عون الحنّان في شرح الأمثال في القرآن

الشيخ علي أحمد عبد العال الطهطاوي

عون الحنّان في شرح الأمثال في القرآن

المؤلف:

الشيخ علي أحمد عبد العال الطهطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4571-1
الصفحات: ٢٨٨

بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» رواه البخارى.

وعن أنس ، رضى الله عنه ، أن رجلا قال : يا رسول الله ، إنى أحب هذه السورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، قال : «إن حبها أدخلك الجنة».

وعن عقبة بن عامر ، رضى الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط؟ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق : ١] ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)» [الناس : ١] رواه مسلم.

وعن أبى سعيد الخدرى ، رضى الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان ، فلما نزلت أخذ بهما وترك ما سواهما. رواه الترمذى ، وقال : حديث حسن.

وعن أبى هريرة ، رضى الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهى : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك : ١]» رواه أبو داود ، والترمذى ، وقال : حديث حسن. وفى رواية أبى داود «تشفع».

وعن أبى مسعود البدرى ، رضى الله عنه ، عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه» (١) متفق عليه.

وعن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، إن الشيطان ينفر من البيت الذى يقرأ فيه سورة البقرة» رواه مسلم.

وعن أبى بن كعب ، رضى الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا المنذر ، أتدري أى آية من كتاب الله معك أعظم؟» ، قلت : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة : ٢٥٥] ، فضرب فى صدرى ، وقال : «ليهنك العلم أبا المنذر» رواه مسلم ، وفى البخارى فى حديث آخر طويل : «من قرأ آية الكرسى عند نومه لم يقربه شيطان».

وعن أبى الدرداء ، رضى الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال». وفى رواية : «من آخر سورة الكهف» رواه مسلم.

وعن ابن عباس ، رضى الله عنهما ، قال : بينما جبريل ، عليه‌السلام ، قاعد عند النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سمع نقيضا من فوقه ، فرفع رأسه ، فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح

__________________

(١) كفتاه ما أهمه.

٢١

قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك ، فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم وقال : أبشر بنورين لم يؤتهما نبى من قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته» الحديث رواه مسلم فى صلاة المسافرين ، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة.

وروى الحاكم فى المستدرك بإسناد صحيح ، عن معقل بن يسار ، رضى الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعملوا بالقرآن ، أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، واقتدوا به ، ولا تكفروا بشيء منه ، وما تشابه عليكم فردوه إلى الله وإلى أولى العلم من بعدى كيما يخبروكم ، وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور ، وما أوتى النبيون من ربهم وليسلم القرآن وما فيه من البيان ، فإنه أول شافع مشفع ، وما حل (١) مصدق ، وإنى أعطيت سورة البقرة من الذكر الاول (٢) وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى ، وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش».

وروى الدرامي والترمذى ، رحمه‌الله ، عن أنس ، رضى الله عنه ، عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن لكل شىء قلبا ، وقلب القرآن يس ، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات» ورمز فى الجامع لضعفه ، وصححه شارحه ، وقال الشوكانى فى التحفة : قال الترمذى : هذا حديث غريب.

وأخرج النسائى ، وأبو داود ، وابن ماجة ، وابن حبان ، رحمهم‌الله ، عن معقل بن يسار ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قلب القرآن يس ، لا يقرأها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له ، اقرءوها على موتاكم» أى من حضر الموت. قال فى التحفة : وصححه ابن حبان والحاكم.

وأخرج ابن حبان وابن السنى ، عن جندب ، رضى الله عنه ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ يس فى ليلة القدر ابتغاء وجه الله غفر له» ، وأخرجه الطبرانى ، عن أبى هريرة ، وفى إسناده غالب بن تميم ، وهو ضعيف. وأما حديث : «من داوم على قراءة يس فى كل ليلة ، ثم مات ، مات شهيدا» ، ففي إسناده سعيد بن موسى الأزدى ، وهو كذاب.

وروى البخارى ، عن عمر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد أنزلت علىّ الليلة سورة لهى أحب إلى مما طلعت عليه الشمس» ، ثم قرأ : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١].

__________________

(١) أى خصم مجادل مصدق. أ. ه نهاية.

(٢) وهو الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين.

٢٢

وروى الترمذى ، والحاكم ، عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) [الزلزلة : ١] تعدل نصف القرآن ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] ثلث القرآن ، و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] تعدل ربع القرآن» وصححه فى الجامع وشرحه ، ولكن قال فى التحفة : قال الترمذى بعد إخراجه : حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة الذى هو العنزى. قال يحيى بن معين : ليس حديثه بشيء. وقال البخارى : منكر الحديث. وضعفه أبو زرعة ، والدارقطنى. وقال ابن عدى : لا أرى به بأسا ، فالعجب من الحاكم حيث صحح حديثه أ. ه.

وأخرج الحاكم ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية فى كل يوم؟» ، قالوا : ومن يستطيع ذلك؟ قال : «أما يستطيع أحدكم أن يقرأ (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ)» [التكاثر : ١]. أخرجه الحاكم ، عن عقبة بن محمد ، عن نافع عن ابن عمر. قال المنذرى : ورجال إسناده ثقات ، إلا أن عقبة لا أعرفه.

وعن أنس ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل من أصحابه : «هل تزوجت يا فلان؟» ، قال : لا ، والله يا رسول الله ما عندى ما أتزوج به ، قال : «أليس معك (قُلْ هُوَ اللهُ)؟» قال : بلى ، قال : «ثلث القرآن» ، قال : «أليس معك (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)؟» [النصر : ١] ، قال : بلى ، قال : «ربع القرآن» ، قال : «أليس معك : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ)؟» [الكافرون : ١] ، قال : بلى ، قال : «ربع القرآن» ، قال : «أليس معك (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ)؟» [الزلزلة : ١] ، قال : بلى ، قال : «ربع القرآن ، تزوج ، تزوج» أى بما معك من القرآن». قال فى تحفة الذاكرين : قال الترمذى بعد إخراجه : هذا حديث حسن ، وقد تكلم فى هذا الحديث مسلم فى كتاب التمييز ، وهو من رواية سلمة بن وردان ، عن أنس. قال أبو حاتم : ليس بقوى ، عامة ما عنده عن أنس منكر. وقال يحيى بن معين : ليس حديثه بذاك. أ. ه.

وفى الجامع وصححه : «من قرأ فى ليلة مائة آية لم يكتب من الغافلين». وفى الدرامى : «من قرأ مائتى آية فى ليلة كتب من القانتين» ، و «من قرأ فى ليلة ثلاثمائة آية كتب له قنطار» ، و «من قرأ ألف آية كتب له قنطار من الأجر ، والقيراط من ذلك القنطار لا يفى به دنياكم». وفى رواية : «والقيراط من القنطار خير من الدنيا وما فيها واكتسب من الأجر ما شاء الله» ، وهذه الأحاديث ، وإن كان فيها مقال ، فهى داخلة تحت عموم حديث : «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ...» الحديث ، والقرآن كلام الله وفضائله لا تحصى.

٢٣

تحزيب القرآن

قال فى المغنى : يستحب أن يقرأ القرآن فى كل سبعة أيام ليكون له ختمة فى كل أسبوع.

قال عبد الله بن أحمد : كان أبى يختم القرآن فى النهار فى كل سبعة ، يقرأ فى كل يوم سبعا لا يتركه نظرا. وقال حنبل : كان أبو عبد الله يختم من الجمعة إلى الجمعة ، وذلك ما روى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعبد الله بن عمر : «اقرأ القرآن فى سبع ، ولا تزيدن على ذلك» رواه أبو داود.

وعن أوس بن حذيفة ، قال : قلنا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد أبطأت عنا الليلة ، قال : «إنه طرأ علىّ حزبى من القرآن ، فكرهت أن أخرج حتى أتمه». قال أوس : سألت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف تحزبون القرآن؟ قالوا : ثلاث (١) ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل وحده. رواه أبو داود.

ويكره أن يؤخر القرآن أكثر من أربعين يوما ؛ لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله عبد الله بن عمرو : كم تختم القرآن؟ قال : «فى أربعين يوما» ، ثم قال : «فى شهر» ، ثم قال : «فى عشرين يوما» ، ثم قال : «فى خمس عشرة» ، ثم قال : «فى عشر» ، ثم قال : «فى سبع» ، لم ينزل من سبع (٢) أخرجه أبو داود. قال أحمد : أكثر ما سمعت أن يختم القرآن فى أربعين ، ولأن تأخيره أكثر من ذلك يفضى إلى نسيان القرآن ، والتهاون به ، فكان ما ذكرنا أولى ، وهذا إذا لم يكن عذر ، فأما مع العذر فواسع له. أ. ه.

لا تعرض عن قراءة القرآن

إذا عرفت فضل القرآن العظيم ، وفضل بعض سوره وآياته ، وعرفت وافر وجزيل أجر تلاوته ، وعلمت كيفية تحزيب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه للقرآن ، وترتيبهم له على الأيام والليالى ، حق لنا أن نقول لك أيها المسلم المتبع لأعظم رسول : لا تعرض عن قراءة كتاب ربك إلى قراءة أوراد المشايخ وأحزابهم ، فإن الأجر كله ، والثواب كله ، والفضل العظيم كله ، والنصح ، والإرشاد ، والوعظ ، والهدى ، والنور كله ، والصراط المستقيم إنما هو فى تلاوة كتاب الله تعالى.

__________________

(١) أى نقرأه فى ثلاث إلخ.

(٢) أى عن سبع.

٢٤

فيا متبع الرسول الأعظم ، إياك ثم إياك وما ابتدع ، فإنه ضلالة ، واعلم أنه لا يجوز لك أن تقرأ دعاء البسملة ، ولا ورد الجلالة ودعاءها للجيلانى ؛ لأنه يصدك عن القرآن ، ولا يجوز لك أن تقرأ مسبعات ، ولا منظومة الدردير ، ولا ورد السحر ، والميمية ، والمنهجة الكبرى ، بل اقرأ بدل هذا أحزابا من القرآن تنفعك قراءتها يوم لقاء ربك ، ولا سيما قراءة التدبر والتفقه.

أيها العاقل ، هل حزب البر ، والبحر ، والنصر ، وحزب الرفاعى الكبير والصغير ، وحزب الدسوقى الكبير والصغير أيضا ، وحزب النووى والبيومى ، وحزب الوقاية المسمى بالدور الأعلى ، بل وجميع مجموع الأوراد ، خير أو حزب واحد ، أو سورة واحدة من القرآن العظيم؟! لا بل آية واحدة ، بل حرف واحد من كتاب الله ، لا شك أنك تعترف أنه أعظم وأجل ألف مرة ، بل لا مناسبة بالكلية ، وأنت تشهد وتقر معى بذلك ، ولا أظنك تنكره ، إن جميع ما فى مجموع الأذكار الطيبة للطرق السبعة ، وجميع ما فى كتاب مجموع أوراد الخلوتية والمرغنية ، وأوراد الخليلية ، وحرز الجوشنى ، وحرز الغاسلة ، والجلجلوتية ، والبرهتية ، لا شك أنه من عند غير الله ، ولا شك أنه شرع لم يشرعه الله ولا رسوله ، فصار بدعة ، وكل بدعة ضلالة.

ولعلك تقول : إن هذه الأحزاب والأوراد لا تخلو من آيات قرآنية فيها ، فنقول لك : القرآن كاللبن النقى الخالص ، وأحزابكم وأورادكم كاللبن المخلوط بالدم ، أو كاللبن الاصطناعى ، فأيهما ترتضيه لنفسك؟ الأول لا شك ، بل ما فى القرآن من الموعظة ، والشفاء ، والرحمة ، والتذكير ، والهداية ، والعبرة ، والأمر ، والنهى ، والترغيب ، والترهيب ، وذكر عظمة الله وكبريائه ، وتعريفك برسول الله ، ورسوله ، وقصص الأنبياء وأتباعهم ، وما فعل الله بالطاغين والعاصين ، وما أعده لأهل طاعته من النعيم المقيم ، وغير ذلك مما لا يمكننا عده ، ولا حصر بعضه ، وليس يوجد من ذلك حرف واحد فى أورادكم ولا أحزابكم ، فما هى إلا عبادات مخترعات.

وشىء آخر هو أنك لا تقرأ بحرف واحد من كتاب الله إلا أوتيت أجره ، كما فى الحديث الصحيح : «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول : الم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف ، والله يضاعف لمن يشاء» ، فما هو ثواب من قرأ حزب الجيلانى كله من أوله إلى آخره ألف مرة ، وما ثواب من يقرأ حزب الكبرى ، بل وما ثواب من يقرأ جميع مجاميع الأوراد كلها حرفا حرفا؟ لا يمكنكم أصلا أن تقدروا لقارئها ثوابا كثواب قراءة أصغر سورة فى القرآن ، بل ولا آية ،

٢٥

ولا حرف واحد ، فإن قدرتم وقلتم فظن و (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [يونس : ٣٦] ، بل (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات : ١٢] ، بل يكون افتراء وكذبا على الله ، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) [الصف : ٧].

فيها أيها المسلمون (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر : ٢٣] ، وقص عليكم أحسن القصص فى كتابه ، فلا تعدلوا عنه وتتبعوا هؤلاء ، فإنهم قد هوكوا وتهوكوا (١) ، يا قوم «كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابا غير كتاب ربهم الذى أنزل على نبيهم» ، كذا فى الحديث ، يا قوم حذار حذار من الإعراض عن كتاب الله ، فإن الله يقول : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) [طه : ١٢٤] ، ويقول : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٢) [الزخرف : ٣٦] ، ويقول لنبيه : (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) [طه : ٩٩ ـ ١٠١] ، ويقول : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) (٣) [الجن : ١٧].

يا قوم ، إنى أقول والحق أقول : إنه لا يرغب عن كتاب ربه إلى مخترعات الشيوخ إلا من سفه نفسه ، وضل سعيه ، وزين له الشيطان عمله ، فصده عن السبيل ، فحزبوا وجزءوا القرآن ، وقسموه على أيامكم ولياليكم ، وحلوا وارتحلوا فيه من أوله إلى آخره ، واجعلوا المصحف فى جيوبكم دائما وأبدا ، بدل المجموع ، ولكن أكبر ما تمعنون فيه النظر بعد القرآن أحاديث الرسول ، والتعبد بالأدعية والأذكار المروية عنه فى الكتب التى ذكرناها لكم ، وهذا فيه الغنية التامة ، والكفاية العظمى عن جميع ما تقرءونه من الأوراد ، والأحزاب ، والدلائل ، والتوسلات التى لم يتعبد بحرف واحد منها أحد من الصحابة ، ولا التابعين ، ولا أئمة الدين ، أسأل الله لى ولكم الهداية والاعتصام بكتابه وسنة نبيه ، آمين.

__________________

(١) التهوك : كالتهور وهو الوقوع فى الأمر بغير روية ، وقيل : هو التحير. اه. نهاية.

(٢) قرين : أى صاحب ملازم له.

(٣) صعدا : أى متزايدا؟.

٢٦

بدعية جمع القراءات فى سورة أو آية واحدة

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية ، رحمه‌الله ، عن جمع القراءات السبعة ، هل هو سنة أم بدعة؟ وهل جمعت على عهد رسول الله أم لا؟ وهل لجامعها مزية ثواب على من قرأ برواية أم لا؟ فأجاب بقوله : الحمد لله ، أما نفس معرفة القراءة وحفظها فسنة ، فإن القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول ، فمعرفة القراءات التى كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بها ، أو يقرهم على القراءة بها ، أو يأذن لهم وقد أقرئوا بها سنة ، والعارف بالقراءات الحافظ لها ، له مزية على من لم يعرف ذلك ، ولا يعرف إلا قراءة واحدة ، وأما جمعها فى الصلاة أو فى التلاوة ، فهو بدعة مكروهة ، وأما جمعها لأجل الحفظ والدرس ، فهو من الاجتهاد الذى فعله طوائف فى القراءة ، وأما الصحابة والتابعون ، فلم يكونوا يجمعون ، والله أعلم.

وقال فى موضع آخر : وأما الجمع فى كل القراءة المشروعة المأمور بها ، فغير مشروع باتفاق المسلمين ، بل يخير بين تلك الحروف ، وإذا قرأ بهذه تارة وبهذه تارة كان حسنا. وقال بعد حديث الصحاح وهو : «أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف ، فاقرءوا بما تيسر» ، ومعلوم أن المشروع فى ذلك أن يقرأ أحدها أو هذا تارة وهذا تارة لا الجمع بينهما ، فإن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجمع بين هذه الألفاظ فى آن واحد ، بل قال هذا تارة وهذا تارة. أ. ه.

بدع وضلالات متعلقة بالقرآن العظيم

فمن ذلك أخذ الفأل والبخت من المصحف ، ولا أدرى ما ذا يصنع صاحب البخت إن وقف على آية : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ) [البقرة : ٢٧٩] ، أو : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) [العلق : ١٥] ، أو : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) [العلق : ١٦] ، أو : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق : ١٨] مثلا. وفى كتاب أدب الدنيا والدين ، أن الوليد بن يزيد تفاءل يوما فى المصحف ، فخرج له قوله تعالى : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [إبراهيم : ١٥] ، فمزق المصحف وأنشأ يقول :

أتوعد كل جبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل يا رب مزقنى الوليد

فلم يلبث إلا أياما حتى قتل شر قتلة ، وصلب رأسه على قصره ، فنعوذ بالله.

٢٧

وهذا فعل مذموم جدا يجب تركه ومحاربته ، وكذا قولهم : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحزن ويتألم من قراءة سورة : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١] لأجل عمه ، فلا تقرأ ولا يصلى بها ، وكيف ذلك وقد أنزل الله : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١] الآية ، واعتقادهم أن من حلف على المصحف يصاب بالعمى والكساح هو من خرافاتهم وجهالاتهم المضحكة ، وإنما هو يمين يكفر عنها إن رأى أن غيرها خير منها على بعض المذاهب ، وإلا فهو يمين غموس ، أى يغمس صاحبه فى النار ، وقراءتهم سورة يس أربعين مرة بدعائها المخترع المحدث لإهلاك شخص ، أو فك مسجون ، أو قضاء حاجة ، جهل أيضا وبعد عن اتباع الحقائق الشرعية.

وحديث : «يس لما قرئت له». قال الحافظ السخاوى : لا أصل له ، وكذا حديث : «خذ من القرآن ما شئت لما شئت» ، فتشت عنه كثيرا فى الكتب ، فلم أجد له أصلا ، وفى آخر تفسير سورة يس من البيضاوى والنسفى أحاديث موضوعة فى فضلها ، فينبغى أن لا يعول عليها ، وجمع آى سجدات القرآن والسجود عند كل آية بدعة تقدم الكلام عليها ، وجمع تهليلات القرآن كما فى حزب البيومى ، ابتداع فى الدين ، واختراع لا يرضى ، وقراءة النساء القرآن على الرجال فى المحافل وغيرها ممنوع شرعا ، وقد قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا نابتكم نائبة فى صلاتكم فسبحوا ، إنما جعل التصفيق للنساء» ، كذا فى الصحيح ، أينها هن الرسول عن التلفظ بسبحان الله فى الصلاة ونجلسهن بيننا للتغنى بالقرآن على مقعد خاص فى محافل الرجال؟ (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥] ، وكتب آيات السلام ك (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) [الصافات : ٧٩] بدعة ضلالة أيضا.

وجعلهم المصحف حجابا يعلقونه على أنفسهم ، وعلى مواشيهم جهل شنيع وبدعة ، وحمل النساء له أيام حيضهن ، ونفاسهن ، ووقت جنابتهن ، ضلال كبير ، وامتهان لكتاب الله القدير ، وخبر نزول دم عثمان عند قتله على كتاب الله على لفظ : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة : ١٣٧] باطل لا أصل له ، كما فى أسنى المطالب ، وحديث شمهورش قاضى الجن الذى فيه : حدثنى سيد المرسلين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حدثنى جبريل ، قال : حدثنى إسرافيل عن رب العزة أن من قرأ سورة الفاتحة فى نفس واحد لقضاء حاجة قضيت» ، هذا باطل معارض بما عرف من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ يقف على رءوس الآى ويمدها ، ثم لما ذا وما فائدة قراءتها فى نفس واحد؟ إن هذا لمن أفرى الفرى على الله ورسوله ، ولو كان صحيحا لثبت فى الصحاح والسنن ، واشتهر على

٢٨

ألسنة الصحابة والتابعين ، ولم تقتصر روايته على شمهورش الجنى.

وإننى لأعجب كيف يروج هذا على عقول العلماء؟ وكيف يقبلونه؟ وكيف يحفظونه ويقرءونه على الناس ، وفى مصنفاتهم يكتبونه؟ وقد سمعت هذا الحديث من شيخ أزهرى يقال له : عالم ، وقرأته على ظهر كتاب لشيخ من المتأخرين ، فيا للأسف على فساد عقول رؤساء الدين ، ورواج الأباطيل والأضاليل والترهات على من اشتهر من بين الناس بأنهم كبار المسلمين ، وعلى عدم معرفتهم بين الصحيح والمكذوب على الرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإننى والله لا أثق أبدا بعلم ولا دين هؤلاء ما داموا لا يفرقون بين الحق والباطل ، والصحيح والموضوع ، ولا بين الأنوار الربانية المحمدية ، والظلمات الشيطانية.

والدعاء الذى فى آخر المصاحف لا يجوز التعبد به قطعا ، بل هو مذموم وممنوع شرعا ؛ لأنه مخترع وليس مأثورا ، بل كله بدع ضلالات ، وتوسلات موضوعات ، فلا تحل قراءته ، بل ولا كتابته فى آخر المصاحف ، والقرآن والسنة كافيان شافيان ، قال الله تعالى مسفها وعائبا أحلام من لم يكتفوا بكتاب الله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت : ٥١] ، وفى الحديث : «كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابا غير كتاب نبيهم أنزل على نبى غير نبيهم» رواه أبو داود فى مراسيله.

فكيف بكم وقد أصبحت جل عباداتكم لا هى عن نبى من أنبياء الله المتقدمين ، ولا هى عن نبيكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا عن أصحابه ، بل أوحى بها الشيطان على بعض المتعالين ، فحذار من التعبد بما لم ينزل على نبيكم ، ولا فعله أصحاب نبيكم ، إذ المتعبد به بدعى ، جاهل ، غبى.

وقراءة الختمات التى يعملونها للأموات ويجتمع لها القراء ويفرقون على بعضهم أجزاء الأربعة ـ المصحف ـ ثم يستفتحون القراءة ويختمونها جميعا فى ساعة ، ثم يهدون ثواب ما قرءوه للمتوفى ، بدعة ضلالة فاعلها غاية الجهالة ، ولو عاشوا عمر نوح يبحثون فى الشريعة الغراء على دليل يدل على ذلك لما وجدوه ، وهؤلاء لو أن الداعى لهم أخرج لهم الغداء أو العشاء قليلا ، أو أعطاهم قروشا قليلة ، لفضحوه وسبوه ولعنوه لعنا كبيرا ، فنعوذ بالله من الجهل والشقاء والخيبة.

والقارئ ، الفقى ، الراتب فى البيوت دائما وفى رمضان بدعة ، ودخولهم على النساء

٢٩

حال غياب الرجال مفسدة ودياثة ، وشحذ القراء بالقرآن فى الشوارع والطرقات ضلال كبير ، وشر خطير ، ولو استغنوا بتجارة أو صناعة لغناهم الله قطعا : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق : ٢ ، ٣] ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق : ٤] ، وفى الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا» رواه الإمام أحمد ، والترمذى ، وابن ماجة ، والحاكم ، عن عمر بسند صحيح كما فى الجامع ، فاتقوا الله أيها القراء ، وتوكلوا على الله وتحرفوا لدنياكم ، «فإن الله يحب العبد المؤمن المحترف ، واعرفوا ربكم وادعوه ، فإنكم لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال» وذكرهما فى الجامع.

وقراءة الفاتحة زيادة فى شرف النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعة لا أصل لها ، وقد قال تعالى : (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] ، ولم يقل : اقرءوا عليه ، وقراءة الفاتحة بنية قضاء الحاجات ، وتفريح الكربات ، وهلاك الأعداء ، بدعة لم يأذن بها الدين ، وقراءة الفاتحة بالسماح كما يفعله الفقراء بدعة ، وقراءة الفاتحة عند شرط خطبة الزواج واعتقادهم أن قراءتها عهد لا ينقض بدعة واعتقاد فاسد وجهل.

وقراءة سورة الفيل إلى (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل : ٥] ثم تكرير (كَعَصْفٍ) مرات لأجل إسكات الكلاب عن النباح ، واعتقادهم أنها تمنع الكلب عن عض الإنسان ، وأنه إذا قرأ لفظة (مَأْكُولٍ) عضه الكلب ، هذا هو كلام واعتقاد من لا عقل له ولا دين.

والمسبعات : الفاتحة ، والمعوذتان والإخلاص ، والكافرون سبعا سبعا بدعة ، لم يرد فيها ولا حديث ضعيف ، ولم يتعبد بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا أحد من خلفائه ، ولا أصحابه ، فما هى إلا منام رآه إبراهيم التيمى ، وليست المنامات شريعة يتعبد بها.

والفائدة التى يعملونها لجلب الرزق ، ويصومون عن أكل كل ذى روح أياما ، ويحتجبون عن الناس فى الخلوة فى مكان مظلم ، ويكررون عقب كل صلاة مئات المرات آية : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [يس : ٧٢] هى باطلة قطعا ، ولا تعود على صاحبها بأدنى فائدة ، بل بالخيبة الدائمة ، والذى يجلب الرزق حقا ، ويفتح لك بركات السماء والأرض ، إنما هو تقوى الله ، قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦].

٣٠

وقولهم : كان السيوطى إذا أراد أن يفسر القرآن ، خرج إلى الجبل ففسره هناك خوفا من الخطأ فى التفسير ، فإنه ينزل الغضب على أهل البلد ، كلام باطل لا أصل له البتة ، وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان ، ليصدهم به عن سبيل الله ، وقد قال الله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٧] ، أى متذكر ومتعظ به ، وقال تعالى : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [فصلت : ١ ـ ٤] ، وقال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩].

ولهذا الجهل الفاشى بينهم ، ترى الناس جميعا ، حتى حملة القرآن ، يتحاملون عن التكلم فى معنى آية من كتاب الله ، وإن كان أحدهم حافظا لمعناها ، وإن كان سمع تفسيرها عشرين مرة ، وإن كان قرأها فى التفسير مائة مرة ، فتراهم يتناهون بحدة وشدة ، يقولون : ارجع ارجع أحسن تنزل علينا الغضب ، ما لك وما للتفسير ، خلى التفسير لأصحابه يا عم.

ومن هنا عم فينا الجهل وطم ، وساءت أخلاقنا ، وسفهت أحلامنا ، وقسمت قلوبنا ، (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] ، وعصى الله ورسوله جهارا ، وبعدنا عن كل فضيلة ، ووقعنا فى كل رذيلة ، حتى صرنا أذل وأحقر الأمم بعد أن كانت العزة والسلطان لنا ، وكل هذا بسبب هجرنا وبعدنا من تعاليم القرآن السامية ، وعدم اعتناقنا لأوامره ونواهيه ، وإعراضنا عن فهمه وتدبر معانيه ، قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) [طه : ١٢٤] ، وقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] وقوله : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) [الجن : ١٧] ، وقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) [الكهف : ٥٧].

واعتقادهم كفر من غلط ، أو لحن فى قراءة سورة الكافرين اعتقاد باطل فظيع شنيع ، ومتى يتعلم الإنسان دينه ، وكتاب ربه ، إذا كان بغلطة ينزل عليه وعلى أهل بلدته المقت والغضب ، وبلحنه يكفر ويخرج من الدين؟ نعوذ بالله من ضلال المضلين ، ومن الشيطان الرجيم ، لما علم الشيطان عظم أجر هذه السورة ألقى هذا بين الناس.

فقد روى الطبرانى ، والحاكم ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن ، و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) تعدل ربع القرآن» حديث صحيح ، كما فى الجامع ، وقد تقدم فى الحديث المتفق عليه أن : «الذى يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له

٣١

أجران» ، وورد : «من قرأ القرآن فأعربه ، فله بكل حرف منه عشر حسنات ، ومن قرأه ولحن فيه ، فله بكل حرف حسنة» وصححه ابن قدامة.

وكتاب الدر النظيم فى خواص القرآن العظيم لا تجوز قراءته ، ولا العمل بما فيه ، وليس فيه جملة نافعة ، ولا فائدة صادقة ، بل كل فوائده وجمله كاذبة خاطئة ، ومثله كتاب الفوائد فى الصلات والعوائد ، إلا أن هذا خلط ، فجمع بعضا من الصحيح ، والضعيف ، وبقيته أكاذيب ، وخرافات ، وأباطيل ، وترهات ، وأضاليل ، وتمويهات ، أعاذ الله منها المسلمين والمسلمات.

وقولهم لقارئ القرآن : الله الله ، كمان ، كمان يا أستاذ ، هيه هيه ، الله يفتح عليك ، حرمه الله بقول : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف : ٢٠٤] ، والحق أنهم لم يلتذوا بألفاظ القرآن ؛ لأنهم لم يفقهوا لها معنى ، بل ما كانت لذتهم إلا من حسن نغمة القارئ ، والدليل على ذلك أنه لو قرأ قارئ ليس حسن الصوت ، السورة بعينها ، التى كانت تتلى عليهم لانفضوا من حوله ، سابين لاعنين له ولمن جاء به ، قائلين : جايب لنا فقى حسه زى حس الوابور.

ولقد وصف الله المؤمنين من عباده بأنهم : (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [الأنفال : ٢] ، وقال فيهم أيضا : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الزمر : ٢٣].

ذكر أسباب إعراض الناس عن القرآن

هذه الأسباب كثيرة جدا ، وليس منها ما يعد عذرا مقبولا عند الله تعالى ، وسنبين لك هذا إن شاء الله ، فنقول : المعرضون طوائف :

الطائفة الأولى : العلماء ، ولإعراضهم عن القرآن سببان :

السبب الأول : أن الكتب التى يقرءونها ويتدارسونها لم توصلهم إلى إدراك حقائق هدايته ، ولم تكشف لهم أنواره الربانية ، وأسراره الصمدانية ، ومواعظه الرحمانية ، وإرشاداته المؤثرة ، وترغيبه وترهيبه ، وقصصه ، وعجائبه ، ومحاسنه ، وغير ذلك مما لو أنزله الله : (عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١] ، ذلك لأنها مشحونة بالمسائل المنطقية والبيانية والفلسفية ، وإظهار وجوه الإعراب والصرف ،

٣٢

ولذلك كانت الهداية والدلالة بها على الله ودينه قليلة جدا ، ولذا نرى كثيرا منهم يتركون الصلاة ، وينقرونها نقرا ، مخلين بها ، ويرتكبون الكبائر من المحرمات ، فقطعا هم لم يذوقوا طعم القرآن ، والله لو ذاقوا طعمه وحلاوته ولذة مناجاته تعالى لما وقعوا فى محارم الله ، ولأداهم ذلك إلى الجهاد فى سبيله ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ، وخصوصا فى عصرنا هذا الذى سالت فيه سيول الفتن والأضاليل ، وكادت عواصف الملحدين والزائغين والمبتدعين تنسف أنوار الهداية المحمدية نسفا.

وهذا هو مقتضى القرآن والإيمان ، فإن الله تعالى يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات : ١٥] ، فليس صادقا فى إيمانه من لم يجاهد فى سبيل الله بماله ونفسه ، وأى جهاد أعظم من دعوة الناس جميعا إلى الاستمساك بالقرآن ونواهيه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وإلا فبالعنف والشدة ، كما قال تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣] الآية.

فلما لا تظهرون للناس عجائب القرآن السامية ، ومعجزاته الهادية ، وعلومه العالية ، وقصصه الوعظية ، وسياسته الاجتماعية ، وإدارته المدنية بأساليب الإقناع العصرية ، التى انتهجها أخوكم صاحب المنار فى تفسيره ، وفى كتابه الوحى المحمدى ، الذى أظهر فيه علوم القرآن ومعجزاته ما يحتاج إليه العالم الإنسانى ، فتضاربون بأعاجيب كتاب ربكم ، وسنن نبيكم ، وحلاوة فصاحتكم ، وعذوبة بلاغتكم ، أعاجيب السينمات والتياترات واللونباركات ومسارح الرقص والغناء ، إنكم لما أعرضتم عن تعليم وإرشاد وجهاد أبنائكم وإخوانكم ، أعرضوا عنكم وانصرفوا إلى ملاذهم وشهواتهم ، فاللوم عليكم.

ثم لما ذا لا تكاتبون حكومتكم الإسلامية بذلك؟ لما ذا لا تتخذون رؤساء الحكومة إخوانا لكم ، فترغبون فى القرآن والإيمان ورضاء الرحمن؟ وجنة عالية قطوفها دانية؟ وترهبونهم من ترك القرآن ومعصية الرحمن ، ومن (نارٌ حامِيَةٌ) [القارعة : ١١] ومن (سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) [الواقعة : ٤٢ ـ ٤٤] ، إنكم لو فعلتم ذلك لوجدتم وفاقا ، واتفاقا ، وألفة ، ومحبة ، ومودة بين سائر المسلمين ، فلما لم تفعلوا أحل بنا ما حل ، فأنتم المسئولون بين يدى ربكم عن ضياع هذه الأمة بسبب إعراضكم عن كتاب الله.

السبب الثانى : مرتباتهم الضخمة ، وجراياتهم الكثيرة ، فإن الذين يأخذون خمسين وستين جنيها ، إلى تسعين ومائة ، إلى خمسمائة وستمائة ، مرغمون ومضطرون إلى تنميق

٣٣

مآكلهم ، ومشاربهم ، وملابسهم ، ومناكحهم ، ومساكنهم ، وأتومبيلاتهم ، وجراجاتهم ، واستثمار أموالهم ، وتكثير أطيانهم وعزبهم ، وقصورهم ، وبنائهم ، وتشييدهم ، وتجديدهم ، وتصليحهم ، لكل ذلك وهذا وغيره يحتاج ضرورة إلى ضياع أكثر الأوقات.

ثم اعلم أنا لا نقول لهم : ألقوا بأموالكم فى البحر ، أو بددوها ، أو وزعوها على الناس ، كلا كلا ، بل نحن نعلم أن عزة الإسلام والمسلمين لا تكون إلا بالأموال ، ولكنا نقول لهم : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٤١] ، انشروا علوم الإسلام على المسلمين ، وافتحوا لهم فى البلاد المدارس ، وقرروا فيها حفظ القرآن ، وتدريس التفاسير وكتب السنة والتوحيد ، ووظفوا فيها العلماء العاملين ، ورتبوا لهم المرتبات ، واحبسوا عليها الأوقاف ، فإن خريجى الأزهر يكثرون عاما بعد عام ، ولا يجدون كسبا يعيشون به كما تعيشون ، بل هم عالة على أهليهم وأقاربهم وعلى الناس ، يعلمون كل الوسائل للحصول على وظيفة بمسجد يتعيشون منها ، ويجلسون ينتظرون السنين العديدة حتى يبيعوا كتبهم ويخرجوا إلى بلاد الأرياف كى يسهر الواحد منهم فى رمضان عند رجل بجنيه واحد ، وبعضهم يعظون فى المساجد ، وبعد الوعظ يقول الواحد للناس : إننى عالم مسافر إلى بلدى ، وليس معى ما يوصلنى فساعدونى ، وبعضهم يبكى ويقول : احترق منزلى أو ثيابى ، أو يقول : سرقنى النشال ، وهم كاذبون.

وإنما أوقعهم فى الكذب شدة ما هم فيه من الفقر والفاقة ، فهلا كفيتم هؤلاء المساكين ذل السؤال؟ هلا سافرتم إلى البلاد ففتشتم على بلد ليس فيه علم فأسستم فيه مسجدا ورتبتم فيه عالما؟ هلا أرسلتم على نفقاتكم وعاظا يجوبون البلاد ، ويعلمون العباد ، وينشرون الإصلاح ، ويخمدون نار الإفساد؟ كلا بل ألهتكم أموالكم عن تبيان أوامر الله ونواهيه ، وهلا تدبرتم قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة : ١٥٩] ، وقوله : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [التوبة : ٢٤].

الطائفة الثانية : جماعة الأغنياء البخلاء ، أطغتهم الأموال ، وألهتهم الآمال ، فكانوا ممن أو كمن قال الله فيهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) [إبراهيم : ٢٨] ، منعوا الزكاة المفروضة ، والنفقات الواجبة والمندوبة ، فعشوا عن

٣٤

القرآن الكريم ، والذكر الحكيم ، فسلط الله عليهم الشياطين ، يدعونهم إلى الشر ، ويأمرونهم بالمنكر ، وينهونهم عن المعروف ، ويجرونهم إلى السينمات ، وحفلات الرقص والغناء ، ويصدونهم عن الجمعة والجماعات ، وسماع القرآن والخطب ، فهم يجاهدون فى سبيل الشيطان بأموالهم وأنفسهم معرضون عن الحق ، وقد قال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] ، فيا أغنياء المسلمين (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد : ١٦].

الطائفة الثالثة : القراء الذين لا يقرءون القرآن إلا لجمع حطام الدنيا ، فيتلونه فى حفلات المآتم والختمات والليالى ، وكثير منهم يتعلمون القراءات لأجل التعيش ، ولأجل أن يرغبوا فيه أكثر من غيره ، ولأجل أن يكتسب هو أكثر منهم ، ولو سألتهم عن معنى كلمة واحدة من كتاب الله لعجزوا ، ومن الناس من لا يحفظون أولادهم القرآن إلا لأجل إعفائهم به من القرعة العسكرية ، ومنهم من يعلمونه أبناءهم وبناتهم العميان لأجل المعيشة والارتزاق ، وما لهذا أنزل القرآن.

الطائفة الرابعة : المتصوفة ، والسبب فى إعراض هؤلاء الناس عن القرآن إنما هو اشتغالهم بأحزاب مشايخهم ، وأورادهم ، وبالبيارق ، والبازات ، والليالى ، والختمات ، والموالد ، والحضرات ، والمنامات ، والتخمير بسانوريا مانوريا سبايبنيرا ، والواجب على العلماء أن يحاربوا هؤلاء الأقوام.

الطائفة الخامسة : جماعة المتفرنجين والصناع ، وهؤلاء قد شغلوا بقراءة الجرائد السياسية ، والمجلات الفكاهية والهزلية ، وكتب الحكايات والروايات والقصص والأشعار ، كالزير سالم ، وأبو زيد ، والمهلهل ، فتراهم يحفظون الكثير من المسائل الطويلة السياسية ، والحكايات والقصص والفكاهات والشعر وغير ذلك ، ويحفظون قليلا ولا كثيرا من علوم الإسلام ، بل يعدون المقبلين على فهمها والعمل بها مجانين ، أو عقولهم متأخرة ، وهؤلاء كل آية فى القرآن نزلت فيمن يعرضون عن ذكر ربهم تصفعهم هم على نواصيهم ، قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) [الكهف : ٥٧] ، وقد وصف الله المعرضين عما ذكروا به بالحمر ، فقال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (١) [المدثر : ٤٩ ، ٥١].

__________________

(١) أى أسد.

٣٥

وقال فى أمثالهم : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) [الجمعة : ٥] ، وقال : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٤] ، وقال : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ) (١) (مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) (٢) (بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) (٣) [المؤمنون : ٦٣ ـ ٦٦]

الطائفة السادسة : الجماعة الأميون ، وهؤلاء يحفظ أحدهم مائة موال ، ومائة حدوثة ، وكثيرا من الأحراز والفوازير ، ويذكر لك كل ما يسمعه من الحكايات ، وكل ما يقرأ أمامه من قصة الظاهر بيبرس ، أو عنترة ، أو خليفة ، ثم إذا خاطبته فى حفظ شىء من القرآن ليصحح به صلاته يعتذر لك بعدم القراءة والكتابة ، ويقول لك : يا سيدى بعد ما شاب يودوه الكتاب ، هذا جوابهم مع أنا نرى منهم من يخاطب الإفرنج بلغاتهم ، وإننى لأعرف أناسا أميين يجيدون قراءة وكتابة اللغات الأجنبية ، ولا يحسنون النطق بسمع الله لمن حمده ، ولا بالفاتحة ، فالمسألة راجعة إلى العناية والاجتهاد ، فلو اجتهد رجل أمى فى حفظ ما يسمعه من أوامر الدين ونواهيه ، ومن آيات القرآن وسنن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كبعض محافظته على التعاليم الأجنبية لحفظ شيئا كثيرا ، بل لو شاء حفظ القرآن كله ، وألف حديث نبوى لكان ذلك سهلا عليه جدا ، وجماعة العميان أكبر شاهد ودليل على ذلك ، ولكنهم أعرضوا ونأوا ف (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور : ٣١] ، واذكروا قول ربكم لنبيه : (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) [طه : ٩٩ ـ ١٠٢].

الطائفة السابعة : جلاس حانات الخمور ، وآلات اللهو والطرب ، وجلاس المقاهى ، ولاعبى النرد ، والطاولة ، والكتشينة ، والضمنة ، وأصحاب الحشيشة ، والأفيونة ، والكوكايين ، والتبغ ، والدخان ، والتنباك ، وغير ذلك ، وهذه الأشياء الخبيثة الملعونة قد أضرب وأفسدت أخلاق كثير من الشبان ، بل والشابات ، وكم قد خربت من بيوتات كانت عامرات ، فهى التى فتكت بكثير من العائلات ، وإنه لا سبيل إلى الخلاص من

__________________

(١) غفلة.

(٢) أغنياءهم ورؤساءهم.

(٣) يرجعون القهقرى ويتأخرون عن الإيمان.

٣٦

هذه الدواهى كلها والطوام والرزايا العظام إلا اتفاق العلماء جميعا على الدعوة إلى الله ، وإلى الكتاب العزيز ، والسنة المطهرة ، بالاجتهاد والمثابرة والصبر على الدعاية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتى هى أحسن مع أهل الزيغ والضلال ، والمبتدعة الجهال.

لكن لا يتم هذا العمل إلا بمساعدة الحكومة لهم ، ولن تساعدهم الحكومة أبدا إلا بعد اتفاقهم التام مع رؤسائها ، ولن يتفق معهم رؤساؤها إلا بعد تبيانهم لهم حقائق الدين ومحاسنه العالية الغالية ، وعظمته ، وأبهته ، وجماله ، وجلاله ، وكماله ، ورحمته ، وعدله ، وإحسانه ، وفضله ، وبعد أن يدخلوا نور القرآن والإيمان والعلم الصحيح فى قلوبهم ، وبهذا يتم العمل ، وينشر الدين ، ويتحد المسلمون وينتصرون على عدوهم ، وتكونون أنتم علماء عالمين مجاهدين فى سبيل الله ، هذا وإلا فمن قومكم من استحب الكفر على الإيمان ، ومنهم ألوف يسبون الدين بغير مبالاة ، بل ومنهم من يسبون الله ويسبون رسول الله ، ورأينا منهم من يرى أن العار الكبير فى الأذان والصلاة ويقف على باب بيته حيث يمنع ابنه من الخروج لأداء الصلاة ، وقد سمعناهم جهارا يقولون : ليتنا خلقنا إنكليزا ، أو يهودا ، أو نصارى ، حيث إن المسلمين اجتمع عليهم أشقى الشقاء ، فقر الدنيا وعذاب الآخرة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

حكم الجهر بقراءة سورة الكهف بالمسجد ، وسماعها من المذياع فى المسجد

س : سبق أن أديت فريضة الجمعة بأحد مساجد الوجه القبلى ، فوجدت أهالى القرية يستعملون جهاز الراديو لتلاوة القرآن الكريم بدلا من المقرئ ، فهل يجيز الشرع ذلك؟

الجواب : إن قراءة سورة الكهف يوم الجمعة فى المسجد فى الوقت الذى اعتيد أن تقرأ فيه ، وعلى الكيفية التى تقرأ بها ، شىء حدث بعد العصور الأولى فى الإسلام ، ولم يؤثر حتى عن عصر الأئمة أنها كانت تقرأ بتلك الكيفية ، فهى من هذه الجهة تدخل فى دائرة البدع ، وقراءتها تحدث تشويشا على المتنفلين والذين يؤدون تحية المسجد ، فإذا فرضنا أنها لم تقرأ أصلا لكان خيرا.

وسماعها عن طريق الراديو ليس إلا سماع قراءة جهرية لسورة الكهف بالكيفية المبتدعة ، وحكمها حكم سماعها أو قراءتها من نفس القارئ ، فمن شاء أن يترك سماعها عن طريق الراديو فليترك قراءتها عن طريق قراءة القارئ.

٣٧

والعبارة مأثورة عن الشرع لا يصح الزيادة فيها بما لم يؤثر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبخاصة إذا أحدث ذلك فى نفس الجمهور أنها عبادة مشروعة بهذه الكيفية فى ذلك الوقت. ومن هنا خاصة نرى الكف مطلقا عن قراءة سورة الكهف فى ذلك الوقت وبتلك الكيفية حتى لا يعتقد الناس أن غير المشروع مشروع (١).

__________________

(١) الفتاوى للشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر الأسبق.

٣٨

الفصل الثانى

إلزام القرآن للماديين والمليّين

١ ـ معنى المادة والماديين

كثر إطلاق المادة على مجموع الأجرام التى يتألف منها العالم المشاهد ، وعلى ذلك فالماديون هم الذاهبون إلى نفى كل موجود سوى المادة المذكورة ، وأن وصف الوجود مختص بما يدرك بالحواس الخمس ، لا يتناول شيئا وراءه ، ويقال لهم : الطبيعيون ، وذلك أنهم سئلوا عن منشأ الاختلاف فى صور المواد وعوارضها ، والتنوع الواقع فى آثارها ، فنسبوه إلى طبيعة هذه الأشياء ، ومن زعمهم أن المادة وجدت بنفسها ، ويستحيل أن تكون من العدم ، قالوا : لأن العقل لا يمكن أن يتصور مادة تتلاشى إلى درجة العدم ، فكيف يحكم بوجودها فى زمن من الأزمان فى حالة لا يمكن أن تصير إليها ، وزعموا أن العالم لم يزل ولا يزال لا يتغير ولا يضمحل ، وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التى فيه ، إلى آخر مفترياتهم وادعاءاتهم الفارغة.

وقد بطل قولهم : أن العقل لا يمكن أن يتصور مادة تتلاشى إلى درجة العدم ، بما ثبت فى هذه الأيام عن طريق الحس والتجربة من تحول المادة وتلاشيها إلى قوة صرفة ، ومعنى محض.

وبما أنهم قالوا بأزلية المادة ، فقد أنكروا الخالق ، وبما أنهم قالوا بعدم زوال هذا العالم ، وأنه لا يضمحل أبدا ، فقد أنكروا البعث ، وبضرورة الحال ينكرون رسالة خاتم النبيين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هذا وقد أبطل العلماء قدم المادة ، حيث قالوا (١) : ومما أحال قدم المادة ، أن القديم لا بدّ من كونه كاملا ، موجودا بذاته ، لا يقبل تغيرا ، هذه أخص أوصافه ، وذلك لأنه لو كان غير كامل ، للزم أن يتكامل بغيره متصاعدا ، حتى يصل إلى كائن كامل فى ذاته ، لا يفتقر إلى غيره ، ولو كان غير موجود بذاته ، للزم أن يكون له علة قد أوجدته ، فلا يكون أزليا ، ولو كان يقبل التغير ، لتواردت عليه البدايات والنهايات ، فكان غير قديم.

__________________

(١) من كتاب دلائل التوحيد ، للعلامة القاسمى ، بتصرف.

٣٩

وأوصاف القديم هذه لا تنطبق على المادة بوجه ؛ لأن المادة ناقصة تتكامل دائما وأبدا ، متعددة ، ليس لها وجود من ذاتها ، تتغير وضعا ، وفعلا ، واتصافا ، إذ يتعلق الواحد فيها بالآخر ، مما يجره إليها كل من التدافع والتجاذب ، وحينئذ فلا تكون المادة قديمة ، ومعنى ذلك أن المادة حدثت من العدم.

فإن قال قائل : كيف تحدث المادة من العدم؟ قلنا : قال بعض المحققين : دعوى أن الحدوث من العدم محال ، يقال عنها : إنها محال بنفسها ، لا بفعل قادر أزلى ، وعدم إدراكنا لذلك وكونه مما يفوق طور العقل لا ينفيه ، إذا لا يلزم من جهل الأمر نفيه ، وقد اعترف الماديون بتعذر معرفة أصل المادة ، وكم من أشياء مشهورة يعسر على الإنسان إدراك حقيقتها ، وكما أنه لا يحق لمن لا يبصر أمرا أن ينكر وجوده ، فهكذا ليس لمن لم يفهم حقيقة الخلق أن ينكر وجوده ، لا سيما وهى من غيب الغيوب ، وأبطن البطون. وقال آخر : لا يخفى أن الاعتراض يرجع إلى هذا ، وهو لا شىء يصير من لا شىء.

فنقول : إن أريد به أنه لا موجود بدون موجد ، فهو صحيح إجماعا ، وأما إذا كان المراد به لا شىء ، يمكن أن يصدر من لا مادة ، ففيه تفصيل ، فبالنظر إلى الأسباب المتناهية القوى التى تشاهد فى عالم الحس ، لا خلاف فيه ؛ لأن الخليفة أيا كانت لا تقدر أن تصنع من لا شىء شيئا.

وأما بالنظر إلى الخالق جل وعلا ، فباطل ، إذ من شأن القوة غير المتناهية إلا تتقيد بشيء خارج عنها ، فيمكنها أن توجد الشيء من العدم البحت ، أى لا من مادة كيفما شاءت ، ومتى شاءت ، وإلا كانت متناهية محدودة ، وذلك محال عليها ، ولا يلزم من قدمه تعالى قدم المخلوقات ، إذ هو تعالى فاعل مطلق ، لا يضطره شىء ، (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢]. أ. ه.

هذا موقف العقلاء من بيان فساد مذهب الماديين فى إنكارهم الخالق جل وعلا ، والبعث ، ونبوّة خاتم الأنبياء. أما موقف القرآن ، فقد ألزم كل مكلف من إنس وجن ، ذكر وأنثى ، بهذه المطالب الثلاثة ، وفى أوائل سورة البقرة بيان لها ، ففي قوله سبحانه : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] ، إيمان بالخالق وتوحيده ، وفى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [البقرة : ٤] ، إيمان بنبوّة محمد والأنبياء جميعا ، عليهم الصلاة والسلام ، وفى قوله جل شأنه : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٤] ، إيمان بالبعث والمعاد.

٤٠