فتح القدير - ج ٢

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٢

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٢

الدَّوَابِ) أي : ما دبّ على الأرض (عِنْدَ اللهِ) أي : في حكمه (الصُّمُّ الْبُكْمُ) أي : الذين لا يسمعون ، ولا ينطقون ، وصفوا بذلك مع كونهم ممن يسمع وينطق ، لعدم انتفاعهم بالسمع والنطق (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) ما فيه النّفع لهم فيأتونه ، وما فيه الضّرر عليهم فيجتنبونه ، فهم شرّ الدوابّ عند الله ، لأنها تميز بعض تمييز ، وتفرق بين ما ينفعها ويضرّها (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ) أي : في هؤلاء الصمّ البكم (خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) سماعا ينتفعون به ، ويتعقلون عنده الحجج والبراهين. قال الزجاج (لَأَسْمَعَهُمْ) جواب كل ما سألوا عنه ؛ وقيل : (لَأَسْمَعَهُمْ) كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم ، لأنهم طلبوا إحياء قصيّ بن كلاب ، وغيره ليشهدوا بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) لأنه قد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون وجملة (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) في محل نصب على الحال.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) قال : غاضبون. وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) الآية قال : إنّ هذه الآية نزلت في فلان وأصحاب له. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) قال : هم نفر من قريش من بني عبد الدار. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله (الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) قال : لا يتبعون الحق. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : نزلت هذه الآية في النّضر بن الحارث وقومه ، ولعله المكنّى بعنه بفلان فيما تقدّم من قول عليّ رضي الله عنه. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي : لأنفذ لهم قولهم الذي قالوا بألسنتهم ، ولكنّ القلوب خالفت ذلك منهم. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : قالوا نحن صمّ عما يدعونا إليه محمد لا نسمعه ، بكم لا نجيبه فيه بتصديق ، قتلوا جميعا بأحد ، وكانوا أصحاب اللواء يوم أحد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥))

الأمر هنا بالاستجابة مؤكّد لما سبق من الأمر بالطاعة ، ووحد الضمير هنا حيث قال (إِذا دَعاكُمْ) كما وحده في قوله (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) وقد قدّمنا الكلام في وجه ذلك ، والاستجابة : الطاعة. قال أبو عبيدة معنى استجيبوا : أجيبوا ، وإن كان استجاب : يتعدّى باللام ، وأجاب : بنفسه كما في قوله : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) (١) ، وقد يتعدّى بنفسه كما في قول الشاعر (٢) :

__________________

(١). الأحقاف : ٣١.

(٢). هو كعب بن سعد الغنوي.

٣٤١

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

(إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) اللام متعلقة بقوله (اسْتَجِيبُوا) أي : استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم ، ولا مانع من أن تكون متعلقة بدعا ، أي : إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم من علوم الشريعة ، فإن العلم حياة ، كما أن الجهل موت ، فالحياة هنا : مستعارة للعلم ، قال الجمهور من المفسّرين : المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمّنه القرآن من أوامر ونواه ، ففيه الحياة الأبدية ، والنعمة السّرمدية ؛ وقيل : المراد بقوله (لِما يُحْيِيكُمْ) الجهاد ، فإنّه سبب الحياة في الظاهر ، لأن العدوّ إذا لم يغز غزا ، ويستدلّ بهذا الأمر بالاستجابة على أنه : يجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله ، أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية ؛ أن يبادر إلى العمل به كائنا ما كان ، ويدع ما خالفه من الرأي ، وأقوال الرجال. وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة ، وترك التقيد بالمذاهب ، وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائنا ما كان. قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) قيل معناه : بادروا إلى الاستجابة ، قبل أن لا تتمكّنوا منها ، بزوال القلوب التي تعقلون بها ، بالموت الذي كتبه الله عليكم ؛ وقيل معناه : إنه خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدوّ ، فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه ، بأن يبدلهم بعد الخوف أمنا ، ويبدل عدوّهم من الأمن خوفا ؛ وقيل : هو من باب التمثيل لقربه سبحانه من العبد كقوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١) ومعناه : أنه مطلع على ضمائر القلوب لا تخفى عليه منها خافية. واختار ابن جرير أن هذا من باب الإخبار من الله عزوجل ، بأنه أملك لقلوب عباده منهم ، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئته عزوجل ، ولا يخفاك أنه لا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) معطوف على (أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) وأنكم محشورون إليه وهو مجازيكم بالخير خيرا ، وبالشرّ شرّا ، قال الفراء : ولو استأنفت فكسرت همزة (أَنَّهُ) لكان صوابا ، ولعل مراده : أن مثل هذا جائز في العربية. قوله (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) أي : اتّقوا فتنة تتعدى الظالم ، فتصيب الصالح والطالح ، ولا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم.

وقد اختلف النحاة في دخول هذه النون المؤكدة في (تُصِيبَنَ) فقال الفراء : هو بمنزلة قولك : انزل عن الدابة لا تطرحنك ، فهو جواب الأمر بلفظ النهي ، أي : إن تنزل عنها لا تطرحنك ، ومثله قوله تعالى (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) (٢) أي : إن تدخلوا لا يحطمنكم ، فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء ، وقال المبرد : إنه نهي بعد أمر. والمعنى : النهي للظالمين ، أي : لا يقربنّ الظلم ، ومثله ما روي عن سيبويه لا أرينك هاهنا ، فإن معناه : لا تكن هاهنا ، فإن من كان هاهنا رأيته. وقال الجرجاني : إنّ : لا تصيبنّ ، نهي في موضع وصف لفتنة ، وقرأ عليّ وزيد بن ثابت وأبيّ وابن مسعود لتصيبنّ على أن اللام جواب لقسم محذوف ، والتقدير : اتقوا فتنة والله لتصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة ، فيكون معنى هذه القراءة مخالفا لمعنى قراءة الجماعة ، لأنها تفيد أن الفتنة تصيب الظالم خاصة بخلاف قراءة الجماعة. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ومن شدّة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه ، وقد وردت

__________________

(١). ق : ١٦.

(٢). النمل : ١٨.

٣٤٢

الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه ، ولا يعذب إلا بجنايته ، فيمكن حمل ما في هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض ، ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة ، والله أعلم ، ويمكن أن يقال : إن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبة بأسباب ، كترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فتكون الإصابة المتعدّية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) قال : للحق. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية : قال : هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله : (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) أي : للحرب التي أعزّكم الله بها بعد الذلّ ، وقوّاكم بها بعد الضعف ، ومنعكم بها من العذاب بعد القهر منهم لكم. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد بن المعلى قال : «كنت أصلّي في المسجد فدعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم أجبه ، ثم أتيته فقلت : يا رسول الله! إني كنت أصلي ، فقال : ألم يقل الله تعالى استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم». الحديث ، وفيه دليل على ما ذكرنا من أن الآية تعمّ كل دعاء من الله أو من رسوله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) قال : يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله ، ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في الآية قال : علمه يحول بين المرء وقلبه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال : في القرب منه. وأخرج أحمد والبزار وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر عن مطرف قال : قلت للزبير : يا أبا عبد الله! ضيّعتم الخليفة حتى قتل ، ثم جئتم تطلبون بدمه. قال الزبير : إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : قرأ الزبير (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) قال : البلاء والأمر الذي هو كائن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن في الآية قال : نزلت في عليّ وعثمان وطلحة والزبير. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال نزلت في أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال : نزلت في أهل بدر خاصة ، فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا ، فكان من المقتولين طلحة والزبير ، وهما من أهل بدر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في الآية قال : تصيب الظالم ، والصالح عامة. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : هي مثل. (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) حتى يتركه لا يعقل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : أمر الله المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم الله بالعذاب وقد وردت الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأن هذه الأمة إذا لم يأمروا بالمعروف ، وينهوا عن المنكر

٣٤٣

عمهم الله بعذاب من عنده.

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨))

الخطاب بقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) للمهاجرين ، أي : اذكروا وقت قلتكم ، و (مُسْتَضْعَفُونَ) خبر ثان للمبتدأ ، والأرض : هي أرض مكة ، والخطف : الأخذ بسرعة ، والمراد بالناس : مشركو قريش ؛ وقيل : فارس والروم (فَآواكُمْ) يقال : آوى إليه بالمد وبالقصر بمعنى : انضمّ إليه. فالمعنى : ضمكم الله إلى المدينة أو إلى الأنصار (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) أي : قوّاكم بالنصر في مواطن الحرب التي منها يوم بدر ، أو قوّاكم بالملائكة يوم بدر (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) التي من جملتها الغنائم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي : إرادة أن تشكروا هذه النعم التي أنعم بها عليكم ، والخون أصله كما في الكشاف : النقص ، كما أن الوفاء التمام ، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء ، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان ؛ وقيل معناه : الغدر وإخفاء الشيء ، ومنه قوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) (١) نهاهم الله عن أن يخونوه بترك شيء مما افترضه عليهم ، أو يخونوا رسوله بترك شيء مما أمنهم عليه ، أو بترك شيء مما سنه لهم ، أو يخونوا شيئا من الأمانات التي اؤتمنوا عليها ، وسميت أمانات لأنه يؤمن معها من منع الحق ، مأخوذة من الأمن ، وجملة (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) في محل نصب على الحال ، أي : وأنتم تعلمون أن ذلك الفعل خيانة فتفعلون الخيانة عن عمد ، أو وأنتم من أهل العلم لا من أهل الجهل ، ثم قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) لأنهم سبب الوقوع في كثير من الذنوب ، فصاروا من هذه الحيثية محنة يختبر الله بها عباده ، وإن كانوا من حيثية أخرى زينة الحياة الدنيا ، كما في الآية الأخرى (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فآثروا حقّه على أموالكم وأولادكم ، ليحصل لكم ما عنده من الأجر المذكور.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) قال : كان هذا الحيّ من العرب أذلّ الناس ذلا ، وأشقاه عيشا ، وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا ، وأبينه ضلالة ، من عاش عاش شقيا ، ومن مات منهم ردّي في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، لا والله ما نعلم قبيلا من حاضري الأرض يومئذ كان أشرّ منزلا منهم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس ، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا لله نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله عزوجل. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله (يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) قال : في الجاهلية بمكة (فَآواكُمْ) إلى الإسلام. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن وهب في قوله : (يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) قال : الناس إذ ذاك فارس والروم.

__________________

(١). غافر : ١٩.

٣٤٤

وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله :

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) قيل : يا رسول الله! ومن الناس؟ قال : أهل فارس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في قوله : (فَآواكُمْ) قال : إلى الأنصار بالمدينة (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) قال : يوم بدر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ أبا سفيان بمكان كذا وكذا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا ، فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) الآية. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الله بن أبي قتادة قال : نزلت هذه الآية (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) في أبي لبابة بن عبد المنذر ، سألوه يوم قريظة ما هذا الأمر؟ فأشار إلى حلقه أنه الذبح فنزلت. قال أبو لبابة : ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله. وأخرج سنيد وابن جرير عن الزهري نحوه بأطول منه وأخرج عبد بن حميد عن الكلبي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث أبا لبابة إلى قريظة وكان حليفا لهم ، فأومأ بيده أنه الذبح فنزلت. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في هذه الآية أنها نزلت في أبي لبابة ونسختها الآية التي في براءة (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) (١) وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لا تَخُونُوا اللهَ) قال : بترك فرائضه (وَالرَّسُولَ) بترك سننه ، وارتكاب معصيته (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) يقول : لا تنقصوها ، والأمانة : الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد. وأخرج ابن جرير عن المغيرة بن شعبة قال : نزلت هذه الآية في قتل عثمان ، ولعل مراده أن من جملة ما يدخل تحت عمومها قتل عثمان. وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن حبيب في الآية قال : هو الإخلال (٢) بالسّلاح في المغازي ، ولعل مراده أن هذا يندرج تحت عمومها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال : ما منكم من أحد إلا وهو يشتمل على فتنة. لأن الله يقول (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مضلات الفتن. وأخرج هؤلاء عن ابن زيد في الآية قال : فتنة الأخبار اختبرهم ، وقرأ : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (٣).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

جعل سبحانه التّقوى شرطا في الجعل المذكور ، مع سبق علمه بأنهم يتقون أو لا يتقون ، جريا على ما يخاطب به الناس بعضهم بعضا. والتقوى : اتقاء مخالفة أوامره والوقوع في مناهيه. والفرقان : ما يفرق به

__________________

(١). التوبة : ١٠٢.

(٢). قال في لسان العرب : أخلّ بالشيء : غاب عنه وتركه.

(٣). الأنبياء : ٣٥.

٣٤٥

بين الحقّ والباطل ، والمعنى : أنه يجعل لهم من ثبات القلوب ، وثقوب البصائر ، وحسن الهداية ما يفرقون به بينهما عند الالتباس ؛ وقيل : الفرقان : المخرج من الشبهات ، والنجاة من كل ما يخافونه ، ومنه قول الشاعر :

مالك من طول الأسى فرقان

بعد قطين رحلوا وبانوا

ومنه قول الآخر :

وكيف أرجي الخلد والموت طالبي

وما لي من كأس المنيّة فرقان

وقال الفرّاء : المراد بالفرقان : الفتح والنصر. قال ابن إسحاق : الفرقان الفصل بين الحق والباطل ، وبمثله قال ابن زيد. وقال السديّ : الفرقان : النجاة ، ويؤيّد تفسير الفرقان بالمخرج والنجاة ، قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) وبه قال مجاهد ومالك بن أنس. (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي : يسترها حتى تكون غير ظاهرة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (١) ما اقترفتم من الذنوب ؛ وقد قيل : إن المراد بالسيئات : الصغائر ، وبالذنوب التي تغفر : الكبائر ؛ وقيل : المعنى : أنه يغفر لهم ما تقدّم من الذنوب وما تأخر (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فهو المتفضل على عباده بتكفير السيئات ومغفرة الذنوب.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) قال : هو المخرج. وأخرج ابن جرير عنه قال : هو النجاة. وأخرج ابن جرير عن عكرمة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : هو النّصر.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣))

قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الظرف معمول لفعل محذوف. أي : واذكر يا محمد وقت مكر الكافرين بك ، أو معطوف على ما تقدّم من قوله (وَاذْكُرُوا) ذكر الله رسوله هذه النعمة العظمى التي أنعم بها عليه ، وهي نجاته من مكر الكافرين وكيدهم ، كما سيأتي بيانه (لِيُثْبِتُوكَ) أي : يثبتوك بالجراحات كما قال ثعلب وأبو حاتم وغيرهما ، وعنه قول الشاعر :

فقلت ويحكما ما في صحيفتكم

قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا

وقيل : المعنى ليحبسوك ، يقال : أثبته : إذا حبسه ؛ وقيل ليوثقوك ، ومنه : (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) (٢). وقرأ الشّعبي «ليبيتوك» من البيات. وقرئ ليثبتوك بالتشديد (أَوْ يُخْرِجُوكَ) معطوف على ما قبله ، أي : يخرجوك من مكة التي هي بلدك وبلد أهلك. وجملة (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) مستأنفة ، والمكر :

__________________

(١). الطلاق : ٢.

(٢). محمد : ٤.

٣٤٦

التدبير في الأمر في خفية ، والمعنى : أنهم يخفون ما يعدّونه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المكايد ، فيجازيهم الله على ذلك ، ويردّ كيدهم في نحورهم ، وسمى ما يقع منه تعالى : مكرا ، مشاكلة كما في نظائره (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي : المجازين لمكر الماكرين بمثل فعلهم ، فهو يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون ، فيكون ذلك أشدّ ضررا عليهم وأعظم بلاء من مكرهم. قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي التي تأتيهم بها وتتلوها عليهم (قالُوا) تعنتا وتمردا وبعدا عن الحق (قَدْ سَمِعْنا) ما تتلوه علينا (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) الذي تلوته علينا ، قيل : إنهم قالوا هذا توهما منهم أنهم يقدرون على ذلك ، فلما راموا أن يقولوا مثله عجزوا عنه ، ثم قال عنادا وتمرّدا : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : ما يستطره الوراقون من أخبار الأوّلين ، وقد تقدّم بيانه مستوفى (وَإِذْ قالُوا) أي : واذكر إذ قالوا (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) بنصب الحقّ على أنه خبر كان ، والضمير للفصل ، ويجوز الرفع ، قال الزجّاج : ولا أعلم أحدا قرأ بها ، ولا اختلاف بين النّحويين في إجازتها ، ولكن القراءة سنة ، والمعنى : إن كان القرآن الذي جاءنا به محمد هو الحق (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا) قالوا هذه المقالة مبالغة في الجحود والإنكار. قال أبو عبيدة : يقال : أمطر : في العذاب ، ومطر : في الرحمة. وقال في الكشاف : قد كثر الإمطار في معنى العذاب (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) سألوا أن يعذبوا بالرجم بالحجارة من السماء أو بغيرها من أنواع العذاب الشديد ، فأجاب الله عليهم بقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ) يا محمد (فِيهِمْ) موجود فإنك ما دمت فيهم فهم في مهلة من العذاب الذي هو الاستئصال (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) روي أنهم كانوا يقولون في الطواف غفرانك ، أي : وما كان الله معذبهم في حال كونهم يستغفرونه ؛ وقيل : المعنى : لو كانوا ممن يؤمن بالله ويستغفره لم يعذبهم ، وقيل : إنّ الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم ، أي : وما كان الله ليعذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين ، فلما خرجوا من بين أظهرهم عذبهم بيوم بدر وما بعده ؛ وقيل : المعنى : وما كان الله معذّبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله.

وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، والخطيب عن ابن عباس في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : تشاورت قريش ليلة بمكة ، فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق ، يريدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال بعضهم : بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أخرجوه ، فأطلع الله نبيه على ذلك ، فبات عليّ على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لحق بالغار ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوه عليا ردّ الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا؟ فقال : لا أدري ، فاقتصّوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل ، فمرّوا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس فذكر القصة بأطول مما هنا. وفيها ذكر الشيخ النجدي ؛ أي : إبليس ومشورته عليهم عند اجتماعهم في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن أبا جهل أشار بأن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش غلاما ويعطوا كل واحد منهم سيفا ثم

٣٤٧

يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل ، فقال الشيخ الجندي : هذا والله هو الرأي ، فتفرّقوا على ذلك. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال : لما ائتمروا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ؛ قال له عمّه أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال : يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني ، قال : من حدّثك بهذا؟ قال : ربي ، قال : نعم الربّ ربك ، استوص به خيرا ، قال : أنا أستوصي به؟ بل هو يستوصي بي. وأخرجه ابن جرير من طريق أخرى عنه. وهذا لا يصحّ ، فقد كان أبو طالب مات قبل وقت الهجرة بسنين. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جرير في قوله (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : قال عكرمة هي مكية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء في قوله (لِيُثْبِتُوكَ) يعني : ليوثقوك. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال : قتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط ، وطعيمة ابن عدي ، والنّضر بن الحارث ؛ وكان المقداد أسر النّضر ، فلما أمر بقتله قال المقداد : يا رسول الله! أسيري ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول ، قال : وفيه أنزلت هذه الآية (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) ، وهذا مرسل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدّي أنها نزلت في النّضر بن الحارث. وأخرج البخاري وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أنس بن مالك قال : قال أبو جهل بن هشام : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية ، فنزلت (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) الآية. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنها نزلت في أبي جهل ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية أنّها نزلت في النّضر بن الحارث ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير عن عطاء نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال : كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون : لبيك اللهم لبيك. لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. ويقولون : غفرانك غفرانك. فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) الآية. قال ابن عباس : كان فيهم أمانان : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والاستغفار ؛ فذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقي الاستغفار. وأخرج الترمذي وضعّفه عن أبي موسى الأشعري قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزل الله عليّ أمانين لأمتي (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) الآية. فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار». وأخرج أبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : كان فيكم أمانان مضى أحدهما وبقي الآخر ، قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) الآية. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه والحاكم وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري نحوه أيضا ، والأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مطلق الاستغفار كثيرة جدا ، معروفة في كتب الحديث.

(وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ

٣٤٨

فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧))

قوله : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) لما بيّن سبحانه أن المانع من تعذيبهم هو الأمران المتقدّمان : وجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين ظهورهم ، ووقوع الاستغفار. ذكر بعد ذلك أن هؤلاء الكفار ، أعني : كفار مكة مستحقون لعذاب الله لما ارتكبوا من القبائح. والمعنى : أيّ شيء لهم يمنع من تعذيبهم؟ قال الأخفش : إن أن زائدة. قال النحاس : لو كان كما قال لرفع يعذبهم ، وجملة (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) في محل نصب على الحال ، أي : وما يمنع من تعذيبهم؟ والحال أنهم يصدون الناس عن المسجد الحرام ، كما وقع منهم عام الحديبية من منع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من البيت. وجملة (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) في محل نصب على أنها حال من فاعل (يَصُدُّونَ) وهذا كالرد لما كانوا يقولونه من أنهم ولاة البيت. وأن أمره مفوض إليهم ، ثم قال مبينا لمن له ذلك (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) أي : ما أولياؤه إلا من كان في عداد المتقين للشرك والمعاصي (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ، والحكم على الأكثرين بالجهل يفيد أن الأقلين يعلمون ولكنهم يعاندون. قوله (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) المكاء : الصفير من مكا يمكو مكاء ، ومنه قول عنترة :

وحليل غانية تركت مجدّلا

تمكو فريصته كشدق الأعلم

أي تصوّت. ومنه : مكت است الدابة : إذا نفخت بالريح ، قيل المكاء : هو الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكّاء. قال الشاعر :

إذا غرّد المكّاء في غير دوحة

فويل لأهل الشّاء والحمرات

والتّصدية : التصفيق ، يقال : صدّى يصدّي تصدية : إذا صفق ، ومنه قول عمرو بن الإطنابة :

وظلّوا جميعا لهم ضجّة

مكاء لدى البيت بالتّصدية

أي : بالتصفيق ؛ وقيل المكاء : الضرب بالأيدي ، والتّصدية : الصياح ؛ وقيل المكاء : إدخالهم أصابعهم في أفواههم ، والتّصدية : الصفير ؛ وقيل التصدية : صدّهم عن البيت ؛ قيل : والأصل على هذا تصددة فأبدل من إحدى الدالين ياء. ومعنى الآية : أن المشركين كانوا يصفرون ويصفقون عند البيت ، الذي هو موضع للصلاة والعبادة ، فوضعوا ذلك موضع الصلاة ، قاصدين به أن يشغلوا المصلين من المسلمين عن الصلاة ، وقرئ بنصب صلاتهم على أنها خبر كان ، وما بعده اسمها. قوله (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) هذا التفات إلى مخاطبة الكفار تهديدا لهم ومبالغة في إدخال الروعة في قلوبهم ، والمراد به : عذاب الدنيا كيوم بدر ، وعذاب الآخرة. قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لما فرغ سبحانه

٣٤٩

من شرح أحوال هؤلاء الكفرة في الطاعات البدنية أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية. والمعنى : أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصدّ عن سبيل الحق بمحاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجمع الجيوش لذلك ، وإنفاق أموالهم عليها ، وذلك كما وقع من كفار قريش يوم بدر ، ويوم أحد ، ويوم الأحزاب ، فإن الرؤساء كانوا ينفقون أموالهم على الجيش ؛ ثم أخبر الله سبحانه عن الغيب على وجه الإعجاز ، فقال : (فَسَيُنْفِقُونَها) أي : سيقع منهم هذا الإنفاق (ثُمَّ تَكُونُ) عاقبة ذلك أن يكون إنفاقهم حسرة عليهم ، وكأن ذات الأموال تنقلب حسرة وتصير ندما ، (ثُمَ) آخر الأمر (يُغْلَبُونَ) كما وعد الله به في مثل قوله (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي). ومعنى (ثم) في الموضعين : إما التراخي في الزمان ، لما بين الإنفاق المذكور ، وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد ، وإما التراخي في الرتبة ، لما بين بذل المال ، وعدم حصول المقصود من المباينة ، ثم قال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أي : استمروا على الكفر ، لأن من هؤلاء الكفار المذكورين سابقا من أسلم وحسن إسلامه ، أي : يساقون إليها لا إلى غيرها ، ثم بين العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعله فقال : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ) أي : الفريق الخبيث من الكفار (مِنَ) الفريق (الطَّيِّبِ) وهم المؤمنون (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) أي : يجعل فريق الكفار الخبيث بعضه على بعض (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) عبارة عن الجمع والضم ، أي : يجمع بعضهم إلى بعض ، ويضمّ بعضهم إلى بعض ، حتى يتراكموا لفرط ازدحامهم ، يقال : ركم الشيء يركمه : إذا جمعه وألقى بعضه على بعض ، والإشارة بقوله (أُولئِكَ) إلى الفريق الخبيث (هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : الكاملون في الخسران ؛ وقيل : الخبيث والطيب : صفة للمال ، والتقدير : يميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون ، من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون ، فيضمّ تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيه في جهنم ، ويعذبهم بها ، كما في قوله تعالى : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ). قال في الكشاف : واللام على هذا متعلقة بقوله : (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) ، وعلى الأوّل : ب : (يُحْشَرُونَ) و (أُولئِكَ) إشارة إلى الذين كفروا. انتهى.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ثم استثنى أهل الشرك فقال (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ). وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن سعيد بن جبير في قوله : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) قال : عذابهم فتح مكة. وأخرج ابن إسحاق وأبو حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) وهم يجحدون بآيات الله ويكذبون رسله. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي : من آمن بالله وعبده ، أنت ومن أتبعك ، (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) الذين يخرجون منه ويقيمون الصلاة عنده ، أي : أنت ومن آمن بك. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) قال : من كانوا حيث كانوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير قال : كانت قريش يعارضون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الطواف ويستهزئون ويصفرون ويصفقون ، فنزلت (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً). وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ

٣٥٠

وابن مردويه والضياء عن ابن عباس قال : كانت قريش يطوفون بالكعبة عراة تصفر وتصفق ، فأنزل الله (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) قال : والمكاء : الصفير ، إنما شبهوا بصفير الطير ، وتصدية : التصفيق ، وأنزل الله فيهم (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) (١) الآية. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه نحوه أيضا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال : المكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد ، قال : المكاء : إدخال أصابعهم في أفواههم ، والتصدية : الصفير ، يخلطون بذلك كله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاته. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدّي. قال : المكاء : الصفير ، على نحو طير أبيض يقال له : المكاء بأرض الحجاز ، والتّصدية : التصفيق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله (إِلَّا مُكاءً) قال : كانوا يشبكون أصابعهم ويصفرون فيهنّ (وَتَصْدِيَةً) قال : صدّهم الناس. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال : كان المشركون يطوفون بالبيت على الشمال ، وهو قوله (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) فالمكاء : مثل نفخ البوق ، والتّصدية : طوافهم على الشمال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) قال : يعني أهل بدر ، عذبهم الله بالقتل والأسر. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، كلّهم من طريقه : قال : حدّثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم ابن عمر بن قتادة والحسين بن عبد الرحمن بن عمرو قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم ، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينوا بهذا المال على حربه فلعلنا أن ندرك منه ثارا. ففعلوا ، ففيهم كما ذكر ابن عباس أنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) إلى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ). وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج هؤلاء وغيرهم عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحكم بن عتيبة في الآية قال : نزلت في أبي سفيان ، أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب ، وكانت الوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا (٢) من ذهب. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن شمر بن عطية في قوله (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) قال : يميز يوم القيامة ما كان من عمل صالح في الدنيا ، ثم تؤخذ الدنيا بأسرها فتلقى في جهنم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) قال : يجمعه جميعا.

__________________

(١). الأعراف : ٣٢.

(٢). المثقال : ٦٠ ، ٣ غرام.

٣٥١

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠))

أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى ، وسواء قاله بهذه العبارة أو غيرها. قال ابن عطية : ولو كان كما قال الكسائي : إنه في مصحف عبد الله بن مسعود قل للّذين كفروا إن تنتهوا يعني بالتاء المثناة من فوق لما تأدّت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها. وقال في الكشاف : أي : قل لأجلهم هذا القول ، وهو (إِنْ يَنْتَهُوا) ولو كان بمعنى : خاطبهم ، لقيل : إن تنتهوا يغفر لكم ، وهي قراءة ابن مسعود ، ونحوه (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (١) خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه ، أي : إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) لهم من العداوة ، انتهى. وقيل معناه : إن ينتهوا عن الكفر ، قال ابن عطيّة : والحامل على هذا جواب الشرط : يغفر لهم ما قد سلف ، ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلّا لمنته عن الكفر. وفي هذه الآية دليل على أن الإسلام يجب ما قبله (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى القتال والعداوة ، أو إلى الكفر الذي هم عليه ، ويكون العود بمعنى الاستمرار (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) هذه العبارة مشتملة على الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله ؛ أي : قد مضت سنّة الله فيمن فعل مثل فعل هؤلاء من الأوّلين من الأمم أن يصيبه بعذاب ، فليتوقّعوا مثل ذلك (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي : كفر ، وقد تقدم تفسير هذا في البقرة مستوفى (فَإِنِ انْتَهَوْا) عما ذكر (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه ما وقع منهم من الانتهاء ، (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عما أمروا به من الانتهاء ، (فَاعْلَمُوا) أيها المؤمنون (أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) أي : ناصركم عليهم (نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) فمن والاه فاز ، ومن نصره غلب.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) قال : في قريش وغيرها يوم بدر ، والأمم قبل ذلك. وأخرج أحمد ومسلم عن عمرو بن العاص قال : لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : ابسط يدك فلأبايعك ، فبسط يمينه فقبضت يدي ، قال : مالك؟ قلت : أردت أن أشترط ، قال : «تشترط ماذا»؟ قلت : أن تستغفر لي ، قال : «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحجّ يهدم ما كان قبله». وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الإسلام يجبّ ما قبله ، والتوبة تجبّ ما قبلها». وقد فسر كثير من السلف قوله تعالى (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) بما مضى في الأمم المتقدّمة من عذاب من قاتل الأنبياء وصمّم على الكفر ، وقال السدّي ومحمد بن إسحاق : المراد بالآية يوم بدر. وفسّر جمهور السلف الفتنة المذكورة هنا بالكفر. وقال محمد بن إسحاق : بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) حتى لا يفتن مسلم عن دينه.

__________________

(١). الأحقاف : ١١.

٣٥٢

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢))

لما أمر الله سبحانه بالقتال بقوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) وكانت المقاتلة مظنّة حصول الغنيمة ذكر حكم الغنيمة ، والغنيمة قد قدّمنا أنّ أصلها : إصابة الغنم من العدوّ ، ثم استعملت في كلّ ما يصاب منهم ، وقد تستعمل في كلّ ما ينال بسعي ، ومنه قول الشاعر :

وقد طوّفت في الآفاق حتّى

رضيت من الغنيمة بالإياب

ومثله قول الآخر :

ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه

أنّى توجّه والمحروم محروم

وأما معنى الغنيمة في الشرع ، فحكى القرطبي الاتفاق على أنّ المراد بقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) : مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر. قال : ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص ، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع. وقد ادّعى ابن عبد البر الإجماع على هذه الآية بعد قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين ، وأن قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر ، على ما تقدّم أوّل السورة ؛ وقيل إنها أعني قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) محكمة غير منسوخة ، وأنّ الغنيمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليست مقسومة بين الغانمين وكذلك لمن بعده من الأئمة ، حكاه الماوردي عن كثير من المالكية ، قالوا : وللإمام أن يخرجها عنهم ، واحتجّوا بفتح مكة وقصّة حنين ، وكان أبو عبيدة يقول : افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة عنوة ومنّ على أهلها فردّها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئا ، وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أنّ أربعة أخماس الغنيمة للغانمين ، وممّن حكى ذلك ابن المنذر وابن عبد البرّ والداودي والمازري والقاضي عياض وابن العربي ، والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين وكيفيتها كثيرة جدا. قال القرطبي : ولم يقل أحد فيما أعلم أن قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) الآية ناسخ لقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية ، بل قال الجمهور : إن قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) ناسخ ، وهم الذين لا يجوز عليهم التّحريف ولا التّبديل لكتاب الله. وأما قصّة فتح مكة فلا حجّة فيها لاختلاف العلماء في فتحها ، قال : وأما قصّة حنين فقد عوّض الأنصار لما قالوا : تعطي الغنائم قريشا وتتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه ، فقال لهم : «أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيوتكم» كما في مسلم وغيره ، وليس لغيره أن يقول هذا القول ، بل

٣٥٣

ذلك خاص به. قوله (أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) يشمل كلّ شيء يصدق عليه اسم الغنيمة و (مِنْ شَيْءٍ) بيان لما الموصولة ، وقد خصص الإجماع من عموم الآية الأسارى. فإن الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف. وكذلك سلب المقتول إذا نادى به الإمام ؛ وقيل : كذلك الأرض المغنومة. وردّ بأنه لا إجماع على الأرض. قوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) قرأ النّخعي فإن لله بكسر إن. وقرأ الباقون بفتحها على أن : أنّ وما بعدها مبتدأ وخبره محذوف ، والتقدير : فحق أو فواجب أن لله خمسه.

وقد اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس على أقوال ستة : الأوّل : قالت طائفة : يقسم الخمس على ستة ، فيجعل السدس للكعبة. وهو الذي لله ، والثاني : لرسول الله ، والثالث : لذوي القربى ، والرابع : لليتامى ، والخامس : للمساكين ، والسادس : لابن السبيل. والقول الثاني : قاله أبو العالية والربيع : إنها تقسم الغنيمة على خمسة ، فيعزل منها سهم واحد ، ويقسم أربعة على الغانمين ، ثم يضرب يده في السهم الذي عزله فما قبضه من شيء جعله للكعبة ، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة للرسول ومن بعده الآية. القول الثالث : روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال : إن الخمس لنا ، فقيل له : إن الله يقول (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فقال : يتامانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا. القول الرابع : قول الشافعي : إنّ الخمس يقسم على خمسة ، وإن سهم الله ، وسهم رسوله واحد يصرف في مصالح المؤمنين ، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورة في الآية. القول الخامس : قول أبي حنيفة : إنه يقسم الخمس على ثلاثة : اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموته كما ارتفع حكم سهمه. قال : ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر وبناء المساجد وأرزاق القضاة والجند. وروي نحو هذا عن الشافعي. القول السادس : قول مالك : إنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده ، فيأخذ منه بغير تقدير ، ويعطى منه الغزاة باجتهاد ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. قال القرطبي : وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا ، وعليه يدل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس. والخمس مردود عليكم» فإنه لم يقسمه أخماسا ولا أثلاثا. وإنما ذكر ما في الآية من ذكره على وجه التنبيه عليهم. لأنهم من أهل من يدفع إليه. قال الزجاج محتجا لهذا القول : قال الله تعالى (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (١) وجائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك. قوله (وَلِذِي الْقُرْبى) قيل : إعادة اللام في ذي القربى دون من بعدهم ، لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد اختلف العلماء في القربى على أقوال : الأول أنهم قريش كلّها. روى ذلك عن بعض السلف ، واستدلّ بما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لما صعد الصفا جعل يهتف ببطون قريش كلها قائلا : يا بني فلان يا بني فلان. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد : هم بنو هاشم وبنو المطلب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد. وشبّك بين أصابعه» وهو في الصحيح ، وقيل : هم بنو هاشم خاصة ، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وغيرهم ، وهو مروي عن علي بن الحسين ومجاهد. قوله (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) قال الزجاج عن فرقة : إن المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم آمنتم بالله ، وقالت

__________________

(١). البقرة : ٢١٥.

٣٥٤

فرقة أخرى : إن (إِنْ) متعلقة بقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح لأن قوله (وَاعْلَمُوا) يتضمّن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم ، فعلق إن بقوله (وَاعْلَمُوا) على هذا المعنى ، أي : إن كنتم مؤمنين بالله ، فانقادوا ، وسلموا لأمر الله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة. وقال في الكشاف : إنه متعلق بمحذوف يدلّ عليه (وَاعْلَمُوا) بمعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به ، فاقطعوا عنه أطماعكم ، واقتنعوا بالأخماس الأربعة ، وليس المراد بالعلم المجرد ، ولكن العلم المضمن بالعمل ، والطاعة لأمر الله ، لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر ، انتهى. قوله (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) معطوف على الاسم الجليل ؛ أي : إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا ، و (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يوم بدر. لأنه فرق بين أهل الحق ، وأهل الباطل و (الْجَمْعانِ) الفريقان : من المسلمين والكافرين (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن قدرته العظيمة نصر الفريق الأقلّ على الفريق الأكثر. قوله : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بكسر العين في العدوة ، في الموضعين ، وقرأ الباقون بالضم فيهما ، و (إِذْ) بدل من يوم الفرقان ، ويجوز أن يكون العامل محذوفا ، أي : واذكروا إذ أنتم. والعدوة : جانب الوادي ، والدنيا : تأنيث الأدنى. والقصوى : تأنيث الأقصى ، من : دنا يدنو ، وقصا يقصو ، ويقال : القصيا ، والأصل الواو ، وهي لغة أهل الحجاز ، والعدوة الدنيا كانت مما يلي المدينة ، والقصوى كانت مما يلي مكة. والمعنى : وقت نزولكم بالجانب الأدنى من الوادي إلى جهة المدينة ، وعدوّكم بالجانب الأقصى منه مما يلي مكة. وجملة (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) في محل نصب على الحال ، وانتصاب (أَسْفَلَ) على الظرف ، ومحله الرفع على الخبرية ، أي : والحال أنّ الركب في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه ، وأجاز الأخفش والكسائي والفراء رفع أسفل على معنى أشدّ سفلا منكم ، والركب : جمع راكب ، ولا تقول العرب ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل ، ولا يقال لمن كان على فرس وغيرها : ركب ، وكذا قال ابن فارس ، وحكاه ابن السكيت عن أكثر أهل اللغة. والمراد بالركب هاهنا : ركب أبي سفيان ، وهي : المراد بالعير ، فإنهم كانوا في موضع أسفل منهم ، ممّا يلي ساحل البحر. قيل : وفائدة ذكر هذه الحالة التي كانوا عليها ، من كونهم بالعدوة الدنيا ، وعدوّهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منهم الدلالة على قوّة شأن العدوّ وشوكته ، وذلك لأن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء ، وكانت أرضا لا بأس بها ، وأما العدوة الدنيا فكانت رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها ، وكانت العير وراء ظهر العدوّ مع كثرة عددهم ، فامتنّ الله على المسلمين بنصرتهم عليهم ، والحال هذه. قوله (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي : لو تواعدتم أنتم والمشركون من أهل مكة على أن تلتقوا في هذا الموضع للقتال ، لخالف بعضكم بعضا ، فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من المهابة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلكِنْ) جمع الله بينكم في هذا الموطن (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي : حقيقا بأن يفعل من نصر أوليائه ، وخذلان أعدائه ، وإعزاز دينه ، وإذلال الكفر ، فأخرج المسلمين لأخذ العير وغنيمتها عند أنفسهم ، وأخرج الكافرين للمدافعة عنها. ولم يكن في حساب الطائفتين أن يقع هذا الاتفاق على هذه الصفة ، واللام في

٣٥٥

(لِيَقْضِيَ) متعلقة بمحذوف ، والتقدير : جمعهم ليقضي. وجملة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَ) بدل من الجملة التي قبلها ، أي : ليموت من يموت عن بينة ، ويعيش عن بينة لئلا يبقى لأحد على الله حجة ؛ وقيل : الهلاك والحياة مستعار للكفر والإسلام ، أي : ليصدر إسلام من أسلم عن وضوح بينة ، ويقين بأنه دين الحق ؛ ويصدر كفر من كفر عن وضوح بينة ، لا عن مخالجة شبهة. قرأ نافع وخلف وسهل ويعقوب والبزي وأبو بكر من حيي بياءين على الأصل ، وقرأ الباقون بياء واحدة على الإدغام ، وهي اختيار أبي عبيد ، لأنها كذلك وقعت في المصحف (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي : سميع بكفر الكافرين ، عليم به ، وسميع بإيمان المؤمنين ، عليم به.

وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : ثم وضع مقاسم الفيء ، فقال (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) بعد الذي كان مضى من بدر (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) إلى آخر الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم عن قيس بن مسلم الجدلي قال : سألت الحسن بن محمد بن عليّ بن أبي طالب ابن الحنفية عن قول الله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) قال : هذا مفتاح كلام ، لله الدّنيا والآخرة (وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) فاختلفوا بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذين السهمين. قال قائل منهم : سهم ذي القربى لقرابة رسول الله ، وقال قائل منهم : سهم ذي القربى لقرابة الخليفة ، وقال قائل منهم : سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للخليفة من بعده ، واجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله ؛ فكان ذلك في خلافة أبي بكر وعمر. وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث سرية فغنموا ، خمس الغنيمة فضرب ذلك في خمسه ، ثم قرأ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) الآية ، قال قوله (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مفتاح كلام ، لله ما في السّموات وما في الأرض ، فجعل الله سهم الله والرسول واحدا (وَلِذِي الْقُرْبى) فجعل هذين السّهمين قوّة في الخيل والسلاح ، وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطيه غيرهم ، وجعل الأربعة الأسهم الباقية للفرس سهما ولراكبه سهما وللراجل سهما. وأخرج ابن جرير وأبو المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس : فأربعة منها بين من قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربعة أخماس ، فربع لله وللرسول ولذي القربى ، يعني قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخمس شيئا ، والربع الثاني لليتامى ؛ والربع الثالث للمساكين ؛ والربع الرابع لابن السبيل ، وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية قال : كان يجاء بالغنيمة فتوضع ، فيقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خمسة أسهم ، فيعزل سهما منها ويقسم أربعة أسهم بين الناس ، يعني لمن شهد الوقعة ، ثم يضرب بيده في جميع السهم الذي عزله ، فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة. فهو الذي سمى الله ، لا تجعلوا لله نصيبا فأن لله الدنيا والآخرة ـ ثم يعمد إلى بقية السهم فيقسمه على خمسة أسهم : سهم للنبي

٣٥٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسهم لذي القربى وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجعل سهم الله في السلاح والكراع ، وفي سبيل الله ، وفي كسوة الكعبة وطيبها وما تحتاج إليه الكعبة ، ويجعل سهم الرسول في الكراع والسلاح ونفقة أهله ، وسهم ذي القربى لقرابته ، يضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم مع سهمهم مع الناس ، ولليتامى والمساكين وابن السبيل ثلاثة أسهم يضعها رسول الله فيمن شاء حيث شاء ، ليس لبني عبد المطلب في هذه الثلاثة الأسهم ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهم مع سهام الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن حسين المعلم قال : سألت عبد الله بن بريدة عن قوله (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) فقال : الذي لله لنبيه والذي للرسول لأزواجه. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس أن نجدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى الذين ذكر الله. فكتب إليه : إنا كنّا نرى أنّا هم فأبى ذلك علينا قومنا. وقالوا : قريش كلّها ذوو قربى. وزيادة قوله : وقالوا قريش كلها ، تفرّد بها أبو معشر ، وفيه ضعف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس : أنّ نجدة الحروري أرسل إليه يسأله عن سهم ذي القربى ، ويقول لمن تراه؟ فقال ابن عباس : هو لقربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسمه لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليهم وأبينا أن نقبله ، وكان عرض عليهم أن يعين ناكحهم وأن يقضي عن غارمهم وأن يعطي فقيرهم وأبى أن يزيدهم على ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : رغبت لكم عن غسالة الأيدي ، لأنّ لكم في خمس الخمس ما يكفيكم أو يغنيكم». رواه ابن أبي حاتم عن إبراهيم بن مهدي المصيصي حدّثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عنه مرفوعا ، قال ابن كثير : هذا حديث حسن الإسناد ، وإبراهيم بن مهدي هذا وثقه أبو حاتم. وقال : يحيى بن معين يأتي بمناكير. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن الزهري وعبد الله بن أبي بكر عن جبير بن مطعم : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب ، قال : فمشيت أنا وعثمان بن عفان حتى دخلنا عليه ، فقلنا : يا رسول الله! هؤلاء إخوانك من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم دوننا؟ فإنما نحن وهم بمنزلة واحدة في النسب ، فقال : «إنهم لم يفارقونا في الجاهلية والإسلام». وقد أخرجه مسلم في صحيحه. وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم قال : آل محمد الذين أعطوا الخمس : آل عليّ ، وآل العباس ، وآل جعفر ، وآل عقيل. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء واحد من المغنم يصطفيه لنفسه ، إما خادم وإما فرس ، ثم يصيب بعد ذلك من الخمس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن عليّ قال : قلت : يا رسول الله! ألا ولّيتني ما خصّنا الله به من الخمس؟ فولانيه. وأخرج الحاكم وصححه عنه قال : ولاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمس الخمس فوضعته مواضعه حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (يَوْمَ الْفُرْقانِ) قال : هو يوم بدر ، وبدر ما بين مكة والمدينة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في

٣٥٧

الدلائل عن ابن عباس في قوله (يَوْمَ الْفُرْقانِ) قال : هو يوم بدر ، فرق الله فيه بين الحق والباطل. وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال : كانت ليلة الفرقان ـ ليلة التقى الجمعان في صبيحتها ـ ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان ، وأخرج عنه ابن جرير أيضا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) قال : العدوة الدنيا شاطئ الوادي (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ). قال : أبو سفيان. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : العدوة الدنيا : شفير الوادي الأدنى ، والعدوة القصوى : شفير الوادي الأقصى.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤))

إذ منصوب بفعل مقدّر ، أي : اذكر أو هو بدل ثان من يوم الفرقان. والمعنى : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآهم في منامه قليلا ، فقصّ ذلك على أصحابه ، فكان ذلك سببا لثباتهم ، ولو رآهم في منامه كثيرا لفشلوا ، وجبنوا عن قتالهم ، وتنازعوا في الأمر ، هل يلاقونهم أم لا؟ (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أي : سلمهم وعصمهم من الفشل والتنازع فقللهم في عين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام ؛ وقيل : عنى بالمنام : محل النوم ، وهو العين ، أي : فهو موضع منامك وهو عينك ، روى ذلك عن الحسن. قال الزجاج : هذا مذهب حسن ولكنّ الأوّل أسوغ في العربية لقوله (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) فدلّ بهذا على أن هذه رؤية الالتقاء ، وأن تلك رؤية النوم. قوله (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) الظرف منصوب بمضمر معطوف على الأوّل ، أي : واذكروا وقت إراءتكم إياهم حال كونهم قليلا ، حتى قال القائل من المسلمين لآخر : أتراهم سبعين؟ قال : هم نحو المائة ، وقلل المسلمين في أعين المشركين حتى قال قائلهم : إنما هم أكلة جزور ، وكان هذا قبل القتال ، فلما شرعوا فيه كثر الله المسلمين في أعين المشركين ، كما قال في آل عمران : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) ، ووجه تقليل المسلمين في أعين المشركين ، هو أنهم إذا رأوهم قليلا أقدموا على القتال غير خائفين ، ثم يرونهم كثيرا فيفشلون ، وتكون الدائرة عليهم ، ويحلّ بهم عذاب الله ، وسوط عقابه ، واللام في (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) متعلقة بمحذوف كما سبق مثله قريبا ، وإنما كرره لاختلاف المعلل به (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) كلها يفعل فيها ما يريد ، ويقضي في شأنها ما يشاء.

وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) قال : أراه الله إياهم في منامه قليلا ، فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بذلك فكان ذلك تثبيتا لهم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) يقول : لجبنتم (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) قال : لاختلفتم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ)

٣٥٨

أي : أتمّ. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) يقول : سلّم لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) الآية قال : لقد قلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين؟ قال : لا ، بل هم مائة ، حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه قال : كنّا ألفا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : حضض بعضهم على بعض. قال ابن كثير : إسناده صحيح. وأخرج ابن إسحاق عن عباد بن عبد الله بن الزبير في قوله : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي : ليلف بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه ، والإنعام على من أراد النعمة عليه من أهل ولايته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩))

قوله : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) اللقاء : الحرب ، والفئة : الجماعة ، أي : إذا حاربتم جماعة من المشركين (فَاثْبُتُوا) لهم ، ولا تجبنوا عنهم ، وهذا لا ينافي الرخصة المتقدّمة في قوله : (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) فإن الأمر بالثبات هو في حال السعة ، والرخصة هي في حال الضرورة. وقد لا يحصل الثبات إلا بالتحرّف والتحيز (وَاذْكُرُوا اللهَ) أي : اذكروا الله عند جزع قلوبكم ، فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد ؛ وقيل المعنى : اثبتوا بقلوبكم ، واذكروا بألسنتكم ، فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ، ويضطرب اللسان ، فأمرهم بالذكر حتى يجتمع ثبات القلب واللسان ، قيل : وينبغي أن يكون الذكر في هذه الحالة بما قاله أصحاب طالوت : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (١). وفي الآية دليل على مشروعية الذّكر في جميع الأحوال ، حتى في هذه الحالة التي ترجف فيها القلوب ، وتزيغ عندها البصائر ، ثم أمرهم بطاعة الله فيما يأمرهم به ، وطاعة رسوله فيما يرشدهم إليه ، ونهاهم عن التنازع ، وهو الاختلاف في الرأي ، فإن ذلك يتسبب عنه الفشل ، وهو الجبن في الحرب. والفاء جواب النهي ، والفعل منصوب بإضمار أن ، ويجوز أن يكون الفعل معطوفا على تنازعوا ، مجزوما بجازمه. قوله : (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) قرئ بنصب الفعل ، وجزمه عطفا على تفشلوا على الوجهين ، والريح : القوّة والنصر ، كما يقال : الريح لفلان ، إذا كان غالبا في الأمر ؛ وقيل : الريح الدولة ، شبهت في نفوذ أمرها بالريح في هبوبها ، ومنه قول الشاعر :

__________________

(١). البقرة : ٢٥٠.

٣٥٩

إذا هبّت رياحك فاغتنمها

فعقبى كلّ خافقة سكون

وقيل : المراد بالريح : ريح الصبا ، لأنّ بها كان ينصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أمرهم بالصّبر على شدائد الحرب ، وأخبرهم بأنه مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه ، ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غالب ، ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات ، وإن كانت كثيرة ، ثم نهاهم عن أن تكون حالتهم كحالة هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء النّاس ، وهم قريش ، فإنهم خرجوا يوم بدر ليحفظوا العير التي مع أبي سفيان ، ومعهم القيان والمعازف ، فلما بلغوا الجحفة ، بلغهم أن العير قد نجت وسلمت ، فلم يرجعوا ، بل قالوا : لا بدّ لهم من الوصول إلى بدر ، ليشربوا الخمر ، وتغني لهم القيان ، وتسمع العرب بمخرجهم ، فكان ذلك منهم بطرا وأشرا وطلبا للثناء من الناس ، وللتمدح إليهم ، والفخر عندهم ، وهو الرياء ؛ قيل : والبطر في اللغة : التقوّي بنعم الله على معاصيه ، وهو مصدر في موضع الحال ، أي : خرجوا بطرين مرائين ؛ وقيل : هو مفعول له ، وكذا ، رياء ، أي : خرجوا للبطر والرياء. وقوله : (وَيَصُدُّونَ) معطوف على بطرا ، والمعنى كما تقدّم ، أي : خرجوا بطرين مرائين صادّين عن سبيل الله ، أو للصدّ عن سبيل الله. والصدّ : إضلال الناس ، والحيلولة بينهم وبين طرق الهداية. ويجوز أن يكون ويصدّون : معطوفا على يخرجون ، والمعنى : يجمعون بين الخروج على تلك الصفة والصدّ (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) لا تخفى عليه من أعمالهم خافية فهو مجازيهم عليها. قوله : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الظرف متعلق بمحذوف ، أي : واذكر يا محمد وقت تزيين الشيطان لهم أعمالهم ، والتزيين : التحسين ، وقد روي : أن الشيطان تمثل لهم وقال لهم تلك المقالة وهي (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي : مجير لكم من كل عدوّ ، أو من بني كنانة ، ومعنى الجار هنا : الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار ، وكان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، وهو من بني بكر بن كنانة ، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم ؛ وقيل المعنى : إنه ألقى في روعهم هذه المقالة ، وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي : فئة المسلمين والمشركين (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أي : رجع القهقرى ، ومنه قول الشاعر :

ليس النّكوص على الأعقاب مكرمة

إنّ المكارم إقدام على الأسل

وقول الآخر :

وما ينفع المستأخرين نكوصهم

ولا ضرّ أهل السّابقات التّقدّم

وقيل : معنى نكص هاهنا : بطل كيده وذهب ما خيله (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) أي : تبرأ منهم لما رأى أمارات النصر مع المسلمين بإمداد الله لهم بالملائكة ، ثم علل ذلك بقوله : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) يعني : الملائكة ، ثم علل بعلة أخرى فقال : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) قيل : خاف أن يصاب بمكروه من الملائكة الذين حضروا الوقعة ؛ وقيل إن دعوى الخوف كذب منه ، ولكنه رأى أنه لا قوّة له ولا للمشركين فاعتلّ بذلك ، وجملة (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يحتمل أن تكون من تمام كلام إبليس ، ويحتمل أن تكون كلاما

٣٦٠