أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

جللهم به من الخزي والعار.

وفي الآية الرابعة (١٣٨) يقول تعالى لرسوله والمؤمنين ردا على اليهود والنصارى قولوا لهم : نتبع (١) صبغة الله التي صبغنا بها وفطرته التي فطرنا عليها وهي الإسلام ، ونحن له تعالى عابدون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا هداية إلا في الإسلام ولا سعادة ولا كمال إلا بالإسلام.

٢ ـ الكفر برسول ، كفر بكل الرسل فقد كفر اليهود بعيسى ، وكفر النصارى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصبحوا بذلك كافرين ، وآمن المسلمون بكل الرسل فأصبحوا بذلك مؤمنين.

٣ ـ لا يزال اليهود والنصارى في عداء للإسلام وحرب على المسلمين ، والمسلمون يكفيهم الله تعالى شرهم إذا هم استقاموا على الإسلام عقيدة وعبادة وخلقا وأدبا وحكما.

٤ ـ الواجب على من دخل في الإسلام أن يغتسل غسلا كغسل الجنابة إذ هذا من صبغة (٢) الله تعالى ، لا المعمودية النصرانية التي هي غمس المولود يوم السابع من ولادته في ماء يقال له المعمودي وإدعاء انه طهر بذلك ولا يحتاج إلى الختان.

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ

__________________

(١) الصبغ : الشيء يصبغ به فالصبغ بدون تاء كالقشر فزيدت فيه التاء فقيل صبغة كقشرة ، وهي في الآية منصوبة «صبغة» إمّا أنها بدل من ملة المنصوبة بتقدير : نتبع ملّة ، وإمّا أنها على المفعولية المطلقة أي صبغنا صبغة الله نحو وعد الله حقا ، وفي هذا ردّ على اليهود والنصارى إذ اليهود نشأت فيهم الصبغة إذ كان الكاهن يغتسل كل عام ليكفّر خطايا بني اسرائيل في يوم عيد معلوم لهم والنصارى ما زالوا يعّمدون أطفالهم يوم السابع فيغمسونهم في الماء هذه صبغة اليهود والنصارى ، أمّا صبغة المسلمين فهي اتباع ملة ابراهيم عليه‌السلام وشتان ما بينهما

(٢) تعميد النصارى لأطفالهم وهو صبغهم بالماء كالثوب يصبغ بلون من الألوان فهم يرون أن الولد لما يصبغ بالماء أصبح نصرانيا لا يفارقه. أي هذا الاسم الذي هو النصراني.

١٢١

وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ (١) أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً (٢) عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١))

شرح الكلمات :

(أَتُحَاجُّونَنا (٣) فِي اللهِ) : أتجادلوننا في دينه والإيمان به وبرسوله ، والإستفهام للإنكار.

(لَهُ مُخْلِصُونَ) (٤) : مخلصون العبادة له ، لا نشرك غيره فيها ، وأنتم مشركون.

(شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) : المراد بهذه الشهادة ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ظهوره.

الغافل : من لا يتفطن للأمور لعدم مبالاته بها.

معنى الآيات :

يأمر تعالى رسوله أن ينكر على أهل الكتاب جدالهم في الله تعالى إذ ادعوا أنهم أولى بالله من الرسول والمؤمنين وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه ، فعلّم الله رسوله كيف يرد عليهم منكرا عليهم دعواهم الباطلة. كما أفحمهم وقطع حجتهم في دعواهم أن إبراهيم والأنبياء بعده كانوا هودا أو نصارى ، إذ قال له قل لهم : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ؟) فإن قالوا نحن أعلم ، كفروا وإن قالوا الله أعلم انقطعوا لأن الله تعالى أخبر أنهم ما كانوا أبدا يهودا ولا نصارى ، ولكن كانوا مسلمين ، ثم هددهم تعالى بجريمتهم الكبرى وهي كتمانهم الحق وجحودهم

__________________

(١) الاستفهام للتقرير والتوبيخ.

(٢) قال ابن كثير عن الحسن البصري : إن أهل الكتاب كانوا يقرأون في كتاب الله الذي آتاهم : إن الدين الإسلام وإن محمدا رسول الله وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم لله ، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك.

(٣) والاستفهام أيضا للتعجب من حالهم وللتوبيخ لهم على سوء سلوكهم ، ومعنى في الله أي في دينه وولايته ونسخ شرائعه السابقة بالإسلام وكفر من لم يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه الذي هو الإسلام.

(٤) الإخلاص : تخليص العبادة من الالتفات إلى غير الله تعالى. وعرفه الجنيد فقال : الإخلاص سر بين العبد وبين الله تعالى لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ، ولا هوى فيميله.

١٢٢

نعوت الرسول والأمر بالإيمان به عند ظهوره فقال ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ، وما الله بغافل عما تعملون.

ثم أعاد لهم ما أدبهم به في الآيات السابقة مبالغة في تأديبهم وإصلاحهم لو كانوا أهلا لذلك فأعلمهم أن التمسح بأعتاب الماضين والتشبث بالنسب الفارغة إلى الأولين غير مجد لهم ولا نافع فليقبلوا على إنقاذ أنفسهم من الجهل والكفر بالإيمان والإسلام والإحسان ، أما من مضوا فهم أمة قد أفضوا إلى ما كسبوا وسيجزون به ، وأنتم لكم ما كسبتم وستجزون به ، ولا تجزون بعمل غيركم ولا تسألون عنه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضيلة الإخلاص وهو عدم الإلتفات إلى غير الله تعالى عند القيام بالعبادات.

٢ ـ كل امرىء يجزى بعمله ، وغير مسئول عن عمل غيره ، إلا إذا كان سببا فيه.

٣ ـ اليهودية والنصرانية (١) بدعة ابتدعها اليهود والنصارى.

٤ ـ تفاوت الظلم بحسب الآثار المترتبة عليه.

٥ ـ حرمة (٢) كتمان الشهادة لا سيما شهادة من الله تعالى.

٦ ـ عدم الاتكال على حسب الآباء والأجداد ، ووجوب الإقبال على النفس لتزكيتها وتطهيرها بالإيمان الصحيح والعمل الصالح.

__________________

(١) قال تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) آل عمران.

(٢) إذ قال تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) البقرة.

١٢٣

الجزء الثاني

(سَيَقُولُ (١) السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ (٢) ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ (٣) الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣))

شرح الكلمات :

(السُّفَهاءُ) : جمع سفيه وهو من به ضعف عقلي لتقليده وإعراضه عن النظر نجم عنه فساد خلق وسوء سلوك.

(ما وَلَّاهُمْ) : ما صرفهم عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة بمكة.

القبلة : الجهة التي يستقبلها المرء وتكون قبالته في صلاته.

(أُمَّةً وَسَطاً) : وسط كل شيء خياره ، والمراد منه أن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير الأمم وأعدلها.

(يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) : يرجع إلى الكفر بعد الإيمان.

(لَكَبِيرَةً) : شاقة على النفس صعبة لا تطاق إلا بجهد كبير وهي التحويلة من قبلة مألوفة إلى قبلة حديثة.

__________________

(١) هذا إخبار بما سيقوله السفهاء من المنافقين واليهود والمشركين قبل أن يقولوه وفائدته أولا : تقرير النبوة المحمدية إذ هذا إخبار بالغيب فكان كما أخبر ، وثانيا : توطين نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين به حتى لا يضرّهم عند سماعه من السفهاء ، لأن مفاجأة المكروه أليمة شديدة ، فإن ذهبت المفاجأة هان الأمر ، وخف الألم وهذا من باب (قبل الرمي يراش السهم) ومناسبة الآيات لما قبلها استمرار الحجاج إلّا أنه كان في الأصول وأصبح في الفروع.

(٢) (مِنَ النَّاسِ) في محل نصب على الحال وأل فيه للجنس ليدخل في اللفظ كل سفيه.

(٣) هي بيت المقدس ، ومن جملة ما قالوه سفها واستهزاء التبس عليه أمره وتحير : قد اشتاق محمد إلى مولده.

١٢٤

(إِيمانَكُمْ) : صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس قبل التحول إلى الكعبة.

(لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) : يدفع الضرر عنكم ويفيض الإحسان عليكم.

معنى الآيتين :

يخبر الله تعالى بأمر يعلمه قبل وقوعه ، وحكمة الإخبار به قبل وقوعه تخفيف أثره على نفوس المؤمنين إذ يفقد نقدهم المرير عنصر المفاجأة فيه فلا تضطرب له نفوس المؤمنين.

فقال تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟) وحصل هذا لما حوّل الله تعالى رسوله والمؤمنين من استقبال بيت المقدس (١) في الصلاة إلى الكعبة تحقيقا لرغبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ولعلة الاختبار (٢) التي تضمنتها الآية التالية فأخبر تعالى بما سيقوله السفهاء من اليهود والمنافقين والمشركين وعلّم المؤمنين كيف يردون على السفهاء ، فقال : قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فلا اعتراض عليه يوجه عباده حيث يشاء ، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وفي الآية الثانية (١٤٣) يقول تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) خيارا عدولا (٣) أي كما هديناكم إلى أفضل قبلة وهي الكعبة قبلة إبراهيم عليه‌السلام جعلناكم خير أمة وأعدلها فأهلناكم بذلك للشهادة على الأمم يوم القيامة إذا أنكروا أن رسلهم قد بلغتهم رسالات ربهم ، وأنتم لذلك لا تشهد عليكم الأمم ولكن يشهد عليكم رسولكم وفي هذا من التكريم والإنعام ما الله به (٤) عليم ، ثم ذكر تعالى العلة في تحويل القبلة فقال : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) فثبت على إيمانه وطاعته وانقياده لله ولرسوله ممن يؤثر فيه نقد السفهاء فتضطرب نفسه ويجاري السفهاء فيهلك بالردة معهم. ثم أخبر تعالى أن هذه التحويلة من بيت المقدس إلى الكعبة شاقة على النفس إلا على الذين هداهم الله

__________________

(١) إذ صلى المؤمنون قرابة سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس من قبل تحويل الله تعالى القبلة بهذه الآيات التي نزلت في شأنها. وروى مالك أن تحويل القبلة كان قبل غزوة بدر بشهرين.

(٢) الاختبار في قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ).

(٣) في هذه الآية دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به لعدالة الأمة بشهادة ربّها فإذا أجمعت على أمر وجب الحكم به وفي أي عصر من العصور إلى قيام الساعة.

(٤) ومن هذا التكريم أنهم إذا شهدوا على أحدهم بالخير وجبت له الجنة لحديث الصحيح : مرّت جنازة فأثنى عليها خير فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وجبت وجبت وجبت» الحديث. فسئل فقال : «من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض».

١٢٥

إلى معرفته ومعرفة محابه ومكارهه فهم لذلك لا يجدون أي صعوبة في الانتقال من طاعة إلى طاعة ومن قبلة إلى قبلة ، مادام ربهم قد أحب ذلك وأمر به.

وأخيرا طمأنهم تعالى على أجور صلاتهم التي صلوها إلى بيت (١) المقدس وهي صلاة قرابة سبعة عشر شهرا بأنه لا يضيعها لهم بل يجزيهم بها كاملة سواء من مات منهم وهو يصلي إلى بيت المقدس أو من حيي حتّى صلى إلى الكعبة وهذا مظهر من مظاهر رأفته تعالى بعباده ورحمته.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ جواز النسخ في الإسلام فهذا نسخ إلى بدل من الصلاة إلى بيت المقدس إلى الصلاة إلى الكعبة في مكة المكرمة.

٢ ـ الأراجيف وافتعال الأزمات وتهويل الأمور شأن الكفار إزاء المسلمين طوال الحياة فعلى المؤمنين أن يثبتوا ولا يتزعزعوا حتى يظهر الباطل وينكشف الزيف وتنتهي الفتنة.

٣ ـ أفضلية أمة الإسلام على سائر الأمم لكونها أمة الوسط والوسطية شعارها.

٤ ـ جواز امتحان المؤمن وجريانه عليه.

٥ ـ صحة صلاة من صلى إلى غير القبلة وهو لا يعلم ذلك وله أجرها وليس عليه اعادتها ولو صلى شهورا إلى غير القبلة ما دام قد اجتهد في معرفة القبلة ثم صلى إلى حيث أدّاه اجتهاده.

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ (٢) وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ (٣) شَطْرَ الْمَسْجِدِ

__________________

(١) ورد في الصحيح عن البراء قال : مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس فقال الناس ما حالهم في ذلك فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه.

(٢) روى البخاري في سبب نزول هذه الآية أن البراء قال صلينا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ثمّ علم الله هوى نبيّه (أي حبه) فنزلت : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) الآية.

(٣) تحويل وجهك : أي تحويل وجهك ونظرك بعينك إلى السماء تطلعا إلى نزول الوحي بذلك لا سيما وقد نزلت الآيات الأولى : (سَيَقُولُ) الآية ، إذ هي موحية بذلك.

١٢٦

الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ (١) شَطْرَهُ (٢) وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ (٣) وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧))

شرح الكلمات :

(تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) : تردده بالنظر إليها مرة بعد أخرى انتظارا لنزول الوحي.

(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) : فلنحولنك إلى القبلة التي تحبها وهي الكعبة.

(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ) : حوّل وجهك جهة المسجد الحرام بمكة.

(الْحَرامِ) : بمعنى المحرم لا يسفك فيه دم ولا يقتل فيه أحد.

الشطر : هنا الجهة واستقبال الجهة يحصل به استقبال بعض البيت في المسجد الحرام ، لأن الشطر لغة : النصف أو الجزء مطلقا.

(أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) : أي تحول القبلة جاء منصوصا عليه في الكتب السابقة.

__________________

(١) اختلف في أوّل صلاة صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون إلى الكعبة ، فقيل الظهر وقيل العصر ، ولم يرجح أحد القولين ، وقيل كانت صلاة الظهر في مسجد بني سلمة المعروف بمسجد القبلتين حتى صلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس وبعضها إلى الكعبة فسمي لذلك مسجد القبلتين.

(٢) اختلف في : هل الغائب عن البيت الحرام يصلي إلى عين الكعبة أو إلى جهتها. الصواب أنه يصلى إلى جهة الكعبة تاويا استقبال البيت ، لأن استقبال عين الكعبة متعذر على غير الموجود في المسجد الحرام ، أمّا من في المسجد الحرام فلا تصح صلاته إن لم يستقبل عين الكعبة.

(٣) جمع القبلة : قبل بكسر القاف وفتح الباء وهو جمع تكسير ، وتجمع جمع سلامة على قبلات بكسر القاف والباء ، ويجوز فتح الباء كما يجوز إسكانها أيضا.

١٢٧

(آيَةٍ) : حجة وبرهان.

(يَعْرِفُونَهُ) : الضمير عائد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي يعلمون أنه نبي الله ورسوله لما في كتبهم من صفاته الواضحة القطعية.

(مِنَ الْمُمْتَرِينَ) : الشاكين والامتراء : الشك وعدم التصديق.

معنى الآيات :

يعلم الله تعالى رسوله أنه كان يراه وهو يقلّب وجهه في السماء انتظارا لوحي يؤمر فيه باستقبال الكعبة بدل بيت المقدس لرغبته في مخالفة اليهود ولحبه لقبلة أبيه إبراهيم إذ هي أول قبلة وأفضلها فبناء على ذلك (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ (١) الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، وبهذا الأمر الإلهي تحولت القبلة وروي أنه كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة المعروف الآن بمسجد القبلتين فصلى الرسول والمؤمنون وراءه ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة ، وكيلا تكون القبلة خاصة بمن كان بالمدينة قال تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) أي في نواحي البلاد وأقطار الأرض (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي شطر المسجد الحرام كما أخبر تعالى في هذه الآية أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن تحول القبلة حق وأنه بأمر الله تعالى وما أحدثوه من التشويش والتشويه إزاء تحول القبلة فقد علمه وسيجزيهم به إذ لم يكن تعالى بغافل عما يعملونه.

وفي الآية الثانية (١٤٥) يخبر تعالى بحقيقة ثابتة وهي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أتى (٢) اليهود والنصارى بكل آية تدل على صدقه وأحقية القبلة إلى الكعبة ما كانوا ليتابعوه على ذلك ويصلوا إلى قبلته كما أن النصارى لم يكونوا ليصلوا إلى بيت المقدس قبلة اليهود ، ولا اليهود ليصلوا إلى مطلع الشمس قبلة النصارى ، كما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين لم يكونوا أبدا ليتابعوا أهل الكتاب على قبلتهم بعد أن هداهم الله إلى أفضل قبلة وأحبها إليهم. وأخيرا يحذر الله رسوله أن يتبع أهواء اليهود فيوافقهم على بدعهم وضلالاتهم بعد الذي أعطاه من العلم وهداه إليه من الحق ، وحاشاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل ولو فعل لكان من الظالمين.

__________________

(١) الشطر لغة : النصف ومنه الحديث : «الطهور شطر الإيمان» والشاطر من الناس من أخذ في نحو غير الاستواء ، وهو الذي أعيا أهله خبثا ، وهو من بعد عن طاعة الله ورسوله أيضا.

(٢) قلت في التفسير : لو أتى اليهود الخ : لأن لئن في الآية بمعنى لو ، لأنها أجيبت بجواب لو ، وهو المضي والوقوع إذ قال تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) فقوله : (ما تَبِعُوا) جواب لئن والمفروض فيها أن يجاب بالمضارع.

١٢٨

وفي الآية الثالثة (١٤٦) يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن الرسول حق وأن ما جاء به هو الحق معرفة تامة كمعرفتهم لأبنائهم ، ولكن فريقا كبيرا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون أنه الحق ، وفي الآية الرابعة (١٤٧) يخبر تعالى رسوله بأن ما هو عليه من الدين الحق هو الحق الوارد إليه من ربه فلا ينبغي أن يكون من الشاكين (١) بحال من الأحوال.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب استقبال القبلة في الصلاة وفي أي مكان كان المصلي عليه أن يتجه (٢) إلى جهة مكة.

٢ ـ كفر كثير من أهل الكتاب كان على علم ايثارا للدنيا على الآخرة.

٣ ـ حرمة موافقة المسلمين أهل الكتاب على بدعة من بدعهم الدينية مهما كانت.

٤ ـ علماء أهل الكتاب المعاصرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرفون أنه النبي المبشر به وأنه النبي الخاتم واعرضوا عن الايمان به وعن متابعته إيثارا للدنيا على الآخرة.

(وَلِكُلٍّ (٣) وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ (٤) الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا

__________________

(١) هذا تفسير قوله تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) يقال امترى. فلان في كذا إذا اعتراه اليقين مرة والشك مرة أخرى فدافع أحدهما بالآخر ومنه الإمتراء ، لأن كل واحد يشك في قول صاحبه والامتراء الشك.

(٢) روي عن ابن عباس أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي».

(٣) الوجهة : من المواجهة وهي والجهة والوجه كلها بمعنى واحد ، ومفعول مولّيها محذوف أي وجهه ، أو يكون موليها بمعنى متوليها وحينئذ فلا حذف ولا تقدير.

(٤) اختلف في الجهة التي كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستقبلها في مكة قبل الهجرة ، والراجح أنّه كان يجعل الكعبة أمامه وهو متجه إلى الشام ، بمعنى أنه يصلي بين الركنين اليمانيين ولما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس حتى حول إلى الكعبة ، وهل كان استقباله بيت المقدس باجتهاد منه أو بوحي ، الظاهر أنّه باجتهاد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٢٩

اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ (١) شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا (٢) فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي (٣) أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢))

شرح الكلمات :

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) : التنوين في (كل) دال على محذوف ، هو لكل أهل ملة كالإسلام ، واليهودية والنصرانية قبلة يولون وجوههم لها في صلاتهم.

(الْخَيْراتِ) : البر والطاعة لله ورسوله.

الحجة : الدليل القوي الذي يظهر به صاحبه على من يخاصمه.

(نِعْمَتِي) : نعم الله كثيرة وأعظمها نعمة الاسلام وإتمامها بمواصلة التشريع والعمل به إلى نهاية الكمال ، وكان ذلك في حجة الوداع بعرفات حيث نزلت آية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

__________________

(١) قال ابن كثير والقرطبي قبله استدل مالك بقول الله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أنّ المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما هو مذهب الجمهور ، أبي حنيفة والشافعي وأحمد والذي أراه يحقق المطلوب من الآية هو أن ينظر المصلي أولا أمامه امتثالا لأمر الله تعالى ثم بعد ذلك ينظر إلى موضع سجوده.

(٢) الكاف في محل نصب على النعت لمصدر محذوف تقديره ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل ما أرسلنا وهو تشبيه نعمة استقلالكم في القبلة باستقلالكم في الرسالة.

(٣) أصل الذكر يكون بالقلب ، ولما كان القلب باطنا جعل اللفظ باللسان دليلا عليه ، فأصبح الذكر يطلق على ذكر اللسان وإن كان المطلوب هما معا أي ذكر القلب واللسان والجملة أمر وجواب فاذكروني أمر ، وأذكركم جواب وجزاء ، وذكر الله للعبد أعظم ، وقد ورد في فضل الذكر الكثير من الأحاديث منها : حديث ابن ماجه ونصّه : «أنّ رجلا قال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به قال : لا يزال لسانك رطبا بذكر الله».

١٣٠

(رَسُولاً) : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتنكير فيه للتعظيم.

(يُزَكِّيكُمْ) : يطهركم من الذنوب والأخلاق السيئة والملكات الرديئة.

(الْحِكْمَةَ) : السنة وهي كل قول صالح لا ينتهي صلاحه ونفعه بمرور الزمن.

الشكر : إظهار النعمة (١) بصرفها فيما من أجله وهبها الله تعالى لعباده.

والكفر : جحد النعمة وإخفاؤها وصرفها في غير ما يحب الله تعالى.

معنى الآيات :

بعد تقرير تلك الحقيقة التي تضمنتها آية (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلخ .... وهي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أتى أهل الكتاب بكل آية تدل على صدقه في أمر القبلة ما تبعوا قبلته ، وما هو بتابع قبلتهم ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض فلا اليهود يستقبلون مطلع الشمس ولا النصارى يستقبلون بيت المقدس. أخبر تعالى أن لكل أمة قبلة مولية وجهها إليها في صلاتها ، فاتركوا أيها المسلمون أهل تلك الملل الضالة وسابقوا في الخيرات ونافسوا في الصالحات شكرا لربكم على نعمة هدايته لكم لقبلة أبيكم إبراهيم فإنه تعالى جامعكم ليوم القيامة وسائلكم ومجازيكم بأعمالكم إنه على كل شيء قدير ، هذا

ثم أمر الله رسوله أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام حيثما كان في الحضر كان أو في السفر وأعلمه أن تحوله إلى الكعبة حق ثابت من ربه تعالى فلا يتردد فيه.

هذا ما تضمنته الآيتان (١٤٨) و (١٤٩) وأما الآية (١٥٠) فإنه تعالى أمر رسوله والمؤمنين بأن يولوا وجوههم شطر المسجد (٢) الحرام حيثما كانوا وأينما وجدوا ويثبتوا على ذلك حتى لا يكون لأعدائهم من اليهود والمشركين حجة ، إذ يقول اليهود : ينكرون ديننا ويستقبلون قبلتنا ، ويقول المشركون : يدعون أنهم على ملة ابراهيم ويخالفون قبلته. هذا بالنسبة للمعتدلين منهم أما الظالمون والمكابرون فإنهم لا سبيل إلى اقناعهم إذ قالوا بالفعل : ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين آبائه ويوشك أن يرجع إليه ، فمثل هؤلاء لا يبالى بهم ولا يلتفت إليهم كما قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ) (٣) (وَاخْشَوْنِي). فاثبتوا على قبلتكم الحق

__________________

(١) ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة أحبّ أن يرى أثرها عليه.»

(٢) قد ورد في الآيات الأمر بتولية الرسول والمؤمنين وجوههم شطر المسجد الحرام ثلاث مرات وهو تكرار تطلبه المقام فكان من مقتضيات الحال التي يوجبها الكلام البليغ الرفيع ومن مقتضيات الحال إسكات السفهاء وقطع الطريق عليهم ورفع معنويات المؤمنين حيث تأثر بعضهم بما أثاره اليهود والمنافقون والمشركون حول تحويل القبلة.

(٣) الخشية مرادفة للخوف ، والخوف هو فزع في القلب تخف له الأعضاء ، ولخفة الأعضاء به سمي خوفا.

١٣١

لأتم نعمتي عليكم بهدايتكم إلى أحسن الشرائع وأقومها ، ولأهيئكم لكل خير وكمال مثل ما أنعمت عليكم بإرسال رسولي ، يزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه من أمور الدين والدنيا معا وفي الآية الأخيرة (١٥٢) أمر تعالى المؤمنين بذكره وشكره ، ونهاهم عن نسيانه وكفره ، فقال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) لما في ذكره بأسمائه وصفاته ووعده ووعيده من موجبات محبته ورضاه ولما في شكره بإقامة الصلاة وأداء سائر العبادات من مقتضيات رحمته وفضله ولما في نسيانه وكفرانه من التعرض لغضبه وشديد عقابه وأليم عذابه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الاعراض عن جدل المعاندين ، والاقبال على الطاعات تنافسا فيها وتسابقا إليها إذ هو أنفع وأجدى من الجدل والخصومات مع من لا يرجى رجوعه إلى الحق.

٢ ـ وجوب استقبال القبلة في الصلاة وسواء كان في السفر أو في الحضر إلا أن المسافر يجوز أن يصلي النافلة حيث توجهت دابته أو طيارته أو سيارته إلى القبلة وإلى غيرها.

٣ ـ حرمة (١) خشية الناس ووجوب خشية الله تعالى.

٤ ـ وجوب شكر الله تعالى على نعمه الظاهرة والباطنة.

٥ ـ وجوب (٢) تعلم العلم الضروري ليتمكن العبد من عبادة الله عبادة تزكي نفسه.

٦ ـ وجوب (٣) ذكر الله بالتهليل والتكبير والتسبيح ووجوب شكره بطاعته.

٧ ـ حرمة نسيان ذكر الله ، وكفران نعمه بترك شكرها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)

__________________

(١) ورد في الصحيح أن الله تعالى يقول : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، والمراد من الملأ الخير الملائكة وورد : أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه. وقال معاذ بن جبل ما عمل ابن ادم عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عزوجل.

(٢) في هذا إبطال للتقية التي جعلها الروافض من أصول دينهم.

(٣) شاهده من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طلب العلم فريضة على كل مسلم» وهو حديث صحيح الإسناد.

(٤) شاهده من القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) الأحزاب.

١٣٢

وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ (١) مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ (٢) الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))

شرح الكلمات

الاستعانة : طلب المعونة والقدرة على القول أو العمل.

(بِالصَّبْرِ) : حمل النفس على المكروه وتوطينها على احتمال المكاره.

الشعور : الاحساس بالشيء المفضي إلى العلم به.

الابتلاء : الاختبار والامتحان لإظهار ما عليه الممتحن من قوة أو ضعف.

(الْأَمْوالِ) : جمع مال وقد يكون ناطقا وهو المواشي ويكون صامتا وهو النقدان وغيرهما

المصيبة : ما يصيب العبد من ضرر في نفسه أو أهله أو ماله.

الصلوات : جمع صلاة وهي من الله تعالى هنا المغفرة لعطف الرحمة عليها.

(وَرَحْمَةٌ) : الرحمة الإنعام وهو جلب ما يسر ودفع ما يضر ، وأعظم ذلك دخول الجنة بعد النجاة من النار.

(الْمُهْتَدُونَ) : إلى طريق السعادة والكمال بإيمانهم وابتلاء الله تعالى لهم وصبرهم على ذلك.

معنى الآيات :

نادى الرب تعالى عباده المؤمنين وهم أهل ملة الإسلام المسلمون ليرشدهم إلى

__________________

(١) لفظ شيء يدل على تهوين الفاجعة الدال عليها الخوف والجوع وما بعدهما كما يدل أيضا على أن ما يبتليهم به من ذلك هو هيّن فلا يقاس بما يصيب به أهل عداوته من أهل الشرك والكفر والفسق إذا أخذهم بذنوبهم.

(٢) أسند التبشير إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه متأهل له بالرسالة فغيره لا يملكه ، وقد لا يصدق فيه ، كما أن اللفظ دال على سمو مقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٣٣

ما يكون عونا لهم على الثبات على قبلتهم التي اختارها لهم ، وعلى ذكر ربهم وشكره وعدم نسيانه وكفره فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا) أي على ما طلب منكم من الثبات والذكر والشكر ، وترك النسيان والكفر بالصبر الذي هو توطين النفس وحملها على أمر الله تعالى به وبإقام الصلاة ، وأعلمهم أنه مع الصابرين يمدهم بالعون والقوة ، فإذا صبروا نالهم عون الله تعالى وتقويته وهذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٣) أما الآية الثانية (١٥٤) فقد تضمنت نهيه تعالى لهم أن يقولوا معتقدين إن من قتل في سبيل الله ميت إذ هو حي في البرزخ وليس بميت بل هو حي يرزق في الجنة كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش». (رواه مسلم). فلذا لا يقال لمن قتل في سبيل الله مات (١) ولكن استشهد وهو شهيد وحيّ عند ربه حياة لا نحسها ولا نشعر بها لمفارقتها للحياة في هذه الدار. وأما الآية الثالثة (١٥٥) فإنه يقسم (٢) تعالى لعباده المؤمنين على أنه يبتليهم بشيء من الخوف (٣) بواسطة اعدائه واعدائهم وهم الكفار عند ما يشنون الحروب عليهم وبالجوع لحصار العدو ولغيره من الأسباب ، وبنقص الأموال كموت الماشية للحرب والقحط ، وبالأنفس كموت الرجال ، وبفساد الثمار بالجوائح ، كل ذلك لإظهار من يصبر على إيمانه وطاعة ربه بامتثال أمره واجتناب نهيه ومن لا يصبر فيحرم ولاية الله وأجره ، ثم أمر رسوله بأن يبشر الصابرين ، وبين في الآية الرابعة (١٥٦) حال الصابرين وهي أنهم إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله ، فله أن يصيبنا بما شاء لأنّا ملكه وعبيده ، وإنا إليه راجعون بالموت فلا جزع إذا ولكن تسليم لحكمه (٤) ورضا بقضائه وقدره ، وفي الآية الخامسة (١٥٧) أخبر تعالى مبشرا أولئك الصابرين بمغفرة ذنوبهم وبرحمة من ربهم ، وإنهم المهتدون إلى سعادتهم وكمالهم ، فقال : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

__________________

(١) لا يقال لمن قتل في سبيل الله مات ، بمعنى انقطعت عنه الحياة والشهيد لم يمت وإنّما انتقل من حياة ناقصة إلى حياة كاملة دائمة ، كما أن لفظ الموت مفزع للإنسان فإذا دارت المعركة وسقط الشهداء ، وقيل مات فلان وفلان يؤثر ذلك في نفس من سمع كلمة الموت ولذا لا يقال مات ولكن استشهد.

(٢) دلّ على القسم : اللّام في قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) إذ هي موطئة للقسم كأنما قال : وعزتي وجلالي لنبلونكم الخ ..

(٣) من فسّر الخوف بالخوف من الله والجوع بالصيام ، ونقص من الأموال بالزكاة لم يخطىء ولكن ما فسّرت به الآية هو الصواب الحق الذي عليه أئمة التفسير.

(٤) روى أحمد والترمذي عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعا إلّا جدّد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب.

١٣٤

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضيلة الصبر والأمر به والاستعانة بالصبر والصلاة على المصائب والتكاليف وفي الحديث كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

٢ ـ فضل الشهداء على غيرهم بحياتهم عند ربهم حياة أكمل من حياة غيرهم في الجنة.

٣ ـ قد يبتلى المؤمن بالمصائب في النفس والأهل والمال ليصبر فترتفع درجته ويعلو مقامه عند ربه.

٤ ـ فضيلة الاسترجاع عند المصيبة وهو قول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، وفي الصحيح يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها». (رواه مسلم)

(إِنَّ الصَّفا (١) وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨))

شرح الكلمات :

(الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) (٢) : جبل مقابل البيت في الجهة الشرقية الجنوبية ، والمروة جبل آخر مقابل الصفا من الجهة الشمالية والمسافة بينهما قرابة (٧٦٠) ذراعا.

(شَعائِرِ اللهِ) : أعلام دينه جمع شعيرة وهي العلامة على عبادة الله تعالى فالسعي بين الصفا والمروة شعيرة لأنه دال على طاعة الله تعالى.

الحج (٣) : زيارة بيت الله تعالى لأداء عبادات معينة تسمى نسكا.

__________________

(١) أخرج البخاري عن عاصم بن سليمان قال سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عزوجل : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما).

(٢) الصفا : لغة جمع صفاة وتجمع على صفي ، وأصفاء مثل أرجاء : الحجارة الملساء الصلبة البيضاء والمروة واحدة المرو وهي الحجارة الصغار التي فيها لين.

(٣) الحج لغة : القصد ، والعمرة : الزيارة ، وشاهد الحج القصد قول الشاعر :

فاشهد من عوف حلولا كثيرة

يحجّون سبّ الزبرقان المعصفرا

الحلول : الجماعة الكثيرة ويحجون بمعنى يقصدون

١٣٥

العمرة : زيارة بيت الله تعالى للطواف به والسعي بين الصفا والمروة والتحلل بحلق شعر الرأس أو تقصيره.

الجناح : الاثم وما يترتب على المخالفة بترك الواجب أو بفعل المنهى عنه.

(يَطَّوَّفَ) : يسعى بينهما ذاهبا جائيا.

(خَيْراً) : الخير اسم لكل ما يجلب المسرة ، ويدفع المضرة والمراد به هنا العمل الصالح.

معنى الآية الكريمة :

يخبر تعالى مقررا فرضية (١) السعي بين الصفا والمروة ، ودافعا ما توهمه بعض المؤمنين من وجود إثم في السعي بينهما نظرا إلى أنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له إساف ، وآخر على المروة يقال له نائلة يتمسح بهما من يسعى بين الصفا والمروة فقال تعالى : إن الصفا والمروة يعني السعي بينهما من شعائر الله أي عبادة من عباداته إذ تعبد بالسعي بينهما نبيه ابراهيم وولده إسماعيل والمسلمون من ذريتهما. فمن حج البيت لأداء فريضة الحج أو اعتمر لأداء واجب العمرة فليسع بينهما أداء لركن الحج والعمرة ولا إثم عليه في كون المشركين كانوا يسعون بينهما لأجل الصنمين : اساف ونائلة.

ثم أخبر تعالى واعدا عباده المؤمنين أن من يتطوع منهم بفعل خير من الخيرات يجزه به ويثبه عليه ، لأنه تعالى يشكر لعباده المؤمنين أعمالهم الصالحة ويثيبهم عليها لعلمه بتلك الأعمال ونيات أصحابها ، هذا معنى قوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ).

هداية الآية الكريمة

من هداية هذه الآية :

١ ـ وجوب السعي بين الصفا (٢) والمروة لكل من طاف بالبيت حاجا أو معتمرا ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» (٣). (رواه الدار قطني ولم يعل) وسعى

__________________

(١) السعي ركن الحج عند مالك ، وأحمد والشافعي ولم يره ركنا أبو حنيفة ، وما ذهب إليه الجمهور هو الذي يؤخذ به لحديث : «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» وكتب بمعنى فرض لغة وشرعا.

(٢) من ترك السعي وسافر ، يعود إليه محرما فيطوف بالبيت ويسعى بحكم أنه فرض وركن ، ومن قال بوجوبه دون ركنيته يجزئه ذبح شاة.

(٣) وفي الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من باب الصفا بعد أن طاف بالبيت وهو يقول : إن الصفا والمروة من شعائر الله ثم قال : أبدأ بما بدأ الله به : فدل هذا على وجوب البدء في السعي بالصفا قبل المروة ، ودل فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن السعي سبعة أشواط لا ينقص ولا يزيد.

١٣٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمراته كلها وفي حجه كذلك.

٢ ـ لا حرج في الصلاة في كنيسة حولت مسجدا ، ولا يضر كونها كانت معبدا للكفار.

٣ ـ الترغيب في فعل الخيرات من غير الواجبات ، وذلك من سائر النوافل كالطواف والصلاة والصيام والصدقات والرباط والجهاد.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)) (١)

شرح الكلمات :

(يَكْتُمُونَ) (٢) : يخفون ويغطون حتى لا يظهر الشىء المكتوم ولا يعرف فيؤخذ به.

(الْبَيِّناتِ) : جمع بينة وهي ما يثبت به شيء المراد إثباته ، والمراد به هنا ما يثبت نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نعوت وصفات جاءت في كتاب أهل الكتاب.

(الْهُدى) : ما يدل على المطلب الصحيح ويساعد على الوصول إليه والمراد به هنا ما جاء به رسول الله من الدين الصحيح المفضي بالآخذ به إلى الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) تابوا : أي رجعوا إلى الإيمان والدخول في الإسلام ، وأصلحوا : أي ما أفسدوه من عقائد الناس ، وأخلاقهم وأرواحهم ، وبينوا : أي ما كتموه من العلم الواجب بيانه والمحرّم كتمانه.

(٢) الكتمان يكون بإلغاء الحفظ المقرر ، وإلغاء التدريس والتعليم للواجب بيانه وتعليمه والدعوة إليه.

١٣٧

(فِي الْكِتابِ) : التوراة والانجيل.

اللعنة : الطرد والبعد من كل خير ورحمة.

(اللَّاعِنُونَ) : من يصدر عنهم اللعن كالملائكة والمؤمنين.

(أَصْلَحُوا) : ما أفسدوه من عقائد الناس وأمور دينهم بإظهار ما كتموه والايمان بما كذبوا به وأنكروه.

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) : أي بأن يمهلوا ليعتذروا ، كقوله تعالى : ولا يؤذن لهم فيعتذرون

معنى الآيات :

عاد السياق بعد الاجابة عن تحرج بعض المسلمين من السعي بين الصفا والمروة عاد إلى التنديد بجرائم علماء أهل الكتاب ، ودعوتهم إلى التوبة بإظهار الحق والايمان به فأخبر تعالى أن الذين يكتمون ما أنزله (١) من البينات والهدى في التوراة والانجيل من صفات الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر بالايمان به وبما جاء به من الدين ، هؤلاء البعداء يلعنهم الله تعالى وتلعنهم الملائكة والمؤمنون. (٢) هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٩) وفي الآية التي بعدها (١٦٠) استثنى تعالى من المبعدين من رحمته من تاب من أولئك الكاتمين للحق بعدما عرفوه فبينوا وأصلحوا فهؤلاء يتوب عليهم ويرحمهم وهو التواب الرحيم.

وفي الآية الثالثة (١٦١) والرابعة (١٦٢) أخبر تعالى أن الذين كفروا من أهل الكتاب وغيرهم بنبيه ودينه ولم يتوبوا فماتوا على كفرهم أن عليهم (٣) لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولذا فهم مطرودون مبعدون من الرحمة الإلهية وهي الجنة خالدون في جهنم لا يخفف عنهم عذابها ، ولا يمهلون فيعتذرون.

__________________

(١) الآية عامة في كل من كتم علما واجب البيان ويعم العلم المنصوص والمستنبط وما لم يكن واجب البيان فلا يدخل صاحبه في هذا الوعيد ، إذ من العلم ما لا يجوز بيانه لحديث : «حدّث الناس بما يفهمون ، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله» ، وحديث الصحيح : «أفلا أخبر الناس؟ قال : لا إذا فيتكلوا».

(٢) أخرج ابن ماجه بسند حسن أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في اللاعنون : «دواب الأرض ، ولذا فاللفظ عام يشمل كل من يتأتى منه اللّعن ، ويدخل الملائكة والمؤمنون دخولا أوليا.

(٣) هل يجوز لعن المؤمن العاصي المعين؟ لا يجوز لعن المؤمن العاصي المعين وذلك لحديث الصحيح «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» ، إذ لعنوا مؤمنا حال إقامة الحد عليه حدّ شرب الخمر.

١٣٨

هداية الآيات

من هداية الآيات

١ ـ حرمة كتمان العلم وفي الحديث الصحيح «من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار». وقال أبو هريرة رضي الله عنه في ظروف معينة : (لو لا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثا) وتلا (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) إلخ ...

٢ ـ يشترط لتوبة من أفسد في ظلمه وجهله اصلاح ما أفسد ببيان ما حرف أو بدل وغير ، وإظهار ماكتم ، وأداء ما أخذه بغير الحق.

٣ ـ من كفر ومات على كفره من سائر الناس يلقى في جهنم بعد موته خالدا في العذاب مخلدا لا يخفف عنه ولا ينظر فيعتذر ، ولا يفتر عنه العذاب فيستريح.

٤ ـ جواز لعن (١) (٢) المجاهرين بالمعاصي كشراب الخمر والمرابين ، والمتشبهين من الرجال بالنساء ومن النساء بالرجال.

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤))

شرح الكلمات :

الإله : المعبود بحق (٣) أو بباطل ، والله سبحانه وتعالى هو الإله الحق المعبود بحق.

__________________

(١) فإن قيل : ما كل الناس يلعنونهم فالجواب : إمّا أن يكون من باب تغليب الأكثر على الأقل وإمّا أن يكون يوم القيامة لقوله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).

(٢) لكن لا على سبيل التعيين ، وإنّما على العموم كلعن الله آكل الربا مثلا.

(٣) لم يرد في القرآن لفظ الإله إلّا لله سبحانه وتعالى وأما إله بالتنكير فكثير.

١٣٩

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) : في ذاته وصفاته ، وفي ربوبيته فلا خالق ولا رازق ولا مدبر للكون والحياة إلا هو وفي ألوهيته أي في عبادته فلا معبود بحق سواه.

(اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : بوجود أحدهما وغياب الثاني لمنافع العباد بحيث لا يكون النهار دائما ولا الليل دائما.

(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) : وفرق في الأرض ونشر فيها من سائر أنواع الدواب.

(تَصْرِيفِ الرِّياحِ) : باختلاف مهابها مرة صبا ومرة دبور ومرة شمالية ومرة غربية أو مرة ملقحة ومرة عقيم.

معنى الآيتين :

لما أوجب الله على العلماء بيان العلم والهدى وحرم كتمانهما أخبر أنه الإله الواحد الرحمن الرحيم وأن هذا أول ما على العلماء أن يبينوه للناس وهو توحيده تعالى في ربوبيته وعبادته وأسمائه وصفاته ، ولما سمع بعض المشركين تقرير هذه الحقيقة : وإلهكم إله واحد قالوا : هل من دليل ـ يريدون على أنه لا إله إلا الله (١) ـ فأنزل الله تعالى هذه الآية : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله (يَعْقِلُونَ) مشتملة على ستّ آيات كونية كل آية برهان ساطع ودليل قاطع على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي كلها موجبة لعبادته وحده دون من سواه.

الأولى : خلق السموات (٢) والأرض وهو خلق عظيم لا يتأتي إلا للقادر الذي لا يعجزه شىء.

الثانية : اختلاف الليل والنهار بتعاقبهما وطول هذا وقصر ذاك.

الثالثة : جريان (٣) الفلك ـ السفن ـ في البحر على ضخامتها وكبرها وهي تحمل مئات الأطنان من الأرزاق وما ينتفع به الناس في حياتهم.

الرابعة : إنزاله تعالى المطر من السماء لحياة الأرض بالنباتات والزروع بعد جدبها وموتها.

__________________

(١) جملة لا إله إلا الله أوّلها كفر وآخرها إيمان ، لأن أوّلها نفي لكل إله وآخرها إثبات الألوهية لله سبحانه وتعالى وحده دون سواه.

(٢) جمع لفظ السموات لأنها أجسام متباينة وأفرد لفظ الأرض لأنها نوع واحد من تراب طبقة فوق أخرى.

(٣) في الآية دليل على جواز ركوب البحر للجهاد والحج والتجارة إلّا في حالة غلبة الهلاك الطارىء فإنه لا يجوز ، وحديث أم حرام في الموطأ وغيره دليل على الجواز للنساء كالرجال.

١٤٠