تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٥

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

الله مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين تؤيد الحق وتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر.

وهو لا يكون مؤديا حقيقة لهذه الشهادة حتى يجعل من نفسه. ومن خلقه. ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين. صورة يراها الناس. فيرون فيها مثلا رفيعا. يشهد لهذا الدين بالاحقية في الوجود. وبالخيرية والافضلية على سائر ما في الارض من أنظمة وأوضاع وتشكيلات.

والمسلم المؤمن لا يكون مؤديا لهذه الشهادة حتى يجعل من هذا الدين قاعدة حياته ونظام مجتمعه وشريعة نفسه وقومه. فيقوم مجتمع من حوله تدبر أموره وفق هذا المنهج الالهي القويم. فهذا معنى شهادة الاسلام وهذا المعنى جدير بأن يتأمله كل من يدعي الاسلام كما هو في ضمير المسلمين الحقيقيين. ومن لم يؤد هذه الشهادة لدينه على وجهها الكامل فهو آثم قبله. فأما اذا ادعى الاسلام ثم سار في نفسه غير الاسلام. أو حاولها في نفسه ولكنه لم يؤدها في المجال العام. ولم يجاهد لاقامة منهج الله في الحياة ايثارا للعافية. وايثارا لحياته على حياة الدين. فقد قصر في شهادته أو أدى شهادة ضد هذا الدين. شهادة تصد الآخرين عنه. وهم يرون أهله يشهدون عليه لا له .. فالويل لمثل هذا المجرم الكذاب والمنافق المرتاب لادعائه انه مؤمن بهذا الدين وما هو من المؤمنين.

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) سورة الصف آية ٨

ان القرآن كان يبني أمة مثالية. لتقوم على أمانة دينه في الارض ومنهجه في الحياة ونظامه في الناس ، وكان لابد له من أن يبني نفوسها أفرادا وجماعة ، ويبني عملها واقعيا ليتم ذلك لها في آن واحد.

٨١

فالمسلم لا يبني فردا الا في جماعة. ولا يتصور الاسلام قائما الا في محيط جماعة منظمة ذات ارتباط ، وذات نظام. وذات هدف منوط في الوقت ذاته بكل فرد فيها.

والاساس الاول لها هذا المنهج الالهي ، الذي يفرض نفسه حتميا أن يقوم في ضمير كل مسلم صحيح الاسلام عقيدة ومبدأ وان يصحبه المسلم في كل عمل من أعماله ، يسير على وفقه وارادته وهو لا يقوم في الأرض الا في مجتمع يعيش ويتحرك ويعمل وينتج في حدود ذلك المنهج الالهي.

والاسلام على شدة ما عنى بالضمير الفردي وبالتبعة الفردية ـ ليس دين أفراد منعزلين كل واحد منهم يعبد الله في صومعة من الصوامع.

ولم يجيء الاسلام ، لينعزل بأفراده هذه العزلة ، وانما جاء ليحكم حياة البشرية ويصرفها ، ويهيمن على كل نشاط فردي وجماعي ، وفي اتجاه من اتجاهاتها.

والبشرية في شريعة الاسلام لا يرضى لها أن تعيش افرادا ، وانما يفرض عليها عيش الجماعات والامم ، والاسلام جاء ليحكم أمته ، ويبني لها أساس العز والعدل والمجد والسعادة. ومن ثم فان آدابه وقواعده ونظمه كلها مصوغة على هذا الاساس البديع الرائع ، ولذا تراه حينما يوجه اهتمامه الى تطهير الفرد من جميع الكدورات والنقائص ، فهو يصوغ هذا الضمير ، على أساس أنه يعيش في جماعة وامة متوجهين الى الله وحده ، ويلزم المسلمين أن يحافظوا على أمانة دينه في الارض ، لتحيا جميع أنحاء الارض. وأن يطبقوا منهاجه في الحياة ، ليسعد كافة الناس أفرادا وجماعة وأمما.

ومنذ اليوم الاول للدعوة ، قام مجتمع اسلامي ـ أو جماعة مسلمة ـ ذات قيادة مطاعة هي قيادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

٨٢

وذات التزامات جماعية عادلة في الجماعات وفي الافراد على حد سواء ، وذات كيان يميزها عن سائر الجماعات التي حولها وذات آداب تتعلق بضمير الانسان ، فيراقبه في جميع تصرفاته وتقلباته. فرديا وجماعية ولذا يقول عزوجل :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً. أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ. أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) سورة البلد

ويقول عزوجل :

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)

سورة النور آية ٢

وعلى هذا الاساس المتين ، قام بنيان الاسلام وشاد ، وعلى هذه الرقابة الشديدة لأفراده وجماعاته أحكم دعاته وقادته. وذلك قبل أن تقوم الدولة المسلمة في المدينة المنورة.

ولذا ترى الاسلام ، أول ماندد على الجماعات التي لم تبن على هذا الاساس بنيانها ، ولم تقم على هذه المراقبة ، والحراسة افرادها وجماعاتها فقال تعالى منددا باليهود والنصارى :

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)

ثم تراه يندد على افراد يدعون اعتناقهم للاسلام مع عدم التزامهم بعقيدته ومبدئه وعدم سيرهم وفق منهاجه وشرائعه فيقول عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) سورة الصف

ويقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آية المنافق ثلاث : اذا حدث كذب واذا وعد أخلف. واذا أؤتمن خان ـ وكفى بذلك خزيا وقبحا ، لمن يدعي الاسلام ولم يلتزم بمنهجه ، وأراد أعداء الانسانية

٨٣

محاربة الاسلام وراموا اطفاء نوره وكفاح عدله واحسانه ، وأبى رب الاسلام وحافظ الاسلام الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

ولقد صدق وعده عزوجل. فأتم نوره في حياة رسوله الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فأقام الجماعة الاسلامية صورة حية واقعية عن المنهج الالهي المختار صورة ذات معالم واضحة وحدود مرسومة. تترسمها الاجيال ذات القلوب المتفتحة. لا نظرية في بطون الكتب فقط ولكنها حقيقة في عالم الواقع. وأتم نوره فأكمل للمسلمين دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الاسلام دينا يحبونه ويحافظون على حياته واعلائه ويجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم. ولذا ترى أحدهم يقدم على الحرق بالنار. ولا يعود الى الكفر بعد أن تذوق حلاوة الاسلام وعدله. فتمت حقيقة الدين في القلوب ، وفي الارض سواء. وما تزال هذه الحقيقة تنبعث بين الحين والحين ، وتنبض وتنتقض قائمة ـ على الرغم من كل ما جرد على الاسلام والمسلمين من حرب وكيد وتنكيل وتشريد وبطش شديد ـ لان نور الله لا يمكن أن تطفئه الأفواه ، ولا تطمسه نار أو حديد. وليس على حد سواء في يدي الموالي والعبيد. وان خيل لبعض الطغاة الجبارين ما يوهم لك. ولقد أراد الله تعالى أن يظهر هذا الدين رغم انوف المعاندين. فقال تعالى :

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)

وشهادة الله لهذا الدين بأنه (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) هي الشاهدة الحاسمة. وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة. ولقد تمت ارادة الله. فظهر هذا الدين على الدين كله ، ظهر في ذاته كدين. فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته. فأما الديانات الوثنية فليست في شيء في هذا المجال. وأما الديانات الكتابية فهذا الدين خاتمها. وهو

٨٤

الصورة الاخيرة الكاملة الشاملة منها. فهو هي في الصورة العليا الصالحة الى نهاية الزمان.

ولقد حرفت تلك الديانات وشوهت ومزقت وزيد عليها ما ليس منها ونقصت من أطرافها ، وانتهت الحال لا تصلح معه لشيء ، من قيادة الحياة ، حتى لو بقيت من غير تحريف ولا تشويه فهي نسخة سابقة محدودة لم تشمل كل مطالب الحياة المتجددة ابدا. لأنها جاءت في تقدير الله لأمد محدود. فهذه حقيقة وعد الله من ناحية طبيعة الدين وحقيقته واما من جهة ظهور الاسلام واظهاره فقد صدق وعده ، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة وفرض صحة منهاجه ونظامه على كل منهاج ونظام حتى عصرنا الحاضر وحتى فناء الدهر وانتهاء الحياة الدنيا.

وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها ـ رغم كل معاند ومحارب ـ ظاهرا باذن الله على الدين كله تحقيقا لوعد الله. الذي لا تقف له جهود العبيد المهازيل. مهما بلغوا وطغوا وتوهموا ان لديهم قوة وكيدا وتضليلا.

ولقد كانت تلك الآيات حافزا للمؤمنين المخاطبين بها ، على حمل الامانة التي اختارهم الله لها. واختارها لهم. بعد أن لم يرعها اليهود ولا النصارى. وكانت تطمينا لقلوب المسلمين ، وهم ينفذون قدر الله في اظهار دينه الذي أراده ليظهر. وان هم الا أداة. وما تزال حافزا ومطمئنا لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم. وستظل تبعث في نفوس الاجيال المقبلة مثل هذه المشاعر. حتى يتحقق وعده فعلا ويظهر ولي أمره وخليفته في أرضه فيملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

فلقد ظهر دين الحق. لا في الجزيرة وحدها. بل ظهر في المعمور من الارض كلها ، قبل مضي نصف قرن من الزمان. وقد ظهر في امبراطورية كسرى كلها ، وفي قسم كبير من امبراطورية قيصر ، وظهر في الهند والصين. ثم في جنوب آسيا (في الملايو) وغيرها وفي جزر الهند

٨٥

الشرقية (اندونيسيا) وكان هذا هو معظم المعمور من الارض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي.

وما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله ـ حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الارض التي فتحها. وبخاصة في أوروبا وجزر البحر الابيض.

أجل ما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله. من حيث هو دين. فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته الزاحف ـ على أعدائه ـ بلا سيف ولا مدافع من أهله. لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة. ومع نواميس الوجود الاصيلة. ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح. وحاجات العمران والتقدم. وحاجات البيئات المتنوعة من ساكني الاكواخ الى ساكني ناطحات السحاب.

وما من صاحب دين أو مبدأ أو عقيدة غير الاسلام. ينظر في الاسلام ، نظرة مجردة من التعصب والهوى ، حتى يقرّ باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة وقدرته ، على قيادة البشرية ، قيادة رشيدة. وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة .. وكفى بالله شهيدا.

حكمة كون معجزة محمد (ص) القرآن

ـ الحكمة في ذلك ان دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ابتدأت في الامة العربية. لأن محمدا كان عربيا ولا بد ان يبدأ بحسب الاصول في أمته وعشيرته وأقرب الناس اليه لأن الأقربين أولى بالمعروف. ولأن الله أراد أن يختم ارسال الأنبياء والرسل لعباده ، على يد محمد النبي العربي وهذا ما أرادته الحكمة الالهية للنوع البشري كما هي المصلحة.

وعليه فقد كانت مفاخر العرب وما امتازوا به على سواهم في عصر محمد (ص) هي الأدب العربي. وكانوا خالين من سائر العلوم والصنائع

٨٦

الخاضعة للعلم والتعلم. فلم يكونوا يميزون حدودها العادية بحسب موازين العلم والتعلم. واسرار الطبيعيات المنقادة بقوانينها ، للباحث والممارس والمتعلم والمجرب والمكتشف والداخلة تحت سيطرة العلم والتعلم.

فلا يعرفون من الاعمال ما هو خارج عن هذه الحدود وخارق للعادة ، ولا يكون الا باعجاز إلهي. فكل عمل معجز من غير الادب العربي بمجرد مشاهدتهم له أو سماعهم به يسبق الى أذهانهم ، ويستحكم في حسبانهم ، انه من السحر أو من مهارة أهل البلاد الاجنبية في الصنائع وتقدمهم في العلوم وأسرار الطبيعيات وقوانينها ، ولا يذعنون بأنه معجز إلهي ، بل يسوقهم شك الجهل الى الجحود ، خصوصا اذا كان ذلك يحتج به النبي (ص) على دعوة التوحيد. ودعوة النبوة وكلا الدعوتين ثقيلتين على ضلالتهم باهضتين لعاداتهم الوحشية واهواء الجهل.

نعم قد برعوا بالادب العربي وبلاغة الكلام التي تقدموا فيها تقدما باهرا. حتى قد زهى في عصر الدعوة روضة الأدب والبلاغة وأينعت وفاقوا بحدة. وقد قرروا له المواسم. وعقدوا له المحافل للمفاخرة بالرقي به. فرقت بينهم صناعة الأدب الى أوج مجدها وزهرت بأجمل مظاهرها. وأحاطوا باطرافها وحدودها.

فعاد المرء منهم خبير بما هو داخل في حدود القدرة البشرية. وما هو خارج عنها ولا يصدر على لسان بشر ابتداء الا بعناية إلهية خاصة خارقة للعادة البشرية لحكمة الهية شرعية. ولذا اقتضت الحكمة الالهية (ولله الحكمة البالغة) ان يكون القرآن الكريم هو المعجز الذي عليه يدور مدار الحجة والبرهان للرسالة الاسلامية ولصدق خاتم النبيين محمد (ص).

وبالفعل فقد كان حجة على كافة الخلق من جهات وعلى العرب خاصة من جميع جهاته وخصوصا في إعجاز بلاغته. وبتحديهم عن الاتيان بمثله أو بسورة من مثله ، وبالفعل لقد افتضحوا وظهر عليهم

٨٧

العجز والقصور في الجواب على تحديه لهم. وهم الخبراء في ذلك وأصحاب المضمار الفسيح. وهذا ما جعلهم يعرضون عن جوابه في تحديه لهم وإلزامهم بالخضوع لاعجازه ، وهم الخبراء في ذلك ومن هنا كانت الحجة عليهم أبلغ وأعظم من غيرهم من الامم وانه هو الذي يدخل في حكمة المعجز والاعجاز في شمول الدعوة للعرب وابتدائها بهم بحسب سيرها الطبيعي على الحكمة وبه تتم فائدة المعجز على وجهها.

امتياز حجة محمد (ص) في قرآنه المعجز عن غيره

مضافا الى انه امتاز عن غيره من المعجزات. وفاق عليها بأكبر الامور الجوهرية في شؤون النبوة والرسالة ودعوتها. فمن ذلك : انه باق مدى السنين ممثل بصورته ومادته لكل من يريد ان يطلع عليه ويمارس أمره وينظر في أمره ويعرف كنهه وحقيقته. فهو باد وظاهر في كل آن ومكان لكل من يريد النظر في حقائقه ودلائله. ولا تتوقف معرفة حقيقته ووجه اعجازه الى أساطير النقل ومماراة قال أو قيل. فلا يحتمل انه دبرت دعواه بليل. ولا يسترب في أمر باحتمال التمويه ، بل هو ينادي بنفسه في كل زمان ومكان : (هذا جناي وخياره فيه وكله خيار فائق متفوق).

ومن ذلك انه بنفسه ولسانه وصريح بيانه قد تكفل بالاثبات لجميع المقدمات التي تنتظم منها الحجة والبرهان على صحة رسالته الخاصة. وشهادة اعجازه لها. ولم يوكل أمر بيانه الى غيره. مما يختلج فيه بالريب. أو تعرض فيه الشبهات وتطول فيه مسافة الاحتجاج وتكثر صعوباته. فلقد التفت الى جميع ما يعرض عليه ويتطلب منه بيانه.

الاول : انه تكفل ببيان دعوى النبي للنبوة. وصحة الرسالة في سائر النبؤات.

٨٨

الثاني : انه تكفل في صراحة ببيانه بالشهادة للنبوة والرسالة. فلم يبق حاجة لدلالة العقل ودفع الشبهات عنها.

الثالث : انه تكفل بنفسه دفع الموانع عن الرسالة والنبوة إذ بين مواد الدعوة وأساسياتها ومعارفها وقوانينها الجارية بأجمعها. على المعقول من عرفانيها واخلاقيها وجتماعيها وسياسيها. فلا يوجد فيها ما يخالف المعقول ليكون مانعا عن النبوة. وفي سورة الاسراء يقول عزوجل :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) آية ٩ ـ

الرابع : انه زاد على كونه معجزا بنفسه بان كرر النداء والمصارحة في الاحتجاج باعجازه. وتحدى جميع البشر الى ان يفني البشر. وأعلن الحجة عليهم وهتف بهم هتافا مكررا مؤكدا بان يعارضوه ـ ان كان باستطاعتهم المعارضة ـ ولو ان يأتوا بسورة من مثله ان كان مما تناله مقدرة البشر المحدودة فقال عزوجل :

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) سورة البقرة آية ٢٢

فلو كان هناك أقل قليل من المعارضة والاتيان بسورة واحدة من مثل هذا القرآن لرفعه أهل الكفر والضلال كنار على علم. ولا حتفلت به ألوف الألوف من اعداء الاسلام وأضداد القرآن. ولسجلته دواوينهم في اقطار الارض واجيال الامم.

اعجاز القرآن في وجهة الاحتجاج

نهض رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لتعليم البشر وتنوير بصائرهم في عصر الظلمات والجهل والفوضى. نهض لارشادهم

٨٩

الى حقائق المعارف التي حجبتها ظلمات الضلال المتراكمة في تلك العصور المظلمة. وفي تلك الظلمات التي استولت على أرجاء العالم ، بحيث لم تدع مجالا ان ينقدح من نور الحق والعدل للعقول المغلوبة أقل بصيص.

فجاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبي الاسلام في قرآنه بدلائل غزيرة من الحجج الساطعة ، على أهم المعارف وأشرفها. تلك الحجج الجارية على أحسن نهج وأعمه نفعا في الاحتجاج والتعليم. جاء بها على أرقى مستوى علمي. بشكل يستلفت العامي البسيط الى نور الغريزة والفطرة الاولية. فيمثل له الواقع الحق في قلبه وسمعه وبصره وشعوره واحساسه حتي يتجلّى له اليقين بأوضح بيانه. ثم يرشده الى سناء البديهيات فيجعلوه لادراكه. ويجري بمؤدى تلك الحجج مع الفيلسوف في قوانين المنطق والبيان وتنظيم قياساته على أساسيات المعقول.

فليلزم الجميع بالاذعان واليقين بوجود الاله الحق المبين ولوازم الهيته ويقيم لهم الادلة والبرهان على علمه وقدرته. وتوحيده ، ثم تراه يقيم الادلة القاطعة على صحة المعاد الجسماني. وعلى ان هذا القرآن وحي الهي. من خالق عظيم قوي قدير عليم خبير اذا قال لشيء كن فيكون بدون امهال.

اعجاز القرآن من وجهة استقامته وسلامته من التناقض

لقد خاض القرآن الكريم في فنون المعارف والصلاح ، مما يتخصص فيه الممتازون ، بالرقي في ابواب الفلسفة والسياسة والخطابة والاصلاح ، من علم اللاهوت والاخلاق الكاملة الفاضلة. والتشريع المدني والتنظيم الاداري ، والفن الحربي.

وقد رغب في الثواب والجزاء. وحذر وانذر من النكال والعذاب وأقام الحجج وضرب الامثال. وقد أجرى جميع ذلك بأجمل اسلوب وارقى حكمة واقوم منهج.

٩٠

اعجاز القرآن في وجهة التشريع العادل والنظام الشامل

لقد ارسل الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رسولا بشريا عاديا كابناء عصره ونشأ بين أهله وعشيرته ولم يفارقهم منذ ولد الى ان ادعى النبوة من عند خالقه. ولم يعهده أحد أنه دخل مكتبا او تعلم عند مخلوق ابدا واذا هو يأتي بقرآن قد اشتمل على كل ما يحتاج اليه البشر في حياتهم ومعادهم بحيث لا يوجد أمر من الامور أو واقعة من المواقع الا وجعل لها حكما شرعيا.

فمن جملة جهاته جهة التشريع والنظام ، والحقوق العادلة والقوانين القيمة ، والا نظمة المعقولة الجارية باجمعها على وفق مصالح البشر وحاجاتهم ، المدنية والاجتماعية ، والسياسية والحربية والادارة والاقتصاد وفي جميع ذلك عبرة لاولي الالباب.

اعجاز القرآن من وجهة الاخلاق

واذا نظر العاقل البصير الى ظلمات العصر والقطر والتربية وشيوع الجهل ، في تلك الامة التي ولد فيها نبي الاسلام وتربى بين احضانها.

وتأمل ما كانوا عليه من سوء الاعمال وعدم المعرفة والعلم ، وبعدهم عن الفضيلة والكمال الانساني ، والانحلال الخلقي والانحراف عن جادة الصواب. واذا بذلك النبي العظيم قد اتى بما لم يعه فكر مفكر ولا خطر على قلب بشري واذا به يقول بأوضح بيان : انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق. واذا بالقرآن المجيد يحقق ذلك المقال فيعلن ويقول عزوجل

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)

لقد كانت غرسة العقيدة الاسلامية تودع في الارض لاول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة. وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في انحاء الارض جميعا.

٩١

وكانت النقلة عظيمة ، بين الصورة الباهته المحرّفة المشوّهه من ملة ابراهيم (ع) التي يستمسك بخيوط حائلة منها ، مشركوا قريش ويلصقون بها الترهات والاساطير والاباطيل السائدة عندهم. وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقلة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. متفقة في أصولها مع الحنفية الاولى ـ دين ابراهيم (ع) ـ وبالغة الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الاخيرة للارض. الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية الى آخر الزمان.

وكانت النقلة عظيمة بين الشرك بالله وتعدد الأرباب. وعبادة الملائكة وتماثيلها والتعبد للجن وارواحها. وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها عقيدة الجاهلية .. وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن المجيد للذات الالهية الواحدة وعظمتها وقدرتها. وتعلق ارادتها بكل مخلوق.

كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقة السائدة في الجزيرة والكهانة السائدة في ديانتها. واختصاص طبقات بالذات بالسيادة ، والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الأخرين .. وبين البساطة والمساواة امام الله والاتصال المباشر بينه وبين عباده كما جاء بها القرآن.

ومثلها كانت النقلة بين الاخلاق السائدة في الجاهلية والاخلاق التي جاء القرآن يبشر بها ، وجاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. يدعو اليها ويمثلها.

وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة. وبين قريش ومعتقداتها واخلاقها : ولكن هذه النقلة وحدها كافية فقد كان الى جانبها اعتبارات ـ وربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها ـ على ضخامتها.

وكانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم ان يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم في قوله عزوجل :

٩٢

(لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.)

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)

وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود. ويعجز كل قلم ، ويعجز كل تصوير ، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب العالمين رب الوجود وما حواه.

وهي شهادة من الله تعالى في ميزان المولى لعبده المطيع. ودلالة هذه الكلمة العظيمة من ذلك المولى العظيم على محمد نبيه الكريم. تبرز من نواح شتى. تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعالي. يسجلها ضمير الكون. ويثبت في كيانه وتتردد في الملا الاعلى الى ما شاء الله تعالى.

والله اعلم حيث يجعل رسالته. وما كان الا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعظمة نفسه هذه ـ من يحمل هذه الرسالة الاخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى.

ان حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة. وان عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة. وان الحقيقة المحمدية كالحقيقة الاسلامية ، لأبعد من مدى أي مجهر ، يملكه البشر في قرنها العشرين وبعد قرون وقرون ، وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ، ولا يحدد مداها وأن يشير الى مسارها الكوني دون ان يحدد هذا المسار.

ثم ان لهذه اللفته دلالتها الهائلة على تمجيد العنصر الاخلاقي في ميزان الله واصالة هذا العنصر في الحقيقة الاسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية.

وقد تمثلت هذه الاخلاق الاسلامية بكاملها وجمالها وتوازنها

٩٣

واستقامتها وثباتها في شخصية محمد العظيم نبي الاسلام وتمثلت في ثناء الله العظيم في قوله عزوجل (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

الدين ، النصيحة

تذكير. وتنوير

قال الله عزوجل :

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

وقال سيد الأنبياء محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(الدين النصيحة. كلكم راع وكلكم مسؤول من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)

وقال سيد الأوصياء علي بن أبي طالب عليه‌السلام :

(صديقك من حذرك. وعدوك من أغراك).

* * *

وها نحن نذكركم أيها المؤمنون بالمسؤولية الكبرى التي القاها الله ورسوله وخليفته على عواتقكم جميعا ونحذركم مما لا فرار لكم عنه ولا خلاص لكم منه.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)

وهذه نساء المسلمين وفتياتهم في الشوارع والحفلات والمراقص والسينمائيات سكارى حيارى عاريات مجردات من كل ستر وحجاب ، خاليات من كل حياء وعفاف.

وانما كمال المرأة بعفافها وحيائها. وصيانتها بسترها وحجابها.

٩٤

وحيث يرتفع الستر والحجاب ذهب الحياء والعفاف. ويبدأ الداء. ويعم البلاء. وهناك الطخية العمياء.

* * *

فعلى أهل الدين والشرف. أن يتأدبن بآداب القرآن. ويأتمرن بأوامر الرحمن وها هو يوجب الحجاب بأوضح بيان فيقول عزوجل :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ)

ويقول تعالى :

(إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ... إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً)

وقد تجرأت هذه المرأة المتهتكة على عصيان خالقها ومولاها المتفضل عليها بنعم لا تحصى قبل أن تكون شيئا مذكورا. فمن عليها بالحياة والعقل. ووهبها الجوارح العظمى وخلق لأجلها ما في الكون جميعا.

(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها. إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)

ولم تكتفي بهذا العصيان الأثيم لهذا الخالق العظيم والمنعم الكريم. حتى اتبعت تلك الكفرة الفجرة. الكذبة المكرة أعوان الشيطان وابالسة الزمان. الذين أعدوا لكل حق باطلا. ولكل قائم قاتلا ولكل باب مفتاحا ... قد هونوا الطريق. واضلعوا المضيق.

(أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ)

لقد خدعوا تلك المرأة المسكينة (بكل غرور). ودفعوها بكل محذور. وأوردوها المهالك وأوقعوها بكل فاسد. وهتكوا سترها. وجردوها خمارها. وأخرجوها عريانة. نابذة لكل عفاف وحياء.

٩٥

وبعد أن قضوا منها الشهوات. وأوردوها مورد الهلكات. فوقعت المسكينة بأبشع الفتن وخسرت أثمن التحف واستحقت من خالقها العذاب الأليم والنكال الشديد. وخسرت الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.

فكيف يجوز لمثل هذه المرأة المجرمة العارية المتهتكة ان تدعي ـ الحضارة والثقافة والتمدن والتقدم وهي بأضداد هذه العناوين متلبسة. وفي مهاوي الضلال والفساد متنكسة.

فالويل لهم لقد غروها وخدعوها وأذلوها وظلموها :

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)

فعلى العقلاء ان يتداركوا ما فات. وان يغتنموا الفرص قبل الفوات. والرجوع الى الحق خير من التمادي في الباطل. وباب التوبة مفتوح وان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وهو الغفور الرحيم.

(قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ). والمسؤولية تقع على الآباء والأولياء والراضي شريك المجرم.

(الكمال الانساني)

الاسلام لم يكن مقيدا بمكان أو زمان. بل هو لكافة الأماكن والأزمان ولجميع الفئات والأجيال. ولم يكن مخصصا لأمة دون أخرى أو أبيض دون أسود أو لعربي دون أعجمي. (المراد بالأعجمي كل ما لم تكن لغته عربية.

بل هو دين البشرية جمعاء في مشارق الأرض ومغاربها. ودين العصور والاجيال مهما تكررت العصور وتعاقبت الأجيال. وتقدم العلم والعمران.

فلذا اوجب الله تعالى اعتناقه واتباعه على كافة المخلوقات. من

٩٦

أبيض وأسود وعربي وأعجمي. ورجل وأمرأة. في جميع الأزمنة والأوقات.

وأرسل رسوله محمدا (ص) وآله وسلّم للناس كافة بشيرا ونذيرا فقال عزوجل :

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ٣٤ ـ ٣٧.

وجاء دين الاسلام. فزود. الانسان من (الرجل والأنثى) بطاقات قيمة وتعاليم مجيدة رشيدة. جاء بأمر ونهي. بسلب وأيجاب. جاء بسعادة الدارين وراحة النشأتين.

جاء الاسلام الخالد. بالشريعة السمحاء وأحكامها الغراء جاء بما فيه اليسر دون العسر. فزود المرأة بما يصون شرفها ويحفظ عفافها وكرامتها. ونهاها عما يوقعها في كل فساد وضلال. وما يسلبها أثمن جوهرة وهبها اياها خالقها وصانها عن كل تهتك أو رذيلة. وألزم أولياءها بحفظها وصيانتها. زيادة عما أمرها ونهاها بالخصوص. وأمرهم أن يلزموها بستر جميع جسمها عن كل ناظر ويدها عن كل لامس وأمرهم بأن يلزموها بالحجاب الشرعي. وأن يمنعوها عن كل فاسد وعابث يدنس كرامتها أو يشين شرفها.

والزمهم بأن يأمروها بالصلاة والصيام وجميع ما أوجب الله على المكلفين الكبار.

فقال عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ..) ٣٣ ـ ٥٩ ـ وقال تعالى : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) ٢٣ ـ ٥٢.

وقال تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى

٩٧

جُيُوبِهِنَّ) الخمار ، المنديل والملاءة والجيوب ، العنق وما يتصل به من الصدر).

ـ بهذا الحصن المنيع والستر الشريف حصن الاسلام الفتاة وستر شرفها وعفافها عن كل ما يفسدها أو يهتك سترها ، أو يشين عفافها.

ـ وقد قطع عنها بذلك جميع أسباب المفاسد والرذائل من جذورها. فحرم عليها ان تلمس يدها يد رجل أجنبي ، ولم يسمح لها أن تبدي شعرة من شعراتها ولا مقدار أنملة من جسمها لغير محارمها ، فأبعد الاسلام عنها الامراض والعلل الروحية والنفسية ودفع جميع البلايا والمفاسد والخزايا قبل أن تصل اليها وهذا هو الدواء الوحيد لصيانة المرأة والفتاة ، عن جميع ما يفسدها ويشين شرفها وعفافها.

ولذا نرى عظيم العظماء وسيد الحكماء أمير المؤمنين عليه‌السلام يوصي ولده الحسن عليه‌السلام مخاطبا له في نهجه القويم قائلا :

(واكفف عليهن من ابصارهن بحجابك اياهن ، فان شدة الحجاب أبقى عليهن وليس خروجهن بأشد من ادخالهن من لا يوثق به عليهن. وان استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل. ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فان المرأة ريحانة وليست بقرمانة. ولا تعد بكرامتها نفسها ، ولا تطمعها في أن تشفع لغيرها واياك والتغاير في غير موضع غيرة ...) النهج ص ٤٩٠.

هذا منبع الاسلام وهذه حصانته ومصدره ، وهذا حصنه وسياجه ، وهذه غيرته ومروءته ، وهذه محافظته في صيانة شرف المرأة وعفافها عن كل فاسد وعابث وشرير فاجر.

* * *

واذا بعصورنا الحاضرة ، المظلمة المدلهمة ، قد أطلقت العنان لتلك الفتاة المسكينة وخدعوها بغرورهم المزيفة ، وزينوا لها الخروج من حصنها ونبذها ستر الشرف والفضيلة. وحجاب العفاف والكرامة. الى

٩٨

الشوارع والنوادي والمكاتب والمصانع. بحجة أنهم يريدون تثقيفها وتمدنها وتقدمها.

فصدقت تلك الوديعة العذراء أولئك الاسافل الاشرار ، وحسبت أنهم لها ناصحون محبون.

فتركت حصن الاسلام وصيانة الايمان ، الذي صان شرفها وعفافها عن كل ما يشينها ، ويحميها من أولئك الاشرار من أن يصلوا اليها بأي دنية أو رذيلة ، مادامت ، في ذلك الحصن المنيع والحرز الرفيع.

فخرجت (تلك الوديعة المسكينة) ، وتجردت من سترها وعفافها. الى أولئك الاشرار وانخدعت بحيلتهم الخبيثة ، واحبولتهم الكاذبة ، وما أن خرجت من ذلك الحصن الحصين والحرز المنيع ، حتى تلقفها الاسافل الاشرار والاراذل الكفار يعبثون بها. تلقف الكرة بأرجل الصبيان ، وتلقف الشاة السمينة عند هجوم الذئاب الجائعة عليها من كل جانب ، وهذا بعض ما أصاب الفتاة المسكينة في هذه العصور المظلمة.

يالها من بلية ما أفجعها في الاسلام ، ومصيبة ما أوجعها لقلوب المؤمنين والاخيار ، حينما يرون أولئك الاشرار يفسدون ويعبثون بتلك الفتاة المسكينة ، ويسلبون منها فضيلتها وكرامتها ، وشرفها وعفافها. الذي هو أثمن ما وهبه لها خالقها وبارئها.

ومع هذا فهي فرحة مسرورة. لاحتمالها الموهوم وطمعها المخدوع ان هؤلاء العابثين بها يعلمونها الثقافة والحضارة ، والرقي والتقدم ، بهذا الفعل الشنيع والعمل القبيح. خدعوها وغروها قاتلهم الله رب العالمين.

فمتى يذهب عن هذه المسكينة سكرها وتنتبه من رقدتها ، وتعرف عدوها من صديقها ، ومسلبها من معطيها ، وفاضحها من ساترها ، ومخسرها من مربحها.

فمتى تحس بذلك وتدركه وترجع الى حصنها الذي جعله لها خالقها وحرزها الذي عينه لها بارئها ، ليقيها الفساد والضلال ، ويحفظ لها

٩٩

شرفها وعفافها وتندم على خطيئتها ، وتتوب الى ربها حتى تلاقي يومها الموعود. طاهرة نقية فيدخلها الجنان وتخدمها الحور والولدان في مقعد صدق مليك مقتدر.

وكما أن الاسلام السامي صان المرأة وحصنها عن كل ما يشينها ويلوثها ، فكذلك صان الرجل وحصنه عن كل ما يوقعه في القبائح والرذائل. فأمره أن يقوم بواجبه من جهته الخاصة فقال عزوجل :

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ).

بمثل هذا الادب الكامل زود الاسلام المرأة والرجل ، وحماهما عن كل افراط أو تفريط.

وشدد النكير على كل من يتعد تلك الحدود المنيعة ، والشرائع النيرة ، ولم يرخص لأحد أن يتجاوزها أو ينحرف عنها.

وقد ألزم الآباء والامهات حراسة الاولاد وصيانتهم حيث كانت لهم السيطرة والقدرة سواء كان ذلك في زمن الصغر أو حال الكبر. فالمناط هي القدرة والامكان على كل حال في كل مكان وأوان ، والعهدة ملقاة على جميع المؤمنين والمؤمنات ، لكن يتوجه وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، للاقرب فالأقرب ، والأقدر فالاقدر ، حسب الامكان.

هذه صيانة دين الاسلام الخالدة للفتاة التي أمرها خالقها : (أن تدنى عليها من جلبابها لئلا تعرف فلا تؤذى) ولا تمسّ كرامتها بسوء ، ولا يطمع بها الذي في قلبه مرض من الاشرار.

فالاسلام زود الجنسين بطاقة كبيرة من العقيدة الصحيحة ، وحصنهما بالايمان المتين وسد أبواب الفساد على الانسان قبل وقوعه به فأوجب ابتعاد الفتاة عن الفتى والمرأة عن الرجل ، حتى لا ينزلقا في مهاوي الفواحش والرذائل.

وبهذا يكون قد ضمن لهما وللمجتمع من ورائهما الحياة الهنيئة ،

١٠٠