تراثنا ـ العددان [ 83 و 84 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 83 و 84 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٢

سُئلوا علمنا أنّ السؤال كان كالتقرير منه ولهم ، يقرّر به انصياعهم بالجهالة عمّا علّمه إيّاه ، وعلوّ خطره باختصاصه إيّاه بعلم لم يخصّهم به ، فالتزموا الجواب بأن قالوا : سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا.

ثمّ جعل الله عزّ وجلّ آدم عليه‌السلام معلّم الملائكة بقوله : (أَنْبِئْهُمْ) ؛ لأنّ الإنباء من النبأ تعليم ، والأمر بالإنباء من الأمر تكليف يقتضي طاعةً وعصياناً ، والإصغاء من الملائكة عليهم السلام للتعليم والتوقيف والتفهيم والتعريف تكليف يقتضي طاعةً وعصياناً.

فمن ذهب منكم إلى فضل المتعلّم على المعلِّم ، والمُوقَف على المُوقِفِ ، والمعرَّفَ على المعرِّفِ ، كان في تفضيله عكس لحكمة الله عزّ وجلّ ، وقلب لترتيبها التي رتّبها الله عزّ وجلّ ؛ فإنّه على قياس مذهبه أن تكون الأرض التي هي المركز أعلى من النامي الذي هو عليها الذي فضّله الله عزّ وجلّ بالنموّ ، والنامي أفضل وأعلى من الحيوان الذي فضّله الله جلّ جلاله بالحياة والنموّ والروح. والحيوان الأعجم الخارج عن التكليف والأمر والزجر أعلى وأفضل من الحيوان الناطق المكلّف للأمر والزجر ، والحيوان الذي هو محجوج أعلى من الحجّة التي هي حجّة الله عزّ وجلّ فيها ، والمعلَّم أعلى من المعلِّم وقد جعل الله عزّ وجلّ آدم حجّة على كلّ من خلق من روحاني وجسماني إلاّ من جعل له أوّلية الحجّة.

فقد روي لنا عن حبيب بن مظاهر الأسدي بيّض الله وجهه أنّه قال للحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام : أيّ شيء كنتم قبل أن يخلق الله عزّ وجلّ آدم عليه‌السلام؟ قال : «كنّا أشباح نور ندور حول عرش الرحمن فنعلِّمُ الملائكة التسبيح والتهليل والتحميد» ، ولهذا تأويل دقيق ليس هذا مكان شرحه ، وقد بيّنّاه في غيره.

٨١

قال مفضّلو الملائكة : إنّ مدار الخلق ـ روحانياً كان أو جسمانياً ـ على الدنوّ من الله عزّ وجلّ والرفعة والعلوّ والزلفة والسموّ ، وقد وصف الله جلّت عظمته الملائكة من ذلك بما لم يصف به غيرهم ، ثمّ وصفهم بالطاعة التي عليها موضع الأمر والزجر والثواب والعقاب ، فقال جلّ وعزّ : (لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (١) ، ثمّ جعل محلّهم الملكوت الأعلى ، فبراهينهم على توحيده أكثر ، وأدلّتهم عليه أوفر ، وإذا كان ذلك كذلك كان حظّهم من الزلفة أجلّ ، ومن المعرفة بالصانع أفضل.

قالوا : ثمّ رأينا الذنوب والعيوب الموردة النار ودار البوار كلّها من الجنس الذي فضّلتموه على من قال الله عزّ وجلّ في نعتهم لمّا نعتهم ووصفهم بالطاعة لمّا وصفهم : (لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).

قالوا : كيف يجوز فضل جنس فيهم كلّ عيب ولهم كلّ ذنب على من لا عيب فيهم ولا ذنب منهم صغائر ولا كبائر؟

والجواب : إنّ مفضّلي الأنبياء والحجج صلوات الله عليهم قالوا : إنّا لا نفضّل ها هنا الجنس على الجنس ، ولكنّا فضّلنا النوع على النوع من الجنس. كما أنّ الملائكة كلّهم ليسوا كإبليس وهاروت وماروت ؛ لم يكن البشر كلّهم كفرعون الفراعنة وكشياطين الإنس المرتكبين المحارم والمقدّمين على المآثم.

وأمّا قولكم في الزلفة والقربة : فإنّكم إن أردتم زلفة المسافات وقربة المداناة ، فالله عزّ وجلّ أجلّ وممّا توهّمتموه أنزه ، وفي الأنبياء والحجج من

__________________

(١) سورة التحريم ٦٦ : ٦.

٨٢

هو أقرب إلى قربه بالصالحات والقربات الحسنات ، وبالنيّات الطاهرات من كلّ خلق خلقهم ، والقرب والبعد من الله عزّ وجلّ بالمسافة والمدى تشبيه له بخلقه ، وهو من ذلك نزيه.

وأمّا قولهم في الذنوب والعيوب ، فإنّ الله جلّت أسماؤه جعل الأمر والزجر أسباباً وعللاً ، والذنوب والمعاصي وجوهاً ، فأنبأ جلّ جلاله وجعل الذي هو قاعدة الذنوب من جميع المذنبين من الأوّلين والآخرين إبليس ، وهو من حزب الملائكة وممّن كان في صفوفهم ، وهو رأس الأبالسة ، وهو الداعي إلى عصيان الصانع ، والموسوس والمزيّن لكلّ من تبعه ـ وقبل منه وركن إليه ـ الطغيان ، وقد أُمهل الملعون لبلوى أهل البلوى في دار الابتلاء ، فكم من ذرّية نبية وفي طاعة الله عزّ وجلّ وجيه وعن معصيته بعيدة ، قد أقمأ إبليس وأقصاه وزجره ونفاه ، فلم يلو له على أمر إذا أمر ، ولا انتهى عن زجر إذا زجر ، له لمّات في قلوب الخلق مكافى من المعاصي ، فلمّات الرحمن دافعة للمّاته ووسوسته وخطراته ، ولو كانت المحنة بالملعون واقعة بالملائكة ، والابتلاء به قائماً كما قام في البشر ، ودائماً كما دام ، لكثرت من الملائكة المعاصي ، وقلّت فيهم الطاعات إذا تمّت فيهم الآلات ، فقد رأينا المبتلى من صنوف الملائكة بالأمر والزجر مع آلات الشهوات كيف انخدع بحيث دنا من طاعته ، وكيف بَعُدَ ممّا لم يبعد منه الأنبياء والحجج الذين اختارهم الله على علم على العالمين ، إذ ليست هفوات البشر كهفوة إبليس في الاستكبار ، وفعل هاروت وماروت في ارتكاب المزجور.

قال مفضّلو الملائكة عليهم السلام : إنّ الله جلّ جلاله وضع الخضوع والخشوع والتضرّع والخنوع حلية ، فجعل مداها وغايتها آدم عليه‌السلام فقارب الملائكة في هذه الحلية ، وأخذ منها بنصيب الفضل والسبق ، فجعل للطاعة

٨٣

فأطاعوا الله فيه ، ولو كان هناك بنو آدم لما أطاعوه فيما أمر وزجر ، كما لم يطعه قابيل فصار إمام كلّ قاتل.

الجواب : مفضّلو الأنبياء والحجج عليهم الصلوات والسلام قالوا : إنّ الابتلاء الذي ابتلى به الله عزّ وجلّ الملائكة من الخشوع والخضوع لآدم عليه‌السلام عن غير شيطان مُغو عدوّ مطغي ، فأضلّ بغوايته بين الطائعين والعاصين والمقيمين على الاستقامة عن الميل ، وعن غير آلات المعاصي التي هي الشهوات المركبات في عبادة المبتلين ، وقد ابتلي من الملائكة من ابتلي ، فلم يعتصم بعصمة الله الوثقى ، بل استرسل للخشوع الذي كان أضعف منها.

وقد روينا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : إنّ في الملائكة من باقة بقل خير منه ، والأنبياء والحجج يعلمون ذلك لهم وفيهم ما جهلناه ، وقد أقرّ مفضّلو الملائكة بالتفاضل بينهم ، كما أقِرّ بالتفاضل بين ذوي الفضل من البشر ، ومن قال : إنّ الملائكة جنس من خلق الله عزّ وجلّ فقلّ فيهم العصاة ، كهاروت وماروت ، وكإبليس اللعين إذ الابتلاء فيهم قليل ، فليس ذلك بموجب أن يكون فاضلهم أفضل من فاضل البشر الذين جعل الله عزّ وجلّ الملائكة خدمهم إذا صاروا إلى دار المقامة التي ليس فيها حَزَنٌ ولا همٌّ ولا نَصَبٌ ، ولا سقم ولا فقر.

قال مفضّلو الملائكة عليهم السلام : إنّ الحسن البصري يقول : إنّ هاروت وماروت علجان من أهل بابل ، وأنكر أن يكونا ملكين من الملائكة ، فلم تعترضوا علينا بالحجّة بهما وبإبليس فتحتجّون علينا بِجِنيّ فيه.

الجواب : قال مفضّلوا الأنبياء والحجج عليهم السلام : ليس شذوذ

٨٤

قول الحسن عن جميع المفسّرين من الأُمّة بموجب أن يكون ما يقول كما يقول : وأنتم تعلمون أنّ الشيء لا يستثنى إلاّ من جنسه ، وتعلمون أنّ الجنّ سُمّوا جنّاً لاجتنانهم عن الرؤية ، إلاّ إذا أرادوا الترائي بما جعل الله عزّ وجلّ فيهم من القدرة على ذلك ، وأنّ إبليس من صفوف الملائكة ، وغير جائز في كلام العرب أن يقول قائل جاءت الإبل كلّها إلاّ حماراً ، ووردت البقر كلّها إلاّ فرساً ، فإبليس من جنس ما استثني.

وقول الحسن : في هاروت وماروت ، بأنّهما علجان من أهل بابل شذوذ شذّ به عن جميع أهل التفسير ، وقول الله عزّ وجلّ يُكذّبه إذ قال : (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بفتح اللام بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) (١) ، فليس في قولكم عن قول الحسن فرج لكم ، فدعوا ما لا فائدة فيه من علّة ، ولا عائدة من حجّة.

قال مفضّلو الملائكة عليهم السلام : قد علمتم ما للملائكة في كتاب الله تعالى من المدح والثناء ممّا بانوا به عن خلق الله جلّ وعلا ، إذ لو لم يكن فيه إلاّ قوله : (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢) لكفى.

قال مفضّلوا الأنبياء والحجج عليهم السلام : إنّا لو استقصينا آي القرآن في تفضيل الأنبياء والحجج صلوات الله عليهم أجمعين ، لاحتجنا في ذلك إلى التطويل والإكثار وترك الإيجاز والاختصار ، وفيما جئنا به من الحجج النظريّة التي تزيح العلل من الجميع مقنع ؛ إذ ذكرنا ترتيب الله عزّ وجلّ خلقه ، فجعل الأرض دون النامي ، والنامي أعلى وأفضل من الأرض ،

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٠٢.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ : ٢٦ ـ ٢٧.

٨٥

وجعل النامي دون الحيوان ، والحيوان أعلى وأرفع من النامي ، وجعل الحيوان الأعجم دون الحيوان الناطق ، وجعل الحيوان الناطق أفضل من الحيوان الأعجم ، وجعل الحيوان الجاهل الناطق دون الحيوان العالم الناطق ، وجعل الحيوان العالم الناطق المحجوج دون الحيوان العالم الحجّة ..

ويجب على هذا الترتيب أنّ المعرب المبين أفضل من الأعجم غير الفصيح ، ويكون المأمور المزجور مع تمام الشهوات وما فيهم من طباع حبّ اللذات ومنع النفس من الطلبات والبغيات ، ومع البلوى بعد ، ويمهل ويمتحن بمعصيته إيّاه هو يزينها له محسّناً بوسوسته في قلبه وعينه ، أفضل من المأمور المزجور مع فقد آلة الشهوات ، وعدم معاداة هذا المتوصّل له بتزيين المعاصي والوسوسة إليه.

ثمّ هذا الجنس نوعان : حجّة ومحجوج ، والحجّة أفضل من المحجوج ، ولم يحجّج آدم الذي هو أصل البشر بواحد من الملائكة ، تفضيلا من الله عزّ وجلّ إيّاه عليهم ، وحجّج جماهير الملائكة بآدم عليه‌السلام فجعله العالم بما لم يعلموا ، وخصّه بالتعليم ليبيّن لهم أنّ المخصوص بما خصّه به ، ممّا لم يخصّهم أفضل من غير المخصوص ، بما لم يخصّه به. وهذا الترتيب حكمة الله عزّ وجلّ ، فمن ذهب يروم إفسادها ظهر منه عناد من مذهبه وإلحاد في طلبه.

فانتهى الفضل إلى محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ لأنّه ورث آدم وجميع الأنبياء عليهم‌السلام ؛ ولأنّه اصطفاه الذي ذكره الله عزّ وجلّ فقال : (إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (١) ،

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٣٣.

٨٦

فمحمّـد الصفوة والخالص نجيب النجباء من آل إبراهيم ، فصار خير آل إبراهيم بقوله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض) (١) ، واصطفى الله جلّ جلاله آدم ممّن اصطفاه عليهم من روحاني وجسماني ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّـد وآله وحسبنا الله ونعم الوكيل.

قال مصنّف هذا الكتاب الشيخ الصدّوق رحمه‌الله : إنّما أردت أن تكون هذه الحكاية في هذا الكتاب ، وليس قولي في إبليس إنّه كان من الملائكة ، بل كان من الجنّ ، إلاّ أنّه كان يعبد الله بين الملائكة ، وهاروت وماروت مَلَكان ، وليس قولي فيهما قول أهل الحشو ، بل كانا عندي معصومين ، ومعنى هذه الآية : (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيَمانَ) (٢) إنّما هو ، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ، وعلى ما أنزل على المَلَكَين ببابل هاروت وماروت ، وقد أخرجت في ذلك خبراً مسنداً في كتاب عيون أخبار الرضا عليه‌السلام.

موردان آخران:

ألف : وفي رواية محمّـد بن بحر الشيبانيّ ، عن أحمد بن الحرث قال : حدّثنـا أبو أيّوب الكوفـي قال : حدّثنـا إسحاق بن وهب العلاّف ، قال : حدّثنا أبو عاصم النبّال عن ابن جريج ، عن الضحّاك ، عن ابن عبّاس ، قال :

«خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من منزل عائشة فاستقبله أعرابيّ ومعه ناقة فقال : يا محمّـد! تشتري هذه الناقة؟ فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «نعم ، بكم تبيعها

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٣٤.

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٠٢.

٨٧

يا أعرابيّ؟». فقال : بمئتي درهم. فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «بل ناقتك خير من هذا» ، قال : فما زال النبيّ (صلى الله عليه وآله) يزيد حتّى اشترى الناقة بأربع مئة درهم.

قال : فلمّا دفع النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى الأعرابي الدراهم ضرب الأعرابي يده إلى زمام الناقة فقال : الناقة ناقتي والدراهم دراهمي ، فإن كان لمحمّـد شيء فليقم البيّنة. قال : فأقبل رجل فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «أترضى بالشيخ المقبل؟» ، قال : نعم يا محمّـد ، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «تقضي فيما بيني وبين هذا الأعرابي؟» ، فقال : تكلّم يا رسول الله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابي» ، فقال الأعرابيّ : بل الناقة ناقتي والدراهم دراهمي ، إن كان لمحمّـد شيء فليقم البيّنة ، فقال الرجل : القضيّة فيها واضحة يا رسول الله ، وذلك أنّ الأعرابي طلب البيّنة.

فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «اجلس» فجلس ، ثمّ أقبل رجل آخر فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «أترضى يا أعرابيّ بالشيخ المقبل؟» ، قال : نعم يا محمّـد ، فلمّا دنا قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «اقض فيما بيني وبين الأعرابيّ» ، قال : تكلّم يا رسول الله ، فقال النبىّ (صلى الله عليه وآله) : «الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابي» ، فقال الأعرابي : بل الناقة ناقتي والدراهم دراهمي ، إن كان لمحمّـد شيء فليقم البيّنة. فقال الرجل : القضية فيها واضحة يا رسول الله ؛ لأنّ الأعرابي طلب البيّنة.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : «اجلس حتّى يأتي الله بمن يقضي بيني وبين الأعرابيّ بالحقّ».

فأقبل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «أترضى بالشابّ المقبل؟» ، قال : نعم. فلمّا دنا قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «يا أبا الحسن! اقض فيما بيني وبين الأعرابي».

٨٨

فقال تكلّم يا رسول الله. فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : «الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابيّ» ، فقال الأعرابي : لا ، بل الناقة ناقتي والدراهم دراهمي ، إن كان لمحمّـد شيء فليقم البيّنة.

فقال عليّ عليه‌السلام : «خلّ بين الناقة وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله)». فقال الأعرابي : ما كنت بالذي أفعل أو يقيم البيّنة (١).

قال : فدخل عليّ عليه‌السلام منزله فاشتمل على قائم سيفه (٢) ثمّ أتى فقال :

«خلّ بين الناقة وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله)» ، قال : ما كنت بالذي أفعل أو يقيم البيّنة.

قال : فضربه عليّ عليه‌السلام ضربة فاجتمع أهل الحجاز على أنّه رمى برأسه ، وقال بعض أهل العراق بل قطع منه عضواً ، قال :

فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «ما حملك على هذا يا عليّ؟» ،

فقال : يا رسول الله! نصدّقك على الوحي من السّماء ولا نصدّقك على أربعمئة درهم!».

باء : وروى محمّـد بن بحر الشيباني ، عن عبد الرحمن بن أحمد الذهلي ، قال : حدّثنا محمّـد بن يحيى النيسابوري ، قال : حدّثنا أبو اليمان الحكم بن نافع الحمصيّ ، قال : حدّثنا شعيب ، عن الزهريّ ، عن عبد الله ابن أحمد الذهلي قال (٣) : حدّثني عمارة بن خزيمة بن ثابت : أنّ عمّه حدّثه

__________________

(١) أو يقيم : بمعنى إلى أن يقيم.

(٢) قائم السيف وقائمته : مقبضه. (المصباح).

(٣) السند عامي ، وروى نحوه الكليني ٧ : ٤٠١ من الكافي في الموثّق كالصحيح عن معاوية بن وهب مقطوعاً ، وذكر القضية جماعة من العامّة وأشار إليه ابن قتيبة في المعارف وابن الأثير في أُسد الغابة.

٨٩

وهو من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله) : أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) ابتاع فرساً من أعرابيّ فأسرع النبيّ (صلى الله عليه وآله) المشي ليقبضه ثمن فرسه ، فأبطأ الأعرابيّ ، فطفق رجال يعترضون الأعرابيّ فيساومونه بالفرس (١) ، وهم لا يشعرون أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)ابتاعه ، حتّى زاد بعضهم الأعرابيّ في السوم على الثمن ، فنادى الأعرابي فقال : إن كنت مبتاعاً لهذا الفرس فابتعه وإلاّ بعته.

فقام النبيّ (صلى الله عليه وآله) حين سمع الأعرابي فقال : «أو ليس قد ابتعته منك؟».

فطفق الناس يلوذون بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) وبالأعرابي وهما يتشاجران ، فقال الأعرابي : هلمّ شهيداً يشهد أنّي قد بايعتك ، ومن جاء من المسلمين قال للأعرابي : إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يكن ليقول إلاّ حقّاً ، حتّى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع لمراجعة النبي (صلى الله عليه وآله) والأعرابي فقال خزيمة : إنّي أنا أشهد أنّك قد بايعته.

فأقبل النبي (صلى الله عليه وآله) على خزيمة فقال : «بم تَشهد؟».

قال : بتصديقك يا رسول الله.

فجعل النبي (صلى الله عليه وآله) شهادة خزيمة بن ثابت شهادتين ، وسمّاه ذا الشهادتين» (٢).

__________________

(١) المساومة : المقاولة في البيع والشراء والمجاذبة بين البائع والمشتري على السلعة وفضل ثمنها.

(٢) كتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٠٦ ـ ١٠٩. والرواية الأولى رواها السيد المرتضى في الانتصار : ٤٨٩ من دون ذكر السند ، بل قال : وروت الشيعة أيضاً عن ابن جريح عن الضحاك عن ابن عباس قال ... (وعند العلاّمة في المختلف : ٨ / ٣٨٥).

٩٠

مصادر البحث

١ ـ القرآن الكريم.

٢ ـ إعلام الورى ، أبوعلي فضل بن حسن الطبرسي ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، ١٣٩٠ هـ. ق.

٣ ـ إكمال الدين وإتمام النعمة ، الشيخ الصدوق ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، ١٣٥٩ هـ. ش.

٤ ـ إيضاح الاشتباه ، العلاّمة الحلّي ، مؤسّسة النشر الإسلامى ، قم ، ١٣١٩.

٥ ـ تفسير القمّي ، علي بن إبراهيم ، قم ، دار الكتاب الإسلامى ـ ـ ، ١٤١٠.

٦ ـ الذريعة إلى تصانيف الشيعة ، الشيخ آقا بزرگ الطهراني ، بيروت ، دار الأضواء.

٧ ـ رجال الطوسي ، الشيخ الطوسي ، نجف ، المطبعة الحيدرية ، ١٣٨٠ هـ. ق.

٨ ـ رجال العلاّمة الحلّي ، قم ، منشورات الرضي ، ١٤٠٢.

٩ ـ رجال الكشي ، (اختيار معرفة الرجال) محمّد بن الحسن الشيخ الطوسي ، تصحيح مصطفوي ، مشهد ، جامعة مشهد.

١٠ ـ رجال النجاشي ، أبو العبّاس النجاشي ، تصحيح موسى الشبيري الزنجاني ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي.

١١ ـ الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم ، زين العابدين علي بن يونس العاملي ، تحقيق محمّد باقر البهبودي ، طهران ، مرتضوية ، ١٣٨٤ هـ. ق.

١٢ ـ علل الشرائع ، الشيخ الصدوق ، نجف ، مطبعة الحيدرية ، ١٣٨٥ هـ. ق.

١٣ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ، محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه الشيخ الصدوق ، طهران ، منشورات الأعلمي.

١٤ ـ الغيبة ، أبوجعفر محمّد بن حسن الشيخ الطوسي ، طهران ، مكتبة نينوى ، (وتحقيق ونشر: بنياد معارف إسلامي ، قم).

١٥ ـ فهرست كتب الشيعة وأصولهم ، الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي ، تصحيح السيد عبد العزيز الطباطبائي ، قم ، مكتبة المحقّق الطباطبائي ، ١٤٢٠.

٩١

١٦ ـ كشف الغمّة في معرفة الائمّة ، علي بن عيسى الأربلي ، تحقيق: سيّد هاشم رسولي ، تبريز ، ١٣٨١.

١٧ ـ لسان الميزان ، ابن حجر العسقلاني ، تصحيح المرعشلي ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي.

١٨ ـ مشيخة النجاشي ، محمود درياب النجفي ، قم ، ١٤١٣.

١٩ ـ معالم العلماء ، ابن شهر آشوب ، نجف ، المطبعة الحيدرية ، ١٣٨٠ هـ. ق.

٢٠ ـ معالم العلماء ، ابن شهر آشوب ، تصحيح عبّاس إقبال ، طهران ، ١٣٥٣ هـ. ق.

٢١ ـ معاني الأخبار ، الشيخ الصدوق ، قم ، انتشارات اسلامي التابعة إلى جامعة المدرسين.

٢٢ ـ معجم الأدباء ، ياقوت الحموي ، بيروت ، دار الفكر (طبع إحسان عباس ، دار الغرب الاسلامي ، ١٣٩٣ هـ. ق.).

٢٣ ـ معجم البلدان ، ياقوت الحموي ، بيروت ، دار صادر.

٢٤ ـ معجم رجال الحديث ، أبو القاسم الخوئي ، قم ، مؤسّسة الثقافة الإسلامية ، ١٤١٣.

٢٥ ـ النابس (طبقات أعلام الشيعة في القرن الخامس) آقابزرگ الطهراني ، بيروت ، دار الكتاب العربي.

٢٦ ـ الوافي بالوفيات ، صلاح الدين خليل بن ايبك الصفدي ، اهتمّ بطبعه هلموت ريتر ، بيروت ، ١٣٨١ هـ. ق.

٩٢

ضروريّات الدين والمذهب

الشيخ محمّـد هادي آل راضي

بسـم الله الرحمن الرحيـم

مقدّمة :

لا إشكال عند جميع المسلمين في أنَّ من أنكر أصلاً من أصول الدين التي بها قوام الإسلام كالإلوهية والتوحيد والرسالة يعدُّ كافراً وذلك لأنّ الإسلام عبارة عن الإقرار بهذه الأصول فإذا أنكرها ـ أو بعضها ـ خرج بذلك عن الإسلام وكان كافراً ، وإنّما الإشكال والخلاف في غير ذلك من المسائل الاعتقادية وغيرها والتي تسمّى بالضروريّات.

وحاصل الخلاف :

إنّ إنكار هذه المسائل هل يوجب الكفر مطلقاً أو إنّه لا يوجب الكفر إلاّ مع العلم والالتفات إلى ثبوت ذلك الشيء في الدين المستلزم لتكذيب الرسالة. وأمّا مع الجهل بثبوت ما أنكره في الدين ـ سواء كان جهلاً مركّباً أم

٩٣

بسيطاً ـ فلا يوجب الكفر.

ومنه يتضح :

إنّ محلّ الخلاف والنزاع هو منكر الضروري مع عدم التفاته إلى كون إنكاره مستلزماً لإنكار الرسالة ونحوها من أصول الدين ، وأمّا مع الالتفات والعلم فلا خلاف في كونه كافراً.

ويكتسب هذا البحث أهمّيةً خاصةً لعدّة أمور :

أوّلاً : إنّ إنكار هذه الضروريّات وقع موضوعاً لعدد غير قليل من الأحكام الشرعية المهمّة في كلمات الفقهاء والتي ترتبط بالدماء والأعراض والأموال مثل الحكم بالكفر والارتداد وما يترتّب على ذلك من آثار تظهر في باب النكاح والميراث وغيرها ، هذا في إنكار ضروريّات الدين وأمّا إنكار ضروريّات المذهب فهو أيضا مما تترتّب عليه الخروج عن المذهب وما يستلزمه ذلك من أحكام شرعية مثل عدم جواز النيابة في العبادات وعدم صحّة صرف الزكاة ونحو ذلك.

ومن الواضح أنّ هذا البحث يتكفّل تحديد وتنقيح موضوع هذه الأحكام على ضوء أدلّتها.

ثانياً : إنّ هذا البحث لم يذكر في كلمات الفقهاء إلا بشكل متفرّق ومتناثر في أبواب مختلفة فقد تعرّض له الفقهاء في كتاب الطهارة بحث النجاسات وكتاب الحدود بحث ما يتحقّق به الارتداد وهكذا ، بل أهمل كثير من الفقهاء هذا البحث حتّى في تلك الموارد فلم يتعرّضوا له أصلاً كما

٩٤

هو الملاحظ في معظم كتب المتقدّمين من فقهائنا (قدس) ، نعم بعضهم ذكر الكافر في مقام تعداد النجاسات إلا أنّه لم يتعرّض إلى تحديد المراد به ، وهل يشمل منكر الضروريّات. وهكذا في كتاب الحدود فقد أهملوا البحث في أنّ إنكار الضروري هل يتحقّق به الارتداد أو لا؟

ويمكن توجيه عدم تعرّضهم لهذا البحث باكتفائهم بذكر الكفر في هذه الموارد لوضوح دخول إنكار الضروري فيه ولو في الجملة ، إلا أنّه بالرغم من ذلك تبقى بعض الثغرات التي لا تتضح بمجرّد ذلك مثل أنّ إنكار الضروري هل هو سبب مستقلّ للكفر أو باعتبار استلزامه لإنكار الرسالة أو تكذيب القرآن ونحو ذلك وتترتّب على ذلك ثمرات مهمّة ـ كما سيأتي ـ.

ثالثاً : شيوع ظاهرة إنكار بعض الأمور التي قد تعتبر من ضروريّات الدين أو المذهب ممّا يستلزم استئناف هذا البحث وخصوصاً الجانب التطبيقي منه لغرض التمييز بين ما يعتبر من الضروريّات وما لا يعتبر بل التمييز بين ضروريّات الدين وضروريّات المذهب فكثيراً ما يقع الخلط والاشتباه بين هذه الأمور ، فلا بدّ من وضع ضوابط معيّنة مستفادة من الأدلّة لعدِّ الشيء من الضروريّات في الدين أو المذهب مع بيان الفرق بينه وبين عناوين أخرى قد تتداخل معه مثل المجمع عليه والمعلوم ثبوته في الشريعة وغير ذلك.

رابعاً : حالة عدم الوضوح والاشتباه في هذه المسألة فهناك إفراط من جانب حيث عدّت بعض الأمور المعلومة ـ أو المجمع عليها ـ من

٩٥

ضروريّات الدين أو المذهب وكأنّه يكفي في كون الشيء ضروريّاً ثبوته بالأدلّة أو الاتفاق عليه مع أنّ الميزان في كون الشيء ضروريّاً لا ينطبق على ذلك ـ كما سيأتي ـ وفي المقابل يوجد تفريط في جانب آخر من جهة إنكار ضرورة بعض الأمور التي لا ينبغي الشكّ في كونها كذلك.

الإسلام والإيمان في النصوص الشرعية

هنـاك عنوانيـن متداوليـن في النصوص الشرعيـة وفي كلمات الفقهاء لا بدّ من توضيحهما وبيان الفرق بينهما حتّى لا تختلط الأمور في هذا البحث وهما الإسلام والإيمان.

أمّا الإسلام فهو يطلق ويراد به أحد معنيين :

المعنى الأوّل :

الإقرار الظاهري بالشهادتين فقط وإن لم يقترن بالتصديق والإذعان القلبي ، وهو المراد ظاهراً بقوله تعالى : (قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) (١) وهو المعبّر عنه في بعض الكلمات بالإسلام الظاهري ، وتترتّب عليه جملة من الآثار الدنيوية مثل حقن الدم والمال وجواز النكاح واستحقاق الميراث وغيرها من الأحكام المترتّبة في أدلّتها على مجرّد النطق بالشهادتين من دون لزوم التفتيش عن الباطن وأنّه هل يعتقد ويؤمن واقعاً بما قاله وأقرَّ به أو لا ، بل تترتّب هذه الآثار حتّى مع فرض عدم الاعتقاد كما إذا علمنا أنّه اقرَّ بالشهادتين خوفاً من القتل.

__________________

(١) سورة الحجرات ٤٩ : ١٤.

٩٦

نعم يعتبر في الإسلام بهذا المعنى في مرحلة البقاء أن لا يصدر منه ما ينافي الإقرار بالشهادتين وما يعدُّ بمثابة الإنكار لهما وإلاّ كان خارجاً عن الإسلام.

وما يوجب الخروج عن الإسلام بعد الإقرار به أمور منها :

الإنكار الصريح لأحد الأصلين (التوحيد ، النبوّة) أو لكليهما.

الإنكار الثابت بالملازمة لذلك كما إذا أنكر ما يعلم أنّه من الدين وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاء به.

الإنكار الفعلي كسبِّ الله سبحانه أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا إلقاء المصحف في القاذورات ونحو ذلك مما يعدُّ استخفافاً واستهانةً بالأصلين.

وهل يعدُّ منها إنكار ضروري من ضروريات الدين وإن لم يكن عالماً بأنّه من الدين كما إذا كان جاهلاً أو صاحب شبهة؟ وهذا هو موضوع هذا البحث.

ومنه يتّضح :

إنّ ما يضادّ الإسلام بهذا المعنى هو الكفر بالمعنى المعروف له أي عدم الإسلام الثابت للمشركين ولأصحاب الديانات الأخرى وللمرتدّ من المسلمين.

وهذا المعنى هو المراد غالباً من الإسلام في الروايات مثل صحيحة فضيل بن يسار عن أبي عبـد الله عليه‌السلام : «الإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء» (١).

__________________

(١) الكافي ٢ / ٢٦ ح ٣.

٩٧

ومثل صحيحة حمران عن أبي جعفر عليه‌السلام حيث ورد فيها : «والإسلام ما ظهر من قول أو فعل وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها وبه حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح ...» (١) وغير ذلك من الروايات.

ومنه يظهر أنّ الإسلام بهذا المعنى يدخل فيه كلّ الفرق الإسلامية ممّن يُظهِر الشهادتين إذا لم يصدر منه ما ينافي الإقرار بهما ، وكذا يدخل فيه المنافقون وهم الذين يظهرون الإقرار بالشهادتين ويخفون الكفر.

المعنى الثاني :

الإسلام الواقعي وهو التصديق والإيمان القلبي بالأصول الأساسية للإسلام بما فيها الإمامة والولاية مع إظهار ذلك ، ولعلّه المراد بقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ) (٢) ، ويترتّب على ذلك جميع الآثار الدنيوية للإسلام بالمعنى الأوّل مضافاً إلى آثار أُخرويَة مثل صحّة الأعمال واستحقاق الثواب عليها وعدم الخلود في النار ونحو ذلك.

فالمعتبر في الإسلام الواقعي ـ مضافاً إلى الإقرار بالشهادتين ـ أمران :

١ ـ التصديق والإذعان القلبي فلا يكفي مجرّد الإقرار باللسان.

٢ ـ الاعتقاد بالأصول الأساسية للإسلام كالإمامة والعدل فلا يكفي الاعتقاد بالتوحيد والنبوّة فقط.

__________________

(١) الكافي ٢ / ٢٦ ح ٥.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٩.

٩٨

ومنه يظهر :

إنّ الأصول الخمسة المعروفة كلّها أصول دين وأصول للإسلام الواقعي ويطلب من كلّ مكلّف الاعتقاد بها جميعاً وأنّ الاعتقاد ببعضها فقط لا يصيّر المكلّف مسلماً واقعياً.

نعم يجري على الألسنة التفريق بين الأصول الخمسة بجعل بعضها أصول دين كالتوحيد والنبوّة وبعضها أصول مذهب كالإمامة والعدل إلاّ أنّ هذا ناظر إلى الإسلام بالمعنى الأوّل حيث لا يعتبر فيه أزيد من الإقرار بالتوحيد والنبوّة ـ كما تقدّم ـ فيصحّ أن يقال إنّ أصول الإسلام الظاهري ـ الذي تترتّب عليه الآثار الدنيوية السابقة ـ هي عبارة عن التوحيد والنبوة دون الإمامة والعدل.

إلاّ أنّ هذا بلحاظ مرحلة الظاهر وكيفية التعامل الدنيوي مع الآخرين ؛ وأمّا الإسلام الواقعي ، الإسلام الذي يريد الله سبحانه وتعالى من عباده التديّن به ، الإسلام الذي بشَّر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وبلّغه إلى الناس ـ فهو شيء آخر وليست أصوله وركائزه التوحيد والنبوّة فقط بل الإمامة والعدل وسائر ما يطلب منّا الإيمان والاعتقاد به فهي كلّها أصول لهذا الدين.

وقد عرفت سابقاً أن الإسلام الظاهري لا يعتبر فيه الإذعان والتصديق القلبي بل يكفي فيه مجرّد الإقرار بالشهادتين لساناً ، ومن الواضح أنّ هذا لا يمكن أن يكون هو الدين الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من عند الله سبحانه وتعالى وليس هو الإسلام في قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ) (١).

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٩.

٩٩

وأمّا الإيمان فهو يطلق على معان عديدة مذكورة في الكتب ذات الاختصاص إلاّ أنّ المهمّ منها معنيان :

الأوّل :

التصديق والإذعان القلبي الجوانحي في قبال التصديق الظاهري والإقرار اللساني ، ولعلّه المراد بقوله تعالى : (وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٦) وقد عرفت أنّ الإيمان بهذا المعنى ليس شرطاً في الإسلام الظاهري نعم هو شرط في الإسلام الواقعي.

الثاني :

التصديق القلبي بالأصول الأساسية مع الإقرار اللساني ، وهو بهذا المعنى يرادف الإسلام الواقعي.

وقد أطلق الإيمان وأريد به هذا المعنى في كثير من الروايات مثل ما دلّ على أنّ الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان كموثّقة سماعة قال : «قلت لأبي عبـد الله عليه‌السلام : أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان؟

فقال : إنّ الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان.

فقلت : فصفهما لي.

فقال : الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس.

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٤.

١٠٠