أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

الجزء الثالث

(تِلْكَ الرُّسُلُ (١) فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

شرح الكلمات :

(تِلْكَ الرُّسُلُ) : أولئك الرسل الذين قص الله تعالى على رسوله بعضا منهم وأخبره أنه منهم في قوله (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) في الآية قبل هذه.

(مَنْ كَلَّمَ اللهُ) : كموسى عليه‌السلام.

(وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) : وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث فضله (٢) تفضيلا على سائر الرسل.

(الْبَيِّناتِ) : المعجزات الدالة على صدق عيسى في نبوته ورسالته.

(بِرُوحِ الْقُدُسِ) : جبريل عليه‌السلام كان يقف دائما إلى جانب عيسى يسدده ويقويه إلى أن رفعه الله تعالى إليه.

(اقْتَتَلُوا) : قتل بعضهم بعضا.

(أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) : النفقة الواجبة وهي الزكاة ، ونفقة التطوع المستحبة.

__________________

(١) روى أحمد عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : أي الأنبياء كان أول؟ قال «آدم قلت رسول ونبي كان؟ قال نعم نبيّ مكلّم قلت يا رسول الله كم المرسلون؟ قال : ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا».

(٢) شاهده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» ومع هذا زيادة في كماله قال : «لا تفضلوني على موسى». وقال على يونس بن متى : «فصلّى الله عليه ما أرفع مقامه».

٢٤١

(لا بَيْعٌ فِيهِ) (١) : لا يشتري أحد نفسه بمال يدفعه فداء لنفسه من العذاب.

(وَلا خُلَّةٌ) : أي صداقة تنفع صاحبها.

(وَلا شَفاعَةٌ) : تقبل إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.

(وَالْكافِرُونَ) : بمنع الزكاة والحقوق الواجبة لله تعالى ولعباده هم الظالمون.

معنى الآيتين :

بعد أن قص الله تبارك وتعالى على رسوله قصة ملأ بني إسرائيل في طلبهم نبيهم شمويل بأن يعين لهم ملكا يقودهم إلى الجهاد ، وكانت القصة تحمل في ثناياها أحداثا من غير الممكن أن يعلمها أميّ مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدون ما يتلقّاها وحيا يوحيه الله تعالى إليه وختم القصة بتقرير نبوته ورسالته بقوله : (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أخبر تعالى أن أولئك الرسل فضل بعضهم على بعض ، منهم من فضله بتكليمه كموسى عليه‌السلام ومنهم من فضله بالخلّة كإبراهيم عليه‌السلام ومنهم من رفعه إليه وأدناه وناجاه وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنهم من آتاه الملك (٢) والحكمة وعلمه صنعة الدروع كداود عليه‌السلام ، ومنهم من آتاه الملك والحكمة وسخر له الجن وعلمه منطق الطير كسليمان عليه‌السلام ، ومنهم من آتاه البينات وأيده بروح القدس وهو عيسى عليه‌السلام. فقال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى (٣) بَعْضٍ ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) كنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ فضله بعموم رسالته وبختم النبوات بنبوته ، وبتفضيل أمته ، وبإدخاله الجنة في حياته قبل مماته وبتكليمه ومناجاته مع ما خصه من الشفاعة يوم القيامة. ثم أخبر تعالى أنه لو يشاء هداية الناس لهداهم فلم يختلفوا بعد رسلهم ولم يقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات وذلك لعظيم قدرته ، وحرّية إرادته فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. هذا بعض ما أفادته الآية الأولى (٢٥٣) أما الآية الثانية (٢٥٤) فقد نادى الله تعالى عباده المؤمنين وأمرهم بالانفاق في سبيل الله تقرّبا إليه وتزودا للقائه قبل يوم القيامة حيث لا

__________________

(١) قرأ ابن كثير وأبو عمرو لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة بالنصب من غير تنوين. وأنشد حسان وهو شاهد هذه القراءة :

ألا طعان ولا فرسان عادية

الا تجشؤكم عند التنانير

يهجو ناسا فيصفهم بالقعود عن القتال وملازمة التنور للطعام.

(٢) الحكمة هنا هي النبوة كما تقدم عن ابن كثير في «نهر الخير».

(٣) هل يجوز للمسلم أن يقول مثلا موسى أفضل من هارون أو إبراهيم أفضل من عيسى مثلا؟ الجواب لا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تخيّروا بين الأنبياء ولا تفضلوا بين أنبياء الله» أي لا تقولوا فلان خير من فلان ، ولا فلان أفضل من فلان إذ نحن لا نقدر على التفضيل وإنما يقدر عليه الله وحده إذ هو الذي يهب ما يشاء لمن يشاء.

٢٤٢

فداء ببيع وشراء ، ولا صداقة تجدي ولا شفاعة تنفع ، والكافرون بنعم الله وشرائعه هم الظالمون المستوجبون (١) للعذاب والحرمان والخسران.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ تفاضل الرسل فيما بينهم بحسب جهادهم وصبرهم وما أهلهم الله تعالى له من الكمال.

٢ ـ صفة الكلام لله تعالى حيث كلّم موسى في الطور ، وكلم محمدا في الملكوت الأعلى.

٣ ـ الكفر والإيمان والهداية والضلال ، والحرب والسلم كل ذلك تبع لمشيئته تعالى وحكمته.

٤ ـ ذم الاختلاف في الدين وأنه مصدر شقاء وعذاب.

٥ ـ وجوب الانفاق في سبيل الله مما رزق الله تعالى عبده.

٦ ـ التحذير من الغفلة والأخذ بأسباب النجاة يوم القيامة حيث لا فداء ولا خلّة تنفع ولا شفاعة ومن أقوى الأسباب الإيمان والعمل الصالح وإنفاق المال تقربا إلى الله تعالى في الجهاد وغيره.

(اللهُ لا إِلهَ (٢) إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥))

__________________

(١) قال القرطبي عند هذه الآية : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وانفاق المال قال : وقال عطاء بن دينار الحمد لله الذي قال : الكافرون هم الظالمون ولم يقل الظالمون هم الكافرون.

(٢) صحّ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أبا المنذر ـ أبي بن كعب ـ أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال : قلت (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ). فضرب في صدري وقال : ليهنك العلم يا أبا المنذر» وروى أحمد أن آية الكرسي تعدل ربع القرآن وأنّ الزلزلة والكافرون والنصر كل واحدة تعدل ربع القرآن وأنّ الصمد تعدل ثلث القرآن».

٢٤٣

شرح الكلمات :

(اللهُ) : علم على ذات الرب تبارك وتعالى.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : الإله المعبود ، ولا معبود بحق إلا الله ، إذ هو الخالق الرزاق المدبر بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء ، وما عداه من الآلهة فعبادتها بدون حق فهي باطلة.

(الْحَيُ) (١) : ذو الحياة العظيمة التي لا تكون لغيره تعالى وهي مستلزمة للقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام.

(الْقَيُّومُ) (٢) : القائم بتدبير الملكوت كله علويه وسفليّه ، القائم على كل نفس بما كسبت.

السنة : النعاس يسبق النوم.

(كُرْسِيُّهُ) : الكرسي : موضع القدمين ، ولا يعلم كنهه إلا الله تعالى.

(يَؤُدُهُ) : يثقله ويشق عليه.

معنى الآية الكريمة :

لما أخبر تعالى عن يوم القيامة وأنه يوم لا بيع فيه ولا شفاعة وأن الكافرين هم الظالمون ، أخبر عن جلاله وكماله وعظيم سلطانه وأنه هو المعبود بحق وأن عبادته هي التي تنجي من أهوال يوم القيامة فقال : (اللهُ لا إِلهَ (٣) إِلَّا هُوَ) : أي أنه الله المعبود بحق ولا معبود بحق سواه. (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الدائم الحياة التي لم تسبق بموت ولم يطرأ عليها موت. (الْقَيُّومُ) : العظيم القيّوميّة على كل شيء ، لولا قيّوميّته على الخلائق ما استقام من أمر العوالم شيء : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (٤) : إذ النعاس والنوم من صفات النقص وهو تعالى ذو الكمال المطلق. وهذه الجملة برهان على الجملة قبلها ، إذ من ينعس وينام لا يتأتى له القيومية على

__________________

(١) الحي : أصلها الحيي كالحذر فحذفت كسرة الياء الأولى فسكنت وأدغمت في الثانية فصارت الحي والقيوم أصلها القيووم فقلبت الواو الأولى ياء وادغمت في الياء فصارت القيوم.

(٢) روى الترمذي وقال حديث حسن صحيح : «إن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في هاتين الآيتين : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) و (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) إن فيهما اسم الله الأعظم». ورواه أبو داود أيضا.

(٣) هذه آية الكرسي قال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلّا أن يموت» رواه النسائي وغيره.

(٤) ورد في الصحيح عن أبي موسى قال : «قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربع كلمات فقال : إنّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل ، وعمل الليل قبل عمل النهار وحجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».

٢٤٤

الخلائق ولا يسعها حفظا ورزقا وتدبيرا. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : خلقا وملكا وتصرفا ، (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) : ينفي تعالى وهو الذي له ما في السموات وما في الأرض ينفي أن يشفع عنده في الدنيا أو في الآخرة أحد كائن من كان بدون أن يأذن له في الشفاعة. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) (١) : لكمال عجزهم. (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ (٢) السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : لكمال ذاته. (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) : ولا يثقله أو يشق عليه حفظ السموات والأرض وما فيهما وما بينهما. (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) : العلي الذي ليس فوقه شيء والقاهر الذي لا يغلبه شيء ، العظيم الذي كل شيء أمام عظمته صغير حقير.

هداية الآية الكريمة

من هداية هذه الآية :

١ ـ أنها أعظم آية في كتاب الله تعالى اشتملت على ثمانية عشر إسما لله تعالى ما بين ظاهر ومضمر ، وكلماتها خمسون كلمة وجملها عشر جمل كلها ناطقة بربوبيته تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه.

٢ ـ تستحب قراءتها بعد الصلاة المكتوبة ، وعند النوم ، وفي البيوت لطرد الشيطان.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))

__________________

(١) هذا كناية عن إحاطة علم الله بكل شيء إذ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وهو بكل شيء عليم وأما الخلق فإنهم لا يعلمون إلّا ما شاء أن يعلمهم إيّاه.

(٢) أورد ابن كثير عن أبن عباس رضي الله عنهما قوله : «الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره» رواه الحاكم موقوفا وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

٢٤٥

شرح الكلمات :

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) : لا يكره المرء على الدخول في الدين (١) ، وإنما يعتنقه بإرادته واختياره.

(الرُّشْدُ) (٢) : الهدى الموصل إلى الإسعاد والإكمال.

(الْغَيِ) : الضلال المفضي بالعبد إلى الشقاء والخسران.

(بِالطَّاغُوتِ) (٣) : كل ما صرف عن عبادة الله تعالى من إنسان أو شيطان أو غيرهما.

(بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) (٤) : لا إله إلا الله محمد رسول الله.

(لَا انْفِصامَ لَها) : لا تنفك ولا تنحل بحال من الأحوال.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) : متوليهم بحفظه ونصره وتوفيقه.

(الظُّلُماتِ) : ظلمات الجهل والكفر.

(النُّورِ) : نور الإيمان والعلم.

(أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) : المتولون لهم الشياطين الذين زينوا لهم عبادة الأوثان فأخرجوهم من الإيمان إلى الكفر ومن العلم إلى الجهل.

معنى الآيتين :

يخبر الله تعالى بعد ذكر صفات جلاله وكماله في آية الكرسي أنه لا إكراه في دينه ، وذلك حين أراد بعض الأنصار إكراه من تهوّد أو تنصّر من أولادهم على الدخول في دين الإسلام ، ولذا فإن أهل الكتابين ومن شابههم تؤخذ منهم الجزية ويقرون على دينهم فلا يخرجون منه إلا باختيارهم وإرادتهم الحرة ، أما الوثنيّون والذين لا دين لهم سوى الشرك والكفر فيقاتلون حتى يدخلوا في الإسلام انقاذا لهم من الجهل والكفر وما لازمهم من الضلال والشقاء.

ثم أخبر تعالى أنه بإنزال كتابه وبعثه رسوله ونصر أوليائه قد تبين الهدى من الضلال والحق من الباطل ، وعليه فمن يكفر بالطاغوت وهو الشيطان الذي زين عبادة الأصنام ويؤمن بالله فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقد استمسك (٥) من الدين بأمتن عروة وأوثقها ، ومن يصرّ على الكفر بالله والإيمان بالطاغوت فقد تمسك بأوهى من خيط العنكبوت. والله

__________________

(١) الإكراه : الحمل على فعل المكروه ، والدين هنا : الإسلام وجملة (لا إكراه) خبر بمعنى الإنشاء.

(٢) يقال رشد يرشد رشدا ، ورشد يرشد رشدا ، إذا اهتدى واستقام ، وغوى ضدّه ، والغي مصدر من غوى يغوي إذ ضلّ في معتقد أو رأي.

(٣) كان العرب في الجاهلية يسمون الصنم المعبود الطاغية ، وفي الحديث : «كانوا يهلون لمناة الطاغية».

(٤) الوثقى : مؤنث الأوثق وجمع الوثقى الوثق مثل : الفضلى والفضل.

(٥) السين والتاء في (استمسك) للتأكيد كما في استجاب بمعنى أجاب.

٢٤٦

سميع لأقوال عباده عليم بنياتهم وخفيات أعمالهم وسيجزي كلا بكسبه. ثم أخبر تعالى أنه ولي عباده المؤمنين فهو يخرجهم من ظلمات (١) الكفر والجهل إلى نور العلم والإيمان فيكملون ويسعدون ، وأن الكافرين أولياؤهم الطاغوت من شياطين الجن والإنس الذين حسنوا لهم الباطل والشرور ، وزيّنوا لهم الكفر والفسوق والعصيان ، فأخرجوهم بذلك من النور إلى الظلمات فأهّلوهم لدخول النار فكانوا أصحابها الخالدين فيها.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ لا يكره أهل الكتابين ومن في حكمهم كالمجوس والصابئة على الدخول (٢) في الإسلام إلا باختيارهم وتقبل منهم الجزية فيقرّون على دينهم.

٢ ـ الإسلام (٣) كلّه رشد ، وما عداه ضلال وباطل.

٣ ـ التخلي عن الرّذائل مقدّم على التحلي بالفضائل.

٤ ـ معنى لا إله إلا الله ، وهي الإيمان بالله والكفر بالطاغوت.

٥ ـ ولاية الله تعالى تنال بالإيمان والتقوى.

٦ ـ نصرة الله تعالى ورعايته لأوليائه دون أعدائه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨))

__________________

(١) وحّد تعالى لفظ النور وجمع لفظ الظلمة ، لأنّ الحق واحد ، والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة.

(٢) هل هذه الآية : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) منسوخة بآية السيف؟ الراجح أنها محكمة غير منسوخة هل تؤخذ الجزية من غير أهل الكتاب ومن لهم شبهة كتاب؟ أما كفار قريش ، الإجماع على أن لا تؤخذ منهم الجزية. ومن عداهم مذهب مالك يرى أخذ الجزية منهم والإبقاء عليهم ولعلّ هذا إن دعت الضرورة إلى ذلك ، وما ذكرته في التفسير أصح المذاهب وأعدلها.

(٣) جاء في صحيح البخاري ما ملخصه : أن عبد الله بن سلام رأى رؤيا كأنه في دوحة خضراء وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة .. الحديث وفسر له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الروضة بالإسلام ، والعمود عمود الإسلام ، والعروة هي العروة الوثقى أي أنت على الإسلام حتى تموت. فكان مبشرا بالجنة رضي الله عنه.

٢٤٧

شرح الكلمات :

(أَلَمْ تَرَ) : ألم ينته إلى علمك يا رسولنا ، والاستفهام يفيد التعجب من الطاغية المحاج لإبراهيم.

(حَاجَ) : جادل ومارى وخاصم.

(فِي رَبِّهِ) : في شأن ربه من وجوده تعالى وربوبيته وألوهيته للخلق كلهم.

(آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) (١) : أعطاه الحكم والسيادة على أهل بلاده وديار قومه.

(إِبْراهِيمَ) : هو أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وكان هذا الحجاج قبل هجرة إبراهيم إلى أرض الشام.

(فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) : انقطع عن الحجّة متحيّرا مدهوشا ذاك الطاغية الكافر وهو النمرود البابلي.

معنى الآية الكريمة :

لما ذكر الله تعالى ولايته لأوليائه وأنه مؤيدهم وناصرهم ومخرجهم من الظلمات إلى النور ذكر مثالا لذلك وهو محاجة النمرود (٢) البابلي لإبراهيم عليه‌السلام فقال تعالى مخاطبا رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أي ألم ينته إلى علمك حجاج ذاك الطاغية الذي بطرته نعمة الملك الذي آتيناه امتحانا له فكفر وادعى الربوبية وحاج خليلنا فبينا إنه لأمر عجب. إذ قال له إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ، وأنت لا تحيي ولا تميت فقال أنا أحيي (٣) وأميت ، فرد عليه إبراهيم حجته قائلا : ربي يأتي بالشمس من المشرق فأت بها أنت من المغرب فاندهش وتحير وانقطع وأيد الله وليه إبراهيم فانتصر (٤) ، فهذا مثال لإخراج الله تعالى أولياءه من ظلمة الجهل إلى نور العلم.

__________________

(١) إذ هو ملك بابل وقيل إنّه أحد الأربعة الذين ملكوا المعمورة وهم مسلمان ، وكافران ، فالمسلمان سليمان ، وذو القرنين عليهما‌السلام والكافران : النمرود ، وبختنصر عليهما لعائن الرحمن.

(٢) يقال له النمرود بن كوئتن بن كنعان بن سام بن نوح عليه‌السلام ، وفي الآية دليل على جواز إطلاق اسم الملك على الحاكم الكافر ولمّا حارب الله تعالى أهلكه مع جيشه بالبعوض إذا فتح الله عليهم بابا من البعوض فأكلت الجيش فلم تتركه إلّا عظاما وأمّا النمرود فقد دخلت بعوضة في دماغه فصار يضرب على دماغه حتى هلك بذلك.

(٣) يريد أنّه يحيى من أراد حياته ويميت من أراد موته وهذا مجرّد تمويه وسفسطة فلذا عدل إبراهيم عنها وألزمه الحجة إن كان صادقا في دعواه بالإتيان بالشمس من المغرب كما يأتي بها الله من المشرق.

(٤) يذكر أهل التفسير هنا أن ابراهيم ذهب يمتار من عند الملك كغيره فجادله الملك ومنعه الميرة فعاد بلا شيء وفي اثناء طريقه وجد رملا أحمر فملأ منه غرارتين حتى لا يفاجىء أهله بالخيبة ولمّا وصل ونام قامت زوجته سارة ففتحت الغرارة فوجدتها دقيقا من أجود الدقيق الحوّارى.

٢٤٨

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ النعم تبطر صاحبها إذا حرم ولاية الله تعالى.

٢ ـ نصرة الله لأوليائه وإلهامهم الحجة لخصم أعدائهم.

٣ ـ إذا ظلم العبد ووالى الظلم حتى أصبح وصفا له يحرم هداية الله تعالى فلا يهتدي أبدا.

٤ ـ جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقيدة الصحيحة السليمة.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))

شرح الكلمات :

(قَرْيَةٍ) (١) : مدينة لم يذكر الله تعالى اسمها فلا يبحث عنها لعدم جدوى معرفتها.

(خاوِيَةٌ) : فارغة من سكانها ساقطة (٢) عروشها على مبانيها وجدرانها.

(أَنَّى يُحْيِي) : كيف يحيي (٣).

__________________

(١) سميت القرية قرية : لاجتماع الناس فيها ، مأخوذ من قريت الماء إذا جمعته ، وهي في القرآن ، المدينة الكبيرة ، والمراد بها هنا بيت المقدس ، وقد خرّبها الطاغية بختنصر ثمّ بعد سبعين سنة أعيد بناؤها كما كانت.

(٢) العريش : سقف البيت وجمعه عروش وهو كل ما يهيأ ليظل أو يكن من ينزل تحته ، ومنه عريش الدالية أي شجرة لعنب إذ يعرش لها عريش تمد عليه أغصانها لتتدلى منه عناقيدها.

(٣) اختلف فيمن هو المار على القرية هل هو عزير أو إرميا أو الخضر ، وأرجح الأقوال أنّه عزير ، وما دام الله ورسوله لم يذكرا اسمه فلا داعي إلى ذكره ، والتعرف إليه ولذا لم أذكره في التفسير.

٢٤٩

(بَعْدَ مَوْتِها) : بعد خوائها وسقوطها على عروشها

(لَبِثْتَ) : مكثت وأقمت.

(لَمْ يَتَسَنَّهْ) (١) : لم يتغير بمر السنين عليه.

(آيَةً) : علامة على قدرة الله على بعث الناس أحياء يوم القيامة.

(نُنْشِزُها) : في قراءة ورش ننشرها بمعنى نحييها بعد موتها. وننشزها نرفعها ونجمعها لتكون حمارا كما كانت.

معنى الآية :

هذا مثل آخر معطوف على الأول الذي تجلت فيه على حقيقتها ولاية الله لإبراهيم حيث أيده بالحجة القاطعة ونصره على عدوه النمرود قال تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ) فارغة من سكانها ساقطة سقوفها على مبانيها فقال المارّ بها مستبعدا حياتها مرة ثانية : كيف يحيي الله هذه القرية بعد خرابها؟ فأماته الله مائة عام ثم أحياه ، وسأله : كم لبثت؟ قال : حسب عادة من نام في يوم واستيقظ فيه فإنه يرى أنه نام يوما أو بعض يوم. فأجابه مصوّبا له فهمه : بل لبثت مائة عام ، ولكي تقتنع بما أخبرت به فانظر إلى طعامك وكان سلة من تين ، وشرابك وكان عصيرا من عنب فإنه لم يتغير طعمه ولا لونه وقد مر عليه قرن من الزمن ، وانظر إلى حمارك فإنه هلك بمرور الزمن ولم يبق منه إلا عظامه تلوح بيضاء فهذا دليل قاطع على موته وفنائه لمرور مائة سنة عليه ، وانظر إلى العظام كيف نجمعها ونكسوها لحما فإذا هي حمارك الذي كنت تركبه من مائة سنة ونمت وتركته إلى جانبك يرتع ، وتجلت قدرة الله تعالى في عدم تغير الذي جرت العادة أنه يتغير في ظرف يوم واحد وهو سلة التين وشراب العصير. وفي تغير الذي جرت العادة أنه لا يتغير إلا في عشرات الأعوام ، وهو الحمار. كما هي ظاهرة في موت صاحبهما وحياته بعد لبثه على وجه الأرض ميتا لم يعثر عليه أحد طيلة مائة عام. وقال له الرب تبارك وتعالى بعد أن وقفه على مظاهر قدرته فعلنا هذا بك لنريك (٢) قدرتنا على إحياء القرية متى أردنا إحياءها ولنجعلك في قصتك هذه آية للناس ،

__________________

(١) مشتق من السنة لأنّ مرّ السنين يوجب التغيّر فتسنّه تغير بمر السنين عليه مثل تحجر الطين صار حجرا بمرور الأيام أو الساعات عليه

(٢) قوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَكَ) قيل الواو مقحمة ، والأصل لنجعلك ، وعلى أصالة الواو وعدم إقحامها يكون المعنى ، أريناك ذلك لتعلم قدرتنا ولنجعلك آية للناس فالواو عاطفة إذا وهو وظيفتها أي العطف.

٢٥٠

تهديهم إلى الإيمان بنا وتوحيدنا في عبادتنا وقدرتنا على البعث الآخر الذي لا ريب فيه لتجزى كل نفس بما كسبت.

وأخيرا لما لاحت أنوار ولاية الله في قلب هذا العبد المؤمن الذي أثار تعجبه خراب القرية فاستبعد حياتها قال : أعلم (١) أن الله على كل شيء قدير ، فهذا مصداق قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ (٢) إِلَى النُّورِ).

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ جواز طروء استبعاد ما يؤمن به العبد أنه حق وكائن ، كما استبعد هذا المؤمن المار بالقرية حياة القرية مرة أخرى بعد ما شاهد من خرابها وخوائها.

٢ ـ عظيم قدرة الله تعالى بحيث لا يعجزه تعالى شيء وهو على كل شيء قدير.

٣ ـ ثبوت البعث الآخر وتقريره.

٤ ـ ولاية الله تعالى للعبد المؤمن التقي تجلت في إذهاب الظلمة التي ظهرت على قلب المؤمن باستبعاده قدرة الله على إحياء القرية ، فأراه الله تعالى من مظاهر قدرته ما صرح به في قوله : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))

__________________

(١) وقرىء اعلم ، والقائل له حينئذ الله تبارك وتعالى أو ملك من ملائكته ، أو هو خاطب نفسه قائلا لها إعلمى يا نفسي هذا العلم اليقيني الذي ما كنت تعلمينه.

(٢) لمّا قرّر تعالى ولايته للذين آمنوا وأنّه يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ذكر لذلك ثلاثة أحداث تجلى في كل واحد منها مصداق ما أخبر به ، فالأول محاجة النمرود لإبراهيم واعطاؤه تعالى نور العلم الذي أسكت به المجادل الكافر النمرود. والثاني استبعاد عزير إحياء الله مدينة القدس بعد تدميرها وتخريبها فأراه الله من آياته ما أذهب عنه ما وجده في نفسه من استبعاد حياة تلك المدينة ، والثالث طلب إبراهيم ربّه أن يريه كيف يحيى الموتى وقد أراه ذلك فأذهب به ما وجده إبراهيم من التطلع إلى معرفة ذلك.

٢٥١

شرح الكلمات :

(إِبْراهِيمُ) : هو خليل الرحمن أبو الأنبياء عليه‌السلام.

(لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) : يسكن ويهدأ من التطلع والتشوق إلى الكيفيّة.

(فَصُرْهُنَ (١) إِلَيْكَ) : أملهن واضممهن إليك وقطعهن أجزاء.

(سَعْياً) : مشيا سريعا وطيرانا.

(عَزِيزٌ) : غالب لا يمتنع عنه ولا منه شيء أراده بحال من الأحوال.

(حَكِيمٌ) : لا يخلق عبثا ولا يوجد لغير حكمة ، ولا يضع شيئا في غير موضعه اللائق به.

معنى الآية الكريمة :

هذا مثل ثالث يوجه الى الرسول والمؤمنين حيث تتجلّى لهم ولايته تعالى لعباده المؤمنين بإخراجهم من الظلمات إلى النور حتى مجرّد ظلمة باستبعاد شيء عن قدرة الله تعالى ، أو تطلع الى كيفيّة إيجاد شيء ومعرفة صورته. فقال تعالى : اذكروا (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ (٢) الْمَوْتى). سأل إبراهيم ربّه أن يريه طريقة الإحياء كيف تتم هل هي جارية على نواميس معيّنة أم هي مجرد قدرة يقول صاحبها للشيء كن فيكون ، فسأله ربه وهو عليم به أتقول الذي تقول ولم تؤمن؟ قال إبراهيم : بلى أنا مؤمن بأنك على كل شيء قدير ، ولكن أريد أن أرى صورة لذلك يطمئن لها قلبي ويسكن من التطلع والتشوق إلى معرفة المجهول لدي. فأمره تعالى إجابة له لأنه وليّه فلم يشأ أن يتركه يتطلع إلى كيفيّة إحياء ربه الموتى ، أمره بأخذ أربعة طيور (٣) وذبحها وتقطيعها أجزاء وخلطها مع بعضها بعضا ثم وضعها على أربعة (٤) جبال على كل جبل ربع الأجزاء المخلوطة ، ففعل ، ثم أخذ برأس كل طير على حدّة

__________________

(١) فسّر (صرهن) بأملهن وقطعهن كما في التفسير ، والكل صحيح إذ إما لتهن أوّلا ثم تقطيعهنّ وشاهد أملهن في قول العرب رجل أصور إذا كان مائل العنق وامرأة صوراء والجمع صور كسوداء وسود وعليه قول الشاعر :

الله يعلم أنا في تلفتنا

يوم الفراق إلى جيراننا صور

، وشاهد قطعهن قوله صار الشيء يصوره إذا قطعه ومنه قول الشاعر :

بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها

(٢) هذا السؤال والله ما كان عن شك من ابراهيم أبدا وكيف وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحن أحق بالشك من إبراهيم ، أي لو شك ابراهيم لكنّا نحن أحرى بذلك لضعفنا ولكن ما شكّ ابراهيم ، وكل ما طلبه زيادة اليقين برؤية كيفية الاحياء كيف تتم ، فسلام على إبراهيم الخليل وعلى محمد في العالمين.

(٣) يروى عن ابن عباس وبعض علماء السلف أنها كانت حمامة وديكا وغرابا وطاووسا وليس في معرفتها كبير فائدة فلذا لم أذكرها في التفسير.

(٤) الجبل قطعة عظيمة من الأرض أرسى الله تعالى بها الأرض حتى لا تضطرب وتتحرك ومنافعها كثيرة منها أنّ بعض الناس يتخذونها حصونا مانعة من وصول العدو إليهم قال السموأل :

لنا جبل يحتله من نجيرة

منيع يرد الطرف وهو كليل

وهو أحد جبال طيء شمال الحجاز.

٢٥٢

ودعاه فاجتمعت اجزاؤه المفرقة المختلطة بأجزاء غيره وجاءه يسعى فقدم له رأسه فالتصق به وطار في السماء وإبراهيم ينظر ويشاهد مظاهر قدرة ربّه العزيز الحكيم. سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.

هداية الآية الكريمة

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ غريزة (١) الإنسان في حب معرفة المجهول والتطلع إليه.

٢ ـ ولاية الله تعالى لإبراهيم حيث أراه من آياته ما اطمأن به قلبه وسكنت له نفسه.

٣ ـ ثبوت (٢) عقيدة الحياة الثانية ببعث الخلائق أحياء للحساب والجزاء.

٤ ـ زيادة الإيمان واليقين كلما نظر العبد إلى آيات الله الكونية ، أو قرأ وتدبر آيات الله القرآنية.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣))

__________________

(١) قالت العلماء من غرائز الإنسان التي جبل عليها حبه معرفة المجهول والآية أكبر شاهد إذ الخليل أحب أن يعرف كيفية إحياء الموتى.

(٢) إذ رؤية ابراهيم لكيفية إحياء الله تعالى الموتى من الطير أكبر دليل على قدرة الله تعالى على إحياء العباد يوم القيامة ، ومن هداية هذه الآية إراءه المشركين المنكرين للبعث الآخر هذه الحادثة العجيبة كأنهم يشاهدونها فتقوم بذلك الحجة عليهم وعلى كل منكر للبعث والحياة الآخرة.

٢٥٣

شرح الكلمات :

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) (١) : صفتهم المستحسنة العجيبة.

(سَبِيلِ اللهِ) : كل ما يوصل إلى مرضاة الله تعالى من الإيمان وصالح الأعمال.

(يُضاعِفُ) : يزيد ويكثر حتى يكون الشيء أضعاف ما كان.

(مَنًّا وَلا أَذىً) : المنّ (٢) : ذكر الصدقة وتعدادها على من تصدّق بها عليه على وجه التفضل عليه. والأذى : التطاول على المتصدق عليه وإذلاله بالكلمة النابيه أو التي تمس كرامته وتحط من شرفه.

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) : كلام طيب يقال للسائل المحتاج نحو : الله يرزقنا وإياكم ، الله كريم. الله يفتح علينا وعليك.

(وَمَغْفِرَةٌ) : ستر على الفقير بعدم إظهار فقره ، والعفو عن سوء خلقه إن كان كذلك.

(غَنِيٌ) : غنى ذاتي لا يفتقر معه إلى شيء أبدا.

(حَلِيمٌ) : لا يعاجل بالعقوبة بل يعفو ويصفح.

معنى الآيات :

يخبر تعالى مرغبا في الجهاد بالمال لتقدمه على الجهاد بالنفس لأن العدة أولا والرجال ثانيا ، أن مثل ما ينفقه المؤمن في سبيل الله وهو هنا الجهاد ، في نمائه وبركته وتضاعفه ، كمثل حبة (٣) برّ بذرت في أرض طيبة فأنبتت سبع (٤) سنابل في كل سنبلة مائة حبة فأثمرت الحبة الواحدة سبعمائة حبة ، وهكذا الدرهم الواحد ينفقه المؤمن في سبيل الله يضاعف إلى سبعمائة

__________________

(١) ذكر القرطبي أنه روي أن هذه الآية (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف ، إذ عثمان جهّز جيش العسرة في غزوة تبوك وعبد الرحمن خرج بنصف ماله وهو أربعة آلاف فدعا له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت».

(٢) المنّ من كبائر الذنوب إذ صاحبه أحد ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (في صحيح مسلم) والمنّان هو الذي لا يعطي شيئا إلّا منّه.

(٣) الحب : اسم جنس لكل ما يزرعه الإنسان ويقتاته وأكثر ما يراد بالحب البرّ ومنه قول المتلمس

اليت حبّ العراق الدهر أطعمه

والحب يأكله في القرية السوس

والحبّة بكسر الحاء بذور البقول مما ليس بقوت وفي حديث الشفاعة : «فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السيل» وحبّة القلب سويداؤه والحبّ معروف ضدّ الكره.

(٤) في الآية : دليل على مشروعية الزراعة ، وهي واجب كفائي وورد فيها : «التمسوا الرزق في خبايا الأرض» رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها.

٢٥٤

ضعف ، وقد يضاعف إلى أكثر لقوله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)

هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٦١) وأما الآية الثانية (٢٦٢) فهي تحمل بشرى الله تعالى للمنفقين في سبيله الذين لا يتبعون ما أنفقوه منّا به ولا أذى لمن أنفقوه عليه بأن لا خوف عليهم فيما يستقبلونه من حياتهم ولا هم يحزنون على ما يتركون وراءهم ويخلفون. وهذه هي السعادة حيث خلت حياتهم من الخوف والحزن وحل محلها الأمن والسرور. وأخيرا الآية الثالثة (٢٦٣) وهي (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ....) فإن الله تعالى يخبر بأن الكلمة الطيبة تقال للفقير ينشرح لها صدره وتطيب لها نفسه خير من مال يعطاه صدقة عليه يهان به ويذل فيشعر بمرارة الفقر أكثر ، وألم الحاجة أشد ، ومغفرة وستر لحالته وعدم فضيحتة أو عفو عن سوء خلقه كإلحاحه في المسألة ، خير أيضا من صدقة يفضح (١) به ويعاتب ويشنع عليه بها. وقوله في آخر الآية : (وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) أي مستغن عن الخلق حليم لا يعاجل بالعقوبة من يخالف أمره.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضل النفقة في الجهاد وأنها أفضل النفقات.

٢ ـ فضل الصدقات وعواقبها الحميدة.

٣ ـ حرمة المن بالصدقة وفي الحديث : «ثلاثة لا يدخلون الجنة ...» وذكر من بينهم المنان.

٤ ـ الرد الجميل على الفقير إذا لم يوجد ما يعطاه ، وكذا العفو عن سوء القول منه ومن غيره خير من الصدقة يتبعها أذى وفي الحديث : «الكلمة الطيبة صدقة».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ

__________________

(١) وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : «الكلمة الطيبة صدقة» وقوله : ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق قال : «لا يدخل الجنة مدمن خمر ، ولا عاقّ لوالديه ولا منان».

٢٥٥

تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤))

شرح الكلمات :

إبطال الصدقة (١) : الحرمان من ثوابها

المن (٢) والأذى : تقدم معناهما.

(رِئاءَ النَّاسِ) : مراءاة لهم ليكسب محمدتهم ، أو يدفع مذمتهم.

(صَفْوانٍ) (٣) : حجر أملس.

(وابِلٌ) (٤) : مطر شديد.

(صَلْداً) : أملس ليس عليه شيء من التراب.

(لا يَقْدِرُونَ) : يعجزون عن الانتفاع بشيء من صدقاتهم الباطلة.

معنى الآية :

بعد أن رغّب تعالى في الصدقات ونبّه إلى ما يبطل أجرها وهو المنّ والأذى نادى عباده المؤمنين فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) ناهيا عن إفساد صدقاتهم وإبطال ثوابها فقال : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) مشبها حال إبطال الصدقات بحال صدقات المرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر في بطلانها فقال : (كَالَّذِي يُنْفِقُ (٥) مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ (٦) الْآخِرِ) وضرب مثلا لبطلان صدقات من يتبع صدقاته منّا أو أذى أو يرائي بها الناس أو هو كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فقال : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ)

__________________

(١) قالت العلماء : إن الصدقة إلتي يعلم الله من صاحبها أنّه يمنّ أو يؤذي بها فإنها لا تقبل ، وهو كما قالوا لأنّ الله تعالى قال : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) وإبطالها هو عدم قبولها وإذا لم تقبل فلا يعطى صاحبها ثوابا عليها وهو معنى : لا تقبل.

(٢) يقال طعم الآلاء أحلى من المنّ ، وهو أمرّ من الآلاء عند المنّ. الآلاء الأوّل : النعم. والثاني شجر مرّ الورق. والمنّ الأول شيء يشبه العسل ، والثاني تذكير المنعم عليه بالنعمة.

(٣) الصفوان : واحده صفوانة.

(٤) يقال : وبلت السماء تبل والأرض موبولة ومنه قوله تعالى : (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) أي شديدا.

(٥) إنّ الكافر قد يعطي المال ولكن ليراه الناس فيمدحوه ويشكروه وهذا عمل أهل الجاهلية الماضية والحاضرة أيضا.

(٦) أي إنفاقا كإنفاق الذي ينفق ماله رئاء الناس طلبا لمحمدتهم أو خوفا من مذمّتهم.

٢٥٦

أي حجر أملس عليه تراب (١) ، (فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً) أي نزل عليه مطر شديد فأزال التراب عنه فتركه أملس عاريا ليس عليه شيء ، فكذلك تذهب الصدقات الباطلة ولم يبق منها لصاحبها شيء ينتفع به يوم القيامة ، فقال تعالى : (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي مما تصدقوا به ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ (٢) الْكافِرِينَ) إلى ما يسعدهم ويكملهم لأجل كفرانهم به تعالى.

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ حرمة المن والأذى في الصدقات وفسادها بها.

٢ ـ بطلان صدقة المان والمؤذي والمرائي بهما.

٣ ـ حرمة الرياء وهي من الشرك لحديث : «إياكم والرياء فإنه الشرك الأضغر».

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦))

__________________

(١) التراب على الصفوان عند ما يراه الفلاح يعجبه لنعومة التربة وصفائها فيبذر فيه رجاء أن يحصد ولكن إذا نزل عليه المطر الشديد مسحه وذهب به وبالبذر معه فيصاب صاحبه بخيبة الأمل فكذلك المنفق رئاء الناس.

(٢) هذه الجملة ذيّل بها الكلام لتحمل تحذيرا شديدا للمؤمنين أن يسلكوا مسالك الكافرين في إنفاقهم وأعمالهم فإنها باطلة خاسرة.

٢٥٧

شرح الكلمات :

المثل : الصفة المستملحة المستغربة.

(ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) : طلبا لرضا الله تعالى.

(تَثْبِيتاً) (١) : تحقيقا وتيقنا بمثوبة الله تعالى لهم على إنفاقهم في سبيله.

(جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) (٢) : بستان كثير الأشجار بمكان مرتفع.

(ضِعْفَيْنِ) : مضاعفا مرتين ، أو ضعفي ما يثمر غيرها.

الوابل : المطر الغزير الشديد.

الظل : المطر الخفيف.

(إِعْصارٌ) : ريح عاصف فيها سموم.

معنى الآيتين :

لما ذكر الله تعالى خيبة المنفقين أموالهم رياء الناس محذرا المؤمنين من ذلك ذكر تعالى مرغبا في النفقة التي يريد بها العبد رضا الله وما عنده من الثواب الأخروي فقال ضاربا لذلك مثلا : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي طلبا لمرضاته (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي تحققا وتيقنا منهم بأن الله تعالى سيثيبهم عليها مثلهم في الحصول على ما أمّلوا من رضا الله وعظيم الأجر كمثل جنّة بمكان مرتفع عال أصابها مطر غزير فأعطت ثمرها ضعفي ما يعطيه غيرها من البساتين ولما كانت هذه الجنة بمكان عال مرتفع فإنها إن لم يصبها المطر الغزير فإن الندى والمطر اللين الخفيف كاف في سقيها وريها حتى تؤتي ثمارها مضاعفا مرتين ، وختم تعالى هذا الكلام الشريف بقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فواعد به المنفقين ابتغاء مرضاته وتثبيتا من أنفسهم بعظم الأجر وحسن المثوبة ، وأوعد به المنفقين الذين يتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى والمنفقين رياء الناس بالخيبة والخسران.

كان هذا معنى الآية الأولى (٢٦٥) وأما الآية الثانية (٢٦٦) فإنه تعالى يسائل عباده تربية

__________________

(١) لقد اختلف في معنى (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ورجح ما فسّرناه به في التفسير وهناك معنى آخر لطيف وهو وتثبيتا لأنفسهم على الإيمان وأفعال البرّ لأن الحسنة تلد الحسنة فهم ينفقون أموالهم طلبا لرضوان الله وترويضا منهم لأنفسهم على فعل الخير والإحسان.

(٢) الربّوة : مثلثة الراء : المكان المرتفع.

٢٥٨

لهم وتهذيبا لأخلاقهم وسمّوا بهم إلى مدارج الكمال الروحي فيقول : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) (١) أي أيحب أحدكم أيها المنفقون في غير مرضاة الله تعالى أن يكون له جنّة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار وله فيها من كل الثمرات والحال أنه قد تقدمت به السن وأصبح شيخا كبيرا ، ومع هذا العجز فإن له ذريّة صغارا لا يقدرون على الكسب وجلب عيشهم بأنفسهم ، وأصاب ذلك البستان الذي هو مصدر عيش الوالد وأولاده أصابه ريح عاتية تحمل حرارة السموم (٢) فأتت على ذلك البستان فأحرقته ، كيف يكون حال الرجل (٣) الكبير وأولاده؟ هكذا الذي ينفق أمواله رئاء الناس يخسرها كلها في وقت هو أحوج إليها من الرجل العجوز وأطفاله الصغار ، وذلك يوم (٤) القيامة وأخيرا يمتن تعالى على عباده بما يبين لهم من الآيات في العقائد والعبادات والمعاملات والآداب ليتفكروا فيها فيهتدوا على ضوئها الى كمالهم وسعادتهم فقال تعالى : (كَذلِكَ) أي كذلك التبيين (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٥).

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ استحسان ضرب الأمثال تقريبا للمعاني الى الأذهان لينتفع بها.

٢ ـ مضاعفة أجر الصدقة الخالية من المن والأذى ومراءاة الناس.

٣ ـ بطلان صدقات المان والمؤذي والمرائي وعدم الانتفاع بشيء منها.

٤ ـ وجوب التفكر في آيات الله لا سيما تلك التي تحمل بيان العقائد والأحكام والآداب والأخلاق.

__________________

(١) الودّ : حبّ الشّيء مع تمنيه

(٢) ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبردوا بصلاتكم في الحرّ فإن شدة الحر من فيح جهنم» رواه البخاري وغيره.

(٣) روى الحاكم وذكره ابن كثير أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو فيقول : «اللهم اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سنّي وانقضاء عمري».

(٤) روى البخاري أن عمر رضي الله عنه سأل يوما أصحاب رسول الله عن هذه الآية : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) فقالوا : الله أعلم فقال قولوا نعلم ولا نعلم فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر : يا أبن أخي قل ولا تحقر نفسك فقال : ضربت مثلا لرجل غني يعمل بطاعة الله ثمّ بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.

(٥) أي في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها ، وهذا لا يتنافى مع ما فسّرنا به الآية. في التفسير.

٢٥٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))

شرح الكلمات :

(مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) : من جيّد أموالكم وأصلحها.

(وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) : من الحبوب وأنواع الثمار.

(وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) : لا تقصدوا الرديء تنفقون منه.

(إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) (١) : إلا أن تغضوا أبصاركم عن النظر في رداءته فتأخذونه بتساهل منكم وتسامح.

(حَمِيدٌ) : محمود في الأرض والسماء في الأولى والأخرى لما أفاض ويفيض من النعم على خلقه.

(يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) : يخوفكم من الفقر ليمنعكم من الإنفاق في سبيل الله.

(وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) : يدعوكم إلى ارتكاب الفواحش ومنها البخل والشح.

(الْحِكْمَةَ) : فهم أسرار الشرع ، وحفظ الكتاب والسنّة.

(أُولُوا الْأَلْبابِ) : أصحاب العقول الراجحة المفكرة فيما ينفع أصحابها.

__________________

(١) يقال أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز ، وما في التفسير فهو مأخوذ من تغميض العين لعدم رؤية العيب والرداءة ، وقراءة الجمهور تشهد للمعنيين التجاوز ، وتغميض العين.

٢٦٠