عون الحنّان في شرح الأمثال في القرآن

الشيخ علي أحمد عبد العال الطهطاوي

عون الحنّان في شرح الأمثال في القرآن

المؤلف:

الشيخ علي أحمد عبد العال الطهطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4571-1
الصفحات: ٢٨٨

وقد خص هذا بالذكر بعد دخوله فى قوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] ، لمزيد العناية به ، ورفعة شأنه ، وقد بينت الآية بعد ذلك فى قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥] ، أن هؤلاء المؤمنين بهذه المطالب الثلاثة ، هم المتمكنون من الهدى الإلهى ، وأنهم دون غيرهم المفلحون ، الظافرون بكل محبوب ، الناجون من كل مكروه. وقد سلك القرآن الكريم فى إثبات هذه المطالب عليهم ، وإلزامهم بها ، طريق النظر والفكر ، فبه يتوصل إلى العلوم ، ويهتدى إلى الحقيقة.

قال جمال الدين الخوارزمى فيما نقله عنه العلامة القاسمى : النظر هو قانون الاستدلال فى الأمور ، وقاضى الصدق ، وبرهان الشريعة ، وترجمان الإيمان ، وحجة الأنبياء ، ومحجة الأولياء ، والسيف القاطع على الأعداء ، وهو رأس السعادة فى الدين ، فأساس التدبير ، وصحة الاعتقاد ، وخلاصة التوحيد فى ناصية النظر ، كما أن أساس الكفر والشرك فى جانب التقليد.

وما دام فى العالم حق وباطل ، ولكل منهما مشايعون ، فلا يتصور معرفة الحق من الباطل إلا بالنظر ، والإنسان خلق كامل الرأى ، عظيم الفكر ، دراكا للمعانى ، وأعطى الإدراك وهو العقل ، فإذا استعمله على وجهه ، وقع عنده العلم للمنظور فيه ، كما يقع العلم بالمدركات عند الإدراك ، فعند فتح الأجفان يبصر الأشياء ، وعند الاستماع يسمع ، وعند استعمال اللسان يتكلم ، كذلك عند النظر يعلم.

فنحن معشر المسلمين نعرف الحق من الباطل بالنظر ، ونعرف الكفر من الإيمان بالنظر ، ونعرف الله ورسوله بالنظر ، ونعرف أن التقليد بلا برهان باطل ، ولا معصوم إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كل ذلك بالنظر ، وبالجملة فالناس من عهد آدم ، عليه‌السلام ، إلى منقرض العالم ، إذا نزلت بهم نازلة يرجعون إلى النظر والفكر ، سواء كان فى أمر الدين أو الدنيا ، ويقول بعضهم لبعض : انظروا وتفكروا ، فلولا أنه طريق واضح ، ومنهج لائح ، لما فزعوا إليه. أ. ه. بتصرف.

ونحن نسير مع القرآن الكريم فى إثبات وبيان هذه المطالب الإيمانية الثلاثة :

المطلب الأول : وجود الصانع وتوحيده :

الآيات فى هذا المطلب كثيرة جدا ، فهى أكثر من أوراق الأشجار ، كما أنها أجلى من ضياء النهار ، وسوف نقتصر من هذه الكثرة على النذر اليسير ؛ لاقتضاء المقام ذلك ،

٤١

وسوف نجعلها تحت عناوين أربعة ، وإن كان بعضها يتداخل فى البعض الآخر.

أولا : آيات فى خلق الإنسان ونشأته.

ثانيا : آيات فى إمداده بما يحتاج إليه من رزق وطعام.

ثالثا : آيات فى بعض مظاهر الكون.

رابعا : آيات فى مظاهر التدبير الإلهى فى أحوال الإنسان الخاصة.

ثم بعد ذلك نذكر ما سبق به العلامة ابن رشد من الكشف عن المنهج القرآنى الذى سلكناه واخترناه ، وهاك التفصيل :

أولا : خلق الإنسان :

الإنسان آدم أبو البشر ، أول موجود على ظهر البسيطة ، وأول نبى نزل عليه الوحى ، كان خلقه من تراب ، ولا يغيب عن البال ما قدمناه من إبطال أزلية المادة ، وأنها لم توجد بنفسها ، بل أوجدها الفاعل المختار ، وعلى ذلك فآدم من تراب ، والتراب مخلوق من العدم ، ثم تحول التراب بعد صب الماء عليه إلى طين ، فصار هذا الطين حمأ مسنونا ، طينا متغيرا ، ثم جف هذا الحمأ المسنون فصار صلصالا كالفخار ، ثم سوى الله جل جلاله صورة آدم ، عليه‌السلام ، من هذا الفخار ، ثم نفخ فيه من روحه ، فكان إنسانا أصلا لأبنائه الموجودين عموما إلى أن تنتهى الدنيا.

ولا نريد أن نذكر هذا للماديين ، فهم لا يصدقونه ؛ لأنه غيب ، ولا يؤمن بالغيب إلا المؤمنون الصادقون ، وإنما نريد أن نذكر لهم كيف كان خلق ذرية آدم من بعده ، فذلك محسوس لهم ومشاهد ، فتكون الدلالة فيه ألزم ، والحجة فيه أقوى. وسوف لا نتعرض لتفسير الآيات المسوقة إلا بالقدر الذى يتضح به المراد ، وتظهر عنده الحقيقة.

كيفية خلق الذرية : قال الله تعالى فى سورة المؤمنون : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤].

إن الماديين لا يستطيعون أن ينكروا هذه الأطوار فى خلق الذرية بحال من الأحوال ، ولا يمكنهم أن يدفعوا منها شيئا ، اللهم إلا إذا أمكن أن تنكر الشمس وهى طالعة ، وينكر سواد الليل وبياض النهار.

٤٢

قال المفسرون فى بيان مناسبة هذه الآيات لما قبلها : أن الله تعالى أمر بالعبادات فى أول السورة ، حيث قال جل ذكره : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون : ١ ، ٢] ، إلى قوله تعالى : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [المؤمنون : ١١] ، ولما كان الاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفته سبحانه ، عقبها بذكر ما يدل على وجوده ، واتصافه بعنوان الجلال والكمال ، فذكر الاستدلال بتقلب الإنسان فى أدوار الخلقة ، وأدوار الفطرة.

فقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) ، أى آدم (مِنْ سُلالَةٍ) ، أى خلاصة (مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] (١) (ثُمَّ جَعَلْناهُ) ، أى نسله ، فحذف المضاف ، (نُطْفَةً) ، أى منيا من الصلب والترائب (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [المؤمنون : ١٣] ، وهو الرحم ، (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) ، أى صيرنا النطفة البيضاء علقة ، أى قطعة دم حمراء ، (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) ، أى صيرنا قطعة الدم الحمراء قطعة لحم قدر ما يمضغ ، لا شكل فيها ولا تخطيط ، (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) ، أى جعلناها عظاما من رأس ورجلين وما بينهما ، يعنى أصبحت ذات شكل مخصوص ، ووضع معين ، (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) ، أى كسونا بما لنا من قوة الاختراع تلك العظام لحما بما ولدنا منها ترجيعا لحالها قبل كونها عظاما ، وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب ، (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] ، مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها ، حيث جعله حيوانا وكان جمادا ، وناطقا وكان أبكم ، وسميعا وكان أصم ، وبصيرا وكان أكمه ، وأودع ظاهره وباطنه ، بل كل عضو من أعضائه ، وكل جزء من أجزائه ، عجائب وغرائب لا تدرك بوصف الواصف ، ولا تبلغ بشرح الشارح.

وإذا كان لنا أن نتكلم عن تفاوت العطف بالفاء وثم ، فإنا نقول : إن المعطوف بكلمة «ثم» مستبعد حصوله مما قبله ، وهو المعطوف عليه ، فجعل هذا الاستبعاد عقلا أو رتبة بمنزلة التراخى والبعد الحسّى ؛ لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب ، وكذا جعل النطفة البيضاء دما أحمر ، وهذا بخلاف جعل الدم لحما ، (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) [المؤمنون : ١٤] ، وبخلاف تصليب المضغة وجعلها عظاما المنبئ عنه قوله تعالى : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) ، وكذا مد اللحم على العظم ليستره ، المصرح به فى قوله

__________________

(١) من العلماء من يرى أن المراد بالإنسان بنو آدم ، وخلقهم من سلالة من طين ، أى خلاصة من الأغذية التى مصدرها التربة.

٤٣

سبحانه : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) [المؤمنون : ١٤].

فإن العطف فى هذه المواضع الثلاثة كان بالفاء ؛ لأن المعطوف فيها ليس ببعيد ولا غريب عن المعطوف عليه ، وحينئذ فلا يعترض بما قيل : إن مدة كل طور أربعون يوما ، وذلك يقتضى عطف الجميع بكلمة «ثم» إن نظر لآخر المدة وأولها ، أو يقتضى العطف بالفاء إن نظر لآخرها فقط.

ووجه دفع الاعتراض ظاهر مما قدمنا ، وهو أن المتعاطفات بكلمة «ثم» بينها غاية البعد العقلى ، فنزل منزلة البعد الحسى الزمنى ، وكان العطف ب «ثم» بخلاف المتعاطفات بالفاء ، فلم يكن بينها هذا البعد العقلى ، وإن كان بينها مطلق بعد ، فجاءت الفاء على أصلها ووضعها للترتيب والتعقيب.

(فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] ، أى تنزه عن كل شائبة ونقص ، وحاز جميع صفات الكمال ، والمراد بالخالقين المقدرين ، أى الصانعين ، يقال لمن صنع شيئا : خلقه ، إذا الخلق معناه إيجاد الشيء بتقدير معين ووضع مخصوص ، فيقال لصانع الباب أو الكرسى مثلا : إنه خلقه ، أى أوجده على شكل مخصوص وهندسة معينة ، فكلمة الخلق لا تنفى عن البشر بمعنى الصنع ، وإنما هى منفية عنهم بمعنى الاختراع ، والإيجاد من العدم ، فليس ذلك إلا لله الواحد القهار.

روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية ، فلما بلغ قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] ، قال عمر ، رضى الله عنه : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤].

وروى أن عبد الله بن سعد بن أبى السرح كان يكتب لرسول الله ، صلوات الله وسلامه عليه ، فنطق بذلك قبل إملائه ، فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب ، هكذا نزلت» ، فقال عبد الله : إن كان محمد نبيا يوحى إليه ، فأنا نبى يوحى إلىّ ، فلحق بمكة كافرا ، ثم أسلم يوم الفتح (١).

نظائر لهذه الآية : لهذه الآية فى إيرادها المعنى السابق أشباه ونظائر من آى القرآن الكريم ، جاءت بهذا المعنى بأساليب مختلفة ، وجميع هذه الأساليب فى أعلى درجات الإعجاز ، وتلك خصيصة القرآن ، يأتى بالمعنى الواحد فى عدة مواضع بأساليب مختلفة ،

__________________

(١) هذه الرواية ضعيفة ؛ لأن السورة مكية.

٤٤

والكل فى أعلى درجات البلاغة والإعجاز ، وهذا ما تنقطع دونه الأعناق ، من هذه الآية :

١ ـ قوله تعالى فى سورة النحل : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [النحل : ٤] ، تذكر هذه الآية مبدأ التطور فى خلق الإنسان ، ثم نهايته ، مع الإعراض عن المراحل والتطورات التى بينهما ، والحكمة فى ذلك أن هذه السورة جاءت لتعديد نعم الله تعالى على خلقه ، حتى سماها بعض المفسرين سورة النعم.

من أجل ذلك ذكرت الآية المبدأ الأول لتصوير الإنسان وتخليقه ، ثم طوت المراحل المترتبة على هذا المبدأ ، وأتت بالنتيجة والغاية ، وهو أنه (خَصِيمٌ مُبِينٌ) [النحل : ٤] ، إذ أن ذلك فى باب تعداد النعم ظاهر ، واضح ، ومشاهد محسوس ، ومما يدل على أن هناك وسائط وأطوارا فى الآية الكريمة ، وجود فاء التعقيب ، وإذا التى للمفاجأة ، فإن كونه خصيما لا يعقب ولا يفاجئ كونه نطفة ، والمعنى أنه قوى واشتد بتنقله فى هذه الأطوار ، حتى أعقب ذلك وفاجأه أنه خصيم مبين ، ومعنى أنه خصيم مبين ، أى شديد الخصومة بينها يفصح عما فى نفسه بالنطق والبيان.

٢ ـ قوله تعالى فى سورة الزمر : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦] ، تتصل هذه الجملة الكريمة بأول الآية قبلها : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الزمر : ٦] ، فهى بيان لكيفية خلق ما ذكر من الأناسى ، إظهارا لما فيها من عجائب القدرة.

ومعنى قوله تعالى : (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) [الزمر : ٦] ، أى حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما ، من بعد عظام عادية ، من بعد مضغ ، من بعد علق ، من بعد نطف. وأما قوله سبحانه : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦] ، فقد قال أئمة التفسير إنها ظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة التى هى غلاف الولد ، وظلمة البطن.

أما أهل التشريح ، فقد قالوا ما قرب من هذا ، فقد جاء فى مجلة لواء الإسلام ، العدد الثانى ، شوال سنة (١٣٨٧ ه‍) (١٥) فبراير سنة (١٩٦٤ م) ، للأستاذ صلاح أبو إسماعيل ، ما نصه : ثم نرهف السمع إلى علم الأجنة لنسمعه يقرر أن الجنين فى بطن أمه يكون محاطا بثلاثة أغشية صماء ، لا ينفذ منها الماء ، ولا الضوء ، ولا الحرارة ، ونرى هذا يلقى ضوءا على قوله تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦]. أ. ه.

٤٥

ولا نرى تفاوتا كبيرا بين الرأيين ، فقد تكون المشيمة التى قال بها أئمة التفسير إحدى هذه الأغشية ، ويعلوها الغشاءان الآخران.

٣ ـ قوله جل شأنه فى سورة عبس : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) [عبس : ١٧ ـ ٢٣].

قال البيضاوى عند هذه الآية : دعاء عليه بأشنع الدعوات ، وتعجب من إفراطه فى الكفران ، وهو مع قصره يدل على سخط عظيم ، وذم بليغ.

فإن قيل : الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز ، فكيف يليق ذلك بالقادر سبحانه؟ والتعجب أيضا إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء ، فكيف يليق ذلك بالعالم جل شأنه؟

فالجواب أن ذلك ورد على أسلوب كلام العرب ؛ لبيان استحقاقه لأعظم العقاب ، حيث أتى بأعظم القبائح ، كقولهم إذا تعجبوا من شىء : قاتله الله ما أخبثه ، وأخزاه الله ما أظلمه ، وقيل : ما أكفره بالله ونعمه ، مع معرفته بكثرة إحسانه إليه ، وأيا ما كان فهو ذم وتقبيح للإنسان حيث أعرض عن النظر والتفكير.

قوله سبحانه : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [عبس : ١٨] ، شروع فى بيان ما أنعم به عليه بعد المبالغة فى وصفه بكفران نعم خالقه ، والاستفهام فيه للتقرير ، أى إيقاف الإنسان الكافر على حال شأنه وتعريفه بها ، وهى حال حقيرة لا تستدعى أن يكون كافرا متكبرا.

وذكر الجواب فى قوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) [عبس : ١٩] ، لا يقتضى أن الاستفهام حقيقى ؛ لأن المراد بهذا الجواب ما هو على صورته ؛ لأنه بدل من قوله : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [عبس : ١٨] ، فكأنه قيل بادئ ذى بدء : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) [عبس :١٩].

وقوله جل شأنه : (فَقَدَّرَهُ) [عبس : ١٩] ، أى علقة ، ثم مضغة ، إلى آخر خلقه ، وقيل سواه ، كقوله : (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) [الكهف : ٣٧] ، أى قدر كل عضو فى الكيفية والكمية ، بالقدر اللائق لمصلحته ، كقوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢] ، والفاء على هذه الأقوال للترتيب فى الذكر ، لا فى الوجود الزمنى ، إذ المعنى أنه خلقه مصاحبا للتقدير ، وقوله سبحانه : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) [عبس : ٢٠] ،

٤٦

يصح أن يكون المراد بالسبيل طريق خروجه من بطن أمه ، فتكون «أل» عوضا عن الضمير ، والمعنى : ثم سبيله ، أى طريق خروج الإنسان من بطن أمه ، يسره الله له ، وسهل عليه خروجه ، ويصح أن يكون المراد به أيضا السبيل العام ، أى طريق الخير والشر ، ويكون منصوبا على الاشتغال بفعل مقدر تقديره : ثم يسر السبيل يسره ، فالضمير فى يسره للسبيل ، أى سهل السبيل للإنسان ، كقوله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠].

وقوله جل وعلا : (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) [عبس : ٢١] عد الإماتة من النعم ؛ لأنها وصلته فى الجملة إلى الحياة الأبدية ، والنعم المقيم ، (فَأَقْبَرَهُ) أى جعله فى قبر يستره ، وإنما لم يقل : فقبره ؛ لأن القابر هو الدافن بيده ، والمقبر هو الله تعالى ، يقال : قبر الميت ، إذا دفنه ، وأقبره ، إذا أمر غيره أن يجعله فى قبر ، وكان القبر إكراما للإنسان ، حيث لم يكن كغيره من بقية الحيوانات يلقى على الأرض عند موته تأكله الطير ، والهوام ، وتنهشه السباع.

وقد أشارت الآية إلى إيجاب المبادرة بتجهيز الميت من غسله ، وتكفينه ، والصلاة عليه ، بالفاء التى تفيد التعقيب من غير مهلة فى قوله : (فَأَقْبَرَهُ).

وقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس : ٢٢] ، أى أحياه بعد موته للبعث ، ومفعول شاء محذوف ، أى شاء إنشاره ، وأنشره جواب (إِذا) ، وعبر بكلمة (إِذا) ؛ لأن وقت المشيئة غير معلوم ، وأما سائر الأحوال المذكورة قبل ، فتعلم أوقاتها من بعض الوجوه ، ثم تفوض إلى المشيئة.

وقوله : (كَلَّا) [عبس : ٢٣] ، ردع للإنسان عما هو عليه من الكبر ، والترفع ، والإصرار على إنكار التوحيد والبعث ، وعلى هذا تكون متعلقة بما قبلها ، والوقف عليها حسن ، ويكون قوله سبحانه : (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) [عبس : ٢٣] ، سببا لهذا الردع ، وهذا ما قاله الزمخشرى ، وتبعه البيضاوى ، وقيل : معناها حقا ، وبه قال الجلال المحلى ، وأبو السعود ، وعليه تكون متعلقة بما بعدها ، أعنى قوله : (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) [عبس : ٢٣] ، والوقف حينئذ قبيح.

وقوله تعالى : (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) [عبس : ٢٣] ، أى لم يفعل الإنسان من أول مدة تكليفه إلى حين إقباره ما أمره الله به مما افترضه عليه ، فالضمير فى (يَقْضِ) للإنسان

٤٧

بمعنى العموم ، ويصح أن يكون راجعا إلى الإنسان الكافر فى قوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ) [عبس : ١٧] ، والمعنى عليه أن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمره به ربه من التأمل فى دلائل عجائب خلق الله تعالى (١).

ثانيا : آيات فى إمداد الإنسان بما يحتاج إليه من رزق وطعام :

قدمنا دلائل القرآن على الماديين فى إثبات وجود البارى بذكر خلق الإنسان ، وتطوراته ، وبيان نشأته ، وهى وقائع محسوسة ، وآيات ملموسة لا يتأتى لعاقل إنكارها ، ولا يستطيع ذو فطرة سليمة أن يجحدها ، اللهم إلا عند من خسر نفسه ، وكفر بالضروريات والمشاهدات ، وصدق الله إذ يقول : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) [لقمان : ٣٢].

ثم إن الله تعالى أمد الإنسان بإمدادات هى قوام حياته ، وأصل غذائه ومعاشه ، وأساس منافعه وحاجاته ، هى أيضا براهين ودلائل على وجود الخالق سبحانه ، منعما عظيما ، وبرا رحيما ، ومتفضلا دائم الفضل ، عميم الكرم. ونسوق فيما يأتى بعض هذه الإمدادات ، وتلك النعم ، بيانا للضالين ، وعظة وعبرة للمتقين.

__________________

(١) قبل أن ندع الحديث عن خلق الإنسان ، أحب أن أشير إلى رأى علمى ساقه الدكتور جمال الدين حسين مهران ، بكلية الصيدلة ، جامعة القاهرة ، ونشر فى جريدة الأهرام (٢٨ / ٨ / ١٩٨١) بيانا للآية الكريمة : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) : يأمرنا الله أن ينظر الإنسان فى نشأته كى يحس بدلائل قدرة خالقه ؛ ليستدل بذلك أن الذى أنشأه قادر على إعادة خلقه بعد موته. وقد خلق الإنسان من ماء متدفق يندفع من بين الصلب ، وهو منطقة العمود الفقرى ، والترائب وهى عظام الصدر.

وقد أبانت دراسات علم الأجنة الحديثة أن نواة الجهاز التناسلى والجهاز البولى فى الجنين تظهر بين خلايا الطبقة الجرثومية الوسطى الموجودة بين المنطقة الصدرية والمنطقة القطنية أو البطنية للعمود الفقرى ، وتبقى الكلى فى مكانها ، وتنزل الخصية إلى مكانها المعروف فى الصفن عند الولادة ، وعلى الرغم من انحدار الخصية إلى أسفل ، فإن الشريان الذى يغذيها بالدم طيلة حياتها يتفرع من الأورطية بحذاء الشريان الكلوى.

كما أن العصب الذى ينقل الإحساس إليها ، ويساعدها على إنتاج الحيوانات المنوية ، وما يصاحب ذلك من سوائل ، متفرع من العصب الصدرى العاشر الذى يغادر النخاع الشوكى بين الضلعين العاشر والحادى عشر ، مما يظهر أن الأعضاء التناسلية وما يغذيها من أعصاب وأوعية دموية تنشأ من موضع فى الجسم بين الصلب والترائب ، أى بين المنطقة القطنية والمنطقة الصدرية للعمود الفقرى.

٤٨

١ ـ قال الله تعالى فى سورة عبس : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [عبس : ٢٤ ـ ٣٢].

تفسير إجمالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) ، أى يوقع النظر التام بكل شىء يقدر عليه من بصر وبصيرة ، (إِلى طَعامِهِ) [عبس : ٢٤] الذى هو قوام حياته ، كيف هيأ له أسباب المعاش ليستعد بها إلى المعاد.

وقوله تعالى : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) [عبس : ٢٥] ، بفتح الهمزة على البدل من (طَعامِهِ) بدل اشتمال ، بمعنى أن صب الماء سبب فى إخراج الطعام ، فهو أى إخراج الطعام ، مشتمل عليه ، أو بمعنى أن هذه الأشياء ، أعنى صب الماء وشق الأرض ، مشتملة على الطعام ؛ لأن معنى قوله تعالى : (إِلى طَعامِهِ) إلى حدوث طعامه ، فالاشتمال على هذا من باب اشتمال الثانى على الأول ؛ لأن النظر والاعتبار إنما هو فى الأشياء التى يتكون منها الطعام لا فى الطعام نفسه ، وقوله سبحانه : (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) [عبس : ٢٦] ، أى بعد مهلة من إنزال الماء شققنا الأرض بالنبات ، الذى هو فى غاية الضعف عن شق أضعف الأشياء ، فكيف بالأرض الصلبة؟! ثم سبب عن هذا الشق ما هو كالتفسير له ، فقال تعالى : (فَأَنْبَتْنا) بما لنا من القدرة التامة (فِيها حَبًّا) [عبس : ٢٧] ، جمع حبة ، بفتح الحاء ، هو ما يحصده الناس ويدخرونه ، كالقمح ، والشعير ، وأما الحبة ، بكسر الحاء ، فهو كل ما ينبت من البذور لا يحفل به ، ولا هو يدخر ، وقدم الحب على غيره من المذكورات ؛ لأنه كالأصل فى التغذية.

(وَعِنَباً) ذكره بعد الحب ؛ لأنه غذاء من جهة ، وفاكهة من جهة ، (وَقَضْباً) [عبس : ٢٨]. قال ابن عباس ، رضى الله عنهما : هو الرطب ؛ لأنه يقتضب من النخل ، أى يقطع ، ورجحه بعضهم لذكره بعد العنب ؛ لأنهما يقترنان كثيرا.

(وَزَيْتُوناً) ، وهو ما يعصر منه الزيت ، (وَنَخْلاً) [عبس : ٢٩] ، جمع نخلة ، فكل من هذه الأشجار مخالف للآخر فى الشكل والحمل ، وغير ذلك ، مع الموافقة فى الأرض ، والسقى ، فليتدبر هذا جيدا.

(وَحَدائِقَ غُلْباً) [عبس : ٣٠] ، الحديقة الشجر الذى قد أحدق بجدار ونحوه ،

٤٩

و (غُلْباً) جمع أغلب وغلباء ، كحمر فى أحمر وحمراء ، والمراد بساتين كثيرة الشجر غلاظه ، (وَفاكِهَةً) وهى ما تأكله الناس من ثمار الأشجار ، كالتين والخوخ ، فهو من عطف العام على الخاص ، إذا قلنا : إنه معطوف على قوله : (عِنَباً) ، وأما إذا عطف على (حَدائِقَ) كما هو المتبادر ، فهو عطف خاص على عام.

وقوله تعالى : (وَأَبًّا) [عبس : ٣١] مأخوذ من أبه إذا أمه ، أى قصده ؛ لأنه يؤب ، أى يؤم ، أو من أب لكذا ، إذا تهيأ له ؛ لأنه متهيأ للرعى. وفى المصباح : الأبّ المرعى الذى لم يزرعه الناس مما تأكله الدواب والأنعام.

وقوله تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [عبس : ٣٢] متاعا مفعول لأجله أو مطلق ، والعامل فيه محذوف وتقديره فعل ذلك متاعا لكم أو متعكم كذلك تمتيعا ، والمعنى تتمتعون به أنتم وأنعامكم ، فابن آدم فى السبعة المذكورة ، والأنعام فى الأب ، وخصصت الأنعام بالذكر لكثرة الانتفاع بها ، وإلا فغير الأنعام تنتفع بما تنتفع به الأنعام.

٢ ـ قال تعالى فى سورة النبأ : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) [النبأ : ١٤ ـ ١٦] ، ونرى فى هذه الآى سوق المعنى فى إيجاز بليغ ، وأسلوب بديع ، شأن القرآن الكريم فى تكرير المعنى على صور شتى من البلاغة الخارقة ، والإعجاز المنقطع النظير.

قوله سبحانه : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) ، المعصرات هى السحائب الماطرة ، وهو مأخوذ من العصر ؛ لأن السحاب ينعصر فيخرج منه الماء ، والعاصر لهذه السحب هو الريح ، ومعنى الثجاج السريع الاندفاع ، كما يندفع الدم من العروق فى الذبيحة ، ومنه قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قيل له : ما أفضل الحج؟ فقال : «العج والثج» ، أراد بالعج التضرع إلى الله تعالى بالدعاء الجهير ، وبالثج ذبح الهدى.

قوله تعالى : (لِنُخْرِجَ بِهِ) ، أى الماء ، (حَبًّا) ، أى نجما (١) ذا حب مما يتقوّت به ، كالحنطة ، والشعير ، والأرز ، (وَنَباتاً) ، أى ما يعتلف به كالتبن ، والحشائش ، كما قال تعالى : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) [طه : ٥٤].

(وَجَنَّاتٍ) ، أى بساتين تجمع أنواع الشجر والنبات ، (أَلْفافاً) ، أى ملتفة الأغصان والأوراق ، جمع لفيف ، كشريف وأشراف.

__________________

(١) النجم من النبات : ما ليس له ساق.

٥٠

٣ ـ قال سبحانه فى سورة الزمر : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) [الزمر : ٢١].

تبين لنا هذه الآية أن ماء المطر قد يدخله الله تعالى فى الأرض فى أمكنة قريبة ينبع منها ، بحيث لا يستعصى على الناس إخراجه ، ولا يتعذر عليهم الحصول عليه عند ضرورياتهم وحاجتهم ، رحمة منه بخلقه ، ولطفا بعباده ، وتدبيرا محكما لسد عوزهم ، وإنجائهم من المهلكات ، فالآية الكريمة توقف المخاطب على ما يشاهده من نزول الماء على هذه الصفة ، وعلى هذا النحو الذى لا ينكر ، وقوله : (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ) [الزمر : ٢١] ، أى أدخله ينابيع فى الأرض ، وهى عيون ومجار كائنة فيها ، وكانت هذه العيون وتلك المجارى قريبة من سطح الأرض ، ولم تكن بعيدة فى أسفلها جدا ، بحيث يشق على الناس إخراج الماء منها.

وقوله تعالى : (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) [الزمر : ٢١] ، المراد بالزرع جميع ما يستنبت من الأرض ، ومعنى اختلاف ألوانه خضرته ، وصفرته ، وبياضه ، إلى غير ذلك ، ويشمل اختلاف الأصناف كذلك من برّ ، وشعير ، وسمسم ، وغيرها.

وقوله تعالى : (ثُمَّ يَهِيجُ) ، أى ييبس ، (فَتَراهُ) بعد الخضرة مثلا مصفرا من يبسه ؛ لأنه إذا تم جفافه حان له أن ينفصل عن منابته ، (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) فتاتا ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) ، التدبير (لَذِكْرى) تذكيرا وتنبيها (لِأُولِي الْأَلْبابِ) [الزمر : ٢١] ، أصحاب العقول الصافية ، فيتذكرون هذه الأحوال فى النبات ، فيعلمون أنه لا بدّ لها من صانع حكيم دبر أحوالها ، وهيأها على هذا النحو العجيب.

٤ ـ قال تعالى فى سورة المؤمنون : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) [المؤمنون : ١٨] ، أتت هذه الآية بالمعنى المتقدم ، مع بيان أن إنزال الماء كان بميزان مضبوط يتمشى مع مصالح البلاد والعباد ، وتحيا به الخلائق والكائنات ، فليس فيه زيادة على المصلحة ، فيكون الغرق والهلاك ، وليس فيه نقص ، فيكون القحط والجدب.

ونريد أن نقف قليلا عند قوله سبحانه : (بِقَدَرٍ) [المؤمنون : ١٨] ، فهذا يدل على أن نزول الماء لم يكن من طبيعة السماء ، ولا من مادتها ، ولا بحكم أنها سماء ، وإلا لكان

٥١

إما زائدا عن المصلحة ، وإما ناقصا عنها ، وإما متمشيا ، وفى حال تمشيه معها ، لم يكن عن قصد أو تدبير ، وإنما هو بالمصادفة ، فليس إنزاله على تلك الضوابط العجيبة والموازين الدقيقة إلا للقادر المختار ، الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى.

كما أن فى قوله تعالى : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) [المؤمنون : ١٨] ، ما يفيد هذا المعنى أيضا ، فلم يكن وجود الماء فى الأرض من ذاتها أو طبيعتها ، ولا بحكم أنها أرض ، وإلا لبقى دائما أبدا لا يزول ولا يحول ، وكم سمعنا ورأينا ذهاب الماء من أرض كان فى باطنها ، وخلوها منه بعد أن كان متمكنا فيها.

فقدرة الله سبحانه على إذهاب الماء من الأرض قدرة فائقة ، لا يتعاظمها شىء ، ولا يقف أمامها مانع ، كما هو ظاهر من التعبير القرآنى ، فما دام الموجد لهذا الماء والمخترع له هو الله الفاعل المختار ، فهو كذلك القادر على رفعه ، وإزالته ، وزواله ، فعلى العباد أن يستنبطوا النعمة فى الماء ، ويقيدوها بالشكر الدائم.

٥ ـ قال سبحانه فى سورة يس : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : ٣٣ ـ ٣٦].

نرى فى هذا تصريحا بأن عملية إنزال الماء ، وإخراج النبات به ، وما إلى ذلك ، دليل واضح ، وبرهان ظاهر على توحيد الله تعالى وقدرته الباهرة.

وإذا كان جل ذكره يقول : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) [النساء : ٨٢] ، ويقول : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) [ص : ٢٩] ، ويقول : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] ، فعلى المؤمن العاقل أن يتدبر هذه الآية التى نحن فيها وأمثالها مما قدمنا ؛ لاستخراج ما فيها من المعانى الدالة على جلال الخالق سبحانه وكماله. ومن هنا أنشد الإمام القشيرى معنفا وموبخا من أهمل ذلك ولم يحفل به ، يقول :

يا من تصدر فى دست الإمامة فى

مسائل الفقه إملاء وتدريسا (١)

غفلت عن حججالتوحيد تحكمها

شيدت فرعا وما مهدت تأسيسا

__________________

(١) الدست : فارسى معرب ، بمعنى اليد ، يطلق على التمكن فى المناصب والصدارة.

٥٢

ثالثا : آيات فى بعض مظاهر الكون :

آية اختلاف الليل والنهار : وسوف نطيل الكلام فيها ؛ لما لها من عموم النفع ، وظهور دلالتها على المراد ، فكل من الليل والنهار يتوارد على الآخر ، فبينما النهار مضىء يجلى الأرض بنوره ، ويعمها بضيائه ، إذا بالليل يغشاه ، فترى المعمورة وقد عمها الظلام الحالك ، وسادها السكون القاطع للأعمال ، والمريح للأبدان ، فهذا التوارد ، أعنى ذهاب إحداهما ومجىء الآخر مكانه دون توقف أو تغير ، آية دالة على وجود الله سبحانه ، وتوحيده ، وعظيم قدرته ، كما أن اختلافهما بالزيادة والنقصان دون أن يحصل لهذه الزيادة أو ذلك النقصان أدنى تغير على مر السنين والأعوام ، لأقوى دليل على المراد.

وقال بعض العلماء : وعندى فيه وجه ثالث ، وهو أن الليل والنهار كما يختلفان بالطول والقصر فى الأزمنة ، فهما يختلفان فى الأمكنة ، فإن من يقول : إن الأرض كرة ، فكل ساعة عينتها ، فتلك فى موضع من الأرض صبح ، وفى موضع آخر عصر ، وفى آخر مغرب ، وفى آخر عشاء ، وهلم جرا ، إذا اعتبرنا البلاد المختلفة فى الطول ، أما البلاد المختلفة فى العرض ، فكل بلد عرضه للشمال أكثر كانت أيامه الصيفية أقصر ، وأيامه الشتوية بالضد من ذلك ، فهذه الأحوال المختلفة فى الأيام والليالى بحسب أطوال البلاد وعرضها أمر عجيب. أ. ه.

يضاف إلى ما تقدم انتظار أحوال العباد فى معاشهم بالراحة فى الليل ، والسعى فى النهار ، مصداق قوله تعالى فى سورة القصص : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص : ٧١ ـ ٧٣].

وما أبدع قوله سبحانه فى سورة الرعد فى التعبير عما فى الليل والنهار من آية بقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الرعد : ٣] ، وذلك أن قوله : (يُغْشِي) يفيد صراحة أن الليل بظلمته يستر النهار كله ، فلم يبق هناك موضع للضوء أصلا ، مع ما فيه من الاستعارة البديعة ، وبيان ذلك أن الإغشاء إنما هو إلباس الشيء ، ولما كان إلباس الليل النهار ، وتغطية النهار به غير معقول ؛ لأنهما متضادان لا يجتمعان ، واللباس لا بدّ أن

٥٣

يجتمع مع اللابس ، كان لا بدّ من تقدير مضاف ، أى يغشى الليل مكان النهار ، ومكان النهار هو الجو ، فيكون الجو هو الذى يلبس ظلمة الليل ويجتمع معها ، ولا منافاة فى ذلك.

أما الاستعارة ، فهى أن يقال : شبه إحداث الظلمة فى الجو الذى هو مكان الضوء بإغشائها إياه ، وتغطيته بها بجامع مطلق الستر فى كل ، واستعير الإغشاء بمعنى إلباس الظلمة للجو ، لإحداث الظلمة به ، ثم اشتق منه يغشى بمعنى يلبس على طريق الاستعارة التبعية.

وإنما لم يذكر عكسه : ويغشى النهار الليل ؛ للعلم به من باب الاكتفاء بذكر أحد الضدين ، كما فى قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ، أى والبرد.

وهذا الاكتفاء والحذف فى هذه الآية يشبه الاكتفاء والحذف فى سورة يس : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) [يس : ٣٧] ، فإنه صرح بآية الليل دون آية النهار ، مع أن السياق يرشد حتما إلى أن التقدير : والنهار نسلخ منه الليل ، فإذا هم مبصرون.

وفى (نَسْلَخُ) استعارة تصريحية تبعية ، وذلك أنه شبه انكشاف ظلمة الليل بكشط الجلد من الشاة ، والجامع ما يعقل من ترتب أحدهما على الآخر ، واستعير كشط الجلد ، أى سلخه ، لانكشاف ظلمة الليل ، واشتق منه (نَسْلَخُ) بمعنى نكشف ، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.

والعجيب فى أمر الليل والنهار أن كلا منهما فى مدته وما حدد له من زمن ، لا يغلب أحدهما الآخر ، فكل منهما مقهور فى خصائصه ومميزاته بإرادة الفاعل المختار ، وقدرة القادر الذى لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء ، وهذا ما يعطيه قوله جل جلاله فى سورة يس أيضا : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠].

فالشمس التى هى آية لا ينبغى لها ، أى لا يسهل عليها ، ما دام هذا الكون موجودا على ذلك الترتيب والنظام البديع ، أن تدرك القمر فتجتمع معه فى الليل ، فما النهار سابق الليل ، ولا الليل سابق النهار ، أى فلا يأتى أحدهما قبل انقضاء الآخر ، فالآية من الاحتباك ؛ لأنه نفى أولا إدراك الشمس للقمر ، ففيه دليل على ما حذف من الثانى من

٥٤

نفى إدراك القمر للشمس ، أى فيلغيها ، وإن كان يوجد فى النهار ، لكن من غير سلطنة فيه بخلاف الشمس ، فإنها لا تكون فى الليل أصلا ، ونفى ثانيا سبق الليل النهار ، وفيه دليل على حذف سبق النهار للّيل ، وكل من الشمس والقمر فى فلك محيط به ، وهو الجسم المستدير ، أو السطح المستدير ، أو الدائرة ؛ لأن أهل اللغة على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها ، وفلكة الخيمة هى الخشبة المسطحة المستديرة التى توضع على رأس العمود لئلا يمزق العمود الخيمة.

ولما ذكر لها فعل العقلاء من كونها على نظام محرر لا يختل ، وسير مقدر لا يعوج ، جمعها جمعهم بقوله سبحانه : (يَسْبَحُونَ) يعنى جمعها جمع العقلاء ، لا أنها ذات عقل وحياة ، بل لما تقدم من نظامها الدقيق ، وسيرها العجيب ، خلافا لما قال به بعض المنجمين من أن لها عقلا وحياة.

قال الرازى : إن أردتم القدر الذى يصح به التسبيح فنقول به ؛ لأنه ما من شىء من الأشياء إلا وهو يسبح بحمد الله ، وإن أردتم شيئا آخر ، فلم يثبت ذلك ، والاستعمال لا يدل عليه ، كما فى قوله تعالى فى حق الأصنام : (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) [الصافات : ٩٢] ، وقوله : ألا تنطقون (١). أ. ه.

ومما يزيد معنى اختلاف الليل والنهار وضوحا وتبيانا ، قوله سبحانه فى سورة النور : (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [النور : ٤٤] ، فالله الذى له الأمر كله يحول الظلام ضياء ، والضياء ظلاما ، ويزيد أحدهما تارة ، وينقصه تارة أخرى ، مع المطر تارة ، والصحو أخرى ، فينشأ من ذلك التقليب من الحر والبرد ، وغير ذلك ما يبهر العقول ، ولهذا قال سبحانه منبها على النتيجة : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [النور : ٤٤] ، على وجود الصانع القديم ، وكمال قدرته ، وإحاطة علمه ، ونفاذ مشيئته.

هذا وفى قوله سبحانه فى سورة الزمر ما يؤكد هذا المعنى ، وهو قوله جل شأنه : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) [الزمر : ٥] ، والمعنى يدخل الليل على النهار ، ويدخل النهار على الليل. وقيل : ينقص من الليل فيزيد فى النهار ، وينقص من النهار فيزيد فى الليل ، فما نقص من الليل دخل فى النهار ، وما نقص من النهار دخل فى الليل.

__________________

(١) انظر : التفسير الكبير (ج ٢٦) (ص ٧٧) طبعة دار الفكر.

٥٥

قال البغوى : ومنتهى النقص تسع ساعات ، ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة. وقال الرازى : إن النور والظلمة عسكران عظيمان ، وفى كل يوم يغلب هذا ذاك ، وذاك هذا ، وفى ذلك دلالة على أن كل واحد منهما مغلوب مقهور ، ولا بدّ من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره ، وهو الله تعالى. رحم الله الرازى ، وجزاه عن الإسلام والحقيقة خير الجزاء.

دلائل من سورة الرعد : هذا وقد رأينا أن نسوق أوائل سورة الرعد ، فقد جمعت ثمانية أدلة ، منها اثنتان سماويتان ، وستة أرضية ، قال الله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد : ٢ ـ ٤].

الدليل الأول : قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرعد : ٢] : ذكرت هذه الآية عقب قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) [الرعد : ١] ، برهانا قويا على التوحيد ، ودليلا ساطعا على عظمة البارى وقدرته ، ومعنى قوله : (رَفَعَ السَّماواتِ) [الرعد : ٢] ، أى أنشأها مرفوعة لا أنها كانت موضوعة فرفعها ، ولكن جعلها فى الابتداء مرفوعة ، ودلالة ذلك على التوحيد ظاهرة ، فإنه لا يقدر على رفع ما فيه سعة وبعد بغير عمد إلا الله الواحد القهار.

وتوضيح تلك الدلالة أن ارتفاعها على سائر الأجسام ليس مقتضى جسميتها ، ولا مقتضى ذاتها أو ذات غيرها ، وإلا كان كل جسم كذلك ، ولا مقتضى خصوصيتها النوعية ؛ لأنا ننقل الكلام إلى اختصاصها بتلك الخصوصية ، فنقول : إن اختصاصها بها ليس لجسميتها ، وإلا كان كل جسم كذلك ، وليس اختصاصها بهذه الخصوصية لذاتها ولا لذات غيرها ؛ لأن الأجسام والأحياز متساوية ، فتعين أن يكون لارتفاعها مخصص خارجى ليس جسما ولا جسمانيا ، وإلا لكان له حيز يشغله بذاته ، أو بتبعية موضوعه ، ولا بدّ أن يكون ذلك المخصص أيضا فاعلا مختارا يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته.

٥٦

وقوله : (بِغَيْرِ عَمَدٍ) ، أى رفعها خالية عن عمد مرئية ، وانتفاء العمد المرئية يحتمل أن يكون لانتفاء العمد والرؤية جميعا ، أى لا عمد لها فلا ترى ، ويحتمل أن يكون الانتفاء للرؤية فقط بأن يكون لها عمد غير مرئى ، وهو القدرة ، فإنه تعالى يمسكها مرفوعة بقدرته ، فكأنها عماد لها ، فقوله : (بِغَيْرِ عَمَدٍ) معناه بغير عمد مرئية ، فكلمة النفى وإن كانت متقدمة فى الذكر ، فهى متأخرة فى المعنى ، وكونها مرفوعة بعماد غير مرئى مثل كونها مرفوعة بغير عماد أصلا فى كون ذلك الرفع عجيبا خارجا عن دائرة العقل والخيال ، فإنا لا نتعقل ارتفاع السقف الواسع الرفيع السميك بغير عمد مرئية ، ونظير الآية فى الاحتمالين قولك : ما رأيت رجلا صالحا ، فإن صدقه يحتمل أن يكون لانتفاء الرجل والصلاح جميعا أو لانتفاء الصلاح وحده.

ويصح أن يكون قوله : (تَرَوْنَها) استئنافا ، والضمير فيه يعود على السموات بعد أن كان راجعا إلى العمد فيما تقدم ، والجملة لا محل لها من الإعراب ، كأنه قيل : ما الدليل على أن السموات مرفوعة بغير عمد ، فأجيب بأنكم ترونها غير معمودة ، أو فاستشهد على كونها مرفوعة بغير عمد برؤية الناس لها كذلك.

الدليل الثانى : قوله سبحانه : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الرعد : ٢] : والمعنى أنه سبحانه ذلل الشمس والقمر لمنافع خلقه مقهورين ، يجريان على ما يريده سبحانه ، كل منهما فى فلكه إلى وقت معلوم ، وهو فناء الدنيا وزوالها ، فعند ذلك الوقت تنقطع هذه الحركات ، وتبطل تلك التسخيرات ، كما وصف الله تعالى ذلك فى قوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [التكوير : ١ ، ٢] ، وقوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] ، وقوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١].

ويصح أن يكون معنى الأجل المسمى هو المدة المعينة لكل منهما التى يتم فيها أدواره فى منازله المخصصة له ، والتى ينجم عنها الشهر بالنسبة للقمر ، والسنة بالنسبة للشمس ، على ما يقوله أهل الفلك.

ووجه الدلالة على المراد فى هذا الشأن أن اختصاصهما بالحركة الدائمة على وجه مخصوص من البطء والسرعة ، ونسق معين ، مع كون الأجسام متماثلة ، لا بدّ له من مخصص ، كما تقدم ذكره عند الدليل السابق.

هذا ولما كان خلق السموات والأرض غيبا لتقدمه ، وكان مقصودنا إلزام الماديين بما

٥٧

يشاهدون بالحس ويرون بالعين ، كان الاستدلال برفع السموات بغير عمد ، وتسخير الشمس والقمر ، وغير ذلك بما سيأتى أدخل فى بيان المراد ، والزام لهم مما لا يشاهدونه ، وإن كان فى خلق السموات والأرض ذاته دليل من غير شك على وجود الصانع سبحانه لمن عنده عقل صحيح خال من الشوائب والكدورات.

ولما ذكر تعالى دلائل وحدانيته ، وكمال قدرته من رفع السماء بغير عمد ، وأحوال الشمس والقمر ، أردفها بذكر الدلائل الأرضية كما يأتى.

الدليل الثالث : قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) [الرعد : ٣] :

والمعنى أنه سبحانه بسط الأرض طولا وعرضا ؛ لتثبت عليها الأقدام ، ويتقلب عليها الحيوان ، ووجه الاستدلال بامتداد الأرض أن كونها ممدودة ، أى ذات امتداد من الطول والعرض والعمق على قدر معين ، مع جواز كونها أزيد مقدارا مما هى عليه الآن ، أو أنقض منه ، لا بدّ له من مخصص كما تقدم ، ومد الأرض لا ينافى كونها كرة ؛ لأن الكرة إذا كانت فى غاية الكبر ، كانت كل قطعة منها تشاهد كالسطح.

الدليل الرابع : قوله جل شأنه : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) [الرعد : ٣] :

أى أنه سبحانه خلق فى الأرض جبالا ثوابت باقية فى حيزها ، غير متنقلة ، لا تتحرك ولا يتحرك ما هى راسية فيه ، وهذا لا يكون إلا بتخليق القادر الحكيم ، فضلا عن أن حصولها فى بعض جوانب الأرض دون البعض الآخر ، مع أن طبيعة الأرض واحدة ، لا بدّ أن يكون بتخصيص الفاعل المختار.

الدليل الخامس : قوله سبحانه : (وَأَنْهاراً) [الرعد : ٣] :

أى وجعل فى الأرض أنهارا جارية لمنافع الخلق ، والنهر هو المجرى الواسع من مجارى الماء ، وأصله الاتساع ، ومنه النهار ؛ لاتساع ضوئه. فمن ذا الذى هيأها لهذا النفع الدائم المتواصل للخلائق كلهم من إنسان ، وحيوان ، ودواب ، وهوام ، إنه ليس إلا الله الذى خلق كل شىء فقدره تقديرا.

ثم إن فوائد المجارى المائية كثيرة ، وصدق الله العظيم إذ يقول : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [فاطر : ١٢].

٥٨

الدليل السادس : قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [الرعد : ٣] :

أى جعل فى الأرض من جميع أنواع الثمار صنفين اثنين ، والاختلاف إما من حيث الطعم ، كالحلو والحامض ، أو اللون ، كالأسود والأبيض ، أو الحجم ، كالصغير والكبير ، أو الطبيعة ، كالحار والبارد ، وتوضيح ذلك وبيانه أن الحبة إذا وقعت فى الأرض نبتت وربت ، وبسبب ذلك ينشق أعلاها وأسفلها ، فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصاعدة ، ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة ، وهذا من جانب العجائب ؛ لأن طبيعة الحبة واحدة ، وتأثير الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد ، ثم إنه خرج من أحد جانبى تلك الحبة جرم صاعد إلى الهواء ، ومن الجانب الآخر جرم غائص فى الأرض ، ومن المحال أن يتولد من طبيعة واحدة طبيعتان متضادتان ، فعلمنا أن ذلك إنما كان بسبب تدبير المدبر الحكيم.

ثم إن الشجرة النابتة يكون بعضها خشبا ، وبعضها نورة (١) ، وبعضها ثمرة ، وتلك الثمرة يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع ، فالجوز مثلا له أربعة أنواع من القشور ، قشره الأعلى ، وتحته القشرة الخشبية ، وتحته القشرة المحيطة باللب ، وتحت هذه القشرة قشرة أخرى فى غاية الدقة تمتاز عما فوقها ، وأيضا فقد يحصل من الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة ، فالعنب مثلا قشره وعجمه باردان يابسان ، ولحمه وماؤه حاران رطبان ، فتولد هذه الطبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوى تأثيرات الطبائع وتأثيرات الأنجم والأفلاك لا بدّ وأن يكون بتدبير العليم الحكيم.

الدليل السابع : قوله جل شأنه : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الرعد : ٣] :

أى يغطى الليل بظلمته النهار ، وكذلك يغطى النهار بضوئه الليل ، فيستدل بفعلهما على ما قدره الله تعالى لهما فى السير من الزيادة والنقصان ، وقد تقدم لذلك مزيد إيضاح فى آية الليل والنهار ، ولما كان غشيان الليل النهار ظاهرة تظهر للناس على سطح الأرض وينتفعون بها فى معاشهم ، عدت من الأدلة الأرضية.

الدليل الثامن : قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) [الرعد : ٤] :

ذكر تعالى دليلا آخر ظاهرا جدا ، وهو أن الأرض التى أنتم سكانها (قِطَعٌ) بقاع

__________________

(١) النورة : الزهرة.

٥٩

مختلفة (مُتَجاوِراتٌ) ، أى متقاربات يقرب بعضها من بعض ، واحدة طينية ، والأخرى سبخة لا تنبت ، وأخرى صالحة للزرع لا للشجر ، وأخرى بالعكس ، وأخرى قليلة الريع ، وأخرى كثيرة.

ولو لا تخصيص قادر موقع لأفعاله على وجه دون وجه ، لم تكن كذلك ؛ لاشتراك تلك القطع فى الطبيعة الأرضية ، وما يلزمها ويعرض لها من الأسباب السماوية ، فليست هذه القطع الأرضية فى خواصها وأحوالها مستندة إلى الاتصالات الفلكية والحركات الكونية ؛ لأن قطع الأرض مختلفة فى صفاتها ، مع اشتراكها فى الطبيعة الأرضية ، وكونها متجاورة متقابلة ، بحيث يكون تأثير الشمس وسائر الكواكب فيها على السوية.

ثم قال سبحانه وتعالى : (وَجَنَّاتٌ) [الرعد : ٤] ، أى بساتين فيها أنواع الأشجار المختلفة ، (مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) [الرعد : ٤] ، جمع صنو ، وهى النخلات ، يجمعها أصل واحد ، وتتشعب فروعها ، (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) [الرعد : ٤] ، أى متفرقات مختلفة الأصول.

ولما كان الماء بمنزلة الأب ، والأرض بمنزلة الأم ، وكان الاختلاف مع اتحاد الأم والأب ، أعجب وأدل على الإسناد إلى الواحد المسبب ، قال تعالى : (يُسْقى) [الرعد : ٤] ، أى الجنات بما فيها ، (بِماءٍ واحِدٍ) [الرعد : ٤] ، فتخرج أغصانها وثمراتها فى وقت معلوم ، (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد : ٤] ، أى فى الطعم ما بين حلو وحامض ، وفى الشكل ، والرائحة ، والمنفعة ... إلخ. وذلك مما يدل على القادر الفاعل المختار ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد : ٤].

دلائل من سورة النحل : وننتقل إلى سورة النحل ، فنأتى منها ما يقوى المراد ، ويزيد فى إيضاحه ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل : ١٠ ، ١١].

من المعلوم والمشاهد أن النبات نوعان :

أحدهما : معد لرعى الأنعام ، وقد ذكره تعالى بقوله : (تُسِيمُونَ).

وثانيهما : مخلوق لأن يكون غذاء للإنسان ، وهو المراد بقوله تعالى : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ).

٦٠