عون الحنّان في شرح الأمثال في القرآن

الشيخ علي أحمد عبد العال الطهطاوي

عون الحنّان في شرح الأمثال في القرآن

المؤلف:

الشيخ علي أحمد عبد العال الطهطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4571-1
الصفحات: ٢٨٨

وكان الظاهر أن يقدم ما يأكله الإنسان ، إلا أن مرعى الحيوان يكون بنية الحيوان الذى هو غذاء حيوانى للإنسان ، وهو أشرف من الأغذية النباتية ، فبهذا الاعتبار يكون مرعى الحيوان أشرف مما يأكله الإنسان ، فلذلك قدم الأول على الثانى.

ثم إن الغذاء النباتى قسمان : حبوب ، وفاكهة ، فهو تعالى أشار إلى الحبوب بلفظ الزرع ، وإلى الفواكه بقول : (الزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ) ، ولا شك أن الحبوب أشرف فى الغذائية من الفواكه ، وأشرف الفواكه من الزيتون والنخيل والأعناب ، فلذلك خص هذه الفواكه بالذكر ، وأشرف هذه الثلاث هو الزيتون ؛ لأنه فاكهة من وجه ، وإدام من وجه ؛ لكثرة ما فيه من الدهن ، ومنافع الأدهان كثيرة ، حيث تصلح للأكل ، والطلى ، واشتعال السرج ، وأشرف الباقين النخل ، فلذلك قدم الزيتون على النخل ، وقدم النخل على الأعناب ، وكان ختم الآية بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، تنبيها على أنه لا بدّ من مزيد التفكير فيما حوته الآية ، وما اشتملت عليه ، حتى يحصل المقصود تاما كاملا.

وذلك أن أحوال النبات ، وإن كانت دالة على وجود الله تعالى ، إلا أن دلالتها تحتاج إلى تأمل ، فإنه لما ذكر تعالى أنه أنزل من السماء ماء ، فأنبت به الزرع والزيتون ... إلخ ، قد يتوهم أن الاختلاف فى الفصول الأربعة ، وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب هى الموجدة لهذه الأشياء ، فما لم يقم الدليل على فساد هذا الاحتمال ، لا يكون الاستدلال بأحوال النبات وافيا بإفادة المطلوب ، قاطعا للشكوك والريب ، وهذا الختم فى هذه الآية نظير ما ختمت به آية الرعد السابقة : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [الرعد : ٣] ، وقد بينا هناك ما فيه التفكير بالنسبة للحبة التى توضع فى الأرض ، فيخرج أعلاها فى الهواء شجرا يحمل زهورا ، وثمارا ، ويغوص أسفلها عروقا فى الأرض ، لا تحمل زهرا ولا ثمرا ، إلى غير ذلك مما بيناه.

ثم قال تعالى بعد ذلك مباشرة : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل : ١٢] ، فالتسخير مراد به هنا أنه جل جلاله هيأ هذه الأشياء وجعلها على أحوال وصفات وأوضاع ، بحيث ينتفع بها الإنسان ، وتنظيم بها أحواله ، وكان قوله : (مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) إعلاما بأن تأثير هذه الكونيات فى حوادث العالم السفلى ليس مستندا إلى الحركات الفلكية ، وإلا لاحتاجت تلك الحركات إلى أن تستند إلى حركات أخرى ، ولا شك أن الحركات

٦١

الكوكبية لا يمكن استنادها إلى أفلاك وكواكب أخرى ، وإلا لزم الدور أو التسلسل ، وكلاهما محال(١).

ولا يمكن استناد تلك الحركات والأوضاع إلى قوة الأفلاك من حيث إنها أجسام متماثلة فى الجسمية ، فلو كان جسم معين من تلك الأجسام علة لصفة ، ووضع معين فى هذا الجسم ، لكان كل جسم واجب الاتصاف بذلك الوضع والصفة ، ولامتنع اختلاف الصفات والأوضاع ، أى لأن السبب واحد ، وهو الجسمية ، وهو موجود فى الكل ، ولكن الاختلاف فى الصفات والأوضاع موجود لم يمتنع ، فالجسمية ليست هى السبب ، فثبت أن الجسم يمتنع أن يكون متحركا لكونه جسما ، وبقى أن يكون متحركا لغيره ، وذلك الغير إما أن يكون قوة قائمة به ، أو أمرا مباينا له.

والأول باطل كما تقدم بأن يقال : لم اختص ذلك الجسم بعينه بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام ، فتعين أن تكون تلك الحركة مستندة إلى أمر مباين عنه ، وذلك المباين لا يخلو إما أن يكون موجبا بالذات إلى جميع الأجسام على السوية ، فلا يكون بعض الأجسام بقبول بعض الصفات المعينة أولى من بعض ، لكن ثبت أن بعض الأجسام أولى ببعض الصفات من بعض الأجسام الأخرى ، فتعين أن ذلك المباين فاعل مختار ، وأن الحركات الفلكية على تقدير استناد الحوادث السفلية إليها حادثة بتخليق الله تعالى وتقديره وتكوينه جل شأنه. ولما تم هذا الدليل فى هذا المقام ، ختمت الآية بقوله تعالى :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

رابعا : آيات فى مظاهر التدبير الإلهى لأحوال الناس الخاصة :

١ ـ أعمار الناس وآجالهم : ضبط بعض الباحثين أعمار الإنسان فى أربعة مراتب :

المرتبة الأولى : سن الطفولة والنمو ، وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاثة وثلاثين سنة ، وهو غاية سن الشباب وبلوغ الأشد.

المرتبة الثانية : سن الوقوف ، وهو من ثلاثة وثلاثين سنة إلى الأربعين ، وهو غاية القوة وكمال العقل.

__________________

(١) الدور هو توقف معلول على علة توقفت عليه بمرتبة أو بمراتب ، وهو باطل ؛ لأنه يلزم تقدم الشيء على نفسه ، وإن استمرت سلسلة العلل والمعلولات إلى غير نهاية ، فهو التسلسل المحال ببراهين متعددة ذكرها العلماء.

٦٢

المرتبة الثالثة : سن الكهولة ، وهو من الأربعين إلى الستين ، وهذه المرتبة يشرع فيها الإنسان فى النقص ، لكنه نقص خفى قد لا يظهر.

المرتبة الرابعة : سن الشيخوخة والانحطاط الظاهر ، وتمامه عند الأطباء إلى مائة وعشرين سنة.

فهذا الاختلاف فى الجسم الإنسانى بالتزايد ، والنقص ، والانحطاط الخفى والجلى ، مع استواء أحوال التربية والتدبير الكائنين من قبل نفسه ، يدل على أنه بتدبير الفاعل المختار ، قال تعالى فى سورة النحل : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [النحل : ٧٠].

فقوله : (يَتَوَفَّاكُمْ) ، أى بآجال مختلفة ، فلا يقدر الصغير أن يؤخر ، ولا الكبير أن يقدم ، فمنكم من يموت على حال قوته ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ).

وقوله سبحانه فى آخر الآية : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) ، يعنى عليم بمقادير أعمارهم ، يميت الشاب النشيط ، ويبقى الهرم الفانى ، وفى ذلك تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم ، ركب أبنيتهم ، وعدل أمزجتهم على قدر معلوم ، ولو كان مقتضى الطباع كما يقول الطبيعيون ، لم يبلغ التفاوت بينهم هذا المبلغ.

٢ ـ البر يلد الفاجر ، والفاجر يلد البر : أما أن البرّ يلد الفاجر ، فهو ما يصرح به قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وولده إسحاق ، عليهما‌السلام : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) [الصافات : ١١٣]. قال صاحب الكشاف عند هذه الآية ما نصه : وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجرى أمرهما على العرق والعنصر ، وهذا ما يهدم أمر الطبائع والعناصر.

وأما أن الفاجر يلد البر ، فهو ما يشير إليه قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٧٤] ، على أرجح الأقوال أنه أبوه لا عمه.

ولا شك أن الماديين يرون هذه المخالفات بعقولهم ، ويبصرونها بأعينهم ، فبما ذا يعللونها وقد انقطع أصلهم ، وانهدم ركنهم بمثل هذه الوقائع وتلك المشاهدات. وإنا لا نأتى إليهم بمثل هذه الحقائق من حيث إن القرآن الكريم قالها ، فهم قاتلهم الله لا يؤمنون به ، وإنما نأتى إليهم من حيث إن القرآن ذكرها حقيقة محسوسة ، وواقعة ملموسة

٦٣

لا يستطيعون لها نكرانا. وما أجمل قول القائل :

إذا طاب أصل المرء طابت فروعه

ومن عجب جادت يد الشوك بالورد

وقد يخبث الفرع الذى طاب أصله

ليظهر سر الله فى العكس والطرد

٣ ـ الأحمق المرزوق : هو آية ظاهرة على تدبير الله تعالى ، وحكمته ، وتفرده بالملك والسلطان ، فليس غنى هذا المكثر الأحمق من كياسته ، ووفرة عقله ، فهو خلو من ذلك ، ولا بكثرة سعيه واجتهاده ، فهو خامل غير مصيب فى رأيه ، كما أن فقر العاقل ليس من بلادته ، ونقصان عقله ، وقلة سعيه ، فإنك ترى أكيس الناس وأعقلهم يفنى عمره فى طلب القليل من الدنيا ، ولا ينال ذلك ، وترى أجهل الناس وأخسهم عقلا تنفتح عليه الدنيا ، فلما رأينا الأعقل الأفضل أقل نصيبا ، والآخر الأجهل أوفر نصيبا ، علمنا أن ذلك بسبب قسمة القسام الذى يفعل ما يشاء ، كما قال تعالى : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [الزخرف : ٣٢]. وما أجمل قول من قال :

كم عالم يسكن بيتا بالكرى (١)

وجاهل يملك دورا وقرى

لما قرأنا قوله سبحانه

نحن قسمنا بينهم زال المرا

وهكذا تجاوب المؤمنون الصادقون مع هذا التدبير الإلهى العظيم ، وهذا الوضع الربانى الحكيم. ومن ذلك قول الإمام الشافعى ، رضى الله عنه :

ومن الدليل على القضاء وحكمه

بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

وقول سفيان بن عيينة :

كم من قوى قوى فى تقلبه

مهذب الرأى عنه الرزق ينحرف

وكم ضعيف ضعيف فى تقلبه

كأنه من خليج البحر يغترف

هذا دليل على أن الإله له

فى الخلق سر ليس ينكشف

أما من لم يفطن لهذه الحكمة ، وغابت عنه تلك الدقيقة ، فقد تبرموا وضجروا ، حتى قال قائلهم :

كم عالم ضاقت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذى ترك الأوهام حائرة

وصير العالم النحرير زنديقا

__________________

(١) بالإيجار.

٦٤

ولو اهتدى هذا القائل بنور الحقيقة ، واستضاء بنور الشريعة ، لانقلب صديقا لا زنديقا ، على نحو ما قدمنا عن الأئمة السابقين.

٤ ـ الذكاء والبلادة ، أو العلم والجهل : كم يؤسف العالم ويحزنه أن يرى ولده لا يأبه بالعلم ، ولا ينهج نهجه ، ولكن ما الحيلة أمام قضاء الله وتدبيره ، فليس فى طرق الإنسان الحكيم أن يورث ولده الحكمة ، أو أن يذيقه كأس المعرفة ، وهنا يتجلى صدق الله فى قوله : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [البقرة : ٢٦٩].

وفى هذا المعنى يقول العالم الفاضل حنفى ناصف ، رحمه‌الله تعالى :

أتقضي معى إن حان حينى (١) تجاربى

وما نلتها إلا بطول عنائى

وأبذل جهدى فى اكتساب معارف

ويفنى الذى حصلته بفنائى

ويحزننى ألا أرى لى حيلة

لإعطائها من يستحق عطائى

إذا ورث الجهال أبناءهم

غنى وجاها فما أشقى بنى الحكماء

لكنه كما قلنا شىء خارج عن الطوق الإنسانى اقتضته حكمة العليم الحكيم ، الذى أحاط بكل شىء علما ، والذى دلنا بهذا التدبير على أنه ذو الجلال والإكرام.

المنهج القرآنى فى الدلالة على وجود الصانع : كما يراه ابن رشد (٢) :

إذا تصفحت آيات الكتاب العزيز ، وجدتها تنحصر فى ثلاثة أنواع : إما آيات تتضمن التنبيه على العناية ، أعنى كون الشيء على وضع معين وصفة معينة ، وإما آيات تتضمن التنبيه على الاختراع لجوهر الأشياء ، وإما آيات تجمع بين الأمرين جميعا.

آيات العناية فقط :

مثل قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً) [النبأ : ٦ ، ٧] ، إلى

__________________

(١) الموت.

(٢) ابن رشد هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد ، ولد بقرطبة سنة ٥٢٠ ه‍ ، وهو أعلم أهل عصره بعلوم الفلسفة ، والطب ، والرياضة ، وتولى منصب قاضى القضاة بقرطبة بعد خلو المنصب بوفاة والده ، وأشهر مؤلفاته : تهافت التهافت ، والكشف عن مناهج الأدلة فى عقائد الملة ، وفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ، وكتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد فى الفقه ، وقد توفى عام ٥٩٥ ه‍.

٦٥

قوله : (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) [النبأ : ١٦]. ومثل قوله سبحانه : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان : ٦١]. ومثل قوله جل شأنه : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) [عبس : ٢٤] الآيات.

ففي هذه ومثيلاتها عناية بالإنسان ، وهذه العناية هى الدليل على وجود الصانع الحكيم ، وذلك أن جميع الموجودات موافقة لوجود الإنسان ، ومكملة لمصالحه ، ومتممة لنظام حياته ، وهذه الموافقة بالضرورة من فاعل قاصد ، إذ لا يمكن أن تكون بالاتفاق ، فمن أراد معرفة الله تعالى المعرفة التامة ، فليبحث عن منافع الموجودات من أرض ، وماء ، ونار ، وهواء ، وتسخير للشمس والقمر ، وتذليل الحيوان ، وغير ذلك مما هو مشاهد وملموس ، بل إن العناية لتظهر كذلك فى تكامل أعضاء الإنسان وأجزاء بدنه.

آيات الاختراع فقط :

مثل قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٥ ، ٦]. ومثل قوله سبحانه : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧] الآيات. ومثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج : ٧٣]. ومن هذا قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم ، عليه‌السلام : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩].

ففي هذه الآيات ومثيلاتها دلالة على وجود مخترع ، وذلك أن المادة ليست أزلية كما قدمنا فى أول البحث ، يعنى لم تخلق نفسها ، وأن الله قادر على أن ينشئها من العدم ، فهذه الموجودات مخترعة ، وكل مخترع لا بدّ له من مخترع ، وتدلنا دقة نظام هذه المخترعات ، وانتظام سيرها ، على أن هذا المخترع فاعل مختار ، لهذا كان واجبا على أن من أراد معرفة الله حق معرفته ، أن يعرف جواهر الأشياء ؛ ليقف على الاختراع الحقيقى فى جميع الموجودات ؛ لأن من لم يعرف حقيقة الشيء ، لم يعرف حقيقة الاختراع ، وإلى هذا أشار بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٨٥].

آيات تجمع بين الدلالتين :

وهى كثيرة مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ

٦٦

قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] ، إلى قوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٢] ، فإن قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، تنبيه على دلالة الاختراع ، وقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) [البقرة : ٢٢] تنبيه على دلالة العناية.

ومثل هذا قوله سبحانه : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) [يس : ٣٣] ، وقوله جل شأنه : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) [آل عمران : ١٩١].

فهذه الطريق هى الصراط المستقيم التى دعا الله الناس منها إلى معرفة وجوده ، ونبههم على ذلك بما جعل فى فطرهم من إدراك هذا المعنى ، وإلى هذه الفطرة الأولى المستقرة فى طباع البشر أشار بقوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) [الأعراف : ١٧٢] ، ولذا قد يجب على من كانت رغبته طاعة الله ، والإيمان به ، وامتثال ما جاءت به رسله ، أن يسلك هذه الطريقة ، حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية مع شهادته لنفسه وشهادة الملائكة ، كما قال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : ١٨].

ومن الدلالات الموجودات من هاتين الجهتين وجود الأشياء مسبحة لله تعالى ، المشار إليه بقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] ، فالكائنات من حيث كونها موجودة ، فيها دليل الاختراع ، ومن حيث كونها خاضعة لله منقادة لما أراده منها ، مثل دوران الأفلاك ، وسيلان الماء ، وهطول الأمطار ، وما إلى ذلك ، فيه دلالة الغاية والعناية.

فقد بان من هذه الأدلة أن الدليل على وجود الصانع منحصر فى هذين الجنسين دلالة العناية ودلالة الاختراع ، وأن هاتين الطريقتين بأعينهما طريقة الخواص ، وأعنى بالخواص العلماء ، وطريقة الجمهور ، وإنما الاختلاف بين المعرفتين فى التفصيل ، أعنى أن الجمهور يقتصرون من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبينة على الحس ، وأما العلماء فيزيدون على ذلك ما يدرك بالبرهان ، حتى قال بعضهم : أن الذى أدركه العلماء من معرفة أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب من كذا

٦٧

وكذا آلاف منفعة ، وإذا كان هذا هكذا ، فتلك هى الطريقة الشرعية والطبيعية التى جاء بها الرسل ونزلت بها الكتب.

والعلماء ليس يفضلون الجمهور فى هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط ، بل من قبل التعمق فى معرفة الشيء الواحد نفسه ، فإن مثال الجمهور فى النظر إلى الموجودات مثالهم فى النظر إلى المصنوعات التى ليس عندهم علم بصنعتها ، فإنهم يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط ، وأن لها صانعا موجودا ، ومثال العلماء فى ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التى عنده علم ببعض صنعتها ، وبوجه الحكمة فيها ، ولا شك أن من حاله العلم بالمصنوعات هذه الحال هو أعلم بالصانع من الذى لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط (١). أ. ه.

وبعد : فهذه الأدلة وما أكثر نظائرها فى القرآن تدل على وجود الخالق جل وعلا ، بل على وجوده أزلا وأبدا ، وأنه واحد ، له كل صفات الجلال والإكرام.

أما عن أزليته ، فنسوق دليل ابن رشد ، وهو أن الموجودات الممكنة لا بد لها من علل تتقدم عليها ، فإن كانت العلل ممكنة ، لزم أن يكون لها علل ، ويمرّ الأمر إلى غير نهاية ، وذلك هو التسلسل المحال ، وإن لم يكن هناك علة لزم وجود الممكن بلا علة ، وذلك مستحيل ، فلا بد من أن ينتهى الأمر إلى علة ضرورية ، فإذا انتهى الأمر إلى علة ضرورية ، لم تخل هذه العلة الضرورية أن تكون ضرورية بسبب أو بغير سبب ، فإن كانت بسبب ، سئل أيضا فى ذلك السبب ، فأما أن تمر الأسباب إلى غير نهاية ، فيلزم أن يوجد بغير سبب ما وضع أنه موجود لسبب ، وذلك محال ، فلا بد أن ينتهى الأمر إلى سبب ضرورى بلا سبب ، أى بنفسه ، وهذا هو واجب الوجوب ضرورة. أ. ه.

وقوله : فيلزم أن يوجد بغير سبب ... إلخ ، وذلك لأن التسلسل محال ، يعنى فلا وجود له ، فقد تبين أن ما فرض أنه بسبب وهو العلة الضرورية فى وجود الممكنات أصبح بلا سبب ، وهذا خلاف الفرض ، وهو محال.

وأما عن كونه أبديا ، فإنا نقول : ثبت فى أصول التوحيد وقواعد المنطق أن ما ثبت قدمه استحال عدمه.

أما عن كونه واحدا ، فإننا نسوق الدليل المتعين على كل طالب علم أن يعرفه ، فهذه

__________________

(١) انظر : مناهج الأدلة لابن راشد ، تحقيق د. محمود قاسم (ص ١٥١ ـ ١٥٥) بتصرف.

٦٨

الممكنات لا بدّ لها من موجد قادر حكيم يوجد على ما تقتضيه حكمته ومشيئته ، متعاليا عن معارضة غيره ، إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه ، فإما أن يتفقا وإما أن يختلفا.

فإن اختلفا بأن أراد أحدهما إيجاد العالم والآخر إعدامه ، فإما أن ينفذ مرادهما ، فيلزم عليه وجود العالم وعدم وجوده ، وهو جمع بين النقيضين ، وهو محال ، وإما ألا ينفذ مرادهما ، فيلزم عجزهما وعدم وجود العالم ، وهو باطل بالمشاهدة ، وإما أن ينفذ مراد أحدهما دون الآخر ، فيكون الآخر عاجزا فلا يكون إلها ، والأول غير إله لمماثلته للثانى فرضا ، وهذا يسمى برهان التمانع ، وإن اتفقا فلا جائز أن يوجداه معا بالاستقلال فى آن واحد لما يلزم عليه من اجتماع مؤثرين على أثر واحد ، وهو باطل ، ولا جائز أن يوجداه مرتبا بأن يوجده أحدهما ثم يوجده الآخر بعده ، لما يلزم عليه من تحصيل الحاصل وهو باطل ، ولا جائز أن يوجداه على سبيل المعاونة لما يلزم عليه من عجز كل منهما فلا يوجد العالم.

ولا جائز أن يوجد أحدهما بعض العالم ، والآخر البعض الثانى ، للزوم عجزهما ؛ لأن كلا منهما عاجز عن التصرف فيما تصرف فيه الآخر ، وهذا يسمى برهان التوارد.

قال الله تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون : ٩١]. وقال جل شأنه : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٢]. وقال سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢].

وبعد : هذا هو التوحيد ، أحد مطالب الإيمان الثلاثة التى أنكرها الماديون ، قد ثبت بما لا يقبل الشك على ما تقدم بيانه وإيضاحه ، وبقى الأمران الآخران : البعث والرسالة ، إلا أنه لا يفوتنا الآن أن نذكر أن إثبات التوحيد يستلزم المطلبين الآخرين ، وذلك أن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة فى جميع الأجسام ، فكان الاعتراف بأنها كلها لله تعالى وتحت تصرفه وقدرته سبحانه ، كان ذلك لازما على كل عاقل لا سبيل إلى إنكاره.

والاعتراف بذلك يستلزم الاعتراف بوحدانيته سبحانه كما تقدم ، والاعتراف به يستلزم الاعتراف بصحة الإعادة ؛ لأن من قدر على الإبداء ، فهو أقدر على الإعادة ، كما سيأتى ، كذلك يستلزم الاعتراف بحقيقة الرسالة وبعثه الرسل ؛ لأن الصانع الحكيم

٦٩

لا يصدر عنه مثل هذه المصنوعات العجيبة ، إلا لحكمة وعاقبة حميدة ، كما قال تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) [آل عمران : ١٩١].

وذلك يستدعى أن يبتلى عباده ويكلفهم بأوامره ونواهيه ، حتى يظهر المطيع من العاصى ، ويجازى كل واحد منهم على حسب استحقاقه ، وهذا التكليف لا يكون إلا بمبلّغ الأحكام ، فدلّ ذلك على إن إرسال الرسل مما تقتضيه الحكمة.

فالاعتراف بأن ما فى السموات والأرض لله ، يستلزم الاعتراف بحقية هذه المطالب الثلاثة.

المطلب الثانى : البعث :

نسوق ثلاثة مواضع من القرآن الكريم تحث هؤلاء المنكرين على النظر والاستدلال.

الموضع الأول من سورة النحل :

قال الله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٣٨ ـ ٤٠].

ادعى هؤلاء البديهة فى إنكار البعث ، فقالوا : إن الإنسان ليس إلا هذه البنية المخصوصة ، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه ، وبطل المزاج والاعتدال ، امتنع عوده بعينه ؛ لأن الشيء إذا عدم فنى ، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه ، فالذى يعود يجب أن يكون شيئا مغايرا للأول.

وأشاروا إلى ادعائهم ضرورة ذلك الإنكار بالإقسام واليمين ، وهذا هو ما حكاه الله تعالى عنهم فى سورة يس ، عن أبىّ بن خلف حين أخذ عظما قد رمّ وبلى ، ففتته بيده ، وقال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أترى أن الله يحيى هذه؟ قال : «نعم ، ويبعثك ويدخلك النار» ، وذلك فى قوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٨ ، ٧٩] الآيات.

وقد رد الله تعالى عليهم أبلغ رد ، فقال : (بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) ، أى يبعثهم بعد الموت ، فإن لفظة (بَلى) إثبات لما بعد النفى. ثم قال : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا

٧٠

يَعْلَمُونَ) [النحل : ٣٨] ، أنهم يبعثون ، إما لعدم علمهم بأن البعث من مواجب الحكمة التى جرت عليها عادته سبحانه بمراعاتها ، وإما لقصر نظرهم على المألوف حين يشاهدون الميت يمكث مدة مديدة ، وأحقابا طويلة لا تطرأ عليه حياة ، فيتوهمون امتناع البعث ، ثم بين سبحانه الحكمة فى البعث بقوله : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [النحل : ٣٩] ، وذكر سبحانه إمكانه ، وأن مألوفهم وما يشاهدون من عدم طريان الحياة على الميت فى أزمان متطاولة أمر عادى لا يتنافى مع قدرة القادر ، وذلك فى قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].

وإيضاح ذلك وتفصيله كما يلى :

حكمة البعث : إن الحياة كما هو مشاهد تجمع بين الحق والباطل ، والعدل والظلم ، والإنصاف والجور ، فإذا لم يكن للمغلوب أمل يحتمى به ، ويعيش عليه ، فى أنه سينتصر يوما ، وأنه سيأخذ حقه حتما ، كان ذلك قضاء على وجوده ، وقتلا لحياته ، وهذا ما يأباه المنطق الصحيح والعقل السليم ، فضلا عن الحكمة الإلهية.

وإذا لم يكن لذوى الحق والخير وأولى الفضيلة والكرم أمل فى أن يحسب لهم هذا ويجازون عليه ، انعدم الحافز على الخير ، وبطل الداعى إلى المعروف ، وكانت حياة تعسة مرذولة تأباها الحيوانية المحضة ، فضلا عن الإنسانية الكاملة ، وإذن فلا بد من (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران : ٣٠]. فعلى الماديين أن ينظروا فى هذا نظر استدلال واعتبار ، وأن يتأملوا عن فكر واسترشاد.

إمكان البعث : وهو كما تقدم ذكره : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] ، فالمقصود كما قرره العلماء بيان سهولة خلق الإنسان عليه سبحانه ، وأنه متى أراد الشيء كان ، فمثل الله تعالى تكوينه للمكونات بمجرد تعلق إرادته من غير توقف وامتناع ، بأمر الآمر المطاع إذا أمر المأمور المطيع المسارع فى الامتثال ، فعبر عن سرعة تكوينه على الوجه المذكور بالأمر المستلزم للامتثال ، فإنه تعالى لو أراد خلق الدنيا والآخرة بما فيهما فى قدر لمحة بصر ما عاقه شىء. والمعنى أن إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة ، فكيف يمتنع عليه البعث الذى هو أهون من الإبداء بالنسبة إلى عقولنا.

٧١

الموضع الثانى من سورة الحج :

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج : ٥].

ساق الله تعالى خلق الإنسان هنا دليلا على البعث ، وفى سورة : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١] ، ساقه سبحانه دليلا على وجوده ، فقال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] ، إلى قوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤].

فخلق الإنسان فى أطواره المذكورة كما يصلح دليلا على وجود الخالق وتوحيده ، يصلح أيضا دليلا على البعث كما يأتى : فالآية تقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) [الحج : ٥] ، أى شك وتهمة وحاجة إلى البيان ، فتفكروا فى خلقتكم الأولى ، لتعلموا أن القادر على خلقكم أولا قادر على خلقكم ثانيا.

ثم إنه ذكر مراتب الخلقة الأولى أمورا سبعة هى :

المرتبة الأولى : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الحج : ٥] ، أى أنشأناكم بقدرتنا التى لا يتعاظهما شىء ، (مِنْ تُرابٍ) لم يسبق له اتصاف بالحياة. وفى الخلق من تراب وجهان : أحدهما : إنا خلقنا أصلكم ، وهو آدم ، عليه‌السلام ، من تراب ، كما قال الله تعالى : (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩].

الثانى : من الأغذية ، والأغذية إما حيوانية ، وإما نباتية ، وغذاء الحيوان ينتهى إلى النبات قطعا للتسلسل ، والنبات إنما يتولد من الأرض والماء ، فصح قوله : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الحج : ٥].

المرتبة الثانية : (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) [الحج : ٥] ، وحالها أبعد شىء عن حال التراب ، فإنها بيضاء سائلة لزجة صافية ، كما قال تعالى : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦].

٧٢

المرتبة الثالثة : (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) [الحج : ٥] ، أى قطعة دم حمراء جامدة ليس فيها أهلية للسيلان ، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة.

المرتبة الرابعة : (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) ، أى قطعة لحم صغيرة ، وهى فى الأصل قدر ما يمضغ ، قوله تعالى : (مُخَلَّقَةٍ) ، أى مسوّاة لا نقض فيها ولا عيب ، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) [الحج : ٥] ، أى غير مسوّاة ، فكأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة ، منها ما هو كامل الخلقة وأملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك ، ويتبع هذا التفاوت تفاوت الناس فى خلقهم ، وصورهم ، وطولهم ، وقصرهم ... إلخ.

وقيل فى معنى المخلّقة غير ذلك ، والذى اخترناه أوفق لوجود بناء تفضيل التخليق الدال على تكثير الخلق ، فإن الإنسان ذو أعضاء متباينة ، وقوى متفاوتة ، فإذا أكمل فيه جميع ما يتم به خلقة النوع ، فقد كثر فيه الخلق.

وقوله تعالى : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) [الحج : ٥] ، معناه إنا فعلنا لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا ، وأن من قدر على خلق البشر من التراب والماء ، ثم من نطفة ثانيا ، ولا تناسب بينهما ، وقدر على أن يجعل النطفة علقة ، وفيها تباين ظاهر ، ثم يجعل العلقة مضغة ، والمضغة عظاما ، من قدر على ذلك قدر على إعادة ما بدأه ، بل هو أدخل فى القدرة وأهون فى القياس.

وأما قوله : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الحج : ٥] ، فهو معطوف على (نبين) فى إحدى القراءتين ، ومعناه إنا خلقناكم من حال إلى حال ، ومن خلق إلى خلق ، لأمرين اثنين :

أحدهما : تبيين قدرتنا على الإعادة ، كما تقدم آنفا.

وثانيهما : الإقرار فى الرحم لغاية التمام ، ثم الخروج طفلا حتى يبلغ الأشد ، أى حد التكليف ، فيكلفوا معرفة الله وتوحيده وطاعته ، فينالوا سعادة الآخرة.

المرتبة الخامسة : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [الحج : ٥] ، أى تولدوا فى حالة الطفولة ، من صغر الجثة ، وضعف البدن ، والسمع ، والبصر ، وجميع الحواس ، لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم وعظم أجسامكم.

المرتبة السادسة : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) [الحج : ٥] ، وقد دخلت اللام هنا تأكيدا لها ،

٧٣

كما فى (لِنُبَيِّنَ) اعتناء ببلوغ الأشد ، حيث يكون عنده التكليف ، إذ هو المقصود من الإقرار فى الرحم ، والمعنى : نمد أجلكم لتصلوا بهذا الانتقال إلى كمالكم فى القوة والعقل.

المرتبة السابعة : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) [الحج : ٥] ، أى ومنكم من يتوفّى عند بلوغ الأشد أو قبله ، ومنكم من يرد بالشيخوخة إلى أخس العمر ، وهو سن الهرم ، فتنقص جميع قواه ، ويعود كهيئته الأولى فى أوان الطفولة من سخافة العقل وقلة الفهم ، فينسى ما علمه وينكر من عرفه ، فما أعظم هذه الدلالات على المراد ، وما أوضح هذه الحالات على المقصود ، (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦].

ولما تم هذا الدليل بأحكم المقدمات وأصح النتائج ، وكان أول الإيجاد فيه غير مشاهد ، وهو قوله تعالى : (خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الحج : ٥] ، ذكر سبحانه دليلا آخر على البعث مشاهدا فى كل أحواله وملابساته ، وهو قوله جل شأنه : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) ، أى ساكنة يابسة ، (فَإِذا أَنْزَلْنا) بما لنا من القدرة ، (عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) تحركت وتأهلت لإخراج النبات (وَرَبَتْ) أى ارتفعت ، وذلك أول ما يظهر منها للعين ، ونمت بما يخرج منها من النبات الناشئ من التراب والماء (وَأَنْبَتَتْ) فيه مجاز ؛ لأن الله تعالى هو المنبت ، وأضيف إلى الأرض توسعا ، (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) صنف (بَهِيجٍ) [الحج : ٥] حسن المنظر ، نضير باختلاف الألوان ، والطعوم ، والروائح ، والأشكال ، والمنافع ، والمقادير.

الموضع الثالث من سورة الروم :

قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) [الروم : ٨].

قوله تعالى : (فِي أَنْفُسِهِمْ) ، إما أن يكون ظرفا للتفكير ، والمعنى : أو لم يشغلوا قلوبهم الفارغة عن الفكر بالفكرة الصالحة ، والتفكير وإن كان محله القلب ، إلا أنه زيد قوله : (فِي أَنْفُسِهِمْ) لزيادة تصوير حال المتفكرين ، كما يقال : أبصره بعينه وأضمره فى نفسه ، وعلى هذا يكون المتفكر فيه هو قوله : (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على ما هما عليه من النظام المحكم ، والقانون المتقن ، فيعلموا أن الله تعالى لم يخلقهما

٧٤

عبثا ولا جزافا ، ولكن ليعتبر بها عباده ، وليستدلوا بها على وحدانيته سبحانه ، وكمال قدرته ، وأنه إنما خلقها لمنافع العباد ، بلاغا لهم فى دار التكليف ، وعونا لهم على اكتساب ما يسعدهم فى دار الجزاء ، وهو معنى قوله : (بِالْحَقِ) والباء فيه إما سببية ، أو حالية ، أى ما خلقهما إلا للحق ، أو ملتبسة بالحق مقرونة به ، لا باطلا ، ولا عبثا خاليا عن حكمة بالغة ، ولا لتبقى خالدة ، وإنما خلقها مؤجلة بأجل مسمى ، بعده يكون البعث ، وفى قوله : (وَما بَيْنَهُما) ما يفيد أن هناك مخلوقات بين السماء والأرض بها كمال المنافع ، وتمام النظام.

وإما أن يكون قوله : (فِي أَنْفُسِهِمْ) هو متعلق التفكير وموضوعه ، والمعنى عليه : هلا تفكروا فى أمر أنفسهم التى هى أقرب المخلوقات إليهم ، وهم أعلم بأحوالها ، حتى يتضح لهم كمال قدرة الله تعالى ، فإن من تفكر فى تشريح بدن الإنسان ، وما أودع فيه من غرائب التدبير الإلهى ، حصل له العلم القطعى بأن الله تعالى فاعل مختار ، كامل العلم والقدرة ، منزه عن الشركاء والأنداد ، وحصل له كذلك العلم بحقيقة البعث والجزاء ؛ لأنه إذا تفكر فى نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال ، وأجزاءه ماثلة إلى الانحلال ، فيقطع ، بأنه سيفنى عن قريب ، فلو لم يكن له حياة أخرى ، لكان خلقه على هذا النحو عبثا ، كما أشير إليه بقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] ، وهذا ظاهر ؛ لأن من بالغ فى تدبير شىء سيفنى عن قريب بالكلية ، وصوره أحسن تصوير ، واعتنى فى انتظام أحواله أبلغ ما يمكن من الاعتناء ، مع علمه بأنه يصير عن قريب كأن لم يكن شيئا مذكورا ، لا شك أن يضحك منه ويتعجب من سفاهته ، فمن تفكر فى شأن نفسه على هذا الوجه علم أنه تعالى خلقه للبقاء ، ولا بقاء إلا بالحشر ، فظهر أن تفكر الإنسان فى أمر نفسه يؤديه إلى القطع بأن العالم كله له ، إله واحد قادر على الإبداء والإعادة ، ويكون قوله تعالى : (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) [الروم : ٨] ، جملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها ، ذكرت بعد إقامة دليل الأنفس استدلالا بدليل الآفاق.

وبعد ، فهذه براهين يقينية قطعية على إمكان البعث وجوازه ، وأما تحقق الوقوع ، فليس له إلا إخبار الصادق المصدوق الذى قامت المعجزة القاهرة على صدقه ، وهو الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا ما يستدعينا أن نتكلم عن المطلب الثالث الذى أنكره الماديون ، وهو إثبات رسالة محمد ، صلوات الله وسلامه عليه.

٧٥

المطلب الثالث : إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

يضطرنا إثبات هذا المطلب ، أن نبين فى وجازة ضرورة النبوّات للبشر.

قال ابن سينا ، كما نقله العلامة القاسمى فى كتابه دلائل التوحيد : من المعلوم أن نوع الإنسان محتاج إلى اجتماع وشركة فى ضروريات حاجاته ، مكفيا بآخر من نوعه يكون ذلك الآخر أيضا مكتفيا به ، ولا تتم الشركة إلا بمعاملة ومعاوضة يجريان بينهما ، يفرغ كل واحد منهما صاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير ، ولا بد فى المعاملة من سنة وعدل ، ولا بدّ من سان معدل ، ولا بدّ من أن يكون إنسانا ، ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم فى ذلك فيختلفون ، ويرى كل واحد منهم ما له عدلا وما عليه جورا وظلما ، فالحاجة إلى هذا الإنسان فى بقاء النوع الإنسانى أشد من الحاجة إلى إثبات الشعر على الأشفار والحاجبين ، فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضى هذه وتدع تلك التى هى أثبتها ، فلا بد إذن من نبى هو إنسان متميز من بين سائر الناس بآيات تدل على أنها من عند الله ، يدعوهم إلى التوحيد ، ويمنعهم من الشرك ، ويسنّ لهم الشرائع والأحكام ، ويحثهم على مكارم الأخلاق ، وينهاهم عن التباغض والتحاسد ، ويرغبهم فى الآخرة وثوابها ، ثم يكرر عليهم العبادات ليحصل لهم تذكر المعبود بالتكرير ، واستفادة ملكة الالتفات إلى الحق والإعراض عن الباطل.

وفى هذا المطلب أيضا يسلك القرآن الكريم بالجاحدين والمنكرين مسلك الحث على النظر والاستدلال ، وذلك فيما لابسه من أحوال شريفة ، وما اتصف به من خلال كريمة.

قال الله تعالى فى سورة يونس : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [يونس : ١٦] ، جاءت هذه الآية الكريمة ردا على اقتراح المنكرين فى الآية السابقة : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس : ١٥] ، وفى هذا الاقتراح منهم رمز وإشارة بأنه إنما أتى بهذا الكتاب من عنده لا من جهة الوحى.

وبيان ذلك أن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علما ، ولم يشاهد عالما ، ولم ينشئ قريضا ولا خطبة ، ثم قرأ عليهم كتابا بذت فصاحته كل منطق ، وعلا على كل منثور ومنظوم ، واحتوى على قواعد علمى الأصول والفروع ، وأعرب عن

٧٦

أقاصيص الأولين ، وأحاديث الآخرين على ما هى عليه ، علم أنه معلم به من الله تعالى.

وما أبدع قوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [يونس : ١٦] ، أى أفلا تستعملون عقولكم لتعلموا أن مثل هذا الكتاب العظيم ممن لم يتعلم ولم يتتلمذ ، ولم يطالع كتابا ، ولم يمارس مجادلة ، إنه لا يكون إلا على سبيل الوحى.

والآية فى فحواها ومعناها جواب عما دسوه تحت قولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس : ١٥] من إضافة الافتراء إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهذا محمد قد انقضى شبابه وولى ، وأشرف على نهاية العقد الرابع من عمره ، دون أن يبدو من أمره شىء خارق ، أو يند عن المألوف فى قومه إلا اشتهاره بالصدق والأمانة.

وفجأة ، وفى هذه الفجاءة السر كل السر ، إذا هذا الرجل الذى قطع ثلثى عمره هادئا ساكنا ، يصبح داعية حق ، فيقذف بالحق الإلهى على الباطل الجاهلى فيدمغه ، آخذا بيد قومه إلى حيث نور الحقيقة الكبرى.

ثم لم يلبث أن اتصل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بملوك الأرض وأباطرتها عن طريق الكتب والرسائل ، يدعوهم إلى الهدى والرشاد ، منذرا لهم بعذاب أليم ، إن هم صموا آذانهم عن سماع دعوته ، واعدا إياهم جنة النعيم إن هم آمنوا برسالته ، ثم أتبع القول العمل ، فسيّر جيوشه فى غزوة تبوك إلى حدود الشام.

وإن هو إلا وقت يسير بعد وفاته ، حتى قام خلفاؤه الذين استقوا من نبعه واهتدوا بهديه يكتسحون الدنيا شرقا وغربا ، وما هى إلا ثمانون سنة على ما قدره المؤرخون حتى كان أكثر من مائة مليون من البشر يدينون بدين هذا الأمى العربى عن طواعية واختيار وحب وإكبار.

واليوم بعد أربعة عشر قرنا من الزمان يزيد أتباعه عن ألف مليون من البشر ، وهم فى ازدياد مستمر. وهذا أمر منقطع النظير ، وحدث لم تشهد الدنيا له مثيلا بإجماع أهل الرواية والنقل الذين أنصفوا الحقيقة وصانوا لها حرمتها وقداستها.

هذا بالنسبة لتأسيس الدولة وقيامها فى تلك المدة الوجيزة ، أما ما احتوته الدعوة من حقائق ونظم وتشريع ، فهو أمر فوق القدر ، ولا يأتى به إلا خالق البشر ، فلو نظرنا إلى ما فى القرآن من تشريع لوجدنا فيه من القوانين والمبادئ الأساسية لتنظيم حياة الفرد والجماعة فى حالتى السلم والحرب ما لا زيادة عليه لمستزيد ، فالحرية ، والإخاء ، والمساواة ، والشورى ، والتعاون الفردى والجماعى ، كل ذلك نبه عليه القرآن وجلاه منذ

٧٧

أربعة عشر قرنا من الزمان ، فالحاكم والمحكوم أمام قانون الشريعة سواء ، يقام الحد على أعظم الملوك سلطانا ، وعلى أقل الناس شأنا ، وفى فرض الزكاة تعاون جماعى بين المسلمين وترابط قوى بينهم ، يقيهم مصارع الهلكة ، ومأساة البغى والحسد ، كما أنه لا تفاضل فى الإسلام الذى جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنسب ، والمنصب ، والجاه ، بل بالتقوى ، أعنى معرفة الله وتوحيده وطاعته ، وما أبدع قول من قال :

لعمرك ما الإنسان إلا ابن دينه

فلا تترك التقوى اتكالا على الحسب

فقد رفع الإسلام سلمان فارس

وقد وضع الكفر الحسيب أبا لهب

وفى هذا المعنى يقول عمر فى شأن أبى بكر الذى أعتق بلالا ، رضى الله عن الجميع : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ، إلى غير ذلك مما تضيق به الصحائف ، ولا يتسع له الوقت ، فالحق أنا لا نجد تفسيرا لهذا الذى جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنه وحى من عند الله رب العالمين الذى أحاط بكل شىء علما.

ونسوق كذلك بعض آيات من القرآن الكريم تضمنت شيئا من الأبحاث الكونية والطبيعية التى لا مفر للماديين من الاعتراف بها ، وبذلك يكونون محجوجين ملزمين بأن ما أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحى إلهى ، وبالتالى أنه رسول حقا ويقينا.

١ ـ قال الله تعالى فى سورة يونس : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥].

ففي قوله : (ضِياءً) إشارة إلى ما قرره الباحثون فى هذا الباب من أن القمر يستمد نوره من ضوء الشمس ، حيث أن لفظ : (ضِياءً) يدل على معنى أجمع وأقوى من كلمة : «نور» ، وفى قوله : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) ، إشارة إلى علم الهيئات الذى هو فرع مهم من فروع علم الفلك ، تدور عليه مصالح الناس ومواقيتهم.

٢ ـ قال تعالى فى سورة الحجر : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) [الحجر : ١٩] ، وقال بعد آية واحدة من نفس السورة : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر : ٢١].

فالآيتان تشملان ما قاله الباحثون فى الطبيعيات ، من أن العناصر الداخلة فى تركيب الأجسام تكون على نسب معينة ، وموازين مقدرة ، كما قال تعالى فى سورة

٧٨

الرعد : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [الرعد : ٨] ، فالماء مثلا مركب من أوكسجين وهيدروجين بنسبة (١ ـ ٢) وهكذا.

٣ ـ قال الله سبحانه فى سورة الأنعام : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨] ، وفى ذلك إشارة إلى علم التاريخ الطبيعى ، فبين الإنسان وهذه الكائنات تشابه فى الأجهزة الهضمية والتنفسية ... إلخ.

٤ ـ قال الله جل شأنه فى سورة الأعراف : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف : ٣١] ، ونلمح هنا مبدأ هاما من مبادئ علم الصحة الغذائى.

٥ ـ قال تعالى فى سورة المائدة : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) [المائدة : ٣] ، وفى ذلك إشارة إلى ما يسمى بالطب الوقائى.

٦ ـ قال سبحانه فى سورة النساء : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠].

وفى ذلك إشارة إلى مبدأ هام من مبادئ الطب النفسى ، ولقد عد علماء المسلمين اليأس من رحمة الله كبيرة من الكبائر ، أخذا من قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] ، كما عدوا الأمن من العقوبة كبيرة من الكبائر ، إذ فى ذلك انتشار الفوضى ، وانتهاك الحرمات ، والجناية على الأنفس والأموال ، ومن هنا قال القرآن الذى جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى صفة المؤمن الصادق : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر : ٩].

٧ ـ يقول جل جلاله فى سورة مريم : (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨].

وفى ذلك إشارة إلى علم الوراثة وقوانينها ، غير أنه لا يغيب عن البال ما قدمناه سابقا أثناء الكلام عن المطلب الأول عند الحديث عن مظاهر التدبير الإلهى ، من أن عوامل الوراثة ليست ذاتية ، بل هى سبب عادى يصح تخلفه.

٧٩

٢ ـ إلزام القرآن للمليين

ويتضمن هذا القسم : بحث آيات القرآن التى تخص اليهود وحدهم بالخطاب ، وتلزمهم الحجة والبرهان ، وآيات تخص النصارى وحدهم ، ثم آيات تجمع بينهم فى خطاب واحد ، تدعو كلا من الفريقين إلى الإيمان والتوحيد على مقتضى رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولما رأينا بعض المعاصرين ، وهو المحامى أحمد حسين ، فى كتابه : فى الإيمان والإسلام ، قد خالف صريح النص القرآنى الناطق بكفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، نبهنا على ذلك ، ورددنا عليه بمقتضى الأصول والموازين الصادقة ، وقد قدمنا بين يدى البحث تمهيدا نبين فيه ما يجب على المكلف اعتقاده كما وضحته الآيات القرآنية.

كانت سورة البقرة من السور الطوال التى فصلت فيها الأصول ، والأدلة ، والأحكام ، ولذلك وجدنا فيها المطالب الثلاثة التى تلزم كل مكلف ، وتتحتم عليه مؤيدة بالدليل والبرهان ، وهذه المطالب هى :

١ ـ التوحيد.

٢ ـ نبوّة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ المعاد.

أما الأول : وهو التوحيد :

فقد ذكره الله تعالى فى قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١] ، إلى قوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٢] ، فإنه لما ذكر فى أول السورة قبل ذلك فرق المكلفين من : المؤمنون ، والكافرين ، والمنافقين ، وصفتهم وأحوالهم ، وما اختصت به كل فرقة ، أقبل عليهم بالخطاب ملتفتا عن الغيبة ، فأمر ونهى ، ودعا إلى عبادته وحده ، ثم وصف نفسه بأوصاف دالة على وحدانيته من خلقهم وخلق من قبلهم أحياء قادرين ، وخلق مفترشهم ومستقرهم الذى لا بدّ لهم منه ، وخلق ما هو كالخيمة المضروبة على هذا المستقر ، ومن ربط المظلة على المقلة بإنزال الماء ، والإخراج به من بطنها فى أشباه النسل الناتج من الحيوان من ألوان الثمار رزقا لبنى

٨٠