فتح القدير - ج ٢

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٢

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٢

يخونوا وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر المنفعة والفائدة في هذا الحكم الذي شرعه الله في هذا الموضع من كتابه ؛ فالضمير في (يَأْتُوا) عائد إلى شهود الوصية من الكفار ؛ وقيل : إنه راجع إلى المسلمين المخاطبين بهذا الحكم. والمراد تحذيرهم من الخيانة ، وأمرهم بأن يشهدوا بالحق. قوله : (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي تردّ على الورثة فيحلفون على خلاف ما شهد به شهود الوصية فيفتضح حينئذ شهود الوصية ، وهو معطوف على قوله : (أَنْ يَأْتُوا) فتكون الفائدة في شرع الله سبحانه لهذا الحكم هي أحد الأمرين : إما احتراز شهود الوصية عن الكذب والخيانة فيأتون بالشهادة على وجهها. أو يخافوا الافتضاح إذا ردّت الأيمان على قرابة الميت فحلفوا بما يتضمن كذبهم أو خيانتهم فيكون ذلك سببا لتأدية شهادة شهود الوصية على وجهها من غير كذب ولا خيانة ؛ وقيل : إن (يَخافُوا) معطوف على مقدّر بعد الجملة الأولى ، والتقدير : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب الكذب والخيانة أو يخافوا الافتضاح بردّ اليمين ، فأيّ الخوفين وقع حصل المقصود (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أحكامه (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الخارجين عن طاعته بأيّ ذنب ، ومنه الكذب في اليمين أو الشهادة.

وحاصل ما تضمّنه هذا المقام من الكتاب العزيز أن من حضرته علامات الموت أشهد على وصيته عدلين من عدول المسلمين ، فإن لم يجد شهودا مسلمين ، وكان في سفر ، ووجد كفارا جاز له أن يشهد رجلين منهم على وصيته ، فإن ارتاب بهما ورثة الموصي حلفا بالله على أنهما شهدا بالحق وما كتما من الشهادة شيئا ولا خانا مما تركه الميت شيئا ، فإن تبين بعد ذلك خلاف ما أقسما عليه من خلل في الشهادة أو ظهور شيء من تركة الميت زعما أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه حلف رجلان من الورثة وعمل بذلك.

وقد أخرج الترمذي وضعّفه ، وابن جرير وابن أبي حاتم ، والنحاس في تاريخه ، وأبو الشيخ وابن مردويه ، وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر وهو الكلبي ، عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس ، عن تميم الداري في هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) قال : برىء الناس منها غيري وغير عديّ بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ، فأتيا الشام لتجارتهما ، وقدم عليهما مولى لبني هاشم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ، ومعه جام من فضّة يريد به الملك وهو عظم تجارته ، فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله ؛ قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعديّ بن بداء ، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا ، وفقدوا الجام فسألونا عنه : فقلنا : ما ترك غير هذا ، أو ما دفع إلينا غيره ؛ قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ، وأدّيت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فأتوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألهم البينة فلم يجدوا ، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه ، فحلف فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) إلى قوله : (أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا ، فنزعت الخمسمائة درهم من عديّ بن بداء. وفي إسناده أبو النّضر ، وهو محمد بن السّائب الكلبي صاحب التفسير ، قال الترمذي : تركه أهل العلم بالحديث. وأخرج

١٠١

البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والنحاس والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الدّاريّ وعديّ بن بداء ، فمات السّهميّ بأرض ليس فيها مسلم ، فأوصى إليهما ، فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوّصا بالذهب ، فأحلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالله ما كتمتماها ولا اطلعتما ، ثم وجدوا الجام بمكة فقيل : اشتريناه من تميم وعدي ، فقام رجلان من أولياء السهميّ فحلفا بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم ، وأخذوا الجام ، قال : وفيهم نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) الآية ، وفي إسناده محمد بن أبي القاسم الكوفي ، قال الترمذي : قيل : إنه صالح الحديث ، وقد روى ذلك أبو داود من طريقه. وقد روى جماعة من التابعين أن هذه القصة هي السبب في نزول الآية ، وذكرها المفسرون في تفاسيرهم. وقال القرطبي : إنه أجمع أهل التفسير على أن هذه القصة هي سبب نزول الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) الآية قال : هذا لمن مات وعنده المسلمون أمره الله أن يشهد على وصيته عدلين مسلمين ، ثم قال : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين أمر الله بشهادة رجلين من غير المسلمين ، فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بالله بعد الصلاة ما اشتريا بشهادتهما ثمنا قليلا ، فإن اطلع الأولياء على أنّ الكافرين كذبا في شهادتهما ، وثمّ رجلان من الأولياء فحلفا بالله أنّ شهادة الكافرين باطلة ، فذلك قوله : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) يقول : إن اطلع على أن الكافرين كذبا (ذلِكَ أَدْنى أَنْ) يأتي الكافران (بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) فتترك شهادة الكافرين ويحكم بشهادة الأولياء ، فليس على شهود المسلمين أقسام : إنما الأقسام إذا كانا كافرين. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية فقال : هذا رجل خرج مسافرا ومعه مال فأدركه قدره ، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين ، فإن لم يجد عدلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب ، فإن أدّى فسبيل ما أدى (١) ، وإن جحد استحلف بالله الذي لا إله إلا هو دبر صلاة إن هذا الذي دفع إليّ وما غيبت منه شيئا ، فإذا حلف برىء ، فإذا أتى بعد ذلك صاحبا الكتاب فشهدا عليه ، ثم ادعى القوم عليه من تسميتهم ما لهم جعلت أيمان الورثة مع شهادتهم ثم اقتطعوا حقه ، فذلك الذي يقول الله : (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ). وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) قال : من غير المسلمين من أهل الكتاب. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : هذه الآية منسوخة. وأخرج ابن جرير عن زيد ابن أسلم في الآية قال : كان ذلك في رجل توفّي وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أوّل الإسلام والأرض حرب والناس كفار إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بالمدينة ، وكان النّاس يتوارثون بالوصية ، ثم

__________________

(١). كذا في المطبوع ، ولعل الصواب : فإن أدّيا ... جحدا ... استحلفا .. حلفا ... برئا ... عليهما.

١٠٢

نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل المسلمون بها. وأخرج ابن جرير أيضا عن الزهري قال : مضت السّنّة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر ، إنما هي في المسلمين. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عبيدة في قوله : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) قال : صلاة العصر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) قال : لا نأخذ به رشوة (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) وإن كان صاحبها بعيدا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي اطّلع منهما على خيانة على أنهما كذبا أو كتما. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : (الْأَوْلَيانِ) قال : بالميت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) يقول : ذلك أحرى أن يصدقوا في شهادتهم (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) يقول : وأن يخافوا العتب. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) قال : فتبطل أيمانهم وتؤخذ أيمان هؤلاء.

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١))

قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) العامل في الظرف فعل مقدّر : أي اسمعوا ، أو اذكروا ، أو احذروا. وقال الزجاج : هو منصوب بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) المذكور في الآية الأولى ؛ وقيل : بدل من مفعول (اتَّقُوا) بدل اشتمال ؛ وقيل : ظرف لقوله : (لا يَهْدِي) المذكور قبله ؛ وقيل : منصوب بفعل مقدّر متأخر تقديره : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) يكون من الأحوال كذا وكذا. قوله : (ما ذا أُجِبْتُمْ) أي أيّ إجابة أجابتكم به أممكم الذين بعثكم الله إليهم؟ أو أيّ جواب أجابوكم به؟ وعلى الوجهين تكون ما منصوبة بالفعل المذكور بعدها ، وتوجيه السؤال إلى الرسل لقصد توبيخ قومهم ، وجوابهم بقولهم : (لا عِلْمَ لَنا) مع أنهم عالمون بما أجابوا به عليهم ، تفويض منهم ، وإظهار للعجز ، وعدم القدرة ، ولا سيما مع علمهم بأن السؤال سؤال توبيخ فإن تفويض الجواب إلى الله أبلغ في حصول ذلك ؛ وقيل المعنى : لا علم لنا لما أحدثوا بعدنا ؛ وقيل : لا علم لنا بما اشتملت عليه بواطنهم ؛ وقيل المعنى : لا علم لنا إلا علم ما أنت أعلم به منا ؛ وقيل : إنهم ذهلوا عما أجاب به قومهم لهول المحشر. قوله : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) إذ : بدل من : يوم يجمع ، وهو تخصيص بعد التعميم وتخصيص عيسى عليه‌السلام من بين الرسل لاختلاف طائفتي اليهود والنصارى فيه إفراطا وتفريطا ، هذه تجعله إلها ، وهذه تجعله كاذبا ، وقيل : هو منصوب بتقدير اذكر.

١٠٣

قوله : (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) ذكّره سبحانه نعمته عليه وعلى أمه ـ مع كونه ذاكرا لها عالما بتفضل الله سبحانه بها ـ لقصد تعريف الأمم بما خصّهما الله به من الكرامة وميزهما به من علوّ المقام ، أو لتأكيد الحجة وتبكيت الجاحد بأن منزلتهما عند الله هذه المنزلة وتوبيخ من اتخذهما إلهين ببيان أن ذلك الإنعام عليهما كله من عند الله سبحانه ، وأنهما عبدان من جملة عباده منعم عليهما بنعم الله سبحانه ليس لهما من الأمر شيء. قوله : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) إذ ظرف للنعمة لأنها بمعنى المصدر : أي اذكر إنعامي عليك وقت تأييدي لك ، أو حال من النعمة : أي كائنة ذلك الوقت (أَيَّدْتُكَ) قوّيتك مأخوذ من الأيد ، وهو القوّة. وفي روح القدس وجهان : أحدهما أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها ، وقيل : إنه جبريل عليه‌السلام ، وقيل : إنه الكلام الذي يحيي به الأرواح. والقدس : الطهر ، وإضافته إليه لكونه سببه ، وجملة (تُكَلِّمُ النَّاسَ) مبينة لمعنى التأييد ، و (فِي الْمَهْدِ) في محل نصب على الحال : أي تكلم الناس حال كونك صبيا وكهلا لا يتفاوت كلامك في الحالتين مع أن غيرك يتفاوت كلامه فيهما تفاوتا بينا. وقوله : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) معطوف على (إِذْ أَيَّدْتُكَ) أي واذكر نعمتي عليك وقت تعليمي لك الكتاب : أي جنس الكتاب ، أو المراد بالكتاب الخطّ ، وعلى الأوّل يكون ذكر التوراة والإنجيل من عطف الخاص على العام ، وتخصيصهما بالذكر لمزيد اختصاصه بهما : أما التوراة فقد كان يحتجّ بها على اليهود في غالب ما يدور بينه وبينهم من الجدال كما هو مصرّح بذلك في الإنجيل ، وأما الإنجيل فلكونه نازلا عليه من عند الله سبحانه ، والمراد بالحكمة جنس الحكمة ؛ وقيل : هي الكلام المحكم (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي : تصوّر تصويرا مثل صورة الطير (بِإِذْنِي) لك بذلك وتيسيري له (فَتَنْفُخُ) في الهيئة المصوّرة (فَتَكُونُ) هذه الهيئة (طَيْراً) متحركا حيا كسائر الطيور (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) لك وتسهيله عليك وتيسيره لك ، وقد تقدّم تفسير هذا مطوّلا في البقرة فلا نعيده (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) من قبورهم فيكون ذلك آية لك عظيمة (بِإِذْنِي) ، وتكرير بإذني في المواضع الأربعة للاعتناء بأن ذلك كله من جهة الله ليس لعيسى عليه‌السلام فيه فعل إلا مجرد امتثاله لأمر الله سبحانه. قوله : (وَإِذْ كَفَفْتُ) معطوف على (إِذْ تُخْرِجُ) كففت معناه : دفعت وصرفت (بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) حين هموا بقتلك (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الواضحات (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر بين ، لما عظم ذلك في صدرهم وانبهروا منه لم يقدروا على جحده بالكلية ، بل نسبوه إلى السحر. قوله : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) هو معطوف على ما قبله ، وقد تقدّم تفسير ذلك. والوحي في كلام العرب معناه الإلهام : أي ألهمت الحواريين وقذفت في قلوبهم ؛ وقيل معناه : أمرتهم على ألسنة الرسل أن يؤمنوا بي بالتوحيد والإخلاص ويؤمنوا برسالة رسولي. قوله : (قالُوا آمَنَّا) جملة مستأنفة كأنه قيل : ماذا قالوا؟ فقال : قالوا آمنا (وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) أي مخلصون للإيمان : أي واشهد يا رب ، أو واشهد يا عيسى.

وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله :

١٠٤

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) فيفزعون فيقولون : (لا عِلْمَ لَنا) فتردّ إليهم أفئدتهم فيعلمون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السديّ في الآية قال : ذلك أنهم نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول ، فلما سئلوا قالوا : لا علم لنا ، ثم نزلوا منزلا آخر فشهدوا على قومهم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : قالوا : لا علم لنا فرقا يذهل عقولهم ، ثم يردّ الله إليهم عقولهم فيكونون هم الذين يسألون بقول الله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (١). وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة يدعى بالأنبياء وأممها ، ثم يدعى بعيسى فيذكره نعمته عليه فيقرّ بها ، فيقول : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) الآية ، ثم يقول : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)؟ فينكر أن يكون قال ذلك ، فيؤتى بالنصارى فيسألون ، فيقولون : نعم هو أمرنا بذلك ، فيطول شعر عيسى حتى يأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده ، فيجاثيهم بين يدي الله مقدار ألف عام حتى يوقع عليهم الحجّة ، ويرفع لهم الصليب ، وينطلق بهم إلى النار». وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالآيات التي وضع على يديه : من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير ، وإبراء الأسقام والخبر بكثير من الغيوب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في قوله : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) يقول : قذفت في قلوبهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه.

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

قوله : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) الظرف منصوب بفعل مقدر : أي اذكر أو نحوه كما تقدّم ، قيل : والخطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قرأ الكسائي «هل تستطيع» بالفوقية ، ونصب ربك ، وبه قرأ عليّ وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد ، وقرأ الباقون بالتحتية ورفع ربك. واستشكلت القراءة الثانية بأنه قد وصف سبحانه الحواريين بأنهم قالوا : (آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) والسؤال عن استطاعته لذلك ينافي ما حكوه عن أنفسهم. وأجيب بأن هذا كان في أوّل معرفتهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله ، ولهذا قال عيسى في الجواب عن هذا الاستفهام الصادر منهم : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي لا تشكوا في قدرة الله ؛ وقيل : إنهم ادّعوا الإيمان والإسلام دعوى باطلة ، ويردّه أن الحواريين هم خلصاء عيسى وأنصاره كما قال : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ

__________________

(١). الأعراف : ٦٠.

١٠٥

الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) (١) وقيل : إن ذلك صدر ممن كان معهم ، وقيل : إنهم لم يشكّوا في استطاعة الباري سبحانه ، فإنهم كانوا مؤمنين عارفين بذلك ، وإنما هو كقول الرجل : هل يستطيع فلان أن يأتي؟ مع علمه بأنه يستطيع ذلك ويقدر عليه ؛ فالمعنى : هل يفعل ذلك وهل يجيب إليه؟ وقيل : إنهم طلبوا الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (٢) الآية ، ويدل على هذا قولهم من بعد (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) وأما على القراءة الأولى ، فالمعنى : هل تستطيع أن تسأل ربك. قال الزجاج : المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله فهو من باب (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٣) ، و (مائِدَةً) : الخوان إذا كان عليه الطعام ، من مادة : إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدّم إليه قاله قطرب وغيره ؛ وقيل : هي فاعلة بمعنى مفعولة ك (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٤) قاله أبو عبيدة. فأجابهم عيسى عليه‌السلام بقوله : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي اتقوه من هذا السؤال وأمثاله إن كنتم صادقين في إيمانكم ، فإن شأن المؤمن ترك الاقتراح على ربه على هذه الصفة ، وقيل : إنه أمرهم بالتقوى ليكون ذلك ذريعة إلى حصول ما طلبوه. قوله : (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) بينوا به الغرض من سؤالهم نزول المائدة ، وكذا ما عطف عليه من قولهم : (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) والمعنى : تطمئن قلوبنا بكمال قدرة الله ، أو بأنك مرسل إلينا من عنده ، أو بأنّ الله قد أجابنا إلى ما سألناه ، ونعلم علما يقينا بأنك قد صادقتنا في نبوّتك ، ونكون عليها من الشّاهدين : عند من لم يحضرها من بني إسرائيل أو من سائر الناس أو من الشّاهدين لله بالوحدانية ، أو من الشّاهدين : أي الحاضرين دون السّامعين. ولما رأى عيسى ما حكوه عن أنفسهم من الغرض بنزول المائدة قال : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) أي كائنة أو نازلة من السماء ، وأصل اللهمّ عند سيبويه وأتباعه : يا الله ، فجعلت الميم بدلا من حرف النداء ، وربنا نداء ثان ، وليس بوصف ، و (تَكُونُ لَنا عِيداً) وصف لمائدة. وقرأ الأعمش يكون لنا عيدا أي يكون نزولها لنا عيدا. وقد كان نزولها يوم الأحد ، وهو يوم عيد لهم ؛ والعيد واحد الأعياد ، وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ؛ وقيل : للفرق بينه وبين أعواد جمع عود ، ذكر معناه الجوهري ، وقيل : أصله من عاد يعود : أي رجع فهو عود بالواو ، وتقلب ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد ، فقيل : ليوم الفطر والأضحى عيدان ، لأنهما يعودان في كل سنة. وقال الخليل : العيد كل يوم جمع كأنهم عادوا إليه. قوله : (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من الضمير في لنا بتكرير العامل : أي لمن في عصرنا ولمن يأتي بعدنا من ذرارينا وغيرهم. قوله : (وَآيَةً مِنْكَ) عطف على عيدا ، أي دلالة وحجّة واضحة على كمال قدرتك وصحة إرسالك من أرسلته (وَارْزُقْنا) أي : أعطنا هذه المائدة المطلوبة ، أو ارزقنا رزقا نستعين به على عبادتك (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) بل لا رازق في الحقيقة غيرك ولا معطي سواك ، فأجاب الله سبحانه سؤال عيسى عليه‌السلام فقال : (إِنِّي مُنَزِّلُها) أي المائدة (عَلَيْكُمْ).

وقد اختلف أهل العلم هل نزلت عليهم المائدة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأوّل وهو الحق لقوله سبحانه : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ووعده الحق وهو لا يخلف الميعاد. وقال مجاهد : ما نزلت وإنما هو ضرب

__________________

(١). آل عمران : ٥٢.

(٢). البقرة : ٢٦٠.

(٣). يوسف : ٨٢.

(٤). الحاقة : ٢١.

١٠٦

مثل ضربه الله لخلقه نهيا لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه ، وقال الحسن : وعدهم بالإجابة ، فلما قال : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) استغفروا الله وقالوا : لا نريدها. قوله : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) أي بعد تنزيلها (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً) أي تعذيبا (لا أُعَذِّبُهُ) صفة لعذابا ، والضمير عائد إلى العذاب بمعنى التعذيب : أي لا أعذب مثل ذلك التعذيب (أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) قيل : المراد عالمي زمانهم ، وقيل : جميع العالمين ، وفي هذا من التهديد والترهيب ما لا يقادر قدره.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة قالت : كان الحواريون أعلم بالله من أن يقولوا : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) إنما قالوا : هل تستطيع أنت ربك أن تدعوه ، ويؤيد هذا ما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل تستطيع ربك بالتاء يعني الفوقية. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قرأها كذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : المائدة : الخوان ، وتطمئن : توقن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السديّ في قوله : (تَكُونُ لَنا عِيداً) يقول : نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس : أنه كان يحدّث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له ، ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير ، قلت : لنا إن أجر العامل على من عمل له ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً) إلى قوله : (أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نزلت المائدة من السماء خبزا ولحما ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا لغد ، فخافوا وادّخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير» وقد روي موقوفا على عمار. قال الترمذي : والوقف أصح. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : المائدة سمكة وأريغفة. وأخرج ابن جرير من طريق العوفيّ عنه قال : نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه سمك وخبز يأكلون منه أينما تولوا إذا شاؤوا. وأخرج ابن جرير نحوه عنه من طريق عكرمة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمرو قال : إن أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون.

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ

١٠٧

الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

قوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ) معطوف على ما قبله في محل نصب بعامله أو بعامل مقدّر هنا : أي أذكر. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذا القول منه سبحانه هو يوم القيامة. والنكتة توبيخ عباد المسيح وأمه من النصارى. وقال السدّي وقطرب : إنه قال له هذا القول عند رفعه إلى السماء لما قالت النصارى فيه ما قالت ، والأوّل أولى : قيل : (وَإِذْ) هنا بمعنى إذا ، كقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) (١) أي إذا فزعوا ، وقول أبي النجم :

ثمّ جزاه الله عنّي إذ جزى

جنّات عدن في السّموات العلى

أي إذا جزى ، وقول الأسود بن جعفر الأزدي :

فالآن إذ هازلتهنّ فإنّما

يقلن ألا لم يذهب الشّيخ مذهبا

أي إذا هازلتهنّ تعبيرا عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقيق وقوعه. وقد قيل في توجيه هذا الاستفهام منه تعالى إنه لقصد التوبيخ كما سبق ؛ وقيل : لقصد تعريف المسيح بأن قومه غيروا بعده وادّعوا عليه ما لم يقله. وقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بقوله : (اتَّخِذُونِي) على أنه حال : أي متجاوزين الحدّ ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة لإلهين : أي كائنين من دون الله. قوله : (سُبْحانَكَ) تنزيه له سبحانه : أي أنزهك تنزيها (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) أي ما ينبغي لي أن أدّعي لنفسي ما ليس من حقها (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) ردّ ذلك إلى علمه سبحانه ، وقد علم أنه لم يقله ، فثبت بذلك عدم القول منه. قوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) هذه الجملة في حكم التعليل لما قبلها : أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ، وهذا الكلام من باب المشاكلة كما هو معروف عند علماء المعاني والبيان ؛ وقيل المعنى : تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك ؛ وقيل : تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه ؛ وقيل : تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد. قوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) هذه جملة مقرّرة لمضمون ما تقدّم : أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) هذا تفسير لمعنى (ما قُلْتُ لَهُمْ) أي ما أمرتهم ، وقيل : عطف بيان للمضمر في (بِهِ) وقيل : بدل منه (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي : حفيظا ورقيبا أرعى أحوالهم وأمنعهم عن مخالفة أمرك (ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي : مدّة دوامي فيهم. (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) قيل : هذا يدل على أن الله سبحانه توفاه قبل أن يرفعه ، وليس بشيء لأن الأخبار قد تضافرت بأنه لم يمت ، وأنه باق في السماء على الحياة التي كان عليها في الدنيا حتى ينزل إلى الأرض آخر الزمان ، وإنما المعنى : فلما رفعتني إلى السماء. قيل : الوفاة في كتاب الله سبحانه جاءت على ثلاثة أوجه : بمعنى الموت ، ومنه قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٢) وبمعنى النوم ، ومنه قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (٣) أي ينيمكم ،

__________________

(١). سبأ : ٥١.

(٢). الزمر : ٤٢.

(٣). الأنعام : ٦٠.

١٠٨

وبمعنى الرفع ، ومنه (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) و (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) (١). (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أصل المراقبة : المراعاة ، أي كنت الحافظ لهم. والعالم بهم والشاهد عليهم (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) تصنع بهم ما شئت وتحكم فيهم بما تريد (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي القادر على ذلك الحكيم في أفعاله ، قيل : قاله على وجه الاستعطاف كما يستعطف السيد لعبده. ولهذا لم يقل إن تعذبهم فإنهم عصوك ؛ وقيل : قاله على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له ، ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم. قوله : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) أي صدقهم في الدنيا ، وقيل في الآخرة ، والأوّل أولى. قرأ نافع وابن محيصن يوم بالنصب ، وقرأ الباقون بالرفع ، فوجه النصب أنه ظرف للقول : أي قال الله هذا القول يوم ينفع الصادقين ، ووجه الرفع أنه خبر للمبتدأ هذا وما أضيف إليه (٢). وقال الكسائي نصب يوم هاهنا لأنه مضاف إلى الجملة ، وأنشد :

على حين عاتبت المشيب على الصّبا

وقلت ألمّا أصح والشّيب وازع

وبه قال الزجاج ، ولا يجيز البصريون ما قالاه إلا إذا أضيف الظرف إلى فعل ماض. وقرأ الأعمش (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) بتنوين يوم كما في قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) (٣) فكلاهما مقطوع عن الإضافة بالتنوين. وقد تقدّم تفسير قوله : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً). قوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له ، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال ولا تتصوره عقولهم ، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم وأعلى منازل الكرامة ، والإشارة بذلك إلى نيل ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبدا ، ورضوان الله عنهم. والفوز : الظفر بالمطلوب على أتمّ الأحوال. قوله : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جاء سبحانه بهذه الخاتمة دفعا لما سبق من إثبات من أثبت إلهية عيسى وأمه ، وأخبر بأن ملك السموات والأرض له دون عيسى وأمه ودون سائر مخلوقاته ، وأنه القادر على كلّ شيء دون غيره ، وقيل المعنى : أن له ملك السموات والأرض يعطي الجنات للمطيعين ، جعلنا الله منهم.

وقد أخرج الترمذي وصحّحه والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال : تلقّى عيسى حجّته والله لقّاه في قوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) قال أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلقّاه الله سبحانه (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : يقول الله هذا يوم القيامة ، ألا ترى أنه يقول : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السديّ قال : قال الله ذلك لما رفع عيسى إليه ، وقالت النصارى ما قالت. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في

__________________

(١). آل عمران : ٥٥.

(٢). الضمير في إليه : يعود على يوم.

(٣). البقرة : ٤٨.

١٠٩

قوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) قال : سيدي وسيدكم. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) قال : الحفيظ. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) قال : ما كنت فيهم. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) يقول : عبيدك قد استوجبوا العذاب بمقالتهم (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) أي من تركت منهم ومدّ في عمره حتى أهبط من السماء إلى الأرض لقتل الدجال ، فزالوا عن مقالتهم ووحدوك (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) يقول : هذا يوم ينفع الموحّدين توحيدهم.

* * *

١١٠

سورة الأنعام

قال الثعلبيّ : سورة الأنعام مكية إلا ستّ آيات نزلت بالمدينة وهي : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) إلى آخر ثلاث آيات ، و (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر ثلاث آيات. قال ابن عطية : وهي الآيات المحكمات ، يعني في هذه السورة. وقال القرطبي : هي مكية إلا آيتين هما (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين ، وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أنزلت سورة الأنعام بمكة. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه ؛ قال : أنزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة وحولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفا من الملائكة. وأخرج ابن مردويه عن أسماء قالت : نزلت سورة الأنعام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في مسير في زجل (١) من الملائكة ، وقد نظموا ما بين السماء والأرض. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد نحوه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيّعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد» وهو من طريق إبراهيم بن نائلة شيخ الطبراني عن إسماعيل بن عمرو عن يوسف ابن عطية بن عون عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكره. وابن مردويه رواه عن الطبراني عن إسماعيل المذكور به. وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسدّ ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتّسبيح والتّقديس ، والأرض ترتجّ ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : سبحان الله العظيم ، سبحان الله العظيم». وأخرج الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ، والإسماعيلي في معجمه ، والبيهقي عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «لقد شيّع هذه السورة من الملائكة ما سدّ الأفق». وأخرج البيهقي وضعّفه ، والخطيب في تاريخه عن عليّ بن أبي طالب قال : أنزل القرآن خمسا خمسا ، ومن حفظه خمسا خمسا لم ينسه ، إلا سورة الأنعام فإنها نزلت جملة يشيّعها من كلّ سماء سبعون ملكا حتى أدّوها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما قرئت على عليل إلا شفاه الله. وأخرج أبو الشيخ عن أبيّ بن كعب مرفوعا نحو حديث ابن عمر. وأخرج النحاس في تاريخه عن ابن عباس قال : سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة ، فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ) إلى تمام الآيات الثلاث. وأخرج الديلمي بسند ضعيف عن أنس مرفوعا : «ينادي مناد : يا قارئ سورة الأنعام هلمّ إلى الجنة بحبك إياها وتلاوتها». وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة قال : نزلت سورة الأنعام جميعا معها سبعون ألف ملك كلها مكية إلا (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) فإنها مدنية. وأخرج أبو عبيد في فضائله ، والدارمي في مسنده ، ومحمد بن نصر في كتاب

__________________

(١). زجل : صوت رفيع عال.

١١١

الصلاة ، وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال : الأنعام من نواجب القرآن. وأخرج محمد بن نصر عن ابن مسعود مثله. وأخرج السلفي بسند واه عن ابن عباس مرفوعا : «من قرأ إذا صلى الغداة ثلاث آيات من أوّل سورة الأنعام إلى (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) نزل إليه أربعون ألف ملك يكتب له مثل أعمالهم ، ونزل إليه ملك من فوق سبع سماوات ومعه مرزبّة من حديد ، فإن أوحى الشيطان في قلبه شيئا من الشرّ ضربه ضربة حتى يكون بينه وبينه سبعون حجابا ، فإذا كان يوم القيامة ، قال الله تعالى : أنا ربك وأنت عبدي ، امش في ظلّي ، واشرب من الكوثر ، واغتسل من السلسبيل ، وادخل الجنة بغير حساب ولا عذاب». وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلى الفجر في جماعة ، وقعد في مصلاه ، وقرأ ثلاث آيات من أوّل سورة الأنعام ؛ وكلّ الله به سبعين ملكا يسبّحون الله ويستغفرون له إلى يوم القيامة». وفي فضائل هذه السورة روايات عن جماعة من التابعين مرفوعة وغير مرفوعة. قال القرطبي : قال العلماء : هذه السورة أصل في محاجّة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور ، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرّف ذلك بوجوه كثيرة ، وعليها بنى المتكلّمون أصول الدين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله ، للدلالة على أن الحمد كله له ، ولإقامة الحجّة على الذين هم بربهم يعدلون. وقد تقدّم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا ، ثم وصف نفسه بأنه : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إخبارا عن قدرته الكاملة الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد ، فإن من اخترع ذلك وأوجده هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد ، والخلق يكون بمعنى الاختراع ، وبمعنى التقدير. وقد تقدّم تحقيق ذلك ، وجمع السماوات لتعدد طباقها ، وقدّمها على الأرض لتقدّمها في الوجود (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (١). قوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) معطوف على خلق ، ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ثم ذكر خلق الأعراض بقوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) لأنّ الجواهر لا تستغني عن الأعراض.

واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظّلمات والنور ؛ فقال جمهور المفسرين : المراد بالظلمات سواد الليل ، وبالنور ضياء النهار. وقال الحسن : الكفر والإيمان. قال ابن عطية : وهذا خروج عن الظاهر ، انتهى. والأولى أن يقال : إن الظلمات تشمل كلّ ما يطلق عليه اسم الظلمة ، والنور يشمل كلّ ما يطلق عليه اسم النور ،

__________________

(١). النازعات : ٣٠.

١١٢

فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) (١) وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه ، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها. قال النحاس : جعل هنا بمعنى خلق : وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعدّ إلا إلى مفعول واحد. وقال القرطبي : جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره. قال ابن عطية : وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق ، فيكون الجمع معطوفا على الجمع ، والمفرد معطوفا على المفرد ، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل ، ولهذا كان النهار مسلوخا من الليل. قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) معطوف على الحمد لله ، أو على خلق السماوات والأرض ، وثم : لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السماوات والأرض والظلمات والنور ، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه ، لا الكفر به واتّخاذ شريك له ، وتقديم المفعول للاهتمام ، ورعاية الفواصل ، وحذف المفعول لظهوره ؛ أي يعدلون به ما لا يقدر على شيء مما يقدر عليه ، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم ، ويكون من الكفرة الكفر. قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) في معناه قولان : أحدهما وهو الأشهر ، وبه قال الجمهور : أن المراد آدم عليه‌السلام ، وأخرجه مخرج الخطاب للجميع ، لأنهم ولده ونسله. الثاني : أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين ، ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السماوات والأرض اتباعا للعالم الأصغر بالعالم الأكبر ، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث وردّ لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه. قوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) جاء بكلمة (ثُمَ) لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت.

وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين ، فقيل : (قَضى أَجَلاً) يعني الموت (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يعني القيامة ، وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك ومجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم وعطية والسدي وخصيف ومقاتل وغيرهم ، وقيل : الأوّل ما بين أن يخلق إلى أن يموت ؛ والثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث ، وهو قريب من الأوّل. وقيل : الأوّل مدّة الدنيا ؛ والثاني عمر الإنسان إلى حين موته. وهو مرويّ عن ابن عباس ومجاهد. وقيل : الأوّل قبض الأرواح في النوم ؛ والثاني : قبض الروح عند الموت. وقيل : الأوّل ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك ؛ والثاني أجل الموت. وقيل : الأوّل لمن مضى ؛ والثاني لمن بقي ولمن يأتي. وقيل : إن الأوّل الأجل الذي هو محتوم ؛ والثاني : لزيادة في العمر لمن وصل رحمه ، فإن كان برّا تقيا وصولا لرحمه زيد في عمره ، وإن كان قاطعا للرحم لم يزد له ، ويرشد إلى هذا قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) (٢). وقد صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر ، وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت ؛ وجاز الابتداء بالنكرة في قوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) لأنها قد تخصصت بالصفة. قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) استبعاد لصدور الشّكّ منهم مع وجود المقتضى لعدمه : أي كيف تشكّون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء والانتهاء ما يذهب بذلك ويدفعه ، فإن من خلقكم من طين ،

__________________

(١). الأنعام : ١٢٢.

(٢). فاطر : ١١.

١١٣

وصيّركم أحياء تعلمون وتعقلون ، وخلق لكم هذه الحواس والأطراف ، ثم سلب ذلك عنكم فصرتم أمواتا ، وعدتم إلى ما كنتم عليه من الجمادية ، لا يعجزه أن يبعثكم ويعيد هذه الأجسام كما كانت ، ويردّ إليها الأرواح التي فارقتها بقدرته وبديع حكمته. قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) قيل : إن في السموات وفي الأرض ، متعلق باسم الله باعتبار ما يدل عليه من كونه معبودا ومتصرفا ومالكا ؛ أي هو المعبود أو المالك أو المتصرّف في السموات والأرض ، كما تقول : زيد الخليفة في الشرق والغرب ؛ أيّ حاكم أو متصرف فيهما ؛ وقيل : المعنى : وهو الله يعلم سرّكم وجهركم في السموات وفي الأرض فلا تخفى عليه خافية ، فيكون العامل فيهما ما بعدهما. قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل فيه. وقال ابن جرير : هو الله في السموات ويعلم سركم وجهركم في الأرض. والأوّل أولى ، ويكون (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) جملة مقرّرة لمعنى الجملة الأولى ، لأن كونه سبحانه في السماء والأرض يستلزم علمه بأسرار عباده وجهرهم ، وعلمه بما يكسبونه من الخير والشرّ وجلب النفع ودفع الضرر.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ أن هذه الآية أعني : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) نزلت في أهل الكتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : نزلت هذه الآية في الزّنادقة ، قالوا : إن الله لم يخلق الظّلمة ولا الخنافس ولا العقارب ولا شيئا قبيحا ، وإنما خلق النور وكلّ شيء حسن ، فأنزلت فيهم هذه الآية. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) قال : الكفر والإيمان. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : إن الذين بربهم يعدلون هم أهل الشّرك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السديّ مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : (يَعْدِلُونَ) يشركون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) قال : الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله ، وليس لله عدل ولا ندّ ، وليس معه آلهة ولا اتّخذ صاحبة ولا ولدا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) يعني آدم (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) يعني أجل الموت (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أجل الساعة والوقوف عند الله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عنه في قوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) قال : أجل الدنيا ، وفي لفظ أجل موته (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) قال : الآخرة لا يعلمه إلّا الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (قَضى أَجَلاً) قال : هو اليوم يقبض فيه الروح ثم يرجع إلى صاحبه من اليقظة (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) قال : هو أجل موت الإنسان.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ

١١٤

وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

قوله : (وَما تَأْتِيهِمْ) إلخ كلام مبتدأ لبيان بعض أسباب كفرهم وتمرّدهم ، وهو الإعراض عن آيات الله التي تأتيهم كمعجزات الأنبياء ، وما يصدر عن قدرة الله الباهرة مما لا يشكّ من له عقل أنه فعل الله سبحانه ، والإعراض : ترك النّظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله و (مِنْ) في (مِنْ آيَةٍ) مزيدة للاستغراق و (مِنْ) في (مِنْ آياتِ) تبعيضية : أي وما تأتيهم آية من الآيات التي هي بعض آيات ربّهم إلا كانوا عنها معرضين ، والفاء في (فَقَدْ كَذَّبُوا) جواب شرط مقدر : أي إن كانوا معرضين عنها فقد كذبوا بما هو أعظم من ذلك وهو الحق (لَمَّا جاءَهُمْ) قيل : المراد بالحق هنا القرآن ، وقيل : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي أخبار الشيء الذي كانوا به يستهزئون وهو القرآن أو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على أن : ما ، عبارة عن ذلك تهويلا للأمر وتعظيما له : أي سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزءوا به ليس بموضع للاستهزاء ، وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم ، كما يقال : اصبر فسوف يأتيك الخبر ، عند إرادة الوعيد والتهديد ، وفي لفظ الأنبياء ما يرشد إلى ذلك فإنه لا يطلق إلا على خبر عظيم. قوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) كلام مبتدأ لبيان ما تقدّمه ، والهمزة للإنكار ، و (كَمْ) يحتمل أن تكون الاستفهامية وأن تكون الخبرية وهي معلقة لفعل الرؤية عن العمل فيما بعده ، و (مِنْ قَرْنٍ) تمييز ، والقرن يطلق على أهل كلّ عصر ، سموا بذلك لاقترانهم ، أي ألم يعرفوا بسماع الأخبار ومعاينة الآثار كم أهلكنا من قبلهم من الأمم الموجودة في عصر بعد عصر لتكذيبهم أنبياءهم. وقيل : القرن مدّة من الزمان. وهي ستون عاما أو سبعون أو ثمانون أو مائة على اختلاف الأقوال ، فيكون ما في الآية على تقدير مضاف محذوف : أي من أهل قرن. قوله : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) مكن له في الأرض : جعل له مكانا فيها ، ومكنه في الأرض : أثبته فيها ، والجملة مستأنفة ، جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : كيف ذلك؟ وقيل : إن هذه الجملة صفة لقرن ، والأوّل أولى ، و (ما) في (ما لَمْ نُمَكِّنْ) نكرة موصوفة بما بعدها ؛ أي مكنّاهم تمكينا لم نمكّنه لكم ، والمعنى : أنا أعطينا القرون الذين هم قبلكم ما لم نعطكم من الدنيا وطول الأعمار وقوّة الأبدان وقد أهلكناهم جميعا ، فإهلاككم ـ وأنتم دونهم ـ بالأولى. قوله : (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) يريد المطر الكثير ، عبر عنه بالسماء ، لأنه ينزل من السماء ، ومنه قول الشاعر (١) :

إذا نزل السّماء بأرض قوم

__________________

(١). هو : معود الحكماء معاوية بن مالك وهذا صدر بيت له وعجزه : رعيناه وإن كانوا غضابا. (تفسير القرطبي ٦ / ٣٩٢)

١١٥

والمدرار : صيغة مبالغة تدلّ على الكثرة كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور ، وميناث للتي تلد الإناث ، يقال درّ اللبن يدرّ : إذا أقبل على الحالب بكثرة. وانتصاب (مِدْراراً) على الحال ؛ وجريان الأنهار من تحتهم معناه من تحت أشجارهم ومنازلهم : أي أن الله وسّع عليهم النعم بعد التمكين لهم في الأرض فكفروها ، فأهلكهم الله بذنوبهم (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد إهلاكهم (قَرْناً آخَرِينَ) فصاروا بدلا من الهالكين ، وفي هذا بيان لكمال قدرته سبحانه وقوّة سلطانه وأنه يهلك من يشاء ويوجد من يشاء. قوله : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) في هذه الجملة بيان شدّة صلابتهم في الكفر ، وأنهم لا يؤمنون ولو أنزل الله على رسوله كتابا مكتوبا في قرطاس بمرأى منهم ومشاهدة (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) حتى يجتمع لهم إدراك الحاستين : حاسة البصر ، وحاسة اللمس (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) منهم (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ولم يعملوا بما شاهدوا ولمسوا ، وإذا كان هذا حالهم في المرئيّ المحسوس ، فكيف فيما هو مجرّد وحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواسطة ملك لا يرونه ولا يحسونه؟ والكتاب مصدر بمعنى الكتابة ، والقرطاس : الصحيفة. قوله : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) هذه الجملة مشتملة على نوع آخر من أنواع جحدهم لنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفرهم بها : أي قالوا : هلا أنزل الله عليك ملكا نراه ويكلمنا أنه نبيّ حتى نؤمن به ونتبعه؟ كقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) (١) (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لو أنزلنا ملكا على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لأهلكناهم إذ لم يؤمنوا عند نزوله ورؤيتهم له ، لأن مثل هذه الآية البينة ، وهي نزول الملك على تلك الصفة إذا لم يقع الإيمان بعدها فقد استحقوا الإهلاك والمعاجلة بالعقوبة (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له ؛ وقيل إن المعنى : إن الله سبحانه لو أنزل ملكا مشاهدا لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء ، بل تزهق أرواحهم عند ذلك فيبطل ما أرسل الله له رسله وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٢). قوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي لو جعلنا الرسول إلى النبيّ ملكا يشاهدونه ويخاطبونه لجعلنا ذلك الملك رجلا ، لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك على صورته التي خلقه الله عليها إلا بعد أن يتجسّم بالأجسام الكثيفة المشابهة لأجسام بني آدم ، لأنّ كلّ جنس يأنس بجنسه ، فلو جعل الله سبحانه الرسول إلى البشر أو الرسول إلى رسوله ملكا مشاهدا مخاطبا لنفروا منه ولم يأنسوا به ، ولداخلهم الرعب وحصل معهم من الخوف ما يمنعهم من كلامه ومشاهدته ، هذا أقلّ حال فلا تتمّ المصلحة من الإرسال. وعند أن يجعله الله رجلا : أي على صورة رجل من بني آدم ليسكنوا إليه ويأنسوا به سيقول الكافرون إنه ليس بملك وإنما هو بشر ، ويعودون إلى مثل ما كانوا عليه. قوله (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان قالوا : هذا إنسان وليس بملك ، فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه. قال الزجاج : المعنى : للبسنا عليهم ؛ أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم ؛ وكانوا يقولون لهم : إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق ، فيلبسون عليهم بهذا ويشكّكونهم ، فأعلم الله عزوجل أنه لو نزل ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللبس كما يفعلون.

__________________

(١). الفرقان : ٧.

(٢). الكهف : ٧.

١١٦

واللبس : الخلط ، يقال : لبست عليه الأمر ألبسه لبسا : أي خلطته ، وأصله التستر بالثوب ونحوه ، ثم قال سبحانه مؤنسا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومسليا له : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يقال : حاق الشيء يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا. نزل ؛ أي فنزل ما كانوا به يستهزءون ، وأحاط بهم : وهو الحق حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين سافروا في الأرض وانظروا آثار من كان قبلكم لتعرفوا ما حلّ بهم من العقوبات ، وكيف كانت عاقبتهم بعد ما كانوا فيه من النّعيم العظيم الذي يفوق ما أنتم فيه ، فهذه ديارهم خاربة وجناتهم مغبرة وأراضيهم مكفهرّة ، فإذا كانت عاقبتهم هذه العاقبة فأنتم بهم لاحقون وبعد هلاكهم هالكون.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) يقول : ما يأتيهم من شيء من كتاب الله إلا أعرضوا عنه ، وفي قوله (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يقول : سيأتيهم يوم القيامة أنباء ما استهزءوا به من كتاب الله عزوجل. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : (مِنْ قَرْنٍ) قال : أمة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) يقول : أعطيناهم ما لم نعطكم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) يقول : يتبع بعضها بعضا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن هارون التيمي في الآية قال : المطر في إبانه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) يقول : لو أنزلنا من السماء صحفا فيها كتاب (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) لزادهم ذلك تكذيبا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) قال : فمسوه ونظروا إليه لم يصدقوا به. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال : دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه إلى الإسلام وكلّمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني ، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنّضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبيّ ابن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويرى معك ، فأنزل الله (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) قال : ملك في صورة رجل (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) لقامت الساعة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) يقول : لو أنزل الله ملكا ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) قال : ولو أتاهم ملك في صورته (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) لأهلكناهم (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) لا يؤخرون (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) يقول : لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل ، لأنهم لا يستطيعون النّظر إلى الملائكة (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) يقول : لخلطنا عليهم ما يخلطون. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد

١١٧

في قوله (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) قال : في صورة رجل ، وفي خلق رجل. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) يقول : في صورة آدميّ. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ) يقول : شبهنا عليهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال : شبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغني بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل بن هشام فهمزوه واستهزءوا به فغاظه ذلك ، فأنزل الله (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١))

قوله : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا احتجاج عليهم وتبكيت لهم. والمعنى : قل لهم هذا القول ، فإن قالوا فقل : لله ، وإذا ثبت أنّ له ما في السموات والأرض إما باعترافهم ، أو بقيام الحجّة عليهم فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب ، ولكنه كتب على نفسه الرّحمة : أي وعد بها فضلا منه وتكرّما. وذكر النفس هنا عبارة عن تأكّد وعده وارتفاع الوسائط دونه ، وفي الكلام ترغيب للمتولّين عنه إلى الإقبال إليه وتسكين خواطرهم ؛ بأنه رحيم بعباده لا يعاجلهم بالعقوبة ، وأنه يقبل منهم الإنابة والتوبة ، ومن رحمته لهم إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، ونصب الأدلّة. قوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) اللام جواب قسم محذوف. قال الفراء وغيره : يجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله : (الرَّحْمَةَ) ويكون ما بعدها مستأنفا على جهة التبيين فيكون المعنى : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) ليمهلنكم وليؤخرنّ جمعكم. وقيل المعنى : ليجمعنكم في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه. وقيل : (إِلى) بمعنى في : أي ليجمعنكم في يوم القيامة. وقيل : يجوز أن يكون موضع (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) النصب على البدل من الرحمة ، فتكون اللام بمعنى أن. والمعنى : كتب ربكم على نفسه الرحمة أن يجمعنكم ، كما قالوا في قوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) (١)

__________________

(١). يوسف : ٣٥.

١١٨

أي أن يسجنوه ، وقيل : إن جملة (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) مسوقة للترهيب بعد الترغيب ، وللوعيد بعد الوعد ؛ أي إن أمهلكم برحمته فهو مجازيكم بجمعكم ثم معاقبة من يستحق عقوبته من العصاة ، والضمير في (لا رَيْبَ فِيهِ) لليوم أو للجمع. قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). قال الزجاج : إنّ الموصول مرتفع على الابتداء ، وما بعده خبره كما تقول : الذي يكرمني فله درهم ، فالفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط. وقال الأخفش : إن شئت كان (الَّذِينَ) في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) أي ليجمعنّ المشركين الذين خسروا أنفسهم ، وأنكره المبرد وزعم أنه خطأ ، لأنه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب. لا يقال مررت بك زيد ولا مررت بي زيد ؛ وقيل : يجوز أن يكون (الَّذِينَ) مجرورا على البدل من المكذبين الذين تقدّم ذكرهم أو على النعت لهم ؛ وقيل : إنه منادى وحرف النداء مقدّر. قوله : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي لله ، وخصّ السّاكن بالذكر ، لأنّ ما يتّصف بالسّكون أكثر مما يتّصف بالحركة ؛ وقيل المعنى : ما سكن فيهما أو تحرّك فاكتفى بأحد الضدّين عن الآخر ، وهذا من جملة الاحتجاج على الكفرة. قوله : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) الاستفهام للإنكار ، قال لهم ذلك لما دعوه إلى عبادة الأصنام ، ولما كان الإنكار لاتّخاذ غير الله وليا ، لا لاتّخاذ الولي مطلقا ، دخلت الهمزة على المفعول لا على الفعل. والمراد بالوليّ هنا : المعبود : أي كيف أتّخذ غير الله معبودا؟ و (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مجرور على أنه نعت لاسم الله ، وأجاز الأخفش الرفع على إضمار مبتدأ ، وأجاز الزجاج النصب على المدح ، وأجاز أبو علي الفارسي نصبه بفعل مضمر كأنه قيل : أترك فاطر السموات والأرض. قوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) قرأ الجمهور بضم الياء وكسر العين في الأوّل ، وضمها وفتح العين في الثاني : أي يرزق ولا يرزق ، وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش بفتح الياء في الثاني وفتح العين ، وقرئ بفتح الياء والعين في الأوّل وضمها وكسر العين في الثاني على أن الضمير يعود إلى الوليّ المذكور ، وخص الإطعام دون غيره من ضروب الإنعام لأن الحاجة إليه أمسّ. قوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أمره سبحانه بعد ما تقدّم من اتّخاذ غير الله وليا أن يقول لهم : إنه مأمور بأن يكون أوّل من أسلم وجهه لله من قومه ، وأخلص من أمته ، وقيل : معنى (أَسْلَمَ) استسلم لأمر الله ، ثم نهاه الله عزوجل أن يكون من المشركين. والمعنى : أمرت بأن أكون أوّل من أسلم ونهيت عن الشرك ؛ أي يقول لهم هذا ، ثم أمره أن يقول : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إن عصيته بعبادة غيره أو مخالفة أمره أو نهيه. والخوف : توقع المكروه ، وقيل : هو هنا بمعنى العلم ، أي إني أعلم إن عصيت ربي أن لي عذابا عظيما. قوله : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) وقرأ أهل المدينة وأهل مكة وابن عامر على البناء للمفعول : أي من يصرف عنه العذاب ، واختار هذه القراءة سيبويه. وقرأ الكوفيون على البناء للفاعل وهو اختيار أبي حاتم ، فيكون الضمير على هذه القراءة لله. ومعنى (يَوْمَئِذٍ) يوم العذاب العظيم (فَقَدْ رَحِمَهُ) الله أي نجاه وأنعم عليه وأدخله الجنة ، والإشارة بذلك إلى الصرف أو إلى الرحمة ؛ أي فذلك الصرف أو الرحمة (الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي الظاهر الواضح ، وقرأ أبيّ : «من يصرف الله عنه». قوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) أي إن ينزل الله بك ضرا من فقر أو مرض (فَلا

١١٩

كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي لا قادر على كشفه سواه (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) من رخاء أو عافية (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملة ذلك المسّ بالشرّ والخير. قوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) القهر : الغلبة ، والقاهر : الغالب ، وأقهر الرجل : إذا صار مقهورا ذليلا ، ومنه قول الشاعر (١) :

تمنّى حصين أن يسود جذاعه

فأمسى حصين قد أذلّ وأقهرا

ومعنى (فَوْقَ عِبادِهِ) فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم ، لا فوقية المكان كما تقول : السلطان فوق رعيته : أي بالمنزلة والرفعة. وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة ، وهو منع غيره عن بلوغ المراد (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أمره (الْخَبِيرُ) بأفعال عباده. قوله : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) أيّ : مبتدأ ، وأكبر : خبره ، وشهادة : تمييز ، والشيء : يطلق على القديم والحادث ، والمحال والممكن. والمعنى : أيّ شهيد أكبر شهادة ، فوضع شيء موضع شهيد ؛ وقيل إن (شَيْءٍ) هنا موضوع موضع اسم الله تعالى. والمعنى : الله أكبر شهادة ؛ أي انفراده بالربوبية ، وقيام البراهين على توحيده ، أكبر شهادة وأعظم فهو شهيد بيني وبينكم ؛ وقيل إن قوله : (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) هو الجواب ، لأنه إذا كان الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شهادة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : إنه قد تمّ الجواب عند قوله : (قُلِ اللهُ) يعني الله أكبر شهادة ، ثم ابتدأ فقال : (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي هو شهيد بيني وبينكم. قوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أي أوحى الله إليّ هذا القرآن الذي تلوته عليكم لأجل أن أنذركم به وأنذر به من بلغ إليه ؛ أي كلّ من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة ، وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد كشمولها لمن قد كان موجودا وقت النزول ما لا يحتاج معه إلى تلك الخزعبلات المذكورة في علم أصول الفقه ، وقرأ أبو نهيك (وَأُوحِيَ) على البناء للفاعل ، وقرأ ابن عدي على البناء للمفعول. قوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) الاستفهام للتوبيخ والتقريع على قراءة من قرأ بهمزتين على الأصل أو بقلب الثانية ، وأما من قرأ على الخبر فقد حقّق عليهم شركهم ، وإنما قال : (آلِهَةً أُخْرى) لأنّ الآلهة جمع ؛ والجمع يقع عليه التأنيث ، كذا قال الفرّاء ، ومثله قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢) وقال : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى)(قُلْ لا أَشْهَدُ) أي فأنا لا أشهد معكم ، فحذف لدلالة الكلام عليه ، وذلك لكون هذه الشهادة باطلة ، ومثله (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) وما : في (مِمَّا تُشْرِكُونَ) موصولة أو مصدرية ؛ أي من الأصنام التي تجعلونها آلهة ، أو من إشراككم بالله. قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) الكتاب : للجنس فيشمل التوراة والإنجيل وغيرهما ؛ أي يعرفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال به جماعة من السلف ، وإليه ذهب الزجاج ؛ وقيل : إن الضمير يرجع إلى الكتاب : أي يعرفونه معرفة محققة بحيث لا يلتبس عليهم منه شيء ، و (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بيان لتحقق تلك المعرفة وكمالها وعدم وجود شك فيها ، فإن معرفة الآباء للأبناء هي البالغة إلى غاية الإتقان إجمالا وتفصيلا. قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)

__________________

(١). هو المخبل السعدي.

(٢). الأعراف : ١٨٠.

١٢٠