عون الحنّان في شرح الأمثال في القرآن

الشيخ علي أحمد عبد العال الطهطاوي

عون الحنّان في شرح الأمثال في القرآن

المؤلف:

الشيخ علي أحمد عبد العال الطهطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4571-1
الصفحات: ٢٨٨

والمتهمون له فى دعوى نبوته ليس لكم سبب فى اتهامكم سوى أنكم تجوزون أن يكون إخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك مبنيا على مشاهدته ومعاينته ذلك ، وأنه غاية فى السفاهة ، ونهاية الجنون والجهالة ، ومن أضل ممن عدل عن الاحتمال الثابت بالمعجزات القاطعة والبراهين القطعية ، وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوحى إليه إلى احتمال لا يذهب إليه وهم أحد ، وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر عن هذه الحقائق بالمشاهدة.

محاجة القرآن للنصارى فى عبادة عيسى :

قال الله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩] الآية.

سبب النزول :

روى أن وفد نصارى نجران جادلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : ما لك تشتم صاحبنا ، قال : «وما أقول؟» ، قالوا : تقول : إنه عبد الله ورسوله ، قال : «أجل ، إنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول» ، فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنسانا قط من غير أب ، فإن كنت صادقا فأرنا مثله ، فنزل قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩].

كأنهم قالوا : يا محمد ، لما سلمت أنه لا أب له من البشر ، وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى ، فقال : إن آدم ما كان له أب ولا أم ، ولم يلزم من ذلك أن يكون أبوه هو الله تعالى ، وأن يكون هو ابنا له تعالى ، فكذا القول فى عيسى ، عليه الصلاة والسلام.

ولعله من الواضح بعد بيان هذه المشابهة الواقعة بين عيسى وآدم ، عليهم‌السلام ، أن تبطل شبهتهم فى قولهم فى عيسى : إنه ابن الله تعالى ، وعليهم بمقتضى هذا أن ينزلوا عن اعتقادهم فى بنوة عيسى ، وأنه ابن الله تعالى ، ولم يستطيعوا أن يفروا من هذا أبدا ، اللهم إلا ما كان من عنادهم واستكبارهم.

آية المباهلة :

ثم قال تعالى زيادة فى الإلزام وتأكيدا لإظهار الحجة عليهم : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران : ٦١] ، المراد بالعلم

١٠١

البينات الموجبة له من الدلائل والبراهين ، مثل قوله تعالى قبل ذلك : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [آل عمران : ٤٦] ، وما أشبه ذلك مما يدل على أنه وجد بعد أن كان معدوما ، واستقر فى مضيق الرحم ، ثم ترعرع وصار شابا يأكل ، ويشرب ، ويحدث ، وينام ، ويستيقظ.

وإنما فسر العلم بالبينات والبراهين ؛ لأن العلم الذى حصل فى قلبه ، عليه الصلاة والسلام ، لا يوجب إفحامهم ، وانقطاع جدالهم وشبهاتهم ، ولا إقدامهم على المباهلة والملاعنة ، بل الذى يوجب ذلك هو إيراد الدلائل عليهم ، بحيث يلجئهم إلى الاعتراف بالحق وقبوله ، أو إلى إصرارهم على إنكاره وتكذيبه ، عنادا واستكبارا ، مع أن نفس العلم لا يتصف بالمجىء والانتقال من موضعه ، بخلاف الدليل ، فإنه يوصف بالورود والقيام.

والمراد بالمباهلة الملاعنة ، بأن يقال : بهلة الله ، أى لعنته على الكاذبين منا ومنكم بأمر عيسى ، عليه‌السلام. والبهلة ، بضم الباء وفتحها ، وأصله الترك ، من قولهم : بهلت الناقلة إذا تركت بلا صرار (١) ، ومعنى قوله : (تَعالَوْا) أى بالرأى والعزم ، لا بالأجساد والأشخاص ؛ لأنهم حاضرون عنده ، عليه الصلاة والسلام ، بأجسادهم حيث إنهم يجادلونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى شأن عيسى ، عليه‌السلام.

قوله : (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ...) الآية ، أى ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله ، وإنما قدمهم على النفس ؛ لأن الرجل يخاطر بنفسه لأجلهم ، ويحارب دونهم ، فلما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية على وفد نجران ، ودعاهم إلى المباهلة ، قالوا : حتى نرجع وننظر فى أمرنا ، ثم نأتيك غدا.

فخلا بعضهم ببعض ، وقالوا للعاقب ، وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ، ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبى مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لنهلكن ، فإن أبيتم إلا الإقامة على دينكم وعلى ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم ، فوادعوا هذا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد غدا محتضنا للحسين ، آخذا بيد الحسن ، وفاطمة تمشى خلفه ، وعلى بن أبى الخطاب خلفها ،

__________________

(١) فى المختار : صر الناقة : شد عليها الصرار ، بالكسر ، وهو خيط يشد لئلا يرضعها ولدها.

١٠٢

رضى الله تعالى عنهم ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لهم : «إذا أنا دعوت فأمنوا».

فقال أسقف نجران ، وهو اسم سريانى لرئيس النصارى وعالمهم ، وهو غير العاقب : يا معشر النصارى ، إنى لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله ، فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصرانى إلى يوم القيامة.

فقالوا : يا أيا القاسم ، رأينا أن لا نباهلك ، وأن نقرك على دينك ، ونثبت على ديننا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم» ، فأبوا ، فقال : «إنى أنابذكم» ، فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا ، على أن نؤدى إليك كل عام ألفى حلة ، ألف فى صفر ، وألف فى رجب ، نؤديها للمسلمين ، وعارية ثلاثين درعا ، وثلاثين فرسا ، وثلاثين بعيرا ، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها ، والمسلمون ضامنون لها حتى يؤدوها ، فصالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، وقال : «والذى نفسى بيده ، إن العذاب تدلى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولأضرم عليهم الوادى نارا ، ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله ، حتى الطير على رءوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى حتى هلكوا كلهم».

وجاء فى بعض الروايات عن عائشة ، رضى الله عنها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم فاطمة ، ثم علىّ ، رضى الله عنهم ، ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) [الأحزاب : ٣٣] ، وفى ذلك دليل على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى فضل أهل الكساء ، رضى الله تعالى عنهم ، وعن بقية الصحابة أجمعين.

نعم انقطعوا عن المباهلة وخافوها ، ولم يجرءوا بعد مشاورة أهل الرأى فيهم على الدخول فى ساحتها ، وذلك أعظم دليل ملزم وقاطع لشبههم ، وإلا فما كان أسهل عليهم وأيسر لهم أن يلاعنوا ويقولوا فى تضرع : لعنة الله على الكاذبين منا ومنكم بأمر عيسى.

قال بعض العلماء : فإن قيل : الأولاد إذا كانوا صغارا لم يجز نزول العذاب بهم ، وقد ورد فى الخبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدخل فى المباهلة الحسن والحسين ، رضى الله عنهما ، فما الفائدة؟

والجواب : أن عادة الله تعالى جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلك معهم

١٠٣

الأولاد والنساء ، فيكون ذلك فى حق البالغين عقابا ، وفى حق الصبيان والنساء لا يكون عقابا ، بل يكون جاريا مجرى إهانتهم ، وإيصال الإيلام إليهم ، ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده شديدة جدا ، وربما جعل الإنسان نفسه فداء لهم ، وإذا كان كذلك فهو ، عليه الصلاة والسلام ، أخذ صبيانه ونساءه معه ، وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ، ليكون أدعى للخصم إلى قبول الحق ، وأبلغ فى الزجر عن المخالفة ، وأقوى فى تخويفهم ، وأدل على وثوقه ، عليه الصلاة والسلام ، بأن الحق معه. انتهى.

عيسى عبد الله ورسوله :

ثم يأتى بعد ذلك قوله سبحانه : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : ٦٢].

ونرى فى صدر هذه الآية الكريمة ، أن ما قصه الله تعالى فى شأن عيسى ، وأنه عبد الله ورسوله ، هو الإخبار الصحيح ، والقول الحق ، دون ما ادعته النصارى ، من أنه ابن الله تعالى والله سبحانه أبوه ، ونرى فى قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) نفى الإلهية فى عموم واستغراق عن غير الله تعالى وإثباتها له وحده ، جل جلاله ، وعظم شأنه. ثم يأتى ختام الآية : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لنرى فيه ردا قويا على إلهية عيسى ، وإلزاما لا مفر منه بأنه عبد الله ورسوله ، وبيانه كالآتى :

إن تعريف كل من المسند والمسند إليه وتوسيط ضمير الفصل بينهما ، يفيد الحصر والتخصيص ، ويدل على انتفاء القدرة التامة ، والحكمة البالغة عن عيسى ، عليه‌السلام ، فالنصارى لما اعتمدوا فى زعمهم إلهية عيسى ، عليه‌السلام ، على قدرته على إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وعلى إخباره بالمغيبات من أحوالهم ، أجاب الله تعالى عن هذه الشبهات بأن هذا القدر من القدرة لا يكفى فى الإلهية ، بل لا بدّ أن يكون القادر عزيزا غالبا لا يقهر ، وأنتم قد اعترفتم بأن عيسى ، عليه‌السلام ، ما كان كذلك ، بل قلتم إن اليهود قتلوه ، وأيضا فإن ما فيه من علمه بالمغيبات وإخباره عنه لا يكفى أيضا فى إلهيته ، بل لا بدّ أن يكون العالم حكيما ، أى عالما بجميع المعلومات ، وبجميع عواقب الأمور ، فقوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) باعتبار دلالته على أن عيسى ، عليه‌السلام ، بمعزل عن القدرة التامة ، والحكمة البالغة ، فهو جواب عن شبهة النصارى واستدلالهم بقدرته على إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، وبعلمه

١٠٤

المغيبات وإخباره عنها على إلهيته.

وفى هذا بيان لواقع محسوس ، ومشاهد ملموس ، وهو أن قدرة عيسى ، عليه‌السلام ، ليست تامة ، وعلمه ليس شاملا ، وليس فى وسعهم إنكار هذا أبدا ، إلا فى إصرار على الباطل وعناد مع الحق ، نعم عاندوا وأصروا على ما هم عليه من الزعم الفاسد والاعتقاد الباطل فى حق عيسى ، عليه‌السلام ، وأعرضوا عن الحجج والبينات المؤدية إلى الاعتقاد الحق ، والتدين بالدين القويم ، فأوعدهم الله بقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) [آل عمران : ٦٣] ، أى فإن أعرضوا عن التمسك بالحجج والاعتقاد بوحدانية الإله ، فاعلم أن توليهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد ، فاقطع كلامك عنهم ، وفوّض أمرك إلى الله تعالى ، فإنه تعالى مطلع على ما فى قلوبهم من التمرد والعناد ، قادر على مجازاتهم ، ثم إن قوله : (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) فيه وضع للظاهر موضع المضمر ليدل على أن التولى عن الحجج والإعراض عن التوحيد ، إفساد للدين والاعتقاد ، المؤدى إلى فساد النفس ، بل إلى فساد العالم.

إلى كلمة سواء :

ثم إن القوم لما أعرضوا على المباهلة خوفا من أن يهلكهم الله تعالى بطريق الاستئصال ، وأظهروا بعض الانقياد والصغار ، حيث التزموا بأداء الجزية كما تقدم ذلك ، أعرض الله تعالى عن المجادلة معهم بتجهيلهم وبيان سخافة عقولهم ، وسلك سبيل الرشاد باللطف والإنصاف ، بحيث لا يميل فيه إلى جانب ، ولا يشوبه شىء من التعصب والتحكم ، فقال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤] ، أى هلموا إلى كلمة ذات استواء وعدل ، وسواء مصدر ، كذهاب وصلاح وفساد ، ومعناه الاستواء والاعتدال ، وصفت الكلمة به مبالغة فى استوائها ، وعدم الاختلاف فيها بين الكتب المنزلة من السماء وبين الأنبياء المرسلين ، فهو من قبيل رجل عدل.

والمعنى : تعالوا إلى كلمة عادلة مستقيمة مستوية بين أهل الشرائع الإلهية ، إذا أتينا بها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة ، سمى الكلام التام المفيد للمقصود (كَلِمَةٍ) على طريق تسمية الكل باسم جزئه ، ومن تسميتهم القصيدة بتمامها قافية ، مع أن

١٠٥

القافية جزء منها ، وفى الحديث : «أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد :

ألا كل شىء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

ثم إنه تعالى فسر الكلمة بقوله سبحانه وتعالى : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) ، ووجه كونه تفسيرا لها أن قوله : (أَلَّا نَعْبُدَ) إما بدل من (كَلِمَةٍ) بدل كل من كل ، أو أنه خبر مبتدأ محذوف ، أى هى ألا نعبد ، والجملة استئنافية ، فإنه لما قيل : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ) قال قائل : ما هى؟ فقيل : هى (أَلَّا نَعْبُدَ) ، فعلى التقديرين صح كونها مفسرا لما قبلها.

وأما قوله سبحانه : (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ، يعنى : ولا نقول عزير ابن الله ، ولا المسيح ابن الله ، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوه من التحليل والتحريم ؛ لأن كلا منهم بشر مثلنا.

روى أنه لما نزلت : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] ، قال عدى بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله ، قال : «أليس كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم؟» ، قال : نعم ، قال : «هو ذاك».

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ، يعنى : فإن تولوا عن كلمة التوحيد المجمع عليها بين الشرائع والكتب السماوية ، فقولوا لهم : قد لزمتكم الحجة وأصبحتم مغلوبين بها ، إلا أنه دل على هذا الجواب بلازمه ، وهو قوله : (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ، أى قولوا اشهدوا واعترفوا بأن من أتى بالكلمة السواء وعمل بمدلولها فهو المسلم ، دون من خالفها وتولى عن العمل بمدلولها.

ويصح أن يكون قوله : (فَقُولُوا اشْهَدُوا) هو الجواب ، ويكون فيه تعريض بكفرهم ، أى اعترفوا يا أهل الكتاب بأنكم كافرون من حيث إنكم أعرضتم عن الحق المتفق عليه بين العقلاء. قال العلماء : والمعنى : فإن تولوا وأعرضوا عن الإجابة لما دعوتهم إليه ، فليس إعراضهم ذلك لأجل مساعدة الحجة إياهم ، فقل لهم : قد أسفر الصبح وتبين لذى عينين ، فاعترفوا بأنا مسلمون منقادون للحق دونكم ، ونظيره قول الغالب فى جهاد ، أو صراع ، أو نحوهما : اعترف بأنى أنا الغالب ، وسلم إلى الغلبة. أ. ه.

قال الخطيب الشربينى فى تفسيره : قال البيضاوى : تنبيه : انظر إلى ما راعى الله سبحانه فى هذه القصة من المبالغة ، والإرشاد ، وحسن التدريج فى الحجاج ، فبين أولا أحوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للإلهية ، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيل

١٠٦

شبهتهم ، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ، ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد ، دعاهم بالإرشاد ، وسلك طريقا أسهل وألزم ، بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى ، والإنجيل ، وسائر الأنبياء والكتب ، ثم لما لم يجد ذلك أيضا عليهم ، وعلم أن الآيات والنذر لا تغنى عنهم ، أعرض عن ذلك ، وقال : (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). انتهى.

بيان ما احتواه التنبيه :

قوله : بين أولا أحوال عيسى ... إلخ ، هو قوله سبحانه : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران : ٤٦] ونحوه على ما ذكرناه سابقا.

وقوله : ثم ذكر ما يحل عقدتهم ، هو قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩].

وقوله : بنوع من الإعجاز ، وهو تقديم ذكر من يخاطر المرء بنفسه لأجلهم ويحارب دونهم.

طوائف النصارى :

قال الله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [المائدة : ٧٢ ، ٧٣].

تبين الآية الأولى من هاتين الآيتين رأى طائفة من النصارى فى شأن عيسى ، وهم اليعقوبية ، القائلون باتحاد الإله مع عيسى ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

وتبين الآية الثانية رأى طائفتين منهم ، وهما النسطورية والملكانية ، ويبين الله تعالى فى كلتا الآيتين ، الرد على هذه المزاعم الفاسدة ، من تلكم الطوائف الكافرة ، ففي الآية الأولى حكم الله تعالى عن عيسى ، عليه‌السلام ، أنه متبرئ من هذه الاعتقادات ، آمرا لهم بعبادة الله تعالى رب الجميع وخالق الكل ، (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [المائدة : ٧٢] ، ثم

١٠٧

توعدهم وهددهم ، حيث قال : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [المائدة : ٧٣] ، وهذا الرد فى هاتين الآيتين هو عين الحقيقة ، ونفس الصواب ، لو كان لهم عقول تفكر ، وقلوب تسمع وتتدبر.

حقيقة المسيح وأمه :

ولكن الله تعالى ، وهو الرحيم بخلقه ، الرءوف بعباده ، يزيد الأمر إيضاحا ، وتأكيدا ، وكشفا ، وتبيانا ، فيلزمهم برد واقعى محسوس لا يقدرون على الفكاك منه ، ولا يستطيعون أن يخرجوا من دائرته إلى دائرة الوهم والباطل ، وهذا هو ما جاء بعد ذلك من الآيتين الكريمتين وهما : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [المائدة : ٧٥ ، ٧٦].

قوله تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ، أى ليس هو بإله كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة ، وما من خارق إلا وقد كان مثله أو أعجب منه لمن كان قبله ، فإن كان الله قد أحيا الموتى على يده ، فقد أحيا العصا ، وجعلها حية تسعى على يد موسى ، وهو أعجب ، وإن كان قد خلقه من غير أب ، فقد خلق آدم من غير أب وأم ، وهو أغرب.

(وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) ، أى بليغة الصدق فى نفسها كسائر النساء اللاتى يلازمن الصدق فى الأقوال والأفعال فى المعاملة مع الخلق ، وصدق الأفعال والأقوال فى المعاملة مع الخالق لا يصدر منهن ما يكذب دعوى العبودية والطاعة ، فإن من كان مجتهدا فى إقامة وظائف العبودية وملازمة الإنابة والطاعة يسمى صديقا أو صديقة ، تصدق الأنبياء ، كما قال تعالى فى وصفها : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) [التحريم : ١٢].

قال بعض العلماء : وهذه الآية من أدلة من قال : إن مريم ، عليها‌السلام ، لم تكن نبية ، فإنه تعالى ذكر أشرف صفاتها فى معرض الرد على من قال بإلهيتهما إشارة إلى ما هو الحق فى اعتقاد ما لها من أعلى الصفات ، فإن أعظم صفات عيسى ، عليه‌السلام ، الرسالة ، وأكمل صفات أمه ، عليها‌السلام ، الصديقية.

ولما بين سبحانه أقصى ما لهما من الكمالات ، بين أن ذلك لا يوجب لهما الإلهية

١٠٨

بقوله تعالى : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) ؛ لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم ، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ، ولحم ، وعروق ، وأعصاب ، وأخلاط ، وغير ذلك ، مما يدل على أنه مصنوع ومؤلف مدبر كغيره من الأجساد ، فكيف يكون إلها ، وخص الأكل بالذكر لأنه أصل الحاجات ، والإله لا يكون محتاجا ، وقيل : هذا كناية عن الحدث ؛ لأن من أكل وشرب لا بدّ له من البول والغائط ، ومن كانت هذه صفته ، كيف يكون إلها؟ ثم لما أوضح الله تعالى لهم الأدلة فى أمرهما حتى ظهر كالشمس بعدهما عما ادعوا فيهما أتبعه التعجب بقوله سبحانه : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) على وحدانيتنا.

(ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، أى يصرفون عن الحق مع قيام البرهان ، وكان العطف ب (ثُمَ) للتفاوت بين العجب من بيان الله للآيات على التوحيد ، وبين العجب من إعراضهم عن هذا البيان ، وأن إعراضهم أعجب.

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أى غيره ، يعنى عيسى ، (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ، أى لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضر الله تعالى به من البلايا ، والمصائب فى الأنفس ، والأموال ، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم الله تعالى به من صحة الأبدان ، والسعة ، والخصب ، وكل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع ، فبإقدار الله تعالى وتمكينه.

وهذا دليل قاطع على أن أمر عيسى مناف للربوبية ، حيث جعله لا يستطيع ضرا ولا نفعا ، وصفة الرب تعالى أن يكون قادرا على كل شىء ، لا يخرج مقدور عن قدرته تعالى ، وإنما قال : (ما) فى حق من يعقل مع أن أصله يطلق على غير العاقل ، نظرا إلى ما هو عليه فى ذاته فإنه ، عليه‌السلام ، فى أول أحواله لا يوصف بعقل ولا بشيء من الفضائل ، وإنما ظهر على يديه من بعض المنافع ، وإزالة بعض المضار بإقدار الله تعالى على ذلك وتمكينه إياه ، فكيف يكون إلها؟ وكان التعبير ب (ما) تنبيها على أنه من جنس ما لا يعقل ، بمعنى أنه فى ذاته لا يملك ضرا ولا نفعا إلا بتمليك الله له وإقداره كما بينا.

وهذا القدر مشترك بينه وبين غيره وأنه ، عليه‌السلام ، واحد من آحاد تلك الحقيقة ، ومن كانت له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة ، فبمعزل عن الإلهية ، وبيان ذلك وتوضيحه

١٠٩

أن من كان له حقيقة يشارك بها غيره ، لا بدّ أن يكون له ما يتميز به عن غيره ، فيتركب مما به الاشتراك ، وما به الامتياز ، والتركيب ينافى الإلهية ، فعيسى ، عليه‌السلام ، باعتبار ذاته لا يملك شيئا نفعا ولا ضرا ، وهو بهذا الاعتبار يشترك مع آحاد كل من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، فإذا ما انضم إليه خصيصة تميزه عن بقية آحاد هذه الحقيقة ، بأن قدر بأقدار الله تعالى على جلب نفع ، أو دفع ضر ، كان مركبا ، والتركيب ينافى الإلهية كما قدمنا آنفا.

غلو اليهود والنصارى :

ثم يقول الله تعالى بعد ذلك خطابا لأهل الكتاب عامة من يهود ونصارى ، كما هو رأى الأكثر : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٧٧] ، الغلو نقيض التقصير.

وقوله تعالى : (غَيْرَ الْحَقِ) يفيد أن الغلو فى الدين نوعان : غلو حق ، وهو أن يجتهد فى تحصيل حججه ، كما يفعل المتكلمون ، وغلو باطل ، وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة ، فيرفعوا عيسى ، عليه‌السلام ، إلى أن يدّعوا له الإلهية.

(وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) فى غلوهم ، وهم أسلافهم الذين قد ضلوا بتماديهم فى الباطل من التثليث وغيره ، حتى ظن حقا (ضَلُّوا) أى بعد مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) ، أى طريق الحق ، وهو الإسلام ، والسواء فى الأصل هو الوسط ، والأهواء هاهنا المذاهب التى تدعوا إليها الشهوة دون الحجة.

قال أبو عبيد : لم يذكر الهوى إلا فى موضع الشر ، لا يقال : فلان يهوى الخير ، إنما يقال : يريد الخير ويحبه ، وقيل : سمى الهوى هوى ؛ لأنه يهوى بصاحبه إلى النار ، وقال رجل لابن عباس : الحمد لله الذى جعل هواى على هواك ، فقال : كل هوى ضلالة.

وبعد فما أصدق هذه الحقائق القرآنية ، وما أعظم هذه الآيات التنزيلية ، وما أشد إلزامها لليهود والنصارى فى انحرافهم عن التوحيد وبعدهم عما جاء به القرآن الكريم من العقيدة الحقة ، والأعمال التشريعية الصالحة ، وما أصدق قول الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣٣].

١١٠

محاجة القرآن لليهود والنصارى معا :

هذا وإذا كانت الآيات السابقة قد ألزمت الحجة كلا من اليهود والنصارى على حدة وانفراد ، فهناك آيات جمعتهما فى خطاب واحد ، وألزمتهما الحجة والبرهان ، نسوق منها ما يلى :

أولا : قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١٥].

حكى الله تعالى قبل ذلك عن اليهود والنصارى نقضهم العهد ، وتركهم ما أمروا به ، ثم دعاهم بعد ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ ...) الآية ، فهى دعوة صريحة خاصة لهم ، وخطاب قوى موجه إليهم ، وإيرادهم بعنوان (أَهْلَ الْكِتابِ) لانطواء الكلام المصدر به على ما يتعلق بالكتاب ، وللمبالغة فى التشنيع عليهم ، فإن أهلية الكتاب من موجبات مراعاته ، والعمل بمقتضاه ، وبيان ما فيه من الأحكام ، وقد فعلوا من الكتم والتحريف ما فعلوا وهم يعلمون ، فقد أخفت اليهود آية الرجم ، كما أخفت النصارى بشارة الإنجيل بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفى إعلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخفى ما فى كتبهم ، وهو أمى لا يكتب ولا يصحب القرّاء ، دليل على صحة نبوته ، لو ألهمهم الله الخير ، وقوله : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ، يعنى مما يكتمونه ، فلا يتعرض له ولا يؤاخذهم به ؛ لأنه لا حاجة إلى إظهاره ، والفائدة فى ذلك أنهم يعلمون كون النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عالما بما يخفون ، وهو معجزة له أيضا ، فيكون ذلك داعيا إلى الإيمان به.

وفى قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) يعنى القرآن ، فإنه الكاشف لظلمات الشك والضلال ، والكتاب الواضح الإعجاز ، فالنور والكتاب المبين متحدان بالذات ، وعطف أحدهما على الآخر من قبيل عطف الصفة على الصفة ، مع اتحاد الموصوف بهما ، وهو القرآن. وقيل : يريد بالنور محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى ذلك فالعطف من قبيل عطف الذات على الذات ، وأيا ما كان ، فالمراد بهذه الجملة المستأنفة أن فائدة مجىء الرسول ليست منحصرة فيما ذكر من بيان ما كانوا يخفونه ، بل إنه جاء لهم نورا يهتدون به فى معرفة الحق ، ويسترشدون به إلى الغاية المنشودة.

١١١

ثانيا : قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة : ١٩].

نص هو فى غاية البيان أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل لليهود والنصارى ، وليس معنى إرساله إليهم إلا أن يؤمنوا بما جاء به من توحيد خالص ، ويعبدوا الله على شريعته التى رسمها وبينها من صلاة وصيام ، وما إلى ذلك ، وما أروع قوله فى الآية الكريمة : (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) ، فهو يدل على أنهم فيما هم عليه من شريعة حرّفوها ، ودين أضاعوه فى أمس الحاجة إلى بيان شاف ، وإيضاح للحق كامل ، فمعنى الآية هو الامتنان عليهم بأن الرسول بعث إليهم حين انطماس آثار الوحى ، وهم أحوج إليه لإزالة العذر ، وإلزام الحجة ، فعليهم أن يعوا ذلك نعمة من الله عليهم ، ورحمة منه بهم.

ثالثا : قال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [المائدة : ٦٨].

بعد أن أمرهم الله تعالى فى الآيتين السابقتين باتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبين لهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما جاء لهم ليصحح العقيدة ، ويرشدهم إلى السبيل السوى ، قال لهم فى هذه الآية الكريمة : أن ما هم عليه من دين باطل لا يعتد به إطلاقا ، حتى يكون ذلك حافزا لهم إلى الدخول فى دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن المرء يأنف أن يكون على عقيدة باطلة ، أو عبادة فاسدة ، ما دام سليم الطبع ، بعيدا عن التعصب والتمسك بالباطل ، فقوله تعالى : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أى يعتد به حتى يسمى شيئا لفساده وبطلانه ، كما تقول : هذا ليس بشيء ، تريد تحقيره وتصغيره ، وفى أمثالهم : أقل من لا شىء.

(حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ، أى بأن تعملوا بما فيها ، ومنها الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإذعان لحكمه ، فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقته المعجزة الناطقة بوجوب الطاعة له ، والمراد بقوله : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) هو القرآن الكريم ، وما أبدع قوله : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ، يعنى فالقرآن أنزل إليهم ولهم ، وهم مقصودون به ضمن من قصد ، ومطالبون بالعمل بأحكامه ضمن من طلب إليه ذلك من بقية المكلفين.

وأما قوله : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ...) إلى آخره ، فهو بيان لما هم عليه من كفر

١١٢

بالقرآن ، وحقد على من جاء به ، وقد سماهم الله تعالى كافرين ، حيث لم يؤمنوا به ، وقد نهى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يحزن على كفرهم ، ففي المؤمنين مندوحة عنهم وغناء ، أى غناء له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعنى فهم كفار بمقتضى هذه الآية القرآنية وغيرها من النصوص القرآنية الأخرى التى ذكرنا بعضها سابقا ، وما داموا كذلك ، فليس لهم فى الآخرة أدنى نصيب من رحمة الله تعالى.

رابعا : ويؤكد هذا ويوضحه ويزيده بيانا ما جاء فى قوله جل جلاله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٦ ـ ١٥٨].

قال العلماء : هذا النص من أبين الأدلة على عموم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشمولها لكل الطوائف وجميع الأجناس على تباين مذاهبها واختلاف نحلها.

ونسوق تفسير هذا النص ، وبيان ما فيه من عظيم الفوائد ، وجليل المنافع ، الأمر الذى هو موضوع بحثنا ، ومرتبط به أتم الارتباط ، فقوله سبحانه : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) سيق هذا الكلام جوابا لدعاء سيدنا موسى فى قوله قبل ذلك : (أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٥٥ ، ١٥٦].

فجاء قوله تعالى بعد ذلك : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) ، فقوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) ، أى من خلقى فى الدنيا ، ما من مسلم ، ولا كافر ، ولا مطيع ، ولا عاص ، إلا وهو متقلب فى نعمتى ، وهذا معنى حديث أبى هريرة فى الصحيحين : «إن رحمتى سبقت غضبى» ، وفى رواية : «غلبت غضبى» ، وأما فى الآخرة ، فقال تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وخصها بالذكر لنفعها المتعدى ، ولأنها كانت أشق عليهم.

روى أنه لما أنزل : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) قال إبليس : أنا من ذلك الشيء ، فقال تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) ، ولا

١١٣

يكفرون بشيء منها ، فأيس إبليس منها ، وتمناها اليهود والنصارى ، وقالوا : نحن نتقى ونؤمن بآيات ربنا ، فأخرجهما الله تعالى بقوله : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) ، ومعنى الأمى أنه لا يقرأ ولا يكتب ، وهى صفة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن أمة أمية لا نكتب ، ولا نحسب» ، والعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرءون ، أى الخط ، والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان كذلك.

قال أهل التحقيق : وكونه أميا بهذا التفسير ، كان من جملة معجزاته ، وبيان ذلك من وجوه :

الأول : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوما مرة بعد أخرى ، من غير تبديل ألفاظه ، ولا تغيير كلماته ، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها ، فلا بد وأن يزيد فيها ، أو ينقص عنها بالقليل والكثير ، ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنه ما كان يكتب ولا يقرأ يتلو كتاب الله تعالى من غير زيادة ، ولا نقصان ، ولا تغيير ، فكان ذلك معجزة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦].

ثانيا : أنه لو كان يحسن الخط والقراءة ، لكان متهما فى أنه ربما طالع كتب الأولين ، فحصل على هذه العلوم من تلك المطالعة ، فلما أتى بالقرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم أو مطالعة ، كان ذلك من المعجزات ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨].

ثالثا : تعلم الخط شىء سهل ، فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعى ، فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم فى الفهم ، ثم إنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين ، وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من الخلق ، ومع تلك القوة العظيمة فى العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذى يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلا وفهما ، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المادتين جاريا مجرى المعجزات. انتهى.

ثم إن هذا الاتباع الذى وصف به اليهود والنصارى تارة يكون بالقوة فقط لمن تقدم موته على زمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتارة يخرج من القوة إلى الفعل كمن لحق زمانه زمان دعوته ، فمن علم الله تعالى منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له ، ولو عمل جميع الطاعات ، وقد عرفه سبحانه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق عند مجيئه ريبة ، ولا يتعلل أحد فى أمره بعلة ،

١١٤

ولذلك اتبعه (الَّذِي يَجِدُونَهُ) أى علماء اليهود (مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) باسمه ونعته ، ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسدا منهم وخوفا على زوال رياستهم ، وقد حصل لهم ما كانوا يخافونه ، فقد زالت رياستهم ووقعوا فى الذل والهوان.

وقوله تعالى : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) يجوز أن يكون استئنافا ، ويجوز أن يكون المعنى يجدونه مكتوبا عندهم أنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ... إلخ ، ويحتمل أن يكون متعلقا ب (يَجِدُونَهُ) فى موضع حال على تجوز ، أى يجدونه فى التوراة آمرا بشرط وجوده.

حقيقة المعروف والمنكر :

المعروف ما عرف بالشرع ، وكل معروف من جهة المروءة فهو معروف بالشرع ، والمنكر مقابله. قال الرازى : ومجامع المعروف فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله» ، وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته ، وإما ممكن لذاته.

أما الواجب لذاته : فهو الله تعالى ، لا معروف أشرف من تعظيمه ، وإظهار الخشوع ، والخضوع على باب عزته ، والاعتراف بكونه موصوفا بصفات الكمال ، مبرءا عن النقصان والآفات ، منزها عن الأنداد والأضداد.

وأما الممكن لذاته : فإن لم يكن حيوانا ، فلا سبيل إلى ايصال الخير إليه ؛ لأن الانتفاع مشروط بالحياة ، ومع ذلك فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله ، ومن حيث إن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلا ظاهرا ، وبرهانا باهرا على توحيده وتنزيهه ، فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام ، ومن حيث إن لله سبحانه وتعالى فى كل ذرة من ذرات المخلوقات أسرارا عجيبة وحكما خفية ، فيجب النظر إليها بعين الاحترام.

وأما إن كان المخلوق من جنس الحيوان ، فإنه يجب الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه ، ويدخل فيه بر الوالدين ، وصلة الأرحام ، وبث المعروف ، فيثبت أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله» ، كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف. ولا شك أن المنكر هو ضد الأمور المذكورة.

قوله تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) أى ما حرّم عليهم فى شرعهم ، كالشحوم ،

١١٥

ويحرّم عليهم الخبائث ، أى كالدم ، ولحم الخنزير ، والربا ، (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) ، أى ثقلهم الذى كان يحمل عليهم ، (وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) من الدين والشريعة ، وذلك مثل قتل النفس فى التوبة ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض النجاسة من البدن ، والثوب بالمقراض ، وغير ذلك من الشدائد التى كانت على بنى إسرائيل ، شبهت بالأغلال التى تجمع اليد إلى العنق ، كما أن اليد لا تمتد مع وجود الغل ، فكذلك لا تمتد على الحرام الذى نهيت عنه ، وكانت هذه الأثقال فى شريعة موسى ، عليه‌السلام ، فلما جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسخ ذلك كله ، ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالحنفية السهلة السمحة».

(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) أى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَعَزَّرُوهُ) أى وقّروه وعظموه ، وأصل التعزير المنع والنصرة ، وتعزير النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيمه ، وإجلاله ، ودفع الأعداء عنه ، (وَنَصَرُوهُ) على أعدائه (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أى القرآن ، سمى نورا لأنه به تستنير قلوب المؤمنين ، فتخرج من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم.

ولا يقال : إن القرآن ما أنزل مع شخص محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما نزل مع جبريل. لأنا نقول : معناه لأنه أنزل مع شخصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات ، قال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، أى الفائزون بالمطلوب فى الدنيا والآخرة.

عموم الدعوة الإسلامية :

وقوله سبحانه : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] ، هذا أمر الله تعالى لنبيه بإشهار دعوته ، وهذه من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين سائر الرسل ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى الناس كافة ، وإلى الجن عامة ، وكل نبى بعث إلى قومه خاصة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى : أرسلت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا ، ونصرت على عدوى بالرعب منى مسيرة شهر ، وأطعمت الغنيمة دون من قبلى ، وقيل لى : سل تعطه ، واختبأت شفاعتى لأمتى».

فإن قيل : كان آدم ، عليه‌السلام ، مبعوثا إلى جميع أولاده ، ونوح لما خرج من السفينة كان مبعوثا إلى الذين كانوا معه ، مع أن جميع الناس فى ذلك الزمان ما كانوا إلا ذلك القوم. أجيب بأن ذلك لم يكن لعموم رسالتهما ، بل للحصر المذكور ، فليس ذلك من باب عموم الرسالة.

١١٦

قوله تعالى : (جَمِيعاً) حال من إليكم ، أى أن الكل يشترط عليهم الإيمان بى والاتباع لى ، قال بعض الفضلاء : وقد طار الخبر بشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كل أفق وتغلغل فى كل نفق ، ولم يبق الله تعالى أهل مدر ، ولا وبر ، ولا سهل ، ولا جبل ، ولا بحر ، ولا بر ، فى مشارق الأرض ومغاربها ، إلا وقد ألقاه إليهم ، وملأ به مسامعهم ، وألزمهم به الحجة ، وهو سائلهم عنه يوم القيامة.

فهذه الآيات القرآنية الصادقة ، وتلكم البراهين التنزيلية الحقة ، تلزم اليهود والنصارى بالإيمان بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوحيد الذى انحرفوا عنه وضيّعوه ، ومن التعبد والخضوع لله تعالى على وفق ما رسم القرآن ، وبين من أحكام وشريعة تخالف وتغاير ما جاء فى كتبهم على ما اقتضته الحكمة الإلهية من نزول الشرائع على ما يناسب كل أمة مع رسولها.

فما قالوه عن إيمانهم بالله تعالى ، فقد تبين فساده ، حيث ثلثوا وأثبتوا له البنوّة جل جلاله ، وما قالوه عن إيمانهم باليوم الآخر ، فهو فاسد كذلك ، حيث لم يؤمنوا به على حقيقة ما أخبر الله عنه ، بل على ما فهموه زورا وبهتانا ، كما أنهم ليس لهم يقين فيما فهموه ، إذ اليقين هو العلم المتقين بالدليل ، وإنما اعتقادهم خيال فاسد ، وجهل محض ، ولذلك قال عز من قائل فى وصف المتقين فى أول سورة البقرة : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٤] ، قال المفسرون : إن قوله : (بِالْآخِرَةِ) متعلق ب (يُوقِنُونَ) فلم قدم عليه؟ وإن قوله : (هُمْ) فاعل فى المعنى ل (يُوقِنُونَ) فلم جعل مبتدأ وقدم عليه؟

ومحصول الجواب أنه عدل إلى كل واحد من المتقدمين ليفيد التقدم الأول ، وهو تقديم بالآخرة ، أن إيقانهم مقصور على ما هو حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى ما هو خلاف حقيقتها كما يزعم اليهود ، كأنه قيل : يوقنون بالآخرة لا بغيرها ، وفيه تعريض بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالقرآن بأن ما كانوا عليه ليس من الإيمان بحقيقة الآخرة لعدم خلوص علمهم بالآخرة عن الشبهة الباطلة ، فإن اعتقادهم فى أمر الآخرة غير مطابق لحقيقة الآخرة.

وليفيد تقديم الفاعل المعنوى أن الإيقان بالآخرة مقصور على المؤمنين ، لا يتجاوزهم إلى أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالقرآن ، وفيه تعريض لهم بأن اعتقادهم

١١٧

الذى يزعمون أنه إيقان ليس إيقانا أصلا ، بل هو جهل محض ، كما أن معتقدهم خيال باطل ، وإنما الإيقان ما عليه المؤمنون ، كما أن الآخرة هى التى يعتقدونها ، فإن أهل الكتاب يقولون : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، وأن اليهود قالوا : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] ، إلى آخر مفترياتهم الباطلة ، والله يقول الحق ، وهو يهدى السبيل.

الرد على المحامى أحمد حسين :

لقد رأينا كتابا بعنوان : فى الإيمان والإسلام (١) ، وضعه أحد المحامين فى هذا العصر ، وهو الأستاذ أحمد حسين ، وفيه ما لا يتفق مع النصوص القرآنية السابقة ، لذلك رأينا من الواجب علينا إزاء الدعوة الإسلامية أن نبين ما فيه ، إخلاصا للحقيقة ، ووضعا للحق فى نصابه ، فنقول مستعينين بالله وحده ، ومتوكلين دائما عليه :

قال الكاتب فى صفحة (١٧٤ ، ١٧٥) من هذا الكتاب تحت عنوان : الإسلام يؤاخى بين الأديان ويوفق بينها ، بعد كلام ما نصه : فجاء الإسلام على خلاف جميع العقائد التى سبقته يؤاخى بين الأديان كلها.

الإسلام والأديان :

نقول : إن الإسلام كما هو معلوم وثابت يوافق الأديان السابقة كلها ، ويتآخى معها ويرتبط بها أشد الارتباط فى أمر التوحيد بنص قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] ، ويتآخى معها كذلك فى أصول العبادات دون هيئاتها وأشكالها ، قال تعالى حكاية عن بنى إسرائيل : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، إلى أن قال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٨٣].

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ١٨٣] ، أما هيئات العبادة وأشكالها ، فمختلف فيها قطعا ، حيث إن لكل أمة مع رسولها تشريعا خاصا فى هذه العبادات اقتضته الحكمة الإلهية ، كما أوضحناه سابقا فى أول البحث ، ودليل هذا الاختلاف فى التشريع قوله جل جلاله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨].

قال العلامة أبو السعود عند هذه الآية ما نصه : والمعنى : لكل أمة كائنة منكم أيها

__________________

(١) طبعة دار القلم ، الطبعة الثانية.

١١٨

الأمم الباقية والخالية (جَعَلْنا) أى عينا ووضعنا (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) خاصين بتلك الأمة ، لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التى عينت لها ، فالأمة التى كانت من مبعث موسى إلى عيسى ، عليهما‌السلام ، شرعتهم التوراة ، والتى كانت من مبعث عيسى إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرعتهم الإنجيل ، وأما أنتم أيها الموجودون من سائر المخلوقات ، فشرعتكم القرآن ليس إلا ، فآمنوا به وآمنوا بما فيه.

وقال العلامة الجمل فى حواشيه على الجلالين : قال ابن عباس : قوله : (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) سنة وسبيلا. وقال قتادة : سبيلا وسنة ، فالسنن مختلفة ، فللتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة يحل الله بها عزوجل فيها ما يشاء ، ويحرم ما يشاء ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، والدين الذى لا يقبل التغير هو التوحيد والإخلاص لله تعالى والإيمان بما جاءت به جميع الرسل ، عليهم‌السلام. وقال علىّ بن أبى طالب : الإيمان منذ بعث آدم ، عليه‌السلام ، شهادة أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى ، ولكل قوم شرعة ومنهاج.

قال العلماء : وردت آيات دالة على عدم التباين بين طرق الأنبياء ، منها قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) إلى قوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣] ، ومنها قوله سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠].

وردت آيات دالة على حصول التباين بينها ، منها هذه الآية ، وهى قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ، وطريق الجمع بين هذه الآيات أن كل آية دلت على عدم التباين ، فهى محمولة على أصول الدين من الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، فكل ذلك جاءت به الرسل من عند الله تعالى ، فلم يختلفوا فيه. وأما الآيات الدالة على حصول التباين بينها ، فمحمول على الفروع وما يتعلق بمظاهر العبادات ، فجائز أن يتعبد الله عباده فى كل وقت بما شاء ، فهذا هو طريق الجمع بين الآيات ، والله أعلم بأسرار كتابه. انتهى.

هذا هو القرآن الحكيم ، وهذا هو فهم الراسخين من أولى العلم فيه ، نقلناه ليكون حجة نيرة ، وبرهانا ساطعا على من انحرف فى القول وخلط فيه ، وبعد عن الصواب والمنهج المستقيم.

١١٩

كذلك ذكر الإمام القرطبى فى تفسير قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] فى بيان حكمة اقتصار الآية الكريمة على البدء بنوح بدون آدم ، نقلا عن القاضى ابن العربى ما نصه : ثبت فى الحديث الصحيح أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فى حديث الشفاعة المشهور الكبير : «ولكن ائتوا نوحا ، فإنه أول رسول بعثه الله تعالى إلى الأرض ، فيأتون نوحا ، فيقولون له : أنت أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض» ، وهذا صحيح لا إشكال فيه ، كما أن آدم أول رسول نبى بغير إشكال ، إلا أن آدم لم يكن معه إلا بنوه ، ولم تفرض له الفرائض ، ولا شرعت له المحارم ، وإنما كان شرعه تنبيها على بعض الأمور ، واقتصارا على ضروريات المعاش ، وأخذا بوظائف الحياة والبقاء ، واستمر هذا إلى نوح ، فبعثه الله تعالى بتحريم الأمهات والبنات والأخوات ، ووظف عليه الواجبات ، وأوضح له الآداب والديانات ، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ، ويتناصر بالأنبياء ، صلوات الله عليهم ، واحدا بعد واحد ، وشريعة إثر شريعة ، حتى ختمها الله تعالى بخير الملل ، ملتنا ، على لسان أكرم الرسل ، نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكأن المعنى : أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا ، يعنى فى الأصول التى لا تختلف فيها الشرائع ، وهى التوحيد ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال ، والصدق ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وتحريم الكفر ، والقتل ، والزنا ، والإذاية للخلق كيفما تصورت ، والاعتداء على الحيوان كيفما دار ، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات ، فهذا كله مشروع دينا واحدا ، وملة متحدة لم تختلف على ألسنة الأنبياء ، وإن اختلفت أعذارهم ، وذلك قوله تعالى : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ، أى اجعلوه دائما ، قائما ، مستمرا ، محفوظا ، مستقرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب ، فمن الخلق من وفى بذلك ، ومنهم من نكث ، ومن ينكث فإنما ينكث على نفسه ، واختلفت الشرائع وراء هذه فى أحكامها حسبما أراد الله تعالى مما اقتضت المصلحة ، وأوجبت الحكمة وضعه فى الأزمنة على الأمم ، والله أعلم.

فهذا هو التوحيد بين الأديان والاختلاف بينها ، وقد تبين بوضوح أن ذلك لازم لكل دين ، وضرورى فى كل رسالة سبقت الإسلام وتقدمت عليه ، على خلاف ما يفهم من عبارة الكاتب التى نقلناها عنه سابقا فى قوله : فجاء الإسلام على خلاف جميع العقائد التى سبقته يؤاخى بين الأديان كلها ، فقوله : على خلاف جميع العقائد ، يقصد به جميع الأديان ، وهو كلام لا سند له ولا دليل ، بل الدليل يبطله ويأتى عليه من أساسه ، قال

١٢٠