أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) : لتختبرنّ في أموالكم بأداء الحقوق الواجبة فيها ، أو بذهابها وأنفسكم بالتكاليف الشاقة كالجهاد والحج ، او المرض والموت.

(أُوتُوا الْكِتابَ) : اليهود والنصارى.

(الَّذِينَ أَشْرَكُوا) : العرب.

(فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) : يريد أن الصبر والتقوى من الأمور الواجبة التى هى عزائم وليس فيها رخص ولا ترخيص بحال من الأحوال.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تعزية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لقد جاء في الآية السابقة تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما آلمه من تكذيب اليهود والمشركين له ، وفي هذه الآية أعظم تسلية وعزاء ، إذ أخبر تعالى فيها بأن كل نفس مهما علت أو سفلت ذائقة الموت (١) لا محالة ، وإن الدنيا ليست دار جزاء وإنما هى دار كسب وعمل ، ولذا قد يجرم فيها المجرمون ويظلم الظالمون ، ولا ينالهم مكروه ، وقد يحسن فيها المحسنون ويصلح المصلحون ولا ينالهم محبوب ، وفي هذا تسلية عظيمة وأخرى : العلم بأن الحياة الدنيا بكل ما فيها لا تعدو كونها متاع الغرور ، أي متاع زائل غار ببهرجه ، وجمال منظره ، ثم لا يلبث ان يذهب ويزول. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٨٥) أما الآية الثانية (١٨٦) ففيها يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنهم لا محالة مختبرون في أموالهم وفي أنفسهم. في أموالهم بالجوائح ، وبالواجبات ، وفي أنفسهم بالمرض والموت والتكاليف الشاقة كالجهاد والحج والصيام ، وانهم لا بد وأن يسمعوا من أهل الكتاب والمشركين أذى كبيرا كما قال فنحاص : الله فقير و (٢) نحن أغنياء أو كما قال النصارى : المسيح ابن الله ، وكما قال المشركون : اللات والعزى ومناة آلهة مع الله. ثم حثهم تعالى على الصبر

__________________

(١) من أحكام الاحتضار تلقين لا إله إلا الله وقراءة يس لتخفيف سكرات الموت لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من ميت يقرأ عنده يس إلّا هون عليه» وحديث أبي داود «اقرأوا يس على موتاكم» ومن أحكام الموت تغميض العينين وغسله وكفنه والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وتعجيل دفنه والإسراع في المشي به لحديث : «أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم».

(٢) قال ابن أبي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارجع إلى رحلك لا تؤذنا في مجالسنا ، وكان كعب بن الأشرف ينظم القصائد يسب فيها المسلمين ويؤلب فيها عليهم الكافرين ، بل كان يتشبب بنساء المؤمنين ، ولذا أذن الرسول في اغتياله فقتله غيلة محمد بن مسلمة وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.

٤٢١

والتقوى فقال وإن تصبروا وتتقوا فإن صبركم وتقواكم مما أوجب الله تعالى عليكم وليس هو من باب الندب والاستحباب بل هو من باب الفرض والوجوب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ليست الدار الدنيا بدار جزاء وانما هى دار عمل.

٢ ـ تعريف الفوز الحق وهو الزحزحة عن النار ودخول الجنة.

٣ ـ بيان حقيقة هذه الحياة وأنها كمتاع خادع لا يلبث ان يتلاشى ويضمحل.

٤ ـ الابتلاء ضرورى فيجب الصبر والتقوى فإنها من عزائم الأمور لا من رخصها.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ (١) لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

شرح الكلمات :

الميثاق : العهد المؤكد باليمين.

(أُوتُوا الْكِتابَ) : اليهود والنصارى.

الكتمان : إخفاء الشيء وجحوده حتى لا يرى ولا يعلم.

(فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) : ألقوه وطرحوه ولم يلتفتوا إليه وهو ما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه من الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به عن الإسلام.

__________________

(١) الضمير عائد إلى الكتاب أي أقسم عليكم بجلالي وكمالي لتظهرنّ جميع ما في الكتاب من الأحكام والأخبار ومنها نعوت النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفاته.

٤٢٢

(وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) : اعتاضوا عنه حطام الدنيا ومتاعها الزائل اذ كتموه ، ابقاء على منافعهم الدنيوية.

(أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) : أي يثنى عليهم ويذكروا بخير وهم لم يفعلوا ما يوجب لهم ذلك.

(بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) : بمنجاة من العذاب في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب أليم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في اليهود فيقول تعالى لنبيه ، واذكر لهم إذ أخذ الله ميثاق الذين اوتوا الكتاب وهم اليهود والنصارى أخذ على علمائهم العهد المؤكد بأن يبينوا للناس نعوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابهم ، وأن يؤمنوا به ويتابعوه على ما جاء به من الهدى ودين الحق وهو الإسلام ، ولكنهم كتموه ونبذوه وراء ظهورهم فلم يلتفتوا إليه واستبدلوا بذلك ثمنا قليلا وهو الجاه والمنصب والمال قال تعالى : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وذم الله تعالى ذلك الثمن القليل فقال فبئس ما يشترون هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٨٧) وأما الآية الثانية (١٨٨) (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا (١) بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). فإن الله تعالى يقول لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تحسبن يا رسولنا الذين يفرحون بما اتوا من الشر والفساد بتحريف كلامنا وتبديل اوامرنا وتغيير شرائعنا وهم مع ذلك يحبون أن يحمدهم الناس أي يشكروهم ويثنوا عليهم ، ما لم يفعلوا من الخير والإصلاح إذ عملهم كان العكس وهو الشر والفساد فهؤلاء من اليهود ولا تحسبنهم بمفازة أي بمنجاة من العذاب ، ولهم عذاب أليم يوم القيامة. وأما الآية الثالثة (١٨٩) فقد أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض ، وأنه على كل شيء قدير فدلل بذلك على قدرته على البطش بالقوم والانتقام منهم ، وانه منجز وعيده لهم وهو عذاب الدنيا ، وعذاب الآخرة فقال : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

__________________

(١) روى البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغزو اعتذروا وحلفوا وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية ، وروي في سبب نزولها الخبر الآتي : إن مروان بعث بأحد رجاله إلى ابن عباس يسأله قائلا : لئن كان كل امرىء منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذّبا لنعذبنّ أجمعين؟ فقال ابن عباس مالكم وهذه إنّما نزلت هذه في أهل الكتاب ثمّ تلا الآية : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ) إلى قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

٤٢٣

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ أخذ الله الميثاق على علماء أهل الكتاب ببيان الحق يتناول علماء (١) الإسلام فإن عليهم أن يبثوا الحق ويجهروا به ، ويحرم عليهم كتمانه (٢) أو تأويله ارضاء للناس ليحوزوا على مكسب دنيوي مالا أو جاها أو سلطانا.

٢ ـ لا يجوز للمسلم ان يحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والمعروف ، بل من الكمال أن لا يرغب المسلم في مدح الناس وثنائهم وهو فاعل لما يستوجب ذلك فكيف بمن لم يفعل ثم يحب أن يحمد. بل بمن يفعل الشر والفساد ويحب ان يحمد عليه بالتصفيق (٣) له وكلمة يحيى فلان ....

٣ ـ ملك الله تعالى لكل شيء وقدرته على كل شيء توجب الخوف منه والرغبة إليه وأكثر الناس عن هذا غافلون ، وبه جاهلون.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ

__________________

(١) قال محمد بن كعب : لا يحل لعالم أن يسكت على علمه ولا لجاهل أن يسكت على جهله قال الله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية. وقال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وقال علي رضي الله عنه : ما أخذ الله على الجاهلين أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا.

(٢) شاهده ما جاء من طرق متعددة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» وشاهده أيضا : حديث البخاري : «من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة».

(٣) هذه حال الكثير من زعماء أمّة الإسلام في عصور انحطاطها وفساد عقائدها وأخلاقها وانحراف سلوكها نتيجة كيد المجوس لها واليهود والنصارى كذلك.

٤٢٤

آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))

شرح الكلمات :

(فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي في وجودهما من العدم.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : تعاقبهما هذا يجىء وذاك يذهب ، هذا مظلم وذاك مضىء.

(لَآياتٍ) : دلائل واضحة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.

(لِأُولِي الْأَلْبابِ) : أصحاب العقول التى تدرك بها الأشياء وتفهم بها الأدلة

(رَبَّنا) : يقولون : ربنا الخ ..

(باطِلاً) : لا لشيء مقصود منه ، وإنما هو من باب اللعب.

(سُبْحانَكَ) (١) : تنزيها لك عن العبث واللعب ، وعن الشريك والولد.

(فَقِنا عَذابَ النَّارِ) : أجرنا واحفظنا من عذاب النار بتوفيقك لنا للأعمال الصالحة وتجنيبنا الأعمال الفاسدة الموجبة لعذاب النار.

(أَخْزَيْتَهُ) : أذللته وأشقيته.

__________________

(١) روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن معنى سبحان الله فقال : «تنزيه الله عن السوء»

٤٢٥

(كَفِّرْ عَنَّا) : استر وامح.

(الْأَبْرارِ) : جمع برّ أو بار وهم المتمسكون بالشريعة.

(عَلى رُسُلِكَ) : على ألسنة رسلك من النصر والتأييد.

(الْمِيعادَ) : الوعد.

(هاجَرُوا) : تركوا بلادهم وديارهم وأموالهم وأهليهم فرارا بدينهم.

(أُوذُوا فِي سَبِيلِي) : آذاهم المشركون من اجل الإيمان بى ورسولى وطاعتنا.

(ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) : أي أجرا جزاء كائنا من عند الله ، وهو الجنات بعد تكفير السيئات.

معنى الآيات :

لما قال اليهود تلك المقالة السيئة : ان الله تعالى فقير ونحن أغنياء ، وحرفوا الكتاب وبدلوا وغيروا ويحبون ان يحمدوا على باطلهم كانت مواقفهم هذه دالة على عمى في بصائرهم ، وضلال في عقولهم ، فذكر تعالى من الآيات الكونيّة ما يدل على غناه ، وافتقار عباده إليه ، كما يدل على ربوبيته على خلقه ، وتدبيره لحياتهم وتصرفه في أمورهم ، وانه ربهم لا رب لهم غيره وإلههم الذي لا إله لهم سواه إلا أن هذا لا يدركه الا أرباب العقول الحصيفة والبصائر النيرة فقال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ (١) وَالْأَرْضِ ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) نعم ان في ايجاد السموات والأرض من العدم وفي اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر والظلام والضياء ، والتعاقب بذهاب هذا ومجيء ذاك دلائل واضحات على غنى الله وافتقار عباده وبراهين ساطعة على ربوبيته لخلقه. والوهيته لهم. هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٩٠) وأما الآيات الأربع بعدها فقد تضمنت وصفا لأولى الألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض فيهتدون الى معرفة الربّ تعالى فيذكرونه ويشكرونه. فقال تعالى عنهم : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً (٢) وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) وهذا شامل لحالهم في الصلاة (٣)

__________________

(١) صحّ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام من الليل قرأ هذه الآيات العشر فلذا استحب لمن قام من ليله ليتجهد أن يقرأها ويتفكر فيها وورد عن عثمان : من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة.

(٢) شاهد هذا قول عائشة في الصحيح : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الله على كل أحيانه» ومن الأدب أن يستثني من هذا لعموم حالة التّبول وقضاء الحاجة في الكنف.

(٣) لحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما إذ قال كان بي البواسير فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة فقال : «صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه الأئمة وفي مسلم : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى النافلة قاعدا وذلك قبل موته بعام».

٤٢٦

وخارج الصلاة. وقال عنهم : (وَيَتَفَكَّرُونَ (١) فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي في إيجادهما وتكوينهما وإبداعهما ، وعظيم خلقهما ، وما أودع فيهما من مخلوقات. فلا يلبثون أن يقولوا : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أي لا لحكمة مقصودة ولا لهدف مطلوب ، بل خلقته بالحق وحاشاك ان تكون من اللاعبين العابثين سبحانك تنزيها لك عن العبث واللعب بل خلقت ما خلقت لحكم عالية خلقته لأجل أن تذكر وتشكر ، فتكرم الشاكرين الذاكرين ، فى دار كرامتك وتهين الكافرين في دار عذابك ، ولذا قالوا : في الآية (١٩٢) (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ). والظالمون هم الكافرون ، ولذا يعدمون النصير ويخزون بالعذاب المهين ، وقال عنهم في الآية (١٩٣) (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) ، والمنادى هو القرآن الكريم والرسول (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوسلوا بإيمانهم لربهم طالبين أشرف المطالب واسماها مغفرة ذنوبهم ووفاتهم مع الأبرار فقالوا (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) (٣) وهو ما جاء في الآية (١٩٣) وأما الآية الخامسة (١٩٤) فقد سألوا ربهم أن يعطيهم ما وعدهم على ألسنة رسله من النصر والتمكين في الأرض ، هذا في الدنيا ، وأن لا يخزيهم يوم القيامة بتعذيبهم في النار ، فقالوا : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) ، أي وعدك الحق وفي الآية السادسة (١٩٥) ذكر تعالى استجابته لهم فقال لهم : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بل أجازى الكل بعمله لا أنقصه له ذكرا كان أو أنثى لأن بعضكم من بعض الذكر من الأنثى والانثى من الذكر فلا معنى للتفرقة بينكم ، وذكر تعالى بعض أعمالهم الصالحة التى استوجبوا بها هذا الإنعام فقال : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا ، وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) ، وواعدهم قائلا : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، وكان ذلك ثوابا منه تعالى على أعمالهم الصالحة ، والله عنده حسن الثواب ، فليرغب إليه ، وليطمع فيه ، فإنه البر الرحيم.

__________________

(١) الفكرة : تردد القلب في الشيء ، والتفكر ممدوح ما كان في خلق السموات والأرض وفي أحوال القيامة والمعاد والجزاء والدار الآخرة وورد النهي عن التفكر في ذات الله ، إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تفكروا في الخلق ولا تفكّروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره».

(٢) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين ، وقال قتادة وغيره هو القرآن ، والكلّ صحيح ، والرسول نادى والقرآن نادى إلى اليوم.

(٣) لم ما قالوا وتوفنا مع الأبرار؟ إنهم هضما لأنفسهم وتواضعا لربهم وإعلانا عن رغبتهم في الالتحاق بربهم حبّا في لقائه والحياة إلى جواره في الملكوت الأعلى مع النبيين ، والصديقين والشهداء والصالحين.

٤٢٧

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب التفكر في خلق السموات والأرض للحصول على المزيد من الإيمان والإيقان.

٢ ـ استحباب تلاوة هذه الآيات : إن في خلق السموات الى آخر السورة وذلك عند القيام للتهجد آخر الليل لثبوت ذلك في الصحيح (١) عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ استحباب ذكر الله في كل (٢) حال من قيام أو قعود أو اضطجاع.

٤ ـ استحباب التعوذ من النار بل وجوبه ولو مرة في العمر.

٥ ـ مشروعية التوسل الى الله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال.

٦ ـ فضل الهجرة والجهاد في سبيل الله.

٧ ـ المساواة بين المؤمنين والمؤمنات في العمل والجزاء.

٨ ـ استحباب الوفاة بين الأبرار وهم أهل الطاعة لله ولرسوله والصدق فيها وذلك بالحياة معهم والعيش بينهم لتكون الوفاة بإذن الله معهم.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) روى الشيخان عن ابن عباس أنه نام ليلة عند خالته ميمونة قال فتحدث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر في السماء فقال : إنّ في خلق السموات الآيات ، ثم قام فتوضأ واستنّ ثمّ صلى إحدى عشرة ركعة ثم أذّن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح».

(٢) شاهده حديث عائشة الصحيح «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه».

٤٢٨

سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

شرح الكلمات :

(لا يَغُرَّنَّكَ) : لا يكن منك اغترار ، المخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أصحابه واتباعه.

(تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) : تصرفهم فيها بالتجارة والزراعة والأموال والمآكل والمشارب.

(مَتاعٌ قَلِيلٌ) : تصرفهم ذلك هو متاع قليل يتمتعون به أعواما وينتهى.

(مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) : مآلهم بعد التمتع القليل الى جهنم يأوون اليها فيخلدون فيها أبدا.

(نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) : النّزل : ما يعد للضيف من قرى : طعام وشراب وفراش.

الأبرار : جمع بار وهو المطيع لله ولرسوله الصادق في طاعته.

(وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) : القرآن والسنة ، وما أنزل اليهم التوراة والإنجيل.

(خاشِعِينَ لِلَّهِ) : مطيعين مخبتين له عزوجل.

(لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) : لا يجحدون أحكام الله وما أمر ببيانه للناس مقابل منافع تحصل لهم.

(اصْبِرُوا وَصابِرُوا) (١) : الصبر حبس النفس على طاعة الله ورسوله ، والمصابرة : الثبات والصمود أمام العدو.

(وَرابِطُوا) : المرابطة : لزوم الثغور منعا للعدو من التسرب الى ديار المسلمين.

(تُفْلِحُونَ) : تفوزون بالظفر المرغوب ، والسلامة من المرهوب في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) الصبر المأمور به له مواطن ثلاثة : وهي صبر على الطاعات وصبر دون المعاصي وصبر على البلاء فلا جزع ولا تسخط ولكن رضا وتسليم.

٤٢٩

معنى الآيات :

ينهى الله تبارك وتعالى دعاة الحق من هذه الأمة في شخصية نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يغرّهم (١) اى يخدعهم ما يتصرف فيه أهل الكفر والشرك والفساد من مكاسب وأرباح وما يتمتعون به من مطاعم ومشارب ومراكب ، فيظنوا أنهم على هدى أو أن الله تعالى راض عنهم وغير ساخط عليهم ، لا ، لا ، إنما هو متاع في الدنيا قليل ، ثم يردون الى أسوأ مأوى وشر قرار إنه جهنم التى طالما مهدوا لدخولها بالشرك والمعاصى ، وبئس المهاد مهدوه لأنفسهم الخلود في جهنم. هذا معنى الآيتين الاولى والثانية وهما قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ (٢) الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتاعٌ قَلِيلٌ ، ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) ، أما الآية الثالثة (١٩٨) ، وهى قوله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ (٣) لِلْأَبْرارِ) فإنها قد تضمنت استدراكا حسنا وهو لما ذكر في الآية قبلها مآل الكافرين وهو شر مآل جهنم وبئس المهاد ، ذكر في هذه الآية مآل المؤمنين وهو خير مآل : (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، وما عند الله تعالى من النعيم المقيم في دار السّلام خير لأهل الإيمان والتقوى من الدنيا وما فيها فلا يضرهم ان يكونوا فقراء ، معسرين ، وأهل الكفر أغنياء موسرين أما الآية الرابعة (١٩٩) وهى قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ (٤) لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) الآية فانها تضمنت الرد الإلهى على بعض المنافقين الذين انكروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين صلاتهم على النجاشى بعد موته ، إذ قال بعضهم انظروا الى محمد وأصحابه يصلون على علج مات في غير ديارهم وعلى غير ملتهم ، وهم يريدون بهذا الطعن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فرد الله تعالى عليهم بقوله : وإن من أهل الكتاب أي اليهود والنصارى لمن يؤمن بالله ، وما أنزل اليكم أيها المؤمنون ، وما أنزل

__________________

(١) أي خير مما يتقلب فيه الكفار من متاع الدنيا في الدنيا.

(٢) روي في سبب نزول هذه الآية أنّ بعضا من المسلمين قالوا : هؤلاء الكفار لهم تجائر وأموال واضطراب في البلاد ، وقد هلكنا نحن من الجوع فنزلت الآية.

(٣) الغرّ والغرور هو الإطماع في أمر محبوب على نية عدم وقوعه لمن يطمع به ويغرر ، وهو أيضا إظهار الأمر المضرّ في صورة النافع ، وهو مشتق من الغرّة وهي الغفلة يقال : رجل غرّ إذا كان ينخدع لمن يخدعه ، وفي الحديث : «المؤمن غرّ كريم».

(٤) ثبت في الصحيحين أنّ النجاشي لما مات نعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أصحابه ، وقال إنّ أخا لكم بالحبشة قد مات فصلّوا عليه فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه. وروى غير واحد عن أنس بن مالك أنه قال لما توفي النجاشي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استغفروا لأخيكم. فقال بعض الناس يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة فنزلت : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ...) الآية.

٤٣٠

اليهم في التوراة والانجيل خاشعين لله ، أي خاضعين له عابدين ، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا كسائر اليهود والنصارى حيث يحرفون كلام الله ويبدلونه ويخفون منه ما يجب ان يظهروه ويبينوه حفاظا على منصب أو سمعة أو منفعة مادية ، أما هؤلاء وهم عبد الله بن سلام من اليهود وأصحمة النجاشى من النصارى ، وكل من أسلم من أهل الكتاب فإنهم المؤمنون حقا المستحقون للتكريم والإنعام قال تعالى فيهم أولئك لهم أجرهم عند ربهم يوفيهم إياه يوم القيامة إن الله سريع الحساب ، إذ يتم حساب الخلائق كلهم في مثل نصف يوم من أيام الدنيا.

هذا ما تضمنته الآية الرابعة (١٩٩) أما الآية الخامسة والأخيرة (٢٠٠) وهى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا (١) وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فإنها تضمنت دعوة كريمة ونصيحة غالية ثمينة للامة الرحيمة بأن تصبر على الطاعات وعلى الشدائد والملمات فتصابر اعداءها حتى يستلموا او يسلموا القياد لها. وترابط بخيولها وآلات حربها في حدودها وثغورها مرهبة عدوها حتى لا يطمع في غزوها ودخول ديارها. ولتتق الله تقوى تكون سببا فى فوزها وفلاحها بهذه الرحمة الربانية ختمت سورة آل عمران المباركة ذات الحكم والأحكام وتليها سورة النساء.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تنبيه المؤمنين وتحذيرهم من الاغترار بما يكون عليه الكافرون من سعة الرزق وهناءة العيش فإن ذلك لم يكن عن رضى الله تعالى عنهم ، وإنما هو متاع في الدنيا حصل لهم بحسب سنة الله تعالى في الكسب والعمل ينتج لصاحبه بحسب كده وحسن تصرفه.

٢ ـ ما أعد لأهل الإيمان والتقوى وهم الأبرار من نعيم مقيم في جوار ربهم خير من الدنيا وما فيها.

٣ ـ شرف مؤمنى أهل الكتاب وبشارة القرآن لهم بالجنة وعلى رأسهم عبد الله بن سلام وأصحمة النجاشى.

__________________

(١) المصابرة : هي الصبر في وجه العدو الصابر ، ومن هنا كانت المصابرة أشد من الصبر لأنها صبر في وجه عدو صابر فأيهما لم يثبت على صبره هلك ، وأصبح النجاح لأطولهما صبرا قال زفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام

سقيناهم كأسا سقونا بمثلها

ولكنهم كانوا على الموت أصبرا

٤٣١

٤ ـ وجوب الصبر والمصابرة والتقوى والمرابطة (١) للحصول على الفلاح الذى هو الفوز المرغوب والسلامة من المرهوب في الدنيا والآخرة.

سورة النّساء

مدنية (٢)

وآياتها ١٧٦ آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

شرح الكلمات :

(النَّاسُ) : البشر ، واحد الناس من غير لفظه وهو إنسان.

(اتَّقُوا رَبَّكُمُ) : خافوه ان يعذبكم فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه.

(مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (٣) : هى آدم عليه‌السلام.

(وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) : خلق حواء من آدم من ضلعه (٤).

(وَبَثَ) : نشر وفرق في الأرض من آدم وزوجه رجالا ونساء كثرا.

(تَسائَلُونَ بِهِ) : كقول الرجل لأخيه أسألك بالله أن تفعل لى كذا.

(وَالْأَرْحامَ) : الأرحام جمع رحم ، والمراد من اتقاء الأرحام صلتها وعدم قطعها.

(رَقِيباً) : الرقيب : الحفيظ العليم.

__________________

(١) المرابطة مصدر رابط رباطا إذا حبس نفسه في ثغر من ثغور المسلمين يحرسها من مداهمة العدو الكافر لها ، وفضل الرباط عظيم ووردت فيه أحاديث كثيرة نكتفي منها بما يلي حديث البخاري : «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» وحديث مسلم : «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه» وإن مات مرابطا جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتّان.

(٢) الآية : إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها» فإنها مكية فإنها نزلت يوم الفتح بمكة في شأن عثمان بن طلحة الحجي.

(٣) لفظ النفس مؤنث قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أي النفس ولذا وصفت هنا بواحدة لا بواحد.

(٤) قال قتادة : خلقت حواء من قصيراء آدم وفي الحديث : «خلقت المرأة من ضلع ...».

٤٣٢

معنى الآية الكريمة :

ينادى الرب تبارك وتعالى عباده بلفظ عام يشمل مؤمنهم وكافرهم : يا أيها الناس ويأمرهم بتقواه عزوجل وهى اتقاء عذابه في الدنيا والآخرة بالإسلام التام إليه ظاهرا وباطنا. واصفا نفسه تعالى بأنه ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة وهى آدم الذي خلقه من طين ، وخلق من تلك النفس زوجها و (١) هي حواء ، وأنه تعالى بث منهما أى نشر منهما في الأرض رجالا كثيرا ونساء كذلك ثم كرر الأمر بالتقوى إذ هى ملاك الأمر فلا كمال ولا سعادة بدون الالتزام بها قائلا واتقوا الله (٢) الذى تساءلون به والأرحام (٣) ، أي اتقوا الله ربكم الذي آمنت به قلوبكم فكنتم إذا أراد أحدكم من أخيه شيئا قال له أسألك بالله إلا اعطيتنى كذا .. واتقوا الأرحام (٤) ان تقطعوها فإن في قطعها فسادا كبيرا وخللا عظيما يصيب حياتكم فيفسدها عليكم ، وتوعدهم تعالى ان لم يمتثلوا أمره بتقواه ولم يصلوا أرحامهم بقوله إن الله كان عليكم رقيبا مراعيا لأعمالكم محصيا لها حافظا يجزيكم بها ألا أيها الناس فاتقوه.

هداية الآية الكريمة

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ فضل هذه الآية إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خطب في حاجة تلا آية آل عمران (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). وتلا هذه الآية ، ثم آية الأحزاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) ثم يقول أما بعد ويذكر حاجته.

٢ ـ أهمية الأمر بتقوى الله تعالى اذ كررت في آية واحدة مرتين في أولها وفي آخرها.

٣ ـ وجوب صلة الأرحام وحرمة قطعها.

٤ ـ مراعاة الأخوة البشرية بين الناس واعتبارها في المعاملات.

__________________

(١) الفصيح هو لفظ زوج ولذا لم يرد في القرآن بالتاء قط ، وتساهل فيه الفقهاء لأجل التفرقة بين الرجل والمرأة ولهذا يقولون :

للزوج كذا وللزوجة كذا.

(٢) الاتيان باسم الجلالة هنا (وَاتَّقُوا اللهَ) بدل اتقوا ربكم من أجل تربيه المهابة في نفس السامعين لأنّ المقام مقام تشريع فلا بد من إعداد النفوس لقبوله والنهوض به.

(٣) الأرحام : معطوف على اسم الجلالة منصوب أي اتقوا الله أن تعصوه والأرحام أن تقطعوها ، وقرىء الأرحام بالجر عطفا على الضمير في به وهو قبيح إذ لا يعطف على الضمير المجرور إلّا إذا أعيد حرف الجرّ إلا ما كان من ضرورة الشعر كقول القائل :

فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيام من عجب

وعظم القبح لأنّ في ذلك حلف بالرحم والحلف بغير الله حرام.

(٤) الأرحام : اسم لكل الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره ، وصلة الرحم واجبة إجماعا وفي الحديث : «صلي أمك» أمر لأسماء وأمها كانت يومئذ كافرة وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه».

٤٣٣

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))

شرح الكلمات :

(الْيَتامى) : جمع يتيم ذكرا كان أو أنثى وهو من مات والده وهو غير بالغ الحلم.

(وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) : الخبيث الحرام والطيب الحلال والمراد بها هنا الردىء والجيد.

(حُوباً كَبِيراً) : الحوب الاثم الكبير العظيم.

ان لا تقسطوا (١) : ان لا تعدلوا.

(مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) : أي اثنتين أو ثلاث ، أو أربع إذ لا تحل الزيادة على الأربع. (٢)

ادنى ان لا تعولوا : أقرب ان لا تجوروا بترك العدل بين الزوجات.

(صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) (٣) : جمع صدقة وهى الصداق والمهر ، ونحلة بمعنى فريضة واجبة.

(هَنِيئاً) : الهنيء : ما يستلذ به عند أكله.

(مَرِيئاً) : المريء : ما تحسن عاقبته بأن لا يعقب آثارا سيئة.

__________________

(١) روى مسلم عن عائشة في قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) إلى (وَرُباعَ) قالت لعروة يا بن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا ويبلغوا بهن سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم الحديث.

(٢) استنبط من إباحة أربع أن الزوج عليه أن يبيت مع زوجته ليلة من أربع ولا يجوز التقصير في ذلك إلّا برضاها.

(٣) وبنو تميم يقولون : صدقة بضم الصاد والجمع صدقات ، والنحلة بكسر النون وضمها أصلها العطاء يقال نحله كذا أعطاه ، فالصداق عطية من الله للمرأة ، وما دام عطية الله فهي إذا فريضة واجبة.

٤٣٤

معنى الآيات :

لما أمر تعالى بصلة الأرحام وحرم قطعها في الآية السابقة أمر في هذه الآية أوصياء اليتامى ان يعطوا اليتامى (١) أموالهم إذا هم بلغوا سن الرشد وآنسوا منهم الرشد فقال تعالى وآتوا اليتامى أموالهم. ونهاهم محرما عليهم أن يستبدلوا أموال اليتامى الجيدة بأموالهم الرديئة فقال تعالى : ولا تتبدلوا الخبيث أي الردىء من أموالكم بالطيب من أموالهم ، لما في ذلك من أذية اليتيم في ماله ، ونهاهم أيضا أن يأكلوا أموال يتاماهم مخلوطة مع أموالهم لما في ذلك من أكل مال اليتيم بغير حق فقال تعالى : ولا تأكلوا أموالهم (٢) إلى أموالكم ، وعلل ذلك بأنه إثم عظيم فقال عزوجل : إنه ـ أي الأكل ـ كان حوبا كبيرا. والحوب الإثم. هذا معنى الآية الأولى (٢) (وَآتُوا الْيَتامى (٣) أَمْوالَهُمْ ، وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً (٤) كَبِيراً) وأما الآية الثانية (٣) فقد أرشد الله تعالى أولياء اليتيمات ان هم خافوا ان لا يعدلوا معهن إذا تزوج أحدهم وليته أرشدهم الى أن يتزوجوا ما طاب لهم من النساء غير ولياتهم مثنى ، وثلاث ورباع (٥). يريد اثنتين اثنتين أو ثلاث ثلاث أو أربع أربع كل بحسب قدرته ، فهذا خير من الزواج بالولية فيهضم حقها وحقها آكد لقرابتها. هذا معنى قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ). وقوله (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يريد تعالى وإن خاف المؤمن ألا يعدل بين زوجاته لضعفه فليكتف بواحدة ولا يزد عليها غيرها أو يتسرّى بمملوكته إن كان له مملوكة فإن هذا أقرب الى أن لا يجور المؤمن ويظلم نساءه. هذا معنى قوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا.) وفي الآية الرابعة والأخيرة يأمر تعالى المؤمنين بأن يعطوا النساء مهورهن فريضة منه تعالى فرضها على

__________________

(١) هذا باعتبار ما كانوا عليه أمّا اليوم فليسوا يتامى إذ لا يتم مع البلوغ.

(٢) قيل إلى هنا بمعنى مع وهو سائغ إلّا أنها على بابها أولى والتقدير : ولا تأكلوا أموالهم مضافة إلى أموالكم.

(٣) أي اعطوا يقال : آتاه كذا أعطاه إياه والإيتاء مصدر الاعطاء ، ويقال لفلان أتو أي عطاء ويقال أتوت الرجل آتوه إتاوة وهي الرشوة ، ولا يتاء اليتامى أموالهم صورتان الأولى : غذاؤهم وكساؤهم ما داموا تحت الولاية ، والثانية : دفع أموالهم إليهم وذلك عند البلوغ والرشد.

(٤) الحوب : الإثم وفيه لغات : الحوب بضم الحاء ، والحوب بفتحها ، والحيابة والحاب أيضا وهو مصدر كالقال من قال قولا وقالا ، ويكون الحوب بالضم بمعنى الوحشة ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي أيوب : «إنّ طلاق أم أيوب لحوب» والحوبة الإثم ومنه : اللهم اغفر حوبتي والحوبة الحاجة ومنه : إليك أرفع حوبتي ، أي : حاجتي هذا في الدعاء.

(٥) الإجماع على أنّ المراد من قوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أن ينكح الرجل اثنتين أو ثلاثا أو أربعا على التخيير وليس معناه الجمع بين تسع نساء ومن فعل وهو عالم يحدّ بالرجم ، وإن كان جاهلا يحد بالجلد.

٤٣٥

الرجل لامرأته ، فلا يحل له ولا لغيره أن يأخذ منها شيئا إلا برضى الزوجة فإن هى رضيت فلا حرج في الأكل من الصداق لقوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ كل مال حرام فهو خبيث وكل حلال فهو طيب.

٢ ـ لا يحل للرجل ان يستبدل جيدا من مال يتيمه بمال رديء من ماله كأن يأخذ شاة سمينة ويعطيه هزيلة أو يأخذ تمرا جيدا ويعطيه رديئا خسيسا.

٣ ـ لا يحل خلط مال اليتيم مع مال الوصي ويؤكلان جميعا لما في ذلك من أكل مال اليتيم ظلما.

٤ ـ جواز نكاح أكثر من واحد إلى أربع مع الأمن من الحيف والجور.

٥ ـ وجوب مهور النساء وحرمة الأكل منها بغير طيب نفس صاحبة المهر وسواء في ذلك الزوج وهو المقصود في الآية أو الأب والأقارب.

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))

شرح الكلمات :

(لا تُؤْتُوا) (١) : لا تعطوا.

__________________

(١) في الآية دليل على مشروعية الحجر على السفيه ، وسواء كان السفه لصغر أو لخفة عقل أو عدم رشد.

٤٣٦

(السُّفَهاءَ) : جمع سفيه وهو من لا يحسن التصرف في المال.

(قِياماً) (١) : القيام : ما يقوم به الشيء فالأموال جعلها الله تعالى قياما أي تقوم عليها معايش الناس ومصالحهم الدنيوية والدينية أيضا.

(قَوْلاً مَعْرُوفاً) : أي قولا تطيب (٢) به نفسه فلا يغضب ولا يحزن.

(وَابْتَلُوا الْيَتامى) : أي اختبروهم كي تعرفوا هل اصبحوا يحسنون التصرف في المال.

(بَلَغُوا النِّكاحَ) : أي سن الزواج وهى البلوغ.

(آنَسْتُمْ) : أبصرتم الرشد في تصرفاتهم (٣).

(إِسْرافاً وَبِداراً) : الإسراف الإنفاق في غير الحاجة الضرورية ، والبدار : المبادرة والمسارعة إلى الأكل منه قبل أن ينقل إلى اليتيم بعد رشده.

(فَلْيَسْتَعْفِفْ) : أي يعف بمعنى يكف عن الأكل من مال يتيمه.

(فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) : أي بقدر الحاجة الضرورية.

(وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) : شاهدا لقرينة فأشهدوا عليهم.

معنى الآيتين :

ما زال السياق الكريم في إرشاد الله تعالى عباده المؤمنين الى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا ، ونجاتهم وفلاحهم في الآخرة فقال تعالى في الآية الأولى (٥) (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ (٤) فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ، فنهاهم تعالى أن يعطوا أموالهم التى هى قوام معاشهم السفهاء من امرأة وولد أو رجل قام به وصف السفه وهو قلة البصيرة بالأمور المالية ، والجهل بطرق التصرف الناجحة مخافة أن ينفقوها في غير وجوهها أو يفسدوها بأي نوع من الإفساد ، كالإسراف ونحوه ، وأمرهم أن يرزقوهم فيها ويكسوهم ، وقال فيها ولم يقل منها إشارة الى أن المال ينبغى أن ينمى في تجارة أو صناعة أو

__________________

(١) (قِياماً) : أصلها قواما فكسر ما قبل الواو فقلبت ألفا قياما وقواما بمعنى واحد والقيام والقوام ما يقيم غيره ، فالأموال بها يتقوم المعاش ، ولذا قيل : الأموال قوام الأعمال.

(٢) كقوله لولد : مالي إليك صائر ، وكأن يدعو لهم : (بارك الله فيكم) أو يقول : هذا مالكم احفظه لكم لتأخذوه يوم ترشدون.

(٣) دفع مال اليتيم إليه يتمّ بشرطين : الرشد والبلوغ فإن وجد أحدهما دون الآخر فلا يتم تسليم المال.

(٤) في هذه الآية دليل على مشروعية الوصاية والولاية والكفالة على الأيتام وبها دليل على وجوب النفقة على الزوجة والأولاد ، وفي الصحيح : «أفضل الصدقة ما ترك غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى وأبدا بمن تعول» وهم الزوجة والواد والعبد.

٤٣٧

زراعة فيبقى رأس المال والأكل يكون من الربح فقط كما أمرهم ان يقولوا لسفائهم الذين منعوهم المال أن يقولوا لهم قولا معروفا كالعدة الحسنة والكلمة الطيبة ، هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الثانية (٦) فقد أمرهم تعالى باختبار (١) اليتامى إذا بلغوا سن الرشد أو ناهزوا البلوغ (٢) بأن يعطوهم شيئا من المال ويطلبوا منهم أن يبيعوا أو يشتروا فاذا وجدوا منهم حسن تصرف دفعوا اليهم أموالهم وأشهدوا عليهم ، حتى لا يقول أحدهم في يوم من الأيام ما أعطيتني مالى ، وكفى بالله حسيبا أي شاهدا ورقيبا حفيظا. ونهاهم عزوجل أن يأكلوا أموال اليتامى إسرافا وبدارا أن يكبروا ويريد لا تأكلوا أموال يتاماكم أيها الولاة والأوصياء (٣) بطريق الإسراف وهو الانفاق الزائد على قدر الحاجة ، والمبادرة هى المسارعة قبل أن يرشد السفيه وينقل إليه المال. ثم أرشدهم الى أقوم الطرق وأسدها في ذلك فقال ومن كان منكم غنيا فليكفّ عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئا ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وذلك بان يستقرض منه ثم يرده اليه بعد الميسرة ، وإن كان الولى فقيرا جاز له أن يعمل بأجر كسائر العمال ، وان كان غنيا فليعمل مجانا احتسابا وأجره على الله والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ مشروعية الحجر على السفيه لمصلحته.

٢ ـ استحباب تنمية الأموال في الأوجه الحلال لقرينة (وَارْزُقُوهُمْ فِيها).

٣ ـ وجوب اختبار السفيه قبل دفع ماله إليه ، إذ لا يدفع إليه المال الا بعد وجود الرشد.

٤ ـ وجوب الإشهاد على دفع المال الى اليتيم بعد بلوغه ورشده.

٥ ـ حرمة أكل مال اليتيم والسفيه مطلقا.

٦ ـ الوالى على اليتيم ان كان غنيا فلا يأكل من مال اليتيم شيئا ، وإن كان فقيرا استقرض ورد عند الوجد واليسار ، وان كان مال اليتيم يحتاج إلى أجير للعمل فيه جاز للولى ان يعمل بأجرة المثل.

__________________

(١) هذه الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه ، وذلك أنّ رفاعة توفي وترك ابنه وهو صغير فأتى عم ثابت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ ابن أخي في حجري فما يحل لي من ماله متى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

(٢) يعرف البلوغ بالاحتلام وانبات شعر العانة أو بلوغ ثمانية عشر سنة. هذا للغلام ، أما الجارية فتزيد بعلامة أخرى هي الحيض والحمل.

(٣) العاجز عن الوصاية لجهل أو عدم قدرته أو ضعف إرادته ينبغي له أن لا يلي مال يتيم أو قاصر لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي ذر «يا أبا ذر إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرنّ على اثنين ولا تلينّ مال يتيم» رواه مسلم.

٤٣٨

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))

شرح الكلمات :

(نَصِيبٌ) : الحظ المقدر (١) في كتاب الله.

(الْوالِدانِ) : الأب والأم.

(الْأَقْرَبُونَ) : جمع قريب وهو هنا الوارث بسب أو مصاهرة أو ولاء.

(نَصِيباً مَفْرُوضاً) : قدرا واجبا لازما.

(أُولُوا الْقُرْبى) : أصحاب القرابات الذين لا يرثون لبعدهم عن عمودى النسب.

(فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) : أعطوهم شيئا يرزقونه.

(قَوْلاً مَعْرُوفاً) : لا إهانة فيه ولا عتاب ، ولا تأفيف.

الخشية : الخوف في موضع الأمن.

(قَوْلاً سَدِيداً) : عدلا (٢) صائبا.

(ظُلْماً) : بغير حق يخول لهم أكل مال اليتيم.

__________________

(١) هذا النصيب الذي أوجبه الله للورثة مجمل وسيأتي تفصيله في آية : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية.

(٢) القول السديد : هو كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد بن أبي وقاص ، وقد مرض مرضا شديدا فعاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه فقال سعد يا رسول الله : إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال : لا. قال فشطره؟ قال : لا. قال : فالثلث؟ قال : الثلث والثلث كثير ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك ان تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس».

٤٣٩

(وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) : سيدخلون سعيرا نارا مستعرة يشوون فيها ويحرقون بها.

معنى الآيات :

لقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال بحجة أن الطفل كالمرأة لا تركب فرسا ولا تحمل كلّا ولا تنكى عدوا ، يكسب (١) ولا تكسب ، وحدث أن امرأة يقال لها أم كحّة مات زوجها وترك لها بنتين فمنعهما أخو الهالك من الإرث فشكت ام كحة الى (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية الكريمة : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ، وَالْأَقْرَبُونَ ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ومن ثم اصبحت المرأة كالطفل الصغير يرثان كالرجال ، وقوله تعالى : مما قل منه اى من المال المتروك او كثر حال كون ذلك نصيبا مفروضا لا بد من اعطائه الوارث ذكرا كان أو أنثى صغيرا أو كبيرا. والمراد من الوالدين الأب والأم ، والأقربون (٣) كالأبناء والإخوان والبنات والاخوات ، والزوج والزوجات هذا ما تضمنته (٤) الآية الأولى (٧) وأما الآية الثانية (٨) فقد تضمنت فضيلة جميلة غفل عنها المؤمنون وهى أن من البر والصلة والمعروف إذا هلك هالك ، وقدمت تركته للقسمة بين الورثة ، وحضر قريب غير وارث لحجبه أو بعده أو حضر يتيم أو مسكين من المعروف ان يعطوا شيئا من تلك التركة قبل قسمتها وان تعذر العطاء لأن الورثة يتامى أو غير عقلاء يصرف أولئك الراغبون من قريب ويتيم ومسكين بكلمة طيبة كاعتذار جميل تطيب به نفوسهم هذا ما تضمنته الآية الثانية وهي قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ (٥) الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) ـ أي من المال ـ المتروك وقولوا لهم قولا معروفا إن تعذر إعطاؤهم لمانع يتم أو عقل. أما الآية الثالثة

__________________

(١) يكسب أي الرجل ولا تكسب أي المرأة.

(٢) فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن» فأنزل الله تعالى هذه الآية ردّا عليهم وإبطالا لقولهم وتصرّفهم الجاهلي ، إذ المفروض أن الصغير والمرأة أولى بالإرث لحاجتهما وخوفهما.

(٣) لفظ الأقربون مجمل ومن هنا أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سويد وعرفجة «ألّا يفرقا من مال أوس شيئا فإن الله جعل لبناته نصيبا ولم يبيّن كم هو حتى أنظر ما ينزل ربّنا فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ) الآية فأرسل إليهما : أن اعطيا أم محة الثمن مما ترك أوس.

ولبناته الثلثين ولكما بقية المال».

(٤) قوله تعالى : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) اختلف أهل العلم في الشيء يتركه المورث وهو لا يقبل القسمة كالدّار الصغيرة ، والجوهرة الواحدة ، وما إلى ذلك. فذهب بعض إلى أنه لا بد من القسمة ، وذهب آخرون ـ وهو الحق إن شاء الله تعالى ـ أنّ مالا يقبل القسمة لفساده يباع ويقسم ثمنه على الورثة ولا شفعة فيه لأنّه لا تتأتى فيه الحدود والشفعة فيما يقسم وتوقع فيه الحدود ، وهذا ليس كذلك لتعذّر قسمته ، ويشهد لهذا الرأي حديث الدار قطني ونصه : لا تعضية (أي لا تفرقه) على أهل الميراث إلّا ما حمل القسم فقرر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن مالا يقبل القسم لا يجوز تعصيته أي تفريقه على الورثة لأنه يفسد بالقسمة فتعيّن أن يباع ويقسم ثمنه.

(٥) الجمهور على أن هذه الآية منسوخة بآية (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية وقال ابن عباس إنها محكمة ، وعلى أنها غير منسوخة شرحناها في التفسير فليتأمّل.

٤٤٠