عون الحنّان في شرح الأمثال في القرآن

الشيخ علي أحمد عبد العال الطهطاوي

عون الحنّان في شرح الأمثال في القرآن

المؤلف:

الشيخ علي أحمد عبد العال الطهطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4571-1
الصفحات: ٢٨٨

تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) [المائدة : ٤٦] الآية ، فقوله : (مُصَدِّقاً) فى الموضعين حال ، الأول من «عيسى» ، والثانى من «الإنجيل». قال العلماء : إنها حال مؤكدة ، إذ مقتضى أن عيسى رسول من الله تعالى ، أن يكون مؤمنا بما فى التوراة ، ومقتضى أن الإنجيل كتاب من الله ، أن يكون مصدقا للتوراة التى هى من عند الله كذلك.

وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) [المائدة : ٤٨] ، قال الخطيب الشربينى فى تفسيره عند هذه الآية ما نصه : ولما كانت الكتب السماوية من شدة تصادقها كالشيء الواحد ، عبر تعالى بالمفرد ، فقال : (مِنَ الْكِتابِ) ، أى الكتب المنزلة التى جاء بها الأنبياء من قبل ، فاللام الأولى فى الكتاب للعهد ؛ لأنه عنى به القرآن ، والثانية للجنس ؛ لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة.

فثبت بهذا بطلان قول الكاتب أن العقائد السابقة لا تآخى بينها ، ويجب أن لا يغيب عن البال أن تصادقها إنما هو على ما أوضحناه وبيناه من التوحيد بينها فى الأصول والاختلاف بينها فى الفروع ، وإلا لما قال تعالى فى شأن التوراة : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) [المائدة : ٤٤].

ولما قال سبحانه فى شأن الإنجيل : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) [المائدة : ٤٧] ، وبناء على ما بينها من تصادق واتحاد يجب على كل أصحاب ديانة سابقة أن يدخلوا فى الديانة اللاحقة لها ، متعبدين لله على ما فيها من فروع الأحكام التى تخالف الشريعة السابقة ، وإلا فهم كافرون مخلدون فى النار.

فإن أراد الكاتب بتآخى الإسلام مع بقية الأديان هذا الذى أوضحناه وبيناه لهو صحيح ثم صحيح ، وإن أراد غير ذلك بأن أراد أن ما فى الأديان الأخرى من تشريع يخالف تشريع القرآن صحيح يتعبد به وينال به عند الله الثواب الجزيل والنعيم الدائم ، وأن من صلى من أهل الديانات الأخرى ، وصام ، وحج على وفق ما جاء فى شريعته ، يساوى ويعادل من صلى ، وصام ، وحج على وفق شريعة القرآن ، وأن كلا منهما يرضى عنه الله فى دار البقاء ، فهذا كفر صريح لا شبهة فيه على ما قدمنا من الأدلة والبراهين الملزمة بالدخول فى الإسلام والانضواء تحت لوائه.

١٢١

جدال أهل الكتاب :

وقال الكاتب فى صفحة (١٧٨) ما نصه : ولقد أمر الإسلام معتنقيه أمرا ألا يجادلوا أصحاب الديانات الأخرى إلا بالتى هى أحسن ، (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت : ٤٦] ، وما ذلك إلا ليشعروا أن المتدين أخو المتدين ، وإن اختلفا فى بعض الآراء والأفكار.

وذكر الكاتب قبل كلامه هذا أن من أصحاب الديانات أتباع كنفشيوس فى الصين ، وبوذا فى الهند ، وزاردشت بالفرس ، وإخناتون المصرى القديم ، وقال : إنه لا يحق لمسلم أن يزدريهم أو أن يحقرهم ، فقد يكونون من الرسل الذين لم يقص القرآن قصصهم.

ونقول له قبل أن نتكلم معه فى الآية الكريمة التى ساقها دليلا على دعواه : إن الرسل الذين لم يقصهم الله تعالى علينا فى القرآن هم ضمن الغيب الذى لم يطلعنا الله عليه لحكمة يعلمها هو ، فعلينا أن نؤمن بأن هناك رسلا دعت الناس إلى توحيد الله وعبادته دون أن نعرف أشخاصهم وأزمنتهم وما لابس وجودهم من وقائع وحوادث ، فقد قال العلماء فى قوله تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النساء : ١٦٤] ، معناه أن هناك رسلا سميناهم لك فى القرآن ، وعرفناك أخبارهم ، وإلى من بعثوا من الأمم ، وما حصل لهم من قومهم ، وقوله : (لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) ، أى لم نسمهم لك ، ولم نعرفك أخبارهم ، فمجرد تجويز أنهم رسل لا يكفى أبدا لإعطائهم قداسة الرسل.

ولنتكلم معه فى الآية : نقول : إنه لم يسق الآية بتمامها ، وفى ذلك تغطية للحقيقة وستر لها عن أعين المتطلعين إليها والراغبين فى معرفتها ، فالآية فى سوقها هذا تدل على أن لا نجادل إلا بالتى هى أحسن دائما أبدا ، وهذا غير مراد قطعا بدليل قوله سبحانه بعد هذا مباشرة : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، ولنذكر معنى الآية بعد ذلك ، فنقول :

قوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) [العنكبوت : ٤٦] ، أى اليهود والنصارى ظنا منكم أن الجدال ينفع ، أو يزيد فى اليقين ، أو يرد واحدا عن ضلال مبين ، (إِلَّا بِالَّتِي) ، أى المجادلة التى (هِيَ أَحْسَنُ) ، كمعارضة الخشونة باللين ، والغضب بالكظم والدعاء إلى الله تعالى بآياته ، والتنبيه على حججه كما قال : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [المؤمنون : ٩٦].

١٢٢

(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بأن حاربوا وأبوا أن يقروا بالجزية ، فجادلوهم بالسيف إلى أن يسلموا ، أو يعطوا الجزية ، وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : إلا الذين أثبتوا الولد والشريك ، والاستثناء فى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) متصل ، وإنما فسر الظلم فى الآية بمحاربتهم المؤمنين حتى لا يقال : كيف قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) مع أن أهل الكتاب جميعا ظالمون ؛ لأنهم كافرون ، قال تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤].

فالآية الكريمة شروع فى بيان إرشاد أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام بعد بيان إرشاد أهل الشرك فى قوله تعالى قبل ذلك : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) [العنكبوت : ٤١] الآية ، فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى معناه دعوتهم إلى الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به ؛ لأن هذا هو المتعين المفروض الذى يلزم كل مكلف من المسلمين فى حدود الاستطاعة والقدرة كما هو واضح ، وما أبدع قوله فى هذه الآية : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) بعد قوله سبحانه فيها : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ).

قال الخطيب الشربينى عندها ما نصه : أى خاضعون منقادون أتم انقياد فيما يأمرنا به بعد الأصول من الفروع ، سواء كانت موافقة لفروعكم ، كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس ، أو ناسخة كالتوجه إلى الكعبة ، ولا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله لنأخذ ما يشرعونه لنا مخالفا لكتابه وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انتهى هذا هو معنى الآية ، وهذا هو ما يفهم منها على مقتضى الموازين الصحيحة والضوابط الدقيقة ، هذا هو ما تعطيه الآية على وفق ما قاله أئمة الهدى والراسخون فى التحقيق والمعرفة.

قلنا فيما تقدم : إن الآية فى دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام ، والكاتب يقول : إن المجادلة للإشعار أن المسلم فى دينه أخو اليهودى والمسيحى فى دينهما. ولا ندرى من أين جاءت هذه الأخوة وهم يتجهون إلى بيت المقدس ، ونحن نتوجه إلى الكعبة ، وصلاتنا تخالف صلاتهم ، وصيامنا يخالف صيامهم ، إلى غير ذلك.

وقد نطق القرآن بكفرهم كما يصرح به قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) ، اللهم إلا إذا أمكن أن يقال فى المتضادات : إن بينها أخوة ، وفى المتباينات : إن فيها صلة ورابطة.

١٢٣

الإيمان والعمل الصالح :

وقال فى صفحة (١٧٩) تحت عنوان : الإيمان والعمل الصالح ، بعد كلامه ما نصه : فكل من آمن وعمل صالحا فى هذه الدنيا فله أجره عند ربه ، سواء فى ذلك المسلم ، أو المسيحى ، أو اليهودى ، أو المتدين بأى دين من الأديان ، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

قلنا فيما تقدم عند ردنا عليه فى قوله : الإسلام يؤاخى بين الديان ، ما نصه : فإن أراد الكاتب بتآخى الإسلام مع بقية الأديان الأخرى ، هذا الذى أوضحناه ، فهو صحيح ، وإن أراد غير ذلك بأن أراد أن ما فى الأديان الأخرى من تشريع يخالف تشريع القرآن صحيح يتعبد به ، وينال به عند الله تعالى الثواب الجزيل ، والنعيم الدائم ، وأن من صلى من أهل الديانات الأخرى وصام وحج على وفق ما جاء فى شريعته يساوى ويعادل من صلى وصام وحج على وفق شريعة القرآن ، وأن كلا منهما يرضى عنه الله فى دار البقاء ، فهذا كفر صريح لا شبهة فيه.

أما هنا وفى هذا الموضع ، فقد انكشف لنا الغطاء عما يقول الكاتب من أن الإسلام يؤاخى بين الأديان ، وأنه لا يقصد بتآخى الإسلام مع بقية الأديان إلا هذا الذى يصرح به هنا من أن كل من عمل صالحا على أى دين ، فله أجره عند ربه ، وقد تأيد هذا بما ذكره الكاتب فى مقدمة الطبعة الأولى فى كتابه هذا ، فقال فى صفحتى (١٣ و ١٤) تحت عنوان : المادية هى الخطر المشترك ، ما نصه : وعلى أية حال ، فقد حان الوقت ليدرك كل صاحب عقيدة دينية أيا كان موضعها ومحورها ، أن الخطر الذى أصبح يهدد عقيدته ليس ما يقول به دين آخر. إلى أن قال : وإنما الخطر الذى أوشك أن يهدد العقائد ويقتلعها من جذورها هو هذه المادية الطاغية الجارفة المسعورة.

فهو يرى أن الأديان كلها متآخية ، وأن أصحابها ناجون ، يرضى الله عنهم جميعا دون الماديين الذين استهوتهم المادة وغلبهم حبها ، وتغلغل هذا الرأى فى نفس الكاتب إلى حد أنه رسم على غلاف كتابه ما ينبئ عن هذا التآخى ويشير إليه ، فقد رسم على الغلاف مئذنة وصليبا بجانبها ، وبجانب الصليب من فوق رسم شمسا ، وبجانب الصليب من أسفل رسم نجمة ، وبين الشمس والنجمة فى محازاة الصليب وبجانبه رسم شخصا فرعونيا ، يعنى فهو يدعو إلى الفكرة قولا ، وكتابة ، ورسما ، وتصويرا ، وتفسير هذا

١٢٤

الرسم على حسب ما جاء فى كلامه الذى ذكرناه قريبا أن الرجل الفرعونى والشمس رمزان إلى أخناتون المصرى ، والنجمة هى رمز وشعار اليهودية ، أما الصليب فهو معروف أنه للنصارى ، والمئذنة معلوم أنها للمسلمين ، ولا ندرى ما رمز الزرادشتية ، ولا رمز الكونفشيوسية ، ولا رمز البوذية ، وعلى كل ، فهذا الذى ذكرناه هو ما أمكننا أن نستخلصه من هذا الرسم ، ولعله يقول فيما لم يرمز إليه أنه محمول على غيره ومقصود معه ، بدليل كلامه السابق الذى ذكرناه.

ونقول نحن من جانبنا : كل من يقول وهو غير مؤمن بالقرآن وبرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه من أهل الجنة ، وأن الله تعالى عنه راض ، وأنه تعالى يثيبه على عقيدته أو عبادته فى دار البقاء ، فهو كاذب خاطئ ، قال تعالى حاكيا عن اليهود والنصارى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ١١١ ، ١١٢].

سمى الله تعالى هذا القول منهم أمنية تمنوها ، وشهوة رغبوا فيها ، يعنى فلا دليل على ذلك ولا برهان ، ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطلب منهم البرهان فى ذلك ، وأن يظهروا ما عندهم من حجة إن كانت لهم حجة أو برهان ، وكانت الإجابة ب (بَلى) لإثبات ما نفوه من دخول غيرهم الجنة ، وبين سبحانه بهذا أن الجنة لن تكون إلا لمن أسلم وانقاد لله تعالى بقلبه باطنا ، وبجوارحه ظاهرا.

وقال بعد ذلك أيضا حاكيا عنهم : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٣٥] ، فالله سبحانه بهذه الآيات يكذبهم تكذيبا صريحا ، ويبين لهم كيف يكون الوصول إلى الجنة ونيل ما عند الله تعالى من الثواب ، وإذا كان القرآن يكذب اليهود والنصارى فى هذه الدعاوى التى قالوها ، وهم أصحاب شرع سماوى سابق ، فغيرهم ممن لم يعلم له كتاب ولم يعرف له رسول من سائر المذاهب والأديان التى ذكرها الكاتب ، أولى بهذا التكذيب وأحق به ، وعلى الكل أن ينضوى تحت لواء القرآن ، وأن يصدق بما جاء فيه من تشريع وأحكام.

فحقيقة الإيمان الصحيح اللازم لكل مكلف فى أى جنس ، وعلى أى ملة ومذهب ، الإيمان المعتبر عند الله تعالى فى النجاة من الخلود فى النار ، وفى نيل الثواب الدائم

١٢٥

والنعيم المقيم فى الجنة ، هو الإيمان بالقرآن وسائر الكتب السماوية السابقة عليه ، قال تعالى فى أول سورة البقرة فى بيان وصف المتقين : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [البقرة : ٤] ، قال المفسرون عند هذه الآية : والإيمان بالإنزالين جملة فرض عين ، وبالأول دون الثانى تفصيلا من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض ، ولكن على الكفاية ؛ لأن وجوبه على كل أحد يوجب الحرج ويشوش المعاش.

قال تعالى من هذه السورة أيضا : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٦].

(وَالْأَسْباطِ) جمع سبط ، وهو الحافد ، والمراد حفدة يعقوب وأبناؤه وذراريه ، فإنهم حفدة إبراهيم وإسحاق ، وقد نسبت صحف إبراهيم إلى الأسباط ؛ لأنهم كانوا متعبدين بتفاصيلها ، داخلين تحت أحكامها ، فكأنها أنزلت إليهم ، كما أن القرآن لهذا الاعتبار نزل إلينا.

ثم قال تعالى كذلك فى هذه السورة : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) [البقرة : ١٧٧].

اختلف نظر المفسرين فى بيان المخاطب بهذه الآية ، وعلى أى قول منها ، فهى دليل واضح على أن الإيمان لن تكون له حقيقة منجية إلا إذا كان بجميع الأنبياء وما نزل إليهم.

قال فريق : إن المراد بالمخاطب أهل الكتاب ، وعليه يكون المعنى : ليس البر صلاة اليهود إلى المغرب ، وصلاة النصارى إلى المشرق ، فإنهم أكثروا الخوض فى أمر القبلة حين حوّلت ، وادعى كل طائفة أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فرد الله تعالى عليهم وقال : ليس البر ما أنتم عليه ، فإنه منسوخ ، ولكن البر ما فى هذه الآية. وقوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) على تأويل حذف مضاف ، أى بر من آمن ، أو بتأويل البر بمعنى ذى البر ، أى ولكن البر الذى ينبغى أن يهتم به بر من آمن ، أو لكن ذا البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب ، أى الكتب ، إن أريد به الجنس ، وإلا فالقرآن.

ويرى البعض أن المخاطبين هم المسلمون ، والمعنى عليه : ليس البر كله فى الصلاة ،

١٢٦

ولكن البر ما فى هذه الآية. وبعضهم عمها فى المسلمين وأهل الكتابين ، أى ليس البر مقصورا بأمر القبلة.

ومقصودنا من هذه الآية لا يختلف على أى قول من الأقوال كما قدمنا آنفا. كذلك جاء فى آخر هذه السورة قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ).

فهذه دلائل صادقة وبراهين قوية دامغة على ما قلناه فى بيان حقيقة الإيمان المنجى ، من أخل بجزئية من هذه الحقيقة ، فإيمانه غير صحيح ولا معتبر شرعا ، بمعنى أن من فرّق فى إيمانه بين كتاب وكتاب ، أو رسول ورسول ، أو ما إلى ذلك ، فهو كافر.

قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) [النساء : ١٥٠ ، ١٥١]. وقال حكاية عن اليهود خاصة : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) [البقرة : ٨٩] ، إلى أن قال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) [البقرة : ٩١].

فالفروق التى ذكرها الكاتب فى كلامه الذى ذكرناه قبل لا تؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا بقرآنه ، فهى كافرة بمقتضى هذه النصوص القرآنية ، وما دامت كافرة فلن يقبل الله تعالى لها عملا عنده فى دار البقاء ، قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) [إبراهيم : ١٨] ، يعنى : فكل عمل طيب يصدر عن الكافر من صدقة ، وصلة رحم ، وفك أسير ، وإقراء ضيف ، وبر والد ، فى عدم الانتفاع به ، كرماد اشتدت به الريح ، فلم تبق له عينا ولا أثرا ، فهم لا يجدون لهذا العمل ثوابا عند الله تعالى لفقد شرطه ، وهو الإيمان الصحيح ، وقال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] ، يعنى قصدنا إلى أعمالهم التى عملوها من مكارم الأخلاق ، كالجود ، وإغاثة الملهوف ، ونحو ذلك ، (فَجَعَلْناهُ) ، لكونها لم تؤسس على الإيمان ، (هَباءً) وهو ما يرى من شعاع الشمس الداخل من كوة مما يشبه الغبار

١٢٧

(مَنْثُوراً) أى مفرقا فهو مثله فى عدم النفع ، إذ لا ثواب فيه لعدم شرطه.

قال العلماء : وإن كانوا قد يجازون عليه فى الدنيا. وما دامت أعمالهم الصالحة لا ثواب عليها لفقد شرطها وهو الإيمان ، فليس لهم إلا النار مستقرا ومقيلا.

ثم إن الكاتب لما استشهد على دعواه بالآية الكريمة ، قال بعدها مباشرة : وقد تكررت هذه الآية فى القرآن بنصها ومعناها أكثر من مرة حتى أصبحت بمثابة قاعدة أساسية من قواعد الدين الإسلامى ، حتى لقد جعل منها تشريعا قائما عند ما أباح للمسلم أن يتزوج بكتابية على غير دينه ، وأن تبقى على دينها.

أما بالنسبة للآية ، فنقول : لا يمكن أبدا فى ميزان العقل السليم والمنطق الصحيح أن تفهم الآية على ما يبدو منها للكاتب بعد أن بين القرآن حقيقة الإيمان ، وما يجب على المكلف أن يؤمن به ، وبعد أن حكم بالكفر على من كذّب وفرّق بين رسول ورسول ، كما قدمنا كل ذلك صريحا دون لبس أو غموض ، وإلا لكان القرآن من عند غير الله تعالى ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وإذن فلا بد من فهمها على هذه الحقائق ، وعلى أساس هذه الأصول ، وتلكم الحجج القوية الدامغة. قال أئمة التفسير : اختلف فى الذين آمنوا فى هذه الآية ، فقالت فرقة : (الَّذِينَ آمَنُوا) هم المؤمنون حقا بنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام ، وفى سائر الفرق بمعنى من دخل فيه.

وقالت فرقة : المراد بالذين آمنوا ، المؤمنون بالأنبياء قبل بعثة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون المعنى : أن الذين آمنوا على التحقيق فى زمن الفترة مثل : قس بن ساعدة ، وورقة بن نوفل ، وبحيرا الراهب ، وأبى ذر الغفارى ، وسلمان الفارسى ، وهؤلاء هم أصحاب الإيمان الحق قبل ظهور النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذين كانوا على الدين الباطل المبدل من اليهود والنصارى والصابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند إدراكهم زمنه ، فلهم أجرهم ... إلخ.

فالآية تبين بهذا أن أى دين قبل ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كان صحيحا لا ينفع المتدينين به عند ظهوره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليهم أن يؤمنوا بالقرآن ، وبما جاء به ، عليه‌السلام ، إذا أدركوا زمنه ، وإلا فهم هالكون ، ومن باب أولى ما إذا كان باطلا ومبدلا كدين اليهود والنصارى ، فلو فرض أن إنسانا قبل ظهور بعثة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن عيسى

١٢٨

رسول الله ، على معناها الصحيح الصادق ، لم تنفعه هذه الشهادة عند ظهور البعثة المحمدية ، وعليه إذا أدرك زمانها أن يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فالأديان كلها لاغية وباطلة ، سواء كانت صحيحة أو فاسدة عند ظهور الدعوة المحمدية. هذا ما تعطيه الآية على ما قدمنا من كلام أئمة التفسير ، إذن فهى ضد ما قال الكاتب ، وضد دعواه ، وهى عليه لا له.

وقفة مع آية :

بقى قوله : وقد تكررت هذه الآية فى القرآن بنصها ومعناها أكثر من مرة ، حتى أصبحت بمثابة قاعدة أساسية من قواعد الدين الإسلامى ، حتى لقد جعل منها تشريعا قائما عند ما أباح للمسلم أن يتزوج بكتابية على غير دينه ، وأن تبقى على دينها.

نقول : أما عن تكرار آية فى القرآن بنصها ومعناها أكثر من مرة ، فنحن نطالبه بالدليل على ذلك ، ولا يكلفه الدليل أكثر من أن يتصفح المصحف الشريف سوره وآياته ، حتى يأتى لنا بمواضع التكرار التى قالها وادعاها ، وسوف لا يجد بعد أن يتقصى القرآن كله أوّله وآخره ، ووسطه وطرفيه ، ما يثبت له هذا الذى قاله ، ولا ذلك الذى ادعاه.

فمقتضى كلامه أن الآية كررت ثلاث مرات على الأقل ، إذا راعينا المعنى الموضوع للعبارة ، أما إذا راعينا المعنى العرفى لهذا التعبير ، فالمعنى أن الآية كررت مرات ومرات. والحقيقة والواقع أن هذه الآية الكريمة بالنص السابق الذى ذكرناه قبل قد ذكرت فى سورة البقرة ، وذكرت أيضا فى سورة المائدة ، ونصها فى سورة المائدة هو هذا : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [المائدة : ٦٩] ، ونرى فى هذه مع سابقتها اختلافا فى موضعين :

أولا : قال : (وَالصَّابِئُونَ) بالرفع وهناك : (وَالصَّابِئِينَ) بالنصب.

ثانيا : قال هنا : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [المائدة : ٦٩] ، وقال هناك : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٦٢] ، وعبارة الكاتب تفيد أن التكرار كان بنص الأولى ، وهذا غير الواقع المحسوس كما بينا ، يعنى أن الآية الكريمة ذكرت مرتين فى القرآن الكريم فقط دون ما زيادة على ذلك ، أما توجيه

١٢٩

قراءة : (وَالصَّابِئُونَ) بالرفع ، وهى قراءة الجمهور ، فقد قال العلماء فى بيان ذلك أنه من المقدم الذى معناه التأخير ، كأنه قال : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصابئون والنصارى كذلك.

وأما قوله : حتى لقد جعل منها تشريعا قائما عند ما أباح للمسلم أن يتزوج بكتابية على غير دينه ، وأن تبقى على دينها.

فنقول : لقد بينا المعنى الصحيح للآية ، ذلك المعنى الذى لا يجوز فهم غيره منها ، وهو الذى قال به أئمة المفسرين ، وليس فى هذا المعنى ما يدل أقل دلالة ولا يشير أدنى إشارة إلى زواج المسلم من الكتابية ، حتى ولا فى مذهبه الفاسد الذى أبطلناه لا توجد هذه الدلالة ، فلا يلزم من مذهبه هذا ، كل من آمن وعمل صالحا من أى دين فله أجره عند ربه ، لا يلزم منه زواج المسلم من الكتابية ؛ لأنه لو جاز زواج المسلم من الكتابية بمقتضى هذا المذهب لجاز للمسلم أيضا زواج المرأة الزرادشتية والكونفشيوسية ، ولا يقول بذلك مسلم.

نعم أباح الله تعالى زواج المسلم من الكتابية بآية أخرى من سورة المائدة ، وهى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) إلى أن قال : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة : ٥]. قال الخطيب الشربينى عند هذه الآية فى قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، قال : هم اليهود والنصارى ، أى أحل لكم أن تنكحوهم وإن كن حربيات. وقال ابن عباس : لا تحل الحربيات ، وأما الإماء المسلمات ، فيحل نكاحهن فى الجملة ، بخلاف الإماء الكتابيات ، فلا يحل نكاحهن عند أبى حنيفة ، رحمه‌الله تعالى.

هذا وقد جاء فى مجلة «منبر الإسلام» عدد جمادى الأول سنة (١٣٨٤ ه‍) مقال بعنوان : حول ترجمة القرآن ، للأستاذ محمد وصفى ، فيه ما يأتى : قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٦٢].

لقد ذهب المستشرقون إلى ترجمة هذه الآية الكريمة ترجمة مضللة بعيدة كل البعد عن المعنى الحقيقى الذى هدفت إليه ، ومناقضة لتعاليم الإسلام وعقائد المسلمين صريحا إلى

١٣٠

أبعد الحدود.

وقبل أن نناقش الترجمة ، نرى لزاما علينا أن نذكر نص هذه الترجمة ، ضاربين مثلا بترجمة «رودل» مثلا ، هذا مع العلم بأن ترجمة من التراجم التى بأيدينا ، لم تأت بالترجمة الصحيحة ، وإنه ليؤسفنا أن محمد بقول ، المسلم ، جارى المستشرقين من غير المسلمين فى نفس الخطأ الذى وقعوا فيه ، ثم ذكر الكاتب نص الترجمة بالإنجليزية ، فليراجعها من شاء.

وهذه الترجمة تعنى أن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعلمون عملا طيبا سيكافئون من سيدهم ، وسوف لا يلحقهم خوف أو حزن ، سواء كانوا مسلمين ، أو متبعين للديانة الإسرائيلية ، أو صليبيين أو صابئين.

ويفهم من هذه الترجمة أن جميع من على الأرض اليوم من الإسرائيليين وأهل التثليث والصابئين ، هم كالمسلمين سواء ، ولن يصيبهم حزن أو خوف يوم القيامة ما داموا مؤمنين بوجود الله ، وأن سيرهم حسن فى الدنيا حسب أديانهم التى يعتنقونها ، وهو ما يتناقض كل التناقض مع قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [آل عمران : ٨٥].

إن الآية الكريمة معناها أن المسلمين الذين آمنوا برسالة خاتم النبيين ، واليهود الذين اتبعوا شريعة موسى وآمنوا برسالته فى زمنه ، وساروا على تعاليم التوراة الحقيقة ، ودعوا الله قائلين : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٥٦] ، والنصارى الذين ما بعث إليهم المسيح عيسى ابن مريم حتى آمنوا برسالته ، واتبعوا الإنجيل الحقيقى طوال الزمن المحدد لرسالته ، والصابئين الذين آمنوا برسالة رسولهم فى زمنه ، كل أولئك لهم أجر عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؛ لأنهم هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويعلمون الأعمال الصالحة التى جاءت بها الكتب التى أرسلت إليهم على يد رسل الله الذين أرسلوا لهدايتهم ، فمن كان اليهود زمن المسيح عيسى ابن مريم ولم يؤمن به ، فقد حبط عمله ؛ لأن رسالة موسى تتضمن وجوب الإيمان برسالة عيسى ونبوّته ، واتباع تعاليم شريعته متى جاءت ، والمفروض كذلك على النصارى الذين وجدوا أيام نزول القرآن الكريم أن يؤمنوا برسالة خاتم النبيين.

ولقد حكى الله تعالى عن الذين آمنوا بالرسول الكريم من النصارى عند نزول

١٣١

القرآن الكريم ، فقال : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [القصص : ٥١ ـ ٥٤].

فالمؤمنون من أهل الكتاب الذين يكافئهم الله تعالى ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، هم الذين يقيمون التوراة والإنجيل والقرآن ، ولا يكفرون بأحدها ، هذا مع العلم بأنها جميعا تفرض الإيمان برسالة محمد الكريم. قال تعالى : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ...) [الأعراف : ١٥٦ ، ١٥٧] الآية. أ. ه.

ونرجع إلى الكاتب أحمد حسين ، فنراه يقول فى صفحة (١٨٠) بعد أن ذكر الآية الكريمة ، وهى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ، ٨] استشهادا على مذهبه ما نصه : وتطبيقا لذلك ، فإن أهل الكتاب كالمسلمين سواء بسواء ، من يفعل منهم مثقال ذرة من الخير ، فإن الله يثيبه عليه ، وما يفعله من شر فإن الله يجازيه عليه ، واقرءوا إن شئتم : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١١٣ ـ ١١٥].

نقول : إن آية (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ...) [الزلزلة : ٧] إلخ ، لا تنطبق على أهل الكتاب إطلاقا ؛ لأنهم كافرون بالقرآن وبرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرط العمل الصالح كما قدمنا الإيمان بجميع الكتب المنزلة والرسل جميعا ، خص الكاتب هنا أهل الكتاب بالذكر بعد أن جعلهم فيما مضى ضمن أهل الأديان كلها ، وأن الكل ناجون ، مستشهدا على هذا بآية : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى) [البقرة : ٦٢] على ما مر بيانه. واستشهد هنا بآية كريمة أخرى على دعواه حسبما نقلناه عنه آنفا.

ونحن بعون الله تعالى ننقض القول فى بيان وإيضاح ، فنقول زيادة على ما تقدم فى أول البحث : إن الله تعالى قد خاطب أهل الكتاب بالإيمان بالقرآن ، وتوعدهم على تركه

١٣٢

بأقصى وأشد أنواع العقوبات ، وهم بهذا يتساوون مع المشركين الماديين فى أن الله تعالى طالبهم بالإيمان بالقرآن ، كذلك قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النساء : ٤٧].

وقال جل ذكره فى سورة التغابن بعد أن حكى عن المشركين أنهم ينكرون البعث : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) [التغابن : ٨] ، يعنى فالمليّون والماديون متساوون فى التكليف من الله تعالى بالإيمان بالقرآن ، ولذلك أمر الله تعالى نبيه ، عليه‌السلام ، أن يوبخ الفريقين على ترك الإيمان به ، فقال تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [آل عمران : ٢٠].

وقد جعل الله تعالى أهل الكتاب فى عداد من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، قال تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩].

قال سيدى عبد الرحمن الثعالبى الجزائرى فى تفسيره عند هذه الآية ما نصه : ونفى سبحانه عن أهل الكتاب الإيمان بالله واليوم الآخر ، حيث تركوا شرع الإسلام ، وأيضا فكانت اعتقاداتهم غير مستقيمة ؛ لأنهم تشعبوا وقالوا : عزير ابن الله ، والله ثالث ثلاثة ، وغير ذلك ، ولهم أيضا فى البعث آراء فاسدة ، كشراء منازل الجنة من الرهبان ، إلى غير ذلك من الهذيان ، (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) [التوبة : ٢٩] ، أى لا يطيعون ولا يمتثلون ، ومنه قول عائشة ، رضى الله عنها : «وما عقلت أبوى إلا وهما يدينان الدين» ، والدين هنا الشريعة.

فصار المعنى : ولا يطيعون ولا يمتثلون شريعة الحق ، وشريعة الحق هى ما جاء به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنها نسخت جميع الأديان وجميع الشرائع السابقة ، بدليل قوله تعالى بعد ذلك فى هذه السورة أيضا : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣٣].

فتبين بهذا أن أهل الكتاب ليسوا كالمسلمين سواء بسواء كما ادعى الكاتب ، وإنما هم

١٣٣

كافرون كالمشركين سواء بسواء ، ما داموا لم يؤمنوا بالقرآن وشريعته ، بل كفرهم يزيد قبحا على كفر بقية الكافرين ، ولذلك يقول الخطيب الشربينى عند تفسير قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) [آل عمران : ٩٨] ما نصه : وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أن كفرهم أقبح ، وأنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل ، فهم كافرون بهما.

أما عن الآية والاستشهاد بها ، فبعد أن أبطلنا قوله : إن أهل الكتاب كالمسلمين بما تقدم إيضاحه ، فقد أصبحت الآية لا تتصل بدعواه إطلاقا ، وأما عن معناها وتفسيرها فهو هذا ، ونسوق الآية بكمالها ، قال تعالى : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ...) [آل عمران : ١١٣] الآيات.

جاء قبل هذه الآية قوله تعالى : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) [آل عمران : ١١٠] ، يعنى لو آمن أهل الكتاب بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه ؛ لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرئاسة واستتباع العوام ، (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كعبد الله بن سلام وأصحابه ، (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) ، أى المتمردون فى الكفر.

وقيل خيرا لهم من الكفر الذى هم عليه ، فالخيرية إنما هى باعتبار زعمهم ، وفى ضرب من التهكم بهم ولم يتعرض لما يؤمنون به إشعارا بشهرته ، ثم قال هنا : (لَيْسُوا سَواءً) [آل عمران : ١١٣] ، الواو فى قوله : (لَيْسُوا) تعود على أهل الكتاب ، وهى اسم ليس ، وسواء خبرها ، فالوقف عليه تام. والمعنى أنهم ينقسمون إلى مؤمن وكافر ؛ لقوله تعالى : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) [آل عمران : ١١٠] ، فانتفى استواؤهم ، وقد سيقت هذه الجملة تمهيدا وتوطئة لتعداد محاسن مؤمنى أهل الكتاب.

وقوله تعالى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) [آل عمران : ١١٣] استئناف مبين لكيفية عدم تساويهم ، ومزيل لما فيه من الإبهام ووضع أهل الكتاب موضع الضمير العائد إليهم لتحقيق ما به الاشتراك بين الفريقين وللإيذان بأن تلك الأمة ممن أوتى نصيبا وافرا من الكتاب لا من أراذلهم.

وقوله : (قائِمَةٌ) معناه المستقيمة العادلة ، من أقمت العود فقام ، بمعنى استقام ، وهذه الأمة ، كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود الذين أسلموا ، وكالنجاشى

١٣٤

وأصحابه من النصارى الذى أسلموا أيضا ، فكل صفات الخير التى أتت بعد ذلك فى الآيات الكريمة إنما هى لمن آمن منهم بالقرآن ودخل فى حوزة الإسلام ، وعبد الله تعالى على شريعة النبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا كما زعمه الكاتب فى تحريفه الآيات ، وحملها على من لم يؤمن من أهل الكتاب ، ولو قرأ سابق الآية وتدبره حق التدبر ، لاهتدى إلى المعنى الصحيح الذى قال به أئمة الهدى وأعلام المحققين.

وأما القسم الآخر من أهل الكتاب الذى أشارت إليه الآية ، فلم يذكر فى الآية ، اكتفاء بذكر أحد الفريقين. قال الخطيب الشربينى فى تفسيره عند هذه الآية ما نصه : أى والأمة الأخرى غير قائمة ، بل منحرفون عن الحق ، غير متعبدين بالليل ، مشركون بالله ، ملحدون فى صفاته ، واصفون لليوم الآخر بغير صفته ، متباطئون عن الخيرات ، فترك هذه اكتفاء بذكر أحد الفريقين.

فأى مطمع للكاتب بعد هذا البيان فى هذه الآيات وأمثالها مما ادعى فيه أنه يؤيد رأيه الذى لم يقل به أحد ، ولم يشهد له أى دليل من نقل صحيح ، أو عقل سليم ، والله يقول الحق ، وهو يهدى السبيل.

١٣٥

كلمة للتاريخ

أحمد حسين فى سطور :

ـ والده ريفى من كفر البطيخ ، أما والدته فمن سمنود.

ـ ولد هو فى القاهرة فى ١٨ مارس ١٩١١ م ، إن كان لا يفتأ يصرح أنه ولد قبل هذا التاريخ.

ـ تلقى علومه فى كتاب الحى بطولون ، ثم التحق بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية الابتدائية ، وانتقل منها إلى مدرسة محمد على الأميرية ، حيث ألف فى هذه الفترة جمعية : نصر الدين الإسلامى.

ـ تلقى تعليمه الثانوى فى المدرسة الخديوية ، وانخرط فى نشاطها المدرسى ، وكان التمثيل هو النشاط المسيطر ، فقدم لهم مسرحية : أبو مسلم الخراسانى ، كما أشرف على إصدار مجلة المدرسة.

ـ التحق عام ١٩٢٩ م بكلية الحقوق.

ـ دعا عام ١٩٣١ م إلى تصنيع مصر بجهود الشعب ، مما أطلق عليه فى حينه : مشروع القرش.

ـ أسس عام ١٩٣٣ م جمعية مصر الفتاة ، التى تحولت بعد الحرب العالمية الثانية إلى الحزب الاشتراكى ، وكانت التعاليم الإسلامية هى نبراسه دائما ، فدعا عام ١٩٣٨ م إلى تطبيق أحكام الشريعة ، واتهم ونفر من أعضاء جماعته ، فيما اشتهر آنذاك باسم : تحطيم الحانات.

ـ كان له دور كبير فى محاربة الملك السابق وكل فساد وطغيان ، مما جعل حكام ذلك الزمان يعلمون على التخلص منه ، فانتهزوا فرصة حريق القاهرة فى يناير ١٩٥٢ م لكى يعتبروه مسئولا عن هذا العمل.

ـ كان لقيام الثورة فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢ م الفضل فى إنقاذه من حبل المشنقة.

ـ هاجر من مصر عام ١٩٥٥ م ، ولكنه لم يلبث أن عاد إليها ، فلما أن خاب أمله مرة أخرى اعتزل الحياة وأوى إلى بيته عام ١٩٦٠ م.

١٣٦

ـ وفى بيته تفرغ للمطالعة والتأليف ، فأصدر ثلاثة من المع كتبه :

١ ـ الطاقة الإنسانية.

٢ ـ الأمة الإنسانية.

٣ ـ نبى الإنسانية.

ـ جاوزت مؤلفاته الأربعين كتابا ، أحدها يقع فى ألفى صفحة ، وهو موسوعة تاريخ مصر.

ـ ولكن عمله الأكبر ، والذى يعتبره تتويجا لحياته كلها ، هو تفسيره للقرآن الكريم.

ـ أصيب بالشلل الكامل الذى أعجزه عن الحركة تماما ، فيما خلا الكتابة ، وهو ما يجعله يقول : ما بقى الله يحفظ لى عقلى ، ويقدرنى على الكتابة ، فسوف أكتب لنهضة المسلمين.

ـ يعتز باللقب الذى أطلقته عليه مجلة الأزهر من أنه : الكاتب الإسلامى.

رسالة إلى المجاهد :

بعد هذا التعريف الذى نشر فى مجلة الأزهر ، عدد جمادى الأولى عام ١٣٩٩ ه‍ ، عقب عرض لكتابه : وصيتى وإيمانى ، أقول كلمة للتاريخ : فعند إخراج هذا الكتاب فى طبعته الأولى عام ١٩٧٩ م ، قلت فى نفسى : إن الأستاذ أحمد حسين ما زال حيا يرزق ، وبالتأكيد فهو لم يطلع على ما كتبه المرحوم فضيلة الدكتور سيد أحمد المسير ، ومن الأمانة العلمية أن أضع هذا الرد أمامه ليقول كلمته ، ولكن كيف أتصل بالأستاذ أحمد حسين؟.

هنا يسر الله الأحوال ، وطرأت على ذهنى فكرة ، إن الأستاذ أحمد حسين يكتب مقالا شهريا فى مجلة «منبر الإسلام» فى تفسير القرآن الكريم ، وإن رئيس التحرير حينئذ هو الأستاذ الدكتور عبد المعطى بيومى ، وهو أستاذ معنا فى كلية أصول الدين بالقاهرة ، فلما ذا لا أرسل له الكتاب عن طريقه؟!

فعرضت الفكرة على الأستاذ عبد المعطى بيومى ، فرحب بها ، وحملته أمانة توصيل الكتاب ورسالة خطية منى إلى الأستاذ أحمد حسين.

١٣٧

وقد أخبرنى الدكتور رئيس التحرير أنه عند عرض الموضوع على أسرة التحرير فى مجلة «منبر الإسلام» اعترض البعض على إرسال الكتاب والخطاب إلى الأستاذ أحمد حسين ، بدعوى أن الرجل مريض وفى آخر أيامه ، ولا يصح أن نؤرق الرجل أكثر مما هو فيه.

فرد الأستاذ الدكتور عبد المعطى بيومى قائلا : لأن نصحح للرجل عقيدته ، ويلقى الله على عقيدة صحيحة ، خير من أن ندعه هكذا.

وفعلا ، وكما أخبرنى الدكتور عبد المعطى بيومى ، فقد أرسل إليه الكتاب والخطاب ، وهذا هو نص الرسالة :

بسم الله الرحمن الرحيم

السيد الأستاذ المجاهد الكبير أحمد حسين ، السلام عليكم ورحمة الله ، وبعد :

فأستأذن سيادتكم فى الكتابة إليكم رغم عدم سابق معرفتنا ، ولكن رابطة الإسلام أقوى ، وواجب التواصى بالحق هو الذى يمنحنى الإذن العام فى مراسلتكم.

وفى البداية فإنى أحيى فيكم جهادكم الطويل المتواصل ، وأشكر لكم توجيهاتكم السديدة لجيل اليوم ، ونصائحكم الرشيدة لحكام الوطن ، وأدعو الله لكم بالصحة ، وتمام العافية ، وحسن العواقب فى الأمور كلها.

هذا وقد كان السيد الوالد المرحوم فضيلة الدكتور سيد أحمد المسير أستاذا للتفسير والحديث بكلية أصول الدين ، وذات يوم اطلع على كتاب لسيادتكم هو «فى الإيمان والإسلام» ، والكتاب فى مضمونه العام ومنهجه ثمرة طيبة ، وغيرة مشكورة ، ولكنه اتخذ موقفا من أهل الكتاب ، رآه المرحوم والدى ونراه معه ، مجانبا للصواب ، وبعيدا عن منطق القرآن الكريم.

وقد أملى المرحوم والدى بعض التعليقات على هذا الموقف لطلاب العلم الذين تتلمذوا على يديه ، وعند ما انتقل إلى رحمة الله ، رأيت أن من الوفاء لوالدى وللعلم أن أنشر مذكراته العلمية لينتفع بها المسلمون ، وكان هذا الكتاب الذى أرسله اليوم لسيادتكم مع الأستاذ الدكتور عبد المعطى بيومى.

رجاء أن تطلعوا عليه ، وتتفضلوا بكتابة تعليق أعدكم ، إن شاء الله ، بنشره فى الطبعة الثانية ، حتى تتجلى الحقيقة.

١٣٨

والله يرعاكم ويسدد خطاكم ، مع أطيب أمانى الصحة والسعادة ، وكل عام وأنتم بخير.

٧ من المحرم عام ١٤٠٠ ه‍

٢٧ / ١١ / ١٩٧٩ م

دكتور

محمد سيد أحمد المسير

رجوع إلى الحق :

انتظرت ردا من الأستاذ أحمد حسين ، فلم يصل ، ولعل عذرا منعه ، ولكن الرجل ، رحمه‌الله تعالى ، وقد أصبح فى ذمة التاريخ بعد وفاته فى السادس والعشرين من سبتمبر عام ١٩٨٢ م ، قد كتب ردا عاما سجله فى مجلة «منبر الإسلام» ، أعلن فيه الرأى الصحيح والعقيدة الحقة فى تفسير آيات القرآن الكريم التى كان قد أخطأ فى فهمها ، وأضع أمام القارئ نصا لما سجله المرحوم الأستاذ أحمد حسين فى مجلة «منبر الإسلام» فى عدد جمادى الأولى سنة ١٤٠٠ ه‍ ، وفيه يقول :

وقد وهم أقوام ، فتصوروا أن اليهود والنصارى سواء بسواء والمسلمين آمنوا بسيدنا محمد ، عليه الصلاة والسلام ، أم لم يؤمنوا ، ما داموا يعملون الصالحات ، ونقول : إن الإيمان بسيدنا محمد هو الشرط الأساسى لكمال الإيمان.

كذلك ما سجله فى عدد رمضان سنة ١٤٠٠ ه‍ ، وفيه يقول : ويساوى ما تقدم من حيث الكفر بالله محاولة التفريق بين الرسل ، فيقال على سبيل المثال : نؤمن بموسى أو بعيسى ، ولكنا نكفر بمحمد ، فمثل هذا القول هو كفر صراح.

وبهذا يكون الرجل ، رحمه‌الله تعالى ، قد رد أبلغ رد على رسالتى إليه ، ورجع إلى الحق الذى لقى الله عليه مؤمنا صادقا.

من تفسير الأستاذ أحمد حسين :

أ ـ الدين والفطرة (١) :

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ

__________________

(١) نشر فى مجلة منبر الإسلام ، عدد جمادى الأولى سنة ١٤٠٠ ه‍.

١٣٩

وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣].

فالدين واحد ، وهو لا يمكن أن يكون إلا كذلك ، ما دام المصدر واحدا ، وهو الله ، والهدف منه واحد ، وهو عبادة الله بعمل الصالحات فى هذه الدنيا ، هذه الحقيقة الناصعة البسيطة هى ما يقررها الإسلام فى هذه الآية التى نحن بصددها وفى غيرها من الآيات ، فوعاها المسلمون كل الوعى ، وجهلها أتباع اليهودية والنصرانية ، ومن هنا يتفوق الإسلام على سائر الأديان ، إذ يعترف بها كلها ، ويلقن المسلمين أحسن ما فيها كلها وهو جوهرها ، عبادة الله الواحد الأحد ، والعمل الصالح فى الدنيا ، ليتلقى الجزاء الحسن على ذلك فى الآخرة.

فشل الاستشراق والتبشير بين المسلمين : ومن هنا فشلت كل وسائل الاستشراق والتبشير فى تحويل مسلم واحد من الإسلام إلى النصرانية أو اليهودية ، فالمسيح ، وإبراهيم ، وموسى ، ويعقوب ، وإسحاق ، كل هؤلاء رسل الله ، وحملة الوحى الإلهى ، وأيا ما قاموا به من معجزات وخوارق ، فقد فعلوه بإذن الله لخدمة الله.

لا يكمل إيمان اليهودى أو المسيحى إلا بإيمانه بمحمد : وقد وهم أقوام ، فتصوروا أن اليهود والنصارى سواء بسواء والمسلمين ، آمنوا بسيدنا محمد ، عليه الصلاة والسلام ، أم لم يؤمنوا ، ما داموا يعلمون الصالحات ، ونقول : إن الإيمان بسيدنا محمد هو الشرط الأساسى لكمال الإيمان ؛ لأنه إذا كان من المتصور عقلا للملحدين الذين ينكرون الأديان جملة ؛ لأنهم ينكرون الله ، والوحى ، والبعث ، والحياة الأخرى ، فإنه من غير المتصور أن ينكر مؤمن بكل هذا نبوّة سيدنا محمد ، عليه الصلاة والسلام ، والتى لم تخرج رسالته عن هذا الإطار.

ب ـ من غير المنطق الإيمان بالوحى ثم الكفر بمحمد (١) :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠] ، لا يجب أن يبرح الذهن أن القرآن الكريم قد نزل فى المناسبات لمواقف معينة محدودة ، ومع ذلك ، فإن آياته تظل تتحدث إلى أبد الآبدين عن أحداث عامة تتكرر على اختلاف الزمان والمكان ، فهذه الآية على سبيل المثال ، تتحدث عن يهود المدينة على زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم يزعمون أنهم يؤمنون

__________________

(١) نشر فى مجلة منبر الإسلام ، عدد رمضان سنة ١٤٠٠ ه‍.

١٤٠