدبارهم : أستاههم ، كني عنها بالأدبار ، وقيل : ظهورهم ؛ قيل : هذا الضرب يكون عند الموت كما يفيده ذكر التوفّي ، وقيل : هو يوم القيامة حين يسيرون بهم إلى النار. قوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) قاله الفراء : المعني : ويقولون ذوقوا عذاب الحريق ، والجملة معطوفة على يضربون ؛ وقيل إنه يقول لهم هذه المقالة خزنة جهنم ، والذوق قد يكون محسوسا ، وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار ، وأصله من

٣٦٢

الذوق بالفم ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم من الضرب والعذاب والباء في (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) سببية ، أي : ذلك واقع بسبب ما كسبتم من المعاصي ، واقترفتم من الذنوب ، وجملة (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : والأمر أنه لا يظلمهم ، ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة الواقعة خبرا لقوله : (ذلِكَ) وهي (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي : ذلك العذاب بسبب المعاصي ، وبسبب (أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) لأنه سبحانه قد أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وأوضح لهم السبيل ، وهداهم النجدين ، كما قال سبحانه : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١) قوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) لما ذكر الله سبحانه ما أنزله بأهل بدر ، أتبعه بما يدل على أن هذه سنته في فرق الكافرين ، والدأب : العادة ، والكاف : في محل الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف ، أي : دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). والمعنى : أنه جوزي هؤلاء كما جوزي أولئك ، فكانت العادة في عذاب هؤلاء كالعادة الماضية لله في تعذيب طوائف الكفر ، وجملة قوله : (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) مفسرة لدأب آل فرعون ، أي : دأبهم هذا هو أنهم كفروا بآيات الله ، فتسبب عن كفرهم أخذ الله سبحانه لهم ، والمراد بذنوبهم : معاصيهم المترتبة على كفرهم ، فيكون الباء في (بِذُنُوبِهِمْ) للملابسة ، أي : فأخذهم متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها ، وجملة (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) معترضة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى العقاب الذي أنزله الله بهم ، وهو مبتدأ وخبره ما بعده ، والجملة جارية مجرى التعليل لما حلّ بهم من عذاب الله. والمعنى : أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الأحوال والأخلاق بكفران نعم الله ، وغمط إحسانه ، وإهمال أوامره ونواهيه ، وذلك كما كان من آل فرعون ومن قبلهم ، ومن قريش ومن يماثلهم من المشركين ، فإن الله فتح لهم أبواب الخيرات في الدنيا ، ومنّ عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فقابلوا هذه النعم بالكفر فاستحقوا تغيير النعم ، كما غيروا ما كان يجب عليهم سلوكه ، والعمل به من شكرها وقبولها ، وجملة (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) معطوفة على (بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً) داخلة معها في التعليل ، أي : ذلك بسبب أن الله لم يك مغيرا إلخ ، وبسبب أن الله سميع عليم يسمع ما يقولونه ويعلم ما يفعلونه. وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف ، ثم كرّر ما تقدّم ، فقال (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) لقصد التأكيد ، مع زيادة أنه كالبيان للأخذ بالذنوب بأنه كان بالإغراق ؛ وقيل : إن الأوّل باعتبار ما فعله آل فرعون ومن شبه بهم ، والثاني باعتبار ما فعل بهم ؛ وقيل المراد بالأوّل كفرهم بالله ، وبالثاني تكذيبهم الأنبياء ؛ وقيل : غير ذلك مما لا يخلو عن تعسف ، والكلام في (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) كالكلام المتقدّم في : فأخذهم الله بذنوبهم (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) معطوف على أهلكناهم ، عطف الخاص على العام ، لفظاعته وكونه من أشدّ أنواع الإهلاك ، ثم حكم على كلا الطائفتين من آل فرعون والذين من قبلهم ، ومن كفار قريش بالظلم لأنفسهم ، بما تسببوا به لعذاب الله من الكفر بالله وآياته ورسله ، وبالظلم لغيرهم ، كما كان يجري منهم في معاملاتهم للناس بأنواع الظلم.

__________________

(١). النحل : ١١٨.

٣٦٣

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) قال : الذين قتلهم الله ببدر من المشركين. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : قال رجل : يا رسول الله! إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك ، قال : ذلك ضرب الملائكة. وهذا مرسل. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَأَدْبارَهُمْ) قال : وأستاههم ، ولكنّ الله كريم يكني. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) قال : نعمة الله : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنعم الله به على قريش فكفروا ، فنقله الله إلى الأنصار.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠))

قوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) أي : شرّ ما يدب على وجه الأرض (عِنْدَ اللهِ) أي : في حكمه (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : المصرّون على الكفر المتمادون في الضلال ، ولهذا قال : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي : إن هذا شأنهم لا يؤمنون أبدا ، ولا يرجعون عن الغواية أصلا ، وجعلهم شرّ الدوابّ ، لا شرّ الناس ، إيماء إلى انسلاخهم عن الإنسانية ودخولهم في جنس غير الناس من أنواع الحيوان ، لعدم تعقلهم لما فيه رشادهم. قوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) بدل من الذين كفروا ، أو عطف بيان ، أو في محل نصب على الذمّ. والمعنى : أن هؤلاء الكافرين الذين همّ شرّ الدوابّ عند الله هم هؤلاء الذين عاهدت منهم ، أي : أخذت منهم عهدهم (ثُمَ) هم (يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ) الذي عاهدتهم (فِي كُلِّ مَرَّةٍ) من مرّات المعاهدة (وَ) الحال أن (هُمْ لا يَتَّقُونَ) النقض ولا يخافون عاقبته ولا يتجنبون أسبابه ؛ وقيل : إن من في قوله (مِنْهُمْ) للتبعيض ، ومفعول عاهدت محذوف ، أي : الذين عاهدتهم ، وهم بعض أولئك الكفرة ، يعني : الأشراف منهم ، وعطف المستقبل ، وهو ثم ينقضون ، على الماضي ، وهو عاهدت للدلالة على استمرار النقض منهم ، وهؤلاء هم قريظة ، عاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يعينوا الكفار ، فلم يفوا بذلك ، كما سيأتي ، ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشدّة والغلظة عليهم ، فقال (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي : فإما تصادفنّهم في ثقاف (١) وتلقاهم في حالة تقدر عليهم فيها ، وتتمكن من غلبهم (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي : ففرّق

__________________

(١). قال القرطبي : تأسرهم وتجعلهم في ثقاف أو تلقاهم بحال ضعف.

٣٦٤

بقتلهم والتنكيل بهم من خلفهم من المحاربين لك من أهل الشرك ، حتى يهابوا جانبك ، ويكفوا عن حربك ، مخافة أن ينزل بهم ما نزل بهؤلاء. والثقاف في أصل اللغة : ما يشد به القناة أو نحوها ، ومنه قول النابغة :

تدعو قعينا وقد عضّ الحديد بها

عضّ الثّقاف على ضمّ الأنابيب

يقال ثقفته : وجدته ، وفلان ثقف : سريع الوجود لما يحاوله ، والتّشريد : التفريق مع الاضطراب. وقال أبو عبيدة (فَشَرِّدْ بِهِمْ) سمع بهم. وقال الزجاج : افعل بهم فعلا من القتل تفرّق به من خلفهم ، يقال شردت بني فلان : قلعتهم عن مواضعهم ، وطردتهم عنها ، حتى فارقوها. قال الشاعر :

أطوّف في الأباطح كلّ يوم

مخافة أن يشرّد بي حكيم

ومنه شرد البعير : إذا فارق صاحبه ، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ فشرذ بهم بالذال المعجمة. قال قطرب : التشريذ بالذال المعجمة : هو التنكيل ، وبالمهملة : هو التفريق. وقال المهدوي : الذال المعجمة لا وجه لها إلا أن تكون بدلا من الدال المهملة لتقاربهما. قال : ولا يعرف فشرّذ في اللغة ، وقرئ (مَنْ خَلْفَهُمْ) بكسر الميم والفاء. قوله (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) أي غشا ونقضا للعهد من القوم المعاهدين (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) أي : فاطرح إليهم العهد الذي بينك وبينهم (عَلى سَواءٍ) على طريق مستوية. والمعنى : أنه يخبرهم إخبارا ظاهرا مكشوفا بالنقض ولا يناجزهم الحرب بغتة ؛ وقيل : معنى : (عَلى سَواءٍ) على وجه يستوي في العلم بالنقض أقصاهم وأدناهم ، أو تستوي أنت وهم فيه. قال الكسائي : السواء العدل ، وقد يكون بمعنى الوسط ، ومنه قوله (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) (١) ، ومنه قول حسان :

يا ويح أنصار النّبيّ ورهطه

بعد المغيّب في سواء الملحد

ومن الأوّل قول الشاعر :

فاضرب وجوه الغدّر الأعداء

حتّى يجيبوك إلى السّواء

وقيل : معنى : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) على جهر ، لا على سرّ ، والظاهر أن هذه الآية عامة في كل معاهد يخاف من وقوع النقض منه. قال ابن عطية : والذي يظهر من ألفاظ القرآن ، أن أمر بني قريظة انقضى عند قوله : (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة ، وجملة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) تعليل لما قبلها ، يحتمل أن تكون تحذيرا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المناجزة قبل أن ينبذ إليهم على سواء ، ويحتمل أن تكون عائدة إلى القوم الذين تخاف منهم الخيانة. قوله ولا تحسبن قرأ ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالمثناة من فوق. فعلى القراءة الأولى يكون الذين كفروا : فاعل الحسبان ، ويكون مفعوله الأوّل : محذوفا ، أي : لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم ، ومفعوله الثاني : سبقوا ، ومعناه : فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم. وعلى القراءة الثانية : يكون الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومفعوله الأول : الذين كفروا ، والثاني : سبقوا ، وقرئ : إنهم سبقوا وقرئ يحسبن بكسر الياء ، وجملة (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) تعليل لما قبلها ، أي : إنهم لا يفوتون ، ولا

__________________

(١). الصافات : ٥٥.

٣٦٥

يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم. وقرأ ابن عامر : أنهم ، بفتح الهمزة ، والباقون بكسرها ، وكلا القراءتين مفيدة لكون الجملة تعليلية ؛ وقيل : المراد بهذه الآية : من أفلت من وقعة بدر من المشركين. والمعنى : أنهم وإن أفلتوا من هذه الوقعة ، ونجوا فإنهم لا يعجزون ، بل هم واقعون في عذاب الله في الدنيا أو في الآخرة. وقد زعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم أن قراءة من قرأ يحسبنّ بالتحتية لحن ، لا تحلّ القراءة بها ، لأنه لم يأت ليحسبنّ بمفعول ، وهو يحتاج إلى مفعولين. قال النحّاس : وهذا تحامل شديد. ومعنى هذه القراءة : ولا يحسبنّ من خلفهم الذين كفروا سبقوا ، فيكون الضمير يعود على ما تقدّم إلا أن القراءة بالتاء أبين. وقال المهدوي : يجوز على هذه القراءة أن يكون الذين كفروا فاعلا ، والمفعول الأوّل محذوف. والمعنى ولا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم سبقوا. قال مكي : ويجوز أن يضمر مع (سَبَقُوا) أن فتسدّ مسد المفعولين ، والتقدير : ولا يحسبنّ الذين كفروا أن سبقوا ، فهو مثل (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) (١) في سدّ أن مسدّ المفعولين ، ثم أمر سبحانه بإعداد القوّة للأعداء ، والقوّة : كل ما يتقوّى به في الحرب ، ومن ذلك السلاح والقسيّ. وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر يقول «وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ، ألا إنّ القوّة الرمي ، قالها ثلاث مرات» وقيل : هي الحصون ، والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متعين. قوله : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ). قرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة ومن ربط الخيل بضم الراء والباء ، ككتب : جمع كتاب. قال أبو حاتم : الرباط من الخيل : الخمس فما فوقها ، وهي الخيل التي ترتبط بإزاء العدو ، ومنه قول الشاعر :

أمر الإله بربطها لعدوّه

في الحرب إنّ الله خير موفّق

قال في الكشاف : والرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، ويجوز أن يسمّى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوز أن يكون جمع ربيط ، كفصيل وفصال ، انتهى. ومن فسر القوّة بكل ما يتقوّى به في الحرب جعل عطف الخيل من عطف الخاص على العام ، وجملة (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) في محل نصب على الحال ، الترهيب : التخويف ، والضمير في به عائد إلى (مَا) في (مَا اسْتَطَعْتُمْ) أو إلى المصدر المفهوم من (وَأَعِدُّوا) وهو الإعداد. والمراد بعدوّ الله وعدوّهم : هم المشركون من أهل مكة ، وغيرهم من مشركي العرب. قوله (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) معطوف على عدوّ الله وعدوّكم ، ومعنى من دونهم : من غيرهم ؛ قيل : هم اليهود ، وقيل فارس والروم ، وقيل : الجن ورجحه ابن جرير. وقيل : المراد بالآخرين من غيرهم ، كل من لا تعرف عداوته ، قاله السهيلي. وقيل : هم بنو قريظة خاصة ، وقيل : غير ذلك ، والأولى : الوقف في تعيينهم لقوله (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ). قوله (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : في الجهاد ، وإن كان يسيرا حقيرا (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) جزاؤه في الآخرة. فالحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة كما قرّرناه سابقا (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) في شيء من هذه النفقة التي تنفقونها في سبيل الله ، أي : من ثوابها بل يصير ذلك إليكم وافيا وافرا كاملا (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٢) (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) (٣).

__________________

(١). العنكبوت : ٢.

(٢). النساء : ٤٠.

(٣). آل عمران : ١٩٥.

٣٦٦

وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : نزلت (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) الآية في ستة رهط من اليهود فيهم ابن تابوت. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ) قال : قريظة يوم الخندق مالؤوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعداءه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) قال : نكّل بهم من بعدهم. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : نكّل بهم من وراءهم. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في الآية قال : أنذر بهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : عظ بهم من سواهم من الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : أخفهم بهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) يقول : لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك. وأخرج أبو الشيخ عن ابن شهاب قال : دخل جبريل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قد وضعت السلاح ، وما زلنا في طلب القوم ؛ فاخرج ، فإن الله أذن لك في قريظة ، وأنزل فيهم (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) قال : لا يفوتونا. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) قال : الرمي والسيوف والسلاح. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير في قوله (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) قال : أمرهم بإعداد الخيل. وأخرج أبو الشيخ ، والبيهقي في الشعب ، عن عكرمة في الآية قال : القوّة ذكور الخيل ، والرباط الإناث. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في الآية قال : القوّة الحصون ، و (مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) قال : الإناث. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله ، (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) قال : تخزون به عدو الله وعدوكم. وقد ورد في استحباب الرمي وما فيه من الأجر أحاديث كثيرة. وكذلك ورد في استحباب اتّخاذ الخيل وإعدادها ، وكثرة ثواب صاحبها ، أحاديث لا يتّسع المقام لبسطها. وقد أفرد ذلك جماعة من العلماء بمصنفات.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣))

الجنوح : الميل ، يقال : جنح الرجل إلى الرجل : مال إليه ؛ ومنه قيل للأضالع : جوانح ، لأنها مالت إلى الحنوّة ، وجنحت الإبل : إذا مالت أعناقها في السير ، ومنه قول ذي الرّمّة :

إذا مات فوق الرّحل أحييت روحه

بذكراك والعيس المراسيل جنّح

ومثله قول النابغة :

٣٦٧

جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله

إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب

يعني : الطير ، والسلم : الصلح. قرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل بكسر السين ، وقرأ الباقون بفتحها. وقرأ العقيلي (فَاجْنَحْ) بضم النون ، وقرأ الباقون بفتحها. والأولى : لغة قيس ، والثانية : لغة تميم. قال ابن جني : ولغة قيس : هي القياس ، والسلم تؤنث كما تؤنث الحرب ، أو هي مؤوّلة بالخصلة ، أو الفعلة.

وقد اختلف أهل العلم هل هذه الآية منسوخة أم محكمة؟ فقيل : هي منسوخة بقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) وقيل : ليست بمنسوخة ، لأن المراد بها قبول الجزية ، وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم ، فتكون خاصة بأهل الكتاب ؛ وقيل : إن المشركين إن دعوا إلى الصلح جاز أن يجابوا إليه ، وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ) (١) وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزّة وقوّة ، لا إذا لم يكونوا كذلك ، فهو جائز ، كما وقع منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مهادنة قريش ، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك ، وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف ، مقرّر في مواطنه (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في جنوحك للسلم ولا تخف من مكرهم ، ف (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ السَّمِيعُ) لما يقولون (الْعَلِيمُ) بما يفعلون (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) بالصلح ، وهم مضمرون الغدر والخدع (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) أي : كافيك ما تخافه من شرورهم بالنكث والغدر ، وجملة (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) تعليلية ، أي : لا تخف من خدعهم ومكرهم فإن الله الذي قوّاك عليهم بالنصر فيما مضى ، وهو يوم بدر ، هو الذي سينصرك ، ويقوّيك عليهم عند حدوث الخدع والنكث ، والمراد بالمؤمنين : المهاجرون والأنصار ، ثم بين كيف كان تأييده بالمؤمنين فقال (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) وظاهره العموم ، وأن ائتلاف قلوب المؤمنين ، هو من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله. وقال جمهور المفسرين : المراد : الأوس ، والخزرج ، فقد كان بينهم عصبية شديدة ، وحروب عظيمة ، فألف الله بين قلوبهم بالإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار ، والحمل على العموم أولى ، فقد كانت العرب قبل البعثة المحمدية يأكل بعضهم بعضا ، ولا يحترم ماله ، ولا دمه ، حتى جاء الإسلام ، فصاروا يدا واحدة ، وذهب ما كان بينهم من العصبية ، وجملة (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) مقرّرة لمضمون ما قبلها. والمعنى : أن ما كان بينهم من العصبية والعداوة ، قد بلغ إلى حدّ لا يمكن دفعه بحال من الأحوال ، ولو أنفق الطالب له جميع ما في الأرض لم يتم له ما طلبه من التأليف ، لأن أمرهم في ذلك قد تفاقم جدّا (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) بعظيم قدرته وبديع صنعه (إِنَّهُ عَزِيزٌ) لا يغالبه مغالب ، ولا يستعصي عليه أمر من الأمور (حَكِيمٌ) في تدبيره ونفوذ نهيه وأمره.

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) قال : قريظة. وأخرج أبو الشيخ عن السدّي في الآية قال : نزلت في بني قريظة ، نسختها (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) إلى

__________________

(١). محمد : ٣٥.

٣٦٨

آخر الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : السلم : الطاعة. وأخرج أبو الشيخ عنه في الآية قال : إن رضوا فارض. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية قال : إن أرادوا الصّلح فأرده. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : نسختها هذه الآية (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (١) إلى قوله : (وَهُمْ صاغِرُونَ). وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ عن قتادة قال : ثم نسخ ذلك (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٢). وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) قال : قريظة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) قال : الأنصار. وأخرج ابن مردويه عن النعمان ابن بشير نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه أيضا وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال : مكتوب على العرش لا إله إلا الله ، أنا الله وحدي لا شريك لي ، ومحمد عبدي ورسولي أيدته بعلمي. وذلك قوله (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ). وأخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا والنسائي والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الآية. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ ، والبيهقي في شعب الإيمان ، واللفظ له عن ابن عباس قال : قرابة الرحم تقطع ، ومنّة المنعم تكفر ، ولم نر مثل تقارب القلوب ، يقول الله : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الآية. وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم والبيهقي عنه نحوه ، وليس في هذا عن ابن عباس ما يدل على أنه سبب النزول ، ولكن الشأن في قول ابن مسعود رضي الله عنه : إن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله مع أن الواقع قبلها (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) والواقع بعدها (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ومع كون الضمير في قوله (ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) يرجع إلى المؤمنين المذكورين قبله بلا شك ولا شبهة ، وكذلك الضمير في قوله (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) فإن هذا يدلّ على أن التأليف المذكور هو بين المؤمنين الذين أيد الله بهم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ليس هذا تكريرا لما قبله ، فإن الأوّل مقيد بإرادة الخدع (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) هذه كفاية خاصة ، وفي قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) كفاية عامة غير مقيّدة ، أي : حسبك الله في كل حال ، والواو في قوله : (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) يحتمل أن تكون للعطف على الاسم الشريف. والمعنى : حسبك الله وحسبك المؤمنون ، أي : كافيك الله ،

__________________

(١). التوبة : ٢٩.

(٢). التوبة : ٥.

٣٦٩

وكافيك المؤمنون ، ويحتمل أن تكون بمعنى مع ، كما تقول : حسبك وزيدا درهم ، والمعنى : كافيك وكافي المؤمنين الله ، لأنّ عطف الظاهر على المضمر في مثل هذه الصورة ممتنع ، كما تقرّر في علم النحو ، وأجازه الكوفيون. قال الفرّاء : ليس بكثير في كلامهم أن تقول حسبك وأخيك ، بل المستعمل أن يقال : حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار ، فلو كان قوله : (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) مجرورا ، لقيل : حسبك أو حسب من اتبعك. واختار النصب على المفعول معه النحّاس. وقيل : يجوز أن يكون المعنى : ومن اتّبعك من المؤمنين حسبهم الله ، فحذف الخبر. قوله (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أي : حثّهم وحضّهم ، والتّحريض في اللغة : المبالغة في الحثّ ، وهو كالتحضيض ، مأخوذ من الحرض ، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفي على الموت ؛ كأنه ينسبه إلى الهلاك لو تخلف عن المأمور به ، ثم بشّرهم تثبيتا لقلوبهم وتسكينا لخواطرهم بأن الصابرين منهم في القتال يغلبون عشرة أمثالهم من الكفار ، فقال (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ثم زاد هذا إيضاحا مفيدا لعدم اختصاص هذه البشارة بهذا العدد ، بل هي جارية في كل عدد فقال (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً) وفي هذا دلالة على أن الجماعة من المؤمنين قليلا كانوا أو كثيرا لا يغلبهم عشرة أمثالهم من الكفار بحال من الأحوال ، وقد وجد في الخارج ما يخالف ذلك ، فكم من طائفة من طوائف الكفار يغلبون من هو مثل عشرهم من المسلمين ، بل مثل نصفهم بل مثلهم. وأجيب عن ذلك بأن وجود هذا في الخارج لا يخالف ما في الآية لاحتمال أن لا تكون الطائفة من المؤمنين متصفة بصفة الصبر ؛ وقيل : إن هذا الخبر والواقع في الآية في معنى الأمر ، كقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) (١) (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) (٢) فالمؤمنون كانوا مأمورين من جهة الله سبحانه بأن تثبت الجماعة منهم لعشرة أمثالهم ، ثم لما شق ذلك عليهم واستعظموه ، خفف عنهم ، ورخص لهم لما علمه سبحانه من وجود الضعف فيهم ، فقال : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) إلى آخر الآية ، فأوجب على الواحد أن يثبت لاثنين من الكفار. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم ضعفا بفتح الضاد. قوله (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) متعلق بقوله (يَغْلِبُوا) أي : إن هذا الغلب بسبب جهلهم وعدم فقههم ، وأنهم يقاتلون على غير بصيرة ؛ ومن كان هكذا فهو مغلوب في الغالب. وقد قيل في نكتة التّنصيص على غلب العشرين للمائتين. والمائة للألف أنّ سراياه التي كان يبعثها صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا ينقص عددها عن العشرين ، ولا يجاوز المائة ، وقيل في التنصيص فيما بعد ذلك على غلب المائة للمائتين والألف للألفين ، على أنه بشارة للمسلمين ، بأنّ عساكر الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف ، ثم أخبرهم بأنّ هذا الغلب هو بإذن الله وتسهيله وتيسيره لا بقوتهم وجلادتهم ، ثم بشرهم بأنه مع الصابرين ، وفيه الترغيب إلى الصبر ، والتأكيد عليهم بلزومه والتوصية به ، وأنه من أعظم أسباب النجاح والفلاح والنّصر والظفر ؛ لأنّ من كان الله معه لم يستقم لأحد أن يغلبه. وقد اختلف أهل العلم ، هل هذا التخفيف نسخ أم لا؟ ولا يتعلق بذلك كثير فائدة.

وقد أخرج البزار عن ابن عباس قال : لما أسلم عمر قال المشركون : قد انتصف القوم منّا اليوم ، وأنزل الله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن

__________________

(١). البقرة : ٢٣٣.

(٢). البقرة : ٢٢٨.

٣٧٠

ابن عباس قال : لما أسلم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسعة وثلاثون رجلا وامرأة ، ثم إنّ عمر أسلم صاروا أربعين ، فنزل (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال : لما أسلم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة وثلاثون ، وستّ نسوة ، ثم أسلم عمر نزلت (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ). وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن الزهري في الآية قال : نزلت في الأنصار. وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي في قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال : حسبك الله وحسب من اتّبعك. وأخرج البخاري وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فكتب عليهم أن لا يفرّ واحد من عشرة ، وأن لا يفرّ عشرون من مائتين ، ثم نزلت (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) الآية فكتب أن لا يفرّ مائة من مائتين ، قال سفيان وقال ابن شبرمة : وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا ، إن كانا رجلين أمرهما وإن كانوا ثلاثة فهو في سعة من تركهم. وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) شق على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفرّ واحد من عشرة ، فجاء التخفيف (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) الآية قال : فلما خفّف الله عنهم من العدّة نقص من الصبر بقدر ما خفّف عنهم.

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩))

هذا حكم آخر من أحكام الجهاد. ومعنى (ما كانَ لِنَبِيٍ) ما صح له وما استقام ، قرأ أبو عمرو وسهيل ويعقوب ويزيد ، والمفضل : أن تكون بالفوقية ، وقرأ الباقون بالتحتية ، وقرأ أيضا يزيد والمفضل أسارى وقرأ الباقون (أَسْرى) والأسرى : جمع أسير ، مثل : قتلى وقتيل ، وجرحى وجريح. ويقال : في جمع أسير أيضا : أسارى بضم الهمزة وبفتحها ، وهو مأخوذ من الأسر ، وهو القدّ ، لأنهم كانوا يشدّون به الأسير ، فسمّى كل أخيذ وإن لم يشدّ بالقدّ أسيرا. قال الأعشى :

وقيّدني الشّعر في بيته

كما قيّد الآسرات الحمارا

وقال أبو عمرو بن العلاء : الأسرى : هم غير الموثقين عند ما يؤخذون ، والأسارى : هم الموثقون ربطا. والإثخان : كثرة القتل ، والمبالغة فيه ؛ تقول العرب : أثخن فلان في هذا الأمر : أي بالغ فيه. فالمعنى : ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يبالغ في قتل الكافرين ، ويستكثر من ذلك ، وقيل : معنى الإثخان : التمكن ؛ وقيل : هو القوّة. أخبر الله سبحانه أن قتل المشركين يوم بدر كان أولى من أسرهم ، وفدائهم ، ثم لما كثر المسلمون رخص الله في ذلك فقال : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) (١) كما يأتي في سورة القتال إن شاء الله. قوله

__________________

(١). محمد : ٤.

٣٧١

(تُرِيدُونَ عَرَضَ) الحياة (الدُّنْيا) أي : نفعها ومتاعها بما قبضتم من الفداء ؛ وسمي عرضا : لأنه سريع الزوال كما تزول الأعراض التي هي مقابل الجواهر (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي : يريد لكم الدار الآخرة بما يحصل لكم من الثواب في الإثخان بالقتل ، وقرئ يريد الآخرة بالجر على تقدير مضاف وهو المذكور قبله ، أي : والله يريد عرض الآخرة (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغالب (حَكِيمٌ) في كل أفعاله. قوله (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) اختلف المفسرون في هذا الكتاب الذي سبق ما هو؟ على أقوال : الأوّل : ما سبق في علم الله من أنه سيحلّ لهذه الأمة الغنائم ، بعد أن كانت محرّمة على سائر الأمم. والثاني : أنه مغفرة الله لأهل بدر ، ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر ، كما في الحديث الصحيح : «إنّ الله اطّلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». القول الثالث : هو أنه لا يعذبهم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ، كما قال سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ). القول الرابع : أنه لا يعذب أحدا بذنب فعله جاهلا لكونه ذنبا. القول الخامس : أنه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر. القول السادس : أنه لا يعذب أحدا إلا بعد تأكيد الحجة ، وتقديم النهي ، ولم يتقدّم نهي عن ذلك. وذهب ابن جرير الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ ، وأنه يعمها (لَمَسَّكُمْ) أي : لحلّ بكم (فِيما أَخَذْتُمْ) أي : لأجل ما أخذتم من الفداء (عَذابٌ عَظِيمٌ) والفاء في (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) لترتيب ما بعدها على سبب محذوف ، أي : قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم ، ويجوز أن تكون عاطفة على مقدّر محذوف ؛ أي : اتركوا الفداء فكلوا مما غنمتم من غيره ؛ وقيل : إن ما عبارة عن الفداء ، أي : كلوا من الفداء الذي غنمتم ، فإنه من جملة الغنائم التي أحلها الله لكم و (حَلالاً طَيِّباً) منتصبان على الحال ، أو صفة المصدر المحذوف ، أي : أكلا حلالا طيبا (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما يستقبل ، فلا تقدموا على شيء لم يأذن الله لكم به (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فرط منكم (رَحِيمٌ) بكم ، فلذلك رخّص لكم في أخذ الفداء في مستقبل الزمان.

وقد أخرج أحمد عن أنس قال : استشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال : «إن الله قد أمكنكم منهم». فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله! أضرب أعناقهم!؟ فأعرض عنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم عاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم ؛ وإنما هم إخوانكم بالأمس» فقام عمر فقال : يا رسول الله! أضرب أعناقهم؟ فأعرض عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم عاد ، فقال مثل ذلك ، فقام أبو بكر الصديق فقال : يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء ، فعفا عنهم ، وقبل منهم الفداء ، فأنزل الله (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ، والترمذي وحسّنه ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدّلائل ، عن ابن مسعود قال : لمّا كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ترون في هؤلاء الأسارى»؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله! قومك وأهلك فاستبقهم لعلّ الله يتوب عليهم ؛ وقال عمر : يا رسول الله! كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدّمهم فاضرب أعناقهم ، وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا ، فقال العباس وهو يسمع : قطعت رحمك ، فدخل النبي

٣٧٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ولم يردّ عليهم شيئا ، فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال أناس : يأخذ بقول عمر ، وقال قوم : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدّد قلوب رجال فيه حتى تكون أشدّ من الحجارة ، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه‌السلام قال : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه‌السلام إذ قال : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢) ، ومثلك يا عمر مثل نوح عليه‌السلام إذ قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٣) ومثلك يا عمر مثل موسى عليه‌السلام إذ قال : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٤) ، أنتم عالة ، فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء! أو ضرب عنق ، فقال عبد الله : يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم ؛ حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إلا سهيل بن بيضاء ، فأنزل الله (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآية. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عليّ قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأسارى يوم بدر «إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتم واستمتعتم بالفداء ، واستشهد منكم بعدّتهم» فكان آخر السبعين ثابت بن قيس استشهد باليمامة. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة عن عبيدة نحوه. وأخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن عمر قال : لما أسر الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسر ، أسره رجل من الأنصار وقد وعدته الأنصار أن يقتلوه ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس. وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه ، فقال له عمر : فآتيهم؟ قال نعم. فأتى عمر الأنصار فقال : أرسلوا العباس ، فقالوا : لا والله لا نرسله. فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضا ، قالوا : فإن كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضا فخذه ، فأخذه عمر ، فلما صار في يده قال له : يا عباس أسلم ، فو الله إن تسلم أحبّ إليّ من أن يسلم الخطاب ، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبه إسلامك ، قال : فاستشار رسول الله أبا بكر فقال أبو بكر : عشيرتك فأرسلهم ، فاستشار عمر فقال : اقتلهم ، ففاداهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله ، (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) يقول حتى يظهروا على الأرض. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال : الإثخان هو القتل. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد أيضا في الآية قال : ثم نزلت الرّخصة بعد ، إن شئت فمنّ ، وإن شئت ففاد. وأخرج ابن المنذر عن قتادة (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) قال : أراد أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر الفداء ، ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) قال : الخراج. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) قال : سبق لهم المغفرة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : ما سبق لأهل بدر من السعادة. وأخرج النسائي وابن مردويه وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : سبقت لهم من الله الرحمة

__________________

(١). إبراهيم : ٣٦.

(٢). المائدة : ١١٨.

(٣). نوح : ٢٦.

(٤). يونس : ٨٨.

٣٧٣

قبل أن يعملوا بالمعصية. وأخرج أبو حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : سبق أن لا يعذّب أحدا حتى يبيّن له ويتقدّم إليه.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))

اختلاف القراء في أسرى والأسارى هو هنا كما سبق في الآية التي قبل هذه ، خاطب الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا : أي : قل لهؤلاء الأسرى الذين هم في أيديكم أسرتموهم يوم بدر وأخذتم منهم الفداء (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) من حسن إيمان ، وصلاح نية ، وخلوص طوية (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء : أي : يعوّضكم في هذه الدنيا رزقا خيرا منه ، وأنفع لكم ، أو في الآخرة بما يكتبه لكم من المثوبة بالأعمال الصالحة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) شأنه المغفرة لعباده ، والرحمة لهم ، ولما ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيرا ذكر من هو على ضدّ ذلك منهم فقال (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) بما قالوه لك بألسنتهم ، من أنهم قد آمنوا بك وصدّقوك ، ولم يكن ذلك منهم عن عزيمة صحيحة ونية خالصة ، بل هو مماكرة ومخادعة ، فليس ذلك بمستبعد منهم ، فإنهم قد فعلوا ما هو أعظم منه ، وهو أنّهم خانوا الله من قبل أن تظفر بهم ، فكفروا به وقاتلوا رسوله (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) بأن نصرك عليهم في يوم بدر ، فقتلت منهم من قتلت ، وأسرت من أسرت (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما في ضمائرهم (حَكِيمٌ) في أفعاله بهم.

وقد أخرج الحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، عن عائشة قالت : لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم ، بعثت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فداء أبي العاص ، وبعثت فيه بقلادة ، فلما رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رقّ رقّة شديدة وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وقال العباس : إني كنت مسلما يا رسول الله! قال : الله أعلم بإسلامك ، فإن تكن كما تقول فالله يجزيك ، فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو ، قال : ما ذاك عندي يا رسول الله! قال : فأين المال الذي دفنت أنت وأمّ الفضل؟ فقلت لها : إن أصبت فهذا المال لبنيّ؟ فقال : والله يا رسول الله! إن هذا لشيء ما علمه غيري وغيرها ، فاحسب لي ما أصبتم مني عشرون أوقية من مال كان معي ، قال : لا أفعل ، ففدى نفسه ، وابني أخويه ، وحليفه ، ونزلت : (قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) الآية ، فأعطاني مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبدا كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله. وأخرج ابن سعد ، والحاكم وصحّحه ، عن أبي موسى أن العلاء بن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمال من البحرين ثمانين ألفا ، فما أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مال أكثر منه ، فنشر على حصير ، وجاء الناس فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطيهم ، وما كان يومئذ عدد ولا وزن ، فجاء العباس فقال : يا رسول الله! إني أعطيت فدائي وفداء عقيل يوم بدر ، أعطني هذا المال. فقال : خذ ، فجثا في خميصته ، ثم ذهب ينصرف ، فلم يستطع ، فرفع

٣٧٤

رأسه وقال : يا رسول الله! ارفع عليّ. فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذهب وهو يقول : أما أحد اللذين وعد الله فقد أنجزنا وما ندري ما يصنع في الأخرى (قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) فهذا خير مما أخذ مني ، ولا أدري ما يصنع في المغفرة. والروايات في هذا الباب كثيرة ، وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في الأسارى يوم بدر منهم العباس بن عبد المطلب ، ونوفل بن الحارث ، وعقيل بن أبي طالب. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عنه في قوله : (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) إن كان قولهم كذبا (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) فقد كفروا وقاتلوك (فَأَمْكَنَ) ك الله (مِنْهُمْ).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

ختم الله سبحانه هذه السورة بذكر الموالاة ؛ ليعلم كلّ فريق وليه الذي يستعين به ، وسمّى سبحانه المهاجرين إلى المدينة بهذا الاسم ، لأنهم هجروا أوطانهم وفارقوها طلبا لما عند الله ، وإجابة لداعيه (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) هم الأنصار ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول الأوّل والآخر ، وهو مبتدأ وخبره الجملة المذكورة بعده ، ويجوز أن يكون (بَعْضُهُمْ) بدلا من اسم الإشارة ، والخبر (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي : بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة ، وقيل : المعنى : إن بعضهم أولياء بعض في الميراث. وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة ، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ). قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ ، وخبره (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة (مِنْ وَلايَتِهِمْ) بكسر الواو. وقرأ الباقون بفتحها ، أي : ما لكم من نصرتهم وإعانتهم ، أو من ميراثهم ، ولو كانوا من قراباتكم ؛ لعدم وقوع الهجرة منهم (حَتَّى يُهاجِرُوا) فيكون لهم ما كان للطائفة الأولى الجامعين بين الإيمان والهجرة (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) أي : هؤلاء الذين آمنوا ، ولم يهاجروا ، إذا طلبوا منكم النصرة لهم على المشركين (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) أي : فواجب عليكم النصر (إِلَّا) أن يستنصروكم (عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) فلا تنصروهم ، ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولئك القوم حتى تنقضي مدّته. قال الزجاج : ويجوز : فعليكم النصر ، بالنصب على الإغراء. قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ خبره (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي : بعضهم ينصر بعضا ، وتولاه في أموره ، أو يرثه إذا مات ، وفيه تعريض

٣٧٥

للمسلمين بأنهم لا يناصرون الكفار ولا يتولونهم. قوله : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) الضمير يرجع إلى ما أمروا به قبل هذا ، من موالاة المؤمنين ، ومناصرتهم على التفصيل المذكور ، وترك موالاة الكافرين (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ) أي : تقع فتنة إن لم تفعلوا ذلك (وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي : مفسدة كبيرة في الدّين والدّنيا ، ثم بين سبحانه حكما آخر يتعلق بالمؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل الله ، والمؤمنين الذين آووا من هاجر إليهم ونصروهم ، وهم الأنصار ، فقال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي الكاملون في الإيمان ، وليس في هذا تكرير لما قبله فإنه وارد في الثناء على هؤلاء ، والأوّل وارد في إيجاب الموالاة والنصرة ، ثم أخبر سبحانه أن (لَهُمْ) منه (مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم في الآخرة (وَ) لهم في الدنيا (رِزْقٌ كَرِيمٌ) خالص عن الكدر ، طيّب مستلذ ، ثم أخبر سبحانه بأن من هاجر بعد هجرتهم ، وجاهد مع المهاجرين الأوّلين والأنصار ، فهو من جملتهم ، أي : من جملة المهاجرين الأوّلين والأنصار في استحقاق ما استحقوه من الموالاة ، والمناصرة ، وكمال الإيمان ، والمغفرة ، والرزق الكريم ، ثم بين سبحانه بأن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض من غيرهم ، ممن لم يكن بينه وبينهم رحم في الميراث ، والمراد بهم القرابات ، فيتناول كل قرابة ؛ وقيل : المراد بهم هنا العصبات ، قالوا : ومنه قول العرب : وصلتك رحم ، فإنهم لا يريدون قرابة الأم. قالوا : ومنه قول قتيلة :

ظلّت سيوف بني أبيه تنوشه

لله أرحام هناك تشقّق

ولا يخفاك أنه ليس في هذا ما يمنع من إطلاقه على غير العصبات ، وقد استدل بهذه الآية من أثبت ميراث ذوي الأرحام ، وهم : من ليس بعصبة ، ولا ذي سهم على حسب اصطلاح أهل علم المواريث ، والخلاف في ذلك معروف مقرر في مواطنه ، وقد قيل : إن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والنصرة عند من فسر ما تقدّم من قوله (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وما بعده بالتوارث ، وأما من فسرها بالنصرة ، والمعونة ، فيجعل هذه الآية إخبارا منه سبحانه وتعالى بأن القرابات (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أي : في حكمه ، أو في اللوح المحفوظ ، أو في القرآن ، ويدخل في هذه الأولوية الميراث دخولا أوّليا لوجود سببه ، أعني : القرابة (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء من الأشياء كائنا ما كان ، ومن جملة ذلك ما تضمنته هذه الآيات.

وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) الآية قال : إنّ المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ثلاث منازل ، منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه ، وفي قوله (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) قال : آووا ونصروا وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة ، وشهروا السيوف على من كذب وجحد ، فهذان مؤمنان جعل الله بعضهم أولياء بعض ، وفي قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) قال : كانوا يتوارثون بينهم إذا توفي المؤمن المهاجر بالولاية في الدين ، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر ، فبرأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم ، وهي الولاية التي قال (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ)

٣٧٦

كان حقّا على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدّين أن ينصروهم إن قوتلوا إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميثاق ، فلا نصر لهم عليهم إلا على العدوّ الذي لا ميثاق لهم ، ثم أنزل الله بعد ذلك أن ألحق كلّ ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين آمنوا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) فجعل لكلّ إنسان من المؤمنين نصيبا مفروضا لقوله (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) الآية ، وفي رواية لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) قال : يعني في الميراث ، جعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ما لكم من ميراثهم من شيء (حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) يعني : إن استنصر الأعراب المسلمون المهاجرين والأنصار ، على عدوّ لهم ، فعليهم أن ينصروهم ، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ، فكانوا يعملون على ذلك حتى أنزل الله هذه الآية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) فنسخت الآية التي قبلها ، وصارت المواريث لذوي الأرحام. وأخرج أبو عبيد وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في هذه الآيات قال : كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن ، ولا يرث الأعرابي المهاجر ، فنسختها هذه الآية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه أيضا : قال رجل من المسلمين : لنورثن ذوي القربى منا من المشركين ، فنزلت (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ). وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المهاجرون بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة ، والطّلقاء من قريش ، والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة». وأخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن أسامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يتوارث أهل ملّتين ، ولا يرث مسلم كافرا ، ولا كافر مسلما ، ثم قرأ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الآية». وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن الزبير بن العوام قال : أنزل الله فينا خاصة معشر قريش (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان ، فواخيناهم ووارثناهم فآخونا ، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد ، وآخى عمر فلانا ، وآخى عثمان بن عفان رجلا من بني زريق بن أسعد الزّرقي ، قال الزبير : وآخيت أنا كعب ابن مالك ، ووارثونا ووارثناهم ، فلما كان يوم أحد قيل لي قد قتل أخوك كعب بن مالك ، فجئته فانتقلته فوجدت السلاح قد ثقلته فيما نرى ، فو الله يا بنيّ لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري ، حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار فرجعنا إلى مواريثنا. وأخرج أبو داود الطيالسي والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه وورّث بعضهم من بعض ، حتى نزلت هذه الآية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب.

* * *

٣٧٧

سورة التّوبة

هي مائة وثلاثون آية ، وقيل : مائة وسبع وعشرون آية ، ولها أسماء : منها : سورة التوبة ؛ لأنّ فيها التوبة على المؤمنين ؛ وتسمّى : الفاضحة لأنه ما زال ينزل فيها : ومنهم ، ومنهم ، حتى كادت أن لا تدع أحدا ؛ وتسمّى : البحوث ، لأنها تبحث عن أسرار المنافقين ؛ وتسمّى : المبعثرة ، والبعثرة : البحث ؛ وتسمّى أيضا بأسماء : كالمقشقشة ، لكونها تقشقش من النفاق : أي تبرئ منه ؛ والمخزية : لكونها أخزت المنافقين ؛ والمثيرة. لكونها تثير أسرارهم ؛ والحافرة : لكونها تحفر عنها ؛ والمنكّلة ؛ لما فيها من التنكيل لهم ؛ والمدمدمة ؛ لأنها تدمدم عليهم.

وهي مدنية. قال القرطبي : باتفاق. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : نزلت براءة بعد فتح مكة. وأخرج ابن مردويه عنه قال : نزلت سورة التوبة بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير نحوه. وأخرج ابن المنذر عن قتادة نحوه أيضا. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري والنسائي وابن الضريس وابن المنذر والنحّاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن البراء قال : آخر آية نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) (١) وآخر سورة نزلت تامة : براءة.

وقد اختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أوّلها على أقوال. الأوّل : عن المبرّد وغيره ، أنه كان من شأن العرب إذا كان بينهم وبين قوم عهد ، فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ، ولم يكتبوا فيه بسملة (٢) ؛ فلما نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين ، بعث بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّ بن أبي طالب ، فقرأها عليهم ، ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادة العرب. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : سألت عليّ بن أبي طالب لم لا تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان. وبراءة نزلت بالسيف. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر : بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السّبع الطوال ، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصّتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها ، وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١). النساء : ١٧٦.

(٢). أي : باسمك اللهم.

٣٧٨

ولم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر : بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال. وأخرج أبو الشيخ عن أبي رجاء قال : سألت الحسن عن الأنفال وبراءة أسورتان أو سورة؟ قال : سورتان. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة قال : يسمون هذه السورة : سورة التوبة ، وهي سورة العذاب. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس قال في هذه السورة : هي : الفاضحة ما زالت تنزل : ومنهم ، حتى ظننا أنه لا يبقى منا أحد إلا ذكر فيها. وأخرج أبو الشيخ عن عمر نحوه. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن أسلم أن رجلا قال لعبد الله بن عمر : سورة التوبة ، فقال ابن عمر : وأيتهنّ سورة التوبة قال : براءة ، فقال : وهل فعل بالناس الأفاعيل إلّا هي؟ ما كنا ندعوها إلّا المقشقشة. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : يسمونها سورة التوبة ، وإنها لسورة عذاب. وأخرج ابن المنذر عن ابن إسحاق قال : كانت براءة تسمى في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس. وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبيد بن عمير قال : كانت براءة تسمى المنقرة ، نقرت عما في قلوب المشركين. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وأبو الشيخ ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي عطية الهمداني قال : كتب عمر بن الخطاب : تعلّموا سورة براءة ؛ وعلّموا نساءكم سورة النور. ومن جملة الأقوال في حذف البسملة أنها كانت تعدل سورة البقرة ، أو قريبا منها ، وأنه لما سقط أولها سقطت البسملة ، روي هذا عن مالك بن أنس وابن عجلان. ومن جملة الأقوال في سقوط البسملة أنهم لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف الصحابة ، فقال بعضهم : براءة والأنفال : سورة واحدة ، وقال بعضهم : هما سورتان ، فتركت بينهما فرجة لقول من قال : هما سورتان ، وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال : هما سورة واحدة ، فرضي الفريقان. قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما. وقول من جعلهما سورة واحدة أظهر ، لأنهما جميعا في القتال ، وتعدّان جميعا سابعة السبع الطوال.

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣))

قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) برئت من الشيء أبرأ براءة ، وأنا منه بريء : إذا أزلته عن نفسك ، وقطعت سبب ما بينك وبينه ، وبراءة : مرتفعة على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذه براءة ، ويجوز أن ترتفع على الابتداء لأنها نكرة موصوفة ، والخبر (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ). وقرأ عيسى بن عمر (بَراءَةٌ) بالنصب على تقدير : اسمعوا براءة ، أو على تقدير : التزموا براءة ، لأن فيها معنى الإغراء ، و (مِنَ) في قوله (مِنَ اللهِ) لابتداء الغاية ، متعلق بمحذوف وقع صفة ، أي : واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم. والعهد : العقد الموثق باليمين. والخطاب في عاهدتم للمسلمين ، وقد كانوا عاهدوا مشركي مكة وغيرهم بإذن من الله

٣٧٩

ومن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : الإخبار بأن الله ورسوله قد برئا من تلك المعاهدة بسبب ما وقع من الكفار من النقض ، فصار النبذ إليه بعهدهم واجبا على المعاهدين من المسلمين ، ومعنى براءة الله سبحانه ، وقوع الإذن منه سبحانه بالنبذ من المسلمين ، لعهد المشركين ، بعد وقوع النقض منهم ، وفي ذلك من التفخيم لشأن البراءة ، والتهويل لها ، والتسجيل على المشركين بالذلّ والهوان ما لا يخفى. قوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) هذا أمر منه سبحانه بالسّياحة بعد الإخبار بتلك البراءة ، والسياحة : السير ، يقال : ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسيوحا وسيحانا ، ومنه : سيح الماء في الأرض ، وسيح الخيل ، ومنه قول طرفة بن العبد :

لو خفت هذا منك ما نلتني

حتّى ترى خيلا أمامي تسيح

ومعنى الآية : أنّ الله سبحانه بعد أن أذن بالنّبذ إلى المشركين بعهدهم ، أباح للمشركين الضّرب في الأرض ، والذهاب إلى حيث يريدون ، والاستعداد للحرب هذه الأربعة الأشهر ، وليس المراد من الأمر بالسياحة تكليفهم بها. قال محمد بن إسحاق وغيره : إن المشركين صنفان : صنف كانت مدة عهده أقلّ من أربعة أشهر ، فأمهل تمام أربعة أشهر ، والآخر : كانت أكثر من ذلك فقصر على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه ، وهو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين ، يقتل حيث يوجد ، وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر ، وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر ، فأما من لم يكن له عهد ، فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم ، وذلك خمسون يوما : عشرون من ذي الحجة وشهر محرم. وقال الكلبي : إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد دون أربعة أشهر ، ومن كان عهده أكثر من ذلك فهو الذي أمر الله أن يتمّ له عهده بقوله : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) ورجح هذا ابن جرير وغيره ، وسيأتي في آخر البحث من الرواية ما يتضح به معنى الآية (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي : اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ، ولكن لمصلحة ، ليتوب من تاب ، وفي ذلك ضرب من التهديد ، كأنه قيل : افعلوا في هذه المدّة كل ما أمكنكم من إعداد الآلات والأدوات ، فإنكم لا تفوتون الله وهو مخزيكم ، أي : مذلكم ومهينكم في الدنيا بالقتل والأسر ، وفي الآخرة بالعذاب ، وفي وضع الظاهر موضع المضمر إشارة إلى أن سبب هذا الإخزاء هو الكفر ، ويجوز أن يكون المراد جنس الكافرين ، فيدخل فيه المخاطبون دخولا أوّليا. قوله (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) ارتفاع أذان على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو على أنه : مبتدأ خبره ما بعده على ما تقدّم في ارتفاع براءة ، والجملة هذه معطوفة على جملة (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ). وقال الزّجّاج : إن قوله و (أَذانٌ) معطوف على قوله : براءة. واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لكن أذان مخبر عنه بالخبر الأوّل ، وهو (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وليس ذلك بصحيح ، بل الخبر عنه هو (إِلَى النَّاسِ) والأذان : بمعنى الإيذان ، وهو الإعلام ، كما أن الأمان والعطاء بمعنى : الإيمان والإعطاء ، ومعنى قوله (إِلَى النَّاسِ) التّعميم في هذا ، أي : أنه إيذان من الله إلى كافة الناس غير مختص بقوم دون قوم ، فهذه الجملة متضمنة للإخبار بوجوب الإعلام لجميع الناس ، والجملة الأولى متضمّنة للإخبار بالبراءة إلى المعاهدين

٣٨٠