فتح القدير - ج ٢

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٢

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٢

وما تأكله الأنعام ، والبهائم من الحشيش والمراعي. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (وَازَّيَّنَتْ) قال : أنبتت وحسنت ، وفي قوله : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) قال : كأن لم تعش ، كأن لم تنعم. وأخرج ابن جرير عن أبيّ بن كعب وابن عباس ومروان ابن الحكم أنهم كانوا يقرءون بعد قوله : (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) وما كان الله ليهلكها إلّا بذنوب أهلها. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه كان يقرأ : وما أهلكناها إلّا بذنوب أهلها (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال : كان مكتوب في سورة يونس إلى حيث هذه الآية (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) إلى (يَتَفَكَّرُونَ) ، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ، ولا يشبع نفس ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب. فمحيت. وأخرج أبو نعيم والدمياطي في معجمه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) يقول : يدعو إلى عمل الجنة. والله : السلام ، والجنة : داره. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) قال : يهديهم للمخرج من الشبهات ، والفتن ، والضلالات. وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من يوم طلعت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلّهم إلا الثقلين : يا أيها الناس هلمّوا إلى ربكم فما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى ، ولا آبت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا [فأنزل الله في ذلك كله قرآنا ، في قول الملكين : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) وأنزل في قولهما : اللهم أعط منفقا خلفا ...] (١) (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ـ وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) إلى قوله (لِلْعُسْرى) (٢). وأخرج ابن جرير ، والحاكم ، وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن سعيد بن أبي هلال سمعت أبا جعفر محمد بن علي يتلو (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فقال : حدّثني جابر قال : «خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فقال : «إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي ، وميكائيل عند رجلي ، يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا ، فقال : اسمع سمعت أذنك ، واعقل عقل قلبك ، إنما مثلك ومثل أمتك مثل ملك اتخذ دارا ، ثم بنى فيها بيتا ، ثم جعل فيها مأدبة ، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ، ومنهم من ترك ؛ فالله هو الملك ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا محمد رسول ، فمن أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل منها». وقد روي معنى هذا من طرق. وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) قال : ذكر لنا

__________________

(١). ما بين حاصرتين استدرك من الدر المنثور [٤ / ٣٥٥].

(٢). الليل : ١ ـ ١٠.

٥٠١

أن في التوراة مكتوبا : يا باغي الخير هلمّ ، ويا باغي الشر اتقه. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه كان إذا قرأ : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) قال : لبيك ربّنا وسعديك. وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن خزيمة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ وغيرهم عن صهيب : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه ، فيقولون : وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ، ويبيض وجوهنا ، ويدخلنا الجنة ، ويزحزحنا عن النار ؛ قال : فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه ، فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، ولا أقر لأعينهم». وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والدار قطني في الرؤية وابن مردويه عن أبي موسى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي بصوت يسمعه أوّلهم وآخرهم : إن الله وعدكم الحسنى وزيادة». فالحسنى : الجنة ، والزيادة : النظر إلى وجه الرحمن. وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي في الرؤية عن كعب بن عجرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال : «الزيادة : النظر إلى وجه الرحمن». وأخرج هؤلاء ، والدارقطني ، وابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال : «الذين أحسنوا : أهل التوحيد ، والحسنى : الجنة ، والزيادة : النّظر إلى وجه الله». وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا نحوه. وأخرج أبو الشيخ ، والدارقطني ، وابن مردويه ، والخطيب ، وابن النجار عن أنس مرفوعا نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن خزيمة ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن أبي بكر الصدّيق في الآية قال : الحسنى : الجنة ، والزّيادة : النّظر إلى وجه الله. وأخرج ابن مردويه من طريق الحارث عن عليّ بن أبي طالب في الآية مثله. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والدارقطني ، والبيهقي عن حذيفة في الآية قال : الزيادة : النظر إلى وجه الله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والدارقطني ، والبيهقي عن أبي موسى نحوه. وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم ، واللالكائي عن ابن مسعود نحوه. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي عن عليّ قال : الزيادة : غرفة من لؤلؤة واحدة ، لها أربعة أبواب ، غرفها وأبوابها من لؤلؤة واحدة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَزِيادَةٌ) قال : هو مثل قوله : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (١) يقول : يجزيهم بعملهم ، ويزيدهم من فضله. وقال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٢) وقد روي عن التابعين ومن بعدهم روايات في تفسير الزيادة غالبها أنها النظر إلى وجه الله سبحانه. وقد ثبت التفسير بذلك من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يبق حينئذ لقائل مقال ، ولا التفات إلى المجادلات الواقعة بين المتمذهبة الذين لا يعرفون من السنة المطهرة ما ينتفعون به ، فإنهم لو عرفوا ذلك لكفّوا عن كثير من هذيانهم ، والله المستعان. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ) قال : لا يغشاهم

__________________

(١). ق : ٣٥.

(٢). الأنعام : ١٦٠.

٥٠٢

(قَتَرٌ) قال : سواد الوجوه. وأخرج أبو الشيخ عن عطاء في الآية قال : القتر : سواد الوجه. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : خزي. وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه عن صهيب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) قال : «بعد نظرهم إليه عزوجل». وأخرج أبو الشيخ عن السدّي في قوله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) قال : الذين عملوا الكبائر (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) قال : النار (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) القطع : السواد نسختها الآية في البقرة : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) (١) الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) قال : تغشاهم ذلة وشدّة. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه في قوله : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يقول : من مانع. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) قال : الحشر الموت. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) قال : فرّقنا بينهم. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد قال : تنصب الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله ، فيقول : هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله؟ فيقولون نعم ، هؤلاء الذين كنا نعبد ، فتقول لهم الآلهة : والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا ، فيقولون : بلى والله لإياكم كنا نعبد ، فتقول لهم الآلهة : (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ). وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يمثل لهم يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله ، فيتبعونهم حتى يؤدّوهم النار ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ)». وأخرج أبو الشيخ عن السدّي : (هُنالِكَ تَبْلُوا) يقول : تتبع. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد قال : (تَبْلُوا) تختبر. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد (تَبْلُوا) قال : تعاين (كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) ما عملت (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ما كانوا يدعون معه من الأنداد. وأخرج أبو الشيخ عن السدّي في قوله : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) قال : نسخها قوله : (اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (٢).

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ

__________________

(١). البقرة : ٨١.

(٢). محمد : ١١.

٥٠٣

تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١))

لما بيّن فضائح المشركين أتبعها بإيراد الحجج الدّامغة من أحوال الرّزق ، والحواس ، والموت ، والحياة ، والابتداء ، والإعادة ، والإرشاد ، والهدى ، وبنى سبحانه الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤولين ليكون أبلغ في إلزام الحجة ، وأوقع في النفوس ، فقال : (قُلْ) يا محمد للمشركين احتجاجا لحقية التوحيد ، وبطلان ما هم عليه من الشرك (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات والمعادن ، فإن اعترفوا حصل المطلوب ، وإن لم يعترفوا : فلا بدّ أن يعترفوا بأن الله هو الذي خلقهما (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أم : هي المنقطعة ، وفي هذا انتقال من سؤال إلى سؤال ، وخصّ السّمع ؛ والبصر بالذكر لما فيهما من الصنعة العجيبة ، والقدرة الباهرة العظيمة ، أي : من يستطيع ملكهما وتسويتهما على هذه الصفة العجيبة ، والخلقة الغريبة حتى ينتفعوا بهما هذا الانتفاع العظيم ، ويحصلون بهما من الفوائد ما لا يدخل تحت حصر الحاصرين؟ ثم انتقل إلى حجة ثالثة ، فقال : (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)؟ الإنسان من النطفة ، والطير من البيضة ، والنبات من الحبة ، أو المؤمن من الكافر (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ)؟ أي : النطفة من الإنسان ، أو الكافر من المؤمن ، والمراد من هذا الاستفهام : عمن يحيي ويميت ، ثم انتقل إلى حجة رابعة ، فقال : (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)؟ أي : يقدّره ويقضيه ، وهذا من عطف العام على الخاص لأنه قد عمّ ما تقدّم وغيره (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) أي : سيكون قولهم في جواب هذه الاستفهامات : إن الفاعل لهذه الأمور هو الله سبحانه ؛ إن أنصفوا وعملوا على ما يوجبه الفكر الصحيح ، والعقل السليم ، وارتفاع الاسم الشريف : على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ خبره محذوف ، أي : الله يفعل ذلك ، ثم أمره الله سبحانه بعد أن يجيبوا بهذا الجواب أن يقول لهم : (أَفَلا تَتَّقُونَ)؟ والاستفهام للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر ، أي : تعلمون ذلك أفلا تتقون وتفعلون ما يوجبه هذا العلم من تقوى الله الذي يفعل هذه الأفعال؟ (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) أي : فذلكم الذي يفعل هذه الأفعال هو ربكم المتصف بأنه الحق ، لا ما جعلتموهم شركاء له ، والاستفهام في قوله : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ)؟ للتقريع والتوبيخ إن كانت ما استفهامية ، لا إن كانت نافية كما يحتمله الكلام ، والمعنى : أيّ شيء بعد الحق إلا الضلال؟ فإن ثبوت ربوبية الربّ سبحانه حق بإقرارهم فكان غيره باطلا ، لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحدا في ذاته وصفاته (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي : كيف تستجيزون العدول عن الحقّ الظاهر ، وتقعون في الضّلال إذ لا واسطة بينهما؟ فمن تخطّى أحدهما وقع في الآخر ، والاستفهام للإنكار ، والاستبعاد ، والتعجب (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي : كما حقّ وثبت أن الحقّ بعده الضّلال ، أو كما حقّ أنهم مصروفون عن الحقّ ، كذلك حقّت كلمة ربك ؛ أي : حكمه وقضاؤه على

٥٠٤

الذين فسقوا ، أي : خرجوا من الحقّ إلى الباطل ، وتمرّدوا في كفرهم عنادا ومكابرة ، وجملة (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بدل من الكلمة. قاله الزّجّاج ؛ أي : حقّت عليهم هذه الكلمة ، وهي عدم إيمانهم ، ويجوز أن تكون الجملة تعليلية لما قبلها بتقدير اللام ، أي : لأنهم لا يؤمنون. وقال الفرّاء : إنه يجوز إنهم لا يؤمنون بالكسر على الاستئناف ، وقد قرأ نافع وابن عامر كلمات ربك بالجمع. وقرأ الباقون بالإفراد. قوله (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أورد سبحانه في هذا حجة خامسة على المشركين ، أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقولها لهم ، وهم وإن كانوا لا يعترفون بالمعاد ، لكنه لما كان أمرا ظاهرا بينا ، وقد أقام الأدلة عليه في هذه السورة على صورة لا يمكن دفعها عند من أنصف ، ولم يكابر كان كالمسلّم عندهم الذي لا جحد له ولا إنكار فيه ، ثم أمره سبحانه أن يقول لهم (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي هو الذي يفعل ذلك لا غيره ، وهذا القول الذي قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمر الله سبحانه له هو نيابة عن المشركين في الجواب ، إما : على طريق التلقين لهم ، وتعريفهم كيف يجيبون ، وإرشادهم إلى ما يقولون ، وإما : لكون هذا المعنى قد بلغ في الوضوح إلى غاية لا يحتاج معها إلى إقرار الخصم ، ومعرفة ما لديه ، وإما : لكون المشركين لا ينطقون بما هو الصّواب في هذا الجواب فرارا منهم عن أن تلزمهم الحجّة ، أو أن يسجل عليهم بالعناد والمكابرة إن حادوا عن الحقّ ، ومعنى : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف تؤفكون؟ أي : تصرفون عن الحق وتنقلبون منه إلى غيره. ثم أمره الله سبحانه أن يورد عليهم حجّة سادسة فقال : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) والاستفهام هاهنا كالاستفهامات السابقة ، والاستدلال بالهداية بعد الاستدلال بالخلق وقع كثيرا في القرآن كقوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (١) وقوله : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢) وقوله : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ـ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣) وفعل الهداية يجيء متعديا باللام وإلى ، وهما : بمعنى واحد. روي ذلك عن الزّجّاج. والمعنى : قل لهم يا محمد هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام ، ويدعو الناس إلى الحق؟ فإذا قالوا لا ، فقل لهم : الله يهدي للحق دون غيره ، ودليل ذلك ما تقدّم من الأدلة الدالة على اختصاصه سبحانه بهذا ، وهداية الله سبحانه لعباده إلى الحقّ هي : بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات ، وإرساله للرسل ، وإنزاله للكتب ، وخلقه لما يتوصل به العباد إلى ذلك من العقول والأفهام والأسماع والأبصار ، والاستفهام في قوله : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) للتقرير ، وإلزام الحجّة.

وقد اختلف القراء في (لا يَهِدِّي) فقرأ أهل المدينة إلا نافعا يهدي بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال فجمعوا في قراءتهم هذه بين ساكنين. قال النحّاس : والجمع بين ساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به. قال محمد بن يزيد : لا بدّ لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر ، وسيبويه يسمى هذا اختلاسا. وقرأ أبو عمرو وقالون في رواية بين الفتح والإسكان. وقرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. قال النحاس : هذه القراءة بينة في العربية ، والأصل فيها يهتدي ، أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها إلى الهاء. وقرأ حفص ويعقوب والأعمش مثل قراءة ابن كثير إلا أنهم كسروا الهاء ، قالوا : لأن الكسر هو الأصل عند التقاء الساكنين. وقرأ أبو بكر عن عاصم يهدي بكسر الياء والهاء

__________________

(١). الشعراء : ٧٨.

(٢). طه : ٥٠.

(٣). الأعلى : ٢ و ٣.

٥٠٥

وتشديد الدال وذلك للاتباع. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب يهدي بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال من هدى يهدي. قال النحاس : وهذه القراءة لها وجهان في العربية ، وإن كانت بعيدة : الأوّل : أن الكسائي والفراء قالا : إن يهدي بمعنى يهتدي. الثاني : أن أبا العباس قال : إن التقدير أم من لا يهدي غيره ، ثم تمّ الكلام ، وقال بعد ذلك (إِلَّا أَنْ يُهْدى) أي لكنه يحتاج أن يهدى ، فهو استثناء منقطع ، كما تقول : فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع ، أي : لكنه يحتاج أن يسمع. والمعنى على القراءات المتقدّمة : أفمن يهدي الناس إلى الحق ، وهو الله سبحانه أحق أن يتبع ويقتدى به ، أم الأحق بأن يتبع ويقتدى به من لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره فضلا عن أن يهدي غيره؟ والاستثناء على هذا استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال. قوله : (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا تعجيب من حالهم باستفهامين متواليين : أي : أيّ شيء لكم؟ كيف تحكمون باتخاذ هؤلاء شركاء لله؟ وكلا الاستفهامين للتقريع والتوبيخ ، وكيف في محل نصب بتحكمون ، ثم بين سبحانه ما هؤلاء عليه في أمر دينهم ، وعلى أيّ شيء بنوه ، وبأيّ شيء اتبعوا هذا الدين الباطل ، وهو الشرك فقال : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) وهذا كلام مبتدأ غير داخل في الأوامر السابقة. والمعنى : ما يتبع هؤلاء المشركون في إشراكهم بالله وجعلهم له أندادا إلا مجرّد الظن والتّخمين والحدس ، ولم يكن ذلك عن بصيرة ، بل ظنّ من ظنّ من سلفهم أن هذه المعبودات تقرّبهم إلى الله ، وأنها تشفع لهم ، ولم يكن ظنه هذا لمستند قط ، بل مجرد خيال مختل ، وحدس باطل ، ولعل تنكير الظّنّ هنا للتحقير ؛ أي : إلا ظنّا ضعيفا لا يستند إلى ما تستند إليه سائر الظّنون. وقيل : المراد بالآية إنه ما يتبع أكثرهم في الإيمان بالله ، والإقرار به إلا ظنا ، والأوّل أولى. ثم أخبرنا الله سبحانه بأن مجرّد الظّنّ لا يغني من الحق شيئا ، لأن أمر الدين إنما يبنى على العلم ، وبه يتضح الحق من الباطل ، والظن لا يقوم مقام العلم ، ولا يدرك به الحق ، ولا يغني عن الحق في شيء من الأشياء ، ويجوز انتصاب شيئا على المصدرية ، أو على أنه مفعول به ، ومن الحق حال منه ، والجملة مستأنفة لبيان شأن الظن ، وبطلانه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) من الأفعال القبيحة الصادرة لا عن برهان. قوله (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) لما فرغ سبحانه من دلائل التّوحيد وحججه شرع في تثبيت أمر النبوّة ؛ أي : وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآن المشتمل على الحجج البينة ، والبراهين الواضحة يفترى من الخلق من دون الله ، وإنما هو من عند الله عزوجل ، وكيف يصحّ أن يكون مفترى ، وقد عجز عن الإتيان بسورة منه القوم الذين هم أفصح العرب لسانا وأدقهم أذهانا (وَلكِنْ) كان هذا القرآن (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب المنزلة على الأنبياء ، ونفس هذا التّصديق معجزة مستقلة ، لأنّ أقاصيصه موافقة لما في الكتب المتقدمة ؛ مع أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يطلع على ذلك ولا تعلمه ولا سأل عنه ولا اتصل بمن له علم بذلك ، وانتصاب تصديق على أنه خبر لكان المقدرة بعد لكن ، ويجوز أن يكون انتصابه على العلية لفعل محذوف ؛ أي : لكن أنزله الله تصديق الذين بين يديه. قال الفراء : ومعنى الآية ، وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى كقوله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) (١) (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) (٢). وقيل : إن «أن» بمعنى اللام ، أي : وما كان هذا القرآن ليفترى ؛ وقيل : بمعنى لا ، أي :

__________________

(١). آل عمران : ١٦١.

(٢). التوبة : ١٢٢.

٥٠٦

لا يفترى. قال الكسائي والفراء : إن التقدير في قوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ) : ولكن كان تصديق ، ويجوز عندهما الرفع ، أي : ولكن هو تصديق ؛ وقيل المعنى : ولكن القرآن تصديق (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب ، أي : أنها قد بشرت به قبل نزوله فجاء مصدّقا لها ؛ وقيل المعنى : ولكن تصديق النبيّ الذي بين يدي القرآن ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم شاهدوه قبل أن يسمعوا منه القرآن. قوله (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) عطف على قوله (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) فجيء فيه الرفع والنصب على الوجهين المذكورين في تصديق ، والتّفصيل : التبيين ؛ أي : يبين ما في كتب الله المتقدّمة ، والكتاب : للجنس ؛ وقيل : أراد ما بين في القرآن من الأحكام ، فيكون المراد بالكتاب : القرآن. قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) الضمير عائد إلى القرآن ، وهو داخل في حكم الاستدراك خبر ثالث ، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال من الكتاب ، ويجوز أن تكون الجملة استئنافية لا محل لها ، و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر رابع ، أي : كائن من ربّ العالمين ، ويجوز أن يكون حالا من الكتاب ، أو من ضمير القرآن في قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي : كائنا من ربّ العالمين ، ويجوز أن يكون متعلقا بتصديق وتفصيل ، وجملة (لا رَيْبَ فِيهِ) معترضة. قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) الاستفهام للإنكار عليهم مع تقرير ثبوت الحجّة ، وأم : هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة ، أي : بل أيقولون افتراه واختلقه. وقال أبو عبيدة : أم بمعنى الواو ، أي : ويقولون افتراه ؛ وقيل : الميم زائدة ، والتقدير : أيقولون افتراه ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، ثم أمره الله سبحانه أن يتحدّاهم حتى يظهر عجزهم ويتبين ضعفهم فقال : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) أي : إن كان الأمر كما تزعمون من أن محمدا افتراه ، فأتوا أنتم على جهة الافتراء بسورة مثله في البلاغة ، وجودة الصناعة ، فأنتم مثله في معرفة لغة العرب ، وفصاحة الألسن ، وبلاغة الكلام (وَادْعُوا) بمظاهريكم ومعاونيكم (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) دعاءه والاستعانة به من قبائل العرب ، ومن آلهتكم التي تجعلونهم شركاء لله. وقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بادعوا ، أي : ادعوا من سوى الله من خلقه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أن هذا القرآن مفترى.

وسبحان الله العظيم ما أقوى هذه الحجّة وأوضحها وأظهرها للعقول ، فإنهم لما نسبوا الافتراء إلى واحد منهم في البشرية والعربية ، قال لهم : هذا الذي نسبتموه إليّ وأنا واحد منكم ليس عليكم إلا أن تأتوا وأنتم الجمع الجمّ بسورة مماثلة لسورة من سوره ، واستعينوا بمن شئتم من أهل هذه اللسان العربية على كثرتهم وتباين مساكنهم ، أو من غيرهم من بني آدم ، أو من الجنّ ، أو من الأصنام ، فإن فعلتم هذا بعد اللتيا والتي فأنتم صادقون فيما نسبتموه إليّ وألصقتموه بي. فلم يأتوا عند سماع هذا الكلام المنصف والتنزّل البالغ بكلمة ، ولا نطقوا ببنت شفة ، بل كاعوا عن الجواب ، وتشبثوا بأذيال العناد البارد ، والمكابرة المجردة عن الحجّة ، وذلك مما لا يعجز عنه مبطل ، ولهذا قال سبحانه عقب هذا التحدّي البالغ : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) فأضرب عن الكلام الأوّل ، وانتقل إلى بيان أنهم سارعوا إلى تكذيب القرآن قبل أن يتدبروه ويفهموا معانيه وما اشتمل عليه ، وهكذا صنع من تصلّب في التقليد ولم يبال لما جاء به من دعا إلى الحق وتمسك بذيول الإنصاف ، بل يردّه بمجرد كونه لم يوافق هواه ، ولا جاء على طبق دعواه قبل أن يعرف معناه ، ويعلم مبناه ،

٥٠٧

كما تراه عيانا ، وتعلمه وجدانا. والحاصل أن من كذب بالحجّة النّيرة والبرهان الواضح قبل أن يحيط بعلمه ، فهو لم يتمسّك بشيء في هذا التكذيب إلا مجرد كونه جاهلا لما كذب به غير عالم به ، فكان بهذا التكذيب مناديا على نفسه بالجهل بأعلى صوت ، ومسجلا بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل ، وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء :

ما يبلغ الأعداء من جاهل

ما يبلغ الجاهل من نفسه

قوله : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) معطوف على : (لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أي : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وبما لم يأتهم تأويله ، أو هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي : كذبوا به حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به ، ولا بلغته عقولهم. والمعنى : أنّ التّكذيب منهم وقع قبل الإحاطة بعلمه ، وقبل أن يعرفوا ما يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدّمين والأمم السابقين ، ومن حكايات ما سيحدث من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها ، أو قبل أن يفهموه حق الفهم وتتعقله عقولهم ، فإنهم لو تدبروه كلية التدبر لفهموه كما ينبغي ، وعرفوا ما اشتمل عليه من الأمور الدالة أبلغ دلالة على أنه كلام الله ؛ وعلى هذا : فمعنى : تأويله ، ما يؤول إليه لمن تدبره من المعاني الرشيقة واللطائف الأنيقة ، وكلمة التوقع أظهر في المعنى الأوّل (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : مثل ذلك التّكذيب كذب الذين من قبلهم من الأمم عند أن جاءتهم الرسل بحجج الله وبراهينه ، فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه ، وقبل أن يأتيهم تأويله (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) من الأمم السالفة من سوء العاقبة بالخسف ، والمسخ ، ونحو ذلك من العقوبات التي حلت بهم ، كما حكى ذلك القرآن عنهم ، واشتملت عليه كتب الله المنزّلة عليهم. قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي : ومن هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن من يؤمن به في نفسه ، ويعلم أنه صدق وحق ، ولكنه كذب به مكابرة وعنادا ، وقيل : المراد : ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن كذب به في الحال ، والموصول مبتدأ ، وخبره منهم (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) ولا يصدّقه في نفسه ، بل كذب به جهلا كما مرّ تحقيقه ، أو لا يؤمن به في المستقبل ، بل يبقى على جحوده وإصراره ؛ وقيل : الضمير في الموضعين ، للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد قيل : إن هذا التقسيم خاص بأهل مكة ، وقيل عام في جميع الكفار (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) فيجازيهم بأعمالهم ، والمراد بهم : المصرّون المعاندون ، أو بكلا الطائفتين ، وهم الذين يؤمنون به في أنفسهم ويكذبون به في الظاهر ، والذين يكذبون به جهلا ، أو الذين يؤمنون به في المستقبل ، والذين لا يؤمنون به. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم إن أصرّوا على تكذيبه واستمرّوا عليه : (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أي : لي جزاء عملي ، ولكم جزاء عملكم فقد أبلغت إليكم ما أمرت بإبلاغه ، وليس عليّ غير ذلك ، ثم أكد هذا بقوله : (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي : لا تؤاخذون بعملي ، ولا أؤاخذ بعملكم. وقد قيل : إن هذا منسوخ بآية السيف ، كما ذهب إليه جماعة من المفسرين.

٥٠٨

وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) يقول : سبقت كلمة ربك. وأخرج أبو الشيخ عن الضّحّاك قال : صدقت. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) قال : الأوثان. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي) الآية ، قال : أمره بهذا ، ثم نسخه ، فأمره بجهادهم.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩))

قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ) إلخ ، بين الله سبحانه في هذا أن في أولئك الكفار من بلغت حاله في النّفرة والعداوة إلى هذا الحدّ ، وهي : أنهم يستمعون إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ القرآن وعلم الشرائع في الظاهر ، ولكنهم لا يسمعون في الحقيقة لعدم حصول أثر السماع ، وهو : حصول القبول والعمل بما يسمعونه ولهذا قال (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) يعني : أن هؤلاء وإن استمعوا في الظّاهر فهم صمّ ، والصمم مانع من سماعهم ، فكيف تطمع منهم بذلك مع حصول المانع؟ وهو الصمم ، فكيف إذا انضمّ إلى ذلك أنهم لا يعقلون؟ فإن من كان أصمّ غير عاقل لا يفهم شيئا ولا يسمع ما يقال له. وجمع الضمير في يستمعون حملا على معنى من ، وأفرده في : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ) حملا على لفظه. قيل : والنكتة : كثرة المستمعين بالنسبة إلى الناظرين ، لأن الاستماع لا يتوقف على ما يتوقف عليه النظر من المقابلة ، وانتفاء الحائل ، وانفصال الشعاع ، والنور الموافق لنور البصر ، والتقدير في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ) : ومنهم ناس يستمعون ، ومنهم بعض ينظر ، والهمزتان في (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ أَفَأَنْتَ تَهْدِي) : للإنكار ، والفاء في الموضعين للعطف على مقدّر ، كأنه قيل : أيستمعون إليك فأنت تسمعهم؟ أينظرون إليك فأنت تهديهم؟ والكلام في : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) كالكلام في : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ) إلخ. لأن العمى مانع فكيف يطمع من صاحبه في النظر؟ وقد انضمّ إلى فقد البصر فقد البصيرة ، لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يكون له من الحدس الصحيح ما يفهم به في بعض الأحوال فهما يقوم مقام النظر ، وكذلك الأصمّ العاقل قد يتحدّس تحدّسا يفيده بعض فائدة ، بخلاف من جمع له بين عمى البصر والبصيرة فقد تعذر عليه الإدراك. وكذا من جمع له بين الصمم وذهاب العقل ؛ فقد انسدّ عليه باب الهدى ، وجواب لو في الموضعين : محذوف دلّ عليهما ما قبلهما ، والمقصود من هذا الكلام : تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٥٠٩

فإنّ الطبيب إذا رأى مريضا لا يقبل العلاج أصلا أعرض عنه واستراح من الاشتغال به. قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ذكر هذا عقب ما تقدّم من عدم الاهتداء بالأسماع والأبصار ، لبيان أن ذلك لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم من السّمع والعقل والبصر والبصيرة ، بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق ، والمجادلة بالباطل ، والإصرار على الكفر ، فهم الذين ظلموا أنفسهم بذلك ، ولم يظلمهم الله شيئا من الأشياء ، بل خلقهم ، وجعل لهم من المشاعر ما يدركون به أكمل إدراك ، وركّب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون ، ووفّر مصالحهم الدنيوية عليهم ، وخلّى بينهم وبين مصالحهم الدينية ، فعلى نفسها براقش تجني. وقرأ حمزة والكسائي : (وَلكِنَّ النَّاسَ) بتخفيف النون ورفع الناس ، وقرأ الباقون : بتشديدها ونصب الناس. قال النحاس : زعم جماعة من النحويين منهم الفراء : أن العرب إذا قالت : (وَلكِنَ) بالواو شدّدوا النون ، وإذا حذفوا الواو خففوها. قيل : والنكتة في وضع الظاهر موضع المضمر : زيادة التعيين والتقرير ، وتقديم المفعول على الفعل : لإفادة القصر ، أو بمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة. قوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) الظرف منصوب بمضمر ، أي : واذكر يوم نحشرهم (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) أي : كأنهم لم يلبثوا ، والجملة في محلّ نصب على الحال ، أي : مشبهين من لم يلبث (إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) أي : شيئا قليلا منه ، والمراد باللبث هو اللبث في الدنيا ، وقيل : في القبور ، استقلوا المدّة الطويلة إما : لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا ، فجعلوا وجودها كالعدم ، أو استقصروها للدهش والحيرة ، أو : لطول وقوفهم في المحشر ، أو : لشدّة ما هم فيه من العذاب نسوا لذات الدنيا وكأنها لم تكن ، ومثل هذا قولهم : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (١) وجملة : (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة. والمعنى : يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا ، وذلك عند خروجهم من القبور ، ثم تنقطع التعاريف بينهم ؛ لما بين أيديهم من الأمور المدهشة للعقول المذهلة للأفهام. وقيل : إن هذا التعارف هو تعارف التوبيخ والتقريع ، يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني ، لا تعارف شفقة ورأفة كما قال تعالى : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) (٢) وقوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٣) فيجمع : بأن المراد بالتعارف : هو تعارف التوبيخ ؛ وعليه يحمل قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) (٤) ، وقد جمع بين الآيات المختلفة في مثل هذا وغيره : بأن المواقف يوم القيامة مختلفة فقد يكون في بعض المواقف ما لا يكون في الآخر (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) هذا تسجيل من الله سبحانه عليهم بالخسران ، والجملة في محل النصب على الحال ، والمراد بلقاء الله يوم القيامة : عند الحساب والجزاء ، ونفى عنهم أن يكونوا من جنس المهتدين لجهلهم وعدم طلبهم لما ينجيهم وينفعهم. قوله : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أصله : إن نرك ، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط وزيدت نون التأكيد ، والمعنى : إن حصلت منا الإراءة لك بعض الذي وعدناهم : من إظهار دينك في حياتك بقتلهم وأسرهم ، وجواب الشرط محذوف ، والتقدير فتراه ، أو فذاك ، وجملة : (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) معطوفة على ما قبلها ، والمعنى : أو لا نرينك ذلك في حياتك ، بل نتوفينك قبل ذلك (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ)

__________________

(١). الكهف : ١٩.

(٢). المعارج : ١٠.

(٣). المؤمنون : ١٠١.

(٤). سبأ : ٣١.

٥١٠

فعند ذلك نعذبهم في الآخرة فنريك عذابهم فيها ، وجواب (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) : محذوف أيضا ، والتقدير : أو نتوفينك قبل الإراءة فنحن نريك ذلك في الآخرة ؛ وقيل : إن جواب (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) هو قوله : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) لدلالته على ما هو المراد من إراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعذيبهم في الآخرة ، وقيل : العدول إلى صيغة المستقبل في الموضعين لاستحضار الصورة ، والأصل : أريناك أو توفيناك ، وفيه نظر ، فإن إراءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض ما وعد الله المشركين من العذاب لم تكن قد وقعت كالوفاة. وحاصل معنى هذه الآية : إن لم ننتقم منهم عاجلا انتقمنا منهم آجلا. وقد أراه الله سبحانه قتلهم ، وأسرهم ، وذلهم ، وذهاب عزّهم ، وانكسار سورة كبرهم بما أصابهم به في يوم بدر وما بعده من المواطن ، فلله الحمد. قوله : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) جاء بثم الدالة على التبعيد مع كون الله سبحانه شهيدا على ما يفعلونه في الدارين : للدلالة على أن المراد بهذه الأفعال ما يترتب عليها من الجزاء ، أو ما يحصل من إنطاق الجوارح بالشهادة عليهم يوم القيامة ، فجعل ذلك بمنزلة شهادة الله عليهم ، كما ذكره النيسابوري (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم الخالية في وقت من الأوقات (رَسُولٌ) يرسله الله إليهم ، ويبين لهم ما شرعه الله لهم من الأحكام على حسب ما تقتضيه المصلحة (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) إليهم ، وبلغهم ما أرسله الله به ، فكذبوه جميعا (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي : بين الأمة ورسولها (بِالْقِسْطِ) أي : العدل ، فنجا الرسول ، وهلك المكذبون له ، كما قال سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ويجوز أن يراد بالضمير في : بينهم ، الأمة على تقدير أنه كذبه بعضهم وصدقه البعض الآخر ، فيهلك المكذبون ، وينجو المصدقون (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في ذلك القضاء ، فلا يعذبون بغير ذنب ، ولا يؤاخذون بغير حجّة ، ومنه قوله تعالى : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) (١) وقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) (٢) والمراد : المبالغة في إظهار العدل والنّصفة بين العباد ، ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبه الكفار ، وذلك أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان كلما هددهم بنزول العذاب كانوا (يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) والاستفهام منهم للإنكار ، والاستبعاد ، وللقدح في النبوّة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) خطابا منهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه ما قبله ، ويحتمل أن يراد بالقائلين هذه المقالة : جميع الأمم الذين لم يسلموا لرسلهم الذين أرسلهم الله إليهم ، ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم بما يحسم مادّة الشبهة ، ويقطع اللجاج ، فقال : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي : لا أقدر على جلب نفع لها ولا دفع ضرّ عنها ، فكيف أقدر على أن أملك ذلك لغيري ، وقدّم الضرّ ، لأن السياق : لإظهار العجز عن حضور الوعد الذي استعجلوه واستبعدوه ، والاستثناء في قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) منقطع ، كما ذكره أئمة التفسير ، أي : ولكن ما شاء الله من ذلك كان ، فكيف أقدر على أن أملك لنفسي ضرا أو نفعا. وفي هذه أعظم واعظ ، وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه ، وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه. فإن هذا مقام ربّ العالمين ؛ الذي خلق الأنبياء ، والصالحين ، وجميع المخلوقين ، ورزقهم ، وأحياهم ، ويميتهم ، فكيف يطلب من نبيّ من الأنبياء ، أو ملك من الملائكة ، أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه ، غير قادر عليه ،

__________________

(١). الزمر : ٦٩.

(٢). النساء : ٤١.

٥١١

ويترك الطلب لربّ الأرباب القادر على كل شيء ، الخالق ، الرزاق ، المعطي ، المانع؟ وحسبك بما في هذه الآية موعظة ، فإن هذا سيد ولد آدم ، وخاتم الرسل ، يأمره الله بأن يقول لعباده : لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا ، فكيف يملكه لغيره ، وكيف يملكه غيره ـ من رتبته دون رتبته ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته ـ لنفسه فضلا عن أن يملكه لغيره ، فيا عجبا لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثّرى ، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عزوجل؟ كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك ، ولا يتنبهون لما حلّ بهم من المخالفة لمعنى : لا إله إلّا الله ، ومدلول : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)؟ وأعجب من هذا اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ، ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى ، بل إلى ما هو أشدّ منها ، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق ، الرازق ، المحيي ، المميت ، الضارّ ، النافع ، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ومقرّبين لهم إليه ، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضرّ والنفع ، وينادونهم تارة على الاستقلال ، وتارة مع ذي الجلال. وكفاك من شرّ سماعه ، والله ناصر دينه ومطهر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر ، ولقد توسّل الشيطان ، أخزاه الله ، بهذه الذريعة إلى ما تقرّ به عينه وينثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١) إنا لله وإنا إليه راجعون ـ ثم بين سبحانه : أن لكل طائفة حدّا محدودا لا يتجاوزونه فلا وجه لاستعجال العذاب فقال : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) فإذا جاء ذلك الوقت أنجز وعده ، وجازى كلا بما يستحقه ، والمعنى : أن لكلّ أمة ممن قضي بينهم وبين رسولهم ، أو بين بعضهم البعض ، أجلا معينا ووقتا خاصا يحلّ بهم ما يريده الله سبحانه لهم عند حلوله (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي : ذلك الوقت المعيّن ، والضمير راجع إلى كل أمة (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ) عن ذلك الأجل المعين (ساعَةً) أي : شيئا قليلا من الزمان (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) عليه ، وجملة لا يستقدمون : معطوفة على جملة : لا يستأخرون ، ومثله قوله تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٢) والكلام على هذه الآية المذكورة هنا قد تقدّم في تفسير الآية التي في أوّل الأعراف فلا نعيده. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) قال : يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه لا يستطيع أن يكلمه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) الآية ، قال : سوء العذاب في حياتك (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) وفي قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) قال : يوم القيامة.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

__________________

(١). الكهف : ١٠٤.

(٢). الحجر : ٥.

٥١٢

(٥٦) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))

قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) هذا منه سبحانه تزييف لرأي الكفار في استعجال العذاب بعد التّزييف الأوّل ، أي : أخبروني إن أتاكم عذاب الله (بَياتاً) أي : وقت بيات ، والمراد به : الوقت الذي يبيتون فيه ، وينامون ويغفلون عن التّحرّز ، والبيات : بمعنى التبييت اسم مصدر كالسلام بمعنى التسليم ، وهو منصب على الظرفية ، وكذلك : نهارا ، أي : وقت الاشتغال بطلب المعاش والكسب ، والضمير في : منه ، راجع إلى العذاب ؛ وقيل : راجع إلى الله ، والاستفهام في (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) للإنكار المتضمن للنهي ، كما في قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (١) ووجه الإنكار عليهم في استعجالهم : أن العذاب مكروه تنفر منه القلوب ، وتأباه الطبائع ، فما المقتضي لاستعجالهم له؟ والجملة المصدرة بالاستفهام جواب الشرط ، بحذف الفاء ؛ وقيل : إن الجواب محذوف ، والمعنى : تندموا على الاستعجال ، أو تعرفوا الخطأ منكم فيه ؛ وقيل : إن الجواب قوله : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) وتكون جملة : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) اعتراضا ، والمعنى : إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان. والأوّل أولى. وإنما قال : يستعجل منه المجرمون ، ولم يقل يستعجلون منه ، للدلالة على ما يوجب ترك الاستعجال ، وهو الإجرام ، لأن من حقّ المجرم أن يخاف من العذاب بسبب إجرامه ، فكيف يستعجله؟ كما يقال لمن يستوهم أمرا إذا طلبه : ما ذا تجني على نفسك؟ وحكى النحاس عن الزجاج أن الضمير في (مِنْهُ) إن عاد إلى العذاب كان لك في (ما ذا) تقديران : أحدهما أن تكون ما في موضع رفع بالابتداء ، وذا بمعنى الذي ، وهو خبر ما ، والعائد محذوف. والتقدير الآخر : أن يكون (ما ذا) اسما واحدا في موضع رفع بالابتداء ، والخبر : ما بعده ، وإن جعل الضمير في (مِنْهُ) عائدا إلى الله تعالى كان (ما ذا) شيئا واحدا في موضع نصب بيستعجل ، والمعنى : أيّ شيء يستعجل منه المجرمون ، أي : من الله عزوجل ، ودخول الهمزة الاستفهامية في (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) على ثم كدخولها على الواو والفاء ، وهي لإنكار إيمانهم حيث لا ينفع الإيمان وذلك بعد نزول العذاب ، وهو يتضمّن معنى التهويل عليهم ، وتفظيع ما فعلوه في غير وقته ، مع تركهم له في وقته الذي يحصل به النّفع والدّفع ، وهذه الجملة داخلة تحت القول المأمور به ، وجيء بكلمة ثم التي للتراخي : دلالة على الاستبعاد ، وجيء بإذا مع زيادة ما للتأكيد : دلالة على تحقق وقوع الإيمان منهم في غير وقته ليكون في ذلك زيادة استجهال لهم ، والمعنى : أبعد ما وقع عذاب الله عليكم ، وحلّ بكم سخطه وانتقامه ، آمنتم حين لا ينفعكم هذا الإيمان شيئا؟ ولا يدفع عنكم ضرّا ؛ وقيل : إن هذه الجملة ليست داخلة تحت القول المأمور به ، وإنها من قول الملائكة : استهزاء بهم ، وإزراء عليهم. والأول أولى. وقيل : إن ثم هاهنا هي بفتح الثاء فتكون ظرفية بمعنى هناك. والأوّل أولى. قوله : (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) قيل : هو استئناف بتقدير القول غير داخل تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله لهم ، أي : قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب : الآن آمنتم به وقد كنتم به تستعجلون؟ أي : بالعذاب ، تكذيبا منكم واستهزاء ، لأن استعجالهم كان على جهة التّكذيب

__________________

(١). النحل : ١.

٥١٣

والاستهزاء ، ويكون المقصود بأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم هذا القول : التوبيخ لهم والاستهزاء بهم والإزراء عليهم ، وجملة : (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) في محل نصب على الحال ، وقرئ الآن بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام. قوله : (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) معطوف على الفعل المقدّر ، قيل : الآن ، والمراد منه : التقريع والتوبيخ لهم ؛ أي : قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر وعدم الإيمان : إنّ هذا الذي تطلبونه ضرر محض ، عار عن النفع من كل وجه ، والعاقل لا يطلب ذلك ، ويقال لهم على سبيل الإهانة لهم : ذوقوا عذاب الخلد ، أي : العذاب الدائم الذي لا ينقطع ، والقائل لهم هذه المقالة ، والتي قبلها قيل : هم الملائكة الذين هم خزنة جهنم ، ولا يبعد أن يكون القائل لذلك هم الأنبياء على الخصوص ، أو المؤمنون على العموم (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) في الحياة من الكفر والمعاصي ، والاستفهام : للتقرير ، وكأنه يقال لهم هذا القول عند استغاثتهم من العذاب وحلول النقمة. ثم حكى الله سبحانه عنهم بعد هذه البيانات البالغة ، والجوابات عن أقوالهم الباطلة. أنهم استفهموا تارة أخرى عن تحقق العذاب ، فقال (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) أي : يستخبرونك على جهة الاستهزاء منهم والإنكار : أحق ما تعدنا به من العذاب في العاجل والآجل ، وهذا السؤال منهم جهل محض. وظلمات بعضها فوق بعض ، فقد تقدّم ذكره عنهم مع الجواب عليه ، فصنيعهم في هذا التّكرير صنيع من لا يعقل ما يقول ولا ما يقال له ؛ وقيل : المراد بهذا الاستخبار منهم : هو عن حقية القرآن ، وارتفاع حق : على أنه خبر مقدّم ، والمبتدأ : هو الضمير الذي بعده ، وتقديم الخبر للاهتمام ، أو هو مبتدأ ، والضمير مرتفع به سادّ مسدّ الخبر ، والجملة في موضع نصب بيستنبؤنك ، وقرئ (الْحَقِّ هُوَ) على أن اللام للجنس ، فكأنه قيل : أهو الحق لا الباطل؟ قوله : (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ) أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم هذه المقالة جوابا عن استفهامهم الخارج مخرج الاستهزاء ، أي : قل لهم يا محمد غير ملتفت إلى ما هو مقصودهم من الاستهزاء : إي وربّي إنه لحق ؛ أي نعم وربي إن ما أعدكم به من العذاب لحقّ ثابت كائن لا محالة. وفي هذا الجواب تأكيد من وجوه. الأوّل : القسم مع دخول الحرف الخاص بالقسم الواقع موقع نعم ؛ الثاني : دخول إن المؤكدة ؛ الثالث : اللام في لحق ؛ الرابع : اسمية الجملة ، وذلك يدلّ : على أنهم قد بلغوا في الإنكار والتمرّد إلى الغاية التي ليس وراءها غاية ، ثم توعدهم بأشدّ توعد ، ورهبهم بأعظم ترهيب ، فقال : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي : فائتين العذاب بالهرب والتحيل الذي لا ينفع ، والمكابرة التي لا تدفع من قضاء الله شيئا ، وهذه الجملة : إما معطوفة على جملة جواب القسم ، أو : مستأنفة لبيان عدم خلوصهم من عذاب الله بوجه من الوجوه ؛ ثم زاد في التأكيد ، فقال : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) أي : ولو أن لكل نفس من الأنفس المتّصفة بأنها ظلمت نفسها بالكفر بالله ؛ وعدم الإيمان به ؛ ما في الأرض من كل شيء من الأشياء التي تشتمل عليها من الأموال النفيسة والذخائر الفائقة لافتدت به ، أي : جعلته فدية لها من العذاب ، ومثله قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) (١) وقد تقدّم قوله : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) الضمير راجع إلى الكفار الذين سياق الكلام معهم ، وقيل : راجع إلى الأنفس المدلول

__________________

(١). آل عمران : ٩١.

٥١٤

عليها بكل نفس. ومعنى أسروا : أخفوا ، أي : لم يظهروا الندامة بل أخفوها لما قد شاهدوه في ذلك الموطن مما سلب عقولهم ، وذهب بتجلدهم ، ويمكن أنه بقي فيهم ـ وهم على تلك الحالة ـ عرق ينزعهم إلى العصبية التي كانوا عليها في الدنيا ، فأسرّوا الندامة لئلا يشمت بهم المؤمنون ؛ وقيل أسرّها الرؤساء فيما بينهم دون أتباعهم : خوفا من توبيخهم لهم ، لكونهم هم الذين أضلوهم ، وحالوا بينهم وبين الإسلام ، ووقوع هذا منهم كان عند رؤية العذاب ، وأما بعد الدخول فيه فهم الذين (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) (١) وقيل : معنى أسروا : أظهروا ، وقيل : وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم ، لأن الندامة لا يمكن إظهارها ، ومنه قول كثير :

فأسررت النّدامة يوم نادى

بردّ جمال غاضرة المنادي

وذكر المبرّد في ذلك وجهين : الأوّل : أنها بدت في وجوههم أسرة الندامة ، وهي الانكسار ، واحدها سرار ، وجمعها أسارير ، والثاني : ما تقدّم ؛ وقيل : معنى : (أَسَرُّوا النَّدامَةَ) أخلصوها ، لأن إخفاءها إخلاصها ، و (لَمَّا) في قوله (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) ظرف بمعنى : حين ، منصوب بأسرّوا ؛ أو حرف شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي : قضى الله بين المؤمنين وبين الكافرين ، أو بين الرؤساء والأتباع ، أو بين الظالمين من الكفار والمظلومين ؛ وقيل : معنى : القضاء بينهم : إنزال العقوبة عليهم ، والقسط : العدل ، وجملة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في محل نصب على الحال ، أي : لا يظلمهم الله فيما فعله بهم من العذاب الذي حلّ بهم فإنه بسبب ما كسبوا ، وجملة (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مسوقة لتقرير كمال قدرته ، لأنّ من ملك ما في السموات والأرض تصرّف به كيف يشاء ، وغلب غير العقلاء لكونهم أكثر المخلوقات ، قيل : لما ذكر سبحانه افتداء الكفار بما في الأرض لو كان لهم ذلك ؛ بين أن الأشياء كلها لله ، وليس لهم شيء يتمكنون من الافتداء به ؛ وقيل : لما أقسم على حقية ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يصحب ذلك بدليل البرهان البين : بأن ما في العالم على اختلاف أنواعه ملكه ، يتصرف به كيف يشاء ، وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه : تنبيه للغافلين ، وإيقاظ للذاهلين ، ثم أكد ما سبق بقوله : (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي : كائن لا محالة ، وهو عامّ يندرج فيه ما استعجلوه من العذاب اندراجا أوّليا ، وتصدير الجملة بحرف التنبيه : كما قلنا في التي قبلها مع الدلالة على تحقق مضمون الجملتين (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي : الكفار (لا يَعْلَمُونَ) ما فيه صلاحهم فيعملون به ، وما فيه فسادهم فيجتنبونه (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) يهب الحياة ويسلبها (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في الدار الآخرة فيجازي كلا بما يستحقه ، ويتفضل على من يشاء من عباده. قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني : القرآن فيه ما يتعظ به من قرأه وعرف معناه ، والوعظ في الأصل : هو التذكير بالعواقب ، سواء كان بالترغيب أو الترهيب ، والواعظ هو كالطبيب ينهى المريض عما يضرّه ، ومن في (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلقة بالفعل ، وهو جاءتكم ، فتكون ابتدائية ، أو متعلقة بمحذوف ، فتكون تبعيضية (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) من الشّكوك التي تعتري بعض المرتابين لوجود ما يستفاد منه فيه من العقائد الحقّة ، واشتماله على تزييف العقائد الباطلة ، والهدى : الإرشاد لمن اتبع القرآن ، وتفكر فيه ، وتدبّر معانيه إلى الطّريق الموصلة إلى الجنّة ، والرّحمة : هي ما يوجد في الكتاب العزيز من الأمور

__________________

(١). المؤمنون : ١٠٦.

٥١٥

التي يرحم الله بها عباده ، فيطلبها من أراد ذلك حتى ينالها ، فالقرآن العظيم مشتمل على هذه الأمور ، ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل الخطاب معه بعد خطابه للناس على العموم ، فقال : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) المراد بالفضل من الله سبحانه : هو تفضله على عباده في الآجل والعاجل بما لا يحيط به الحصر ، والرحمة : رحمته لهم. وروي عن ابن عباس أنه قال : فضل الله : القرآن ، ورحمته : الإسلام ، وروي عن الحسن ، والضحاك ، ومجاهد ، وقتادة أن فضل الله : الإيمان ، ورحمته : القرآن. والأولى : حمل الفضل والرحمة على العموم ، ويدخل في ذلك ما في القرآن منهما دخولا أوّليا ، وأصل الكلام : قل : بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ، ثم حذف هذا الفعل لدلالة الثاني في قوله : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) عليه ، قيل : والفاء في هذا الفعل المحذوف داخلة في جواب شرط مقدّر كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوا فضل الله ورحمته بالفرح. وتكرير الباء في : برحمته ، للدلالة على أن كل واحد من الفضل والرحمة سبب مستقلّ في الفرح ، والفرح : هو اللذة في القلب بسبب إدراك المطلوب ، وقد ذمّ الله سبحانه الفرح في مواطن ، كقوله : (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (١) وجوّزه في قوله : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٢) وكما في هذه الآية ، ويجوز أن تتعلق الباء في (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) : بقوله : (جاءَتْكُمْ) ، والتقدير : جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك ، أي : فبمجيئها فليفرحوا ، وقرأ يزيد بن القعقاع ، ويعقوب : فلتفرحوا بالفوقية ، وقرأ الجمهور بالتحتية ؛ والضمير في (هُوَ خَيْرٌ) راجع إلى المذكور من الفضل والرحمة ، أو : إلى المجيء على الوجه الثاني ، أو إلى اسم الإشارة في قوله (فَبِذلِكَ) والمعنى : أن هذا خير لهم مما يجمعونه من حطام الدنيا. وقد قرئ بالتاء الفوقية في (يَجْمَعُونَ) مطابقة للقراءة بها في فلتفرحوا. وقد تقرّر في العربية : أن لام الأمر تحذف مع الخطاب إلا في لغة قليلة جاءت هذه القراءة عليها ، وقرأ الجمهور : بالمثناة التحتية في يجمعون ، كما قرءوا في : فليفرحوا. وروي عن ابن عامر أنه قرأ : بالفوقية في : يجمعون ، والتحتية : في : فلتفرحوا.

وقد أخرج الطبراني ، وأبو الشيخ عن أبي الأحوص قال : جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال : إن أخي يشتكي بطنه ؛ فوصف له الخمر ، فقال : سبحان الله! ما جعل الله في رجس شفاء ، إنما الشفاء في شيء من القرآن والعسل ، فهما شفاء لما في الصّدور وشفاء للناس. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال : «إن الله جعل القرآن شفاء لما في الصدور ، ولم يجعله شفاء لأمراضكم». وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني أشتكي صدري ، فقال : اقرأ القرآن ، يقول الله : شفاء لما في الصدور». وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن واثلة بن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجع حلقه قال : «عليك بقراءة القرآن والعسل ، فالقرآن شفاء لما في الصدور ، والعسل شفاء من كل داء». وأخرج أبو داود ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن أبي قال : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتاء ، يعني : الفوقية ، وقد روي نحو هذا من غير هذه الطريق. وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) قال : بفضل الله : القرآن ، وبرحمته : أن

__________________

(١). القصص : ٧٦.

(٢). آل عمران : ١٧٠.

٥١٦

جعلكم من أهله». وأخرج الطبراني في الأوسط عن البراء مثله من قوله. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي سعيد الخدري مثله. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال : بكتاب الله وبالإسلام. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عنه قال : فضله : الإسلام ، ورحمته : القرآن. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عنه أيضا قال : بفضل الله : القرآن ، وبرحمته : حين جعلهم من أهله. وقد روي عن جماعة من التابعين نحو هذه الروايات المتقدّمة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس : هو خير مما يجمعون من الأموال والحرث والأنعام.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤))

أشار سبحانه بقوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ) إلخ ، إلى طريق أخرى غير ما تقدّم من إثبات النبوّة ، وتقرير ذلك ما حاصله : أنكم تحكمون بتحليل البعض وتحريم البعض ، فإن كان بمجرد التشهي والهوى : فهو مهجور باتفاق العقلاء مسلمهم وكافرهم ، وإن كان لاعتقادكم أنه حكم الله فيكم وفيما رزقكم : فلا تعرفون ذلك إلا بطريق موصلة إلى الله ، ولا طريق يتبين بها الحلال من الحرام إلا من جهة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده ، ومعنى أرأيتم : أخبروني ، و (ما) في محل نصب بأرأيتم المتضمن لمعنى أخبروني وقيل : إن (ما) في محل الرفع بالابتداء ، وخبرها : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) و (قُلْ) في قوله : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) تكرير للتأكيد والرابط محذوف ، ومجموع المبتدأ والخبر في محل نصب بأرأيتم ، والمعنى : أخبروني الذي أنزل الله إليكم من رزق ، فجعلتم منه حراما وحلالا ، آلله أذن لكم في تحليله وتحريمه؟ (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)؟ وعلى الوجهين : فمن في : منه حراما ، للتبعيض ، والتقدير : فجعلتم بعضه حراما وجعلتم بعضه حلالا ، وذلك كما كانوا يفعلونه في الأنعام حسبما سبق ذلك عنهم في الكتاب العزيز ؛ ومعنى إنزال الرزق : كون المطر ينزل من جهة العلوّ ، وكذلك يقضي الأمر في أرزاق العباد في السماء على ما قد ثبت في اللوح المحفوظ من ذكره سبحانه وتعالى لكل شيء فيه. وروي عن الزجاج أن (ما) في موضع نصب بأنزل ، وأنزل بمعنى : خلق ، كما قال : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (١) (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) (٢)

__________________

(١). الزمر : ٦.

(٢). الحديد : ٢٥.

٥١٧

وعلى هذا القول والقول الأوّل يكون قوله : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ)؟ مستأنفا ، قيل : ويجوز أن تكون الهمزة في : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) للإنكار ، وأم منقطعة بمعنى : بل أتفترون على الله ، وإظهار الاسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال الافتراء. وفي هذه الآية الشريفة ما يصكّ مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته ، بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه ، مع كونهم من المقلّدين الذين لا يعقلون حجج الله ، ولا يفهمونها ، ولا يدرون ما هي ، ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم ، وجعلوه شارعا مستقلا ، ما عمل به من الكتاب والسّنّة فهو المعمول به عندهم ، وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه ؛ أو فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه ؛ فهو في حكم المنسوخ عندهم المرفوع حكمه عن العباد ، مع كون من قلّدوه متعبّدا بهذه الشريعة كما هم متعبدون بها ومحكوما عليه بأحكامها كما هو محكوم عليهم بها ، وقد اجتهد رأيه وأدّى ما عليه ، وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ ؛ إنّما الشّأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه شريعة مستقلة ، ودليلا معمولا به ، وقد أخطئوا في هذا خطأ بينا ، وغلطوا غلطا فاحشا ، فإنّ التّرخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده ، ولا قائل من أهل الإسلام المعتدّ بأقوالهم أنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليدا له واقتداء به. وما جاء به المقلدة في تقوّل هذا الباطل ، فهو من الجهل العاطل ، اللهمّ كما رزقتنا من العلم ما تميز به بين الحق والباطل ، فارزقنا من الإنصاف ما نظفر عنده بما هو الحق عندك يا واهب الخير. ثم قال : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : أيّ شيء ظنّهم في هذا اليوم؟ وما يصنع بهم فيه؟ وهذه الجملة الاستفهامية المتضمّنة لتعظيم الوعيد لهم غير داخلة تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله لهم ، بل مبتدأة مسوقة لبيان ما سيحلّ بهم من عذاب الله ، و (يَوْمَ الْقِيامَةِ) : منصوب بالظنّ ، وذكر الكذب بعد الافتراء ، مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا لزيادة التأكيد. وقرأ عيسى ابن عمر : (وَما ظَنُ) على أنه فعل (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) يتفضل عليهم بأنواع النعم في الدنيا والآخرة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) الله على نعمه الواصلة إليهم منه سبحانه في كل وقت من الأوقات ، وطرفة من الطرفات. قوله : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما نافية ، والشأن : الأمر ، بمعنى : القصد ، وأصله الهمز ، وجمعه شؤون. قال الأخفش : تقول العرب : ما شأنت شأنه : أي ما عملت عمله (وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) قال الفرّاء والزّجّاج : الضمير في منه يعود على الشّأن ، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف ؛ أي : تلاوة كائنة منه ، إذ التلاوة للقرآن من أعظم شؤونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ والمعنى : أنه يتلو ـ من أجل الشأن الذي حدث ـ القرآن فيعلم كيف حكمه ، أو يتلو القرآن الذي في ذلك الشأن. وقال ابن جرير الطبري : الضمير عائد في منه إلى الكتاب ، : أي : ما يكون من كتاب الله من قرآن ، وأعاده تفخيما له كقوله : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) (١) ، والخطاب في : (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) لرسول الله وللأمة ؛ وقيل : الخطاب لكفار قريش (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال للمخاطبين ، أي : شهودا عليكم بعمله منكم ، والضمير في : فيه ، من قوله : (تُفِيضُونَ فِيهِ) عائد على العمل ، يقال : أفاض فلان في الحديث والعمل : إذا اندفع فيه. وقال الضحاك : الضمير في فيه عائد على القرآن ؛ والمعنى : إذ تشيعون

__________________

(١). طه : ١٤.

٥١٨

في القرآن الكذب. قوله : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) قرأ الكسائي : يعزب بكسر الزاي ، وقرأ الباقون : بالضم ، وهما لغتان فصيحتان ، ومعنى يعزب : يغيب ، وقيل : يبعد. وقال ابن كيسان : يذهب ، وهذه المعاني متقاربة ، ومن : في (مِنْ مِثْقالِ) زائدة للتأكيد ، أي : وما يغيب عن ربك وزن ذرة ، أي : نملة حمراء ، وعبر بالأرض والسماء مع أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء لا فيهما ولا فيما هو خارج عنهما ، لأن الناس لا يشاهدون سواهما وسوى ما فيهما من المخلوقات ، وقدّم الأرض على السماء : لأنها محل استقرار العالم فهم يشاهدون ما فيها من قرب ، والواو في (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) للعطف على لفظ مثقال ، وانتصبا لكونهما ممتنعين ، ويجوز أن يكون العطف على ذرّة ، وقيل : انتصابهما بلا التي لنفي الجنس ، والواو للاستئناف ، وليس من متعلقات وما يعزب ، وخبر لا : (إِلَّا فِي كِتابٍ) والمعنى : ولا أصغر من مثقال الذرّة ولا أكبر منه إلا وهو في كتاب مبين فكيف يغيب عنه؟ وقرأ يعقوب وحمزة : برفع أصغر وأكبر ، ووجه ذلك : أنه معطوف على محل من مثقال ، ومحله الرفع ، وقد أورد على توجيه النصب والرفع على العطف على لفظ مثقال ومحله ؛ أو على لفظ ذرّة إشكال ، وهو أنه يصير تقدير الآية : لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب ، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجا عن علم الله وهو محال. وقد أجيب عن هذا الإشكال : بأن الأشياء المخلوقة قسمان : قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة ، كخلق الملائكة والسموات والأرض ؛ وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأوّل من حوادث عالم الكون والفساد ، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسلة العلية عن مرتبة الأوّل ، فالمراد من الآية : أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده سبحانه شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه صورة تلك المعلومات ، والغرض : الردّ على من يزعم أنه غير عالم بالجزئيات. وأجيب أيضا : بأن الاستثناء منقطع ، أي : ولكن هو في كتاب مبين. وذكر أبو علي الجرجاني : أن إلا بمعنى الواو ، على أن الكلام قد تمّ عند قوله (وَلا أَكْبَرَ) ثم وقع الابتداء بقوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : وهو أيضا في كتاب مبين. والعرب قد تضع إلا موضع الواو ، ومنه قوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ـ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) (١) يعني : ومن ظلم ، وقوله (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) (٢) أي : والذين ظلموا ، وقدّر هو بعد الواو التي جاءت إلا بمعناها كما في قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) (٣) أي : هي حطة ، ومثله : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) (٤) (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥). وقال الزّجّاج : إن الرفع على الابتداء في قراءة من قرأ بالرفع ، وخبره : (إِلَّا فِي كِتابٍ) واختاره صاحب الكشاف ، واختار في قراءة النصب التي قرأ بها الجمهور : أنهما منصوبان بلا التي لنفي الجنس ، واستشكل العطف بنحو ما قدّمنا. ثم لما بين سبحانه إحاطته بجميع الأشياء ، وكان في ذلك تقوية لقلوب المطيعين ، وكسر لقلوب العاصين ، ذكر حال المطيعين ، فقال : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الوليّ في اللغة : القريب. والمراد بأولياء الله : خلّص المؤمنين ، كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معصيته. وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي :

__________________

(١). النحل : ١٠ و ١١.

(٢). البقرة : ١٥٠.

(٣). البقرة : ٥٨.

(٤). النساء : ١٧١.

(٥). الأنعام : ٥٩.

٥١٩

يؤمنون بما يجب الإيمان به ، ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من معاصي الله سبحانه ، والمراد بنفي الخوف عنهم : أنهم لا يخافون أبدا كما يخاف غيرهم ، لأنهم قد قاموا بما أوجب الله عليهم ، وانتهوا عن المعاصي التي نهاهم عنها ، فهم على ثقة من أنفسهم وحسن ظنّ بربهم ، وكذلك لا يحزنون على فوت مطلب من المطالب ، لأنهم يعلمون أن ذلك بقضاء الله وقدره فيسلمون للقضاء والقدر ، ويريحون قلوبهم عن الهمّ والكدر ، فصدورهم منشرحة ، وجوارحهم نشطة ، وقلوبهم مسرورة ؛ ومحل الموصول : النصب ، على أنه بدل من أولياء ، أو الرفع : على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أو هو مبتدأ : وخبره : لهم البشرى ، فيكون غير متصل بما قبله ، أو النصب أيضا على المدح أو على أنه وصف لأولياء. قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) تفسير لمعنى كونهم أولياء الله ، أي : لهم البشرى من الله ما داموا في الحياة بما يوحيه إلى أنبيائه ، وينزله في كتبه ، من كون حال المؤمنين عنده هو إدخالهم الجنة ورضوانه عنهم ، كما وقع كثير من البشارات للمؤمنين في القرآن الكريم ، وكذلك ما يحصل لهم من الرؤيا الصالحة ، وما يتفضل الله به عليهم من إجابة دعائهم ، وما يشاهدونه من التبشير لهم عند حضور آجالهم بتنزل الملائكة عليهم قائلين لهم : لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة ؛ وأما البشرى في الآخرة : فتلقي الملائكة لهم مبشرين بالفوز بالنعيم والسلامة من العذاب. والبشرى : مصدر أريد به المبشر به ، والظرفان في محل نصب على الحال ، أي : حال كونهم في الدنيا وحال كونهم في الآخرة ، ومعنى : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لا تغيير لأقواله على العموم ، فيدخل فيها ما وعد به عباده الصالحين دخولا أوّليا ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى المذكور قبله من كونهم مبشرين بالبشارتين في الدارين (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا يقادر قدره ولا يماثله غيره ، والجملتان : أعني : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) و (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) اعتراض في آخر الكلام عند من يجوّزه ، وفائدتهما : تحقيق المبشر به وتعظيم شأنه ، أو الأولى : اعتراضية ، والثانية : تذييلية.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) قال : هم أهل الشرك كانوا يحلّون من الأنعام والحرث ما شاؤوا ، ويحرّمون ما شاؤوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) قال : إذ تفعلون. وأخرج الفريابي وابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) قال : لا يغيب عنه وزن ذرة. (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) قال : هو الكتاب الذي عند الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ) قيل : من هم يا ربّ؟ قال : هم الذين آمنوا وكانوا يتّقون. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : هم الذين إذا رأوا ذكر الله. وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا قال : هم الذين إذا رأوا يذكر الله لرؤيتهم. وأخرج عنه ابن المبارك ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه مرفوعا مثله. وأخرجه ابن المبارك وابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير مرفوعا ، وهو مرسل. وروي

٥٢٠