فتح القدير - ج ٢

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٢

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٢

كِتابٍ مُبِينٍ) هو اللوح المحفوظ ، فتكون هذه الجملة بدل اشتمال من (إِلَّا يَعْلَمُها) وقيل : هو عبارة عن علمه فتكون هذه الجملة بدل كل من تلك الجملة.

وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني في قوله : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) قال : على ثقة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) قال : لقامت الساعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) قال : يقول خزائن الغيب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) قال : هنّ خمس : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى قوله : (عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١). وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله : لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ، ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت إلا الله ، ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله». وأخرج سعيد بن منصور وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) قال : ما من شجرة في برّ ولا بحر إلا وبها ملك يكتب ما يسقط من ورقها. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن جحادة في قوله : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) قال : لله تبارك وتعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده ، فذلك قوله : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها). وأخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من زرع على الأرض ولا ثمار على أشجار إلا عليها مكتوب : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا رزق فلان بن فلان» فذلك قوله تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ) الآية. وقد رواه يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) فقال : الرطب واليابس من كلّ شيء.

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢))

قوله : (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي ينيمكم فيقبض فيه نفوسكم التي بها تميزون وليس ذلك موتا حقيقة ، فهو مثل قوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (٢) والتوفي : استيفاء الشيء ، وتوفيت الشيء واستوفيته : إذا أخذته أجمع ، قال الشاعر :

إنّ بني الأدرد ليسوا من أحد

ولا توفّاهم قريش في العدد

__________________

(١). لقمان : ٣٤.

(٢). الزمر : ٤٢.

١٤١

قيل : الروح إذا خرجت من البدن في المنام بقيت فيه الحياة ؛ وقيل : لا تخرج منه الروح بل الذهن فقط ، والأولى أن هذا أمر لا يعرفه إلا الله سبحانه. قوله : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أي كسبتم بجوارحكم من الخير والشرّ. قوله : (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي في النهار ، يعني اليقظة ؛ وقيل : يبعثكم من القبور فيه : أي في شأن ذلك الذي قطعتم فيه أعماركم من النوم بالليل والكسب بالنهار ؛ وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : هو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه ؛ وقيل : ثم يبعثكم فيه ، أي في المنام ، ومعنى الآية : إن إمهاله تعالى للكفار ليس للغفلة عن كفرهم ، فإنه عالم بذلك ولكن (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي معين لكلّ فرد من أفراد العباد من حياة ورزق (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي رجوعكم بعد الموت (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. قوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) المراد : فوقية القدرة والرتبة ، كما يقال : السلطان فوق الرعية ، وقد تقدّم بيانه في أوّل السورة. قوله : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) أي ملائكة جعلهم الله حافظين لكم ، ومنه قوله : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) (١) والمعنى : أنه يرسل عليكم من يحفظكم من الآفات ويحفظ أعمالكم ، والحفظة : جمع حافظ ، مثل : كتبة : جمع كاتب (وَعَلَيْكُمْ) متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستيلاء ، وتقديمه على حفظة ليفيد العناية بشأنه وأنه أمر حقيق بذلك ؛ وقيل : هو متعلق بحفظة. قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) حتى : يحتمل أن تكون هي الغائية ، أي ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما أمروا بحفظه مما يتعلق بكم (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ويحتمل أن تكون الابتدائية ، والمراد بمجيء الموت مجيء علاماته. وقرأ حمزة توفاه رسلنا وقرأ الأعمش تتوفّاه والرسل : هم أعوان ملك الموت ، ومعنى توفته : استوفت روحه (لا يُفَرِّطُونَ) أي لا يقصرون ويضيعون ، وأصله من التقدّم ، وقال أبو عبيدة : لا يتوانون. وقرأ عبيد بن عمير لا يفرطون بالتخفيف : أي لا يجاوزون الحدّ فيما أمروا به من الإكرام والإهانة. قوله : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) معطوف على توفته ، والضمير راجع إلى أحد لأنه في معنى الكل مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، أي ردّوا بعد الحشر إلى الله : أي إلى حكمه وجزائه. (مَوْلاهُمُ) مالكهم الذي يلي أمورهم. (الْحَقِ) قرأ الجمهور بالجر صفة لاسم الله. وقرأ الحسن الحق بالنصب على إضمار فعل ، أي : أعني أو أمدح ، أو على المصدر (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) لكونه لا يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من الفكر والروية والتدبر.

وقد أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مع كلّ إنسان ملك إذا نام يأخذ نفسه ، فإذا أذن الله في قبض روحه قبضه وإلا ردّها إليه ، فذلك قوله تعالى : (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ). وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : ما من ليلة إلا والله يقبض الأرواح كلّها ، فيسأل كلّ نفس عمّا عمل صاحبها من النهار ، ثم يدعو ملك الموت فيقول : اقبض روح هذا ؛ وما من يوم إلا وملك الموت ينظر في كتاب حياة الناس ، قائل يقول : ثلاثا ، وقائل يقول : خمسا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : أما

__________________

(١). الانفطار : ١٠.

١٤٢

وفاته إيّاهم بالليل فمنامهم ، و (ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) فيقول : ما اكتسبتم بالنّهار (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) قال : في النهار (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) وهو الموت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) قال : ما كسبتم من الإثم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في قوله : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) قال : هم المعقّبات من الملائكة يحفظونه ويحفظون عمله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال : أعوان ملك الموت من الملائكة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : (هُمْ لا يُفَرِّطُونَ) يقول : لا يضيعون.

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥))

قيل : المراد بظلمات البرّ والبحر : شدائدهما. قال النحاس : والعرب تقول : يوم مظلم : إذا كان شديدا ، فإذا عظّمت ذلك قالت : يوم ذو كوكب ، أي يحتاجون فيه لشدّة ظلمته إلى كوكب. وأنشد سيبويه :

بني أسد هل تعلمون بلاءنا

إذا كان يوم ذو كواكب اشنعا

والاستفهام للتقريع والتوبيخ : أي من ينجيكم من شدائدهما العظيمة؟ قرأ أبو بكر عن عاصم خفية بكسر الخاء ، وقرأ الباقون بضمها ، وهما لغتان. وقرأ الأعمش «وخيفة» من الخوف. وجملة (تَدْعُونَهُ) في محل نصب على الحال : أي من ينجيكم من ذلك حال دعائكم له دعاء تضرّع وخفية أو متضرّعين ومخفين. والمراد بالتضرع هنا : دعاء الجهر. قوله : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) كذا قرأ أهل المدينة وأهل الشام. وقرأ الكوفيون (لَئِنْ أَنْجانا) والجملة في محل نصب على تقدير القول : أي قائلين لئن أنجيتنا من هذه الشدّة التي نزلت بنا وهي الظلمات المذكورة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لك على ما أنعمت به علينا من تخليصنا من هذه الشدائد. قوله : (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) قرأ الكوفيون وهشام ينجيكم بالتّشديد ، وقرأ الباقون بالتخفيف ، وقراءة التشديد تفيد التكثير ؛ وقيل : معناهما واحد ، والضمير في (مِنْها) راجع إلى الظلمات. والكرب : الغم يأخذ بالنفس ، ومنه : رجل مكروب. قال عنترة :

ومكروب كشفت الكرب عنه

بطعنة فيصل لمّا دعاني

(ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) بالله سبحانه بعد أن أحسن إليكم بالخلوص من الشدائد وذهاب الكروب شركاء لا ينفعونكم ، ولا يضرّونكم ، ولا يقدرون على تخليصكم من كل ما ينزل بكم ، فكيف وضعتم هذا الشرك موضع ما وعدتم به من أنفسكم من الشكر؟ ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم : (هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً) أي الذي قدر على إنجائكم من تلك الشدائد ودفع عنكم تلك الكروب قادر على أن يعيدكم

١٤٣

في شدّة ومحنة وكرب يبعث عذابه عليكم من كل جانب ، فالعذاب المبعوث من جهة الفوق : ما ينزل من السماء من المطر والصواعق. والمبعوث من تحت الأرجل : الخسف والزلازل والغرق ، وقيل : (مِنْ فَوْقِكُمْ) يعني الأمراء الظلمة و (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) يعني السفلة وعبيد السوء. قوله : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) قرأ الجمهور بفتح التحتية ، من لبس الأمر : إذا خلطه ، وقرأ أبو عبد الله المديني بضمها : أي يجعل ذلك لباسا لكم ؛ قيل والأصل : أو يلبس عليكم أمركم ، فحذف أحد المفعولين مع حرف الجرّ كما في قوله تعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) والمعنى : يجعلكم مختلطي الأهواء مختلفي النحل متفرقي الآراء ؛ وقيل : يجعلكم فرقا يقاتل بعضكم بعضا. والشيع : الفرق ، أي يخلطكم فرقا. قوله : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أي يصيب بعضكم بشدّة بعض من قتل وأسر ونهب (وَيُذِيقَ) معطوف على (يَبْعَثَ) ، وقرئ : «نذيق» بالنون. (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) نبين لهم الحجج والدلالات من وجوه مختلفة (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) الحقيقة فيعودون إلى الحق الذي بيناه لهم بيانات متنوّعة.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) يقول : من كرب البرّ والبحر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير الآية عن ابن عباس قال : يقول : إذا أضلّ الرجل الطريق دعا الله (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال : يعني من أمرائكم (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) يعني سفلتكم (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) يعني بالشّيع الأهواء المختلفة (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال : يسلّط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه من وجه آخر في تفسير الآية قال : (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) أئمة السوء (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : خدم السوء. وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا من وجه آخر قال : (مِنْ فَوْقِكُمْ) من قبل أمرائكم وأشرافكم (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : من قبل سفلتكم وعبيدكم. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي مالك (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال : القذف (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : الخسف. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أيضا (مِنْ فَوْقِكُمْ) قال : الصيحة والحجارة والريح (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : الرجفة والخسف ، وهما عذاب أهل التكذيب (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال : عذاب أهل الإقرار. وأخرج البخاري وغيره عن جابر بن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بوجهك (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : أعوذ بوجهك (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال : هذا أهون أو أيسر». وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم من حديث طويل عن ثوبان ، وفيه : «وسألته أن لا يسلّط عليهم عدوّا من غيرهم فأعطانيها ، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها». وأخرج مسلم وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص : «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقبل ذات يوم من العالية ، حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية

__________________

(١). يونس : ٢٢.

١٤٤

دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربّه طويلا ، ثم انصرف إلينا فقال : سألت ربّي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق ، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيهما وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» وأخرج أحمد ، والحاكم وصحّحه من حديث جابر بن عتيك نحوه. وأخرج نحوه أيضا ابن مردويه من حديث أبي هريرة. وأخرج أيضا ابن أبي شيبة وابن مردويه من حديث حذيفة بن اليمان نحوه. وأخرج أحمد والنسائي وابن مردويه عن أنس نحوه أيضا. وأخرج أحمد والترمذي وحسّنه ، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد». وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب في هذه الآية قال : هنّ أربع وكلهنّ عذاب وكلهنّ واقع لا محالة ، فمضت اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس وعشرين سنة : فألبسوا شيعا ، وذاق بعضهم بأس بعض ؛ وبقيت اثنتان واقعتان لا محالة : الخسف ، والرّجم. والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية.

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣))

قوله : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) الضمير راجع إلى القرآن أو إلى العذاب. وقومه المكذبون : هم قريش ، وقيل : كل معاند ، وجملة (وَهُوَ الْحَقُ) في محل نصب على الحال ، أي كذبوا بالقرآن أو العذاب ، والحال أنه حق. وقرأ ابن أبي عبلة «وكذبت» بالتاء (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي : لست بحفيظ على أعمالكم حتى أجازيكم عليها. قيل : وهذه الآية منسوخة بآية القتال ؛ وقيل : ليست بمنسوخة إذ لم يكن إيمانهم في

١٤٥

وسعه. قوله : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) أي لكلّ شيء وقت يقع فيه. والنبأ : الشيء الذي ينبأ عنه ؛ وقيل المعنى : لكل عمل جزاء. قال الزجاج : يجوز أن يكون وعيدا لهم بما ينزل بهم في الدنيا. وقال الحسن : هذا وعيد من الله للكفار ، لأنهم كانوا لا يقرّون بالبعث (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ذلك بحصوله ونزوله بهم كما علموا يوم بدر بحصول ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوعدهم به. قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل من يصلح له. والخوض : أصله في الماء ثم استعمل في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها بغمرات الماء ، فاستعير من المحسوس للمعقول ؛ وقيل : هو مأخوذ من الخلط ، وكلّ شيء خضته فقد خلطته ، ومنه : خاض الماء بالعسل : خلطه. والمعنى : إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والردّ والاستهزاء فدعهم ، ولا تقعد معهم لسماع مثل هذا المنكر العظيم حتى يخوضوا في حديث مغاير له ، أمره الله سبحانه بالإعراض عن أهل المجالس التي يستهان فيها بآيات الله إلى غاية هي الخوض في غير ذلك.

وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمّح بمجالسة المبتدعة الذين يحرّفون كلام الله ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله ، ويردّون ذلك إلى أهوائهم المضلّة وبدعهم الفاسدة ، فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقلّ الأحوال أن يترك مجالستهم ، وذلك يسير عليه غير عسير. وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزّهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة ، فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرّد سماع المنكر.

وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر ، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه ، وبلغت إليه طاقتنا ، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حقّ معرفتها علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرّمات ، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة. فإنه ربما يتفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان ، فينقدح في قلبه ، ما يصعب علاجه ويعسر دفعه فيعمل بذلك مدّة عمره ويلقى الله به معتقدا أنه من الحق وهو الباطل وأنكر المنكر. قوله : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى إِمَّا) هذه هي الشرطية وتلزمها غالبا نون التأكيد ولا تلزمها نادرا ومنه قول الشاعر :

إمّا يصبك عدوّ في مناوأة

يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر

وقرأ ابن عباس ينسيك بتشديد السين ، ومثله قول الشاعر :

وقد ينسّيك بعض الحاجة الكسل (١)

والمعنى : إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فلا تقعد بعد الذكرى إذا ذكرت (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : الذين ظلموا أنفسهم بالاستهزاء بالآيات والتكذيب بها. قيل : وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمراد التعريض لأمته لتنزّهه عن أن ينسيه الشيطان ؛ وقيل : لا وجه لهذا فالنسيان جائز عليه كما نطقت بذلك

__________________

(١). وصدره : قالت سليمى أتسري اليوم أم تقل.

١٤٦

الأحاديث الصحيحة : «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكّروني» ونحو ذلك. قوله : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي ما على الذين يتقون مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله من حساب الكفار من شيء. وقيل المعنى : ما على الذين يتقون ما يقع منهم من الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء. وعلى هذا التفسير : ففي الآية التّرخيص للمتقين من المؤمنين في مجالسة الكفار إذا اضطروا إلى ذلك كما سيأتي عند ذكر السبب. قيل : وهذا الترخيص كان في أوّل الإسلام ، وكان الوقت وقت تقية ، ثم نزل قوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (١) فنسخ ذلك. قوله : (وَلكِنْ ذِكْرى) لهم ، ذكرى : في موضع نصب على المصدر ، أو رفع على أنها مبتدأ ؛ وخبرها محذوف : أي ولكن عليهم ذكرى. وقال الكسائي : المعنى : ولكن هذه ذكرى. والمعنى على الاستدراك من النفي السابق : أي : ولكن عليهم الذكرى للكافرين بالموعظة والبيان لهم بأن ذلك لا يجوز. أما على التفسير الأوّل فلأن مجرد اتقاء مجالس هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما على التفسير الثاني فالترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الخوض في آيات الله إذا وقعت منكم الذكرى لهم. وأما جعل الضمير للمتقين ؛ فبعيد جدّا. قوله : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) أي اترك هؤلاء الذين اتخذوا الدين الذي كان يجب عليهم العمل به والدخول فيه لعبا ولهوا ؛ ولا تعلق قلبك بهم ؛ فإنهم أهل تعنت وإن كنت مأمورا بإبلاغهم الحجة. وقيل : هذه الآية منسوخة بآية القتال ؛ وقيل المعنى : أنهم اتخذوا دينهم الذي هم عليه لعبا ولهوا كما في فعلهم بالأنعام من تلك الجهالات والضلالات المتقدم ذكرها ؛ وقيل : المراد بالدين هنا : العيد : أي اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا ، وجملة (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) معطوفة على (اتَّخَذُوا) أي : غرّتهم حتى آثروها على الآخرة وأنكروا البعث وقالوا : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٢). وقوله : (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) الضمير في (بِهِ) للقرآن أو للحساب. والإبسال : تسليم المرء للهلاك ، ومنه أبسلت ولدي : أي رهنته في الدم ، لأن عاقبة ذلك الهلاك. قال النابغة :

ونحن رهنّا بالإفاقة عامرا

بما كان في الدّرداء رهنا فأبسلا

أي فهلك ، والدرداء : كتيبة كانت لهم معروفة بهذا الاسم ، فالمعنى : وذكر به خشية أو مخافة أو كراهة أن تهلك نفس بما كسبت : أي ترتهن وتسلم للهلكة ، وأصل الإبسال : المنع ، ومنه شجاع باسل : أي ممتنع من قرنه. قوله : (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) العدل هنا : الفدية. والمعنى : وإن بذلت تلك النفس التي سلمت للهلاك كل فدية لا يؤخذ منها ذلك العدل حتى تنجو به من الهلاك ، وفاعل (يُؤْخَذْ) ضمير يرجع إلى العدل ، لأنه بمعنى المفدى به كما في قوله : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) وقيل : فاعله منها ، لأن العدل هنا مصدر لا يسند إليه الفعل ، وكل عدل : منصوب على المصدر : أي عدلا كل عدل ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى المتخذين دينهم لعبا ولهوا ، وخبره (الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) أي هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا هم الذين سلموا للهلاك بما كسبوا ، و (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) جواب سؤال مقدّر

__________________

(١). النساء : ١٤٠.

(٢). المؤمنون : ٣٧.

١٤٧

كأنه قيل : كيف حال هؤلاء؟ فقيل : لهم شراب من حميم ، وهو الماء الحارّ ، ومثله قوله تعالى : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) (١) وهو هنا شراب يشربونه فيقطع أمعاءهم. قوله : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) أمره الله سبحانه بأن يقول لهم هذه المقالة ، والاستفهام : للتوبيخ أي كيف ندعو من دون الله أصناما لا تنفعنا بوجه من وجوه النفع إن أردنا منها نفعا ولا نخشى ضرّها بوجه من الوجوه ، ومن كان هكذا فلا يستحق العبادة (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) عطف على (نَدْعُوا). والأعقاب : جمع عقب ، أي كيف ندعو من كان كذلك ونرجع إلى الضلالة التي أخرجنا الله منها؟ قال أبو عبيدة : يقال لمن ردّ عن حاجته ولم يظفر بها قد ردّ على عقبيه. وقال المبرّد : تعقب بالشرّ بعد الخير. وأصله من المعاقبة والعقبى ، وهما ما كان تاليا للشيء واجبا أن يتبعه ، ومنه : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٢) ، ومنه : عقب الرجل ، ومنه : العقوبة ، لأنها تالية للذنب. قوله : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) هوى يهوي إلى الشيء : أسرع إليه. وقال الزجاج : هو من هوى النفس ، أي زين له الشيطان هواه ، و (اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) هوت به ، والكاف في (كَالَّذِي) إما نعت مصدر محذوف : أي نردّ على أعقابنا ردّا كالذي ، أو في محل نصب على الحال من فاعل نردّ : أي نردّ حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين ، أي ذهبت به مردة الجنّ بعد أن كان بين الإنس. قرأ الجمهور (اسْتَهْوَتْهُ) وقرأ حمزة استهواه على تذكير الجمع. وقرأ ابن مسعود والحسن استهواه الشيطان وهو كذلك في قراءة أبيّ ، و (حَيْرانَ) حال : أي حال كونه متحيّرا تائها لا يدري كيف يصنع؟ والحيران هو الذي لا يهتدي لجهة ، وقد حار يحار حيرة وحيرورة : إذا تردّد ، وبه سمي الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائرا. قوله (لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) صفة لحيران ، أو حالية ، أي له رفقة يدعونه إلى الهدى يقولون له ائتنا فلا يجيبهم ولا يهتدي بهديهم. قوله : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أمره الله سبحانه بأن يقول لهم : (إِنَّ هُدَى اللهِ) أي دينه الذي ارتضاه لعباده (هُوَ الْهُدى) وما عداه باطل (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (٣) (وَأُمِرْنا) معطوف على الجملة الاسمية : أي من جملة ما أمره الله بأن يقوله ، واللام في (لِنُسْلِمَ) هي لام العلة ، والمعلل هو الأمر ، أي أمرنا لأجل أن نسلم لربّ العالمين. وقال الفراء : المعنى أمرنا بأن نسلم لأن العرب تقول أمرتك لتذهب ، وبأن تذهب ، بمعنى. وقال النحاس : سمعت ابن كيسان يقول : هي لام الخفض. قوله : (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) معطوف على (لِنُسْلِمَ) على معنى : وأمرنا أن نسلم ، وأن أقيموا ، ويجوز أن يكون عطفا على يدعونه على المعنى : أي يدعونه إلى الهدى ويدعونه أن أقيموا (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فكيف تخالفون أمره (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) خلقا (بِالْحَقِ) أو حال كون الخلق بالحق فكيف تعبدون الأصنام المخلوقة؟ قوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) أي واذكر يوم يقول كن فيكون أو واتقوا يوم يقول كن فيكون ؛ وقيل : هو عطف على الهاء في (وَاتَّقُوهُ) وقيل : إن (يَوْمَ) ظرف لمضمون جملة (قَوْلُهُ الْحَقُ) والمعنى : وأمره المتعلق بالأشياء ، الحق : أي المشهود له بأنه حق ؛ وقيل : قوله مبتدأ ، والحق صفة له (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) خبره مقدّما عليه ، والمعنى : قوله المتصف بالحق كائن يوم يقول :

__________________

(١). الحج : ١٦.

(٢). القصص : ٨٣.

(٣). آل عمران : ٨٥.

١٤٨

كن فيكون ؛ وقيل : إن قوله مرتفع بيكون ، والحق صفته : أي يوم يقول : كن يكون قوله الحق. وقرأ ابن عامر (فَنَكُونَ) بالنون ، وهو إشارة إلى سرعة الحساب. وقرأ الباقون بالياء التحتية وهو الصواب. قوله : (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) الظرف منصوب بما قبله : أي له الملك في هذا اليوم ؛ وقيل : هو بدل من اليوم الأوّل ، والصور قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء ، والثانية للإنشاء ، وكذا قال الجوهري : إن الصور : القرن ، قال الرّاجز :

لقد نطحناهم غداة الجمعين

نطحا شديدا لا كنطح الصّورين

والصّور بضم الصاد وبكسرها لغة ، وحكي عن عمرو بن عبيد أنه قرأ (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) بتحريك الواو ، جمع صورة ، والمراد : الخلق. قال أبو عبيدة : وهذا وإن كان محتملا يردّ بما في الكتاب والسنة. وقال الفراء : كن فيكون ، يقال إنه للصور خاصة : أي ويوم يقول للصور كن فيكون. قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) رفع عالم على أنه صفة للذي خلق السموات والأرض ، ويجوز أن يرتفع على إضمار مبتدأ : أي هو عالم الغيب والشهادة ، وروي عن بعضهم أنه قرأ (يُنْفَخُ) بالبناء للفاعل ، فيجوز على هذه القراءة أن يكون الفاعل (عالِمُ الْغَيْبِ) ويجوز أن يرتفع بفعل مقدّر كما أنشد سيبويه :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطّوائح

أي يبكيه مختبط. وقرأ الحسن والأعمش عالم بالخفض على البدل من الهاء في (لَهُ الْمُلْكُ وَهُوَ الْحَكِيمُ) في جميع ما يصدر عنه (الْخَبِيرُ) بكل شيء.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في قوله : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) يقول : كذبت قريش بالقرآن (وَهُوَ الْحَقُ) وأما الوكيل : فالحفيظ ، وأما (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) فكان نبأ القوم استقرّ يوم بدر بما كان يعدهم من العذاب. وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله : (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) قال : نسخ هذه الآية آية السيف : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) يقول : حقيقة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال في قوله : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) قال : حبست عقوبتها حتى عمل ذنبها أرسلت عقوبتها. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) قال : فعل وحقيقة ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ونحو هذا في القرآن قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) قال : يستهزئون بها ، نهى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١). التوبة : ٥.

١٤٩

أن يقعد معهم إلا أن ينسى ، فإذا ذكر فليقم ، وذلك قول الله (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن سيرين أنه كان يرى أن هذه الآية نزلت في أهل الأهواء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر قال : لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن علي قال : إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله. وأخرج أبو الشيخ عن مقاتل قال : كان المشركون بمكّة إذا سمعوا القرآن من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاضوا واستهزءوا ، فقال المسلمون : لا تصلح لنا مجالستهم نخاف أن نخرج حين نسمع قولهم ونجالسهم فلا نعيب عليهم ، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج أبو الشيخ أيضا عن السديّ أنه قال : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف. وأخرج النحاس عن ابن عباس في قوله : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قال : نسخت هذه الآية المكية بالآية المدنية ، وهي قوله : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها) (١) الآية. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن مجاهد (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) إن قعدوا ، ولكن لا يقعدوا. وأخرج ابن أبي شيبة عن هشام بن عروة عن عمر بن عبد العزيز أنه أتى بقوم قعدوا على شراب معهم رجل صائم فضربه وقال : لا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) قال : هو مثل قوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) يعني : أنه للتهديد. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه عن قتادة في هذه الآية قال : نسختها آية السيف. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : (لَعِباً وَلَهْواً) قال : أكلا وشربا. وأخرج ابن جرير والمنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَنْ تُبْسَلَ) قال : أن تفضح ، وفي قوله : (أُبْسِلُوا) قال : فضحوا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : (أَنْ تُبْسَلَ) قال : تسلم ، وفي قوله : (أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) قال : أسلموا بجرائرهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) قال : هذا مثل ضربه الله للآلهة وللدعاة الذين يدعون إلى الله. وقوله : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) يقول : أضلّته ، وهم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجدّه فيتبعها ويرى أنه في شيء فيصبح وقد ألقته في هلكة ، وربما أكلته أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشا ، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) قال : هو الرجل لا يستجيب لهدي الله ، وهو الرجل أطاع الشيطان ، وعمل في الأرض بالمعصية ، وحاد عن الحق ، وضلّ عنه ، و (لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى ، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس ، يقول : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) والضّلالة ما تدعو إليه الجن. وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسّنه والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن عبد الله بن عمرو قال : «سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصور فقال : ينفخ فيه». والأحاديث الواردة في كيفية

__________________

(١). النساء : ١٤٠.

١٥٠

النفخ ثابتة في كتب الحديث لا حاجة لنا إلى إيرادها هاهنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعني أنّ عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣))

قوله : (لِأَبِيهِ آزَرَ) قال الجوهري : آزر اسم أعجمي ، وهو مشتق من آزر فلان فلانا إذا عاونه ، فهو مؤازر قومه على عبادة الأصنام. وقال ابن فارس : إنه مشتق من القوّة. قال الجويني في النكت من التفسير له : ليس بين الناس اختلاف في أن اسم والد إبراهيم تارخ ، والذي في القرآن يدل على أنّ اسمه آزر. وقد تعقّب في دعوى الاتفاق بما روي عن ابن إسحاق والضحّاك والكلبي أنه كان له اسمان : آزر وتارخ. وقال مقاتل : آزر : لقب ، وتارخ : اسم ، وقال سليمان التيمي : إنّ آزر سبّ وعتب ، ومعناه في كلامهم المعوجّ. وقال الضحّاك : معنى آزر : الشيخ الهمّ (١) بالفارسية. وقال الفرّاء : هي صفة ذم بلغتهم كأنه قال : يا مخطئ. وروي مثله عن الزجّاج. وقال مجاهد : هو اسم صنم. وعلى هذا إطلاق اسم الصّنم على أبيه إما للتعبير له لكونه معبوده ، أو على حذف مضاف : أي قال لأبيه عابد آزر ، أو : أتعبد آزر؟ على حذف الفعل. وقرأ ابن عباس «أإزر» بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة ، وروي عنه أنه قرأ بهمزتين مفتوحتين ، ومحل (إِذْ قالَ) النصب على تقدير واذكر إذ قال إبراهيم ، ويكون هذا المقدر معطوفا على (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) وقيل : وهو معطوف على (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ) وآزر عطف بيان. قوله : (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) الاستفهام للإنكار ، أي أتجعلها آلهة لك تعبدها (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ) المتبعين لك في عبادة الأصنام (فِي ضَلالٍ) عن طريق الحق (مُبِينٍ) واضح (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) أي ومثل تلك الإراءة

__________________

(١). الهمّ : الفاني.

١٥١

نري إبراهيم ، والجملة معترضة ، و (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكهما ، وزيدت التاء والواو للمبالغة في الصّفة ، ومثله الرغبوت والرهبوت مبالغة في الرغبة والرهبة. قيل : أراد بملكوت السّموات والأرض ما فيهما من الخلق ؛ وقيل : كشف الله له عن ذلك حتى رأى إلى العرش وإلى أسفل الأرضين ؛ وقيل : رأى من ملكوت السموات والأرض ما قصه الله في هذه الآية ؛ وقيل : المراد بملكوتهما الربوبية والإلهية ، أي نريه ذلك ، ونوفقه لمعرفته بطريق الاستدلال التي سلكها ؛ ومعنى (نُرِي) أريناه ، حكاية حال ماضية. قوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) متعلق بمقدّر : أي أريناه ذلك (لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) وقد كان آزر وقومه يعبدون الأصنام والكواكب والشمس والقمر ، فأراد أن ينبههم على الخطأ ؛ وقيل : إنه ولد في سرب ، وجعل رزقه في أطراف أصابعه ؛ فكان يمصها. وسبب جعله في السرب أن النمروذ رأى رؤيا أنّ ملكه يذهب على يد مولود ؛ فأمر بقتل كل مولود ، والله أعلم. قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أي ستره بظلمته ، ومنه الجنة والمجنّ والجنّ كلّه من الستر ، قال الشاعر :

ولو لا جنان اللّيل أدرك ركضنا

بذي الرّمث والأرطى عياض بن ناشب

والفاء للعطف على (قالَ إِبْراهِيمُ) : أي واذكر إذ قال وإذ جنّ عليه ، الليل فهو قصة أخرى غير قصة عرض الملكوت عليه ، وجواب لما (رَأى كَوْكَباً) قيل : رآه من شقّ الصّخرة الموضوعة على رأس السرب الذي كان فيه ؛ وقيل : رآه لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس ؛ قيل : رأى المشتري وقيل : الزهرة. قوله : (هذا رَبِّي) جملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل : فما ذا قال عند رؤية الكوكب؟ قيل : وكان هذا منه عند قصور النظر لأنه في زمن الطفولية ؛ وقيل : أراد قيام الحجّة على قومه كالحاكي لما هو عندهم وما يعتقدونه لأجل إلزامهم ، وبالثاني قال الزجاج ؛ وقيل : هو على حذف حرف الاستفهام : أي أهذا ربي؟ ومعناه إنكار أن يكون مثل هذا ربا ، ومثله قوله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (١) أي أفهم الخالدون ، ومثله قول الهذلي :

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع

فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

أي أهم هم ، وقول الآخر (٢) :

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمان

أي أبسبع ، وقيل المعنى : وأنتم تقولون هذا ربي فأضمر القول ؛ وقيل : المعنى على حذف مضاف : أي هذا دليل ربي (فَلَمَّا أَفَلَ) أي غرب (قالَ) إبراهيم (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي الآلهة التي تغرب ، فإن الغروب تغير من حال إلى حال ، وهو دليل الحدوث (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) أي طالعا ، يقال : بزغ القمر : إذا ابتدأ في الطلوع ، والبزغ : الشق كان يشق بنوره الظلمة (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي)

__________________

(١). الأنبياء : ٣٤.

(٢). هو عمر بن أبي ربيعة.

١٥٢

أي لئن لم يثبتني على الهداية ويوفقني للحجة (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) الذين لا يهتدون للحق فيظلمون أنفسهم ويحرمونها حظّها من الخير (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) بازغا وبازغة منصوبان على الحال ، لأن الرؤية بصرية ، وإنما (قالَ هذا رَبِّي) مع كون الشمس مؤنثة ، لأن مراده هذا الطالع ، قاله الكسائي والأخفش ، وقيل : هذا الضوء ؛ وقيل : الشخص ، (هذا أَكْبَرُ) أي مما تقدّمه من الكوكب والقمر (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي من الأشياء التي تجعلونها شركاء لله وتعبدونها ، وما موصولة أو مصدرية ، قال بهذا لما ظهر له أن هذه الأشياء مخلوقة لا تنفع ولا تضرّ مستدلا على ذلك بأفولها الذي هو دليل حدوثها (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي قصدت بعبادتي وتوحيدي الله عزوجل ؛ وذكر الوجه لأنه العضو الذي يعرف به الشخص ، أو لأنه يطلق على الشخص كله كما تقدّم ، وقد تقدّم معنى (فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) مائلا إلى الدين الحق. قوله : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أي وقعت منهم المحاجة له في التوحيد بما يدلّ على ما يدّعونه من أن ما يشركون به ويعبدونه من الأصنام آلهة ، فأجاب إبراهيم عليه‌السلام بما حكاه الله عنه أنه قال : (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) أي في كونه لا شريك له ولا ندّ ولا ضدّ. وقرأ نافع بتخفيف نون أتحاجوني. وقرأ الباقون بتشديدها بإدغام نون الجمع في نون الوقاية ونافع خفف فحذف إحدى النونين ، وقد أجاز ذلك سيبويه. وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أن قراءة نافع لحن ، وجملة (وَقَدْ هَدانِ) في محل نصب على الحال ؛ أي هداني إلى توحيده وأنتم تريدون أن أكون مثلكم في الضلالة والجهالة وعدم الهداية. قوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) قال هذا لما خوّفوه من آلهتهم بأنها ستغضب عليه وتصيبه بمكروه ، أي إني لا أخاف ما هو مخلوق من مخلوقات الله لا يضر ولا ينفع ، والضمير في به يجوز رجوعه إلى الله وإلى معبوداتهم المدلول عليها بما في (ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) أي إلا وقت مشيئة ربي بأن يلحقني شيئا من الضرر بذنب عملته فالأمر إليه ، وذلك منه لا من معبوداتكم الباطلة التي لا تضرّ ولا تنفع. والمعنى : على نفي حصول ضرر من معبوداتهم على كل حال ، وإثبات الضرر والنفع لله سبحانه وصدورهما حسب مشيئته ، ثم علل ذلك بقوله : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي إنّ علمه محيط بكلّ شيء ، فإذا شاء الخير كان حسب مشيئته ، وإذا شاء إنزال شرّ بي كان ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، ثم قال لهم مكملا للحجة عليهم ودافعا لما خوّفوه به (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أي كيف أخاف ما لا يضرّ ولا ينفع ولا يخلق ولا يرزق ، والحال أنكم لا تخافون ما صدر منكم من الشرك بالله ، وهو الضارّ النافع الخالق الرازق ، أورد عليهم هذا الكلام الإلزامي الذي لا يجدون عنه مخلصا ولا متحوّلا ، والاستفهام للإنكار عليهم والتقريع ، و (ما) في (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) : مفعول أشركتم ، أي ولا تخافون أنكم جعلتم الأشياء التي لم ينزل بها عليكم سلطانا شركاء لله ، أو : المعنى أن الله سبحانه لم يأذن بجعلها شركاء له ولا نزل عليهم بإشراكها حجة يحتجون بها ، فكيف عبدوها واتخذوها آلهة وجعلوها شركاء لله سبحانه؟ قوله : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) المراد بالفريقين فريق المؤمنين وفريق المشركين : أي إذا كان الأمر على ما تقدم من أن معبودي هو الله المتصف بتلك الصفات ،

١٥٣

ومعبودكم هي تلك المخلوقات ، فكيف تخوّفوني بها؟ وكيف أخافها وهي بهذه المنزلة ولا تخافون من إشراككم بالله سبحانه؟ وبعد هذا فأخبروني : أيّ الفريقين أحقّ بالأمن وعدم الخوف (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بحقيقة الحال وتعرفون البراهين الصحيحة وتميزونها عن الشّبه الباطلة؟ ثم قال الله سبحانه قاضيا بينهم ومبينا لهم : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) أي هم الأحق بالأمن من الذين أشركوا ، وقيل : هو من تمام قول إبراهيم ؛ وقيل : هو من قول قوم إبراهيم. ومعنى (لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) لم يخلطوه بظلم. والمراد بالظلم : الشرك ، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : أيّنا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس هو كما تظنّون ، إنما هو كما قال لقمان : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١)» ، والعجب من صاحب الكشاف حيث يقول في تفسير هذه الآية : وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس. وهو لا يدري أن الصادق المصدوق قد فسرها بهذا ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل (٢) ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى الموصول المتصف بما سبق ، و (لَهُمُ الْأَمْنُ) جملة وقعت خبرا عن اسم الإشارة ، هذا أوضح ما قيل مع احتمال غيره من الوجوه (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلى الحق ثابتون عليه ، وغيرهم على ضلال وجهل ، والإشارة بقوله : (تِلْكَ حُجَّتُنا) إلى ما تقدّم من الحجج التي أوردها إبراهيم عليهم : أي تلك البراهين التي أوردها إبراهيم عليهم من قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) إلى قوله : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ. وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أي أعطيناه إياها وأرشدناه إليها ، وجملة (آتَيْناها إِبْراهِيمَ) في محل نصب على الحال ، أو في محل رفع على أنها خبر ثان لاسم الإشارة (عَلى قَوْمِهِ) أي حجة على قومه (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالهداية والإرشاد إلى الحق وتلقين الحجة ، أو بما هو أعم من ذلك (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي حكيم في كل ما يصدر عنه عليم بحال عباده ، وأن منهم من يستحقّ الرفع ومنهم من لا يستحقّه.

وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) قال : الآزر الصنم وأبو إبراهيم اسمه : يازر وأمه اسمها : مثلي وامرأته اسمها : سارة ، وسريته أم إسماعيل اسمها : هاجر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : آزر لم يكن بأبيه ولكنه اسم صنم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : اسم أبيه تارخ واسم الصنم : آزر. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سليمان التيمي ، أنه قرأ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) قال : بلغني : أنها أعوج ، وأنها أشدّ كلمة قالها إبراهيم لأبيه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : إنّ والد إبراهيم لم يكن اسمه آزر ، وإنما اسمه تارخ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال : الشمس والقمر والنجوم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال

__________________

(١). لقمان : ١٣.

(٢). هذا مثل يضرب في الاستغناء عن الأشياء الصغيرة إذا وجد ما هو أكبر منها وأعظم نفعا (الأمثال اليمانية ١ / ٩٥)

١٥٤

في الآية : كشف ما بين السموات حتى نظر إليهنّ على صخرة ، والصخرة على حوت ، وهو الحوت الذي منه طعام الناس ، والحوت في سلسلة ، والسلسلة في خاتم العزّة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في الآية : قال : سلطانهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) يقول : خاصموه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَتُحاجُّونِّي) قال : أتخاصموني. وأخرج ابن أبي شيبة والحكيم الترمذي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي بكر الصديق أنه فسر (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) بالشرك ، وكذلك أخرج أبو الشيخ عن عمر بن الخطاب ، وكذلك أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن حذيفة بن اليمان ، وكذلك أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سلمان الفارسي ، وكذلك أخرجا أيضا عن أبيّ بن كعب ، وكذلك أخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس. وأخرج عنه من طريق أخرى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ مثله ، وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ذلك ، ويغني عن الجميع ما قدّمنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير الآية كما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) قال : خصمهم. وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم في قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) قال : بالعلم. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال : إن للعلماء درجات كدرجات الشهداء.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠))

قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ) معطوف على جملة (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) عطف جملة فعلية على جملة اسمية وقيل : معطوف على آتيناها ، والأوّل أولى. والمعنى : ووهبنا ذلك جزاء له على الاحتجاج في الدين وبذل النفس فيه ، و (كُلًّا هَدَيْنا) انتصاب (كُلًّا) على أنه مفعول لما بعده مقدّم عليه للقصر : أي كلّ واحد منهما هديناه ، وكذلك نوحا منصوب بهدينا الثاني أو بفعل مضمر يفسره ما بعده (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي من ذرية إبراهيم ، وقال الفراء : من ذرية نوح. واختاره ابن جرير الطبري والقشيري وابن عطية ، واختار الأوّل الزّجّاج ، واعترض عليه بأنه عدّ من هذه الذّرية يونس ولوطا وما كانا من ذرية إبراهيم ، فإن لوطا هو ابن أخي إبراهيم ، وانتصب (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) بفعل مضمر أي وهدينا من ذريته داود وسليمان ، وكذلك

١٥٥

ما بعدهما ، وإنما عدّ الله سبحانه هداية هؤلاء الأنبياء من النعم التي عدّدها على إبراهيم ، لأن شرف الأبناء متصل بالآباء. ومعنى : (مِنْ قَبْلُ) في قوله : (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل إبراهيم ، والإشارة بقوله : (وَكَذلِكَ) إلى مصدر الفعل المتأخر : أي ومثل ذلك الجزاء (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). (وَإِلْياسَ) قال الضحّاك : هو من ولد إسماعيل ، وقال القتبي : هو من سبط يوشع بن نون. وقرأ الأعوج والحسن وقتادة (وَإِلْياسَ) بوصل الهمزة. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم (وَالْيَسَعَ) مخففا. وقرأ الكوفيون إلا عاصما بلامين. وكذا قرأ الكسائي ورد القراءة الأولى ، ولا وجه للردّ فهو اسم أعجمي ، والعجمة لا تؤخذ بالقياس بل تؤدّى على حسب السّماع ، ولا يمتنع أن يكون في الاسم لغتان للعجم ، أو تغيره العرب تغييرين. قال المهدوي : من قرأ بلام واحدة فالاسم يسع والألف واللام مزيدتان ، كما في قول الشاعر :

رأيت اليزيد بن الوليد مباركا

شديدا بأعباء الخلافة كاهله

ومن قرأ بلامين فالاسم ليسع ، وقد توهم قوم أن اليسع هو إلياس وهو وهم ، فإن الله أفرد كلّ واحد منهما ، وقال وهب : اليسع صاحب إلياس ، وكانوا قبل يحيى وعيسى وزكريا ؛ وقيل : إلياس هو إدريس ، وهذا غير صحيح لأنّ إدريس جدّ نوح وإلياس من ذريته ؛ وقيل : إلياس هو الخضر ؛ وقيل : لا ، بل اليسع هو الخضر (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) أي كل واحد فضلناه بالنبوّة على عالمي زمانه ، والجملة معترضة. قوله : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) أي هدينا ، (وَمِنْ) للتبعيض : أي هدينا بعض آبائهم وذرياتهم وأزواجهم (وَاجْتَبَيْناهُمْ) معطوف على فضلنا ، والاجتباء الاصطفاء أو التخليص أو الاختيار ، مشتق من جبيت الماء في الحوض جمعته ، فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصيتك. قال الكسائي : جبيت الماء في الحوض جبى مقصور ، والجابية الحوض ، قال الشاعر :

كجابية الشّيخ العراقيّ تفهق (١)

والإشارة بقوله : (ذلِكَ هُدَى اللهِ) إلى الهداية والتّفضيل والاجتباء المفهومة من الأفعال السابقة (يَهْدِي بِهِ) الله (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم الذين وفقهم للخير واتباع الحق (وَلَوْ أَشْرَكُوا) أي هؤلاء المذكورون بعبادة غير الله (لَحَبِطَ عَنْهُمْ) من حسناتهم (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) والحبوط البطلان. وقد تقدّم تحقيقه في البقرة ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى الأنبياء المذكورين سابقا : أي جنس الكتاب ليصدق على كل ما أنزل على هؤلاء المذكورين (وَالْحُكْمَ) العلم (وَالنُّبُوَّةَ) الرسالة أو ما هو أعمّ من ذلك (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) الضمير في بها : للحكم والنبوّة والكتاب ، أو للنبوّة فقط ، والإشارة بهؤلاء إلى كفّار قريش المعاندين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً) هذا جواب الشرط ، أي ألزمنا بالإيمان بها قوما (لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) وهم المهاجرون والأنصار ، أو الأنبياء المذكورون

__________________

(١). وصدره : نفى الذم عن آل المحلق جفنة. والبيت للأعشى.

١٥٦

سابقا ، وهذا أولى لقوله فيما بعد (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فإنّ الإشارة إلى الأنبياء المذكورين لا إلى المهاجرين والأنصار إذ لا يصحّ أن يؤمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء بهداهم ، وتقديم بهداهم على الفعل يفيد تخصيص هداهم بالاقتداء : والاقتداء : طلب موافقة الغير في فعله. وقيل المعنى : اصبر كما صبروا ؛ وقيل : اقتد بهم في التوحيد ، وإن كانت جزئيات الشرائع مختلفة ، وفيها دلالة على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بالاقتداء بمن قبله من الأنبياء فيما لم يرد عليه فيه نصّ. قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أمره الله بأن يخبرهم بأنه لا يسألهم أجرا على القرآن ، وأن يقول لهم : ما (هُوَ إِلَّا ذِكْرى) يعني القرآن (لِلْعالَمِينَ) أي موعظة وتذكير للخلق كافة الموجودين عند نزوله ومن سيوجد من بعد.

وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب قال : الخال والد والعم والد ، نسب الله عيسى إلى أخواله فقال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) حتى بلغ إلى قوله : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى). وأخرج أبو الشيخ والحاكم والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال : دخل يحيى بن يعمر على الحجّاج فذكر الحسين ، فقال الحجّاج : لم يكن من ذرية النبي ، فقال يحيى : كذبت ، فقال : لتأتيني على ما قلت ببينة ، فتلا (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) إلى قوله : (وَعِيسى) فأخبر الله أن عيسى من ذرية آدم بأمه ، فقال : صدقت. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حرب بن أبي الأسود قال : أرسل الحجّاج إلى يحيى بن يعمر فقال : بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي ، تجده في كتاب الله ، وقد قرأته من أوّله إلى آخره فلم أجده؟ فذكر يحيى بن يعمر نحو ما تقدّم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَاجْتَبَيْناهُمْ) قال : أخلصناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) قال : يريد هؤلاء الذين هديناهم وفعلنا بهم. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال : الحكم : اللب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) يعني أهل مكة ، يقول : إن يكفروا بالقرآن (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) يعني : أهل المدينة والأنصار. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً) قال : هم الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله فيهم : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ). وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي رجاء العطاردي قال في الآية : هم الملائكة. وأخرج البخاري والنسائي وغيرهما عن ابن عباس في قوله : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتدي بهداهم وكان يسجد في ص ، ولفظ ابن أبي حاتم عن مجاهد : سألت ابن عباس عن السجدة التي في ص ، فقال هذه الآية (١) ، وقال : أمر نبيكم أن يقتدى بداود عليه‌السلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) قال : قل لهم يا محمد لا أسألكم على ما أدعوكم إليه عرضا من عروض الدنيا.

__________________

(١). آية السجدة في سورة ص هي (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) [سورة ص : ٢٤].

١٥٧

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤))

قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) قدرت الشيء وقدّرته عرفت مقداره ، وأصله : الستر ، ثم استعمل في معرفة الشيء ، أي لم يعرفوه حق معرفته حيث أنكروا إرساله للرسل وإنزاله للكتب. وقيل المعنى : وما قدروا نعم الله حق تقديرها. وقرأ أبو حيوة : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) بفتح الدال : وهي لغة ، ولما وقع منهم هذا الإنكار وهم من اليهود أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يورد عليهم حجّة لا يطيقون دفعها ، فقال : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) وهم يعترفون بذلك ويذعنون له ، فكان في هذا من التبكيت لهم ، والتقريع ما لا يقادر قدره ، مع إلجائهم إلى الاعتراف بما أنكروه من وقوع إنزال الله (١) على البشر وهم الأنبياء عليهم‌السلام ، فبطل جحدهم وتبيّن فساد إنكارهم ؛ وقيل : إن القائلين بهذه المقالة هم كفار قريش ، فيكون إلزامهم بإنزال الله الكتاب على موسى من جهة أنهم يعترفون بذلك ويعلمونه بالأخبار من اليهود ، وقد كانوا يصدقونهم و (نُوراً وَهُدىً) منتصبان على الحال و (لِلنَّاسِ) متعلّق بمحذوف هو صفة لهدى : أي كائنا للناس. قوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) أي تجعلون الكتاب الذي جاء به موسى في قراطيس تضعونه فيها ليتمّ لكم ما تريدونه من التحريف والتبديل وكتم صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المذكورة فيه ، وهذا ذمّ لهم ، والضمير في (تُبْدُونَها) راجع إلى القراطيس ، وفي (تَجْعَلُونَهُ) راجع إلى الكتاب ، وجملة تجعلونه في محل نصب على الحال ، وجملة تبدونها صفة لقراطيس (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) معطوف على (تُبْدُونَها) : أي وتخفون كثيرا منها ، والخطاب في (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) لليهود ، أي والحال أنكم قد علمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة استئنافية مقرّرة لما قبلها ، والذي علموه هو الذي أخبرهم به نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأمور التي أوحى الله إليه بها ، فإنها اشتملت على ما لم يعلموه من كتبهم ولا على لسان أنبيائهم ولا علمه آباؤهم ، ويجوز أن يكون ما في (ما لَمْ تَعْلَمُوا) عبارة عما علموه من التوراة ، فيكون ذلك على وجه المنّ عليهم بإنزال التوراة ؛ وقيل : الخطاب للمشركين من قريش وغيرهم ، فتكون (ما)

__________________

(١). أي إنزال الكتب السماوية على الأنبياء الذين هم من البشر.

١٥٨

عبارة عما علموه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أمر الله رسوله بأن يجيب عن ذلك الإلزام الذي ألزمهم به حيث قال : (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) فقال : (قُلِ اللهُ) أي أنزله الله (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أي ذرهم في باطلهم حال كونهم يلعبون ، أي يصنعون صنع الصبيان الذين يلعبون. قوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) هذا من جملة الرد عليهم في قولهم : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) أخبرهم بأن الله أنزل التوراة على موسى ، وعقبه بقوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) يعني على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف تقولون : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) ومبارك ومصدق : صفتان لكتاب ، والمبارك : كثير البركة ، والمصدق : كثير التصديق ، والذي بين يديه : ما أنزله الله من الكتب على الأنبياء من قبله كالتوراة والإنجيل ، فإنه يوافقها في الدعوة إلى الله وإلى توحيده وإن خالفها في بعض الأحكام. قوله : (وَلِتُنْذِرَ) قيل : هو معطوف على ما دل عليه مبارك ، كأنه قيل : أنزلناه للبركات ولتنذر ، وخص أم القرى وهي مكة لكونها أعظم القرى شأنا ، ولكونها أوّل بيت وضع للناس ، ولكونها قبلة هذه الأمة ومحلّ حجهم ، فالإنذار لأهلها مستتبع لإنذار سائر أهل الأرض والمراد بمن حولها جميع أهل الأرض ، والمراد بأنذر أمّ القرى : إنذار أهلها وأهل سائر الأرض فهو على تقدير مضاف محذوف كسؤال القرية (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) مبتدأ ، و (يُؤْمِنُونَ بِهِ) خبره ، والمعنى : أن من حقّ من صدق بالدار الآخرة أن يؤمن بهذا الكتاب ويصدقه ويعمل بما فيه ، لأن التصديق بالآخرة يوجب قبول من دعا الناس إلى ما ينال به خيرها ويندفع به ضرّها ، وجملة (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) في محل نصب على الحال ، وخص المحافظة على الصلاة من بين سائر الواجبات لكونها عمادها وبمنزلة الرأس لها. قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) هذه الجملة مقررة لمضمون ما تقدّم من الاحتجاج عليهم بأن الله أنزل الكتب على رسله : أي كيف تقولون : ما أنزل الله على بشر من شيء ، وذلك يستلزم تكذيب الأنبياء عليهم‌السلام ، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا فزعم أنه نبيّ وليس بنبيّ ، أو كذب على الله في شيء من الأشياء (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) أي والحال أنه لم يوح إليه شيء ، وقد صان الله أنبياءه عما تزعمون عليهم ، وإنما هذا شأن الكذّابين رؤوس الإضلال كمسيلمة الكذّاب والأسود العنسيّ وسجاح. وقوله : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) معطوف على (مِمَّنِ افْتَرى) أي ومن أظلم ممن افترى أو ممن قال : أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ، أو ممن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ، وهم القائلون : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) وقيل : هو عبد الله بن أبي سرح ، فإنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأملى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) فقال عبد الله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هكذا أنزلت» فشكّ عبد الله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ، ثم ارتدّ عن الإسلام ولحق بالمشركين ، ثم أسلم يوم الفتح كما هو معروف. قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يصلح له ، والمراد كلّ ظالم ، ويدخل فيه الجاحدون لما أنزل الله ، والمدّعون للنبوات افتراء على الله دخولا أوّليا ، وجواب لو : محذوف ، أي لرأيت أمرا عظيما ، والغمرات : جمع غمرة ، وهي الشدّة ، وأصلها الشيء

١٥٩

الذي يغمر الأشياء فيغطيها ، ومنه غمرة الماء ، ثم استعملت في الشدائد ، ومنه غمرة الحرب. قال الجوهري : والغمرة : الشدّة والجمع غمر ؛ مثل نوبة ونوب ، وجملة (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) في محل نصب : أي والحال أن الملائكة باسطو أيديهم لقبض أرواح الكفار ؛ وقيل : للعذاب ، وفي أيديهم مطارق الحديد ، ومثله قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (١). قوله : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي قائلين لهم : أخرجوا أنفسكم من هذه الغمرات التي وقعتم فيها ، أو أخرجوا أنفسكم من أيدينا وخلصوها من العذاب ، أو أخرجوا أنفسكم من أجسادكم وسلموها إلينا لنقبضها (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي اليوم الذي تقبض فيه أرواحكم ، أو أرادوا باليوم الوقت الذي يعذبون فيه الذي مبدؤه عذاب القبر ، والهون والهوان بمعنى ، أي اليوم تجزون عذاب الهوان الذي تصيرون به في إهانة وذلّة بعد ما كنتم فيه من الكبر والتّعاظم ، والباء في (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) للسببية : أي بسبب قولكم هذا من إنكار إنزال الله كتبه على رسله والإشراك به (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) عن التّصديق لها والعمل بها فكان ما جوزيتم به من عذاب الهون (جَزاءً وِفاقاً). قوله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) قرأ أبو حيوة فرادى بالتنوين ، وهي لغة تميم ، وقرأ الباقون بألف التأنيث للجمع فلم ينصرف. وحكى ثعلب «فراد» بلا تنوين مثل : ثلاث ورباع ، وفرادى جمع فرد كسكارى جمع سكران وكسالى جمع كسلان ، والمعنى : جئتمونا منفردين واحدا واحدا كل واحد منفرد عن أهله وماله وما كان يعبده من دون الله فلم ينتفع بشيء من ذلك (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي على الصفة التي كنتم عليها عند خروجكم من بطون أمهاتكم ، والكاف نعت مصدر محذوف : أي جئتمونا مجيئا مثل مجيئكم عند خلقنا لكم ، أو حال من ضمير فرادى : أي مشابهين ابتداء خلقنا لكم (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أي أعطيناكم ، والخول ما أعطاه الله للإنسان من متاع الدنيا : أي تركتم ذلك خلفكم لم تأتونا بشيء منه ولا انتفعتم به بوجه من الوجوه (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ) عبدتموهم وقلتم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٢) و (زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) لله يستحقّون منكم العبادة كما يستحقها. قوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) قرأ نافع والكسائي وحفص بنصب بينكم على الظرفية ، وفاعل تقطع محذوف ، أي تقطع الوصل بينكم ، أنتم وشركاؤكم كما يدل عليه : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ). وقرأ الباقون بالرفع على إسناد التقطع إلى البين ، أي وقع التقطّع بينكم ، ويجوز أن يكون معنى قراءة النصب معنى قراءة الرفع في إسناد الفعل إلى الظرف ، وإنما نصب لكثرة استعماله ظرفا. وقرأ ابن مسعود لقد تقطع ما بينكم على إسناد الفعل إلى ما ، أي الذي بينكم (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) من الشركاء والشرك ، وحيل بينكم وبينهم.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) قال : هم الكفار لم يؤمنوا بقدرة الله ، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير قد قدر الله حقّ قدره ، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حقّ قدره ، إذ قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء. قالت اليهود : يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟ قال : نعم ، قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا ،

__________________

(١). الأنفال : ٥٠.

(٢). الزمر : ٣.

١٦٠