عون الحنّان في شرح الأمثال في القرآن

الشيخ علي أحمد عبد العال الطهطاوي

عون الحنّان في شرح الأمثال في القرآن

المؤلف:

الشيخ علي أحمد عبد العال الطهطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4571-1
الصفحات: ٢٨٨

بالله وبموسى كنبى مرسل ، ولكنهم لا يؤمنون برسالة سيدنا محمد ، عليه الصلاة والسلام ، ولكن الآية صيغت بحيث تنطبق على كل زمان ومكان.

لا إيمان بالله بدون الإيمان برسله : فلا يمكن لزاعم أن يزعم أنه يؤمن بالله ، ولكنه لا يؤمن برسله ؛ لأن معنى الإيمان بالله ، أنه هو الذى خلق الإنسان ، وخلقه لغاية ، والرسل هم الذين عرّفونا بهذه الغاية ، (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، ويكون معنى عدم تحقيق هذه الغاية التى جاء بها الرسل ، هو عدم الإيمان بالله ، وإلا كان الإيمان بالله وعدمه سواء بسواء ، فما جدوى إيمان لا يترتب عليه شىء على الإطلاق ، وما أشنعه من كفر أن نقول : أن الله قد خلق الخلق ، ثم تركهم لشأنهم لا يعرفون ما يأمرهم به وما ينهاهم عنه ، وهو ما لا نعرفه إلا عن طريق الرسل ، فعبث وسفسطة ، أن يقول قائل : أؤمن بالله ، ولكنى لا أؤمن برسله ، فأحدهما لازم للآخر ، بحيث يزول بزواله ، ولقد قلنا من قبل ، ونقول : أن لا فكاك للإنسان ، أى إنسان ، من الإقرار بوجود قوة عظمى وراء هذا الكون ، يسميها من لا يؤمنون بالله : الطبيعة ، أو المادة ، أو المادية الجدلية ، فمن يؤمن بالله دون الإيمان برسله وما جاءوا به من تعاليم ، فهم لا يزيدون عن كونهم أضافوا كلمة جديدة إلى جوار كلمات الطبيعة والمادة ... إلخ.

(وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠] ، ويساوى ما تقدم من حيث الكفر بالله ، محاولة التفريق بين الرسل ، فيقال على سبيل المثال : نؤمن بموسى ، أو بعيسى ، ولكنا نكفر بمحمد ، فمثل هذا القول هو كفر صراح.

كما سوف ينص القرآن فى الآية التالية ، ذلك أن الإيمان برسول واحد يعنى الإيمان بالوحى ، باعتباره الواسطة بين الله والإنسان ، فإذا جاء إنسان يقول : إنه يوحى إليه ، وكان ما يقول هو من نوع ما جاء به الرسول الأول ، وأثبتت الأحداث أن كل ما قاله ويقوله هو صدق فى صدق ، ومن فوقه ومن قبله صدق ، فعلى أى أساس تنكر رسالته ، إلا أن يكون إنكار الوحى ، وبهذا نعود إلى الكفر بالله ، وأنه يوحى إلى البشر.

سئل السيد المسيح : يا معلم ، سيكون من بعدك أنبياء كذبة ، فكيف نعرفهم؟ فكان جوابه : من نمارهم تعرفونهم ، فعند ما يجيء سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو للتوحيد ، ويحارب الوثنة والأصنام ، ويعذب ويضطهد هو ومن اتبعه ، فلا يزيدهم ذلك إلا إصرارا على

١٤١

عبادة الله الواحد الأحد ، وعند ما يعرض الجاه ، والسؤدد ، والمال ، والغنى فيرفض ، فمن يكون الرسول إلا هذا ، الحق أن الملاحدة الماديين عند ما ينكرون كل شىء : الله ، والرسل ، والوحى ، هم أكثر منطقا من هؤلاء الذين يؤمنون بالله وبالوحى ، ثم يكفرون برسول ينزل عليه الوحى من عند الله فعلا.

تفوق الإسلام على سائر الأديان : ومن هنا قلنا من قبل ، ونكرّر تفوّق المسلمين على سائر معتنقى الأديان الأخرى ، فهم يؤمنون بأن جوهر الديان واحد ، والاختلاف لا يكون إلا فى التفاصيل ، حيث ينسخ المتأخر المتقدم ، ويقولون بقول القرآن ، (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥].

ومعلوم أن هذه الآيات التى نحن بصددها قد جاءت فى سياق الحديث عن النفاق ، وهو إظهار خلاف الباطن ، والتربص لاستغلال الفرص والمناسبات.

(وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) [النساء : ١٥٠] : وهذا هو النفاق بعينه ، والحديث هنا عن يهود المدينة ، ولكنه صالح لكل زمان ومكان ، كما قدمنا ، فهم يريدون أن يقولوا لسيدنا محمد : أنهم يؤمنون بالله ، وإبراهيم ، وموسى ، ويقولون للمشركين : أنهم يكفرون بمحمد ، ولكن الله سبحانه وتعالى ينزل حكمه على هذا النوع من السلوك.

(أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) [النساء : ١٥١] : فهذا هو الكفر الصراح ، إذ يعبر القرآن بكلمة (حَقًّا).

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) [النساء : ١٥١] : أى وأعددنا (لِلْكافِرِينَ) ، ولقد ذكر لفظ الكافرين مرة ثانية ؛ ليكون أمعن فى التوكيد وأشد (عَذاباً مُهِيناً) ، أى أنه عذاب لا يقتصر على الناحية المادية ، وهو الألم ، بل إنه عذاب معنوى كذلك ، إذ هو مهين ، أى مذل من الإهانة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [النساء : ١٥٢] : وفى مقابل اليهود والنصارى الذين زعم كل منهما أنه يؤمن برسوله فقط ، يقوم المسلمون الذين يؤمنون بالله ، وموسى ، وعيسى ، وإبراهيم ... إلخ ، وهذا ما يجعل الرسالة الإسلامية أشد تكاملا ، وأكثر منطقية ، فمتى آمن إنسان بالله ، وأنه يوحى لبعض عباده بمشيئته ، فعلى أى أساس يكون الإيمان بالبعض والإنكار على البعض الآخر إلا أن يكون التعصب الأعمى.

١٤٢

لما ذا نقول بانتصار الإسلام : إن كثيرين يروننا نسرف فى التفاؤل عند ما نتحدث عن قرب انتصار الإسلام وغلبته على سائر الأديان ، ومن يحسنون الظن بنا يتصورون أن ما نقوله هو من قبيل الأمانى ، حيث نقرر ما نقرر باعتباره حقا مؤكدا ، ودليلنا الواقع والتجربة.

فقد جاء وقت لا يعرفه شباب الوقت الحاضر ، أو حتى رجاله ، كان التبشير بالمسيحية على أشده ، وكان يقف خلف المبشرين الإمبراطورية الإنجليزية بكل جلالها ، بل أوروبا كلها بكل نجاح حققته فى القرن التاسع عشر ، وكان رجل التبشير خريج أعظم جامعات أوروبا ، وكل ما كان ينجح فيه هو زعزعة العقيدة الدينية من أساسها ، ولكنه لا يكاد يتحدث عن المسيحية ، وعن كون المسيح إلها ، حتى يرد عليه أبسط مسلم : اسم الله عليك يا خواجة ، سيدنا عيسى ده رسول الله وليس هو الله!!

وهكذا يتحول أبسط مسلم إلى معلم لخريج أكبر جامعات أوروبا ، وهذا هو سر عظمة الإسلام.

فليقل المسيحيون عن معجزات سيدنا عيسى ما يقولون ، إن المسلم لا ينكر شيئا من ذلك ، فالمسيح هو رسول الله ، وقد زوّده الله بالقدرة على فعل ما فعل.

وليتكلم اليهود عن موسى بأعظم ما يتكلمون ، فالمسلم يقول مثل قولهم ، ومن هنا عاش المسيحيون واليهود فى ظل الدولة الإسلامية ، بل وازدهروا ، حيث لا يستطيع المسلمون أن يعيشوا فى ظل دولة غير إسلامية إلا إذا تناسى المجتمع شأن الدين ، كما هو الحال فى أوروبا وأمريكا ، ولما كان ذلك يستحيل أن يدوم ، إذ يستحيل قيام المجتمعات على غير دين.

ومن هنا قلنا : إن المستقبل للإسلام ؛ لأنه يعترف بالأديان السماوية الأخرى ، ولا تعترف هى به ، فهو الأقوى والأصلح ، وبالتالى هو الأبقى ، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [الرعد : ١٧].

فنحن لا نتكلم لغة التفاؤل فضلا عن لغة التمنى ، وإنما نتحدث العلم ، وفوق ذلك نتحدث بما وعد به الله عزوجل.

(أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) [النساء : ١٥٢] : وإعطاء الله الأجر للمحسنين فى الآخرة ، أى يوم القيامة ، مسألة مؤكدة ومحققة ، وهى محور الإيمان ، ولكن الله سبحانه

١٤٣

وتعالى قد يعجل بعض هذا الأجر فى الدنيا ، (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) [الصف : ١٣].

وهو ما فعله للمسلمين أيام نبيهم وعقب أن غادرهم ليلحق بالرفيق الأعلى ، حيث فتحوا الدنيا التى كانت معروفة فى ذلك الزمان ، وعند ما يعود المسلمون إلى سابق إيمانهم ، فسوف يعودون لما كانوا عليه إن شاء الله.

رسالة إلى الرئيس الأمريكى كارتر :

ويبدو أن الأستاذ أحمد حسين أدرك خطأه حين سوى بين الإسلام وبين اليهودية والنصرانية الموجودتين الآن قبل أن أبعث إليه خطابى ، فقد وجه رسالة إلى الرئيس الأمريكى كارتر ، نشرها فى مجلة «الدعوة» العدد الرابع والعشرين ، غرة جمادى الثانية سنة ١٣٩٨ ه‍ ، مايو سنة ١٩٧٨ م ، يدعوه فيها إلى الإسلام ، ويقول له صراحة : أسلم تسلم ، وإلا وقع عليك إثم الأمريكان جميعا ، واتهم المسيحية بالشرك والوثنية ، وذهب إلى أن الخطيئة والفداء أسطورة كنسية ، وقال : إذا كان موضوع المسيح هو هذه القصة ، قصة الفداء والكفارة ، فلما ذا لم يصرح بها المسيح مرة واحدة لا عن قرب أو بعد ، وترك الأمر للكنيسة لتصوغه بعد أربعة قرون ، لتفرضه على الناس بقوة الحديد والنار ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

ثم يتهم الأستاذ أحمد حسين النصارى فى عقولهم حين يقبلون عقيدة انتشار الخطيئة فى آدم وذريته ، ويقول :

ولم يقف مسيحى واحد ليسأل نفسه ، وما هو ذنب البشر منذ أيام آدم حتى مجىء المسيح ، وهم مئات وألوف الملايين ، حتى يحملوا خطيئة آدم مهما كانوا محسنين؟! ولم يسأل مسيحى واحد نفسه : وما ذا كان الشأن بالنسبة للأنبياء والرسل قبل المسيح؟! ما هو الشأن بالنسبة لإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وموسى ، وكل الأنبياء الذين سبقوا السيد المسيح ، أكل هؤلاء كانوا يعيشون فى الخطيئة باعتبارهم سابقين على عملية الكفارة؟!

ويواصل الأستاذ أحمد حسين ، رحمه‌الله تعالى ، بيانه للوثنية التى تسربت إلى العقيدة النصرانية ، فيقول :

وقد فزعت المسيحية للكنيسة من القول بتعدد الآلهة ، فاخترعت لذلك تعبير الأقانيم

١٤٤

الثلاثة ، وأنها مظاهر لله الواحد ، وضربوا لذلك الأمثلة ، ولكن مضمون هذه الأقانيم يدل على أن الذوات متباينة ، فالقول على أنه فى يوم الدينونة يجلس الابن على يمين الأب لمحاكمة البشر ومحاسبتهم ، أى أنه يوجد للابن دور خاص يقوم به ، وتشخيص متميز يبدو عليه ، وهكذا نرى أن حيلة الأب والابن والروح القدس ، الكل إله واحد ، لا تخرجنا من دائرة تعدد الآلهة الذى هو عقيدة وثنية ، وأسطورة أوزوريس وإيزيس وحورس ، هى عقيدة مصرية قديمة ، وقد سادت عبادة إيزيس حوض البحر الأبيض المتوسط قبيل ظهور المسيحية.

١٤٥

الفصل الثانى

الأمثال فى القرآن الكريم (١)

قال الله تعالى ، وهو أصدق القائلين : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٧].

وقال أيضا فى محكم قرآنه : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الزمر : ٢٧].

وقال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣].

فى ضوء هذه الآيات البينات ، وما ترسله من هدايات ، سيكون الحديث والفهم لما تهدف إليه ، وما تثيره فى النفس الإنسانية المسلمة من يقظات روحية ، وإشراقات وجدانية ، وما تغرسه فى العقل من هداية وتوجيه ، وما توحى به من تعاليم هادية لخيرى الدنيا والآخرة.

لقد كان من فضل الله على عباده المؤمنين ، أن عصم رسوله الأمين محمد بن عبد الله من كيد الكائدين ، وتدبير المنافقين ، وأذى المشركين فى كل المحاولات التى صنعوها ، والمؤمرات التى حاكوها ، والمعارك التى خاضوها ؛ إطفاء لنور الله ، وصدا للناس عن الهداية إلى دين الحق ، كانت يد الله هى العليا ، فحفظ رسوله ، وشد أزره ، ونصره على أعدائه ، أعداء الحق ، وحفظ رسالته ، وصان وحيه وقرآنه من عبث العابثين ، وتدبير الخائنين ، فلم يلحقه تغيير أو تبديل كما لحق الكتب السماوية الأخرى ، حفظ الله قرآنه من الضياع ، والتحريف ، والتشكيك ، والافتراءات ، بذلك الوعد القرآنى الذى نردده فى كل حين : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] ، ولن يخلف الله وعده ، فهو مصون بقدرته القاهرة ؛ لأنه :

١ ـ كلام الله سبحانه وتعالى ، وهو القادر وحده على حفظه.

__________________

(١) د / محمد سيد شقير.

١٤٦

٢ ـ الذكر الذى يعرض هذه القدرة فى ملكوت الله الواسع فى مظاهرها العديدة.

٣ ـ يعرض قصص السابقين من الأنبياء والرسل ، وأنباء من سبقوا وجاهدوا فى الله حق جهاده ، ودعوا إلى كلمة الحق فى العصور السابقة ، وما كان لهم مع قومهم من صولات وجولات.

٤ ـ يعرض أيضا ما لمحمد ، عليه الصلاة والسلام ، من مكانة ومنزلة عنده ، وما لقومه من شأن فى مجالات التقوى والإيمان ، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] ، فهو ذكر لا يتطرق إليه نسيان ، ولا يلحقه نقصان.

لكل هذه الأمور استوجب وحى الله وقرآنه ، الحفظ والصيانة من كل كيد يراد به ، والنجاة من كل مكر على مر الأيام إلى يوم الدين ، هذا بالإضافة إلى أن سبيل إلى التذكير بنعم الله على عباده الظاهرة والباطنة ، والتذكير بطرق العبادة التى يجب أن يسلكها ويتبعها كل مؤمن بربه ، وبما أوحى به من أمور فيها صلاحية للإنسان فى دنياه وأخراه ، وتبيان للحق فى كل صوره ومجالاته.

فالقرآن من الله ، ومعجزته الكبرى التى خص بها محمدا ، عليه الصلاة والسلام ، وأرسل بها إلى الإنسان لكى يرتفع بإنسانيته فوق شهوات الحياة ، ويسمو بإمكاناته التى وهبه الله إياها إلى مرقى أعلى ، ومستوى أفضل ، بتوظيفها فى فهم الأمور ، واستغلال الطاقات الفعالة التى خلقها الله فيه ، من ذلك العقل الواعى ، والعلم الذى ينير له طريق الهداية والرشاد.

المعجزات :

من وسائل توضيح الأفكار ، وتبيان المعانى ، أن يلجأ الكاتب ، أو المتكلم ، إلى استخدام المقارنات ، والموازنات ، والمقابلات ، حتى يسهل الفهم ، وتتضح الحقيقة ، وتنجلى الغوامض فى الأفكار المطروحة ، والآراء المعروضة ، وبدون استخدام لذلك يصعب على القارئ أو السامع الإلمام بالمراد ، أو الفهم السريع لما يعرض من رأى أو فكر.

وقد درج الناس من قديم الزمن أن يعرفوا الشيء بنقيضه ، فلا يحس الإنسان بقيمة الضياء والإشراق ، وما يرسله من طمأنينة إلى النفس وراحة وهدوء ، إلا إذا خيم عليه الظلام بكل ما يحويه من فزع ، ورعب ، وخوف ، يعكر على النفس هدوؤها ، ويجعلها

١٤٧

تحس بما كانت تنعم به قبل ذلك من نعمة.

كما لا يحس الإنسان بقيمة ما ينعم به من صحة ، وراحة نفس وجسد ، ونعم أنعم الله بها عليه ، إلا إذا ألمت به تلك المتاعب الصحية والجسدية التى تصيبه فى عضو من أعضائه ، فتمنعه الحركة ، أو تقعد به عن السعى فى سبيل العيش ... إلخ ما هنالك من أمور متناقضة ومتقابلة تحمل فى طياتها غموضا أو تعميما.

ونحن فى معرض كلامنا عن المعجزات ، إنما نقصد إلى تجلية الحقائق ، وإبراز الحكمة الإلهية من وراء استعراض تلك المعونات الكبرى التى منحها الله جل فى علاه لأوليائه الصالحين المخلصين ، وعباده المرسلين ، وأنبيائه المصطفين على مر العصور وما كان لذلك من أثر فى الهداية والإرشاد للأقوام السابقين ، ثم الانتقال بعد ذلك إلى تلك المعجزة الخاتمة الكبرى ، وهى معجزة القرآن الكريم.

فما المقصود بالمعجزة؟

وكما يفهم من اسمها ، فهى أمر خلقه الله تعالى بقدرته القاهرة ، لا تستطيع قدرة البشر على إحداثه ، كما لا يمكن لقواهم الجسدية ، والعقلية ، والروحية ، أن تفعله أو تحدثه ، فليس بمستطاع إبراهيم ، عليه‌السلام ، أن يمنع النار من الإحراق ، كما لا يستطيع موسى ، عليه‌السلام ، أن يجعل العصا ثعبانا مبينا يلتقط ما فعل سحرة فرعون ، وليس بإمكان عيسى ، عليه‌السلام ، أن يحيى الموتى ، أو أن يبرئ الأكمه والأبرص.

ولكن الله جلت قدرته منح هؤلاء العباد قوة من عنده ، تجعلهم يقدرون على إحداث ذلك أمام الناس الذين يشعرون بالعجز أمام تلك القوى ، يمنح الله هؤلاء العباد والرسل تلك الخوارق والمعجزات تأييدا لهم ، وتصديقا لما أتوا به من رسالة ، ولا يستطيع البشر أن يأتوا بمثل هذا الأمر الخارق للعادة ؛ لأنه بقدرة الله جرى على أيديهم.

ويرى ابن خلدون فى مقدمته ، أن الرسول يحمل إلى قومه أمرين :

١ ـ شريعة يوحى بها إليه ، ويدعو الناس إلى اتباعها.

٢ ـ معجزة بين يدى هذا الموحى به تشهد له بأنه رسول من عند الله ، وأنه صادق فيما يتلقاه ، فلا ينظر قومه فى دعوته قبل أن يقيم لهم الحجة على أنه رسول من عند الله إليهم ، وذلك مما يظهره الله على يديه من المعجزات المادية والمحسوسة.

١٤٨

وإذا نظرنا إلى دعوة إبراهيم ، عليه‌السلام ، وصحفه التى حملت شريعته ، وجدناها تختلف عن معجزة النار ونجاته من إحراقها ، وكذلك إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، بالنسبة لعيسى ، عليه‌السلام ، تختلف عن شريعته إلى نبى إسرائيل من دعوة للإيمان بالله الواحد ، وإتمام رسالة موسى ، عليه‌السلام ، فالخوارق فى الغالب تقع مغايرة للوحى الذى يتلقاه النبى ، إلا معجزة القرآن الكريم ، فهى الوحى المدّعى ، وهو الخارق المعجز الذى تشاهده فى عينه ، ولا يفتقر إلى دليل مغاير له مع الوحى ، كما هو الشأن فى سائر المعجزات.

خصائص المعجزات العامة :

اختلفت معجزات الأنبياء تبعا لاختلاف أقوامهم وأزمانهم ، وما لهؤلاء القوم من نزعات ورغبات ، وما يشتهر بينهم من أمور ، وما يلف حياتهم من عقائد واتجاهات ، وما يتفشى بينهم من أمراض نفسية ، وخلقية ، وعقلية ، فليس الناس جميعا على وتيرة واحدة ، وخلق واحد ، وتفكير واحد ، وتبعا لتلك المتغيرات فى النفوس ، والأخلاق ، والعادات ، والاتجاهات ، كانت حكمة الله العالم بهذه المتغيرات ، أن تكون معجزاته متمشية مع ما يعج به المجتمع من أمور ، وما يزخر به من عادات وعقائد تحتاج إلى إصلاح اعوجاجها ، وبتر صانعيها ، والقضاء على الشيطان وأعوانه المفسدين فى الأرض.

ومع اختلاف هذه المعجزات بين نبى ونبى ، فإنها تشترك فى خصائص عامة تشملها جميعا بدءا من إبراهيم ، عليه‌السلام ، إلى محمد خاتم الأنبياء والرسل ، فمن هذه الخصائص :

١ ـ أنها من الله سبحانه وتعالى ، أجراها على يدى أنبيائه ورسله إلى خلقه ، شاهدة على صدق الرسول فى تبليغه عن ربه عزوجل ، وإذا ثبت صدق الرسول فيما بلغ ، كان ذلك مدخلا إلى التصديق بالرسالة التى يحملها إلى الناس عن طريق الوحى ، وهذه المعجزة لا تخضع لما تخضع له أمور الحياة من ارتباط الأسباب بالمسببات ، فإذا وجد السبب وجد المسبب ، وإذا انتفى السبب انتفى المسبب ، وإنما تخضع لخالق الأسباب والمسببات ، وهو الله سبحانه وتعالى ، فهو القادر على أن يجريها على سننه ، أو على نقيضه ، كما حدث فى كثير من المعجزات الحسية ، كمنع الإحراق للنار التى ألقى فيها

١٤٩

خليل الله إبراهيم ، عليه‌السلام ، بأمره سبحانه : (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء : ٦٩].

٢ ـ أن تكون من جنس ما اشتهر بين الناس فى ذلك الوقت الذى وقعت فيه ، ولهم بها إلف ، ويمارسون نظائرها فى حياتهم ، وما موقف موسى ، عليه‌السلام ، مع فرعون وآله إلا دليل على ذلك ، فقد كان السحر والسحرة والكهنة وما يصنعون ، وما لهم من سيطرة على الخاصة والعامة فى مصر ، أدوات التأثير على القلوب ، والعقول ، والعقائد ، حتى أن الجميع يخضع لآرائهم ، فلا تبت الأمور إلا باستشارتهم وتبعا لما يأمرون به.

جابه موسى ، عليه‌السلام ، هذه المواقف وهو يعلم تمام العلم أنه مؤيد من قبل الله بتلك الآية الكبرى التى تنجيه من فرعون وآله ، حينما يقول له : (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) [الأعراف : ١٠٦ ـ ١٠٨] الآيات التى تعرض نموذجا لموقف الباطل الزاهق أمام الحق الأبلج الذى يدمغه ، (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [الشعراء : ٤٦ ـ ٤٨].

وموقف عيسى ، عليه‌السلام ، بين أولئك العلماء الذين اشتهروا بعلومهم ، وما كانوا يصنعون من ألوان الطب والمعرفة ، فكانت معجزته الكبرى : يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله.

ومعجزة محمد ، عليه الصلاة والسلام ، فيما أرسل به من قرآن كريم ، مؤلف من حروف ، وألفاظ ، وكلمات ، تقع فى أساليبهم ، ومن جملة ما يتكلمون به وينطقون ، ولكنهم مع ذلك لا يستطيعون أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

بان عجزهم ، وظهر تهافتهم إزاء ما يلقى على أسماعهم ، وما يقوله محمد لهم ، وما يدعوهم إليه من تحدّ واضح ، فكان منهم ذلك الاتجاه إلى لون آخر من الاتهامات التى لا تقف على قدمين ، ولا يساندها دليل من عقل وفكر ، من أنه اكتتب هذه الكلمات ، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا.

هذه عناصر مجمعة لتلك الخصائص التى تتميز بها تلك المعجزات التى كانت سندا لرسل الله فى هداية أقوامهم ، وتبصرتهم بما فيه صلاح الأمر من العقائد ، والمعاملات ، والعلاقات الاجتماعية والروحية التى تربط بين الناس ، وكان لهذه المعجزات تأثيرها فى القوم ما بين مصدق بها ومكذب.

١٥٠

وبقى علينا أن نعرض لتلك الفروق الواضحة بين هذه المعجزات ، وهى فروق لا تدعو إلى المساس بما لها من مكانة وقيمة ، فالله هو خالقها ومرسلها ؛ لتكون هداية لمن وجهت إليهم ، ومناسبة لأحوالهم ، ولكن نعرضها لتوضيح حقائقها وما لها من حكمة جديرة بالتناول والتعريف.

واختلاف المعجزات بين الأنبياء لا يشعر باختلاف فى العقيدة التى أرسل بها الرسل ، فالعقيدة واحدة فى جوهرها ، ولا اختلاف بين المؤمنين فى كل عصر حيالها ، فالإسلام هو دين كل مؤمن من لدن إبراهيم ، عليه‌السلام ، حتى خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٧٩] فى دعاء إبراهيم ، وفى قول عيسى ، عليه‌السلام : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : ١١٧].

عقائد واحدة ، عبادة الله وحده ، إيمان بالأصول العامة من بعث ، وحساب ، وجنة ، ونار ... إلخ. أما الشرائع ، فهى التى تختلف من عصر إلى عصر ، ومن قوم إلى قوم ، وهى تحكم العلاقة بين الخالق والمخلوق : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] ، لذلك نجد ألوانا من الفروق والاختلاف تتضح فيما نعرضه من دراسة تقارنية قائمة على التحليل والموازنة بين مختلف الشرائع.

اختلاف المعجزات :

بالنظرة الفاحصة ، والقراءة الواعية لتاريخ الأنبياء والرسل ، وما ترك لنا من آثار وكتب سماوية ، نستطيع أن نتبين أن اختلاف الشرائع أدى إلى اختلاف فى الوسائل والمعجزات التى أمد الله بها رسله ، فقد كانت المعجزات السابقة على رسالة محمد بن عبد الله الخاتمة تبدو فى الآتى :

١ ـ أن معجزات موسى وعيسى ، عليهما‌السلام ، معجزات أمدهما الله بها فى مجابهة أقوام كافرين لا يستنكفون أن يطلبوا من أنبيائهم أن يروا الله جهرة ، وهم أولئك الذين آذوا رسل الله ، وقتلوا من دعاهم إلى عبادة الله وحده ، وهم بنو إسرائيل ، جماعات صغيرة ، لهم انتماءاتهم الأسرية والعصبية ، ويشعرون بأنهم أفضل من بقية البشر ، ويتميزون على من عداهم من بقية المخلوقات ، لذلك كثر منهم العناد ، والمحاجة ، والكفر ، فكان لا بدّ من معجزة خارقة للعادة تكون طريقا إلى الإقناع والتدليل على

١٥١

صدق الرسول الذى أرسل إليهم ، معجزة موائمة لأحوالهم وما اشتهر بينهم من أمور ، فكانت العصا التى تلقف ما صنع السحرة ، وتبطل ما وصل إليه العلماء من أسرار ، وسطوة على فرعون وآله ، (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه : ٦٩].

قال أيضا : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [الأعراف : ١٦٠].

وكذلك إذا نظرنا إلى آيات المسيح ، عليه‌السلام ، الذى أرسله الله إلى خراف بنى إسرائيل الضالة ، وجدنا أن الله قد حباه بمعجزات مادية كثيرة مشاهدة بالأعين من تلك الجماعات الصغيرة التى أرسل إليها ، فأجرى على يديه إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى بإذن الله.

وقال الله تعالى : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ٤٩].

وكذلك معجزات سليمان ، عليه‌السلام ، وغيره من الأنبياء والرسل الذين أرسلوا إلى أقوام سابقين محدودى العدد ، محصورين فى جماعات صغيرة من قوم صالح ، وقوم هود ... إلخ ، تأتيهم معجزة تتفق مع طبيعة الرسالة ، ولكنها قليلة النتائج فما يلبث القوم إلا أن يرجعوا إلى تكذيب رسلهم كما حدث مع قوم موسى وعيسى ، عليهما‌السلام.

٢ ـ كذلك نرى من خصائص هذه المعجزات أنها تقع فى مكان واحد ، يراها فيه أهل ذلك المكان فقط ، وهى لذلك وقف على المشاهدين لها فقط ، تنقرض بانقراض مشاهديها ، كما تشاهد أيضا فى لحظة من الزمن ثم تختفى ، ولا يكون لها صفة الاستمرارية ، وكلها معجزات مادية محسوسة قريبة من معارف ذلك العصر ، وما اشتهر عند القوم من طب وعلوم.

١٥٢

معجزة القرآن الكريم :

هى معجزة قولية تشاهد بالبصر والبصيرة ، تخاطب العقل والوجدان ، ولا يقتصر الإيمان بها على من عاصرها ، وإنما يستمر لمن أتى بعدها ، وهى أيضا لكل مخلوقات الله من إنس وجن ، وصالحة لكل زمان ومكان ، وخاتمة أيضا لكل الرسالات السابقة ، ومصدقة بكل ما جاء به الأنبياء السابقون ، لذلك كانت رسالة عامة ، جامعة ، خاتمة.

ولكن ما خصائص هذه المعجزة؟ وما أوجه إعجازها؟

لو نظرنا إلى القرآن الكريم ، لوجدناه معجزة قولية ، أمد الله بها رسوله محمدا ؛ ليهدى بها أصحاب البلاغة والفصاحة ، والذين يعرفون أسرار الكلمة ، وما توحى به استخدامات اللفظة ، وما تهدى إليه استعمالات الأساليب ، هذا بالإضافة إلى أنهم قوم لدّ فى خصومتهم ، مرنوا على الجدال والخصام ، وبرعوا فى تطويع الكلمات لأغراضهم وأفهامهم ، ونجحوا فى فنون القول من شعر ، وحكمة ، ومثل ، ونثر ، ولهم فى ذلك مجالات خصبة استوجبوا لأنفسهم بها زعامة القوم من بدو وحاضرة ، والتقدير الأدبى فى أسواقهم الأدبية التى كانت تعقد فى مواسم الحج وغيرها ، وتجمع كل الناس الذين ينطقون الضاد بين صفوفها ليتذوقوا الكلمة ، وما تتركه فى وجدانات الناس من تأثير ، وفى عقولهم من تغيير ، وما تثيره من اتجاهات وعقائد ، واختيار السبل التى تعالج الأوضاع الاجتماعية ، والروحية ، والاقتصادية.

لذلك كان التحدى بهذه المعجزة القولية سافرا أمام القوم فى كل ناد ومجتمع ، يقرع آذانهم بلفظه ، ومعانيه ، وطرائقه ، وأساليبه ، فيبهتون ، ولا يستطيعون تصرفا فى قول ، أو محاكاة فى أسلوب ، تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور من مثله ، أو بأقصر سورة كذلك ، ولكن هيهات أن تقف قدرة عاجزة قاصرة خاسرة أمام قدرة الله التى أوحت بهذا القول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فهذا القرآن شاهد على صدق الرسالة أولا ، فمن تدبر فى آيات الله ، وجد أنها من عند الله ، لا تمت بصلة إلى بشر ، وإذا ثبت ذلك ، دل على صدق الرسول المبلغ به.

لقد أعلن أحد زعماء قريش ، وهو الوليد بن المغيرة ، عجزه حينما ذهب إلى محمد يعرض عليه تلك المغريات التى اعتقد أنها تستطيع أن تغير مسار دعوة محمد ، أو تغريه بمظاهر الحياة كما تغرى أهل الدنيا ، أو تفتّ فى عضده ، وتوهن من عزمه ، فقرأ عليه

١٥٣

السلام قول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : ٩٠] ، فما كان منه إلا أن رجع إلى قومه ، وقال : والله لقد سمعت كلاما ما هو بكلام الإنس ، ولا بكلام الجن ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسلفه لمغدق ، وإنه يعلو ولا يعلى.

كلام زعيم من زعماء الرأى والمشورة والبيان ، ويعرف محمدا فى نشأته وفى صباه ، ويعرفه فى مراحل حياته معرفة سماع أو مخالطة فى بيئة ضيقة يتصل فيها المجتمع بعضه مع بعض ، وتتقسم فيه العائلات والأسر وظائف الحياة التى يحتاج إليها المجتمع ، فى ذلك المكان الذى هيأه الله لعبادته ، وأرسى فيه القواعد أبو الأنبياء إبراهيم ، عليه‌السلام ؛ ليكون أول بيت لله فى الأرض لعبادته.

كانت للقرآن ولا تزال تلك المكانة العليا التى أرادها الله لكلمته الهادية ، والتى عبرت عنها الآيات القرآنية فى وصف أثره فى نفوس المؤمنين به فى قوله تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) [الزمر : ٢٣].

وفى آية أخرى : (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء : ١٠٧ ـ ١٠٩].

كتاب معجز يخاطب العقل والوجدان ، ويرسل هدايته إلى كل جبل يتحدى بإعجازه الزمان والمكان ؛ لأنه من لدن حكيم خبير.

وهذه المعجزة من جملة ما نطقت به الألسن ، وما جرى فى الاستخدام اللغوى من حروف وألفاظ ، ولكنها فى الذورة من البلاغة التى لم تعهد فى تراكيبهم الأسلوبية ، ولم تتخلف هذه البلاغة ، ولم تضعف هذه الفصاحة ، بالرغم من كثرة سوره ، وتكرار موضوعاته وأغراضه ، واختلاف أساليبه وعباراته من إيجاز ، وإطناب ، وتقديم ، وتأخير ، حتى أن هؤلاء العرب وحذاق الكلام مع شدة عداوتهم للإسلام ، لم يجدوا فيه مجالا لطعن ، بل قالوا : إنه ليس من جنس الخطب والشعر ، وبدءوا ينسبونه إلى السحر مرة ، وإلى أنه إفك مرة أخرى افتراه محمد ، وأعانه عليه قوم آخرون ، أو أساطير الأولين اكتتبها ، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا.

١٥٤

افتراءات واتهامات اتخذت طريقها إلى شخص الداعى ، وهو الرسول ، ولم تتجه إلى صلب القرآن الكريم وما به من إعجاز ، لعلمهم اليقينى أنه ليس من كلام البشر ، وليس فى مقدورهم الإتيان بمثله ، لذا كان من جانبهم التحذير لأنفسهم ولأصحابهم من الاستماع إليه ، فقالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦].

ومع شدة عداوتهم للرسول ، وكفرهم بما جاء به ، كانوا يتسابقون خفية إلى الاستماع لهذا القرآن ، ثم إذا انكشف أمرهم ، تعاهدوا على عدم الرجوع مرة ثانية ، وكتمان هذا الأمر حتى لا يفتضح أمرهم أمام قريش.

كل هذا يدل على أن القرآن معجزة رسول الله العقلية ببلاغته ، ووجوه إعجازه العديدة التى لا تقف عند لون معين ، وطريق واحد ، وقد عجز العرب عن الإتيان بمثله ، ولكن أخذتهم العزة بالإثم ، إذ كيف يخضعون لمحمد ، ويتركون دين الآباء والأجداد ، ويعبدون الواحد الأحد ، ويتنازلون عما لهم من كبرياء؟ دفعهم ذلك كله إلى أن يقفوا من رسول الله موقف المحاربة والقتال ؛ للصد عن سبيل الله ، وقد يعرضهم ذلك إلى سبى نسائهم وأطفالهم ، وقتل الرجال منهم ، وبذل المال الكثير فى سبيل المعارك ، وإعداد العدة لقتال المسلمين.

لما ذا اختار العرب المشركون موقف المحاربة من محمد؟ اختاروا هذا الطريق ، مع ما فيه من تضحية ودم ومال ؛ لأنهم أنفوا أن يقروا بعجزهم أمام تحدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم فى كل وقت وحين بهذه الآيات القوية فى دلالاتها : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٣ ، ٢٤]. وقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨].

ولو كان هؤلاء الكفار من قريش وأتباعهم يظنون أن محمدا يستعين بغيره من القارئين والأحبار والرهبان ، لأمكنهم أيضا أن يلجئوا إليهم ويستعينوا بهم ، فلما لم يفعلوا ذلك ، وآثروا أن يقفوا من محمد موقف المحاربة والنزاع ، دلّ ذلك على أن القرآن معجز ، وأن بلاغته ووجوه إعجازه عديدة ، لا تقف عند حصر ، فلا يستطيعون لها تقليدا ، ويعجزون عن معارضتها.

١٥٥

الأسلوب القرآنى وتأثيره :

أتى القرآن الكريم بأسلوب معجز ، متميز عن بقية الأساليب المألوفة فى وقته ؛ لأنه من الله ، فبهر الناس حينما سمعته ، وأسر منهم القلوب ، وسيطر على نفوسهم ، فاستجابت الأفئدة إليه ، ولم تنأ عنه إلا تلك القلوب المريضة التى قست كالحجارة ، فلم تستجب لدعوته ، ورصدت نفسها لمحاربته والوقوف أمام دعوته فى الهداية للحق ؛ حفاظا على ما لهم من سلطة ، ودفاعا عن تقاليدهم العفنة ، وعباداتهم الباطلة ، حاربوا القرآن بمحاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذوا يكيلون إليه التهم الباطلة ، ويلفقون الأكاذيب ، ويمنعون الناس من الاستماع إليه ، ويعذبون من يتلو القرآن من صحابة رسول الله فى المسجد الحرام ، سلكوا هذه المسالك ؛ لأنهم عجزوا عن محاكاة القرآن ، أو الإتيان بمثل أقصر سورة فيه ، وتهاوت أسلحتهم العديدة أمام هذا الكلام المعجز بلفظه وعباراته ، وسبكه وصياغته ، وأخباره ونواهيه ... إلخ ، كل هذه الألوان المؤلفة من جنس ما يقولون ويؤلفون ، ولكنهم عاجزون أن يأتوا بمثله ، وهو الذى سمعته الجن ، فقالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) [الجن : ١ ، ٢].

وسمعه نفر من النصارى ، فخشعت له قلوبهم وقالوا ، كما عبر القرآن الكريم : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة : ٨٢ ، ٨٣].

وسمعه زعيم من زعماء قريش ، فقال : إنه يعلو ولا يعلى عليه. نطق بالشهادة الحق فى قرآن الله الذى كان له وقعة فى القلوب والنفوس ، فكان يقتلع منها عقيدة الشرك وهجمة الباطل.

وما لنا نذكر ذلك الموقف الذى كان له تأثيره فى مجرى الأحداث فى بدء الإسلام ، فأمد الإسلام بجبار الجاهلية عمر بن الخطاب ، رضى الله عنه وأرضاه ، لقد دخل على أخته حينما سمع بإسلامها يريد أن يبطش بها ، وتناولت عيناه صحيفة القرآن ، فقرأ : (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) [طه : ١ ـ ٦] ، فأخذته رجة عنيفة أصابت مكمن الحقيقة من نفسه ، وقلبه ، وعقله ، فقال : دلونى على محمد.

١٥٦

موقف تعجز مؤثرات الحياة ومغرياتها أن تحول تلك الطاقة من نقيض إلى نقيض ، من جاهلية ، إلى إسلام ، من شدة بغض ، إلى تفان فى حب ، من جبار فى الجاهلية ، إلى عادل فى الإسلام ، كل ذلك فعلته تلك الآيات القرآنية التى جمعت بين الأسلوب الإنشائى فى النداء بكلمة : (طه) ، وبين الإخبار بالنعم الجليلة التى أسبغها الله على عبده محمد ، وهى نعمة القرآن والإسلام ، وما به من سعادة ، والتذكرة لأصحاب القلوب التى تخشى الله ، والإعلام بخالق الأرض والسماء ، والجدير بالعبادة ، والإيمان ، والطاعة. كل ذلك كان سبيلا إلى قلب عمر وعقله ، فاستجاب لله ، وكان سلاح الإسلام وعونه ضد الشرك وأعوانه.

موقف آخر يدل على تأثير القرآن فى النفوس المتفتحة لقبول الدعوة والاستجابة لكل معروف ، فقد أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول معلم للقرآن إلى المدينة بعد أن دخل بعض أهلها فى الإسلام ، وهو مصعب بن عمير ، فأخذ يعلمهم القرآن ، وعلم بذلك سعد بن معاذ سيد الأوس ، ففزع فزعا شديدا ، ورأى أن هذه بداية لشىء خطير يزلزل من مكانته ، فقال لابن أخيه أسيد بن خضير : ألا تذهب إلى هذا الرجل وتزجره؟! فلما ذهب إليه أسيد ، قال له : ما جاء بك؟ وهدده ، وقال له : اعتزل إن كان لك فى نفسك حاجة ، ولكن مصعبا أجابه فى ثبات المؤمن ، قائلا : أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره.

ثم أخذ مصعب يقرأ القرآن ، وأسيد يسمع ، فما قام من مجلسه حتى أسلم ، ثم ذهب إلى عمه ، وقال له : ما رأيت بالرجل بأسا ، فغضب سعد ، وذهب إلى مصعب ثائرا ، فاستقبله مصعب بمثل ما استقبل به أسيدا ، وانتهى الأمر بإسلام سعد الذى ذهب إلى قبيلته وجمعها ، وقال : ما تعدوننى فيكم؟ قالوا : سيدنا وابن سيدنا ، فقال سعد : كلام رجالكم ونسائكم علىّ حرام حتى تسلموا ، فأسلموا جميعا.

ويكفى أن هذه الآيات من كلام رب العالمين ، الآمر بكل حسن ، الزاجر عن كل معصية ، الداعى إلى مكارم الأخلاق ، الهادى إلى الصراط المستقيم ، والمعجز بكل صوره وأشكاله الأسلوبية التى صيغ منها ، فهو متنوع بين الأسلوب الخبرى والإنشائى ، والإيجاز والإطناب ، والأسلوب المباشر ، والأسلوب القصصى ، والأسلوب المعتمد على الوصف ، والأسلوب الحكمى ، والأسلوب القائم على ضرب المثل ، إلى اللفظ المعبر ، والتعبير المصور والمشخص ، كل هذا التنويع جاء فى مقامه ، ونجح فى تحقيق أهدافه ،

١٥٧

وكل هذه الأسرار الأسلوبية دفعت أصحاب البلاغة إلى تلمس معرفتها ، والوصول إلى خفاياها.

ولما كان ليس فى مقدرونا الإحاطة بكل هذه الأساليب وتناولها بالدراسة ؛ لضيق الحيز ، ولصعوبة التناول ، فإننا نستطيع بإذن الله أن نخلص من تلك الأساليب إلى ما هو أساس بحثنا ، وعنوان مؤلفنا ، وهو أسلوب الأمثال القرآنية ، وطريقة تكوينها وأهدافها.

أوجه الإعجاز فى القرآن الكريم :

أفاضت كتب التفسير قديمها وحديثها فى بيان أوجه الإعجاز القرآنى ، وإنا لموجزون تلك الأوجه إتماما للفائدة فى هذا المقام :

١ ـ لا تقتصر جوانب الإعجاز القرآنى على الجانب اللفظى وما به من فصاحة فى الأسلوب استحوذت على أفئدة أرباب الفصاحة من قديم الزمان وحديثه ، ولا على بلاغة تراكيبه وما حوته جمله من طرائق عديدة فى التكوين ، والتركيب ، والتنويع (١) ، من جوانب لفظية شملت ما كان عند العرب سابقا فى آدابهم من شعر ، ونثر ، وحكمة ، وبيان ، وإلا لكان ذلك قاصرا على من ينطق بهذه اللغة فقط ، ولا يستطيع التأثير فى المخاطبين الذين يكلفون بأمر هذا الدين ، ويستجيبون له من الأمم الأخرى.

ولذا فإن أمر الإعجاز يتعدى الجانب اللفظى ، وفصاحته ، وبلاغته ، وسمو تراكيبه ، إلى جوانب أخرى تشد انتباه الناس حقا فى كل عصر ، وفى كل مكان ، ولذا توضع موضع الاهتمام والدراسة ، وتحظى بكثير من التقدير والاحترام ، ويمكننا أن نشير إلى بعضها فى الآتى.

٢ ـ حفل القرآن الكريم بأخبار السابقين والقرون السالفة التى هلكت ، كما يحمل أخبارا مغيبة عن انتصارات وأحداث وقعت مثل فتح مكة ، وانتصار الروم على الفرس.

٣ ـ كشفت آيات القرآن الكريم عن ألوان النفسيات التى يعج بها المجتمع فى قديم الزمان وحديثه ، وبخاصة أهل النفاق ، وما لهم من خصائص.

__________________

(١) واشتماله على جميع فنون البلاغة من ضروب التأكد ، أنواع التشبيه والتمثيل ، وأصناف الاستعارة ، حسن المطالع والمقاطع ، حسن التواصل ، التقديم والتأخير ، الوصل والفصل ، إلى آخر ما هنالك.

١٥٨

٤ ـ يحمل أيضا القرآن الكريم فى طياته منهجا كاملا يعالج الزمان والمكان ، ويصلح من شأن العباد فيهما ، ويصلح أمر الدنيا والآخرة بما يحويه من قيم وأوامر ، وما يضعه من تعاليم صالحة للتطبيق فى كل حين : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢].

هذا قليل من كثير من جوانب الإعجاز القرآنى الذى تحدى به العرب وغيرهم من حيث المحتوى الذى أفحم المفكرين على اختلاف العصور ، فكيف يتأتى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تلك الفترة القصيرة التى دعا فيها إلى الإسلام أن يبتكر وتظهر هذه التشريعات التى تناولت جميع مجالات الحياة سياسية ، واقتصادية ، وتربوية ، وعقائدية ، وتشريعية ، لا تقتصر على وقت معين ، أو تهتم بجيل خاص ، وإنما تصلح لجميع الأزمان ، والأمكنة ، ولجميع الأجيال التى تختلف فى تفكيرها ، وعلومها ، وقدراتها ، بتلك الأحكام الضابطة لأمور الدنيا والآخرة جميعا لا تتغير ؛ لأنها من وضع العليم الخبير الحكيم.

مظاهر التيسير فى القرآن :

١ ـ نسب الله سبحانه وتعالى إلى ذاته القدسية فضيلة التيسير ، فقال : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر : ١٧] ، وذلك للترغيب فى قبول ما يأتى به من شرائع يسودها الرفق ، والرحمة ، واليسر ، وفى كثير من مظاهر العبادات التى فرضت على الإنسان ، فهو الرحيم بعباده ، ولا يكلف نفسا إلا وسعها.

٢ ـ كانت الحماية من لدنه لقرآنه من التحريف والتبديل الذى لحق بالكتب التى أنزلت على موسى ، وعيسى ، عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام ، والحماية له أيضا من الضياع بالنسيان والغفلة ، فقد يسر حفظه لكل راغب ، وقراءته وتلاوته فى كل وقت لكل قاصد.

٣ ـ كان الرسول يتلوه ، ويقرؤه ، ويكرره مرات ومرات ، فى ليله ونهاره ، فى صلاته وسجداته ، ويحب أن يسمعه من غيره ؛ تنشيطا للهمم ، وحفزا لأصحابه ، وإثارة للعلم والتعليم فى نفوسهم.

٤ ـ بالإضافة إلى أنه يطبق القرآن فى حياته كمنهج للحكم يسير عليه المؤمنون فى حياتهم ، ويحكم به المجتمع فى تآلفه وارتباطاته ، وتدعى إليه الأمم والشعوب الأخرى فى تعاملاتها وتعاقداتها ، وتصاغ على هدى تعاليمه سياسة الأمة الإسلامية ، وتحكم بمقتضاها شعوبها من قبل الحكام.

أليس فى ذلك مظهر من مظاهر التيسير للذكر والتذكر ، والحفظ والانتفاع بالفهم

١٥٩

والاسترشاد؟. ذلك كان وعد الله لعباده المؤمنين ولرسوله الأمين : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

بقى علينا أن نتعرف الغاية ، وأن نعرف الحكمة ، وأن نتبصر أمورنا فى الحياة بمختلف اتجاهاتها سلما وحربا ، علما وعملا ، عظة واعتبارا ، تطبيقا وإدراكا ، سلوكا وفهما ، حكما وسياسة.

هل من مدكر؟ سؤال يوقظ فى كل نفس معانى المعرفة ، والإدراك ، والفهم ، والاتعاظ بما حدث فى الماضى ، والعمل على إصلاح الحاضر ، والطموح لبناء المستقبل ، دعوة موجهة للفرد ، والجماعة ، والأمة ، كى يعى كلّ دوره ، وإمكاناته ، ومسئولياته فى معترك الحياة.

دعوة موجهة لتحمل الأمانة الكبرى التى أنيطت بأعناق كل من وقع تحت دائرة التكليف السماوى ، أمانة الاختيار ، وحرية الإرادة ، والقدرة على تحمل المسئوليات ، اختيار الإنسان الظالم لنفسه ، الجاهل بحقيقة دوره ووضعه ، تلك الأمانة التى عرضها الله سبحانه وتعالى فى قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢].

أمانة ترينا الفرق بين مكلف ومكلف ، بين السموات والأرض والجبال ، وبين ذلك الإنسان القوى الضعيف صاحب الإرادة والاختيار ، (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٣].

اقتضت النظرة الإلهية لهذا الإنسان الذى خلقه فى أحسن تقويم ، وميزه على بقية المخلوقات بالعقل والتدبير ، أن جعله محلا لكرامته بالرسالات والكتب ؛ ليحقق الحكمة من وجوده ، (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات : ٥٦ ـ ٥٨].

وقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠].

والخلافة تقتضى تعمير الكون على بصيرة من الأمر ، والتكوين للذات الإنسانية ، والتحمل للمسئوليات التى يترتب عليها الجزاء من ثواب وعقاب فى الدنيا ، وكذلك

١٦٠