أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

وذلك لعدم إيمانهم بالله تعالى وعدم حبهم له كما أخبر عنهم بأنهم مذبذبون بين الكفر والإيمان والمؤمنين والكافرين فلا إلى الإيمان والمؤمنين يسكنون ، ولا إلى الكفر والمنافقين يسكنون فهم في تردد وحسرة دائمون ، وهذه حال من يضله الله فإن من يضلل الله لا يوجد لهدايته سبيل.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان صفات المنافقين (١).

٢ ـ قبح الرياء وذم المرائين.

٣ ـ ذم ترك الذكر والتقليل منه لأمر الله تعالى بالإكثار منه في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً).

٤ ـ ذم الحيرة والتردد في الأمور كلها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧))

شرح الكلمات :

(سُلْطاناً مُبِيناً) : حجة واضحة لتعذيبكم.

__________________

(١) في صحيح مسلم وصف لحال المنافقين في تذبذبهم وحيرتهم إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة ـ المترددة بين قطيعين من الغنم ـ بين الغنمين تعير إلى هذه مرّة وإلى هذه أخرى.»

٥٦١

(الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) : الدرك : كالطابق ، والدركة كالدرجة.

(وَأَصْلَحُوا) : ما كانوا قد أفسدوه من العقائد والأعمال.

(وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) : تمسكوا بدينه وتوكلوا عليه.

(وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) : تخلوا عن النفاق والشرك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في إرشاد الله تعالى المؤمنين إلى ما يعزهم ويكملهم ويسعدهم ففي هذه الآية (١٤٤) يناديهم تعالى بعنوان الإيمان وهو الروح الذي به الحياة وينهاهم عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فيقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ومعنى اتخاذهم أولياء موادتهم ومناصرتهم والثقة فيهم والركون إليهم والتعاون معهم ، ولما كان الأمر ذا خطورة كاملة عليهم هددهم تعالى بقوله : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً (١) مُبِيناً) فيتخلى عنكم ويسلط عليكم أعداءه الكافرين فيستأصلوكم ، أو يقهروكم ويستذلوكم ويتحكموا فيكم. ثم حذرهم من النفاق أن يتسرب إلى قلوبهم فأسمعهم حكمه العادل في المنافقين الذين هم رؤوس الفتنة بينهم فقال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ (٢) الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ، فأسفل طبقة في جهنم هي مأوى المنافقين يوم (٣) القيامة ، ولن يوجد لهم ولي ولا نصير أبدا ثم رحمة بعباده تبارك وتعالى يفتح باب التوبة للمنافقين على مصراعيه ويقول لهم (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) إلى ربهم فآمنوا به وبرسوله حق الإيمان (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) ونفضوا أيديهم من أيدي الكافرين ، (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) فلم يبقوا يراءون أحدا بأعمالهم. فأولئك الذين ارتفعوا إلى هذا المستوى من الكمال هم مع المؤمنين جزاؤهم واحد ، وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما وهو كرامة الدنيا وسعادة الآخرة.

__________________

(١) قال القرطبي في تفسيره : (سُلْطاناً مُبِيناً) أي في تعذيبه إياكم بإقامة الحجة عليكم إذ قد نهاكم.

(٢) الدرك بالإسكان والفتح ، والنار سبع دركات ، يقال فيما تعالى وارتفع : درجة ، وفيما سفل ونزل : دركة والدركات هي كالتالي : جهنّم ثمّ لظى ثمّ الحطمة ثمّ السعير ثمّ سقر ثمّ الجحيم ثمّ الهاوية ، وقد تسمى جميعها باسم الطبقة الأولى : جهنّم.

(٣) روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال : إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون ، تصديق ذلك في كتاب الله تعالى. قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) وقال في أصحاب المائدة : (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) وقال في آل فرعون : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ).

٥٦٢

وأخيرا في الآية (١٤٧) يقرر تعالى غناه عن خلقه وتنزهه عن الرغبة في حب الإنتقام فإن عبده مهما جنى وأساء ، وكفر وظلم إذا تاب وأصلح فآمن وشكر. لا يعذبه أدنى عذاب إذ لا حاجة إلى تعذيب عباده فقال عزوجل وهو يخاطب عباده (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ، وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) لا يضيع المعروف عنده. لقد شكر لبغي (١) سقيها كلبا عطشان فغفر لها وأدخلها الجنة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين.

٢ ـ إذا عصى المؤمنون ربهم فاتخذوا الكافرين أولياء سلط الله عليهم أعداءهم فساموهم الخسف.

٣ ـ التوبة تجب ما قبلها حتى إن التائب من ذنبه كمن لا ذنب له ومهما كان الذنب الذي غشيه.

٤ ـ لا يعذب الله تعالى المؤمن الشاكر لا في الدنيا ولا في الآخرة فالإيمان والشكر أمان الإنسان.

__________________

(١) هذا مقتبس من حديث الصحيحين ونصه : روى البخارى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال لقد بلغ بهذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له) والشاهد في فضل الشكر والإيمان.

٥٦٣

الجزء السّادس

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))

شرح الكلمات :

(بِالسُّوءِ) (١) : ما يسوء إلى من قيل فيه أو فعل به.

(سَمِيعاً عَلِيماً) : سميعا للأقوال عليما بالأعمال.

(إِنْ تُبْدُوا) : تظهروا ولا تخفوا.

(تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) : أي لا تؤاخذوا به.

معنى الآيتين :

يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء ، ولازم هذا أن عباده المؤمنين يجب أن يكرهوا ما يكره ربهم ويحبوا ما يحب وهذا شرط الولاية وهي الموافقة وعدم المخالفة ، ولما حرم تعالى على عباده الجهر بالسوء بأبلغ عبارة وأجمل أسلوب ، استثنى المظلوم فإن له أن يجهر (٢) بمظلمته لدى الحاكم ليرفع عنه الظلم فقال تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ (٣) الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ (٤) ظُلِمَ وَكانَ اللهُ ـ (وما زال) ـ سَمِيعاً عَلِيماً) ألا فليتق فلا يعصى بفعل السوء ولا بقوله.

ثم انتدب عباده المؤمنين الى فعل الخير في السر أو العلن ، وإلى العفو عن صاحب السوء فقال : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ (٥) سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) فسيكسب فاعل الخير خيرا أبداه أو أخفاه وسيعفو عن صاحب العفو حينما تزل قدمه فيجني بيده أو بلسانه ما يستوجب به المؤاخذة فيشكر الله تعالى له عفوه السابق فيعفو عنه وكان الله (عَفُوًّا قَدِيراً).

__________________

(١) كالسّبّ ، والشتم ، والغيبة ، والنميمة ، والدعاء بالشرّ وألفاظ البذاءة وكلمات الفحش.

(٢) روى ابن جرير عن مجاهد أنّ رجلا استضاف قوما فلم يضيفوه ـ أي طلب منهم أن يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه فنزلت هذه الآية : (لا يُحِبُّ ..) الخ ودلّت على أنّ إطعام الضيف وإيوائه ليلة واجب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليلة الضيف واجبة» رواه أحمد

(٣) (مِنَ الْقَوْلِ) : في محل نصب على الحال.

(٤) في الآية دليل على جواز الدعاء على الظالم ممن ظلمه وجواز ردّ الشتم والسبّ بمثله إلّا أنّ ترك ذلك أفضل.

(٥) شاهده من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «ما نقص مال من صدقة ولا زاد الله عبدا بعفو إلّا عزّا ، ومن تواضع لله رفعه».

٥٦٤

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ حرمة الجهر بالسوء والسر به كذلك فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينطق بما يسوء الى القلوب والنفوس إلا في حالة الشكوى وإظهار الظلم لا غير.

٢ ـ استحباب فعل الخير وسره كجهره لا ينقص أجره بالجهر ولا يزيد بالسر.

٣ ـ استحباب العفو عن المؤمن إذا بدا منه سوء ، ومن يعف يعف الله عنه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))

(١)

شرح الكلمات :

(وَرُسُلِهِ) : الرسل جمع رسول وهم جم غفير قيل عددهم ثلثمائة وأربعة عشر رسولا (٢)

(سَبِيلاً) : أي طريقا بين الكفر والإيمان ، وليس ثم إلا طريق واحد وهو الإيمان أو الكفر فمن آمن بكل الرسل فهو المؤمن ، ومن آمن بالبعض وكفر بالبعض فهو الكافر كمن لم يؤمن بأحد منهم.

__________________

(١) المناسبة بين هذه الآيات ، وما سبقها ينظر إليها من حيث أنّ القرآن كتاب هداية للبشرية فلذا لمّا ذكر حال المنافقين مبيّنا لهم طريق توبتهم إن أرادوا ذلك ذكر بعد بيان حكم حرمة النطق بالسوء سرا وجهرا إلّا ما رخص فيه ، ذكر حال اليهود والنصارى مبيّنا كفرهم وما أعدّ لهم من العذاب إن أصرّوا على كفرهم وضلالهم.

(٢) جاء ذكر هذا العدد في حديث أبي ذر الغفاري إذ قال فيه : «قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء وكم كان المرسلون؟

قال : كانت الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي ، وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر» والحديث ضعيف ، ولمّا لم يوجد غيره قال به أهل العلم قديما وحديثا.

٥٦٥

(وَلَمْ يُفَرِّقُوا) : كما فرق اليهود فآمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكما فرق النصارى آمنوا بموسى وعيسى وكفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم لذلك كفار.

(أُجُورَهُمْ) : أجر إيمانهم برسل الله وعملهم الصالح وهو الجنة دار النعيم.

معنى الآيات :

يخبر تعالى مقررا حكمه على اليهود والنصارى بالكفر الحق الذي لا مرية فيه فيقول إن الذين يكفرون بالله (١) ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك أي بين الكفر بالبعض والإيمان بالبعض سبيلا أي طريقا يتوصلون به الى مذهب باطل فاسد وهو التخيّر بين رسل الله فمن شاءوا الإيمان به آمنوا ، ومن لم يشاءوا الإيمان به كفروا به ولم يؤمنوا وبهذا كفروا كفرا لا ريب فيه ،

ولهم بذلك العذاب المهين الذي يهانون به ويذلون جزاء كبريائهم وسوء فعالهم قال تعالى (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (٢) فسجل عليهم الكفر ثلاث مرات فالمرة الأولى بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) والثانية بقوله (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) والثالثة بقوله (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) حيث لم يقل واعتدنا لهم فأظهر في موضع الإضمار لتسجيل الكفر عليهم وللإشارة الى علة الحكم وهي الكفر.

هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥١) أما الآية الثانية وهى قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا (٣) بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فإنها مقابلة في ألفاظها ومدلولها للآية قبلها فالأولى تضمنت الحكم بالكفر على اليهود والنصارى ، وبالعذاب المهين لهم والثانية تضمنت الحكم بإيمان المسلمين وبالنعيم المقيم لهم وهو ما وعدهم به ربهم بقوله (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). فغفر لهم ذنوبهم ورحمهم بأن أدخلهم دار كرامته في جملة أوليائه.

__________________

(١) نسبهم تعالى إلى الكفر به لأنّ إيمانهم بالله تعالى باطل وذلك أنّ اليهود يصفون الله تعالى بصفات المحدثين ونسبوا إليه الولد وكثير من صفات تنزه الله عنها ، وأنّ النصارى يكفيهم كفرا قولهم إنّ الله ثالث ثلاثة وهو الكفر بعينه ، وحسبهم بعد ذلك كفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به.

(٢) توعدوا بالعذاب المهين مقابل ما كانوا يرتكبونه من إهانة المؤمنين وإذلالهم ، والجزاء من جنس العمل و (حَقًّا) في الآية منصوب على المصدرية ، أي حقه لهم أيّها السامع حقا.

(٣) هذا أسلوب القرآن الكريم فإنّه بعد أن ذكر الكافرين حقا وبيّن جزاءهم ، ذكر المؤمنين حقا وبيّن جزاءهم ، وهذا اسلوب الترغيب والترهيب الذي عليه مدار الهداية والإصلاح بإذن الله تعالى.

٥٦٦

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ تقرير كفر اليهود والنصارى لفساد عقائدهم وبطلان أعمالهم.

٢ ـ كفر من كذب بالله ورسوله ولو في شىء واحد مما وجب الإيمان به.

٣ ـ بطلان إيمان من يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض.

٤ ـ صحة الدين الإسلامى وبطلان اليهودية (١) والنصرانية حيث اوعد تعالى اليهود والنصارى بالعذاب المهين ، ووعد المؤمنين بتوفية أجورهم والمغفرة والرحمة لهم.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤))

شرح الكلمات :

(جَهْرَةً) : عيانا نشاهده ونراه بأبصارنا.

(الصَّاعِقَةُ) : صوت حاد ورجفة عنيفة صعقوا بها.

(بِظُلْمِهِمْ) : بسبب ظلمهم بطلبهم ما لا ينبغي.

(اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) : أي الها فعبدوه.

(فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) : أي لم يؤاخذهم به.

(سُلْطاناً مُبِيناً) : حجة واضحة وقدرة كاملة قهر بها أعداءه.

__________________

(١) وسائر الأديان كالمجوسية والصابئة ، وغيرهما من سائر الملل والنحل إذ لا دين حق إلّا الإسلام قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ).

٥٦٧

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) : أي جبل الطور بسيناء.

(ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) : أي راكعين متواضعين خاشعين لله شكرا لنعمه عليهم.

(لا تَعْدُوا) (١) : لا تعتدوا أى لا تتجاوزوا ما حد لكم فيه من ترك العمل الى العمل فيه.

(مِيثاقاً غَلِيظاً) : عهدا مؤكدا بالأيمان.

معنى الآيتين :

لما نعى الربّ تعالى على أهل الكتاب قولهم نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض حيث آمن اليهود بموسى وكفروا بعيسى وآمن النصارى بعيسى وكفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كفر به اليهود أيضا ذكر تعالى لرسوله أن اليهود إذا سألوك أن تنزل عليهم (٢) كتابا من السماء فلا تعجب من قولهم ولا تحفل به إذ هذه سنتهم وهذا دأبهم ، فإنهم قد سألوا موسى قبلك أعظم من هذا فقالوا له أرنا الله جهرة فأغضبوا الله تعالى فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون واتخذوا العجل إلها يعبدونه في غياب موسى عليهم ، وكان ذلك منهم بعد مشاهداتهم البيّنات حيث فلق الله لهم البحر وأنجاهم وأغرق عدوهم ومع هذا فقد عفا الله عنهم ، وآتى نبيهم سلطانا مبينا ، ولم يؤثر ذلك في طباعهم هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٣) وهى قوله تعالى (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً (٣) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ (٤) ثُمَّ اتَّخَذُوا (٥) الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً). أما الآية الثانية (١٥٤) فقد أخبر تعالى أنه رفع فوقهم الطور تهديدا لهم ووعيدا وذلك لما امتنعوا ان يتعهدوا بالعمل بما في التوراة ، فلما رفع الجبل فوقهم خافوا فتعهدوا معطين بذلك ميثاقا غير أنهم نقضوه كما سيأتي الإخبار بذلك. هذا

__________________

(١) قرأ ورش لا تعدّوا بتشديد الدّال وهو من إدغام التاء في الدّال لتقاربهما في المخرج والأصل لا تعتدوا من الاعتداء الذي هو العدوان.

(٢) ذكر القرطبي بغير إسناد أن اليهود سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدّعيه على صدقه دفعة واحدة ، كما أتى موسى بالألواح تعّنتا منهم فأنزل الله تعالى الآية.

(٣) (جَهْرَةً) نعت لمصدر محذوف تقديره : رؤية جهرة ، ويصح أن يكون حالا أي مجاهرة بلا حجاب ساتر.

(٤) (بِظُلْمِهِمْ) الباء سببية أي : سبب ظلمهم ، وليس المراد من ظلمهم طلب رؤية الله تعالى إذ هذا طلبه موسى أيضا ، ولكن ظلمهم : كونهم اشترطوا لإيمانهم بموسى حتى يريهم الله جهرة.

(٥) العطف بثم هنا هو للتراخي الرتبي لا لإفادة الترتيب الزمني ، إذ اتخاذهم العجل كان قبل طلبهم رؤية الله جهرة ، إذ المراد من البينات التي جاءتهم : انفلاق البحر ، وقبله آية العصا وغيرها من التسع آيات التي آتى الله موسى عليه‌السلام.

٥٦٨

معنى قوله تعالى (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) ، وقوله تعالى (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ..) كان هذا عند ما دخل يوشع بن نون فتى موسى مدينة القدس فاتحا اوحى الله تعالى إليه أن يأمر بني إسرائيل ان يدخلوا باب المدينة خاضعين متطامنين شكرا لله تعالى على نعمة الفتح فبدل أن يطيعوا ويدخلوا الباب راكعين متطامنين دخلوه زحفا على استاههم مكرا وعنادا والعياذ بالله. وقوله : (.. وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) أي ونهيناهم عن الصيد في السبت فتعدوا نهينا وصادوا عصيانا وتمردا ، وقوله تعالى (.. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي على أن يعملوا بما شرعنا لهم تحليلا وتحريما في التوراة ، ومع هذا فقد عصوا وتمردوا وفسقوا ، إذا فلا غرابة في سؤالهم إياك على رسالتك وليؤمنوا بك أن تنزل عليهم كتابا من السماء. هذا معنى قوله تعالى في الآية (١٥٤) (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ، وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ..) أي لا تتجاوزوا ما أحللنا لكم إلى ما حرمنا عليكم (... وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ...) (١)

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ تعنت أهل الكتاب ازاء الدعوة الإسلامية وكفرهم بها على علم انها دعوة حق.

٢ ـ بيان قبائح اليهود وخبثهم الملازم لهم طوال حياتهم.

٣ ـ نقض اليهود للعهود والمواثيق اصبح طبعا لهم لا يفارقهم أبدا ولذا وجب عدم الثقة في عهودهم ومواثيقهم.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) كل ما ذكر في هذه الآيات هو تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخفيفا على نفسه مما يلاقي من تعنت اليهود ، وصلفهم ، وقساوة قلوبهم ومعاملتهم.

٥٦٩

اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩))

شرح الكلمات :

(فَبِما نَقْضِهِمْ) : الباء سببية أي فبسبب نقضهم ميثاقهم ، والنقض : الحل بعد الإبرام

(بِغَيْرِ حَقٍ) : أي بدون موجب لقتلهم ، ولا موجب لقتل الأنبياء قط.

(غُلْفٌ) (١) : جمع اغلف وهو ما عليه غلاف يمنعه من وصول المعرفة والعلم إليه.

(بُهْتاناً عَظِيماً) : البهتان الكذب الذي يحير من قيل فيه والمراد هنا رميهم لها بالزنى.

(وَما صَلَبُوهُ) : أي لم يصلبوه ، والصلب شده على خشبة وقتله عليها.

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) : أي وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن عند حضور الموت أن عيسى عبد الله ورسوله فما هو ابن زنى ولا ساحر كما يقول اليهود ، ولا هو الله ولا ابن الله كما يقول النصارى.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن اليهود وبيان الجرائم التي كانت سببا في لعنهم وذلهم ، وغضب الله تعالى عليهم ، وهذا تعداد تلك الجرائم الواردة في الآيات الثلاث الأولى في هذا السياق وهى (١٥٥ ـ ١٥٦ ـ ١٥٧).

__________________

(١) (غُلْفٌ) قد يكون جمع غلاف ومعناه حينئذ أن قلوبهم أوعية للعلم فلا حاجة بهم إلى علم سوى ما عندهم ، ولا منافاة بين المعنيين في النهر ، وأيسر التفاسير.

٥٧٠

١ ـ نقضهم العهود والمواثيق وخاصة عهدهم بالعمل بما في التوراة.

٢ ـ كفرهم بآيات الله والمنزلة على عبد الله عيسى ورسوله والمنزلة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ قتلهم الأنبياء كزكريا ويحيى وغيرهم وهو كثير في عهود متباينة.

٤ ـ قولهم قلوبنا غلف حتى لا يقبلوا دعوة الإسلام ، وما أراد الرسول إعلامهم به وكذبهم الله تعالى في هذه الدعوى ، وأخبر أن لا أغطية على قلوبهم ، ولكن طبع الله تعالى عليها بسبب ذنوبهم فران عليها الران فمنعها من قبول الحق اعتقادا وقولا وعملا هذا ما تضمنته الآية الأولى وهى قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ..) والباء سببية والميم صلة والأصل فبنقضهم أي بسبب نقضهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم ، (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي إيمانا قليلا كإيمانهم بموسى وهرون والتوراة والزبور مثلا.

٥ ـ كفرهم أي بعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا.

٦ ـ قولهم على مريم بهتانا عظيما (١) حيث رموها بالفاحشة وقالوا عيسى ابن زنى لعنهم الله.

٧ ـ قولهم متبجحين متفاخرين أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام وهو رسول الله ، وأكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله (.. وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ، وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ..) أى برجل آخر ظنوه انه هو فصلبوه وقتلوه ، وأما المسيح فقد رفعه الله تعالى إليه وهو عنده في السماء كما قال تعالى في الآية (١٥٨) (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ، وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي غالبا على أمره حكيما في فعله وتدبيره.

وأما قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) ، هذا إخبار من الله تعالى بحقيقة أخرى وهى أن الذين طوقوا منزل المسيح وهجموا عليه ليلقوا عليه القبض من أجل أن يقتلوه هؤلاء اختلفوا (٢) فى هل الرجل الذي ألقي عليه شبه عيسى هو عيسى أو غيره إنهم لم يجزموا أبدا بأن من ألقوا عليه القبض وأخرجوه فصلبوه وقتلوه هو المسيح عليه‌السلام ، ولذا قال تعالى (.. وَما قَتَلُوهُ (٣) يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ

__________________

(١) البهتان العظيم الذي قالوه على مريم هو رميهم لها بالزنى مع يوسف بن النجار وهو عبد صالح.

(٢) ذكر القرطبي للاختلاف عدّة وجوه كلها سائغة وما ذكرناه في التفسير أولى. ومن بين الوجوه قولهم : إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ، وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟

(٣) ما زال الخلاف قائما إلى اليوم ، فالجمهور منهم يقولون : صلب عيسى وقتل وبعد ثلاثة أيام رفع ، وخلاف الجمهور يقولون : لم يصلب عيسى ولم يقتل.

٥٧١

إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً). (١)

أما الآية الأخيرة في هذا السياق (١٥٩) فإن الله تعالى أخبر أنه ما من يهودي ولا نصراني يحضره الموت ويكون في انقطاع عن الدنيا إلا آمن بأن عيسى عبد الله ورسوله ، وليس هو ابن زنى ولا ساحر كما يعتقد اليهود ، ولا هو الله ولا ابن الله كما يعتقد النصارى ، ولكن هذا الإيمان لا ينفع صاحبه لأنه حصل عند معاينة الموت قال تعالى (.. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ..). هذا ما دلت عليه الآية الكريمة : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي يشهد على كفرهم به وبما جاءهم به ، ووصاهم عليه من الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودين الحق الذي جاء به.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان جرائم اليهود.

٢ ـ بطلان اعتقاد النصارى في أن عيسى صلب وقتل ، أما اليهود فإنهم وان لم يقتلوا عيسى فهم مؤاخذون على قصدهم حيث صلبوا وقتلوا من ظنوه أنه عيسى عليه‌السلام.

٣ ـ تقرير رفع عيسى عليه‌السلام الى السماء ونزوله في آخر أيام الدنيا.

٤ ـ الإيمان كالتوبة عند معاينة ملك الموت لا تنفع ولا تقبل وجودها كعدمها.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما

__________________

(١) عزّة الله يتنافى معها تسلط اليهود على عبده ورسوله عيسى وقتلهم له ، وحكمته تتجلّى في رفعه إليه وإنزاله آخر أيام الدنيا.

٥٧٢

أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢))

شرح الكلمات :

(فَبِظُلْمٍ) : الباء سببية أي فبسبب ظلمهم.

(هادُوا) : اليهود إذ قالوا : انا هدنا إليك.

(طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) : هي كل ذى ظفر وشحوم البقر والغنم.

(أَخْذِهِمُ الرِّبَوا) : قبوله والتعامل به وأكله.

(الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) : أصحاب القدم الثابتة في معرفة الله وشرائعه ممن علومهم راسخة في نفوسهم ليست ظنيات بل هي يقيينات.

معنى الآيات :

ما زال السياق في اليهود من أهل الكتاب يبين جرائمهم ويكشف الستار عن عظائم ذنوبهم ففي الآية الأولى (١٦٠) سجل عليهم الظلم العظيم والذي به استوجبوا عقاب الله تعالى حيث حرم عليهم طيبات كثيرة كانت حلالا لهم ، كما سجل عليهم أقبح الجرائم وهى صدهم أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله تعالى ، وذلك بجحودهم الحق وتحريفهم كلام الله ، وقبولهم الرشوة في إبطال الأحكام الشرعية. هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الثانية (١٦١) فقد تضمنت تسجيل جرائم أخرى على اليهود وهى أولا استباحتهم للربا (١) وهو حرام وقد نهوا عنه وثانيا أكلهم أموال الناس بالباطل كالرشوة والفتاوى الباطلة التي كانوا يأكلون بها. وأما قوله تعالى في ختام الآية : (... وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) فهو زيادة على ما عاقبهم به في الدنيا أعد لمن كفر منهم ومات على كفره عذابا أليما موجعا يعذبون به يوم القيامة. وأما الآية الثالثة (١٦٢) فقد نزلت في عبد الله بن سلام وبعض العلماء من يهود المدينة فذكر تعالى كالاستثناء من أولئك الموصوفين بأقبح الصفات وهى صفات جرائم

__________________

(١) أورد القرطبي هنا سؤالا وهو مع علمنا أن اليهود يأكلون الربا والسحت وجميع ما حرّم الله تعالى فهل يجوز لنا التعامل معهم؟ وأجاب بالجواز استدلالا بقول الله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) وبتعامل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم فقد رهن درعه عند يهودي.

٥٧٣

اكتسبوها ، وعظائم من الذنوب اقترفوها لجهلهم وعمى بصائرهم. ان الراسخين (١) في العلم الثابتين فيه الذين علومهم الشرعية يقينية لا ظنية هؤلاء شأنهم في النجاة من العذاب والفوز بالنعيم في دار السّلام شأن المؤمنين من هذه الأمة يؤمنون بما أنزل إليك أيها الرسول وما أنزل من قبلك وخاصة المقمين (٢) الصلاة وكذا المؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر هؤلاء جميعا وعدهم الله تعالى بالأجر العظيم الذى لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه فقال تعالى : (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ المعاصى تورث الحرمان من خير الدنيا والآخرة.

٢ ـ حرمة الصد عن الإسلام ولو بالسلوك الشائن والمعاملة الباطلة.

٣ ـ حرمة الربا وانه موجب للعقوبة في الدنيا والآخرة.

٤ ـ حرمة أكل أموال الناس بالباطل كالسرقة والغش والرشوة.

٥ ـ من أهل الكتاب صلحاء ربانيون وذلك كعبد الله بن سلام وآخرين.

٦ ـ الرسوخ في العلم يأمن صاحبه الزلات والوقوع في المهلكات.

٧ ـ فضل إقام الصلاة لنصب والمقيمى الصلاة في الآية على المدح والتخصيص.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ

__________________

(١) روي أنه لما نزلت آية : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ..) الآية قالت يهود منكرة ما أخبر به تعالى عنهم : إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا ، فنزل : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) وهم عبد الله بن سلام وأحبار اليهود المسلمون.

(٢) قرأه الجمهور بنصب المقيمين على المدح أي : وأمدح المقيمين أو أعني المقيمين ، والنصب على المدح جائز في كلام فصحاء العرب ، وبلغائهم ومن ذلك قول شاعرهم :

وكل قوم أطاعوا أمر سيّدهم

إلّا نميرا أطاعت أمر غاويها

٥٧٤

مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦))

شرح الكلمات :

(إِنَّا (١) أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : الوحى (٢) : الإعلام السريع الخفى ، ووحي الله تعالى الى أنبيائه إعلامهم بما يريد أن يعلمهم به من أمور الدين وغيره.

(الْأَسْباطِ) : أولاد يعقوب عليهم‌السلام.

(زَبُوراً) (٣) : الزبور أحد الكتب الإلهية أنزله على نبيه داود عليه‌السلام.

(قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ) : ورد منهم في سورة الأنعام ثمانية عشر رسولا وسبعة ذكروا في سور أخرى وهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهود وشعيب وصالح وذو الكفل وإدريس وآدم

(حُجَّةٌ) : عذر يعتذرون به الى ربهم عزوجل.

معنى الآيات :

روى أن اليهود لما سمعوا ما أنزل الله تعالى فيهم في الآية السابقة أنكروا أن يكون هذا وحيا وقالوا لم يوح الله تعالى الى غير موسى فرد الله تعالى قولهم بقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ (٤) وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ..) فذكر عددا من الأنبياء ، ثم قال ورسلا : أي وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك من قبل أي قص عليه اسماءهم وبعض (٥) ما جرى لهم مع أممهم وهم

__________________

(١) هذه التوكيد بأنّ تطلبه إنكار اليهود الوحي إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تطلبه الاهتمام بهذا الخبر العظيم.

(٢) الوحي : مصدر وحى يحي وحيا ، كرمى يرمي رميا ، إليه بكذا أعلمه. وأوحى يوحي إيحاء إليه بكذا أعلمه به بطريق خفّي.

(٣) في قوله تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) وهي جملة معطوفة على جملة (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) إشارة إلى أنّ الزّبور كتاب ، وهو كذلك ، إذ هو أحد الكتب الأربعة ، ولو لم يرد ذلك ، لعطف اسمه على من سبقه فقط كأن يقول وهارون وسليمان وداود.

(٤) قدم نوح في الذكر باعتباره أوّل رسول حارب الشرك ، إذ لم يظهر الشرك على عهد من سبقه كإدريس وشيت من قبله ، فلما ظهر الشرك أرسل الله تعالى نوحا عليه‌السلام ، وهو نوح بن لمك ابن متوشلخ بن أخنوخ.

(٥) قوله : (قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) يعني في القرآن الكريم وهم هود وصالح ، وشعيب ويحيى وإلياس ، واليسع ولوط.

٥٧٥

يبلغون دعوة ربهم ، وأرسل رسلا لم يقصصهم عليه ، وفوق ذلك أنه كلم موسى تكليما فأسمعه كلاما بلا واسطة ، فكيف ينكر اليهود ذلك ويزعمون أنه ما أنزل الله على بشر من شىء وقد ارسلهم تعالى رسلا مبشرين من آمن وعمل صالحا بالجنة ، ومنذرين من كفر واشرك وعمل سوء بالنار وما فعل ذلك الا لقطع حجة الناس يوم القيامة حتى لا يقولوا ربنا ما ارسلت الينا رسولا هذا معنى قوله تعالى (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ..) أي بعد ارسالهم ، (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) غالبا لا يمانع في شيء اراده (حَكِيماً) في أفعاله وتدبيره ، هذا بعض ما تضمنته الآيات الثلاث (١٦٣ ـ ١٦٤ ـ ١٦٥) أما الآية الرابعة (١٦٦) وهي قوله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).

فقد روي أن يهودا جمعهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابلغهم أنه رسول الله صدقا وحقا ودعاهم إلى الإيمان به وبما جاء به من الدين الحق فقالوا : من يشهد لك بالرسالة إذ كانت الأنبياء توجد في وقت واحد فيشهد بعضهم لبعض ، وأنت من يشهد لك فأنزل الله تعالى قوله : (لكِنِ (١) اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ...) يريد إنزال الكتاب إليك شهادة منه لك بالنبوة والرسالة ، أنزله بعلمه بأنك أهل للاصطفاء والإرسال ، وبكل ما تحتاج إليه البشرية في اكمالها واسعادها إذ حوى أعظم تشريع تعجز البشرية لو اجتمعت ان تأتى بمثله ، أليس هذا كافيا في الشهادة لك بالنبوة والرسالة ، بلى ، والملائكة أيضا يشهدون (.. وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) فلا تطلب شهادة بعد شهادته تعالى لو كانوا يعقلون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ الوحى الإلهي.

٢ ـ أول الرسل (٢) نوح عليه‌السلام وآخرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) توضيح هذا الاستدراك الذي هو رفع ما يتوهّم ثبوته او نفيه هو إذا رفض اليهود الشهادة لك بالرسالة وطالبوا بمن يشهد لك فالله يشهد لك بما أنزله إليك والملائكة يشهدون كذلك.

(٢) ذكر صاحب تفسير التحرير والتنوير الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه‌الله تعالى عند تفسير هذه الآية تاريخ المذكورين من الرسل نقلا عن أهل الكتاب قطعا فللاطلاع لا غير نذكر ذلك كما ذكره وأمّا علم صحته فهو إلى الله تعالى لا غير : نوح عليه‌السلام ولد سنة ٣٩٧٤ قبل الهجرة النبوية ، وابراهيم توفي ببلدة الخليل سنة ٢٧١٩ قبل الهجرة ، وإسماعيل توفي بمكة سنة ٢٦٨٦ قبل الهجرة تقريبا ، واسحاق بن ابراهيم توفي سنة ٢٦١٣ قبل الهجرة ، ويعقوب اسرائيل توفي سنة ٢٥٨٦ قبل الهجرة ، وعيسى بن مريم ولد سنة ٦٢٢ قبل الهجرة ورفع إلى السماء قبلها سنة ٥٨٩ ، وأيوب كان بعد إبراهيم وقبل موسى ، في القرن الخامس عشر قبل المسيح ، وهارون توفي سنة ١٩٧٢ قبل الهجرة وداود توفي سنة ١٦٢٦ قبل الهجرة وسليمان توفي سنة ١٥٩٧ قبل الهجرة.

٥٧٦

٣ ـ إثبات صفة الكلام لله تعالى.

٤ ـ بيان الحكمة في ارسال الرسل وهي قطع الحجة على الناس يوم القيامة.

٥ ـ شهادة الرب تبارك وتعالى والملائكة بنبوة خاتم الأنبياء ورسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦ ـ ما حواه القرآن من تشريع وما ضمه بين دفتيه من معارف وعلوم أكبر شهادة للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنبوة والرسالة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))

شرح الكلمات :

(كَفَرُوا وَصَدُّوا) : كفروا : جحدوا بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدوا : صرفوا الناس عن الإيمان به صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يبذرون من بذور الشك.

(كَفَرُوا وَظَلَمُوا) : جحدوا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظلموا ببقائهم على جحودهم بغيا منهم وحسدا للعرب أن يكون فيهم رسول يخرجهم من الظلمات الى النور.

(الرَّسُولُ) : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكامل في رسالته الصادق في دعوته.

(فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) : أي يكون إيمانكم خيرا لكم.

معنى الآيات :

بعد أن أقام الله تعالى الحجة على رسالة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشهادته له بالرسالة وشهادة ملائكته ، وشهادة القرآن لما فيه من العلوم والمعارف الإلهية بعد هذا أخبر تعالى أن الذين

٥٧٧

كفروا وصدوا عن سبيل (١) الله وهم اليهود (٢) قد ضلوا ضلالا بعيدا قد يتعذر معه الرجوع إلى الحق ، وهذا ما تضمنته الآية الأولى (١٦٧) كما أخبر في الآية الثانية (١٦٨) أن الذين كفروا وظلموا وهم أيضا اليهود لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا اللهم إلا طريق جهنم وهذا قائم على سنته في خلقه وهي أن المرء إذا كفر كفر عناد وجحود وأضاف إلى الكفر الظلم لم يبق له أي استعداد لقبول الهداية الإلهية ، لم يبق له من طريق يرجى له سلوكه إلا طريق جهنم يخلد فيها خلودا أبديّا ، وقوله تعالى : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) في ختام الآية يقرر فيه أن دخول أصحاب هذه الصفات من اليهود جهنم وخلودهم فيها ليس بالأمر الصعب على الله المتعذر عليه فعله بل هو من السهل اليسير أما الآية الأخيرة (١٧٠) فهي تتضمن إعلانا إليها موجها إلى الناس كافة مشركين وأهل كتاب (... يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ (٣) ...) الكامل الخاتم جاءكم بالدين الحق من ربكم فآمنوا به خيرا لكم ، وإن أبيتم وأعرضتم ايثارا للشر على الخير والضلال على الهدى فاعلموا أن لله ما في السموات (٤) والأرض خلقا وملكا وتصرفا وسيجزيكم بما اخترتم من الكفر والضلال جهنم وساءت مصيرا فإنه عليم بمن استجاب لندائه فآمن وأطاع ، وبمن أعرض فكفر وعصى حكيم في وضع الجزاء في موضعه اللائق به. فلا يجزي المحسن بالسوء ، ولا المسيء بالإحسان.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ شر الكفر ما كان مع الصد عن سبيل الله والظلم وهذا كفر اليهود والعياذ بالله تعالى.

٢ ـ سنة الله تعالى في أن العبد إذا أبعد في الضلال ، وتوغل في الشر والفساد يتعذر عليه التوبة فيموت على ذلك فيهلك.

__________________

(١) صدّوا عن سبيل الله بقولهم إنّا لا نجد صفة محمد في كتابنا وإنما النبوة في ولد هارون ، وداود ، وأنّ في التوراة أن شرع موسى لا ينسخ.

(٢) اللفظ يتناول اليهود أولا ، ويعم كل من كفر بالله ورسوله وصد عن سبيله الذي هو الإسلام.

(٣) التعريف في الرسول للعهد إذ هو معهود بين المخاطبين معروف لهم وكونه للعهد لا ينافي ما ذكر في التفسير من أنّه الكامل في رسالته كأنه فرد فيها لا نظير له.

(٤) إنه لم يدعكم إلى الايمان لحاجة به ، إنّه عزيز إنّه سبحانه وتعالى يملك الكائنات كلها حيها وميتها ظاهرها وباطنها ويتصرّف فيها كما يشاء وهو الغني الحميد.

٥٧٨

٣ ـ الرسالة المحمدية عامة لسائر الناس أبيضهم وأصفرهم.

٤ ـ إثبات صفتى العلم والحكمة لله تعالى. وبموجبهما يتم الجزاء العادل الرحيم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣))

شرح الكلمات :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ) : المراد بهم (١) هنا النصارى.

(لا تَغْلُوا فِي (٢) دِينِكُمْ) : الغلو : تجاوز الحد للشيء فعيسى عليه‌السلام عبد الله ورسوله فغلوا فيه فقالوا هو الله.

__________________

(١) النصارى غلوا في عيسى فتجاوزوا حد الإفراط حيث ألهوه أي جعلوه إلها وعبدوه واليهود غلوا في التفريط في عيسى إذ قالوا : ساحر ، وابن زنى والعياذ بالله.

(٢) الغلو : مشتق من غلوة السهم وهي منتهى اندفاعه ، ويطلق الغلو في الشرع على الزيادة على المطلوب في الاعتقاد والقول والعمل.

٥٧٩

(الْمَسِيحُ) : هو عيسى عليه‌السلام ولقب بالمسيح لأنه ممسوح من الذنوب أي لا ذنب له قط.

(كَلِمَتُهُ أَلْقاها) : أي قول الله تعالى له (كُنْ) فكان ـ ألقاها إلى مريم : أوصلها لها وأبلغها إياها وهي قول الملائكة لها إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم.

(وَرُوحٌ مِنْهُ) : أي عيسى كان بنفخة جبريل روح الله في كم درعها.

(وَكِيلاً) : حفيظا وشاهدا عليما.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ) : لا يرفض عبوديته لله تعالى أنفة وكبرا.

(وَيَسْتَكْبِرْ) : يرى نفسه كبيرة فوق ما طلب منه أن يقوله أو يفعله إعجابا وغرورا.

(وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) : أي لا يجدون يوم القيامة وليا يتولى الدفاع عنهم ولا نصيرا ينصرهم حتى لا يدخلوا النار ويعذبوا فيها.

معنى الآيات :

ما زال السياق مع أهل الكتاب ففي الآية الأولى (١٧١) نادى الرب تبارك وتعالى النصارى بلقب الكتاب الذي هو الإنجيل ونهاهم عن الغلوّ في دينهم من التنطع والتكلف كالترهب واعتزال النساء وما إلى ذلك من البدع التي حمل عليها الغلوّ ، كما نهاهم عن قولهم على الله تبارك وتعالى غير الحق ، وذلك بنسبة الولد إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وأخبرهم بأن عيسى لم يكن (١) أبدا غير رسول الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم (٢) حيث بعث إليها جبريل فبشرها بأن الله تعالى قد يهبها غلاما زكيا ، ونفخ وهو روح الله في كم درعها فكان عيسى بكلمة التكوين وهي (كُنْ) وبسبب تلك النفخة من روح الله جبريل عليه‌السلام فلم يكن عيسى الله ولا ابن الله فارجعوا الى الحق وآمنوا بالله ورسله جبريل وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تقولوا زورا وباطلا : الله ثالث ثلاثة آلهة. (٣) انتهوا عن هذا القول الكذب يكن

__________________

(١) لأنّ إنّما أداة قصر ، فمن هنا قصر عيسى عليه‌السلام على ثلاث صفات ، وهي الرسالة ، والكلمة ، والروح ، أي هو لم يكن غير رسول الله ، وكلمته وروح منه ، والقصر إضافي كما هو ظاهر.

(٢) لم يذكر الله تعالى امرأة في القرآن باسمها العلم سوى مريم إذ ذكرها في القرآن في نحو من ثلاثين موضعا ، وسر هذا أنّ العرب يتحاشون أن يذكروا أسماء نسائهم ، إنّما يكنون عنهن بالعرس والأهل والعائلة وأمّا الإماء فيذكرونهن بأسمائهن لذا ذكر تعالى مريم وهي أمته باسمها العلم ثلاثين مرّة.

(٣) قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد من التثليث : الله تعالى وصاحبته وابنه ، والأقانيم عند بعضهم هي الأب ، والابن ، وروح القدس ، وعند بعضهم هو الوجود ، والحياة ، والعلم.

٥٨٠