فتح القدير - ج ٢

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٢

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٢

صدقة هذا ، فنزلت : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) الآية ، وفي الباب روايات كثيرة. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) أي : يطعنون على المطوّعين.

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣))

أخبر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنّ صدور الاستغفار منه للمنافقين وعدمه سواء ، وذلك لأنهم ليسوا بأهل لاستغفاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا للمغفرة من الله سبحانه لهم ، فهو كقوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) ، ثم قال : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وفيه بيان لعدم المغفرة من الله سبحانه للمنافقين وإن أكثر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الاستغفار لهم ، وليس المراد من هذا أنه لو زاد على السبعين لكان ذلك مقبولا كما في سائر مفاهيم الأعداد ، بل المراد بهذا : المبالغة في عدم القبول. فقد كانت العرب تجري ذلك مجرى المثل في كلامها عند إرادة التكثير ، والمعنى : أنه لن يغفر الله لهم ؛ وإن استغفرت لهم استغفارا بالغا في الكثرة غاية المبالغ. وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن التقييد بهذا العدد المخصوص يفيد قبول الزيادة عليه ، ويدل لذلك ما سيأتي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : لأزيدنّ على السبعين. وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجها فقال : إنّ السبعة عدد شريف ، لأنّها عدد السموات ، والأرضين ، والبحار ، والأقاليم ، والنجوم السيارة ، والأعضاء ، وأيام الأسبوع ، فصير كلّ واحد من السبعة إلى عشرة ؛ لأنّ الحسنة بعشر أمثالها. وقيل : خصّت السبعون بالذكر لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كبّر على عمه الحمزة سبعين تكبيرة ، فكأنه قال : إن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء تكبيراتك على حمزة. وانتصاب سبعين على المصدر كقولهم : ضربته عشرين ضربة. ثم علل عدم المغفرة لهم بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي : ذلك الامتناع بسبب كفرهم بالله ورسوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي : المتمرّدين ، الخارجين عن الطاعة ، المتجاوزين لحدودها ، والمراد هنا الهداية الموصلة إلى المطلوب ، لا الهداية التي بمعنى الدلالة وإراءة الطريق. ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من قبائح المنافقين فقال : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) المخلفون : المتروكون ، وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المنافقين ، فأذن لهم ، وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك ، أو الذين خلفهم الله وثبطهم ، أو الشيطان ، أو كسلهم ، أو المؤمنون ، ومعنى (بِمَقْعَدِهِمْ) أي : بقعودهم ، يقال : قعد قعودا ومقعدا ؛ أي : جلس ، وأقعده غيره ، ذكر معناه الجوهري فهو متعلق بفرح ، أي : فرح المخلفون بقعودهم ، وخلاف رسول الله :

٤٤١

منتصب على أنه ظرف لمقعدهم. قال الأخفش ويونس : الخلاف بمعنى الخلف ، أي : بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن جهة الإمام التي يقصدها الإنسان تخالفها جهة الخلف ، وقال قطرب والزجاج : معنى خلاف رسول الله : مخالفة الرسول حين سار وأقاموا ، فانتصابه على مفعول له ، أي : قعدوا لأجل المخالفة ، أو على الحال مثل : وأرسلها العراك ، أي : مخالفين له ، ويؤيد ما قاله الأخفش ويونس قراءة أبي حيوة : خلف رسول الله. قوله : (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) سبب ذلك الشحّ بالأموال والأنفس ، وعدم وجود باعث الإيمان وداعي الإخلاص وجود الصارف عن ذلك ، وهو ما هم فيه من النفاق ، وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين لأموالهم وأنفسهم في سبيل الله لوجود الداعي معهم ، وانتفاء الصارف عنهم (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) أي : قال المنافقون لإخوانهم هذه المقالة تثبيطا لهم ، وكسرا لنشاطهم : وتواصيا بينهم بالمخالفة لأمر الله ورسوله ، ثم أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم : (نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) والمعنى : إنكم أيها المنافقون! كيف تفرّون من هذا الحرّ اليسير ، ونار جهنم التي ستدخلونها خالدين فيها أبدا أشدّ حرّا مما فررتم منه ، فإنكم إنما فررتم من حرّ يسير في زمن قصير ، ووقعتم في حرّ كثير في زمن كبير ، بل غير متناه أبد الآبدين ودهر الداهرين.

فكنت كالسّاعي إلى مثعب

موائلا من سبل الرّاعد

وجواب لو في (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) : مقدّر ، أي : لو كانوا يفقهون أنها كذلك لما فعلوا ما فعلوا. قوله : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) هذان الأمران معناهما الخبر ، والمعنى : فسيضحكون قليلا ويبكون كثيرا ، وإنما جيء بهما على لفظ الأمر للدلالة على أن ذلك أمر محتوم لا يكون غيره ، وقليلا وكثيرا منصوبان على المصدرية أو الظرفية ، أي : ضحكا قليلا ، وبكاء كثيرا ، أو زمانا قليلا ، وزمانا كثيرا (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : جزاء بسبب ما كانوا يكسبونه من المعاصي ، وانتصاب جزاء على المصدرية ، أي : يجزون جزاء (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) الرجع متعدّ كالردّ ، والرجوع لازم ، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها وإنما قال : (إِلى طائِفَةٍ) لأن جميع من أقام بالمدينة لم يكونوا منافقين بل كان فيهم غيرهم من المؤمنين لهم أعذارا صحيحة ، وفيهم من المؤمنين من لا عذر له ، ثم عفا عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتاب الله عليهم كالثلاثة الذين خلفوا ، وسيأتي بيان ذلك. وقيل إنما قال : إلى طائفة ، لأن منهم من تاب عن النفاق ، وندم على التخلف (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) معك في غزوة أخرى بعد غزوتك هذه (فَقُلْ) لهم (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) أي : قل لهم ذلك عقوبة لهم ، ولما في استصحابهم من المفاسد كما تقدم في قوله : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً). وقرئ بفتح الياء من معي في الموضعين. وقرئ بسكونها فيهما ، وجملة (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) للتعليل ، أي : لن تخرجوا معي ولن تقاتلوا لأنكم رضيتم بالقعود والتخلف أوّل مرّة ، وهي غزوة تبوك ، والفاء في (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) لتفريع ما بعدها على ما قبلها ، والخالفين : جمع خالف ، كأنهم خلفوا الخارجين ، والمراد بهم : من تخلف عن الخروج. وقيل المعنى : فاقعدوا مع الفاسدين ، من قولهم فلان خالف أهل بيته إذا كان فاسدا فيهم ، من قولك خلف

٤٤٢

اللبن ، أي : فسد بطول المكث في السقاء. ذكر معناه الأصمعي. وقرئ : (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) وقال الفراء : معناه المخالفين.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عروة أن عبد الله بن أبيّ قال : لو لا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضوا من حوله ، وهو القائل : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) (١) فأنزل الله (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأزيدنّ على السبعين ، فأنزل الله (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه. وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم والنحاس وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : سمعت عمر يقول : لما توفي عبد الله بن أبيّ دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصلاة عليه فقام عليه ، فلما وقف قلت : أعلى عدوّ الله عبد الله بن أبيّ القائل كذا وكذا ، والقائل كذا وكذا؟ أعدد أيامه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتبسم حتى إذا أكثرت قال : يا عمر أخر عني ، إني قد خيرت ، قد قيل لي : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها ، ثم صلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه ، فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله ورسوله أعلم ، فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) فما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على منافق بعد حتى قبضه الله عزوجل. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ) الآية قال : عن غزوة تبوك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه ، وذلك في الصيف ، فقال رجل : يا رسول الله! الحر شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفروا في الحر ، فقال الله : (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) فأمره بالخروج. وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) قال : هم المنافقون والكفار الذين اتخذوا دينهم هزوا ولعبا ، يقول الله : فليضحكوا قليلا في الدنيا : وليبكوا كثيرا في الآخرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) قال : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين وفيهم قيل ما قيل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) قال : هم الرجال الذين تخلفوا عن الغزو.

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ

__________________

(١). المنافقون : ٨.

٤٤٣

(٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧))

قوله : (ماتَ) صفة لأحد ، و (أَبَداً) ظرف لتأبيد النفي. قال الزجاج : معنى قوله : (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له ؛ فمنع هاهنا منه ؛ وقيل معناه : لا تقم بمهمات إصلاح قبره ، وجملة (إِنَّهُمْ كَفَرُوا) تعليل للنهي ، وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر ؛ لأنّ الكافر قد يكون عدلا في دينه ، والكذب والنّفاق والخداع والجبن والخبث مستقبحة في كلّ دين. ثم نهى رسوله عن أن تعجبه أموالهم وأولادهم ، وهو تكرير لما سبق في هذه السورة وتقرير لمضمونه ؛ وقيل : إن الآية المتقدّمة في قوم ، وهذه في آخرين ، وقيل : هذه في اليهود ، والأولى : في المنافقين ؛ وقيل : غير ذلك. وقد تقدّم في الآية الأولى جميع ما يحتاج إليه في تفسير هذه الآية ، ثم عاد الله سبحانه إلى توبيخ المنافقين ، فقال : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) أي : من القرآن ، ويجوز أن يراد بعض السورة ، وأن يراد : تمامها ؛ وقيل : هي هذه السورة ، أي : سورة براءة و «أن» في (أَنْ آمِنُوا بِاللهِ) مفسرة لما في الإنزال من معنى القول ؛ أو مصدرية حذف منها الجارّ ، أي : بأن آمنوا ، وإنما قدّم الأمر بالإيمان لأن الاشتغال بالجهاد لا يفيد إلّا بعد الإيمان (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) أي : ذوو الفضل والسعة ، من طال عليه طولا ، كذا قال ابن العباس والحسن ، وقال الأصمّ : الرؤساء ، والكبراء المنظور إليهم ، وخصهم بالذكر لأن الذم لهم ألزم ، إذ لا عذر لهم في القعود (وَقالُوا ذَرْنا) أي : اتركنا (نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) أي : المتخلفين عن الغزو من المعذورين ؛ كالضعفاء والزمنى ، والخوالف : النساء اللاتي يخلفن الرجال في القعود في البيوت ، جمع خالفة ، وجوّز بعضهم أن يكون جمع خالف ، وهو من لا خير فيه (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) هو كقوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) وقد مرّ تفسيره (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) شيئا مما فيه نفعهم وضرهم ، بل هم كالأنعام.

وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبيّ بن سلول أتى ابنه عبد الله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام عمر فأخذ ثوبه فقال : يا رسول الله! أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال : «إنّ ربي خيرني وقال : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وسأزيد على السبعين ، فقال : إنه منافق ، فصلّى عليه فأنزل الله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) الآية فترك الصلاة عليهم». وأخرج ابن ماجة والبزار وابن جرير وابن مردويه عن جابر قال : مات رأس المنافقين بالمدينة فأوصى أن يصلي عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن يكفنه في قميصه ، فجاء ابنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أبي أوصى أن يكفن في قميصك ، فصلى عليه وألبسه قميصه وقام على قبره ، فأنزل الله (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (أُولُوا الطَّوْلِ) قال : أهل الغني. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) قال : مع النساء. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية قال : رضوا بأن يقعدوا كما قعدت النساء. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : الخوالف : النساء.

٤٤٤

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩))

المقصود من الاستدراك بقوله : (لكِنِ الرَّسُولُ) إلى آخره ؛ الإشعار بأن تخلف هؤلاء غير ضائر ، فإنه قد قام بفريضة الجهاد من هو خير منهم ، وأخلص نية كما في قوله : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) (١). وقد تقدّم بيان الجهاد بالأموال ، والأنفس ، ثم ذكر منافع الجهاد فقال : (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) وهي : جمع خير ، فيشمل منافع الدنيا والدين ؛ وقيل المراد به : النساء الحسان كقوله تعالى : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) (٢) ومفردة خيرة بالتشديد ، ثم خففت مثل هينة وهينة. وقد تقدّم معنى الفلاح ، والمراد به هنا : الفائزون بالمطلوب ، وتكرير اسم الإشارة لتفخيم شأنهم ، وتعظيم أمرهم ، والجنات : البساتين. وقد تقدم بيان جري الأنهار من تحتها ، وبيان الخلود والفوز ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم من الخيرات والفلاح ، وإعداد الجنّات الموصوفة بتلك الصفة ؛ ووصف الفوز بكونه عظيما ؛ يدلّ على أنه الفرد الكامل من أنواع الفوز.

وقد أخرج القرطبي في تفسيره عن الحسن أنه قال الخيرات : هنّ النّساء الحسان.

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠))

قرأ الأعرج والضّحّاك : (الْمُعَذِّرُونَ) بالتّخفيف ، من أعذر ، ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم ، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس. قال في الصحاح : وكان ابن عباس يقرأ (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) مخففة من أعذر. ويقول : والله هكذا أنزلت. قال النحاس : إلا أن مدارها على الكلبي ، وهي من أعذر : إذا بالغ في العذر ، ومنه «من أنذر فقد أعذر» أي : بالغ في العذر. وقرأ الجمهور (الْمُعَذِّرُونَ) بالتشديد ففيه وجهان ، أحدهما أن يكون أصله المعتذرون فأدغمت التاء في الذال ، وهم الذين لهم عذر ، ومنه قول لبيد :

إلى الحول ثم اسم السّلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

فالمعذرون على هذا : هم المحقّون في اعتذارهم. وقد روي هذا عن الفرّاء ، والزّجّاج ، وابن الأنباري ؛ وقيل : هو من عذّر ، وهو الذي يعتذر ولا عذر له ، يقال : عذر في الأمر : إذا قصر واعتذر بما ليس بعذر ، ذكره الجوهري ، وصاحب الكشاف ؛ فالمعذرون على هذا : هم المبطلون ، لأنهم اعتذروا بأعذار باطلة لا أصل لها. وروي عن الأخفش ، والفراء ، وأبي حاتم ، وأبي عبيد ، أنه يجوز كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها للاتباع. والمعنى : أنه جاء هؤلاء من الأعراب بما جاءوا به من الأعذار بحق أو بباطل على كلا التفسيرين لأجل أن يأذن لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتخلف عن الغزو ، وطائفة أخرى لم يعتذروا ، بل قعدوا عن الغزو لغير عذر ،

__________________

(١). الأنعام : ٨٩.

(٢). الرحمن : ٧٠.

٤٤٥

وهم منافقو الأعراب الذين كذبوا الله ورسوله ، ولم يؤمنوا ، ولا صدّقوا ، ثم توعدهم الله سبحانه ، فقال : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي : من الأعراب ، وهم الذين اعتذروا بالأعذار الباطلة ، والذين لم يعتذروا ، بل كذبوا بالله ورسوله (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : كثير الألم ؛ فيصدق على عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) أي : أهل العذر منهم. وروى ابن أبي حاتم عنه نحو ذلك. وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عنه أيضا أنه كان يقول : «لعن الله المعذرين» ويقرأ بالتشديد ، كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد : هو المظهر للعذر اعتلالا من غير حقيقة. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن إسحاق في قوله : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) قال : ذكر لي أنهم نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا ، منهم خفاف بن إيماء ، وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا.

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣))

لما ذكر سبحانه «المعذّرون» ؛ ذكر بعدهم أهل الأعذار الصّحيحة المسقطة للغزو ، وبدأ بالعذر في أصل الخلقة ، فقال : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) وهم أرباب الزمانة ، والهرم ، والعمى ، والعرج ، ونحو ذلك ، ثم ذكر العذر العارض فقال : (وَلا عَلَى الْمَرْضى) والمراد بالمرض : كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعا ؛ وقيل : إنه يدخل في المرض : الأعمى ، والأعرج ، ونحوهما. ثم ذكر العذر الراجع إلى المال لا إلى البدن فقال : (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) أي : ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهز للجهاد ، فنفى سبحانه عن هؤلاء الحرج ؛ وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم ، غير واجب عليهم ، مقيدا بقوله : (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) وأصل النصح : إخلاص العمل من الغش ، ومنه التوبة النصوح. قال نفطويه : نصح الشيء : إذا خلص ، ونصح له القول : أي : أخلصه له ، والنصح لله : الإيمان به والعمل بشريعته ، وترك ما يخالفها كائنا ما كان ، ويدخل تحته دخولا أوّليا نصح عباده ، ومحبة المجاهدين في سبيله ، وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد ، وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه ؛ ونصيحة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : التصديق بنبوته ، وبما جاء به ، وطاعته في كل ما يأمر به أو ينهى عنه ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، ومحبته ، وتعظيم سنته ، وإحياؤها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة. وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الدّين النّصيحة ـ ثلاثا ـ ، قالوا : لمن؟ قال : لله ، ولكتابه ،

٤٤٦

ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم» ، وجملة (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) مقرّرة لمضمون ما سبق ، أي : ليس على المعذورين الناصحين من سبيل ، أي : طريق عقاب ومؤاخذة ، ومن : مزيدة للتأكيد ، وعلى هذا فيكون لفظ (الْمُحْسِنِينَ) موضوعا في موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقا ، أو يكون المراد : ما على جنس المحسنين من سبيل ، وهؤلاء المذكورين سابقا من جملتهم ، فتكون الجملة تعليلية ، وجملة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييلية ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، وقوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (١) ، وإسقاط التّكليف عن هؤلاء المعذورين لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم ؛ الذي عذرهم الله عنه مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه ، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد ، وأصله في الصحيحين : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد تركتم بعدكم قوما ؛ ما سرتم من مسير ؛ ولا أنفقتم من نفقة ؛ ولا قطعتم واديا ؛ إلا وهم معكم فيه» ، قالوا : يا رسول الله! وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال : حبسهم العذر». وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر ، ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) والعطف على جملة (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي : ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخره من سبيل ، ويجوز أن تكون عطفا على الضعفاء ، أي : ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخره حرج. والمعنى : أن من جملة المعذورين هؤلاء الذين أتوك لتحملهم على ما يركبون عليه في الغزو ؛ فلم تجد ذلك الذي طلبوه منك. قيل : وجملة (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) في محل نصب على الحال من الكاف في أتوك بإضمار قد ، أي : إذا ما أتوك قائلا لا أجد ؛ وقيل : هي بدل من أتوك ؛ وقيل : جملة معترضة بين الشرط والجزاء ، والأوّل أولى. وقوله : (تَوَلَّوْا) جواب إذا ، وجملة (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) في محل نصب على الحال ، أي : تولوا عنك لما قلت لهم لا أجد ما أحملكم عليه حال كونهم باكين ، و (حَزَناً) منصوب على المصدرية ، أو على العلية ، أو الحالية ، و (أَلَّا يَجِدُوا) مفعول له ، وناصبه (حَزَناً) ، وقال الفرّاء : أن لا بمعنى ليس ؛ أي حزنا أن ليس يجدوا ؛ وقيل المعنى : حزنا على أن لا يجدوا ؛ وقيل المعنى : حزنا أنهم لا يجدون ما ينفقون لا عند أنفسهم ولا عندك. ثم ذكر الله سبحانه من عليه السبيل من المتخلفين فقال : (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي : طريق العقوبة والمؤاخذة (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) في التخلف عن الغزو ، (وَ) الحال أن (هُمْ أَغْنِياءُ) أي : يجدون ما يحملهم وما يتجهزون به ، وجملة (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) مستأنفة ، كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ وقد تقدّم تفسير الخوالف قريبا. وجملة (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) معطوفة على (رَضُوا) أي : سبب الاستئذان مع الغنى أمران : أحدهما : الرضا بالصفقة الخاسرة ، وهي أن يكونوا مع الخوالف والثاني : الطبع من الله على قلوبهم (فَهُمْ) بسبب هذا الطبع (لا يَعْلَمُونَ) ما فيه الربح لهم حتى يختاروه على ما فيه الخسر.

وقد أخرج ابن أبي حاتم والدار قطني في الإفراد وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت براءة ، فكنت أكتب ما أنزل عليه ، فإني لواضع القلم عن أذني إذ أمرنا بالقتال ، فجعل

__________________

(١). النور : ٦١.

٤٤٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : أنزلت هذه الآية في عابد بن عمر المزني. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : نزل من عند قوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) إلى قوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في المنافقين. وأخرج أبو الشيخ عن الضّحّاك في قوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) قال : ما على هؤلاء من سبيل بأنهم نصحوا الله ورسوله ، ولم يطيقوا الجهاد ، فعذرهم الله ، وجعل لهم من الأجر ما جعل للمجاهدين ، ألم تسمع أن الله يقول : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (١) فجعل الله للذين عذر من الضعفاء ، وأولي الضرر ، والذين لا يجدون ما ينفقون من الأجر مثل ما جعل للمجاهدين. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) قال : (وَاللهُ) لأهل الإساءة (غَفُورٌ رَحِيمٌ). وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ) الآية ، قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني ، فقالوا : يا رسول الله! احملنا ، فقال : والله ما أجد ما أحملكم عليه ، فتولوا ولهم بكاء ، وعزيز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ، ولا محملا ، فأنزل الله عذرهم (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ) الآية. وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله بن مغفل قال : إني لا أجد الرّهط الذين ذكر الله (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) الآية. وأخرج ابن جرير عن محمد ابن كعب قال : هم سبعة نفر : من بني عمر بن عوف : سالم بن عمير ، ومن بني واقف : حرميّ بن عمرو ، ومن بني مازن بن النجار : عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى ، ومن بني المعلى : سلمان بن صخر ، ومن بني حارثة : عبد الرحمن بن زيد أبو عبلة ، ومن بني سلمة : عمرو بن غنمة ، وعبد الله بن عمرو المزني. وقد اتفق الرواة على بعض هؤلاء السبعة. واختلفوا في البعض ، ولا يأتي التطويل في ذلك بكثير فائدة ، وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو الشيخ عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم أن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم البكّاؤون ، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، ثم ذكروا أسماءهم ، وفيه : فاستحملوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا أهل حاجة. قال (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ). وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن الحسن قال : كان معقل بن يسار من البكّائين الذين قال الله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك في قوله : (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) قال : الماء والزاد. وأخرج ابن المنذر عن عليّ بن صالح قال : حدّثني مشيخة من جهينة ، قالوا : أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحملان ، فقالوا : ما سألناه إلا الحملان على النّعال. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم ابن أدهم عمن حدّثه في قوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) قال : ما سألوه الدوابّ ، ما سألوه إلا النّعال. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن صالح في الآية قال : استحملوه النّعال. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) قال : هي وما بعدها إلى

__________________

(١). النساء : ٩٥.

٤٤٨

قوله : (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) في المنافقين.

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))

قوله : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) إخبار من الله سبحانه عن المنافقين المعتذرين بالباطل بأنهم يعتذرون إلى المؤمنين إذا رجعوا من الغزو ، وهذا كلام مستأنف ، وإنما قال : (إِلَيْهِمْ) أي : إلى المعتذرين بالباطل ، ولم يقل : إلى المدينة ، لأنّ مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة ، وربما يقع الاعتذار عند الملاقاة قبل الوصول إليها ، ثم أخبر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يجيب به عليهم ، فقال : (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) فنهاهم أوّلا عن الاعتذار بالباطل ، ثم علله بقوله (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي : لن نصدّقكم ، كأنهم ادّعوا أنهم صادقون في اعتذارهم ، لأن غرض المعتذر أن يصدّق فيما يعتذر به ، فإذا عرف أنه لا يصدّق ترك الاعتذار ، وجملة (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) تعليلية للتي قبلها ، أي : لا يقع منا تصديق لكم لأن الله قد أعلمنا بالوحي ما هو مناف لصدق اعتذاركم ، وإنما خصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجواب عليهم ، فقال : (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا) مع أن الاعتذار منهم كائن إلى جميع المؤمنين ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسهم ، والمتولي لما يرد عليهم من جهة الغير ، ويحتمل أن يكون المراد بالضمير في قوله : (إِلَيْكُمْ) هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التأويل المشهور في مثل هذا. قوله : (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) أي : ما ستفعلونه من الأعمال فيما بعد ، هل تقلعون عما أنتم عليه الآن من الشرّ ، أم تبقون عليه؟. قوله : (وَرَسُولُهُ) معطوف على الاسم الشريف ، ووسط مفعول الرؤية إيذانا بأن رؤية الله سبحانه لما سيفعلونه من خير أو شرّ هي التي يدور عليها الإثابة أو العقوبة ، وفي جملة : (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ) إلى آخرها : تخويف شديد ، لما هي مشتملة عليه من التهديد ، ولا سيما ما اشتملت عليه من وضع الظاهر موضع المضمر ، لإشعار ذلك بإحاطته بكل شيء يقع منهم مما يكتمونه ويتظاهرون به ، وإخباره لهم به ومجازاتهم عليه ، ثم ذكر أن هؤلاء المعتذرين بالباطل سيؤكدون ما جاءوا به من الأعذار الباطلة ؛ بالحلف عند رجوع المؤمنين إليهم من الغزو ، وغرضهم من هذا التأكيد : هو أن يعرض المؤمنون عنهم فلا يوبخونهم ، ولا يؤاخذونهم بالتخلف ، ويظهرون الرضا عنهم ، كما يفيده ذكر الرضا من بعد ،

٤٤٩

وحذف المحلوف عليه : لكون الكلام يدلّ عليه ، وهو اعتذارهم الباطل ، وأمر المؤمنين بالإعراض عنهم المراد : به تركهم والمهاجرة لهم ، لا الرضا عنهم والصفح عن ذنوبهم ، كما تفيده جملة (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) الواقعة علّة للأمر بالإعراض. والمعنى : أنهم في أنفسهم رجس لكون جميع أعمالهم نجسة ، فكأنها قد صيّرت ذواتهم رجسا ، أو أنهم ذوو رجس ، أي : ذوو أعمال قبيحة ، ومثله (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) وهؤلاء لما كانوا هكذا ؛ كانوا غير متأهلين لقبول الإرشاد إلى الخير ، والتحذير من الشرّ ، فليس لهم إلا الترك ، وقوله (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) من تمام التعليل ؛ فإن من كان من أهل النار لا يجدي فيه الدعاء إلى الخير ، والمأوى : كل مكان يأوي إليه الشيء ليلا أو نهارا. وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أويا وإيواء ، و (جَزاءً) منصوب على المصدرية ، أو على العلية ، والباء في (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) للسببية ، وجملة (يَحْلِفُونَ لَكُمْ) بدل مما تقدّم. وحذف هنا المحلوف به لكونه معلوما مما سبق ، والمحلوف عليه لمثل ما تقدّم ، وبين سبحانه أن مقصدهم بهذا الحلف هو رضا المؤمنين عنهم ، ثم ذكر ما يفيد أنه لا يجوز الرضا عن هؤلاء المعتذرين بالباطل ، فقال : (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) كما هو مطلوبهم مساعدة لهم (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) وإذا كان هذا هو ما يريده الله سبحانه من عدم الرضا على هؤلاء الفسقة العصاة ، فينبغي لكم أيها المؤمنون أن لا تفعلوا خلاف ذلك بل واجب عليكم أن لا ترضوا عنهم ، على أنّ رضاكم عنهم لو وقع لكان غير معتدّ به ، ولا مفيد لهم ، والمقصود من إخبار الله سبحانه بعدم رضاه عنهم : نهي المؤمنين عن ذلك ؛ لأن الرضا على من لا يرضى الله عليه مما لا يفعله مؤمن. قوله : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) لما ذكر الله سبحانه أحوال المنافقين بالمدينة ؛ ذكر حال من كان خارجا عنها من الأعراب ؛ وبيّن أن كفرهم ونفاقهم أشدّ من كفر غيرهم ، ومن نفاق غيرهم ، لأنهم أقسى قلبا ، وأغلظ طبعا ، وأجفى قولا ، وأبعد عن سماع كتب الله ، وما جاءت به رسله. والأعراب : هم من سكن البوادي بخلاف العرب ، فإنه عام لهذا النوع من بني آدم ، سواء سكنوا البوادي أو القرى ، هكذا قال أهل اللغة ، ولهذا قال سيبويه : إن الأعراب صيغة جمع ، وليست بصيغة جمع العرب. قال النيسابوري : قال أهل اللغة : رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتا ، وجمعه عرب كالمجوسيّ والمجوس. واليهوديّ واليهود ؛ فالأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح ، وإذا قيل للعربي يا أعرابي غضب ، وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي ، ومن نزل البادية فهو أعرابي ، ولهذا لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب ، وإنما هم عرب ، قال : قيل إنما سمي العرب عربا لأن أولاد إسماعيل عليه‌السلام نشئوا بالعرب ، وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم ، وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم ؛ وقيل : لأن ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ، ولما في لسانهم من الفصاحة ، والبلاغة ، انتهى. (وَأَجْدَرُ) معطوف على أشد ، ومعناه : أخلق ، يقال : فلان جدير بكذا ، أي : خليق به ، وأنت جدير أن تفعل كذا ، والجمع : جدر ، أو جديرون. وأصله من جدر الحائط ، وهو رفعه بالبناء. والمعنى : أنهم أحق وأخلق ب (أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ) من الشرائع ، والأحكام ، لبعدهم عن مواطن الأنبياء ، وديار التنزيل (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال مخلوقاته على العموم ، وهؤلاء منهم (حَكِيمٌ) فيما يجازيهم به من

٤٥٠

خير وشرّ ، قوله : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) هذا تنويع لجنس إلى نوعين ، الأوّل : هؤلاء والثاني : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) والمغرم : الغرامة والخسران ، وهو ثان مفعولي يتّخذ ، لأنه بمعنى الجعل ، والمعنى : اعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران ، وأصل الغرم والغرامة : ما ينفقه الرجل ، وليس بلازم له في اعتقاده ، ولكنه ينفقه للرياء والتقية ؛ وقيل : أصل الغرم اللزوم كأنه اعتقد أنه يلزمه لأمر خارج لا تنبعث له النفس. و (الدَّوائِرَ) جمع دائرة ، وهي الحالة المنقلبة عن النعمة إلى البلية ، وأصلها ما يحيط بالشيء ، ودوائر الزمان : نوبه وتصاريفه ودولة ، وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه ، ثم دعا سبحانه عليهم بقوله (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) وجعل ما دعا به عليهم مماثلا لما أرادوه بالمسلمين ، والسوء بالفتح عند جمهور القراء مصدر أضيفت إليه الدائرة للملابسة كقولك رجل صدق. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بضم السين ، وهو المكروه. قال الأخفش : أي عليهم دائرة الهزيمة والشرّ. وقال الفرّاء (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) العذاب والبلاء. قال : والسوء بالفتح مصدر سؤته سوءا ومساءة ، وبالضم اسم لا مصدر ، وهو كقولك : دائرة البلاء ، والمكروه (وَاللهُ سَمِيعٌ) لما يقولونه (عَلِيمٌ) بما يضمرونه. قوله : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) هذا النوع الثاني من أنواع الأعراب كما تقدّم ، أي : يصدّق بهما (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ) أي : يجعل ما ينفقه في سبيل الله (قُرُباتٍ) وهي جمع قربة ، وهي ما يتقرّب به إلى الله سبحانه ، تقول منه : قرّبت لله قربانا ، والجمع قرب وقربات. والمعنى : أنه يجعل ما ينفقه سببا لحصول القربات (عِنْدَ اللهِ وَ) سببا ل (صَلَواتِ الرَّسُولِ) أي لدعوات الرسول لهم ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو للمتصدقين ، ومنه قوله : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) ، ومنه قوله «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى» ثم إنه سبحانه بين بأن ما ينفقه هذا النوع من الأعراب تقرّبا إلى الله مقبول واقع على الوجه الذي أرادوه فقال : (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) فأخبر سبحانه بقبولها خبرا مؤكدا باسمية الجملة ، وحرفي التنبيه والتحقيق ، وفي هذا من التطييب لخواطرهم ، والتطمين لقلوبهم ما لا يقادر قدره ؛ مع ما يتضمنه من النعي على من يتخذ ما ينفق مغرما ، والتوبيخ له بأبلغ وجه ، والضمير في إنها راجع إلى «ما» في ما ينفق ، وتأنيثه باعتبار الخبر. وقرأ نافع ، في رواية عنه (قُرْبَةٌ) بضم الراء ، وقرأ الباقون بسكونها تخفيفا ، ثم فسر سبحانه القربة بقوله : (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) والسين لتحقيق الوعد.

وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السدّي في قوله : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) قال : أخبرنا أنكم لو خرجتم ما زدتمونا إلا خبالا ، وفي قوله : (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) قال : لما رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للمؤمنين لا تكلموهم ، ولا تجالسوهم ، فأعرضوا عنهم كما أمر الله. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله : (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) قال : لتجاوزوا عنهم. وأخرج أبو الشيخ عنه في قوله : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) قال : من منافقي المدينة (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) يعني : الفرائض وما أمر به من الجهاد. وأخرج أبو الشيخ عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان. وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سكن

٤٥١

البادية جفا ، ومن اتّبع الصيد غفل ، ومن أتى السّلطان افتتن». وإسناد أحمد هكذا : حدّثنا عبد الرحمن ابن مهدي ، حدّثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن وهب بن منبه ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره. قال في التقريب : وأبو موسى عن وهب بن منبه مجهول من السادسة ، ووهم من قال إنه إسرائيل بن موسى ، وقال الترمذي بعد إخراجه : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري. وأخرج أبو داود ، والبيهقي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من بدا جفا ، ومن اتبع الصّيد غفل ، ومن أتى أبواب السلطان افتتن ، وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدا». وأخرج أبو الشيخ عن الضحّاك في قوله : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) قال : يعني بالمغرم : أنه لا يرجو له ثوابا عند الله ولا مجازاة ، وإنما يعطي ما يعطي من الصدقات كرها (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) الهلكات. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال : هؤلاء المنافقون من الأعراب الذين إنما ينفقون رياء اتّقاء على أن يغزوا ، ويحاربوا ، ويقاتلوا ، ويرون نفقاتهم مغرما. وأخرج ابن أبي جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) قال : هم بنو مقرن من مزينة ، وهم الذين قال الله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن معقل قال : كنا عشرة ولد مقرن ، فنزلت فينا (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) يعني استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))

لما ذكر سبحانه أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار ، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة ، وأن منهم التابعين لهم. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ : (وَالْأَنْصارِ) بالرفع عطفا على (وَالسَّابِقُونَ) وقرأ سائر القراء من الصحابة فمن بعدهم بالجرّ. قال الأخفش : الخفض في الأنصار الوجه ،

٤٥٢

لأن السابقين منهم يدخلون في قوله (وَالسَّابِقُونَ) وفي الآية تفضيل السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار ، وهم الذين صلّوا القبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة ، أو الذين شهدوا بيعة الرضوان ، وهي بيعة الحديبية في قول الشعبي ، أو أهل بدر في قول محمد بن كعب وعطاء بن يسار ، ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها ، قال أبو منصور البغدادي : أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة ، ثم الستة الباقون ، ثم البدريون ، ثم أصحاب أحد ، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. قوله (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) قرأ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) محذوف الواو ، وصفا للأنصار على قراءته برفع الأنصار ، فراجعه في ذلك زيد بن ثابت ، فسأل أبيّ بن كعب ؛ فصدّق زيدا ؛ فرجع عمر عن القراءة المذكورة ، كما رواه أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ، ومعنى الذين اتبعوهم بإحسان : الذين اتّبعوا السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار ، وهم المتأخرون عنهم من الصّحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة ، وليس المراد بهم : التابعين اصطلاحا ، وهم كلّ من أدرك الصحابة ولم يدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل هم من جملة من يدخل تحت الآية ، فتكون «من» في قوله (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) على هذا للتّبعيض ، وقيل : إنها للبيان ، فيتناول المدح جميع الصحابة ، ويكون المراد بالتابعين : من بعدهم من الأمة إلى يوم القيامة. وقوله : (بِإِحْسانٍ) قيد للتابعين ، أي : والذين اتبعوهم متلبسين بإحسان في الأفعال والأقوال اقتداء منهم بالسابقين الأوّلين. قوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) خبر للمتبدأ وما عطف عليه ، ومعنى رضاه سبحانه عنهم : أنه قيل طاعاتهم ، وتجاوز عنهم ، ولم يسخط عليهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بما أعطاهم من فضله ، ومع رضاه عنهم فقد (أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) في الدار الآخرة. وقرأ ابن كثير : تجري من تحتها الأنهار بزيادة من. وقرأ الباقون بحذفها والنصب على الظرفية ، وقد تقدّم تفسير جري الأنهار من تحت الجنات ، وتفسير الخلود والفوز. قوله : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) هذا عود إلى شرح أحوال المنافقين من أهل المدينة ومن يقرب منها من الأعراب ، وممّن حولكم : خبر مقدّم ، ومن الأعراب : بيان ، وهو في محل نصب على الحال ، ومنافقون هو المبتدأ ؛ قيل : وهؤلاء الذين هم حول المدينة من المنافقين هم جهينة ومزينة وأشجع وغفار ، وجملة (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) معطوفة على الجملة الأولى ؛ عطف جملة على جملة. وقيل : إن من أهل المدينة : عطف على الخبر في الجملة الأولى ، فعلى الأول : يكون المبتدأ مقدّرا ، أي : ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق ، وعلى الثاني يكون التقدير : وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا ، ولكون جملة مردوا على النفاق مستأنفة لا محل لها ، وأصل مرد وتمرّد : اللين والملاسة والتجرّد ، فكأنهم تجرّدوا للنفاق ، ومنه غصن أمرد : لا ورق عليه ، وفرس أمرد : لا شعر فيه ، وغلام أمرد : لا شعر بوجهه ، وأرض مرداء : لا نبات فيها ، وصرح ممرّد : مجرّد ؛ فالمعنى : أنهم أقاموا على النفاق وثبتوا عليه ولم ينثنوا عنه. قال ابن زيد : معناه لجوا فيه وأبوا غيره ، وجملة (لا تَعْلَمُهُمْ) مبينة للجملة الأولى ، وهي مردوا على النفاق ، أي : ثبتوا عليه ثبوتا شديدا ، ومهروا فيه ، حتى خفي أمرهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف سائر المؤمنين؟ والمراد عدم علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأعيانهم لا من حيث الجملة ، فإنّ للنفاق دلائل لا تخفى

٤٥٣

عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجملة (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) مقرّرة لما قبلها لما فيها من الدلالة على مهارتهم في النفاق ورسوخهم فيه على وجه يخفى على البشر ، ولا يظهر لغير الله سبحانه لعلمه بما يخفى وما تجنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر ، ثم توعدهم سبحانه فقال : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) قيل : المراد بالمرّتين : عذاب الدنيا بالقتل والسبي ، وعذاب الآخرة ، وقيل : الفضيحة بانكشاف نفاقهم ، والعذاب في الآخرة ؛ وقيل : المصائب في أموالهم وأولادهم ، وعذاب القبر ؛ وقيل غير ذلك ، مما يطول ذكره مع عدم الدليل على أنه المراد بعينه. والظاهر أنّ هذا العذاب المكرّر هو في الدنيا بما يصدق عليه اسم العذاب ، وأنهم يعذبون مرّة بعد مرّة ، ثم يردون بعد ذلك إلى عذاب الآخرة ، وهو المراد بقوله : (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) ومن قال إن العذاب في المرة الثانية هو عذاب الآخرة قال : معنى قوله : (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) أنهم يردّون بعد عذابهم في النار كسائر الكفار إلى الدرك الأسفل منها ؛ أو أنهم يعذبون في النار عذابا خاصا بهم دون سائر الكفار ، ثم يردون بعد ذلك إلى العذاب الشامل لهم ولسائر الكفار. ثم ذكر سبحانه حال طائفة من المسلمين وهم المخلطون في دينهم فقال : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) وهو معطوف على قوله منافقون ؛ أي : وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة قوم آخرون. ويجوز أن يكون آخرون : مبتدأ ، واعترفوا بذنوبهم : صفته ، وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا : خبره ، والمعنى : أن هؤلاء الجماعة تخلّفوا عن الغزو لغير عذر مسوّغ للتخلف ، ثم ندموا على ذلك ، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة كما اعتذر المنافقون ، بل تابوا واعترفوا بالذنب ، ورجوا أن يتوب الله عليهم. والمراد بالعمل الصالح : ما تقدّم من إسلامهم وقيامهم بشرائع الإسلام وخروجهم إلى الجهاد في سائر المواطن. والمراد بالعمل السيئ : هو تخلّفهم عن هذه الغزوة ، وقد أتبعوا هذا العمل السيئ عملا صالحا ، وهو الاعتراف به والتوبة عنه. وأصل الاعتراف الإقرار بالشيء ، ومجرد الإقرار لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي ، والعزم على تركه في الحال والاستقبال ، وقد وقع منهم ما يفيد هذا ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. ومعنى الخلط : أنهم خلطوا كل واحد منهما بالآخر ، كقولك : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء ؛ ويجوز أن تكون الواو بمعنى الباء كقولك بعت الشاة شاة ودرهما : أي بدرهم ، وفي قوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) دليل على أنه قد وقع منهم مع الاعتراف ما يفيد التوبة ، أو أن مقدّمة التوبة وهي الاعتراف قامت مقام التوبة ، وحرف الترجي وهو عسى ؛ هو في كلام الله سبحانه يفيد تحقق الوقوع ، لأن الإطماع من الله سبحانه إيجاب لكونه أكرم الأكرمين (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : يغفر الذنوب ويتفضل على عباده. قوله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) اختلف أهل العلم في هذه الصدقة المأمور بها ؛ فقيل : هي صدقة الفرض ، وقيل : هي مخصوصة بهذه الطائفة المعترفة بذنوبها ، لأنهم بعد التوبة عليهم ؛ عرضوا أموالهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فنزلت هذه الآية ، و (مِنْ) للتبعيض على التفسيرين ، والآية مطلقة مبينة بالسنة المطهرة ، والصدقة : مأخوذة من الصدق ، إذ هي دليل على صدق مخرجها في إيمانه. قوله : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) الضمير في الفعلين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : تطهركم وتزكيهم يا محمد بما تأخذه من الصدقة منهم. وقيل : الضمير في تطهرهم : للصدقة ؛ أي : تطهرهم هذه الصدقة المأخوذة منهم ، والضمير في تزكيهم : للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أي :

٤٥٤

تزكيهم يا محمد بالصدقة المأخوذة ، والأوّل أولى لما في الثاني من الاختلاف في الضميرين في الفعلين المتعاطفين ؛ وعلى الأوّل : فالفعلان منتصبان على الحال ، وعلى الثاني فالفعل الأوّل صفة لصدقة ، والثاني حال منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومعنى التطهير : إذهاب ما يتعلّق بهم من أثر الذنوب ، ومعنى التّزكية : المبالغة في التطهير. قال الزجّاج : والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أي : فإنك يا محمد تطهرهم وتزكيهم بها ، على القطع والاستئناف ، ويجوز الجزم على جواب الأمر. والمعنى : أن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم. وقد قرأ الحسن بجزم تطهرهم. وعلى هذه القراءة فيكون (وَتُزَكِّيهِمْ) على تقدير مبتدأ ؛ أي : وأنت تزكيهم بها. قوله : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) : أي : ادع لهم بعد أخذك لتلك الصدقة من أموالهم. قال النحّاس : وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن الصّلاة في كلام العرب : الدعاء ، ثم علّل سبحانه أمره لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصّلاة على من يأخذ من الصدقة فقال (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) قرأ حفص وحمزة والكسائي «صلاتك» بالتوحيد. وقرأ الباقون بالجمع ، والسكن ما تسكن إليه النفس وتطمئن به. قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) لما تاب الله سبحانه على هؤلاء المذكورين سابقا. قال الله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا) أي غير التّائبين ، أو التّائبون قبل أن يتوب الله عليهم ويقبل صدقاتهم (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) لاستغنائه عن طاعة المطيعين ، وعدم مبالاته بمعصية العاصين. وقرئ : ألم تعلموا بالفوقية ، وهو إما خطاب للتائبين ، أو لجماعة من المؤمنين ، ومعنى (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) : أي : يتقبلها منهم ، وفي إسناد الأخذ إليه سبحانه بعد أمره لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأخذها تشريف عظيم لهذه الطاعة ولمن فعلها. وقوله : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) معطوف على قوله : (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) مع تضمنه لتأكيد ما اشتمل عليه المعطوف عليه ، أي : أن هذا شأنه سبحانه. وفي صيغة المبالغة في التواب وفي الرحيم مع توسيط ضمير الفصل. والتأكيد من التبشير لعباده ، والترغيب لهم ، ما لا يخفى. قوله : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) فيه تخويف وتهديد ؛ أي : إنّ عملكم لا يخفى على الله ولا على رسوله ولا على المؤمنين ، فسارعوا إلى أعمال الخير ، وأخلصوا أعمالكم لله عزوجل ، وفيه أيضا ترغيب وتنشيط ، فإن من علم أن عمله لا يخفى سواء كان خيرا أو شرّا رغب إلى أعمال الخير ، وتجنب أعمال الشرّ ، وما أحسن قول زهير :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على النّاس تعلم

والمراد بالرؤية هنا العلم بما يصدر منهم من الأعمال ، ثم جاء سبحانه بوعيد شديد فقال (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي : وستردون بعد الموت إلى الله سبحانه الذي يعلم ما تسرّونه ، وما تعلنونه ، وما تخفونه وما تبدونه ، وفي تقديم الغيب على الشهادة ؛ إشعار بسعة علمه عزوجل ، وأنه لا يخفى عليه شيء ، ويستوي عنده كل معلوم. ثم ذكر سبحانه ما سيكون عقب ردّهم إليه فقال (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي : يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ويتفضل على من يشاء من عباده. قوله : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) ذكر سبحانه ثلاثة أقسام في المتخلفين : الأوّل : المنافقون الذين مردوا على النفاق ، والثاني : التائبون المعترفون بذنوبهم ، الثالث : الذين بقي أمرهم موقوفا في تلك الحال ، وهم

٤٥٥

المرجون لأمر الله ، من أرجيته وأرجأته : إذا أخرته ، قرأ حمزة والكسائي ونافع وحفص : (مُرْجَوْنَ) بالواو من غير همز. وقرأ الباقون : بالهمزة المضمومة بعد الجيم. والمعنى : أنهم مؤخرون في تلك الحال ؛ لا يقطع لهم بالتوبة ولا بعدمها ، بل هم على ما يتبين من أمر الله سبحانه في شأنهم (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) إن بقوا على ما هم عليه ، ولم يتوبوا (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) إن تابوا توبة صحيحة ، وأخلصوا إخلاصا تاما ، والجملة : في محل نصب على الحال ، والتقدير : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) حال كونهم : إما معذّبين ، وإما متوبا عليهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالهم (حَكِيمٌ) فيما يفعله بهم من خير أو شرّ.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو نعيم في المعرفة عن أبي موسى أنه سئل عن قوله : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) فقال : هم الذين صلّوا القبلتين جميعا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عن سعيد بن المسيب مثله. وأخرج ابن المنذر وأبو نعيم عن الحسن ومحمد بن سيرين مثله أيضا وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : هم أبو بكر وعمر وعليّ وسلمان وعمار بن ياسر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن الشعبي قال : هم من أدرك بيعة الرضوان. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) قال : التابعون. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : هم من بقي من أهل الإسلام إلى أن تقوم الساعة. وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن أبي صخر حميد بن زياد قال : قلت لمحمد بن كعب القرظي : أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما أريد الفتن ، قال : إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم ، قلت له : وفي أيّ موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال : ألا تقرؤون قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) الآية أوجب لجميع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجنة والرضوان ، وشرط على التابعين شرطا لم يشرطه فيهم قلت : وما اشترط عليهم؟ قال : اشترط عليهم أن يتّبعوهم بإحسان. يقول : يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة ، ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر : فو الله لكأني لم أقرأها قبل ذلك ، وما عرفت تفسيرها حتى قرأها عليّ ابن كعب. وأخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعي قال : حدّثني يحيى بن أبي كثير والقاسم ومكحول وعبدة بن أبي لبابة وحسان بن عطية أنهم سمعوا جماعة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون لما أنزلت هذه الآية : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) إلى قوله : (وَرَضُوا عَنْهُ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا لأمتي كلّهم ، وليس بعد الرّضا سخط». وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) الآية ، قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم جمعة خطيبا ، فقال : «قم يا فلان ؛ فاخرج فإنك منافق ، اخرج يا فلان ؛ فإنك منافق ، فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم» ، ولم يكن عمر بن الخطاب يشهد تلك الجمعة لحاجة كانت له ، فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة ، وظن الناس قد انصرفوا ، واختبئوا هم من عمر ، وظنّوا أنه قد علم بأمرهم ، فدخل عمر المسجد فإذا الناس لم ينصرفوا ، فقال له رجل : أبشر يا عمر فقد فضح الله المنافقين اليوم ، فهو العذاب الأوّل ، والعذاب الثاني : عذاب القبر.

٤٥٦

وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) قال : جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) قال : أقاموا عليه ولم يتوبوا كما تاب آخرون. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال : ماتوا عليه : عبد الله بن أبيّ ، وأبو عامر الراهب ، والجدّ ابن قيس. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) قال : بالجوع والقتل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك قال : بالجوع وعذاب القبر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن قتادة قال : عذاب في القبر ، وعذاب في النار. وقد روي عن جماعة من السلف نحو هذا في تعيين العذابين ، والظاهر ما قدّمنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً) قال : كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فلما حضر رجوع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد ، وكان ممرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رجع عليهم فلما رآهم قال : من هؤلاء الموثقون أنفسهم؟ قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم وتعذرهم ، قال : وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم ، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين ، فلما بلغهم ذلك قالوا : ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا ، فنزلت : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) وعسى من الله : واجب ، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأطلقهم وعذرهم ، فجاءوا بأموالهم فقالوا : يا رسول الله! هذه أموالنا ، فتصدق بها عنا ، واستغفر لنا ، قال : ما أمرت أن آخذ أموالكم ، فأنزل الله عزوجل : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) يقول : استغفر لهم (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) يقول : رحمة لهم ، فأخذ منهم الصدقة واستغفر لهم ، وكانوا ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم بالسواري فأرجئوا سنة لا يدرون أيعذبون أو يتاب عليهم؟ فأنزل الله عزوجل : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) إلى قوله (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) إلى قوله (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) يعني : إن استقاموا. وأخرج أبو الشيخ عن الضّحّاك مثله سواء. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، عن مجاهد في قوله (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) قال : هو أبو لبابة إذ قال لقريظة ما قال ، وأشار إلى حلقه بأن محمدا يذبحكم إن نزلتم على حكمه ، والقصة مذكورة في كتب السير. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً) قال : غزوهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَآخَرَ سَيِّئاً) قال : تخلفهم عنه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) قال : استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوها (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) قال : رحمة لهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتى بصدقة قال : «اللهم صلّ على آل فلان ، فأتاه أبي بصدقته فقال : اللهم صلّ على آل أبي أوفى». وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) قال : هذا وعيد من الله عزوجل. وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبّان والحاكم ، والبيهقي

٤٥٧

في الشعب ، وابن أبي الدنيا ، والضياء في المختارة ، عن أبي سعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أنّ أحدكم يعمل في صخرة صمّاء ليس لها باب ولا كوّة ، لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان». وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) قال : هم الثلاثة الذي خلّفوا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : هم هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في قوله : (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) يقول : يميتهم على معصية (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) فأرجأ أمرهم ، ثم نسخها فقال : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا).

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

لما ذكر الله أصناف المنافقين وبيّن طرائقهم المختلفة عطف على ما سبق هذه الطّائفة منهم ، وهم الذين اتّخذوا مسجدا ضرارا ، فيكون التقدير : ومنهم الذين اتخذوا على أن الذين مبتدأ ، وخبره منهم محذوف ، والجملة معطوفة على ما تقدّمها ، ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على الذمّ. وقرأ المدنيون وابن عامر : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) بغير واو ، فتكون قصة مستقلة ، الموصول مبتدأ ، وخبره (لا تَقُمْ) قاله الكسائي. وقال النحاس : إن الخبر هو (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا) وقيل : الخبر محذوف ، والتقدير : يعذبون ، وسيأتي بيان هؤلاء البانين لمسجد الضرار ، و (ضِراراً) منصوب على المصدرية ، أو على العلية (وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً) معطوفة على (ضِراراً). فقد أخبر الله سبحانه : أن الباعث لهم على بناء هذا المسجد أمور أربعة : الأوّل : الضّرار لغيرهم ، وهو المضاررة. الثاني : الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام ، لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق. الثالث : التّفريق بين المؤمنين ، لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء ، فتقلّ جماعة المسلمين ، وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى. الرابع : الإرصاد لمن حارب الله ورسوله ، أي : الإعداد لأجل من حارب الله ورسوله. قال الزّجّاج : الإرصاد : الانتظار. وقال ابن قتيبة : الإرصاد الانتظار مع العداوة. وقال الأكثرون : هو الإعداد ، والمعنى متقارب ؛ يقال : أرصدت لكذا : إذا أعددته مرتقبا له به. وقال أبو زيد : يقال : رصدته وأرصدته في الخير ، وأرصدت له في الشرّ. وقال ابن الأعرابي : لا يقال إلا أرصدت ، ومعناه : ارتقبت ، والمراد بمن حارب الله ورسوله : المنافقون ، ومنهم أبو عامر الراهب ، أي : أعدّوه لهؤلاء ، وارتقبوا به وصولهم ، وانتظروهم ليصلوا فيه ، حتى يباهوا بهم المؤمنين ، وقوله : (مِنْ قَبْلُ) متعلق باتخذوا ، أي : اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء ويبنوا مسجد

٤٥٨

الضرار ، أو متعلق بحارب ، أي : لمن وقع منه الحرب لله ولرسوله من قبل بناء مسجد الضرار. قوله : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) أي : ما أردنا إلّا الخصلة الحسنى ، وهي الرفق بالمسلمين ، فردّ الله عليهم بقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما حلفوا عليه ، ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار ، فقال : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) أي : في وقت من الأوقات ، والنهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه. وقد يعبر عن الصلاة بالقيام ، يقال : فلان يقوم الليل ، أي : يصلي ، ومنه الحديث الصحيح : «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه». ثم ذكر الله سبحانه علّة النهي عن القيام فيه بقوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) واللام في : (لَمَسْجِدٌ) لام القسم ، وقيل : لام الابتداء ، وفي ذلك تأكيد لمضمون الجملة ، وتأسيس البناء : تثبيته ورفعه. ومعنى تأسيسه على التقوى : تأسيسه على الخصال التي تتقى بها العقوبة.

واختلف العلماء في المسجد الذي أسّس على التقوى ، فقالت طائفة : هو مسجد قباء كما روي عن ابن عباس والضّحّاك والحسن والشعبي وغيرهم. وذهب آخرون إلى أنه مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والأول أرجح لما سيأتي قريبا إن شاء الله ، و (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) متعلق بأسس ، أي : أسس على التقوى من أول يوم من أيام تأسيسه ، قال بعض النحاة : إن (مِنْ) هنا بمعنى منذ ، أي : منذ أوّل يوم ابتدئ ببنائه ، وقوله (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) خبر المبتدأ. والمعنى : لو كان القيام في غيره جائزا لكان هذا أولى بقيامك فيه للصلاة ولذكر الله ، لكونه أسس على التقوى من أوّل يوم ، ولكون (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) وهذه الجملة مستأنفة لبيان أحقية قيامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، أي : كما أن هذا المسجد أولى من جهة المحل فهو أولى من جهة الحالّ فيه ، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي : حال كون فيه رجال يحبون أن يتطهروا ، ويجوز أن تكون صفة أخرى لمسجد. ومعنى محبتهم للتطهر : أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه عند عروض موجبه ؛ وقيل : معناه : يحبون التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار. والأوّل أولى. وقيل : يحبّون أن يتطهّروا بالحمّى المطهرة من الذنوب فحمّوا جميعا ، وهذا ضعيف جدّا. ومعنى محبة الله لهم : الرضا عنهم ، والإحسان إليهم ، كما يفعل المحب بمحبوبه. ثم بين سبحانه أن بين الفريقين بونا بعيدا ، فقال : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) والهمزة للإنكار التقريري ، والبنيان : مصدر كالعمران ، وأريد به : المبنيّ ، والجملة مستأنفة. والمعنى : أن من أسس بناء دينه على قاعدة قوية محكمة ، وهي تقوى الله ورضوانه ؛ خير ممن أسس دينه على ضد ذلك ، وهو الباطل والنفاق ، والموصول : مبتدأ ، وخبره : خير ، وقرئ : (أَسَّسَ بُنْيانَهُ) على بناء الفعل للفاعل ، ونصب بنيانه ، واختار هذه القراءة أبو عبيدة ، وقرئ : على البناء للمجهول ، وقرئ : أساس بنيانه بإضافة أساس إلى بنيانه ؛ وقرئ : أسّ بنيانه والمراد : أصول البناء. وحكى أبو حاتم قراءة أخرى ، وهي آساس بنيانه على الجمع ، ومنه :

أصبح الملك ثابت الآساس

بالبهاليل من بني العبّاس

والشّفا : الشفير ، والجرف : ما يتجرّف بالسيول ، وهي الجوانب التي تنجرف بالماء ، والاجتراف :

٤٥٩

اقتلاع الشيء من أصله ، وقرئ : بضم الراء من جرف ، وبإسكانها. والهار : السّاقط ، يقال هار البناء : إذا سقط ، وأصله هائر ، كما قالوا : شاك السلاح وشائك ، كذا قال الزجّاج. وقال أبو حاتم : إن أصله هاور. قال في شمس العلوم : الجرف ما جرف السيل أصله ، وأشرف أعلاه ، فإن انصدع أعلاه فهو الهار اه. جعل الله سبحانه هذا مثلا لما بنوا عليه دينهم الباطل المضمحلّ بسرعة ، ثم قال : (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) وفاعل فانهار ضمير يعود إلى الجرف ، أي : فانهار الجرف بالبنيان في النار ، ويجوز أن يكون الضمير في (بِهِ) يعود إلى من ، وهو الباني. والمعنى : أنه طاح الباطل بالبناء ، أو الباني في نار جهنم ، وجاء بالانهيار الذي هو للجرف ترشيحا للمجاز ، وسبحان الله ما أبلغ هذا الكلام ، وأقوى تراكيبه ، وأوقع معناه ، وأفصح مبناه. ثم ذكر سبحانه أن بنيانهم هذا موجب لمزيد ريبهم ، واستمرار تردّدهم ، وشكهم ، فقال : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي : شكا في قلوبهم ونفاقا ، ومنه قول النابغة :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب

وقيل معنى الريبة : الحسرة والندامة ، لأنهم ندموا على بنيانه. وقال المبرد : أي حزازة وغيظا. وقد كان هؤلاء الذين بنوا مسجد الضرار منافقين شاكين في دينهم ، ولكنهم ازدادوا بهدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له نفاقا وتصميما على الكفر ، ومقتا للإسلام لما أصابهم من الغيظ الشديد والغضب العظيم بهدمه ، ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على استمرار هذه الريبة ودوامها ، وهو قوله : (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أي : لا يزال هذا إلا أن تتقطع قلوبهم قطعا ، وتتفرّق أجزاء ، إما بالموت أو بالسيف ، والمقصود أن هذه الريبة دائمة لهم ما داموا أحياء ، ويجوز أن يكون ذكر التقطع تصويرا لحال زوال الريبة. وقيل : معناه : إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم. وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب وأبو جعفر بفتح حرف المضارعة. وقرأ الجمهور بضمها. وروى عن يعقوب أنه قرأ تقطع بالتخفيف ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : إلا أن تقطع يا محمد قلوبهم. وقرأ أصحاب عبد الله بن مسعود ولو تقطعت قلوبهم. وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم إلى أن تقطع على الغاية. أي : لا يزالون كذلك إلى أن يموتوا.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً) قال : هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا ، فقال لهم أبو عامر الراهب : ابنوا مسجدكم ، واستمدوا بما استطعتم من قوّة وسلاح ؛ فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم ، فآتي بجند من الروم ، فأخرج محمدا وأصحابه ؛ فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا فيجب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة ، فأنزل الله (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً). وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال : لما بنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجد قباء خرج رجال من الأنصار منهم بجدح جدّ عبد الله بن حنيف ووديعة بن حزام ومجمع بن جارية الأنصاري فبنوا مسجد النفاق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبجدح : ويلك يا بجدح ما أردت إلى ما أرى؟! ، فقال : يا رسول الله والله ما أردت إلا الحسنى ـ وهو كاذب ـ فصدّقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأراد أن يعذره ، فأنزل الله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً

٤٦٠