فتح القدير - ج ٢

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٢

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٢

وهؤلاء أئمة ثقات. وأخرج عبد بن حميد ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لمّا خلق الله الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء ، فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين ، فقال : يا أصحاب اليمين ، فاستجابوا له فقالوا : لبيك ربنا وسعديك ، قال : ألست بربكم؟ قالوا : بلى» الحديث ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة بعضها مقيد بتفسير هذه الآية ، وبعضها مطلق يشتمل على ذكر إخراج ذرية آدم من ظهره ، وأخذ العهد عليهم كما في حديث أنس مرفوعا في الصحيحين وغيرهما. وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذرّ وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم فهي كثيرة ، منها : عن ابن عباس عند عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية قال : [خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنه ربه وكتب أجله ورزقه ومصيبته] (١) ، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذرّ ، فأخذ مواثيقهم أنه ربهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم (٢). وأخرج نحوه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وأخرج نحوه عنه أيضا ابن جرير وابن المنذر. وأخرج نحوه عنه عبد الرزاق وابن المنذر. وأخرج نحوه عنه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مندة ، وهذا المعنى مروي عنه من طرق كثيرة غير هذه موقوفة عليه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمر في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية قال : أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس. وأخرج ابن عبد البرّ في التمهيد عن ابن مسعود وناس من الصحابة في تفسير الآية نحوه. وأخرج عبد بن حميد وعبد الله بن حنبل في رواية المسند وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مندة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والضياء في المختارة وابن عساكر في تاريخه عن أبيّ بن كعب في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية قال : جمعهم جميعا فجعلهم أرواحا في صورهم ، ثم استنطقهم فتكلموا ، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق ، ثم أشهدهم على أنفسهم. وقد روي عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره ، وفيما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسيرها مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨))

قوله (وَاتْلُ) معطوف على الأفعال المقدّرة في القصص السابقة ، وإيراد هذه القصة منه سبحانه وتذكير أهل الكتاب بها لأنها كانت مذكورة عندهم في التوراة. وقد اختلف في هذا الذي أوتي الآيات (فَانْسَلَخَ

__________________

(١). ما بين حاصرتين من الدر المنثور.

(٢). في الأصل : «مصيباتهم» والتصحيح من الدر المنثور.

٣٠١

مِنْها) فقيل : هو بلعم بن باعوراء ، وكان قد حفظ بعض الكتب المنزلة ؛ وقيل : كان قد أوتي النبوّة وكان مجاب الدعوة ، بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان ، فأعطوه الأعطية الواسعة فاتبع دينهم وترك ما بعث به ، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين ، سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى ، فقام ليدعو عليه فتحوّل لسانه بالدعاء على أصحابه ، فقيل له في ذلك فقال : لا أقدر على أكثر مما تسمعون ، واندلع لسانه على صدره فقال قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة ، وسأمكر لكم ، وإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنا ، فإن وقعوا فيه هلكوا ، فوقع بنو إسرائيل في الزنا ، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا ؛ وقيل : إن هذا الرجل اسمه باعم وهو من بني إسرائيل ؛ وقيل : المراد به أمية بن أبي الصّلت الثّقفي ، وكان قد قرأ الكتب وعلم أنّ الله مرسل رسولا في ذلك ؛ فلما أرسل الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسده وكفر به ؛ وقيل هو أبو عامر بن صيفي وكان يلبس المسوح في الجاهلية ، فكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقيل : نزلت في قريش آتاهم الله آياته التي أنزلها على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكفروا بها ، وقيل : نزلت في اليهود والنصارى انتظروا خروج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكفروا به. قوله (فَانْسَلَخَ مِنْها) أي : من هذه الآيات التي أوتيها كما تنسلخ الشاة عن جلدها فلم يبق له بها اتصال (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) عند انسلاخه عن الآيات ، أي : لحقه فأدركه وصار قرينا له ، أو فأتبعه خطواته ، وقرئ (فَأَتْبَعَهُ) بالتشديد بمعنى تبعه (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) المتمكنين في الغواية وهم الكفار. قوله (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) الضمير يعود إلى الذي أوتي الآيات ، والمعنى : لو شئنا رفعه بما آتيناه من الآيات لرفعناه بها ، أي : بسببها ، ولكن لم نشأ ذلك لانسلاخه عنها وتركه للعمل بها ؛ وقيل المعنى : ولو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها ، أي : بالعمل بها (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أصل الإخلاد : اللزوم ، يقال أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه ، والمعنى هنا : أنه مال إلى الدنيا ورغب فيها وآثرها على الآخرة (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي : اتبع ما يهواه وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله ، وهو حطام الدنيا ؛ وقيل : كان هواه مع الكفار ؛ وقيل : اتبع رضا زوجته ، وكانت هي التي حملته على الانسلاخ من آيات الله. قوله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) أي : فصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطا إلى أسفل رتبة مشابها لأخس الحيوانات في الدناءة ، مماثلا له في أقبح أوصافه ، وهو أنه يلهث في كلا حالتي قصد الإنسان له وتركه ، فهو لاهث سواء زجر أو ترك ، طرد أو لم يطرد ، شدّ عليه أو لم يشد عليه ، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء ، وجملة (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) في محل نصب على الحال ، أي : مثله كمثل الكلب حال كونه متصفا بهذه الصفة ، والمعنى : أن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوي عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه وذكره المذكر ، وزجره الزاجر أو لم يقع شيء من ذلك. قال القتبي : كلّ شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش ، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال ، وحال الراحة ، وحال المرض ، وحال الصحة ، وحال الري ، وحال العطش ، فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته ؛ فقال : إن وعظته ضلّ وإن تركته ضلّ ، فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث كقوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ

٣٠٢

صامِتُونَ) (١) واللهث : إخراج اللسان لتعب أو عطش أو غير ذلك. قال الجوهري : لهث الكلب بالفتح يلهث لهثا ولهاثا بالضم إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش ، وكذلك الرجل إذا أعيا. قيل معنى الآية : أنك إذا حملت على الكلب نبح وولّى هاربا ، وإن تركته شدّ عليك ونبح ، فيتعب نفسه مقبلا عليك ومدبرا عنك ، فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان ، والإشارة بقوله ذلك إلى ما تقدّم من التمثيل بتلك الحالة الخسيسة. وهو مبتدأ وخبره (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ذلك المثل الخسيس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من اليهود بعد أن علموا بها وعرفوها ، فحرفوا وبدّلوا وكتموا صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبوا بها (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) أي : فاقصص عليهم هذا القصص الذي هو صفة الرجل المنسلخ عن الآيات فإن مثله المذكور كمثل هؤلاء القوم المكذبين من اليهود الذين تقص عليهم (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في ذلك ويعملون فيه أفهامهم ، فينزجرون عن الضلال ، ويقبلون على الصواب. قوله (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) هذه الجملة متضمنة لبيان حال هؤلاء القوم البالغة في القبح إلى الغاية ، يقال : ساء الشيء : قبح ، فهو لازم ، وساءه يسوؤه مساءة : فهو متعد وهو من أفعال الذم : كبئس ، وفاعله ضمير مستتر فيه ، ومثلا تمييز مفسر له ، والمخصوص بالذم هو : الذين كذبوا بآياتنا ، ولا بدّ من تقدير مضاف محذوف لأجل المطابقة أي : ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا. وقال الأخفش : جعل المثل القوم مجازا ، والقوم مرفوع بالابتداء ، أو على إضمار مبتدأ ، التقدير : ساء المثل مثلا هو مثل القوم ، كذا قال. وقدره أبو علي الفارسي : ساء مثلا مثل القوم ، كما قدّمنا. وقرأ الجحدري والأعمش ساء مثل القوم. قوله (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي : ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم ، لا يتعداها ظلمهم إلى غيرها ، ولا يتجاوزها ، والجملة معطوفة على التي قبلها ، على معنى أنهم جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) لما أمر به وشرعه لعباده (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الكاملون في الخسران ، من هداه فلا مضلّ له ، ومن أضلّه فلا هادي له ؛ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

وقد أخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) قال : هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن آبز. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : هو بلعم بن باعوراء ، وفي لفظ : بلعام بن باعر الذي أوتي الاسم كان في بني إسرائيل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) قال : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم ، تعلّم اسم الله الأكبر ، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه فقالوا : إنّ موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة ، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا ، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه ، قال : إنّي إن دعوت الله أن يردّ موسى ومن معه مضت دنياي وآخرتي ، فلم يزالوا به حتى دعا الله فسلخ ما كان فيه. وفي قوله (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) قال : إن حمل الحكمة لم يحملها ، وإن ترك لم يهتد لخير كالكلب إن كان رابضا لهث وإن يطرد لهث. وأخرج ابن أبي حاتم

__________________

(١). الأعراف : ١٩٣.

٣٠٣

وأبو الشيخ عنه في الآية قال : هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : أجعل لي منها واحدة ، قال : فلك واحدة فما الذي تريدين؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل ؛ فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر ، فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة ، فذهبت دعوتان ، فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها ، فادع الله أن يردّها إلى الحال التي كانت عليه فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث وسميت البسوس. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو في الآية قال : هو أمية بن أبي الصّلت الثّقفي ، وفي لفظ : نزلت في صاحبكم أمية بن أبي الصّلت. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عنه نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الشعبي في هذه الآية قال : قال ابن عباس : هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعام بن باعوراء ، وكانت الأنصار تقول : هو ابن الراهب الذي بني له مسجد الشقاق ، وكانت ثقيف تقول : هو أمية بن أبي الصلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو صيفي بن الراهب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله (فَانْسَلَخَ مِنْها) قال : نزع منه العلم وفي قوله (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) قال : رفعه الله بعلمه. وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ، ثم يقول «من يهد الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، أصدق الحديث كتاب الله. وأحسن الهدي هدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار» ثم يقول : «بعثت أنا والسّاعة كهاتين».

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩))

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا) أي : خلقنا ، وقد تقدّم بيان أصل معناه مستوفى ، وهذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها (لِجَهَنَّمَ) أي : للتعذيب بها (كَثِيراً) أي : خلقا كثيرا (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي : من طائفتي الجنّ والإنس جعلهم سبحانه للنار بعدله ، وبعمل أهلها يعملون. وقد علم ما هم عاملون قبل كونهم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، ثم وصف هؤلاء فقال (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) كما يفقه غيرهم بعقولهم ، وجملة (لا يَفْقَهُونَ بِها) في محل رفع على أنها صفة لقلوب ، وجملة (لَهُمْ قُلُوبٌ) في محلّ نصب صفة لكثيرا ، جعل سبحانه قلوبهم لما كانت غير فاقهة لما فيه نفعهم وإرشادهم غير فاقهة مطلقا وإن كانت تفقه في غير ما فيه النفع والرشاد فهو كالعدم ، وهكذا معنى (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) فإن الذي انتفى من الأعين هو إبصار ما فيه الهداية بالتفكر والاعتبار وإن كانت مبصرة في غير ذلك ،

٣٠٤

والذي انتفى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة ، والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة ، وما جاءت به رسل الله ، وإن كانوا يسمعون غير ذلك ، والإشارة بقوله (أُولئِكَ) إلى هؤلاء المتّصفين بهذه الأوصاف كالأنعام في انتفاء انتفاعهم بهذه المشاعر ، ثم حكم عليهم بأنّهم أضلّ منها ، لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرّها فتنتفع بما ينفع ، وتجتنب ما يضرّ ، وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضرّ باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به ، ثم حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هم عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) قال : خلقنا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في الآية قال : خلقنا لجهنم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن النجّار عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله لما ذرأ لجهنّم من ذرأ كان ولد الزّنا ممّن ذرأ لجهنم». وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) قال : لقد خلقنا لجهنم (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) قال : لا يفقهون شيئا من أمور الآخرة (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) الهدى (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) الحق ، ثم جعلهم كالأنعام ، ثم جعلهم شرا من الأنعام ، فقال : (بَلْ هُمْ أَضَلُ) ثم أخبر أنّهم الغافلون.

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠))

هذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بما له من الأسماء على الجملة دون التّفصيل ، والحسنى تأنيث الأحسن ؛ أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمّى وأشرف مدلول ، ثم أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة ؛ فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة ، وقد ثبت في الصحيح «إنّ لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنّة» وسيأتي ، ويأتي أيضا بيان عددها آخر البحث إن شاء الله. قوله (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) الإلحاد : الميل وترك القصد ، يقال : لحد الرجل في الدين وألحد : إذا مال ، ومنه اللحد في القبر لأنه في ناحية ، وقرئ (يُلْحِدُونَ) وهما لغتان ، والإلحاد في أسمائه سبحانه يكون على ثلاثة أوجه ، إما بالتغيير كما فعله المشركون ، فإنهم أخذوا اسم اللات من الله ، والعزّى من العزيز ، ومناة من المنان ؛ أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها ، أو بالنقصان منها ، بأن يدعوه ببعضها دون بعض. ومعنى (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) اتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم ، وعلى هذا المعنى فالآية منسوخة بآيات القتال ؛ وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١) وقوله (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) (٢) وهذا أولى لقوله (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإنه وعيد لهم بنزول العقوبة وتحذير للمسلمين أن يفعلوا كفعلهم. وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين أن هذه الآية نزلت في رجل من المسلمين كان يقول في صلاته يا رحمن يا رحيم ، فقال رجل من المشركين : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا ، فما بال هذا يدعو ربّين اثنين؟ حكى ذلك القرطبي.

وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وأبو عوانة وابن جرير وابن

__________________

(١). المدثر : ١١.

(٢). الحجر : ٣.

٣٠٥

أبي حاتم والطبراني وابن مندة وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لله تسعة وتسعين اسما مائة إلّا واحدا من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر». وفي لفظ ابن مردويه وأبي نعيم : «من دعا بها استجاب الله دعاءه» وزاد الترمذي في سننه بعد قوله يحبّ الوتر : «هو الله الذي لا إله إلا هو الرّحمن ، الرّحيم ، الملك ، القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبّر ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الغفّار ، القهّار ، الوهّاب ، الرزّاق ، الفتّاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرّافع ، المعز ، المذل ، السّميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشّكور ، العليّ ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرّقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الوليّ ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحيّ ، القيّوم ، الواجد ، الماجد ، الأحد ، الصّمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأوّل ، الآخر ، الظّاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البرّ ، التوّاب ، المنتقم ، العفو ، الرّؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغنيّ ، المغني ، المانع ، الضارّ ، النّافع ، النّور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرّشيد ، الصّبور».

هكذا أخرج الترمذي هذه الزيادة عن الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب ابن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعة وقال : هذا حديث غريب. وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ، ولا يعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. ورواه ابن حبان في صحيحه وابن خزيمة والحاكم من طريق صفوان بإسناده السابق. ورواه ابن ماجة في سننه من طريق أخرى عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا ؛ فسرد الأسماء المتقدّمة بزيادة ونقصان. قال ابن كثير في تفسيره : والذي عوّل عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه. وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك : أي أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي. قال : ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «ما أصاب أحدا قط همّ ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك وأمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل فيّ قضاؤك ، أسألك بكلّ اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علّمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ؛ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همّي وغمّي ، إلا أذهب الله همّه وحزنه ، وأبدله مكانه فرجا ؛ فقيل : يا رسول الله ألا نتعلّمها؟ فقال : بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها». وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان في صحيحه بمثله انتهى. وأخرجه البيهقي أيضا

٣٠٦

في الأسماء والصفات. قال ابن حزم : جاءت في إحصائها ، يعني الأسماء الحسنى أحاديث مضطربة لا يصحّ منها شيء أصلا. وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي وابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكراه ، ولا أدري كيف إسناده. وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني كلاهما في الدعاء وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة : إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة : أسأل الله الرحمن ، الرحيم ، الإله ، الربّ ، الملك ، القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الحليم ، العليم ، السميع ، البصير ، الحيّ ، القيّوم ، الواسع ، اللطيف ، الخبير ، الحنان ، المنان ، البديع ، الغفور ، الودود ، الشكور ، المجيد ، المبدئ ، المعيد ، النور ، البادئ ، وفي لفظ : القائم ، الأوّل ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، العفوّ ، الغفار ، الوهاب ، الفرد ، وفي لفظ : القادر ، الأحد ، الصمد ، الوكيل ، الكافي ، الباقي ، المغيث ، الدائم ، المتعالي ، ذا الجلال والإكرام ، المولى ، البصير ، الحق ، المتين ، الوارث ، المنير ، الباعث ، القدير ، وفي لفظ : المجيب ، المحيي ، المميت ، الحميد ؛ وفي لفظ : الجميل : الصادق ، الحفيظ ، المحيط ، الكبير ، القريب ، الرقيب ، الفتّاح ، التوّاب ، القديم ، الوتر ، الفاطر ، الرزاق ، العلام ، العلي ، العظيم ، الغني ، الملك ، المقتدر ، الأكرم ، الرؤوف ، المدبر ، المالك ، القاهر ، الهادي ، الشاكر ، الكريم ، الرفيع ، الشهيد ، الواحد ، ذا الطول ، ذا المعارج ، ذا الفضل ، الخلاق ، الكفيل ، الجليل.

وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال : سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة؟ فقال : هي في القرآن ، ففي الفاتحة خمسة أسماء ، يا الله ، يا ربّ ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا ملك ؛ وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسما : يا محيط ، يا قدير ، يا عليم ، يا حكيم ، يا علي ، يا عظيم ، يا تواب ، يا بصير ، يا ولي ، يا واسع ، يا كافي ، يا رؤوف ، يا بديع ، يا شاكر ، يا واحد ، يا سميع ، يا قابض ، يا باسط ، يا حيّ ، يا قيوم ، يا غني ، يا حميد ، يا غفور ، يا حليم ، يا إله ، يا قريب ، يا مجيب ، يا عزيز ، يا نصير ، يا قوي ، يا شديد ، يا سريع ، يا خبير ؛ وفي آل عمران : يا وهاب ، يا قائم ، يا صادق ، يا باعث ، يا منعم ، يا متفضل ، وفي النساء : يا رقيب ، يا حسيب ، يا شهيد ، يا مقيت ، يا وكيل ، يا عليّ ، يا كبير ، وفي الأنعام : يا فاطر ، يا قاهر ، يا لطيف ، يا برهان ، وفي الأعراف : يا محيي ، يا مميت ، وفي الأنفال : يا نعم المولى ، ويا نعم النصير ؛ وفي هود : يا حفيظ يا مجيد ، يا ودود ، يا فعال لما تريد ؛ وفي الرعد : يا كبير ، يا متعالي ؛ وفي إبراهيم : يا منان ، يا وارث ؛ وفي الحجر : يا خلاق ؛ وفي مريم : يا فرد ؛ وفي طه : يا غفار ، وفي قد أفلح : يا كريم ؛ وفي النور : يا حق يا مبين ؛ وفي الفرقان : يا هادي ؛ وفي سبأ : يا فتاح ، وفي الزمر : يا عالم ؛ وفي غافر : يا قابل التوب ، يا ذا الطول ، يا رفيع ؛ وفي الذاريات : يا رزاق ، يا ذا القوة ، يا متين ؛ وفي الطور : يا برّ ؛ وفي اقتربت : يا مقتدر ، يا مليك ؛ وفي الرحمن : يا ذا الجلال والإكرام ، يا رب المشرقين ، يا ربّ المغربين ، يا باقي

٣٠٧

يا معين ، وفي الحديد : يا أوّل ، يا آخر ، يا ظاهر ، يا باطن ؛ وفي الحشر : يا ملك ، يا قدّوس ، يا سلام ، يا مؤمن ، يا مهيمن ، يا عزيز ، يا جبار ، يا متكبر ، يا خالق ، يا بارئ ، يا مصوّر ، وفي البروج : يا مبدئ ، يا معيد ؛ وفي الفجر : يا وتر ؛ وفي الإخلاص : يا أحد ، يا صمد ، انتهى.

وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أنه تتّبعها من الكتاب العزيز إلى أن حررها منه تسعة وتسعين ثم سردها فابحثه. ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة ، وهي في القرآن». وأخرج البيهقي عن عائشة أنها قالت : «يا رسول الله! علّمني اسم الله الذي إذا دعي به أجاب ، قال لها : قومي فتوضّئي وادخلي المسجد فصلّي ركعتين ثم ادعي حتى أسمع ، ففعلت ؛ فلما جلست للدعاء قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهمّ وفّقها ، فقالت : اللهمّ إني أسألك بجميع أسمائك الحسنى كلّها ما علمنا منها وما لم نعلم ، وأسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير الأكبر الذي من دعاك به أجبته ، ومن سألك به أعطيته ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصبتيه ، أصبتيه.

وقد أطال أهل العلم على الأسماء الحسنى حتى أن ابن العربي في شرح الترمذي حكى عن بعض أهل العلم أنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) قال : الإلحاد : أن يدعو اللات والعزّى في أسماء الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : الإلحاد : التكذيب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في الآية قال : اشتقوا العزّى من العزيز ، واشتقوا اللات من الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في الآية قال : الإلحاد : المضاهاة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش أنه قرأ (يُلْحِدُونَ) من لحد ، وقال : تفسيرها : يدخلون فيها ما ليس منها. وأخرج عبد الرزاق بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال : يشركون.

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦))

قوله (وَمِمَّنْ خَلَقْنا) خبر مقدّم و (أُمَّةٌ) مبتدأ مؤخر و (يَهْدُونَ) وما بعده صفة ما ، ويجوز أن يكون (وَمِمَّنْ خَلَقْنا) هو المبتدأ كما تقدّم في قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) والمعنى : أن من جملة من خلقه الله أمة يهدون الناس متلبسين (بِالْحَقِ) ، أو يهدونهم بما عرفوه من الحق (وَ) بالحق (يَعْدِلُونَ) بينهم ، قيل هم من هذه الأمة ، وإنهم الفرقة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين كما ورد في الحديث الصحيح ، ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة بين حال من يخالفهم فقال (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ

٣٠٨

لا يَعْلَمُونَ) والاستدراج : هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة ، والدرج : كفّ الشيء ، يقال أدرجته ودرجته ، ومنه إدراج الميت في أكفانه ؛ وقيل : هو من الدرجة ، فالاستدراج : أن يخطو درجة بعد درجة إلى المقصود ، ومنه درج الصبيّ : إذا قارب بين خطاه ، وأدرج الكتاب : طواه شيئا بعد شيء ، ودرج القوم : مات بعضهم في أثر بعض ؛ والمعنى : سنستدرجهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ، وذلك بإدرار النّعم عليهم وإنسائهم شكرها ، فينهمكون في الغواية ، ويتنكبون طرق الهداية ؛ لاغترارهم بذلك وأنه لم يحصل لهم إلا بما لهم عند الله من المنزلة والزلفة ، قوله (وَأُمْلِي لَهُمْ) معطوف على سنستدرجهم ، أي : أطيل لهم المدّة وأمهلهم وأؤخر عنهم العقوبة ، وجملة (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) مقرّرة لما قبلها من الاستدراج والإملاء ومؤكدة له ، والكيد : المكر ، والمتين : الشديد القويّ ؛ وأصله من المتن وهو اللحم الغليظ الذي على جانب الصّلب. قال في الكشاف : سمّاه كيدا ، لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان ، والاستفهام في (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) للإنكار عليهم حيث لم يتفكّروا في شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيما جاء به و (ما) في (ما بِصاحِبِهِمْ) للاستفهام الإنكاري ، وهي في محل رفع بالابتداء ، والخبر : بصاحبهم ، والجنة : مصدر ، أي : وقع منهم التكذيب ولم يتفكروا أيّ شيء من جنون كائن بصاحبهم كما يزعمون ، فإنهم لو تفكروا لوجدوا زعمهم باطلا ، وقولهم زورا وبهتانا ؛ وقيل إنّ (ما) نافية واسمها (مِنْ جِنَّةٍ) وخبرها بصاحبهم ، أي : ليس بصاحبهم شيء مما يدّعونه من الجنون ، فيكون هذا ردا لقولهم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (١) ويكون الكلام قد تمّ عند قوله (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) والوقف عليه من الأوقاف الحسنة ، وجملة (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) مقررة لمضمون ما قبلها ، ومبينة لحقيقة حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والاستفهام في (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) للإنكار والتقريع والتوبيخ ولقصد التعجيب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالّة على كمال قدرته وتفرّده بالإلهية ، والملكوت : من أبنية المبالغة ، ومعناه : الملك العظيم وقد تقدّم بيانه ، والمعنى : إن هؤلاء لم يتفكروا حتى ينتفعوا بالتفكر ، ولا نظروا في مخلوقات الله حتى يهتدوا بذلك إلى الإيمان به ، بل هم سادرون في ضلالتهم خائضون في غوايتهم لا يعملون فكرا ولا يمعنون نظرا. قوله (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي : لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ولا فيما خلق الله من شيء من الأشياء كائنا ما كان ، فإن في كل مخلوقاته عبرة للمعتبرين وموعظة للمتفكرين ، سواء كانت من جلائل مصنوعاته كملكوت السموات والأرض ، أو من دقائقها من سائر مخلوقاته ، قوله : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) معطوف على ملكوت ، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وخبرها عسى وما بعدها : أي : أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فيموتون عن قريب. والمعنى : إنهم إذا كانوا يجوّزون قرب آجالهم فما لهم لا ينظرون فيما يهتدون به وينتفعون بالتفكر فيه والاعتبار به (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الضمير يرجع إلى ما تقدّم من التفكر والنظر في الأمور المذكورة ، أي : فبأيّ حديث بعد هذا الحديث المتقدم بيانه يؤمنون؟ وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره ؛ وقيل : الضمير للقرآن ، وقيل : لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : للأجل المذكور قبله ، وجملة ٠(مَنْ

__________________

(١). الحجر : ٦.

٣٠٩

يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) مقررة لما قبلها ، أي : إن هذه الغفلة منهم عن هذه الأمور الواضحة البينة ليس إلا لكونهم ممن أضله الله ومن يضلله فلا هادي له ، أي : فلا يوجد من يهديه إلى الحق وينزعه عن الضلالة ألبتة (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) قرئ بالرفع على الاستئناف وبالجزم عطفا على محل الجزاء ، وقرئ بالنون ، ومعنى يعمهون : يتحيّرون ، وقيل : يتردّدون ، وهو في محل نصب على الحال.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) قال : ذكر لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون». وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : بلغنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول إذا قرأها : «هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها ، (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١)». وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى نزل». وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) يقول : سنأخذهم من حيث لا يعلمون ، قال : عذاب بدر. وأخرج أبو الشيخ عن يحيى ابن المثنى في الآية قال : كلما أحدثوا ذنبا جدّدنا لهم نعمة تنسيهم الاستغفار. وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن سفيان في الآية قال : نسبغ عليهم النعمة ونمنعهم شكرها. وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن ثابت البناني أنه سئل عن الاستدراج فقال : ذلك مكر الله بالعباد المضيّعين. وأخرج أبو الشيخ في قوله (وَأُمْلِي لَهُمْ) يقول : أكفّ عنهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) إنّ مكري شديد ، ثم نسخها الله فأنزل (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٢). وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كيد الله : العذاب والنقمة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : ذكر لنا : أنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام على الصفا ، فدعا قريشا فخذا فخذا : يا بني فلان! يا بني فلان! يحذّرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح ، حتى قال قائل : إن صاحبكم هذا لمجنون ، بات يصوّت حتى أصبح ، فأنزل الله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢))

__________________

(١). الأعراف : ١٥٩.

(٢). التوبة : ٥.

٣١٠

قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) السائلون : هم اليهود ، وقيل : قريش ، والساعة : القيامة ، وهي من الأسماء الغالبة ، وإطلاقها على القيامة لوقوعها بغتة ، أو لسرعة حسابها ، وأيان : ظرف زمان مبني على الفتح.

قال الرّاجز :

أيّان تقضي حاجتي إيّانا

أما ترى لنجحها أوانا

ومعناه : معنى متى ، واشتقاقه : من أيّ ، وقيل : من أين. وقرأ السلمي إيان بكسر الهمزة وهو في موضع رفع على الخبر ، و (مُرْساها) المبتدأ عند سيبويه ، ومرساها بضم الميم : أي وقت إرسائها ، من أرساها الله ، أي : أثبتها ، وبفتح الميم من رست : أي تثبتت ، ومنه (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) ، ومنه رسا الجبل. والمعنى متى يرسيها الله : أي يثبتها ويوقعها ، وظاهر (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) أن السؤال عن نفس الساعة ، وظاهر (أَيَّانَ مُرْساها) أن السؤال عن وقتها ، فحصل من الجميع أن السؤال المذكور هو عن الساعة باعتبار وقوعها في الوقت المعين لذلك ، ثم أمره الله سبحانه بأن يجيب عنهم بقوله : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي : علمها باعتبار وقوعها عند الله لا يعلمها غيره ، ولا يهتدي إليها سواه (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أي : لا يظهرها لوقتها ولا يكشف عنها إلا الله سبحانه ، والتجلية : إظهار الشيء ، يقال جلى لي فلان الخبر : إذا أظهره وأوضحه ، وفي استئثار الله سبحانه بعلم الساعة حكمة عظيمة وتدبير بليغ كسائر الأشياء التي أخفاها الله واستأثر بعلمها. وهذه الجملة مقررة لمضمون التي قبلها. قوله (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قيل : معنى ذلك : أنه لما خفي علمها على أهل السّموات والأرض كانت ثقيلة ، لأنّ كلّ ما خفي علمه ثقيل على القلوب ؛ وقيل المعنى : لا تطيقها السّموات والأرض لعظمها ؛ لأنّ السّماء تنشق ، والنجوم تتناثر ، والبحار تنضب ؛ وقيل : عظم وصفها عليهم ؛ وقيل : ثقلت المسألة عنها ، وهذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها أيضا (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) إلا فجأة على غفلة ، والبغتة ، مصدر في موضع الحال ، وهذه الجملة كالتي قبلها في التقرير. قوله : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها). قال ابن فارس : الحفيّ : العالم بالشيء ، والحفي : المستقصي في السؤال ، ومنه قول الأعشى :

فإن تسألي عنّي فيا ربّ سائل

حفيّ عن الأعشى به حيث أصعدا

يقال : أحفى في المسألة وفي الطلب فهو محف ، وحفيّ على التكثير ، مثل مخصب وخصيب. والمعنى : يسألونك عن الساعة كأنك عالم بها ، أو كأنه مستقص للسؤال عنها ، ومستكثر منه ، والجملة التشبيهية في محلّ نصب على الحال ، أي : يسألونك مشبها حالك حال من هو حفيّ عنها ؛ وقيل المعنى : يسألونك عنها كأنك حفيّ بهم ، أي : حفيّ ببرهم وفرح بسؤالهم. والأوّل : هو معنى النظم القرآني على مقتضي المسلك العربي. قوله : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أمره الله سبحانه بأن يكرّر ما أجاب به عليهم سابقا ، لتقرير الحكم وتأكيده ، وقيل : ليس بتكرير ، بل أحدهما : معناه الاستئثار بوقوعها ، والآخر : الاستئثار بكنهها نفسها (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) باستثناء الله بهذا وعدم علم خلقه به ، لم يعلمه ملك مقرب ولا

٣١١

نبيّ مرسل. قوله (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) هذه الجملة متضمّنة لتأكيد ما تقدّم من عدم علمه بالساعة ، أيان تكون ، ومتى تقع ، لأنه إذا كان لا يقدر على جلب نفع له ، أو دفع ضرّ عنه إلا ما شاء الله سبحانه مع النفع له والدفع عنه ؛ فبالأولى أن لا يقدر على علم ما استأثر الله بعلمه ، وفي هذا من إظهار العبودية والإقرار بالعجز عن الأمور التي ليست من شأن العبيد والاعتراف بالضعف عن انتحال ما ليس له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فيه أعظم زاجر ، وأبلغ واعظ لمن يدّعي لنفسه ما ليس من شأنها ، وينتحل علم الغيب بالنجامة ، أو الرمل ، أو الطرق بالحصى ، أو الزجر ، ثم أكد هذا وقرّره بقوله (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) أي : لو كنت أعلم جنس الغيب لتعرّضت لما فيه الخير ، فجلبته إلى نفسي وتوقيت ما فيه السوء حتى لا يمسني ، ولكنّي عبد لا أدري ما عند ربّي ، ولا ما قضاه فيّ وقدّره لي ، فكيف أدري غير ذلك ، وأتكلّف علمه؟ وقيل : المعنى لو كنت أعلم ما يريد الله عزوجل مني من قبل أن يعرّفنيه لفعلته ؛ وقيل : لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب ؛ وقيل : لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه ، والأولى : حمل الآية على العموم فتندرج هذه الأمور وغيرها تحتها ، وقد قيل : إن (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) كلام مستأنف ، أي : ليس بي ما تزعمون من الجنون ، والأولى أنه متصل بما قبله ، والمعنى : لو علمت الغيب ما مسني السوء ولحذرت عنه كما قدّمنا ذلك. قوله (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي : ما أنا إلا مبلغ عن الله لأحكامه ، أنذر بها قوما ، وأبشر بها آخرين ، ولست أعلم بغيب الله سبحانه ، واللام في (لِقَوْمٍ) متعلق بكلا الصفتين ، أي : بشير لقوم ، ونذير لقوم ، وقيل : هو متعلق ببشير ، والمتعلق بنذير : محذوف ، أي : نذير لقوم يكفرون ، وبشير لقوم يؤمنون. قوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نعم الله على عباده وعدم مكافأتهم لها مما يجب من الشكر والاعتراف بالعبودية وأنه المنفرد بالإلهية. قال جمهور المفسرين : المراد بالنفس الواحدة : آدم ، وقوله (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) معطوف على (خَلَقَكُمْ) أي : هو الذي خلقكم من نفس آدم وجعل من هذه النفس زوجها ، وهي حواء خلقها من ضلع من أضلاعه ، وقيل : المعنى (جَعَلَ مِنْها) من جنسها كما في قوله (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) (١) والأوّل أولى (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) علة للجعل ، أي : جعله منها لأجل يسكن إليها ، يأنس إليها ، ويطمئن بها ، فإن الجنس بجنسه أسكن وإليه آنس ، وكان هذا في الجنة كما وردت بذلك الأخبار ، ثم ابتدأ سبحانه بحالة أخرى كانت بينهما في الدنيا بعد هبوطهما ، فقال (فَلَمَّا تَغَشَّاها) والتغشي : كناية عن الوقاع ، أي : فلما جامعها (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) علقت به بعد الجماع ، ووصفه بالخفة لأنه عند إلقاء النطفة أخفّ منه عند كونه علقة ، وعند كونه علقة أخفّ منه عند كونه مضغة ، وعند كونه مضغة أخفّ مما بعده ، وقيل : إنه خفّ عليها هذا الحمل من ابتدائه إلى انتهائه ، ولم تجد منه ثقلا كما تجده الحوامل من النساء لقوله (فَمَرَّتْ بِهِ) أي : استمرت بذلك الحمل ، تقوم وتقعد وتمضي في حوائجها لا تجد به ثقلا ، والوجه الأوّل أولى لقوله (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) فإن معناه : فلما صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها ، وقرئ (فَمَرَّتْ بِهِ) بالتخفيف ، أي : فجزعت لذلك ، وقرئ «فمارت به» من المور ،

__________________

(١). النحل : ٧٢.

٣١٢

وهو المجيء والذهاب ؛ وقيل المعنى : فاستمرت به. وقد رويت قراءة التخفيف عن ابن عباس ويحيى بن يعمر ، ورويت قراءة فمارت عن عبد الله بن عمر ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ فاستمرت به قوله (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) جواب لما ، أي : دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) أي ولدا صالحا ، واللام جواب قسم محذوف ، و (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) جواب القسم سادّ مسدّ جواب الشرط ، أي : من الشاكرين لك على هذه النعمة ؛ وفي هذا الدعاء دليل على أنهما قد علما أن ما حدث في بطن حواء من أثر ذلك الجماع هو من جنسهما ، وعلما بثبوت النسل المتأثر عن ذلك السبب (فَلَمَّا آتاهُما) ما طلباه من الولد الصالح وأجاب دعاءهما (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) قال كثير من المفسرين : إنه جاء إبليس إلى حواء وقال لها : إن ولدت ولدا فسمّيه باسمي فقالت : وما اسمك؟ قال : الحارث ، ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحارث فكان هذا شركا في التسمية ولم يكن شركا في العبادة. وإنما قصد أنّ الحارث كان سبب نجاة الولد ، كما يسمّي الرجل نفسه عبد ضيفه ، كما قال حاتم الطائي :

وإنّي لعبد الضّيف ما دام ثاويا

وما فيّ إلا تلك منشيمة العبد

وقال جماعة من المفسرين : إن الجاعل شركا فيما آتاهما هم جنس بني آدم ، كما وقع من المشركين منهم ، ولم يكن ذلك من آدم وحواء ، ويدلّ على هذا جمع الضمير في قوله (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وذهب جماعة من المفسرين إلى أن معنى (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) من هيئة واحدة وشكل واحد (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي : من جنسها (فَلَمَّا تَغَشَّاها) يعني جنس الذكر جنس الأنثى ، وعلى هذا لا يكون لآدم وحوّاء ذكر في الآية وتكون ضمائر التثنية راجعة إلى الجنسين. وقد قدّمنا الإشارة إلى نحو هذا ، وذكرنا أنه خلاف الأولى لأمور منها : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) بأن هذا إنما هو لحواء ، ومنها : (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) فإن كل مولود يولد بين الجنسين لا يكون منهما عند مقاربة وضعه هذا الدعاء. وقد قرأ أهل المدينة وعاصم شركا على التوحيد ، وقرأ أبو عمر وسائر أهل الكوفة بالجمع. وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى ، وأجيب عنه بأنها صحيحة على حذف المضاف ، أي : جعلا له ذا شرك ، أو ذوي شرك ، والاستفهام في (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) للتقريع والتّوبيخ ، أي : كيف يجعلون لله شريكا لا يخلق شيئا ولا يقدر على نفع لهم ولا دفع عنهم. قوله (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) عطف على (ما لا يَخْلُقُ) والضمير راجع إلى الشركاء الذين لا يخلقون شيئا ، أي : وهؤلاء الذين جعلوهم شركاء من الأصنام أو الشياطين مخلوقون ، وجمعهم جمع العقلاء لاعتقاد من جعلهم شركاء أنهم كذلك (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ) أي : لمن جعلهم شركاء (نَصْراً) إن طلبه منهم (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) إن حصل عليهم شيء من جهة غيرهم ، ومن عجز عن نصر نفسه فهو عن نصر غيره أعجز.

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : قال حمل بن أبي قشير وسمول بن زيد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول فإنا نعلم ما هي؟ فأنزل الله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) إلى قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). وأخرج

٣١٣

عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة (أَيَّانَ مُرْساها) أي : متى قيامها؟ (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) قال : قالت قريش يا محمد! أسرّ إلينا الساعة لما بيننا وبينك من القرابة؟ قال (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ). وذكر لنا أن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «تهيج الساعة بالناس والرجل يسقي على ماشيته ، والرجل يصلح حوضه ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ، والرجل يقيم سلعته في السوق قضاء الله لا تأتيكم إلا بغتة» وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أَيَّانَ مُرْساها) قال : منتهاها. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) يقول : لا يأتي بها إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هو يجلّيها لوقتها لا يعلم ذلك إلا الله. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال : ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال : ثقل علمها على أهل السموات والأرض ، يقول : كبرت عليهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال : إذا جاءت انشقت السماء ، وانتثرت النجوم ، وكوّرت الشمس ، وسيرت الجبال ، وما يصيب الأرض ، وكان ما قال الله سبحانه فذلك ثقلها فيهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) قال : فجأة آمنين. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في البعث عن مجاهد في قوله : (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) قال : استحفيت عنها السؤال حتى علمتها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) يقول : كأنك عالم بها ، أي : لست تعلمها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عنه (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) قال : لطيف بها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عنه أيضا (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) يقول : كأن بينك وبينهم مودة كأنك صديق لهم ، قال : لما سأل الناس محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفيّ بهم ، فأوحى الله إليه (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) استأثر بعلمها فلم يطلع ملكا ولا رسولا. وأخرج عبد بن حميد عن عمرو بن دينار قال : كان ابن عباس يقرأ كأنّك حفيّ بها. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) قال : الهدى والضلالة (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) متى أموت (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) قال : العمل الصالح. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) قال : لعملت إذا اشتريت شيئا ما أربح فيه فلا أبيع شيئا لا ربح فيه (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) قال : ولا يصيبني الفقر. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) قال : لاجتنبت ما يكون من الشرّ قبل أن يكون. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والروياني والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن سمرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لما ولدت حواء طاف بها إبليس ، وكان لا يعيش لها

٣١٤

ولد ، فقال : سمّيه عبد الحارث فإنه يعيش ، فسمّته عبد الحارث فعاش ، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره». وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن سمرة في قوله (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) قال : سمياه عبد الحارث. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبيّ بن كعب نحو حديث سمرة المرفوع موقوفا عليه. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : حملت حواء فأتاها إبليس فقال : إنّي صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعنني أو لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلنّ ولأفعلنّ يخوّفهما ، سمّياه عبد الحارث ، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ، ثم حملت فأتاهما أيضا فقال مثل ذلك ، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ، ثم حملت فأتاهما فذكر لهما فأدركهما حبّ الولد فسمياه عبد الحارث ، فذلك قوله : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما). وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في الآية قال : كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن سمرة في قوله (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) لم يستبن (فَمَرَّتْ بِهِ) لما استبان حملها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فَمَرَّتْ بِهِ) قال : فشكت أحملت أم لا؟ وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن أيوب قال : سئل الحسن عن قوله (فَمَرَّتْ بِهِ) قال : لو كنت عربيا لعرفتها إنما هي استمرّت بالحمل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدّي في قوله (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) قال : هي النطفة (فَمَرَّتْ بِهِ) يقول استمرت به. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (فَمَرَّتْ بِهِ) قال : فاستمرت به. وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران (فَمَرَّتْ بِهِ) يقول : استخفته. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي صالح في قوله (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) فقال : أشفقا أن يكون بهيمة ، فقالا لئن آتيتنا بشرا سويا. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال غلاما سويا. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) قال : كان شريكا في طاعة ولم يكن شريكا في عبادة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : ما أشرك آدم ، إنّ أوّلها : شكر ، وآخرها : مثل ضربه لمن بعده. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) هذا فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك نحوه وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن الحسن في الآية قال : هذا في الكفار يدعون الله فإذا آتاهما صالحا هوّدا أو نصرا ، ثم قال : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) يقول : يطيعون ما لا يخلق شيئا ، وهي الشياطين لا تخلق شيئا وهي تخلق (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً) يقول : لمن يدعوهم.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ

٣١٥

كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨))

قوله (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) هذا خطاب للمشركين ، أي : وإن تدعوا هؤلاء الشركاء إلى الهدى والرشاد ؛ بأن تطلبوا منهم أن يهدوكم ويرشدوكم ؛ لا يتبعوكم ولا يجيبوكم إلى ذلك ، وهو دون ما تطلبونه منهم من جلب النفع ودفع الضرّ ، والنّصر على الأعداء. قال الأخفش : معناه وإن تدعوهم ؛ أي : الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم ؛ وقيل : المراد من سبق في علم الله أنه لا يؤمن. وقرئ (لا يَتَّبِعُوكُمْ) مشدّدا ومخففا وهما لغتان. وقال بعض أهل اللغة : أتبعه مخففا : إذا مضى خلفه ولم يدركه ، واتبعه مشدّدا : إذا مضى خلفه فأدركه ، وجملة (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) مقرّرة لمضمون ما قبلها ، أي : دعاؤكم لهم عند الشدائد وعدمه سواء لا فرق بينهما ، لأنهم لا ينفعون ولا يضرون ، ولا يسمعون ولا يجيبون ، وقال (أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) مكان أم صمتم ، لما في الجملة الاسمية من المبالغة. وقال محمد بن يحيى : إنما جاء بالجملة الاسمية لكونها رأس آية ، يعني لمطابقة (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) وما قبله ، قوله (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) أخبرهم سبحانه بأن هؤلاء الذين جعلتموهم آلهة هم عباد لله كما أنتم عباد له مع أنكم أكمل منهم ، لأنكم أحياء تنطقون وتمشون وتسمعون وتبصرون ، وهذه الأصنام ليست كذلك ، ولكنها مثلكم في كونها مملوكة لله مسخرة لأمره. وفي هذا تقريع لهم بالغ وتوبيخ لهم عظيم ، وجملة (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) مقرة لمضمون ما قبلها من أنهم إن دعوهم إلى الهدى لا يتبعوهم ، وأنهم لا يستطيعون شيئا ، أي : ادعوا هؤلاء الشركاء ، فإن كانوا كما تزعمون (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تدّعونه لهم من قدرتهم على النفع والضرّ ، والاستفهام في قوله (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ) وما بعده للتقريع والتوبيخ ، أي : هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء ليس لهم شيء من الآلات التي هي ثابتة لكم فضلا عن أن يكونوا قادرين على ما تطلبونه منهم ، فإنهم كما ترون هذه الأصنام التي تعكفون على عبادتها ليست لهم (أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) في نفع أنفسهم فضلا عن أن يمشوا في نفعكم وليس (لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) كما يبطش غيرهم من الأحياء ، وليس (لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها) كما تبصرون ، وليس (لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) كما تسمعون ، فكيف تدعون من هم على هذه الصفة من سلب الأدوات ، وبهذه المنزلة من العجز ، وأم في هذه المواضع هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة ، كما ذكره أئمة النحو. وقرأ سعيد بن جبير (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) بتخفيف إن ونصب عبادا ، أي : ما الذين تدعون (مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) على إعمال إن النافية عمل ما الحجازية ، وقد ضعفت هذه القراءة بأنها خلاف ما رجحه سيبويه وغيره من اختيار الرفع في خبرها ، وبأن الكسائي قال : إنها لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى ما إلا أن يكون بعدها إيجاب كما في قوله : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) ، والبطش : الأخذ بقوّة. وقرأ أبو جعفر (يَبْطِشُونَ) بضم الطاء ، وهي لغة ، ثم لما بين لهم

٣١٦

حال هذه الأصنام ، وتعاور وجوه النقص والعجز لها من كل باب ، أمره الله بأن يقول لهم ادعوا شركاءكم الذين تزعمون أن لهم قدرة على النفع والضرّ (ثُمَّ كِيدُونِ) أنتم وهم جميعا بما شئتم من وجوه الكيد (فَلا تُنْظِرُونِ) أي : فلا تمهلوني ، ولا تؤخرون إنزال الضرر بي من جهتها ، والكيد : المكر ، وليس بعد هذا التحدّي لهم والتعجيز لأصنامهم شيء ، ثم قال لهم : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) أي : كيف أخاف هذه الأصنام التي هذه صفتها ولي وليّ ألجأ إليه وأستنصر به وهو الله عزوجل (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) وهذه الجملة تعليل لعدم المبالاة بها ، ووليّ الشيء هو الذي يحفظه ويقوم بنصرته ، ويمنع منه الضّرر (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي : يحفظهم وينصرهم ، ويحول ما بينهم وبين أعدائهم قال الأخفش : وقرئ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) يعني : جبريل. قال النحاس : هي قراءة عاصم الجحدري والقراءة الأولى أبين ، لقوله (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ). قوله (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) كرّر سبحانه هذا لمزيد التأكيد والتقرير ، ولما في تكرار التّوبيخ والتّقريع من الإهانة للمشركين والتنقيص بهم ، وإظهار سخف عقولهم ، وركاكة أحلامهم (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) جملة مبتدأة لبيان عجزهم ، أو حالية ، أي : والحال أنك تراهم ينظرون إليك حال كونهم لا يبصرون ، والمراد : الأصنام إنهم يشبهون النّاظرين ، ولا أعين لهم يبصرون بها ، قيل : كانوا يجعلون للأصنام أعينا من جواهر مصنوعة ، فكانوا بذلك في هيئة الناظرين ولا يبصرون ، وقيل : المراد بذلك المشركون ، أخبر الله عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم ، وإن أبصروا بها غير ما فيه نفعهم.

وقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : يجاء بالشمس والقمر حتى يلقيا بين يدي الله تعالى ، ويجاء بمن كان يعبدهما ، فيقال (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في قوله (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) قال : هؤلاء المشركون. وأخرج هؤلاء أيضا عن مجاهد في قوله (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ما تدعوهم إليه من الهدى.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

قوله (خُذِ الْعَفْوَ) لما عدّد الله ما عدده من أحوال المشركين وتسفيه رأيهم وضلال سعيهم ؛ أمر رسوله

٣١٧

صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يأخذ العفو من أخلاقهم ، يقال : أخذت حقّي عفوا : أي سهلا ، وهذا نوع من التيسير الذي كان يأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول : «يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا» ، والمراد بالعفو هنا : ضد الجهد ، وقيل : المراد ؛ خذ العفو من صدقاتهم ولا تشدّد عليهم فيها ، وتأخذ ما يشق عليهم ، وكان هذا قبل نزول فريضة الزكاة (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي : بالمعروف. وقرأ عيسى بن عمر (بِالْعُرْفِ) بضمتين ، وهما لغتان ، والعرف والمعروف والعارفة : كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس ، ومنه قول الشاعر :

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه

لا يذهب العرف بين الله والنّاس

(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أي : إذا أقمت الحجّة في أمرهم بالمعروف فلم يفعلوا ، فأعرض عنهم ولا تمارهم ، ولا تسافههم مكافأة لما يصدر منهم من المراء والسفاهة ؛ قيل : وهذه الآية هي من جملة ما نسخ بآية السيف ، قاله عبد الرحمن بن زيد وعطاء ؛ وقيل : هي محكمة ، قاله مجاهد وقتادة. قوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) النزغ : الوسوسة ، وكذا النغز والنخس. قال الزجّاج : النزغ : أدنى حركة تكون ، ومن الشيطان : أدنى وسوسة ، وأصل النزغ : الفساد ، يقال نزغ بيننا : أي أفسد ، وقيل : النزغ : الإغواء ، والمعنى متقارب ، أمر الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أدرك شيئا من وسوسة الشيطان أن يستعيذ بالله ؛ وقيل : إنه لما نزل قوله (خُذِ الْعَفْوَ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف يا ربّ بالغضب»؟ فنزلت ، وجملة (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) علة لأمره بالاستعاذة ، أي : استعذ به ، والتجئ إليه ، فإنه يسمع ذلك منك ويعلم به ، وجملة (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) مقرّرة لمضمون ما قبلها ، أي : إن شأن الذين يتقون الله وحالهم هو التذكر لما أمر الله به من الاستعاذة به والالتجاء إليه عند أن يمسهم طائف من الشيطان وإن كان يسيرا. قرأ أهل البصرة طيف وكذا أهل مكة. وقرأ أهل المدينة والكوفة (طائِفٌ). وقرأ سعيد ابن جبير طيف بالتشديد. قال النحاس : كلام العرب في مثل هذا طيف بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف. قال الكسائي : هو مخفف مثل ميت وميت. قال النحاس : ومعناه في اللغة ما يتخيل في القلب ، أو يرى في النوم ، وكذا معنى طائف. قال أبو حاتم : سألت الأصمعي عن طيّف فقال : ليس في المصادر فيعل. قال النحاس : ليس هو مصدرا ولكن يكون بمعنى طائف ؛ وقيل : الطيف والطائف معنيان مختلفان ، فالأوّل التخيل ، والثاني الشيطان نفسه ؛ فالأوّل من طاف الخيال يطوف طيفا ، ولم يقولوا من هذا طائف. قال السهيلي : لأنه تخيل لا حقيقة له ، فأما قوله (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) (١) فلا يقال فيه طيف لأنه اسم فاعل حقيقة. قال الزجاج : طفت عليهم أطوف ، فطاف الخيال يطيف. قال حسان :

فدع هذا ولكن من لطيف

يؤرّقني إذا ذهب العشاء

وسمّيت الوسوسة طيفا ، لأنها لمّة من الشيطان تشبه لمّة الخيال (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) بسبب التذكّر ؛ أي : منتبهون ، وقيل : على بصيرة. وقرأ سعيد بن جبير (تَذَكَّرُوا) بتشديد الذال. قال النحاس : ولا

__________________

(١). القلم : ١٩.

٣١٨

وجه له في العربية. قوله (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) قيل : المعنى : وإخوان الشياطين ، وهم الفجار من ضلال الإنس ، على أن الضمير في إخوانهم يعود إلى الشيطان المذكور سابقا ، والمراد به : الجنس ، فجاز إرجاع ضمير الجمع إليه. (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) أي : تمدّهم الشياطين في الغيّ ، وتكون مددا لهم ، وسميت الفجار من الإنس : إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم ويقتدون بهم ؛ وقيل : إن المراد بالإخوان : الشياطين ، وبالضمير : الفجار من الإنس ، فيكون الخبر جاريا على من هو له. وقال الزجاج : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصرا ولا أنفسهم ينصرون (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) لأن الكفار إخوان الشياطين ، (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) الإقصار : الانتهاء عن الشيء ، أي : لا تقصر الشياطين في مدّ الكفار في الغيّ ، قيل : إن في الغيّ متصلا بقوله (يَمُدُّونَهُمْ) وقيل : بالإخوان ، والغي : الجهل. قرأ نافع (يَمُدُّونَهُمْ) بضم حرف المضارعة وكسر الميم. وقرأ الباقون بفتح حرف المضارعة وضم الميم ، وهما لغتان : يقال مدّ وأمد. قال مكي : ومدّ أكثر. وقال أبو عبيدة وجماعة من أهل اللغة : فإنه يقال إذا كثر شيء شيئا بنفسه مدّة ، وإذا كثره بغيره ، قيل أمدّه نحو (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) (١) وقيل : يقال مددت في الشرّ وأمددت في الخير. وقرأ عاصم الجحدري يمادونهم في الغي. وقرأ عيسى ابن عمر (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) بفتح الياء وضم الصاد وتخفيف القاف. قوله (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه : أي جمعه ، أي : هلا اجتمعتها افتعالا لها من عند نفسك ؛ وقيل : المعنى اختلقتها ، يقال اجتبيت الكلام : انتحلته واختلقته واخترعته ، إذا جئت به من عند نفسك ، كانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تراخى الوحي هذه المقالة ، فأمره الله بأن يجيب عليهم بقوله (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَ) أي : لست ممن يأتي بالآيات من قبل نفسه كما تزعمون (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) فما أوحاه إليّ وأنزله عليّ أبلغه إليكم ، وبصائر : جمع بصيرة ، أي : هذا القرآن المنزل عليّ هو (بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) يتبصر بها من قبلها ، وقيل : البصائر ، الحجج والبراهين. وقال الزجاج : البصائر : الطرق (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) معطوف على بصائر ، أي : هذا القرآن هو بصائر وهدى ، يهتدي به المؤمنون ورحمة لهم. قوله (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) أمرهم الله سبحانه بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته لينتفعوا به ، ويتدبّروا ما فيه من الحكم والمصالح ؛ قيل : هذا الأمر خاص بوقت الصلاة عند قراءة الإمام ، ولا يخفاك أن اللفظ أوسع من هذا والعام لا يقصر على سببه ، فيكون الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل حالة ، وعلى أيّ صفة ، مما يجب على السامع ؛ وقيل : هذا خاص بقراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن ، دون غيره ، ولا وجه لذلك (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : تنالون الرحمة ، وتفوزون بها بامتثال أمر الله سبحانه ، ثم أمره الله سبحانه أن يذكره في نفسه ، فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأدعى للقبول ؛ قيل : المراد بالذكر هنا ما هو أعم من القرآن وغيره من الأذكار التي يذكر الله بها. وقال النحاس : لم يختلف في معنى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) أنه الدعاء ؛ وقيل : هو خاص بالقرآن ؛ أي : اقرأ القرآن بتأمل وتدبر ، و (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) منتصبان على الحال ، أي : متضرعا وخائفا ، والخيفة : الخوف ، وأصلها : خوفة

__________________

(١). آل عمران : ١٢٥.

٣١٩

قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وحكى الفراء أنه يقال في جمع خيفة : خيف. قال الجوهري : والخيفة : الخوف والجمع : خيف ، وأصله الواو ، أي : خوف (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) أي : دون المجهور به من القول وهو معطوف على ما قبله ، أي : متضرعا ، وخائفا ، ومتكلما بكلام هو دون الجهر من القول ، و (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) متعلق باذكر أي أوقات الغدوات وأوقات الأصائل ، والغدو : جمع غدوة ، والآصال : جمع أصيل ، قاله الزجّاج والأخفش ، مثل يمين وأيمان ، وقيل : الآصال جمع أصل ، والأصل جمع أصيل فهو على هذا جمع الجمع ، قاله الفرّاء. قال الجوهري : الأصيل الوقت من بعد العصر إلى المغرب ، وجمعه أصل وآصال وأصائل كأنه جمع أصيلة. قال الشاعر :

لعمري لأنت البيت أكرم أهله

وأقعد في أفنائه بالأصائل

ويجمع أيضا على أصلان مثل بعير وبعران ، وقرأ أبو مجلز والإيصال وهو مصدر. وخصّ هذين الوقتين لشرفهما ، والمراد دوام الذكر لله (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) أي : عن ذكر الله (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) المراد بهم : الملائكة. قال القرطبي : بالإجماع. قال الزجاج : وقال : عند ربك ، والله عزوجل بكل مكان ، لأنهم قريبون من رحمته ، وكل قريب من رحمة الله عزوجل فهو عنده. وقال غيره : لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله ؛ وقيل : إنهم رسل الله ، كما يقال : عند الخليفة جيش كثير ، وقيل هذا على جهة التشريف والتكريم لهم ، ومعنى (يُسَبِّحُونَهُ) يعظّمونه وينزّهونه عن كل شين (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي : يخصّونه بعبادة السجود التي هي أشرف عبادة ؛ وقيل : المراد بالسجود : الخضوع والذلة ، وفي ذكر الملأ الأعلى تعريض لبني آدم.

وقد أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبخاري وأبو داود والنسائي ، والنحاس في ناسخه ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن عبد الله بن الزبير في قوله (خُذِ الْعَفْوَ) الآية ، قال : ما نزلت هذه الآية إلا في إختلاف الناس ، وفي لفظ : أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن عمر في قوله (خُذِ الْعَفْوَ) قال : أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي قال : لما أنزل الله (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما هذا يا جبريل؟ قال : لا أدري حتى أسأل العالم ، فذهب ثم رجع فقال : إن الله أمرك أن تعفو عمّن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك». وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه. وأخرج ابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة قال : لما نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حمزة بن عبد المطلب قال : «والله لأمثلنّ بسبعين منهم ، فجاء جبريل بهذه الآية ، وأخرج ابن مردويه عن عائشة في قوله (خُذِ الْعَفْوَ) قال : ما عفا لك من مكارم الأخلاق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (خُذِ الْعَفْوَ) قال : خذ ما عفا من أموالهم

٣٢٠