فتح القدير - ج ٢

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٢

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٢

أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل : اثنا عشر وأربعة وعشرون وثمانية وأربعون ، والكلام في الجزية مقرّر في مواطنه ، والحق من هذه الأقوال قد قرّرناه في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا ، قوله : (وَهُمْ صاغِرُونَ) في محلّ نصب على الحال ، والصغار : الذلّ. والمعنى : إن الذميّ يعطي الجزية حال كونه صاغرا ، قيل : وهو أن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب ، ويسلمها وهو قائم ، والمتسلم قاعد. وبالجملة ينبغي للقابض للجزية أن يجعل المسلم لها حال قبضها صاغرا ذليلا.

وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله في قوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) الآية قال : إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة. وقد روي مرفوعا من وجه آخر أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمكم». قال ابن كثير : تفرد به أحمد مرفوعا. والموقوف : أصح. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان المشركون يجيئون إلى البيت ، ويجيئون معهم بالطعام يتجرون به. فلما نهوا عن أن يأتوا البيت. قال المسلمون : فمن أين لنا الطعام؟ فأنزل الله (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) قال : فأنزل الله عليهم المطر ، وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم. وأخرج ابن مردويه عنه قال : فأغناهم الله من فضله وأمرهم بقتال أهل الكتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) قال : الفاقة. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) قال : بالجزية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن الضحاك مثله. وأخرج نحوه عبد الرزاق عن قتادة. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في قوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) قال : قذر. وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا قال : من صافحهم فليتوضأ. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صافح مشركا فليتوضّأ أو ليغسل كفّيه». وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) قال : نزلت هذه الآية حين أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بغزوة تبوك. وأخرج ابن المنذر عن ابن شهاب قال : نزلت في كفار قريش والعرب (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) وأنزلت في أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية إلى قوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) يعني : الذين لا يصدّقون بتوحيد الله (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) يعني : الخمر والحرير (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) يعني : دين الإسلام (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) يعني مذللون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (عَنْ يَدٍ) قال : عن قهر. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة في قوله : (عَنْ يَدٍ) قال : من يده ولا يبعث بها غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي سنان في قوله : (عَنْ يَدٍ) قال : عن قدرة. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَهُمْ صاغِرُونَ) قال : يمشون بها

٤٠١

متلتلين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : يلكزون. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سلمان في الآية قال : غير محمودين.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))

قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) كلام مبتدأ لبيان شرك أهل الكتابين ، وعزيز : مبتدأ ، وابن الله : خبره ، وقد قرأ عاصم والكسائي «عزيز» بالتنوين ، وقرأ الباقون بترك التنوين لاجتماع العجمة والعلمية فيه. ومن قرأ بالتنوين فقد جعله عربيا ؛ وقيل : إن سقوط التنوين ليس لكونه ممتنعا بل لاجتماع الساكنين ، ومنه قراءة من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ـ اللهُ الصَّمَدُ) (١). قال أبو عليّ الفارسي : وهو كثير في الشعر ، وأنشد ابن جرير الطبري :

لتجدنّي بالأمير برّا

وبالقناة مدعسا مكرّا

إذا غطيف السّلميّ فرّا

وظاهر قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ) إن هذه المقالة لجميعهم ، وقيل : هو لفظ خرج على العموم ، ومعناه : الخصوص ؛ لأنه لم يقل ذلك إلا البعض منهم. وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها؟ بل قد انقرضوا ؛ وقيل : إنه قال ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة منهم ، فنزلت الآية متضمنة لحكاية ذلك عن اليهود ، لأن قول بعضهم لازم لجميعهم ، قوله : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) قالوا هذا لما رأوا من إحيائه الموتى مع كونه من غير أب ، فكان ذلك سببا لهذه المقالة ، والأولى أن يقال : إنهم قالوا هذه المقالة لكونه في الإنجيل وصفه تارة بابن الله ، وتارة بابن الإنسان ، كما رأينا ذلك في مواضع متعددة من الإنجيل ، ولم يفهموا أن ذلك لقصد التشريف والتكريم ، أو لم يظهر لهم أن ذلك من تحريف سلفهم لغرض من الأغراض الفاسدة ؛ قيل : وهذه المقالة إنما هي لبعض النصارى ؛ لا لكلهم. قوله : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) الإشارة إلى ما صدر عنهم من هذه المقالة الباطلة. ووجه قوله بأفواههم مع العلم بأن القول لا يكون إلا بالفم ، بأن هذا القول لما كان ساذجا ليس فيه بيان ، ولا عضده برهان ، كان مجرّد دعوى لا معنى تحتها ، فارغة صادرة عنهم صدور المهملات التي ليس فيها إلا كونها خارجة من الأفواه ، غير مفيدة لفائدة يعتدّ بها ؛ وقيل : إن ذكر الأفواه لقصد التأكيد ،

__________________

(١). الإخلاص : ١ ـ ٢.

٤٠٢

كما في كتبت بيدي ، ومشيت برجلي ، ومنه قوله تعالى : (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (١). قوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (٢). وقال بعض أهل العلم : إن الله سبحانه لم يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه ، والألسن إلا وكان قولا زورا كقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (٣) ، وقوله : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) (٤) ، وقوله : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (٥). قوله : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) المضاهاة : المشابهة ، قيل : ومنه قول العرب : امرأة ضهياء : وهي التي لا تحيض لأنها شابهت الرجال. قال أبو عليّ الفارسي : من قال : يضاهون مأخوذ من قولهم : امرأة ضهياء فقوله خطأ ، لأن الهمزة في ضاهأ أصلية ، وفي ضهياء زائدة كحمراء ، وأصله : يضاهئون ، وامرأة ضهياء. ومعنى مضاهاتهم لقول الذين كفروا فيه أقوال لأهل العلم : الأوّل : أنهم شابهوا بهذه المقالة عبدة الأوثان في قولهم : اللات والعزى ومناة بنات الله. القول الثاني : أنهم شابهوا قول من يقول من الكافرين : إنّ الملائكة بنات الله ، الثالث : أنهم شابهوا أسلافهم القائلين بأن عزيز ابن الله وأن المسيح ابن الله. قوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم بالهلاك ، لأن من قاتله الله هلك ؛ وقيل : هو تعجب من شناعة قولهم ؛ وقيل : معنى قاتلهم الله : لعنهم الله ، ومنه قول أبان بن تغلب :

قاتلها الله تلحاني وقد علمت

أنّي لنفسي إفسادي وإصلاحي

وحكى النقاش أن أصل «قاتل الله» : الدعاء ، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشرّ وهم لا يريدون الدعاء ، وأنشد الأصمعي :

يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني

وأخبر النّاس أنّي لا أباليها

(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل. قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) الأحبار : جمع حبر ، وهو الذي يحسن القول ، ومنه ثوب محبّر ؛ وقيل : جمع حبر بكسر الحاء ، قال يونس : لم أسمعه إلا بكسر الحاء. وقال الفراء : الفتح والكسر لغتان. وقال ابن السكيت : الحبر بالكسر : المداد ، والحبر بالفتح العالم. والرهبان : جمع راهب ، مأخوذ من الرهبة ، وهم علماء النصارى ، كما أن الأحبار علماء اليهود. ومعنى الآية : أنهم لما أطاعوهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه ؛ كانوا بمنزلة المتخذين لهم أربابا ، لأنهم أطاعوهم كما تطاع الأرباب. قوله : (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) معطوف على رهبانهم ، أي : اتخذه النصارى ربا معبودا ، وفيه إشارة إلى أن اليهود لم يتخذوا عزير ربا معبودا. وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله ، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسّنّة المطهّرة ، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله ويستنّ بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص ، وقامت به حجج الله وبراهينه ، ونطقت به كتبه وأنبياؤه ، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أربابا من دون الله ، للقطع بأنهم لم يعبدوهم ، بل أطاعوهم ، وحرّموا ما حرّموا ، وحللوا ما حللوا. وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة ، وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة ،

__________________

(١). البقرة : ٧٩.

(٢). الأنعام : ٣٨.

(٣). آل عمران : ١٦٧.

(٤). الكهف : ٥.

(٥). الفتح : ١١.

٤٠٣

والتمرة بالتمرة ، والماء بالماء ؛ فيا عباد الله! ويا أتباع محمد بن عبد الله ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبا ، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما ، وطلبه منهم للعمل بما دلا عليه وأفاده ، فعلتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق ، ولم تعضد بعضد الدين ونصوص الكتاب والسنة ، تنادي بأبلغ نداء وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه ، فأعرتموهما آذانا صما ، وقلوبا غلفا ، وأفهاما مريضة ، وعقولا مهيضة ، وأذهانا كليلة ، وخواطر عليلة ، وأنشدتم بلسان الحال :

وما أنا إلا من غزيّة إن غوت

غويت وإن ترشد غزيّة أرشد

فدعوا أرشدكم الله وإياي كتبا كتبها لكم الأموات من أسلافكم ، واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم ، ومتعبدهم ومتعبدكم ، ومعبودهم ومعبودكم ، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم وقدوتكم وقدوتهم ، وهو الإمام الأوّل محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

دعوا كلّ قول عند قول محمّد

فما آمن في دينه كمخاطر

اللهم هادي الضال ، مرشد التائه ، موضح السبيل ، اهدنا إلى الحق ، وأرشدنا إلى الصواب ، وأوضح لنا منهج الهداية. قوله : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي : اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ، والحال أنهم ما أمروا إلا بعبادة الله وحده ، أو ما أمر الذين اتخذوهم أربابا من الأحبار والرهبان إلا بذلك ، فكيف يصلحون لما أهلوهم له من اتخاذهم أربابا؟ قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة ثانية لقوله إلها (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : تنزيها له عن الإشراك في طاعته وعبادته. قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) هذا كلام يتضمّن ذكر نوع آخر من أنواع ضلالهم وبعدهم عن الحق ، وهو ما راموه من إبطال الحق بأقاويلهم الباطلة التي هي مجرّد كلمات ساذجة ومجادلات زائفة ، وهذا تمثيل لحالهم في محاولة إبطال دين الحق ونبوّة نبيّ الصدق ، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم قد أنارت به الدنيا ، وانقشعت به الظلمة ؛ ليطفئه ويذهب أضواءه (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) أي : دينه القويم ، وقد قيل : كيف دخلت إلا الاستثنائية على يأبى؟ ولا يجوز كرهت أو بغضت إلا زيدا. قال الفرّاء : إنما دخلت لأن في الكلام طرفا من الجحد. وقال الزّجّاج : إن العرب تحذف مع «أبى» ، والتقدير : ويأبى الله كلّ شيء إلا أن يتم نوره ، وقال علي بن سليمان : إنما جاز هذا في «أبى» ؛ لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي. قال النحاس : وهذا أحسن كما قال الشاعر :

وهل لي أمّ غيرها إن تركتها

أبى الله إلا أن أكون لها ابنما

وقال صاحب الكشاف : إن «أبى» قد أجري مجرى لم يرد ؛ أي : ولا يريد إلا أن يتمّ نوره. قوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) معطوف على جملة قبله مقدرة ، أي : أبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو لم يكره الكافرون ذلك ولو كرهوا ، ثم أكد هذا بقوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) أي : بما يهدي به الناس من البراهين والمعجزات والأحكام التي شرعها الله لعباده (وَدِينِ الْحَقِ) وهو الإسلام (لِيُظْهِرَهُ) أي : ليظهر

٤٠٤

رسوله ، أو دين الحق بما اشتمل عليه من الحجج والبراهين ، وقد وقع ذلك ولله الحمد (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الكلام فيه كالكلام في (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) كما قدّمنا ذلك.

وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وأبو أنس ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله؟ فأنزل الله (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه قال : كنّ نساء بني إسرائيل يجتمعن بالليل فيصلين ويعتزلن ويذكرن ما فضل الله به بني إسرائيل وما أعطاهم ، ثم سلّط عليهم شرّ خلقه بختنصر ، فحرق التوراة وخرّب بيت المقدس ، وعزير يومئذ غلام ، فقال عزير : أو كان هذا؟ فلحق بالجبال والوحش فجعل يتعبّد فيها ، وجعل لا يخالط الناس ، فإذا هو ذات يوم بامرأة عند قبر وهي تبكي. فقال : يا أمه! اتقي الله ، واحتسبي ، واصبري ، أما تعلمين أنّ سبيل الناس إلى الموت؟ فقالت : يا عزيز! أتنهاني أن أبكي وأنت قد خلفت بني إسرائيل ولحقت بالجبال والوحش؟ ثم قالت : إني لست بامرأة ولكنّي الدنيا ، وإنه سينبع في مصلّاك عين وتنبت شجرة ، فاشرب من ماء العين ، وكل من ثمر الشجرة ، فإنه سيأتيك ملكان فاتركهما يصنعان ما أرادا ؛ فلما كان من الغد نبعت العين ونبتت الشجرة ، فشرب من ماء العين وأكل من ثمرة الشجرة ، وجاء ملكان ومعهما قارورة فيها نور ، فأوجراه ما فيها : فألهمه الله التوراة ، فجاء فأملاه على الناس ، فعند ذلك قالوا عزير ابن الله ، تعالى الله عن ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا فذكر قصة وفيها : أن عزير سأل الله بعد ما أنسى بني إسرائيل التوراة ؛ ونسخها من صدورهم ؛ أن يردّ الذي نسخ من صدره. فبينما هو يصلي نزل نور من الله عزوجل فدخل جوفه ، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة ، فأذن في قومه فقال : يا قوم! قد آتاني الله التوراة وردّها إليّ. وأخرج أبو الشيخ عن كعب قال : دعا عزير ربه أن يلقي التوراة كما أنزل على موسى في قلبه ، فأنزلها الله عليه ، فبعد ذلك قالوا : عزير ابن الله. وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس قال : ثلاث أشك فيهن : فلا أدري عزير كان نبيا أو لا؟ ولا أدري ألعن تبع أم لا؟ قال : ونسيت الثالثة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : (يُضاهِؤُنَ) قال : يشبهون. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه في قوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ) قال : لعنهم الله ، وكلّ شيء في القرآن قتل فهو : لعن. وأخرج ابن سعد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسّنه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ في سورة براءة : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) فقال : أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلّوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه. وأخرجه أيضا أحمد وابن جرير. وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في سننه ، عن أبي البحتري قال : سأل رجل حذيفة فقال : أرأيت قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أكانوا يعبدونهم؟ قال : لا ، ولكنهم

٤٠٥

كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلّوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الضحّاك قال : أحبارهم : قراؤهم ، ورهبانهم : علماؤهم. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : الأحبار من اليهود ، والرهبان من النّصارى. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي مثله. وأخرج أيضا عن الفضيل ابن عياض قال : الأحبار : العلماء ، والرهبان : العباد. وأخرج أيضا عن السدّي في قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) قال : يريدون أن يطفئوا الإسلام بأقوالهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك في قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) يقول : يريدون أن يهلك محمد وأصحابه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : هم اليهود والنصارى. وأخرج أبو الشيخ عن السدّي (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) يعني : بالتوحيد والإسلام والقرآن.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))

لما فرغ سبحانه من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان والمتّخذين لهم أربابا ؛ ذكر حال المتبوعين فقال : (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ) إلى آخره ، ومعنى أكلهم لأموال الناس بالباطل : أنهم يأخذونها بالوجوه الباطلة كالرشوة ، وأثبت هذا للكثير منهم ، لأن فيهم من لم يتلبّس بذلك ، بل بقي على ما يوجبه دينه من غير تحريف ، ولا تبديل ، ولا ميل إلى حطام الدّنيا ، ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان من علماء الإسلام من لا يأتي عليه الحصر في كل زمان ، فالله المستعان. قوله : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : عن الطريق إليه ، وهو دين الإسلام ، أو عن ما كان حقا في شريعتهم قبل نسخها ، بسبب أكلهم لأموال الناس بالباطل. قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) قيل : هم المتقدّم ذكرهم من الأحبار والرهبان ، وإنهم كانوا يصنعون هذا الصنع ؛ وقيل : هم من يفعل ذلك من المسلمين ، والأولى : حمل الآية على عموم اللفظ ، فهو أوسع من ذلك ، وأصل الكنز في اللغة : الضمّ والجمع ، ولا يختصّ بالذّهب والفضّة. قال ابن جرير : الكنز كلّ شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها انتهى. ومنه ناقة كناز : أي مكتنزة اللحم ، واكتنز الشيء : اجتمع.

واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أم لا؟ فقال قوم : هو كنز ، وقال آخرون : ليس بكنز. ومن القائلين بالقول الأوّل أبو ذرّ. وقيده بما فضل عن الحاجة. ومن القائلين بالقول الثاني عمر ابن الخطاب وابن عمر وابن عباس وجابر وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ، وهو الحق لما سيأتي من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز. قوله (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) اختلف في وجه إفراد

٤٠٦

الضمير مع كون المذكور قبله شيئين ، هما الذهب والفضة ، فقال ابن الأنباري : إنه قصد إلى الأعمّ الأغلب وهو الفضة قال : ومثله قوله تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) (١) ردّ الكناية إلى الصلاة لأنها أعمّ ، ومثله قوله (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) (٢) أعاد الضمير إلى التجارة ، لأنها الأهمّ ؛ وقيل : إن الضمير راجع إلى الذهب والفضة معطوفة عليه ، والعرب تؤنث الذهب وتذكره ؛ وقيل : إن الضمير راجع إلى الكنوز المدلول عليها بقوله (يَكْنِزُونَ) وقيل : إلى الأموال ، وقيل : للزكاة ، وقيل : إنه اكتفى بضمير أحدهما عن ضمير الآخر مع فهم المعنى ، وهو كثير في كلام العرب ، وأنشد سيبويه :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

ولم يقل راضون ، ومثله قول الآخر :

رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل الطّويّ رماني

ولم يقل بريئين ، ومثله قول حسان :

إنّ شرح الشّباب والشّعر الأس

ود ما لم يعاص كان جنونا

ولم يقل يعاصيا. وقيل : إن إفراد الضمير من باب الذهاب إلى المعنى دون اللفظ ، لأن كل واحد من الذهب والفضة جملة وافية ، وعدّة كثيرة ، ودنانير ودراهم ، فهو كقوله (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (٣) وإنما خصّ الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال لكونهما أثمن الأشياء ، وغالب ما يكنز ، وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز. قوله (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) هو خبر الموصول ، وهو من باب التهكّم بهم ، كما في قوله :

تحّية بينهم ضرب وجيع

وقيل : إنّ البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب ، سواء كان من الفرح أو من الغمّ. ومعنى (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) أن النار توقد عليها وهي ذات حمى وحرّ شديد ، ولو قال يوم تحمى : أي الكنوز ، لم يعط هذا المعنى ، فجعل الإحماء للنار مبالغة ، ثم حذف النار وأسند الفعل إلى الجارّ كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير ، فإن لم تذكر القصة قلت رفع إلى الأمير ، وقرأ ابن عامر تحمى بالمثناة الفوقية. وقرأ أبو حيوة فيكوى بالتحتية. وخص الجباه والجنوب والظهور ، لكون التألم بكيها أشدّ ، لما في داخلها من الأعضاء الشريفة ، وقيل : ليكون الكيّ في الجهات الأربع : من قدّام ، وخلف ، وعن يمين ، وعن يسار ؛ وقيل : لأن الجمال في الوجه ، والقوّة في الظهر والجنبين ، والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوّة ؛ وقيل : غير ذلك ، مما لا يخلو عن تكلف. قوله : (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي : يقال لهم ما كنزتم لأنفسكم ، أي : كنزتموه لتنتفعوا به ، فهذا نفعه على طريقة التهكم ، والتوبيخ (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) ما مصدرية أو موصولة ؛ أي : ذوقوا وباله ، وسوء عاقبته ، وقبح مغبّته ، وشؤم فائدته.

__________________

(١). البقرة : ٤٥.

(٢). الجمعة : ١١.

(٣). الحجرات : ٩.

٤٠٧

وقد أخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ) يعني علماء اليهود والنصارى (لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) والباطل : كتب كتبوها لم ينزلها الله فأكلوا بها أموال الناس ، وذلك قول الله تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١). وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) قال : هؤلاء الذين لا يؤدّون الزكاة من أموالهم ، وكلّ مال لا تؤدي زكاته ، كان على ظهر الأرض ، أو في بطنها فهو كنز ، وكلّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز ، كان على ظهر الأرض ، أو في بطنها. وأخرجه عنه ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ من وجه آخر : وأخرج مالك وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر نحوه. وأخرج ابن مردويه عنه نحوه مرفوعا. وأخرج ابن عدّي والخطيب عن جابر نحوه مرفوعا أيضا. وأخرجه ابن أبي شيبة عنه موقوفا. وأخرج أحمد في الزهد ، والبخاري وابن ماجة وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عمر في الآية قال : إنما كان هذا قبل أن تنزل الزّكاة ، فلما نزلت الزكاة جعلها الله طهرة للأموال ، ثم قال : ما أبالي لو كان عند مثل أحد ذهبا أعلم عدده وأزكيه ، وأعمل فيه بطاعات الله ، وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال : ليس بكنز ما أدّى زكاته. وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أمّ سلمة مرفوعا نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده وأبو داود وأبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) كبر ذلك على المسلمين ، وقالوا : ما يستطيع أحد منا لولده مالا يبقى بعده ، فقال عمر : أنا أفرج عنكم ، فانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية ، فقال : إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم ، فكبر عمر ، ثم قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرّته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته. وقد أخرجه أحمد ، والترمذي وحسّنه ، وابن ماجة عن سالم ابن أبي الجعد من غير وجه عن ثوبان. وحكى البخاري أن سالما لم يسمعه من ثوبان. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) قال : هم أهل الكتاب ، وقال : هي خاصة وعامة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عليّ بن أبي طالب قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوقها كنز. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال : حلية السيوف من الكنوز ، ما أحدّثكم إلا ما سمعت. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عراك بن مالك وعمر بن عبد العزيز أنهما قالا في قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) إنها نسختها الآية الأخرى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) الآية. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما من صاحب ذهب ولا فضّة لا يؤدّي زكاتها إلا جعلها يوم القيامة صفائح ، ثم أحمي عليها في نار جهنم ، ثم يكوى بها جنباه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين الناس فيرى سبيله ، إمّا إلى الجنة ، وإمّا إلى النار». وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن وهب قال : مررت على أبي ذرّ بالرّبذة فقلت :

__________________

(١). البقرة : ٧٩.

٤٠٨

ما أنزلك بهذه الأرض؟ فقال : كنا بالشام فقرأت (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية ، فقال معاوية : ما هذه فينا ، ما هذه إلا في أهل الكتاب ، قلت : إنّها لفينا وفيهم.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧))

قوله : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) هذا كلام مبتدأ يتضمّن ذكر نوع آخر من قبائح الكفار ، وذلك أنّ الله سبحانه لما حكم في كلّ وقت بحكم خاص غيروا تلك الأوقات بالنسيء والكبيسة ، فأخبرنا الله بما هو حكمه فقال (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) أي : عدد شهور السنة عند الله في حكمه وقضائه وحكمته اثنا عشر شهرا. قوله : (فِي كِتابِ اللهِ) أي : فيما أثبته في كتابه. قال أبو علي الفارسي : لا يجوز أن يتعلّق في كتاب الله بقوله : عدّة الشهور ، للفصل بالأجنبي وهو الخبر ؛ أعني اثنا عشر شهرا ؛ فقوله : في كتاب الله ، وقوله : يوم خلق ، بدل من قوله : عند الله ، والتقدير : إن عدّة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السّموات والأرض. وفائدة الإبدالين : تقرير الكلام في الأذهان لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله في كتاب الله ، وثابت في علمه في أوّل ما خلق الله العالم. ويجوز أن يكون في كتاب الله : صفة اثنا عشر : أي : اثنا عشر مثبتة في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ. وفي هذه الآية بيان أن الله سبحانه وضع هذه الشهور وسمّاها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف يوم خلق السموات والأرض ، وأن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء ونزلت به الكتب ، وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم والقبط من الشهور التي يصطلحون عليها ويجعلون بعضها ثلاثين يوما ، وبعضها أكثر ، وبعضها أقلّ. قوله (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) هي : ذي القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، كما ورد بيان ذلك في السنة المطهرة. قوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي : كون هذه الشهور كذلك ، ومنها أربعة حرم ، هو الدين المستقيم ، والحساب الصحيح ، والعدد المستوفى. قوله : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي : في هذه الأشهر الحرم ، بإيقاع القتال فيها ، والهتك لحرمتها ؛ وقيل : إن الضمير يرجع إلى الشهور كلها ؛ الحرم وغيرها ، وإن الله نهى عن الظّلم فيها ، والأوّل أولى. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنّ تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ لهذه الآية ، ولقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) (١) ولقوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) الآية.

وقد ذهب جماعة آخرون إلى أنّ تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بآية السيف. ويجاب عنه بأن الأمر

__________________

(١). المائدة : ٢.

٤٠٩

بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم كما في الآية المذكورة ، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه ، وأما ما استدلوا به من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، فقد أجيب عنه أنه لم يبتد محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوّال ، والمحرّم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه ، وبهذا يحصل الجمع. قوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي : جميعا ، وهو مصدر في موضع الحال. قال الزجاج : مثل هذا من المصادر : كعامة ، وخاصة ، لا يثنى ولا يجمع (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي : جميعا. وفيه دليل على وجوب قتال المشركين ، وأنه فرض على الأعيان إن لم يقم به البعض (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي : ينصرهم ويثبتهم ، ومن كان الله معه فهو الغالب ، وله العاقبة والغلبة ، قوله (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) قرأ نافع في رواية ورش عنه النسيّ بياء مشدّدة بدون همز. وقرأ الباقون بياء بعدها همزة. قال النحّاس : ولم يرو أحد عن نافع هذه القراءة إلا ورش وحده ، وهو مشتق من نسأه وأنسأه : إذا أخّره ، حكى ذلك الكسائي. قال الجوهري : النسيء فعيل بمعنى مفعول من قولك نسأت الشيء فهو منسوء : إذا أخّرته ، ثم تحوّل منسوء إلى نسيء كما تحوّل مقتول إلى قتيل. قال ابن جرير : في النسيء بالهمزة معنى : الزيادة ، يقال : نسأ ينسأ : إذا زاد ، قال : ولا يكون بترك الهمزة إلا من النسيان كما قال تعالى (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) ، وردّ على نافع قراءته. وكانت العرب تحرّم القتال في الأشهر الحرم المذكورة ، فإذا احتاجوا إلى القتال فيها قاتلوا فيها وحرّموا غيرها ، فإذا قاتلوا في المحرّم حرّموا بدله شهر صفر ، وهكذا في غيره ، وكان الذي يحملهم على هذا أن كثيرا منهم إنما كانوا يعيشون بالغارة على بعضهم البعض ، ونهب ما يمكنهم نهبه من أموال من يغيرون عليه ، ويقع بينهم بسبب ذلك القتال. وكانت الأشهر الثلاثة المسرودة يضرّ بهم تواليها وتشتدّ حاجتهم وتعظم فاقتهم ، فيحللون بعضها ويحرّمون مكانه بقدره من غير الأشهر الحرم ، فهذا هو معنى النسيء الذي كانوا يفعلونه. وقد وقع الخلاف في أوّل من فعل ذلك فقيل هو رجل من بني كنانة يقال له : حذيفة بن عتيد ، ويلقب : القلمس ، وإليه يشير الكميت بقوله :

ألسنا النّاسئين على معدّ

شهور الحلّ نجعلها حراما

وفيه يقول قائلهم :

ومنّا ناسئ الشّهر القلمّس

وقيل : هو عمرو بن لحيّ ، وقيل : هو نعيم بن ثعلبة من بني كنانة. وسمّى الله سبحانه النسيء زيادة في الكفر لأنه نوع من أنواع كفرهم ، ومعصية من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر. قوله (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر يضل على البناء للمعلوم. وقرأ الكوفيون على البناء للمجهول ، ومعنى القراءة الأولى : أن الكفار يضلون بما يفعلونه من النسيء ، ومعنى القراءة الثانية : أن الذي سنّ لهم ذلك يجعلهم ضالين بهذه السنة السيئة ، وقد اختار القراءة

٤١٠

الأولى أبو حاتم ، واختار القراءة الثانية أبو عبيد. وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب : يضل بضم الياء وكسر الضاد على أن فاعله الموصول ، ومفعوله محذوف ، ويجوز أن يكون فاعله هو الله سبحانه ومفعوله الموصول. وقرئ بفتح الياء والضاد من ضلّ يضلّ. وقرئ نضلّ بالنون. قوله (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) الضمير راجع إلى النسيء ، أي : يحلون النسيء عاما ويحرّمونه عاما ، أو إلى الشهر الذي يؤخرونه ويقاتلون فيه ، أي : يحلونه عاما بإبداله بشهر آخر من شهور الحل ، ويحرّمونه عاما ، أي : يحافظون عليه فلا يحلون فيه القتال ، بل يبقونه على حرمته. قوله : (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) أي : لكي يواطئوا ، والمواطأة : الموافقة ، يقال : تواطأ القوم على كذا : أي : توافقوا عليه واجتمعوا. والمعنى : إنهم لم يحلوا شهرا إلا حرّموا شهرا لتبقى الأشهر الحرم أربعة. قال قطرب : معناه : عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم وقرنوه بالمحرّم في التحريم. وكذا قال الطبري. قوله : (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) أي : من الأشهر الحرم التي أبدلوها بغيرها (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) أي : زيّن لهم الشيطان الأعمال السّيئة التي يعملونها. ومن جملتها النسيء. وقرئ على البناء للفاعل (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي : المصرّين على كفرهم ، المستمرين عليه ، فلا يهديهم هداية توصلهم إلى المطلوب. وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد إليه فقد نصبها الله سبحانه لجميع عباده.

وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي بكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب في حجته قال : «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّموات والأرض ، السّنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان». وأخرج نحوه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث ابن عمر. وأخرج نحوه ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث ابن عباس. وأخرج نحوه أيضا البزار وابن جرير وابن مردويه من حديث أبي هريرة. وأخرجه أحمد وابن مردويه من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعا مطوّلا. وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن ابن عباس (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) قال : المحرّم ، ورجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال : إنما سمّين حرما لئلا يكون فيهنّ حرب. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشّعب ، عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) ثم اختصّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهنّ حرما ، وعظّم حرماتهنّ. وجعل الدّين فيهنّ أعظم ، والعمل الصّالح والأجر أعظم (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) قال : كلهنّ (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) يقول جميعا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل في قوله (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) قال : نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة. وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : كانت العرب يحلون عاما شهرا وعاما شهرين ، ولا يصيبون الحجّ إلا في كلّ عشرين سنة مرة ، وهي النسيء الذي ذكره الله في كتابه ، فلما كان عام حجّ أبو بكر بالناس وافق ذلك العام ، فسمّاه الله الحجّ الأكبر ، ثم حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العام المقبل ، واستقبل الناس الأهلة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٤١١

«إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض». وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر قال : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعقبة فقال : «إنّما النّسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ، فكانوا يحرّمون المحرّم عاما ويستحلّون صفر ، ويحرّمون صفر عاما ويستحلّون المحرّم ، وهي النّسيء». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان جنادة بن عوف الكناني يوافي الموسم كلّ عام ، وكان يكنى أبا ثمامة ، فينادي : ألا إن أبا ثمامة لا يحاب ولا يعاب ، ألا وإن صفر الأوّل العام حلال فيحلّه للناس ، فيحرّم صفر عاما ، ويحرّم المحرّم عاما. فذلك قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : المحرّم كانوا يسمّونه صفر ، وصفر يقولون صفران الأوّل والآخر ، يحلّ لهم مرّة الأوّل ، ومرّة الآخر. وأخرج ابن مردويه عنه قال : كانت النساة حيا من بني مالك من كنانة من بني فقيم ، فكان آخرهم رجلا يقال له القلمّس ، وهو الذي أنسأ المحرم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢))

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لما شرح معايب أولئك الكفار عاد إلى ترغيب المؤمنين في قتالهم ، والاستفهام في (ما لَكُمْ) للإنكار والتوبيخ ، أي : أيّ شيء يمنعكم عن ذلك ، ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتابا لمن تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام ، والنفر : هو الانتقال بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث. قوله : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) أصله تثاقلتم ، أدغمت التاء في الثاء لقربها منها ، وجيء بألف الوصل ليتوصل بها إلى النطق بالساكن ، ومثله : ادّاركوا ، واطيرتم ، واطيروا ، وأنشد الكسائي :

تولي الضّجيع إذا ما استافها خصرا

عذب المذاق إذا ما اتّابع القبل

وقرأ الأعمش تثاقلتم على الأصل ، ومعناه تباطأتم ، وعدّي بإلى لتضمنه معنى الميل والإخلاد ؛

٤١٢

وقيل : معناه : ملتم إلى الإقامة بأرضكم ، والبقاء فيها ، وقرئ آثاقلتم على الاستفهام ، ومعناه التوبيخ ، والعامل في الظرف ما في (ما لَكُمْ) من معنى الفعل ، كأنه قيل : ما يمنعكم؟ أو ما تصنعون إذا قيل لكم؟ و (إِلَى الْأَرْضِ) متعلق باثاقلتم وكما مرّ. قوله (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي : بنعيمها بدلا من الآخرة ، كقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) (١) أي : بدلا منكم ، ومثله قول الشاعر :

فليت لنا من ماء زمزم شربة

مبرّدة باتت على طهيان

أي : بدلا من ماء زمزم ، والطهيان : عود ينصب في ناحية الدار للهواء يعلق عليه ليبرد ، ومعنى (فِي الْآخِرَةِ) أي : في جنب الآخرة ، وفي مقابلها (إِلَّا قَلِيلٌ) أي : إلا متاع حقير لا يعبأ به ، ويجوز أن يراد بالقليل : العدم ، إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي ، والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من الكل ، إذ من البعيد أن يطبقوا جميعا على التباطؤ والتثاقل ، وإنما هو من باب نسبة ما يقع من البعض إلى الكل ، وهو كثير شائع. قوله (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) هذا تهديد شديد ، ووعيد مؤكّد لمن ترك النفير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي : يهلككم بعذاب شديد مؤلم ؛ قيل : في الدنيا فقط ، وقيل : هو أعم من ذلك. قوله (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي : يجعل لرسله بدلا منكم ممن لا يتباطأ عند حاجتهم إليهم.

واختلف في هؤلاء القوم من هم. فقيل : أهل اليمن ، وقيل : أهل فارس ، ولا وجه للتعيين بدون دليل. قوله : (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) معطوف على (يَسْتَبْدِلْ) ، والضمير قيل : لله ، وقيل : للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : ولا تضرّوا الله بترك امتثال أمره بالنفير شيئا ، أو تضرّوا رسول الله بترك نصره ، والنفير معه شيئا (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملة مقدوراته تعذيبكم ، والاستبدال بكم. قوله : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) أي : إن تركتم نصره فالله سيتكفل به ، فقد نصره في مواطن القلة ، وأظهره على عدوه بالغلبة والقهر ؛ أو فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد وقت إخراج الذين كفروا له حال كونه (ثانِيَ اثْنَيْنِ) أي : أحد اثنين ، وهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. قرئ بسكون الياء. قال ابن جني : حكاها أبو عمرو بن العلاء ، ووجهها أن تسكن الياء تشبيها لها بالألف. قال ابن عطية : فهي كقراءة الحسن : ما بقي من الربا. وكقول جرير :

هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم

ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

قوله : (إِذْ هُما فِي الْغارِ) بدل من (إِذْ أَخْرَجَهُ) بدل بعض ، والغار : ثقب في الجبل المسمى ثورا ، وهو المشهور بغار ثور ، وهو جبل قريب من مكة ، وقصة خروجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر ودخولهما الغار مشهورة مذكورة في كتب السير والحديث. قوله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) بدل ثان ، أي : وقت قوله لأبي بكر : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) أي : دع الحزن فإن الله بنصره وعونه وتأييده معنا ، ومن كان الله معه فلن يغلب ، ومن لا يغلب فيحق له أن لا يحزن ، قوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) السكينة : تسكين جأشه وتأمينه حتى ذهب روعه وحصل له الأمن ، على أنّ الضمير في (عَلَيْهِ) لأبي

__________________

(١). الزخرف : ٦٠.

٤١٣

بكر ؛ وقيل : هو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون المراد بالسكينة النازلة عليه : عصمته عن حصول سبب من أسباب الخوف له ، ويؤيد كون الضمير في (عَلَيْهِ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الضمير في (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) فإنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه المؤيد بهذه الجنود التي هي الملائكة كما كان في يوم بدر ؛ وقيل : إنه لا محذور في رجوع الضمير من (عَلَيْهِ) إلى أبي بكر ومن (وَأَيَّدَهُ) إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ذلك كثير في القرآن وفي كلام العرب (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) أي : كلمة الشرك ، وهي دعوتهم إليه ، ونداؤهم للأصنام (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) قرأ الأعمش ويعقوب بنصب كلمة حملا على جعل ، وقرأ الباقون برفعها على الاستئناف. وقد ضعف قراءة النصب الفراء وأبو حاتم ، وفي ضمير الفصل ، أعني : (هِيَ) تأكيد لفضل كلمته في العلوّ وأنها المختصة به دون غيرها ، وكلمة الله : هي كلمة التوحيد ، والدعوة إلى الإسلام (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي : غالب قاهر لا يفعل إلا ما فيه حكمة وصواب ، ثم لما توعد من لم ينفر مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وضرب له من الأمثال ما ذكره عقبه بالأمر الجزم فقال : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) أي : حال كونكم خفافا وثقالا ، قيل : المراد منفردين أو مجتمعين ، وقيل : نشاطا وغير نشاط ، وقيل : فقراء وأغنياء ، وقيل : شبابا وشيوخا ، وقيل : رجالا وفرسانا ، وقيل : من لا عيال له ومن له عيال ؛ وقيل : من يسبق إلى الحرب كالطلائع ، ومن يتأخر كالجيش ، وقيل غير ذلك. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني ، لأن معنى الآية : انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت. قيل : وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) ، وقيل : الناسخ لها قوله (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) الآية ، وقيل : هي محكمة وليست بمنسوخة ، ويكون إخراج الأعمى والأعرج بقوله (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) (١) وإخراج الضعيف والمريض بقوله (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) من باب التخصيص ، لا من باب النسخ على فرض دخول هؤلاء تحت قوله : (خِفافاً وَثِقالاً) والظاهر عدم دخولهم تحت العموم. قوله : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) فيه الأمر بالجهاد بالأنفس والأموال وإيجابه على العباد ، فالفقراء يجاهدون بأنفسهم ، والأغنياء بأموالهم وأنفسهم. والجهاد من آكد الفرائض وأعظمها ، وهو فرض كفاية مهما كان البعض يقوم بجهاد العدوّ وبدفعه ، فإن كان لا يقوم بالعدوّ إلا جميع المسلمين في قطر من الأرض أو أقطار وجب عليهم ذلك وجوب عين ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى ما تقدّم من الأمر بالنفير والأمر بالجهاد (خَيْرٌ لَكُمْ) أي : خير عظيم في نفسه ، وخير من السكون والدعة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلك ، وتعرفون الأشياء الفاضلة وتميزونها عن المفضولة. قوله : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ). قال الزجاج : لو كان المدعو إليه ، فحذف لدلالة ما تقدّم عليه ، والعرض : ما يعرض من منافع الدنيا. والمعنى : غنيمة قريبة غير بعيدة (وَسَفَراً قاصِداً) عطف على ما قبله ، أي : سفرا متوسطا بين القرب والبعد ، وكل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) قال أبو عبيدة وغيره : إن الشقة السفر إلى أرض بعيدة ، يقال منه : شقّة شاقة. قال الجوهري : الشقّة بالضم من الثياب ، والشّقّة أيضا : السفر البعيد ، وربما قالوه بالكسر ، والمراد بهذه غزوة تبوك فإنها كانت سفرة بعيدة شاقة ،

__________________

(١). الفتح : ١٧.

٤١٤

وقرأ عيسى بن عمر (بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) بكسر العين والشين (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) أي : المتخلفون عن غزوة تبوك حال كونهم قائلين (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) أي : لو قدرنا على الخروج ووجدنا ما نحتاج إليه فيه مما لا بدّ منه (لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) هذه الجملة سادّة مسدّ جواب القسم والشرط. قوله : (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) هو بدل من قوله : (سَيَحْلِفُونَ) لأن من حلف كاذبا فقد أهلك نفسه ، أو يكون حالا : أي مهلكين أنفسهم ، موقعين لها موقع الهلاك (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في حلفهم الذي سيحلفون به لكم.

وقد أخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا) الآية ، قال : هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح ، وحين أمرهم بالنّفير في الصّيف ، وحين خرفت النخل ، وطابت الثمار ، واشتهوا الظلال ، وشقّ عليهم المخرج ، فأنزل الله : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) وأخرج أبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : استنفر حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه ، فأنزل الله هذه الآية فأمسك عنهم المطر ، فكان ذلك عذابهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما نزلت : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) وقد كان تخلف عنه أناس في البدو يفقهون قومهم ، فقال المؤمنون : قد بقي ناس في البوادي ، وقالوا هلك أصحاب البوادي ، فنزلت : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً). وأخرج أبو داود ، وابن أبي حاتم ، والنحاس ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله (إِلَّا تَنْفِرُوا) الآية قال : نسختها (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً). وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) قال : ذكر ما كان من أوّل شأنه حين بعث ، يقول : فأنا فاعل ذلك به ، وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين. وأخرج أبو نعيم ، والبيهقي في الدّلائل ، عن ابن شهاب وعروة : أنهم ركبوا في كل وجه يعني المشركين يطلبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم ويجعلون لهم الجعل العظيم ، وأتوا على ثور : الجبل الذي فيه الغار ، والذي فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى طلعوا فوقه ، وسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر أصواتهم ، فأشفق أبو بكر وأقبل عليه الهمّ والخوف ، فعند ذلك يقول له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت عليه السكينة من الله (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ) الآية. وأخرج ابن شاهين وابن مردويه وابن عساكر عن حبشي بن جنادة قال : قال أبو بكر : يا رسول الله! لو أن أحدا من المشركين رفع قدمه لأبصرنا ، فقال : يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري في قوله : (إِذْ هُما فِي الْغارِ) قال : هو الغار الذي في الجبل الذي يسمى ثورا. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس في قوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) قال : على أبي بكر لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تزل معه السكينة. وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : دخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو

٤١٥

بكر غار ثور ، فقال أبو بكر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أن أحدهم يبصر موضع قدمه لأبصرني وإياك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما يا أبا بكر؟! إن الله أنزل سكينته عليك وأيدني بجنود لم يروها». وأخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) قال : على أبي بكر ، فأما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد كانت عليه السكينة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) قال : هي الشرك بالله (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) قال : لا إله إلا الله. وأخرج الفريابي وأبو الشيخ عن أبي الضحى قال : أوّل ما أنزل من براءة (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) ثم نزل أوّلها وآخرها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي مالك نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (خِفافاً وَثِقالاً) قال : نشاطا وغير نشاط. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحكم في الآية قال : مشاغيل وغير مشاغيل. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الحسن قال : في العسر واليسر. وأخرج ابن المنذر عن زيد بن أسلم قال : فتيانا وكهولا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عكرمة قال : شبابا وشيوخا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : قالوا إن فينا الثقيل وذا الحاجة والضيعة والشغل فأنزل الله : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) وأبي أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا ، وعلى ما كان منهم. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السدّي قال : جاء رجل زعموا أنه المقداد ، وكان عظيما سمينا ، فشكا إليه وسأله أن يأذن له فأبى ، فنزلت : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) فلما نزلت هذه الآية اشتدّ على الناس شأنها فنسخها الله ، فقال : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له : ألا تغزو بني الأصفر لعلك أن تصيب ابنة عظيم الروم؟ فقال رجلان : قد علمت يا رسول الله! أن النساء فتنة فلا تفتنا بهنّ فأذن لنا ، فأذن لهما ، فلما انطلقا قال أحدهما : إن هو إلا شحمة لأوّل آكل ، فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم ينزل عليه شيء في ذلك ، فلما كان ببعض الطريق نزل عليه وهو على بعض المياه (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ) ونزل عليه : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ونزل عليه : (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ونزل عليه : (إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) قال : غنيمة قريبة ، (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) قال : المسير. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) قال : لقد كانوا يستطيعون الخروج ، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم ، وزهادة في الجهاد.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ

٤١٦

الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩))

الاستفهام في : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) للإنكار من الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث وقع منه الإذن لمن استأذنه في القعود ، قبل أن يتبيّن من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه ، ومن هو كاذب فيه. وفي ذكر العفو عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يدل على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأولى ، وفي هذا عتاب لطيف من الله سبحانه ؛ وقيل : إن هذا عتاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إذنه للمنافقين بالخروج معه ، لا في إذنه لهم بالقعود عن الخروج. والأوّل أولى ، وقد رخص له سبحانه في سورة النور بقوله : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) (١) ويمكن أن يجمع بين الآيتين بأن العتاب هنا متوجّه إلى الإذن قبل الاستثبات حتى يتبين الصادق من الكاذب ، والإذن هنالك متوجه إلى الإذن بعد الاستثبات والله أعلم. وقيل : إن قوله (عَفَا اللهُ عَنْكَ) هي افتتاح كلام كما تقول : أصلحك الله ، وأعزّك ، ورحمك ، كيف فعلت كذا؟ وكذا حكاه مكّي والنحّاس والمهدوي ، وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على عفا الله عنك ، وعلى التأويل الأوّل لا يحسن. ولا يخفاك أن التفسير الأوّل هو المطابق لما يقتضيه اللفظ على حسب اللغة العربية ، ولا وجه لإخراجه عن معناه العربي. وفي الآية دليل على جواز الاجتهاد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمسألة مدوّنة في الأصول ، وفيها أيضا : دلالة على مشروعية الاحتراز عن العجلة والاغترار بظواهر الأمور ، و (حَتَّى) في (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) للغاية ، كأنه قيل : لم سارعت إلى الإذن لهم؟ وهلا تأنيت حتى يتبين لك صدق من هو صادق منهم في العذر الذي أبداه ، وكذب من هو كاذب منهم في ذلك؟ ثم ذكر سبحانه أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القعود عن الجهاد ، بل كان من عادتهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أذن لواحد منهم بالقعود شق عليه ذلك. فقال : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا) وهذا على أن معنى الآية أن لا يجاهدوا ، على حذف حرف النفي ؛ وقيل المعنى : لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد ؛ وقيل : إن معنى الاستئذان في الشيء الكراهة له ، وأما على ما يقتضيه ظاهر اللفظ فالمعنى : لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد بل دأبهم أن يبادروا إليه من غير توقف ولا ارتقاب منهم لوقوع الإذن منك فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف. قال الزجاج : أن يجاهدوا في موضع نصب بإضمار في : أي في أن يجاهدوا (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) وهم هؤلاء الذين لم يستأذنوا (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) في القعود عن الجهاد ، والتخلف عنه (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهم المنافقون ، وذكر الإيمان بالله أوّلا ، ثم باليوم الآخر ثانيا في الموضعين ، لأنهما الباعثان على الجهاد في سبيل الله. قوله : (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) عطف على قوله (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وجاء بالماضي للدلالة على تحقق الريب في قلوبهم ، وهو الشك. قوله (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي : في شكهم الذي

__________________

(١). النور : ٦٢.

٤١٧

حلّ بقلوبهم يتحيرون ، والتردّد : التحير. والمعنى : فهؤلاء الذين يستأذنوك ليسوا بمؤمنين بل مرتابين حائرين لا يهتدون إلى طريق الصواب ، ولا يعرفون الحق. قوله (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أي : لو كانوا صادقين فيما يدّعونه ـ ويخبرونك به ـ من أنهم يريدون الجهاد معك ، ولكن لم يكن معهم من العدّة للجهاد ما يحتاج إليه ، لما تركوا إعداد العدّة ، وتحصيلها قبل وقت الجهاد كما يستعدّ لذلك المؤمنون ، فمعنى هذا الكلام : أنهم لم يريدوا الخروج أصلا ، ولا استعدّوا للغزو. والعدّة : ما يحتاج إليه المجاهد من الزاد والراحلة ، والسلاح. قوله : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) أي : ولكن كره الله خروجهم ، فتثبطوا عن الخروج ، فيكون المعنى : ما خرجوا ولكن تثبطوا ، لأن كراهة الله انبعاثهم تستلزم تثبطهم عن الخروج ، والانبعاث : الخروج ، أي : حبسهم الله عن الخروج معك وخذلهم ، لأنهم قالوا : إن لم يؤذن لنا في الجلوس أفسدنا وحرّضنا على المؤمنين ؛ وقيل المعنى : لو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة ، ولكن ما أرادوه لكراهة الله له ؛ قوله : (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) قيل : القائل لهم هو الشيطان بما يلقيه إليه من الوسوسة ، وقيل : قاله بعضهم لبعض ، وقيل : قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضبا عليهم ، وقيل : هو عبارة عن الخذلان ، أي : أوقع الله في قلوبهم القعود خذلانا لهم. ومعنى (مَعَ الْقاعِدِينَ) أي : مع أولي الضرر من العميان والمرضى ، والنساء ، والصبيان ، وفيه من الذمّ ، والإزراء عليهم ، والتنقص بهم ما لا يخفى. قوله : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) هذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين عن تخلّف المنافقين ، والخبال : الفساد والنميمة ، وإيقاع الاختلاف ، والأراجيف. قيل : هذا الاستثناء منقطع ؛ أي ما زادوكم قوّة ، ولكن طلبوا الخبال ؛ وقيل المعنى : لا يزيدونكم فيما تردّدون فيه من الرأي إلا خبالا ، فيكون متصلا ؛ وقيل : هو استثناء من أعمّ العام ، أي : ما زادوكم شيئا إلا خبالا ، فيكون الاستثناء من قسم المتصل ، لأن الخبال من جملة ما يصدق عليه الشيء. قوله : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) الإيضاع : سرعة السير ، ومنه قول ورقة بن نوفل :

يا ليتني فيها جذع

أخبّ فيها وأضع

يقال أوضع البعير : إذا أسرع السير ، وقيل الإيضاع : سير الخبب ، والخلل : الفرجة بين الشيئين ، والجمع الخلال ؛ أي : الفرج التي تكون بين الصفوف. والمعنى : لسعوا بينكم بالإفساد بما يختلقونه من الأكاذيب المشتملة على الإرجاف ، والنمائم الموجبة لفساد ذات البين. قوله : (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) يقال بغيته كذا : طلبته له ، وأبغيته كذا : أعنته على طلبه. والمعنى : يطلبون لكم الفتنة في ذات بينكم بما يصنعونه من التحريش والإفساد ؛ وقيل : الفتنة هنا : الشرك. وجملة (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنّ فيكم من يستمع ما يقولونه من الكذب فينقله إليكم ، فيتأثر من ذلك الاختلاف بينكم ، والفساد لإخوانكم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وبما يحدث منهم لو خرجوا معكم ، فلذلك اقتضت حكمته البالغة أن لا يخرجوا معكم ، وكره انبعاثهم معكم ؛ ولا ينافي حالهم هذا لو خرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تقدّم من عتابه على الإذن لهم في التخلف ، لأنه سارع إلى الإذن لهم ، ولم يكن قد علم من أحوالهم لو خرجوا أنهم

٤١٨

يفعلون هذه الأفاعيل ، فعوتب صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تسرّعه إلى الإذن لهم قبل أن يتبين له الصادق منهم في عذره من الكاذب ، ولهذا قال الله سبحانه فيما يأتي في هذه السورة (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) الآية ، وقال في سورة الفتح : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) إلى قوله (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) (١). قوله : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) أي : لقد طلبوا الإفساد ، والخبال ، وتفريق كلمة المؤمنين ، وتشتيت شملهم من قبل هذه الغزوة التي تخلفوا عنك فيها. كما وقع من عبد الله ابن أبي وغيره (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ). قوله : (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أي : صرّفوها من أمر إلى أمر ، ودبروا لك الحيل والمكائد ، ومنه قول العرب : «حوّل قلّب» إذا كان دائرا حول المكائد والحيل يدير الرأي فيها ويتدبره. وقرئ (وَقَلَّبُوا) بالتخفيف (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) أي : إلى غاية هي مجيء الحق ، وهو النصر لك والتأييد (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) بإعزاز دينه ، وإعلاء شرعه ، وقهر أعدائه ؛ وقيل : الحق : القرآن ، (وَهُمْ كارِهُونَ) أي : والحال أنهم كارهون لمجيء الحق ، وظهور أمر الله ، ولكن كان ذلك على رغم منهم (وَمِنْهُمْ) أي : من المنافقين (مَنْ يَقُولُ) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ائْذَنْ لِي) في التخلف عن الجهاد (وَلا تَفْتِنِّي) أي : لا توقعني في الفتنة : أي الإثم إذا لم تأذن لي ، فتخلفت بغير إذنك ؛ وقيل معناه : لا توقعني في الهلكة بالخروج (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي : في نفس الفتنة سقطوا ، وهي فتنة التخلف عن الجهاد ، والاعتذار الباطل. والمعنى : أنهم ظنّوا : أنهم بالخروج أو بترك الإذن لهم يقعون في الفتنة ، وهم بهذا التخلف سقطوا في الفتنة العظيمة. وفي التعبير بالسقوط ما يشعر بأنهم وقعوا فيها ، وقوع من يهوي من أعلى إلى أسفل ، وذلك أشدّ من مجرّد الدخول في الفتنة ، ثم توعدهم على ذلك فقال : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي : مشتملة عليهم من جميع الجوانب ، لا يجدون عنها مخلصا ، ولا يتمكنون من الخروج منها بحال من الأحوال.

وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف ، وابن جرير عن عمرو بن ميمون قال : اثنتان فعلهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يؤمر فيهما بشيء : إذنه للمنافقين ، وأخذه من الأسارى ، فأنزل الله (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ). وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله قال : سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة ، فقال : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ). وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) الآية ، قال : ناس قالوا : استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا ، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) الثلاث الآيات ، قال : نسخها : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) (٢). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه عنه في قوله : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية ، قال : هذا تعبير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر ، وعذر الله المؤمنين فقال : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ). وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عنه أيضا في قوله : (لا يَسْتَأْذِنُكَ)

__________________

(١). الفتح : ١٥.

(٢). النور : ٦٢.

٤١٩

الآيتين قال : نسختها الآية التي في سورة النور (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) إلى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) فجعل الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأعلى النظرين في ذلك ، من غزا غزا في فضيلة ، ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء الله. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) قال : خروجهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَثَبَّطَهُمْ) قال : حبسهم. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) قال : هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك. وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) قال : لأسرعوا بينكم. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) قال : لأوفضوا (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) يبطئونكم : عبد الله بن نبتل ، وعبد الله بن أبيّ ابن سلول ، ورفاعة بن تابوت ، وأوس بن قيظي (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) محدّثون لهم بأحاديثكم غير منافقين ، وهم عيون للمنافقين. وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه ، وأبو نعيم في المعرفة ، عن ابن عباس قال : لما أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجدّ بن قيس : يا جدّ بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال : يا رسول الله! إني امرؤ صاحب نساء ، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن ، فأذن لي ولا تفتني ، فأنزل الله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله نحوه. وأخرج ابن مردويه عن عائشة نحوه أيضا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَفْتِنِّي) قال : لا تخرجني (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) يعني : في الخروج. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (وَلا تَفْتِنِّي) قال : لا تؤثمني (أَلا فِي الْفِتْنَةِ) قال : ألا في الإثم ، وقصة تبوك مذكورة في كتب الحديث والسير ، فلا نطول بذكرها.

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧))

قوله : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) أيّ حسنة كانت ، بأيّ سبب اتفق ، كما يفيده وقوعها في حيز الشرط ،

__________________

(١). النور : ٦٢.

٤٢٠