فتح القدير - ج ٢

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٢

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٢

البيت : سقفه ، وعرش البئر : طيها بالخشب ، وعرش السماك : أربعة كواكب صغار ، ويطلق على الملك والسلطان والعزّ ومنه قول زهير :

تداركتما عبسا وقد ثلّ عرشها

وذبيان إذ زلّت بأقدامها النّعل

وقول الآخر :

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحرث بن شهاب

وقول الآخر :

رأوا عرشي تثلّم جانباه

فلمّا أن تثلّم أفردوني

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة صفة عرش الرحمن وإحاطته بالسموات والأرض وما بينهما وما عليهما ، وهو المراد هنا. قوله (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي : يجعل الليل كالغشاء للنهار فيغطي بظلمته ضياءه. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي يغشي بالتشديد ، وقرأ الباقون بالتخفيف وهما لغتان ، يقال : أغشى يغشي ، وغشى يغشى ، والتغشية في الأصل : إلباس الشيء الشيء ، ولم يذكر في هذه الآية يغشى الليل بالنهار اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر كقوله تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (١). وقرأ حميد بن قيس : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) على إسناد الفعل إلى الليل ، ومحل هذه الجملة النصب على الحال ، والتقدير : استوى على العرش مغشيا الليل النهار ، وهكذا قوله (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) حال من الليل ، أي : حال كون الليل طالبا للنهار طلبا حثيثا لا يفتر عنه بحال ، وحثيثا صفة مصدر محذوف ، أي : يطلبه طلبا حثيثا ؛ أو حال من فاعل يطلب. والحث : الاستعجال والسرعة ، يقال : ولي حثيثا ، أي : مسرعا. قوله (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) قال الأخفش : معطوف على السموات ، وقرأ ابن عامر برفعها كلها على الابتداء والخبر. والمعنى على الأوّل : وخلق الشمس والقمر والنجوم حال كونها مسخرات ، وعلي الثاني : الإخبار عن هذه بالتسخير. قوله (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) إخبار منه سبحانه لعباده بأنهما له ، والخلق : المخلوق ، والأمر : كلامه ، وهو كن في قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢). أو المراد بالأمر ما يأمر به على التفصيل ، أو التصرّف في مخلوقاته ، ولما ذكر سبحانه في هذه الآية خلق السموات والأرض في ذلك الأمد اليسير ، ثم ذكره استواءه على عرشه وتسخير الشمس والقمر والنجوم ، وأن له الخلق والأمر. قال (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : كثرت بركته واتسعت ، ومنه بورك الشيء وبورك فيه ، كذا قال ابن عرفة. وقال الأزهري في (تَبارَكَ) معناه : تعالى وتعاظم. وقد تقدم تفسير (رَبُّ الْعالَمِينَ) في الفاتحة مستكملا.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) الآية قال : ينادي الرجل أخاه فيقول : يا أخي أغثني فإني قد احترقت ، فأفض عليّ من الماء ، فيقال : أجبه ، فيقول : إنّ الله حرّمهما على الكافرين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في قوله (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) قال :

__________________

(١). النحل : ٨١.

(٢). النحل : ٤٠.

٢٤١

من الطعام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال : يستسقونهم ويستطعمونهم ، وفي قوله (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) قال : طعام الجنة وشرابها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) يقول : نتركهم في النار كما تركوا لقاء يومهم هذا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) قال : نؤخرهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) قال : عاقبته. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) جزاؤه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) قال يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) قال : ما كانوا يكذبون في الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) قال : كل يوم مقداره ألف سنة. وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت في قوله (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإقرار به إيمان ، والجحود به كفر. وأخرج اللّالكائي عن مالك أن رجلا سأله كيف استوى على العرش؟ فقال : الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الدعاء والخطيب في تاريخه عن الحسن بن عليّ قال : أنا ضامن لمن قرأ هذه العشرين آية في كل ليلة أن يعصمه الله من كل سلطان ظالم ، ومن كل شيطان مريد ، ومن كل سبع ضار ، ومن كل لص عاد : آية الكرسي ، وثلاث آيات من الأعراف (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (١) وعشرا من أوّل الصافات ، وثلاث آيات من الرحمن. أولها (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (٢) وخاتمة الحشر. وأخرج أبو الشيخ بن عبيد بن أبي مرزوق قال : من قرأ عند نومه (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية ، بسط عليه ملك جناحه حتى يصبح وقد عوفي من السرق. وأخرج أبو الشيخ عن محمد ابن قيس صاحب عمر بن عبد العزيز قال : مرض رجل من أهل المدينة فجاءه زمرة من أصحابه يعودونه ، فقرأ رجل منهم (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية كلّها ، وقد أصمت الرجل فتحرّك ثم استوى جالسا ، ثم سجد يومه وليلته حتى كان من الغد من الساعة التي سجد فيها ، قال له أهله : الحمد لله الذي عافاك. قال : بعث إلى نفسي ملك يتوفاها ، فلمّا قرأ صاحبكم الآية التي قرأ سجد الملك وسجدت بسجوده ، فهذا حين رفع رأسه ، ثم مال فقضى. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في قوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) قال : يغشى الليل النهار فيذهب بضوئه ويطلبه سريعا حتى يدركه. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : يلبس الليل النهار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (حَثِيثاً) قال : سريعا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة في قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) قال : الخلق : ما دون العرش ، والأمر : ما فوق ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال : الخلق هو المخلوق ، والأمر هو الكلام.

__________________

(١). الآيات : ٥٤ ـ ٥٦.

(٢). الآيات : ٣٣ ـ ٣٥.

٢٤٢

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))

أمرهم الله سبحانه بالدّعاء ، وقيد ذلك بكون الداعي متضرّعا بدعائه مخفيا له ، وانتصاب (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) على الحال ، أي : متضرّعين بالدعاء مخفين له ، أو صفة مصدر محذوف ، أي : ادعوه دعاء تضرّع ودعاء خفية ، والتضرّع : من الضراعة ، وهي الذلة والخشوع والاستكانة ، والخفية : الإسرار به ، فإن ذلك أقطع لعرق الرياء ، وأحسم لباب ما يخالف الإخلاص ، ثم علّل ذلك بقوله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي : المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وفي كلّ شيء ، فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء فقد اعتدى ، والله لا يحبّ المعتدين ، وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولا أوليا. ومن الاعتداء في الدعاء أن يسأل الداعي ما ليس له ، كالخلود في الدنيا ، أو إدراك ما هو محال في نفسه ، أو يطلب الوصول إلى منازل الأنبياء في الآخرة ، أو يرفع صوته بالدعاء صارخا به. قوله (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) نهاهم الله سبحانه عن الفساد في الأرض بوجه من الوجوه ، قليلا كان أو كثيرا ، ومنه قتل الناس ، وتخريب منازلهم ، وقطع أشجارهم وتغوير أنهارهم. ومن الفساد في الأرض : الكفر بالله والوقوع في معاصيه ، ومعنى : (بَعْدَ إِصْلاحِها) : بعد أن أصلحها الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتقرير الشرائع. قوله (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) إعرابها يحتمل الوجهين المتقدمين في (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وفيه : أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفا وجلا طامعا في إجابة الله لدعائه ، فإنه إذا كان عند الدعاء جامعا بين الخوف والرجاء ظفر بمطلوبه. والخوف : الانزعاج من المضار التي لا يؤمن من وقوعها ، والطمع : توقع حصول الأمور المحبوبة. قوله (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) هذا إخبار من الله سبحانه بأن رحمته قريبة من عباده المحسنين بأيّ نوع من الأنواع كان إحسانهم ، وفي هذا ترغيب للعباد إلى الخير وتنشيط لهم ، فإن قرب هذه الرحمة التي يكون بها الفوز بكل مطلب مقصود لكل عبد من عباد الله.

وقد اختلف أئمة اللغة والإعراب في وجه تذكير خبر رحمة الله حيث قال قريب ولم يقل قريبة ، فقال الزجّاج : إن الرحمة مؤوّلة بالرحم لكونها بمعنى العفو والغفران ، ورجح هذا التأويل النحاس. وقال النضر ابن شميل : الرحمة مصدر بمعنى الترحم ، وحقّ المصدر التذكير. وقال الأخفش سعيد : أراد بالرحمة هنا المطر ، وتذكير بعض المؤنث جائز ، وأنشد :

٢٤٣

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (١)

وقال أبو عبيدة : تذكير قريب على تذكير المكان ، أي : مكان قريب. قال علي بن سليمان الأخفش : وهذا خطأ ، ولو كان كما قال لكان قريب منصوبا كما تقول : إن زيدا قريبا منك. وقال الفراء : إن القريب إذا كان بمعنى المسافة فيذكر ويؤنث ، وإن كان بمعنى النسب فيؤنث بلا اختلاف بينهم. وروي عن الفراء أنه قال : يقال في النسب قريبة فلان ، وفي غير النسب يجوز التذكير والتأنيث فيقال : دارك عنا قريب وفلانة منا قريب قال الله تعالى (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) (٢) ومنه قول امرئ القيس :

له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم

قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا

وروي عن الزجّاج أنه خطّأ الفرّاء فيما قاله وقال : إن سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما ؛ وقيل : إنه لما كان تأنيث الرحمة غير حقيقي جاز في خبرها التذكير ، ذكر معناه الجوهري. قوله (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) عطف على قوله (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) يتضمن ذكر نعمة من النعم التي أنعم بها على عباده مع ما في ذلك من الدلالة على وحدانيته وثبوت إلاهيته. ورياح : جمع ريح ، وأصل ريح : روح ، وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو نشرا بضم النون والشين جمع ناشر على معنى النسب : أي ذات نشر. وقرأ الحسن وقتادة وابن عامر نشرا بضم النون وإسكان الشين من نشر. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي نشرا بفتح النون وإسكان الشين على المصدر ، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ، ومعنى هذه القراءات يرجع إلى النشر الذي هو خلاف الطيّ فكأن الريح مع سكونها كانت مطوية ثم ترسل من طيها فتصير كالمنفتحة. وقال أبو عبيدة : معناه متفرقة في وجوهها على معنى ننشرها هاهنا وهاهنا. وقرأ عاصم (بُشْراً) بالباء الموحدة وإسكان الشين جمع بشير ، أي : الرياح تبشر بالمطر ، ومثله قوله تعالى (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) (٣). قوله (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أراد بالرحمة هنا المطر ، أي : قدّام رحمته ، والمعنى : أنه سبحانه يرسل الرياح ناشرات أو مبشرات بين يدي المطر. قوله (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) أقلّ فلان الشيء : حمله ورفعه ، والسحاب يذكر ويؤنث ، والمعنى : حتى إذا حملت الرياح سحابا ثقالا بالماء الذي صارت تحمله (سُقْناهُ) أي : السحاب (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي : مجدب ليس فيه نبات ، يقال : سقته لبلد كذا ؛ وإلى بلد كذا ؛ وقيل : اللام هنا لام العلة ، أي : لأجل بلد ميت ، والبلد : هو الموضع العامر من الأرض (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أي : بالبلد الذي سقناه لأجله أو بالسحاب ، أي : أنزلنا بالسحاب الماء الذي تحمله أو بالريح ، أي : فأنزلنا بالريح المرسلة بين يدي المطر الماء ؛ وقيل إن الباء هنا بمعنى من ، أي : فأنزلنا منه الماء (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي : بالماء (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي : من جميع أنواعها. قوله (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) أي : مثل ذلك الإخراج ، وهو إخراج الثمرات نخرج الموتى من القبور يوم حشرهم (لَعَلَّكُمْ

__________________

(١). البيت لعامر الطائي.

«المزنة» : السحابة. «الودق» : المطر.

(٢). الأحزاب : ٦٣.

(٣). الروم : ٤٦.

٢٤٤

تَذَكَّرُونَ) أي : تتذكرون فتعلمون بعظيم قدرة الله وبديع صنعته ، وإنه قادر على بعثكم كما قدر على إخراج الثمرات التي تشاهدونها. قوله (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي : التربة الطيبة يخرج نباتها بإذن الله وتيسيره إخراجا حسنا تاما وافيا (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) أي : والتربة الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكدا ، أي : لا خير فيه. وقرأ طلحة بن مصرّف (نَكِداً) بسكون الكاف. وقرأ ابن القعقاع نكدا بفتح الكاف : أي ذا نكد. وقرأ الباقون (نَكِداً) بفتح النون وكسر الكاف. وقرئ يخرج أي يخرجه البلد ؛ قيل : معنى الآية التشبيه ، شبّه تعالى السريع الفهم بالبلد الطّيّب ، والبليد بالبلد الخبيث ، ذكره النحّاس ؛ وقيل : هذا مثل للقلوب ، فشبّه القلب القابل للوعظ بالبلد الطيب ، والنائي عنه بالبلد الخبيث ، قاله الحسن ؛ وقيل : هو مثل لقلب المؤمن والمنافق ، قاله قتادة ؛ وقيل : هو مثل للطيب والخبيث من بني آدم ، قاله مجاهد (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي : مثل ذلك التصريف (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) الله ويعترفون بنعمته.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) قال : السر (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) في الدعاء ولا في غيره. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : التضرّع : علانية ، والخفية : سرّ. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) يعني : مستكينا ، وخفية : يعني في خفض وسكون في حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) يقول : لا تدعوا على المؤمن والمؤمنة بالشرّ : اللهم اخزه والعنه ونحو ذلك ؛ فإن ذلك عدوان. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي مجلز في قوله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قال : لا تسألوا منازل الأنبياء. وأخرج ابن المبارك وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن قال : لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربّهم ، وذلك أن الله يقول (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا فرضي قوله فقال (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن صالح في قوله (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) قال : بعد ما أصلحها الأنبياء وأصحابهم. وأخرج أبو الشيخ عن أبي سنان في الآية قال : أحللت حلالي وحرّمت حرامي وحدّدت حدودي فلا تفسدوها. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) قال : خوفا منه ، وطمعا لما عنده (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) يعني : المؤمنين ، ومن لم يؤمن بالله فهو من المفسدين. وأخرج ابن جريج وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) قال : إن الله يرسل الريح فيأتي بالسّحاب من بين الخافقين ـ طرف السماء والأرض من حيث يلتقيان ـ فيخرجه من ثم ، ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء ، ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ، ثم يمطر السحاب بعد ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) قال : يستبشر بها الناس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدّي في قوله (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) قال : هو المطر ، وفي قوله (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) قال : كذلك تخرجون ، وكذلك النّشور كما يخرج الزرع بالماء. وأخرج

٢٤٥

ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) قال : إذا أراد الله أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى يشقق عنهم الأرض ، ثم يرسل الأرواح فيهوي كلّ روح إلى جسده ، فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) الآية قال : هو مثل ضربه الله للمؤمن ، يقول : هو طيب ، عمله طيب ، كما أن البلد الطيب ثمرها طيب (وَالَّذِي خَبُثَ) ضرب مثلا للكافر كالبلد السبخة المالحة التي لا تخرج منها البركة ، فالكافر هو الخبيث وعمله خبيث ، وقد روى نحو هذا عن جماعة من التابعين.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤))

لما بيّن سبحانه كمال قدرته وبديع صنعته في الآيات السابقة ؛ ذكر هنا أقاصيص الأمم وما فيها من تحذير الكفار ووعيدهم ، لتنبيه هذه الأمة على الصّواب ، وأن لا يقتدوا بمن خالف الحق من الأمم السالفة. واللام : جواب قسم محذوف. وهو أول الرسل إلى أهل الأرض بعد آدم ، وقد تقدّم ذكر نوح في آل عمران فأغنى عن الإعادة هنا ، وما قيل من أن إدريس قبل نوح ، فقال ابن العربي : إنه وهم. قال المازري : فإن صح ما ذكره المؤرخون كان محمولا على أن إدريس كان نبيا غير مرسل ، وجملة (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) استئنافية ، جواب سؤال مقدر. قوله (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) هذه الجملة في حكم العلة لقوله (اعْبُدُوا) أي : اعبدوه لأنه لم يكن لكم إله غيره ، حتى يستحقّ منكم أن يكون معبودا. قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة وابن كثير وابن عامر برفع غيره على أنه نعت لإله على الموضع. وقرأ الكسائي بالخفض في جميع القرآن على أنه نعت على اللفظ. وأجاز الفراء والكسائي النصب على الاستثناء : يعني : ما لكم من إله إلا إياه. وقال أبو عمرو : ما أعرف الجرّ ولا النصب ، ويردّه أن بعض بني أسد ينصبون غير في جميع الأحوال ، ومنه قول الشاعر (١) :

لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أوقال (٢)

وجملة (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) جملة متضمنة لتعليل الأمر بالعبادة ، أي : إن لم تعبدوه

__________________

(١). هو أبو قيس بن الأسلت.

(٢). «أوقال» : ثمار.

٢٤٦

فإني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة ، أو عذاب يوم الطوفان. قوله (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) جملة استئنافية جواب سؤال مقدّر ، والملأ : أشراف القوم ورؤساؤهم ؛ وقيل : هم الرجال ، وقد تقدّم بيانه في البقرة ، والضلال : العدول عن طريق الحق والذهاب عنه ، أي : إنا لنراك في دعائك إلى عبادة الله وحده في ضلال عن طريق الحق ، وجملة (قالَ يا قَوْمِ) استئنافية أيضا جواب سؤال مقدّر (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) كما تزعمون (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أرسلني إليكم لسوق الخير إليكم ودفع الشرّ عنكم ، نفى عن نفسه الضلالة ، وأثبت لها ما هو أعلى منصبا وأشرف رفعة وهو أنه رسول الله إليهم ، وجملة (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) في محل رفع على أنها صفة لرسول ، أو هي مستأنفة مبينة لحال الرسول. والرسالات : ما أرسله الله به إليهم مما أوحاه إليه (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) عطف على (أُبَلِّغُكُمْ) يقال : نصحته ونصحت له ، وفي زيادة اللام : دلالة على المبالغة في إمحاض النصح. قال الأصمعي : الناصح : الخالص من الغلّ ، وكلّ شيء خلص فقد نصح ، فمعنى أنصح هنا : أخلص النية لكم عن شوائب الفساد ، والاسم : النصيحة ، وجملة (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) معطوفة على الجملة التي قبلها مقررة لرسالته ومبينة لمزيد علمه ، وأنه يختصّ بعلم الأشياء التي لا يعلمونها بإخبار الله له بذلك. قوله (أَوَعَجِبْتُمْ) فتحت الواو لكونها العاطفة ودخلت عليها همزة الاستفهام للإنكار عليهم. والمعطوف عليه مقدّر : كأنه قيل : استبعدتم وعجبتم أو أكذبتم وعجبتم أو أنكرتم وعجبتم (أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : وحي وموعظة (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أي : على لسان رجل منكم تعرفونه ، ولم يكن ذلك على لسان من لا تعرفونه أو لا تعرفون لغته ، وقيل على بمعنى مع ، أي : مع رجل منكم لأجل ينذركم به (وَلِتَتَّقُوا) ما يخالفه (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بسبب ما يفيده الإنذار لكم والتقوى منكم من التعرّض لرحمة الله سبحانه لكم ورضوانه عنكم (فَكَذَّبُوهُ) أي فبعد ذلك كذبوه ولم يعملوا بما جاء به من الإنذار (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين به المستقرين معه (فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) واستمروا على ذلك ولم يرجعوا إلى التوبة ، وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) علة لقوله (وَأَغْرَقْنَا) أي : أغرقنا المكذبين لكونهم عمي القلوب لا تنجح فيهم الموعظة ولا يفيدهم التذكير.

وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أوّل نبي أرسل نوح». وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو نعيم وابن عساكر عن يزيد الرقاشي قال : إنما سمّي نوح عليه‌السلام نوحا لطول ما ناح على نفسه. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلّهم على شريعة من الحقّ. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : الملأ يعني الأشراف من قومه. وأخرج أبو الشيخ عن السدّي (أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يقول : بيان من ربكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) قال : كفارا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) قال : عن الحقّ.

٢٤٧

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢))

قوله (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) أي : وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم ، أي : واحدا من قبيلتهم أو صاحبهم وسمّاه أخا لكونه ابن آدم مثلهم ، وعاد هو من ولد سام بن نوح. قيل : هو عاد بن عوص بن إرم بن شالخ ابن أرفخشذ بن سام بن نوح ، وهود هو ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عوص بن إرم بن شالخ بن أرفخشذ ابن سام بن نوح ، و (هُوداً) عطف بيان. (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ). قد تقدّم تفسير هذا قريبا ، والاستفهام في (أَفَلا تَتَّقُونَ) للإنكار. وقد تقدّم أيضا تفسير الملأ ، والسفاهة : الخفة والحمق. وقد تقدّم بيان ذلك في البقرة ، نسبوه إلى الخفة والطيش ، ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا (إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) مؤكدين لظنهم كذبه فيما ادعاه من الرسالة ، ثم أجاب عليهم بنفي السفاهة عنه ، واستدرك من ذلك بأنه رسول ربّ العالمين. وقد تقدّم بيان معنى هذا قريبا ، وكذلك سبق تفسير (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) وتقدّم معنى الناصح ، والأمين : المعروف بالأمانة ، وسبق أيضا تفسير (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) في قصة نوح التي قبل هذه القصة. قوله (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أذكرهم نعمة من نعم الله عليهم ، وهي : أنه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح ، أي : جعلهم سكان الأرض التي كانوا فيها ، أو جعلهم ملوكا ، وإذ منصوب باذكر وجعل الذكر للوقت. والمراد : ما كان فيه من الاستخلاف على الأرض لقصد المبالغة ، لأنّ الشيء إذا كان وقته مستحقا للذكر ، فهو مستحقّ له بالأولى (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي : طولا في الخلق وعظم جسم زيادة على ما كان عليه آباؤهم في الأبدان. وقد ورد عن السلف حكايات عن عظم أجرام قوم عاد. قوله (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) الآلاء : جمع إلىّ ومن جملتها نعمة الاستخلاف في الأرض ، والبسطة في الخلق وغير ذلك مما أنعم به عليهم ، وكرر التذكير لزيادة التقرير ، والآلاء : النعم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) إن تذكرتم ذلك لأن الذكر للنعمة سبب باعث على شكرها ، ومن شكر فقد أفلح. قوله (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) هذا استنكار منهم لدعائه إلى

٢٤٨

عبادة الله وحده دون معبوداتهم التي جعلوها شركاء لله ، وإنما كان هذا مستنكرا عندهم لأنهم وجدوا آباءهم على خلاف ما دعاهم إليه (وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) أي : نترك الذي كانوا يعبدونه ، وهذا داخل في جملة ما استنكروه. قوله (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) هذا استعجال منهم للعذاب الذي كان هود يعدهم به ، لشدة تمرّدهم على الله ونكوصهم عن طريق الحق ، وبعدهم عن اتباع الصواب ، فأجابهم بقوله : (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) جعل ما هو متوقع كالواقع تنبيها على تحقق وقوعه ، كما ذكره أئمة المعاني والبيان ، وقيل : معنى وقع وجب ، والرجس : العذاب ، وقيل : هو هنا الرين على القلب بزيادة الكفر ، ثم استنكر عليهم ما وقع منهم من المجادلة ، فقال (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ) يعني : أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها جعلها أسماء ، لأن مسمياتها لا حقيقة لها بل تسميتها بالآلهة باطلة ، فكأنها معدومة لم توجد بل الموجود أسماؤها فقط (سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي : سميتم بها معبوداتكم من جهة أنفسكم أنتم وآباؤكم ولا حقيقة لذلك (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي : من حجة تحتجون بها على ما تدّعونه لها من الدعاوي الباطلة ثم توعدهم بأشد وعيد فقال (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي : فانتظروا ما طلبتموه من العذاب فإني معكم من المنتظرين له ، وهو واقع بكم لا محالة ونازل عليكم بلا شك ؛ ثم أخبر الله سبحانه أنه نجّى هودا ومن معه من المؤمنين به من العذاب النازل بمن كفر به ولم يقبل رسالته ، وأنه قطع دابر القوم المكذبين ، أي : أستأصلهم جميعا. وقد تقدّم تحقيق معناه ، وجملة (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) معطوفة على كذبوا ، أي : استأصلنا هؤلاء القوم الجامعين بين التكذيب بآياتنا وعدم الإيمان.

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) قال : ليس بأخيهم في الدّين ، ولكنه أخوهم في النسب لأنه منهم ؛ فلذلك جعل أخاهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن خيثم قال : كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذرّ. وأخرج ابن عساكر عن وهب قال : كان الرجل من عاد ستين ذراعا بذراعهم ، وكان هامة الرجل مثل القبّة العظيمة ، وكان عين الرجل لتفرخ فيها السّباع ، وكذلك مناخرهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعا طولا. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس قال : كان الرجل منهم ثمانين باعا ، وكانت البرّة فيهم ككلية البقرة ، والرمانة الواحدة يقعد في قشرها عشرة نفر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) قال : شدة. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : إن كان الرجل من قوم عاد ليتّخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلّوه (١) ، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله (آلاءَ اللهِ) قال : نعم الله ، وفي قوله (رِجْسٌ) قال : سخط. وأخرج ابن عساكر قال : لما أرسل الله الريح على عاد اعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبهم

__________________

(١). قال في القاموس : قلّه وأقلّه : حمله ورفعه.

٢٤٩

من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلتذ به الأنفس ، وإنها لتمرّ بالعادي فتحمله بين السماء والأرض وتدمغه بالحجارة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا) قال : استأصلناهم. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب قال : قبر هود يحضر موت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة. وأخرج ابن عساكر عن عثمان بن أبي العاتكة قال : قبلة مسجد دمشق قبر هود. وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال : كان عمر هود أربعمائة سنة واثنتين وسبعين سنة.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩))

قوله (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) معطوف على ما تقدّم ، أي : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم ، وثمود : قبيلة سموا باسم أبيهم ، وهو ثمود بن عاد بن إرم بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وصالح عطف بيان ، وهو صالح بن عبيد بن أسف بن ماشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود ، وامتناع ثمود من الصرف لأنه جعل اسما للقبيلة. وقال أبو حاتم : لم ينصرف لأنه أعجمي. قال النحاس : وهو غلط لأنه من الثمد ، وهو الماء القليل ، وقد قرأ القراء ألا إنّ ثمودا كفروا ربهم (١) على أنه اسم للحيّ ، وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. قوله (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) قد تقدّم تفسيره في قصة نوح (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : معجزة ظاهرة ، وهي إخراج الناقة من الحجر الصلد ، وجملة (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) مشتملة على بيان البينة المذكورة ، وانتصاب آية : على الحال ، والعامل فيها معنى الإشارة ، وفي إضافة الناقة إلى الله تشريف لها وتكريم. قوله (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) أي : دعوها تأكل في أرض الله ، فهي ناقة الله ، والأرض أرضه فلا تمنعوها مما ليس لكم ولا تملكونه (وَلا تَمَسُّوها) بشيء من السوء ، أي : لا تتعرّضوا لها بوجه من الوجوه التي تسوؤها. قوله (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) هو جواب النهي : أي إذا لم تتركوا مسها بشيء من السوء أخذكم عذاب أليم ، أي : شديد الألم. قوله (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) أي : استخلفكم في الأرض أو جعلكم ملوكا فيها ، كما تقدّم

__________________

(١). هود : ٦٨.

٢٥٠

في قصّة هود (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : جعل لكم فيها مباءة ، وهي المنزل الذي تسكنونه (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) أي : تتخذون من سهولة الأرض قصورا ، أو هذه الجملة مبينة لجملة : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ، وسهول الأرض ترابها ، يتخذون منه اللبن والآجر ونحو ذلك فيبنون به القصور (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) أي تتخذون في الجبال التي هي صخور بيوتا تسكنون فيها ، وقد كانوا لقوّتهم وصلابة أبدانهم ينحتون الجبال فيتخذون فيها كهوفا يسكنون فيها ؛ لأنّ الأبنية والسقوف كانت تفنى قبل فناء أعمارهم ، وانتصاب بيوتا على أنها حال مقدّرة ، أو على أنها مفعول ثان لتنتحون على تضمينه معنى تتخذون. قوله (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) تقدّم تفسيره في القصة التي قبل هذه. قوله (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) العثي والعثو لغتان ، وقد تقدم تحقيقه في البقرة بما يغني عن الإعادة (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) : أي : قال الرؤساء المستكبرون من قوم صالح للمستضعفين الذين استضعفهم المستكبرون ، و (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من الذين استضعفوا بإعادة حرف الجر بدل البعض من الكل ، لأن في المستضعفين من ليس بمؤمن هذا على عود ضمير (مِنْهُمْ) إلى الذين استضعفوا ، فإن عاد إلى قومه كان بدل كل من المستضعفين ، ومقول القول : (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) قالوا هذا على طريق الاستهزاء والسخرية. قوله : (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أجابوهم بأنهم مؤمنون برسالته ، مع كون سؤال المستكبرين لهم إنما هو عن العلم منهم ، هل تعلمون برسالته أم لا؟ مسارعة إلى إظهار ما لهم من الإيمان ، وتنبيها على أن كونه مرسلا أمر واضح مكشوف لا يحتاج إلى السؤال عنه ، فأجابوا تمردا وعنادا بقولهم (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) وهذه الجمل المعنوية يقال مستأنفة لأنها جوابات عن سؤالات مقدرة كما سبق بيانه. قوله (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) العقر : الجرح ، وقيل : قطع عضو يؤثر في تلف النفس ؛ يقال : عقرت الفرس : إذا ضربت قوائمه بالسيف ، وقيل أصل العقر : كسر عرقوب البعير ، ثم قيل للنحر عقر ؛ لأنّ العقر سبب النحر في الغالب ، وأسند العقر إلى الجميع مع كون العاقر واحدا منهم ، لأنهم راضون بذلك موافقون عليه. وقد اختلف في عاقر الناقة ما كان اسمه ، فقيل قدار بن سالف ، وقيل غير ذلك (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي : استكبروا ، يقال عتا يعتو عتوّا : استكبر ، وتعتى فلان : إذا لم يطع ، والليل العاتي : الشديد الظلمة (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) هذا استعجال منهم للنقمة وطلب منهم لنزول العذاب وحلول البلية بهم (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الزلزلة ، يقال رجف الشيء يرجف رجفانا ، وأصله حركة مع صوت ، ومنه (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) (١) ؛ وقيل كانت صيحة شديدة خلعت قلوبهم (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أي بلدهم (جاثِمِينَ) لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم كما يجثم الطائر ، وأصل الجثوم للأرنب وشبهها ، وقيل للناس والطير. والمراد أنهم أصبحوا في دورهم ميتين لا حراك بهم (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) صالح عند اليأس من إجابتهم (وَقالَ) لهم المقالة : (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) ويحتمل أنه قال لهم هذه المقالة بعد موتهم على طريق الحكاية لحالهم الماضية ، كما وقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التكليم لأهل قليب بدر بعد موتهم ، أو قالها لهم عند نزول العذاب بهم ، وكأنه كان مشاهدا لذلك فتحسر على ما

__________________

(١). النازعات : ٦.

٢٥١

فاتهم من الإيمان والسلامة من العذاب ، ثم أبان عن نفسه أنه لم يأل جهدا في إبلاغهم الرسالة ومحض النصح ، لكن أبوا ذلك فلم يقبلوا منه فحق عليهم العذاب ، ونزل بهم ما كذبوا به واستعجلوه.

وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي الطفيل قال : قالت ثمود لصالح : ائتنا بآية إن كنت من الصّادقين ، قال : اخرجوا ، فخرجوا إلى هضبة من الأرض فإذا هي تمخض الحامل ، ثم إنها انفرجت فخرجت الناقة من وسطها ، فقال لهم صالح : هذه ناقة الله لكم آية فلما ملوها عقروها (فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ). وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة : أن صالحا قال لهم حين عقروا الناقة : تمتّعوا ثلاثة أيام ثم قال لهم : آية هلاككم أن تصبح وجوهكم غدا مصفرّة ، وتصبح اليوم الثاني محمرّة ، ثم تصبح اليوم الثالث مسودّة ، فأصبحت كذلك ، فلما كان اليوم الثالث أيقنوا بالهلاك فتكفنوا وتحنطوا ، ثم أخذتهم الصيحة فأخمدتهم. وقال عاقر الناقة : لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين ، فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون : أترضين؟ فتقول : نعم ، والصبيّ ، حتى رضوا أجمعون ، فعقرها. وأخرج أحمد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل الحجر قام فخطب فقال : «يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات. فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث إليهم آية فبعث الله لهم الناقة ، فكانت ترد من هذا الفجّ فتشرب ماءهم يوم وردها ويحتلبون من لبنها مثل الذي كانوا يأخذون من مائها يوم غبها وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها ، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام ، وكان وعد من الله غير مكذوب ، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها ، إلا رجلا كان في حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله ، فقيل : يا رسول الله! من هو؟ فقال : أبو رغال ؛ فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه». قال ابن كثير : هذا الحديث على شرط مسلم. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث أبي الطفيل مرفوعا مثله. وأخرج أحمد من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالحجر : «لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم» وأصل الحديث في الصحيحين من غير وجه ، وفي لفظ لأحمد من هذا الحديث قال : لما نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود. وأخرج أحمد وابن المنذر نحوه مرفوعا من حديث أبي كبشة الأنماري. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) قال : لا تعقروها. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) قال : كانوا ينقبون في الجبال البيوت. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) قال : غلوا في الباطل (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) قال : الصيحة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) قال : ميتين. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله.

٢٥٢

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))

قوله (وَلُوطاً) معطوف على ما سبق ، أي : وأرسلنا لوطا ، أو منصوب بفعل مقدّر ، أي : واذكر لوطا وقت قال لقومه. قال الفرّاء : لوط مشتق من قولهم : هذا أليط بقلبي ؛ أي : ألصق ، قال الزّجّاج : زعم بعض النحويين أن لوطا يجوز أن يكون مشتقّا من لطت الحوض إذا ملسته بالطين ، وهذا غلط. لأن الأسماء الأعجمية لا تشتق. وقال سيبويه : نوح ولوط أسماء أعجمية إلا أنها خفيفة ، فلذلك صرفت ، ولوط هو ابن هاران بن تارخ ، فهو ابن أخي إبراهيم ، بعثه الله إلى أمة تسمى سدوم (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي : الخصلة الفاحشة المتمادية في الفحش والقبح ، قال ذلك إنكارا عليهم وتوبيخا لهم (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي : لم يفعلها أحد قبلكم ، فإن اللواط لم يكن في أمة من الأمم قبل هذه الأمة ، و «من» مزيدة للتوكيد للعموم في النفي ، وإنه مستغرق لما دخل عليه ، والجملة مسوقة لتأكيد النكير عليهم والتوبيخ لهم. قوله (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) قرأ نافع وحفص على الخبر بهمزة واحدة مكسورة. وقرأ الباقون بهمزتين على الاستفهام المقتضي للتوبيخ والتقريع واختار القراءة الأولى أو عبيد والكسائي وغيرهما ، واختار الخليل وسيبويه القراءة الثانية ، فعلى القراءة الأولى تكون هذه الجملة مبينة لقوله (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) وكذلك على القراءة الثانية مع مزيد الاستفهام وتكريره المفيد للمبالغة في التقريع والتوبيخ ، وانتصاب شهوة على المصدرية ، أي : تشتهونهم شهوة ، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ، أي : مشتهين ، ويجوز أن يكون مفعولا له ، أي : لأجل الشهوة ، وفيه أنه لا غرض لهم بإتيان هذه الفاحشة إلا مجرد قضاء الشهوة من غير أن يكون لهم في ذلك غرض يوافق العقل ، فهم في هذا كالبهائم التي تنزو بعضها على بعض لما يتقاضاها من الشهوة (مِنْ دُونِ النِّساءِ) أي : متجاوزين في فعلكم هذا للنساء اللاتي هنّ محل لقضاء الشهوة وموضع لطلب اللذة ، ثم أضرب عن الإنكار المتقدّم إلى الإخبار بما هم عليه من الإسراف الذي تسبب عنه إتيان هذه الفاحشة الفظيعة. قوله (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) الواقعين في هذه الفاحشة على ما أنكره عليهم منها (إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ) أي : لوطا وأتباعه (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي : ما كان لهم جواب إلا هذا القول المباين للإنصاف المخالف لما طلبه منهم وأنكره عليهم ، وجملة (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) تعليل لما أمروا به من الإخراج ، ووصفهم بالتطهر يمكن أن يكون على حقيقته. وأنهم أرادوا أن هؤلاء يتنزهون عن الوقوع في هذه الفاحشة فلا يساكنونا في قريتنا ، ويحتمل أنهم قالوا ذلك على طريق السخرية والاستهزاء ، ثم أخبر الله سبحانه أنه أنجى لوطا وأهله المؤمنين له ، واستثنى امرأته من الأهل لكونها لم تؤمن له ، ومعنى (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أنها كانت من الباقين في عذاب الله ، يقال غبر الشيء : إذا مضى. وغبر : إذا بقي ، فهو من الأضداد. وحكى

٢٥٣

ابن فارس في المجمل عن قوم أنهم قالوا : الماضي عابر بالعين المهملة ، والباقي غابر بالمعجمة. وقال الزجاج : (مِنَ الْغابِرِينَ) أي : من الغائبين عن النجاة. وقال أبو عبيد : المعنى (مِنَ الْغابِرِينَ) أي : من المعمرين وكانت قد هرمت ، وأكثر أهل اللغة على أن الغابر : الباقي. قوله (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) قيل : أمطر بمعنى إرسال المطر. وقال أبو عبيدة : مطر في الرحمة وأمطر في العذاب ، والمعنى هنا : أن الله أمطر عليهم مطرا غير ما يعتادونه وهو رميهم بالحجارة كما في قوله (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (١) (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) هذا خطاب لكل من يصلح له ، أو لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسيأتي في هود قصة لوط بأبين مما هنا.

وقد أخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والبيهقي في شعب الإيمان ، وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) قال : أدبار الرجال. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : إنما كان بدء عمل قوم لوط : أن إبليس جاءهم في هيئة صبيّ ، أجمل صبيّ رآه الناس ، فدعاهم إلى نفسه فنكحوه ثم جسروا على ذلك. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) قال : من أدبار الرجال ومن أدبار النساء. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) قال : من الباقين في عذاب الله. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة قال : كان قوم لوط أربعة آلاف ألف.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

قوله : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) معطوف على ما تقدّم ، أي : وأرسلنا. ومدين : اسم قبيلة ،

__________________

(١). الحجر : ٧٤.

٢٥٤

وقيل : اسم بلد والأوّل أولى ، وسميت القبيلة باسم أبيهم : وهو مدين بن إبراهيم كما يقال بكر وتميم. قوله : (أَخاهُمْ شُعَيْباً) شعيب : عطف بيان ، وهو شعيب بن ميكائيل بن مدين بن إبراهيم ، قاله عطاء وابن إسحاق وغيرهما. وقال الشرقيّ بن القطامي : إنه شعيب بن عيفاء بن يوبب بن مدين بن إبراهيم. وزعم ابن سمعان أنه شعيب بن جزي بن يشجب بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وقال قتادة : هو شعيب ابن صفوان بن عيفاء بن ثابت بن مدين بن إبراهيم. قوله : (قالَ يا قَوْمِ) إلى قوله : (بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قد سبق شرحه في قصة نوح. قوله : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) أمرهم بإيفاء الكيل والميزان لأنهم كانوا أهل معاملة بالكيل والوزن ، وكانوا لا يوفونهما ، وذكر الكيل الذي هو المصدر ، وعطف عليه الميزان الذي هو اسم للآلة.

واختلف في توجيه ذلك ، فقيل : المراد بالكيل : المكيال ، فتناسب عطف الميزان عليه ؛ وقيل : المراد بالميزان الوزن فيناسب الكيل ، والفاء في (فَأَوْفُوا) للعطف على اعبدوا. قوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) البخس : النقص وهو يكون بالتعييب للسّلعة أو التّزهيد فيها أو المخادعة لصاحبها والاحتيال عليه ، وكل ذلك من أكل أموال الناس بالباطل وظاهر قوله : (أَشْياءَهُمْ) أنهم كانوا يبخسون الناس في كل الأشياء ، وقيل : كانوا مكاسين يمكسون كل ما دخل إلى أسواقهم ، ومنه قول زهير :

أفي كلّ أسواق العراق إتاوة

وفي كلّ ما باع امرؤ مكس درهم

قوله : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) قد تقدّم تفسيره قريبا ويدخل تحته قليل الفساد وكثيره ودقيقه وجليله ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى العمل بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه ، والمراد بالخيرية هنا : الزيادة المطلقة ، لأنه لا خير في عدم إيفاء الكيل والوزن ، وفي بخس الناس ، وفي الفساد في الأرض أصلا. قوله : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) الصّراط : الطريق ، أي : لا تقعدوا بكل طريق توعدون الناس بالعذاب ، قيل : كانوا يقعدون في الطرقات المفضية إلى شعيب ، فيتوّعدون من أراد المجيء إليه ، ويقولون : إنه كذّاب فلا تذهب إليه ؛ كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدّي وغيرهم ؛ وقيل : المراد القعود على طرق الدين ومنع من أراد سلوكها ، وليس المراد به القعود على الطرق حقيقة ، ويؤيده (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) وقيل : المراد بالآية : النهي عن قطع الطريق وأخذ السلب ، وكان ذلك من فعلهم ؛ وقيل : إنهم كانوا عشارين يأخذون الجباية في الطرق من أموال الناس ، فنهوا عن ذلك. والقول الأوّل أقربها إلى الصواب مع أنه لا مانع من حمل النهي على جميع هذه الأقوال المذكورة. وجملة (تُوعِدُونَ) في محل نصب على الحال ، وكذلك ما عطف عليها ، أي : لا تقعدوا بكل طريق موعدين لأهله صادّين عن سبيل الله ، باغين لها عوجا ، والمراد بالصدّ عن سبيل الله : صدّ الناس عن الطريق الذي قعدوا عليه ومنعهم من الوصول إلى شعيب ، فإن سلوك الناس في ذلك السبيل للوصول إلى نبيّ الله هو سلوك سبيل الله ، و (مَنْ آمَنَ بِهِ) مفعول تصدّون ، والضمير في آمن به يرجع إلى الله ، أو إلى سبيل الله ، أو

٢٥٥

إلى كل صراط أو إلى شعيب ، (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أي : تطلبون سبيل الله أن تكون معوجة غير مستقيمة ، وقد سبق الكلام على العوج. قال الزجاج : كسر العين في المعاني وفتحها في الإجرام (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ) أي : وقت كنتم (قَلِيلاً) عددكم (فَكَثَّرَكُمْ) بالنسل ؛ وقيل : كنتم فقراء فأغناكم (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الأمم الماضية ، فإن الله أهلكهم وأنزل بهم من العقوبات ما ذهب بهم ومحا أثرهم (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم من الأحكام التي شرعها الله لكم (وَطائِفَةٌ) منكم (لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) هذا من باب التهديد والوعيد الشديد لهم. وليس هو من باب الأمر بالصبر على الكفر. وحكم الله بين الفريقين : هو نصر المحقين على المبطلين ، ومثله قوله تعالى : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (١) أو هو أمر للمؤمنين بالصبر على ما يحلّ بهم من أذى الكفار حتى ينصرهم الله عليهم (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي : قال الأشراف المستكبرون (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ) لم يكتفوا بترك الإيمان والتمرّد عن الإجابة إلى ما دعاهم إليه ، بل جاوزوا ذلك بغيا وبطرا وأشرا إلى توعد نبيهم ومن آمن به الإخراج من قريتهم أو عوده هو ومن معه في ملتهم الكفرية ، أي : لا بدّ من أحد الأمرين : إما الإخراج ، أو العود. قال الزجاج : يجوز أن يكون العود بمعنى الابتداء ، يقال : عاد إليّ من فلان مكروه ، أي : صار ، وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك ، فلا يرد ما يقال : كيف يكون شعيب على ملتهم الكفرية من قبل أن يبعثه الله رسولا؟ ويحتاج إلى الجواب بتغليب قومه المتبعين له عليه في الخطاب بالعود إلى ملتهم ، وجملة (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) مستأنفة ، جواب عن سؤال مقدّر ، والهمزة : لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود ، والواو للحال ، أي : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا للعود إليها ، أو : أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها ، أو في الحال كراهتنا للأمرين جميعا ، والمعنى : إنه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين ولا يصح لكم ذلك ، فإنّ المكره لا اختيار له ولا تعدّ موافقته مكرها : موافقة ، ولا عوده إلى ملتكم مكرها عودا ، وبهذا التقرير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا المقام ، حتى تسبب عن ذلك تطويل ذيول الكلام (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) التي هي الشرك (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) بالإيمان فلا يكون منا عود إليها أصلا (وَما يَكُونُ لَنا) أي : ما يصح لنا ، ولا يستقيم (أَنْ نَعُودَ فِيها) بحال من الأحوال (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي : إلا حال مشيئته سبحانه ، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. قال الزّجّاج : أي إلا بمشيئة الله عزوجل ، قال : وهذا قول أهل السّنّة ، والمعنى : أنه لا يكون منا العود إلى الكفر إلا أن يشاء الله ذلك ، فالاستثناء منقطع ؛ وقيل : إن الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عزوجل كما في قوله : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) (٢) وقيل : هو كقولهم : لا أكلمك حتى يبيضّ الغراب ، وحتى يلج الجمل في سمّ الخياط ، والغراب لا يبيض ، والجمل لا يلج ، فهو من باب التعليق بالمحال. (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي : أحاط علمه بكل المعلومات فلا يخرج عنه منها شيء ، وعلما منصوب على التمييز ؛ وقيل : المعنى (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) أي : القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا لهم (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) عودنا إليها (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي : عليه اعتمدنا

__________________

(١). التوبة : ٢٥.

(٢). هود : ٨٨.

٢٥٦

في أن يثبّتنا على الإيمان ، ويحول بيننا وبين الكفر وأهله ، ويتمّ علينا نعمته ، ويعصمنا من نقمته. قوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) الفتاحة : الحكومة ، أي احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين ، دعوا الله سبحانه أن يحكم بينهم ، ولا يكون حكمه سبحانه إلا بنصر المحقّين على المبطلين ؛ كما أخبرنا به في غير موضع من كتابه ، فكأنهم طلبوا نزول العذاب بالكفرين وحلول نقمة الله بهم (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) معطوف على (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) يحتمل أن يكون هؤلاء هم أولئك ، ويحتمل أن يكونوا غيرهم من طوائف الكفار الذين أرسل إليهم شعيب. واللام في (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) موطئة لجواب قسم محذوف ، أي : دخلتم في دينه وتركتم دينكم (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) جواب القسم ساد مسدّ جواب الشرط ، وخسرانهم : هلاكهم أو ما يخسرونه بسبب إيفاء الكيل والوزن وترك التطفيف الذي كانوا يعاملون الناس به (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي : الزلزلة ؛ وقيل : الصيحة كما في قوله : (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (١) (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) قد تقدم تفسيره في قصة صالح. قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) هذه الجملة مستأنفة مبينة لما حلّ بهم من النعمة ، والموصول : مبتدأ ، وكأن لم يغنوا : خبره ؛ يقال : غنيت بالمكان إذا أقمت به ، وغني القوم في دارهم أي : طال مقامهم فيها ، والمغني : المنزل ؛ والجمع : المغاني. قال حاتم الطائي :

غنينا زمانا بالتّصعلك والغنى

كما الدّهر في أيامه العسر واليسر

كسبنا صروف الدّهر لينا وغلظة

وكلّا سقاناه بكأسهما الدّهر

فما زادنا بغيا على ذي قرابة

غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر

ومعنى الآية : الذين كذّبوا شعيبا كأن لم يقيموا في دارهم ؛ لأنّ الله سبحانه استأصلهم بالعذاب ، والموصول في الذين كذبوا شعيبا مبتدأ ، خبره (كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) ، وهذه الجملة مستأنفة كالأولى ، متضمنة لبيان خسران القوم المكذبين (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي : شعيب لما شاهد نزول العذاب بهم (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) التي أرسلني بها إليكم (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) ببيان ما فيه سلامة دينكم ودنياكم (فَكَيْفَ آسى) أي : أحزن (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) بالله مصرّين على كفرهم متمردين عن الإجابة أو الأسى : شدة الحزن ، آسى على ذلك : فهو آس. قال شعيب هذه المقالة تحسّرا على عدم إيمان قومه ، ثم سلا نفسه بأنه كيف يقع منه الأسى على قوم ليس بأهل للحزن عليهم لكفرهم بالله وعدم قبولهم لما جاء به رسوله.

وقد أخرج ابن إسحاق وابن عساكر عن عكرمة والسدي قالا : ما بعث الله نبيا مرتين إلا شعيبا : مرة إلى مدين فأخذتهم الصيحة ، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) قال : لا تظلموا الناس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) قال : لا تظلموهم (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) قال : كانوا يوعدون من أتى شعيبا وأراد الإسلام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) قال : كانوا يجلسون في الطريق فيخبرون من أتى عليهم

__________________

(١). هود : ٩٤.

٢٥٧

أن شعيبا كذاب فلا يفتننكم عن دينكم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد (بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) قال : بكل سبيل حق (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال : تصدّون أهلها (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) قال : تلتمسون لها الزيغ. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) قال : هو العاشر (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال : تصدّون عن الإسلام (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) قال : هلاكا. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال : هم العشار. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره ـ شك أبو العالية ـ قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به على خشبة على الطريق لا يمرّ بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته قال : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) قال : ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجّانا الله (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) والله لا يشاء الشرك ، ولكن يقول : إلا أن يكون الله قد علم شيئا ، فإنه قد وسع كل شيء علما. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات وابن الأنباري في الوقف والابتداء عن ابن عباس قال : ما كنت أدري ما قوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول : تعال أفاتحك ، تعني أقاضيك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (رَبَّنَا افْتَحْ) يقول : اقض. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : الفتح : القضاء ، لغة يمانية إذا قال أحدهم تعال أقاضيك القضاء قال : تعال أفاتحك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس (لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) قال : لم يعيشوا فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (فَكَيْفَ آسى) قال : أحزن. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما ، قبر إسماعيل وقبر شعيب ، فقبر إسماعيل في الحجر ، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود. وأخرج ابن عساكر عن وهب بن منبه أن شعيبا مات بمكة ومن معه من المؤمنين ، فقبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين باب بني سهم. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن ابن إسحاق قال : ذكر لي يعقوب ابن أبي مسلمة «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا ذكر شعيبا قال : ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما يريدهم به ، فلما كذّبوه وتوعّدوه بالرّجم والنفي من بلادهم وعتوا على الله أخذهم عذاب يوم الظلة».

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ

٢٥٨

يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

قوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ) لما فصل الله سبحانه أحوال بعض الأنبياء مع أممهم ، وهم المذكورون سابقا أجمل حال سائر الأمم المرسل إليها ، أي : وما أرسلنا في قرية من القرى من نبيّ من الأنبياء ، وفي الكلام محذوف ، أي : فكذب أهلها إلا أخذناهم ، والاستثناء مفرّغ ، أي : ما أرسلنا في حال من الأحوال إلا في حال أخذنا أهلها ، فمحل أخذنا : النصب ، والبأساء : البؤس والفقر ، والضراء : الضرّ ، وقد تقدم تحقيق معنى البأساء والضراء (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أي : لكي يتضرّعوا ويتذلّلوا ، فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء. قوله : (ثُمَّ بَدَّلْنا) معطوف على أخذنا ، أي : ثم بعد الأخذ لأهل القرى بدّلناهم (مَكانَ السَّيِّئَةِ) التي أصبناهم بها من البلاء والامتحان (الْحَسَنَةَ) أي : الخصلة الحسنة ، فصاروا في خير وسعة وأمن (حَتَّى عَفَوْا) يقال عفا : كثر ، وعفا : درس ، فهو من أسماء الأضداد ، والمراد هنا : أنهم كثروا في أنفسهم وفي أموالهم ، أي : أعطيناهم الحسنة مكان السيئة حتى كثروا (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) أي : قالوا هذه المقالة عند أن صاروا في الحسنة بعد السيئة ، أي : أن هذا الذي مسّنا من البأساء والضراء ، ثم من الرخاء والخصب من بعد ، هو أمر وقع لآبائنا قبلنا مثله ، فمسّهم من البأساء والضّرّاء ما مسنا ومن النعمة والخير ما نلناه ، ومعناهم : أن هذه العادة الجارية في السّلف والخلف ، وأن ذلك ليس من الله سبحانه ابتلاء لهم واختبارا لما عندهم ، وفي هذا من شدّة عنادهم وقوة تمردهم وعتوّهم ما لا يخفى ، ولهذا عاجلهم الله بالعقوبة ولم يمهلهم فقال : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أي : فجأة عقب أن قالوا هذه المقالة من دون تراخ ولا إمهال (وَ) الحال أن (هُمْ لا يَشْعُرُونَ) بذلك ولا يترقبونه ، واللام في (الْقُرى) للعهد ، أي : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) التي أرسلنا إليها رسلنا (آمَنُوا) بالرسل المرسلين إليهم (وَاتَّقَوْا) ما صمموا عليه من الكفر ولم يصرّوا على ما فعلوا من القبائح (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : يسرنا لهم خير السماء والأرض كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها ؛ قيل : المراد بخير السماء : المطر ، وخير الأرض : النبات ، والأولى حمل ما في الآية على ما هو أعمّ من ذلك ؛ ويجوز أن تكون اللام في القرى للجنس ، والمراد : لو أنّ أهل القرى أين كانوا ، وفي أيّ بلاد سكنوا ، آمنوا واتقوا إلى آخر الآية (وَلكِنْ كَذَّبُوا) بالآيات والأنبياء ولم يؤمنوا ولا اتقوا (فَأَخَذْناهُمْ) بالعذاب بسبب ما (كانُوا يَكْسِبُونَ) من الذنوب الموجبة لعذابهم ، والاستفهام في (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) للتقريع والتوبيخ ، وأهل القرى هم أهل القرى المذكورة قبله ، والفاء للعطف ، وهو مثل (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) (١) ؛ وقيل : المراد بالقرى مكة وما حولها لتكذيبهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحمل على العموم أولى. قوله : (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً) أي : وقت بيات ، وهو الليل على أنه منصوب على الظرفية ، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى : تبيتا ، أو مصدرا

__________________

(١). المائدة : ٥٠.

٢٥٩

في موضع الحال : أي مبيتين ، وجملة (وَهُمْ نائِمُونَ) في محل نصب على الحال ، والاستفهام في (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) كالاستفهام الذي قبله ، والضحى : ضحوة النهار ، وهو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت. قرأ ابن عامر والحرميان (أَوَأَمِنَ) بإسكان الواو وقرأ الباقون بفتحها ، وجملة (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) في محل نصب على الحال ، أي : يشتغلون بما لا يعود عليهم بفائدة ، والاستفهام في (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) للتّقريع والتوبيخ وإنكار ما هم عليه من أمان ما لا يؤمن من مكر الله بهم وعقوبته لهم ، وفي تكرير هذا الاستفهام زيادة تقرير لإنكار ما أنكره عليهم ، ثم بين حال من أمن مكر الله ، فقال : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) أي : الذين أفرطوا في الخسران ، ووقعوا في وعيده الشديد ، وقيل : مكر الله هنا هو استدراجه بالنعمة والصحة. والأولى : حمله على ما هو أعمّ من ذلك. قوله : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) قرئ «نهد» بالنون ، وبالتحتية ، فعلى القراءة بالنون يكون فاعل الفعل هو الله سبحانه ، ومفعول الفعل (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي أن الشأن هو هذا ، وعلى القراءة بالتحتية يكون فاعل يهد هو (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي : أخذناهم بكفرهم وتكذيبهم ، والهداية هنا بمعنى التبيين ، ولهذا عديت باللام. قوله : (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : ونحن نطبع على قلوبهم على الاستئناف ، ولا يصحّ عطفه على أصبنا لأنهم ممن طبع الله على قلبه لعدم قبولهم للإيمان ؛ وقيل : هو معطوف على فعل مقدّر دلّ عليه الكلام ، كأنه قيل : يغفلون عن الهداية ونطبع ؛ وقيل : معطوف على يرثون ، قوله : (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) جواب لو ، أي : صاروا بسبب إصابتنا لهم بذنوبهم والطّبع على قلوبهم لا يسمعون ما يتلوه عليهم من أرسله الله إليهم من الوعظ والإعذار والإنذار.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) قال : مكان الشدة الرخاء (حَتَّى عَفَوْا) قال : كثروا وكثرت أموالهم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (حَتَّى عَفَوْا) قال : جموا (١). وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) قال : قالوا : قد أتى على آبائنا مثل هذا فلم يكن شيئا (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا) قال : بما أنزل الله (وَاتَّقَوْا) قال : ما حرّمه الله (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) يقول : أعطتهم السماء بركتها والأرض نباتها. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق معاذ بن رفاعة عن موسى الطائفي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكرموا الخبز فإنّ الله أنزله من بركات السّماء وأخرجه من بركات الأرض». وأخرج البزار والطبراني ، قال السيوطي بسند ضعيف عن عبد الله بن أمّ حرام قال : صليت القبلتين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أكرموا الخبز فإن الله أنزله من

__________________

(١). قال في القاموس : الجمّ : الكثير من الشيء.

٢٦٠