علم اليقين في أصول الدين - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٦

«وكذلك جمع من أرباب العمائم المدّعين للاجتهاد والعلوم الشرعية انصرفوا ...»(١)وهو شاعر مفلق يشهد لذلك ديوان أشعاره الذي جمع فيه زهاء ١٣٠٠٠ بيت.

ومحدّث نحرير ؛ وقد قلنا أنّه أحد المحمّدين الثلاثة الأواخر.

وحكيم إلهي وعارف ربّاني ، يشهد بذلك كتبه ورسائله المصنّفة في الحكمة المتعالية.

وكل من هذه المقامات جدير بالتحقيق والتدقيق وللكلام فيها مجال رحب ، ينبغي أن يؤلف فيها كتاب مستقل يعالج مختلف جوانب سيرته العلمية والعملية ، وذلك خارج عن نطاق هذه المقدمة.

ولكن يجدر بنا ـ حيث أنّ هذا الكتاب كتاب كلامي حكمي ـ أن نتفحّص قليلا في هذا المجال وحول مواضيع هذا الكتاب.

[فمن الواضح أنّ المؤلف من أكبر تلامذة الحكيم الإلهي صدر الدين الشيرازي ـ قدس‌سره ـ فكان مستفيدا منه ومتأثّرا بآرائه وعارفا بفلسفته حقّا ، ولذلك أخذ يقرّر كلماته ومنهجه العلمي في كتبه ، ويسير بسيرته في مختلف المجالات.]

ولا غرو أن نقول : يمكن استفادة مطالب المولى صدرا من كتب الفيض في المعقول ـ مثل عين اليقين وعلم اليقين ـ بشكل أسهل من نفس كتب استاذه حيث أنّه نقّح المباحث والأدلة ، وحذف الأقوال والمباحثات مع ذويها ، وأتى باللّب الخالص مما قرّره استاذه ـ قدس سرّهما ـ.

__________________

(١) ـ شرح الصدر : ٦٩. وقال في رسالة الاعتذار : «... وفرقة من أرباب الرئاسة وأصحاب الغبطة والنفاسة ـ حاشاهم عن الحسد ـ كانوا يدعون الاجتهاد وانهم من أهل العدالة والاعتماد ، وكانوا يخرجون من البلد مع طائفة من الهمج الرعاع ، يصلون الجمعة في بعض القرى ... قد باض الشيطان وفرخ في صدورهم ودبّ ودرج في حجورهم ...».

٢١

[على أنّه كتب هذين الكتابين ـ سيّما الأول (١) ـ بمشهد الاستاذ وحينما كان عنده مستفيدا منه.]

وعند الفحص لا نرى فارقا كبيرا بين نظرات الفيض وأقوال صدر المتألهين العماديّة ، فهو يدافع بكل الوضوح عن الحجرين الأساسيّين للفلسفة الصدرائيّة ـ أي أصالة الوجود ووحدته ـ ويبني عليهما بناء المسائل الاخرى في جميع المجالات.

وكتابه عين اليقين ـ على الخصوص ـ اشتمل على قسم كبير من عبارات كتب صدر المتألهين ـ وخصوصا الأسفار الأربعة ـ بنصّها ، مصرحا باسمه ومعظما إيّاه في كثير منها ؛ وقلما يتّفق أن يعترض أو يردّ عليه.

غير أنّ بعض الناظرين في سيرته ، استشمّوا مما كتبه في رسالته «الإنصاف» وألمح إليه في فهرسة كتبه ، أنّه ـ قدّس سره ـ أعرض في أواخر سني عمره الشريف عمّا كان يعتقده في الأوائل ؛ ونحن الآن بصدد تحقيق هذه المزاعم ومدى صحّتها.

فنأتي أولا بشرط مما جاء في رسالة الإنصاف (٢) ثم نتأمل فيما يرتبط به ؛ قال ـ قدس سرّه ـ :

«يقول المهتدي إلى صراط المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، محسن بن مرتضى ـ زاده الله هدى على هدى ـ إنّي لما فرغت في عنفوان الشباب من التفقّه في الدين وتحصيل البصيرة في الاعتقادات بتعليم الأئمة المعصومين عليهم‌السلام حتى صرت لم أكن ـ بتوفيق الله سبحانه ـ محتاجا في مسألة إلى تقليد غير المعصوم ، خطر في

__________________

(١) ـ ألّف عين اليقين سنة ١٠٣٦ بقم ، حين كان في محضر صدر المتألهين ، ولا يبعد أن نقول أنّ هذا الكتاب تقريرات دروسه عند الاستاذ ، على أنّا لا ننفي عبقريّة التلميذ وإبداعه الخاص ؛ وتمّ تأليف علم اليقين ١٠٤٢ ، والظنّ الغالب أنه كان مشتغلا بهذا التأليف في شيراز بمحضر صدر المتألهين أيضا.

(٢) ـ الرسالة مكتوبة بالعربية والفارسية ، ولذلك اضطررنا إلى تعريب ما جاء فيها بالفارسية عند النقل لتوحيد السياق ، ولا يخفى أنّ طريقتنا فيما عرّب هنا وفيما سبق نقل المضمون ، دون ترجمة الألفاظ بكاملها.

٢٢

خاطري أن أسعى في معرفة أسرار الدين وعلم الراسخين ، لعل النفس تحصّل بذلك كمالا ، إذ لم يكن للعقل إليه طريق ، ولم ينفتح للنفس ـ بما حازت من الدرجة الإيمانية ـ باب ، ولا تصبر على الجهالة ، وتؤلمني على الدوام.

فبناء على هذا خضت برهة في مجادلات المتكلمين ، وكنت ساعيا بآلة الجهل في إزالته ؛ وسرت اخرى في طريق مكالمات المتفلسفين بالتعلم والتفهّم ، ونظرت كذلك في ادّعاءات المتصوفة وأقاويلهم ، وبرهة بحثت في رعونات «من عنديّين» ؛ وكنت ألخّص كلمات هذه الطوائف الأربع في كتب ورسائل ، من غير تصديق بكلها ، ولا عزيمة قلب على جلّها ؛ بل أحطت بما لديهم في ذلك على التمرين زبرا ، فلم أجد في شيء من إشاراتهم شفاء علّتي ، ولا في أدواة عباراتهم بلال غلّتي ؛ حتّى خفت على نفسي ، إذ رأيتها فيهم من ذويهم ؛ فتمثّلت بقول من قال :

خدعوني نهبوني ، أخذوني غلبوني ، وعدوني كذّبوني ؛ فإلى من أتظلّم ففررت إلى الله من ذلك ، وعذت بالله من أن يوقعني هنالك ، واستعذت بقول أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ في بعض أدعيته : «أعذني اللهمّ من أن أستعمل الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ، ولا يتقلقل إليه الفكر».

ثم أنبت إلى الله وفوّضت أمري إلى الله ، فهداني الله ببركة متابعة الشرع المبين ، إلى التعمّق في أسرار القرآن وأحاديث آل سيّد المرسلين ـ صلوات الله عليهم ـ وفهّمني الله بمقدار حوصلتي ودرجتي من الإيمان ، فحصل لي بعض الاطمئنان ، وسلب الله منّي وسواس الشيطان ـ ولله الحمد على ما هداني ...

ثمّ إني جرّبت الأمور واختبرت الظلمة والنور ، حتى استبان لي أنّ طائفة من أصحاب الفضول ، المنتحلين متابعة الرسول ، غمضوا العين ورفضوا الثقلين ، وأحدثوا في العقائد بدعا وتحزّبوا فيها شيعا ... ترى أحدهم مولعا بالنظر إلى كتب الفلاسفة ، وليس له طول عمره همّ سواه ، ولا يكون في غيره هواه ، من قبل أن يحكم علما شرعيا أصليا أو فرعيات ... وكأنّ هؤلاء القوم حسبوا أن من العلوم الدينيّة ما لا يوجد في القرآن والحديث ، ويفهم من كتب الفلاسفة والمتصوّفة ؛ والمساكين لا يعرفون أن الخلل والقصور ليس من القرآن والحديث ، بل الخلل في فهمهم والقصور في درجة إيمانهم ... وإذا كان الأمر

٢٣

على هذا فلا تنفع مطالعة كتب الفلاسفة والمتصوّفة ، لأنهم لا يتمكّنون من معرفتها أيضا ... ولو أنّهم سعوا في تقوية إيمانهم وشرح صدورهم لعلهم وصلوا إلى ما فوق ذلك لو كانوا يعلمون ، وإلا فكلما خاضوا في هذه الامور صاروا أضل من حيث لا يشعرون ؛ ... فيا أخي قوّ إيمانك بالزهد والتقوى حتى تزداد علما وحكمة ، وإلا فلا تتعدّ طورك ، فرحم الله امرأ عرف قدره ولم يتعدّ طوره.

چو مستعدّ نظر نيستى وصال مجوى

كه جام جم نكند سود وقت بى بصرى

نعم إن شاهق المعرفة أشمخ من أن يطير إليه كل طائر ، وسرادق البصيرة أحجب من أن يحوم حوله كل سائر ...

فهذا الكلام مع المتصوفة وتابعيهم.

وأما مجادلات المتكلمين ومن عنديّين ، فهم كما قيل : «جمع فكّوا ربقة التقليد من أعناقهم ، ونكّسوا الفطرة الأصلية ، لم يقنعوا بظواهر النبوة ، وأحدثوا من عند أنفسهم كلمات بلا طائل ؛ لا تدعهم طباعهم أن يقلدوا ، ولا يعينهم التوفيق أن يحقّقوا ، (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) [٤ / ١٤٣]» ...

وليعلم أنّ هذه الطوائف الأربع وإن كانوا يسيرون في الحيرة ويجولون في الضلال إلا أن الإنصاف يحكم بأنّهم ـ على اختلاف مذاهبهم ـ لم يخرجوا بشيء من أقاويلهم وعقائدهم من الإسلام ، ولم يأتوا بما يوجب على أحدهم اسم الكافر ... فلا يجوز لعن أحد ممن كان على الفطرة بمجرد كونه ضالا ، ما لم يتحقّق كفره يقينا ، وما لم يثبت ثباته على كفره إلى أن أدركه الموت مستبينا ...». انتهى ما حكيناه من رسالة الانصاف.

فنقول الآن : أمّا ما نفهم من هذه الكلمات ، فهو السيرة التي سار عليها أغلب العلماء والمحقّقين والمفكّرين ، ولو صرت تسأل عن لسان حالهم تراهم يقولون ما قاله الفيض ـ قدس‌سره ـ فإنّ الإنسان ولد ولا يعلم شيئا ، ثم ذهب يتدرّج في سبيل الكمال والعلم ، ويصغي إلى ما يقوله كل طائفة ويفكّر فيه حتى ـ لو ساعده التوفيق ـ يخلص إلى الاعتقاد الصحيح ويصل إلى سبيل الرشد

٢٤

والصواب ، وما هو إلا ما أعلنه الله وبيّنه بوساطة رسله وكتبه ؛ وإليك مثالا واحدا ـ وإن كانت الأمثلة كثيرة ـ ترى فيه نفس ما تقرؤه في هذه الرسالة بلسان آخر ، وهو كلام استاذ الفيض صدر الدين الشيرازى ـ قدس‌سره ـ حيث يقول (١) :

«... ثمّ إنّي قد صرفت قوّتي في سالف الزمان ـ منذ أول الحداثة والريعان ـ في الفلسفة الإلهيّة ، بمقدار ما اوتيت من المقدور ، وبلغ إليه قسطي من السعي الموفور ، واقتفيت آثار الحكماء السابقين ، والفضلاء اللاحقين ، مقتبسا من نتائج خواطرهم وأنظارهم ، مستفيدا من أبكار ضمائرهم وأسرارهم ؛ وحصّلت ما وجدته في كتب اليونانيين والرؤساء المعلمين ، تحصيلا يختار اللباب من كل باب ، ويجتاز عن التطويل والإطناب ، مجتنيا في ذلك طول الأمل مع قصر العمل ، معرضا من إسهاب الجدل مع اقتراب الساعة والأجل ، طلبا للجاه الوهميّ ، وتشوّقا إلى الترؤس الخيالي ، من غير أن تظفر الحكمة بطائل ، أو يرجع البحث إلى حاصل ، كما يرى من أكثر أبناء الزمان ، من مزاولي كتب العلم والعرفان ، من حيث كونهم منكبّين أولا بتمام الجدّ على مصنّفات العلماء ، منصبّين بكمال الجهد إلى مؤلفات الفضلاء ...

فألجأني خمود الفطنة وجمود الطبيعة لمعاداة الزمان وعدم مساعدة الدوران إلى أن انزويت في بعض نواحي الديار ، واستترت بالخمول والانكسار ؛ منقطع الآمال منكسر البال ، متوفّرا على فرض أؤدّيه ، وتفريط في جنب الله أسعى في تلافيه ؛ لا على درس القيه ، أو تأليف أتصرّف فيه ...

فتوجّهت توجّها غريزيا نحو مسبّب الأسباب ، وتضرّعت تضرّعا جبليّا إلى مسهّل الامور الصعاب ، فلمّا بقيت على هذا الحال من الاستتار والانزواء والخمول والاعتزال زمانا مديدا وأمدا بعيدا ، اشتعلت نفسي لطول المجاهدات اشتعالا نوريّا ، والتهب قلبي لكثرة الرياضات التهابا قويّا ، ففاضت عليها أنوار الملكوت ، وحلت بها خبايا الجبروت ، ولحقتها الأضواء الأحديّة ، وتداركتها الألطاف الإلهيّة ...».

__________________

(١) ـ الأسفار الأربعة : ١ / ٤ ـ ٨.

٢٥

فليس ما نراه من الفيض شيئا غريبا ، أو ما نسمعه منه بدعة وعجيبا ؛ ولكن الواجب على المتأمّل أن يتأمّل في مطاوي كتبه ويطابق ما كتبه أولا وآخرا حتّى يرى مدى تغيير روحيّاته العلميّة ، وجذور اعتقاداته الشرعيّة ؛ لا أن يقنع بما قرأ سطورا من الرسالة الإنصافيّة ، ويحكم ـ كما نراه من البعض ـ حكما بتّيا بناء على ظاهر ما فهم منه في الابتداء ، ويبني عليه ما يريد ويحبّ من البناء.

فالذي نعرفه من الفيض أنّه في سيرته العلميّة سائر في مختلف الأبعاد : فهو ـ كما أشرنا ـ فقيه أخباريّ ، ومحدّث ، وحكيم إلهيّ ، وشاعر أديب ذو قريحة عرفانية يحكي عن الحبّ الإلهي والعشق المعنوي ؛ وهذه الأبعاد المختلفة ظاهر من مبدئه ، وسائر فيها إلى وفاته ، وقد تكامل في جميعها ، كما تكامل في ذلك مصنفاته تبعا لمؤلفها ؛ وأشار نفسه إلى ذلك أيضا في مقدمة فهرست مصنفاته الثالثة (١):

«هذا فهرست مصنفاتي التي صنّفتها منذ راهقت العشرين ، إلى أن بلغت ثلاثا وثمانين ، كتبت للضبط والتعريف ، وهي مائة تصنيف ، متفاوتة في الجودة والإتقان ، وحسن التعبير والبيان ، وسلامة الألفاظ ومتانة المباني ، وعلوّ المقاصد ودقّة المعاني ، ورتب الترتيب والتوضيح ، ودرج التهذيب والتنقيح ؛ حسب تدرّجي في الارتقاء في مراقي الكمال ، ومدارج الإيمان ، والخروج من ظلمات الجهل إلى نور العرفان ...».

وعند التأمل في مصنّفاته نرى أنّه تكامل في مختلف الجهات ، لا أنّه تغيّر فيه شيئا من البناء والأساس ؛ ونراه في الأخير راعيا حفظ مختلف الجوانب عند ما يقول ويعبّر ، لا أنّ مؤلّفه رجع عمّا كان يعتقد ويظهر.

فبالنسبة إلى أنّه كان أخباريّا ، فقد بقي عليه إلى آخر عمره ـ على ما يظهر ـ غير أنّه صار في التعبير عن عقيدته أنضج ، وفي مراعاة جانب الاحتياط أشد وأوفق.

__________________

(١) ـ الفهرست المطبوع في مقدمة الجزء الثاني من المحجة البيضاء : ٣٩.

٢٦

فبعد ما تراه في سفينة النجاة (١) يحمل على القائلين بالاجتهاد ومقلديهم بشدة وعتاب ، ويشدد عليهم في الخطاب (٢) ، ذهب يقول في رسالته الإنصافية (٣) أنه لا يجوز الحكم بكفر أحد يقرّ بالله وملائكته وكتبه واليوم الآخر ويلتزم الشرائع ويسعى في وجدان ما ضلّ عنه من مطلوبه.

وأمّا من ناحية أنّه محدّث ، فصار أكثر اشتغالا بالحديث ، وأشد اهتماما به ، فقد صنف كتابه الكبير الوافي حينما بلغ سنوه (٦١) والشافي عند ما كان في السابعة والخمسين من عمره الشريف ـ قدس‌سره ـ على أنّه لم يخل سائر كتبه ـ سيما ما صنّفه في اخريات عمره ـ من الاستدلال بالحديث والاعتماد عليه ، في مختلف الوجهات ؛ ثمّ تفسيره للقرآن الكريم ـ الصافي ـ تفسير بالمأثور ، فالناظر فيه بنظر الاعتبار يرى اهتمام مؤلفه في تفسير القرآن بالحديث.

وأمّا بالنسبة إلى الحكمة والعرفان ، فحيث أن كلام المخالفين دائر حول هذا المقام ، فعلينا أن نبسط فيه القول ولو طال الكلام.

فلكي نقف على تغيير وجهات نظر الفيض أو عدمه يلزمنا أن نقارن بين بعض ما كتبه في أوائل ـ أو أواسط ـ عمره ، وما صنّف في ذلك المجال في أواخره. ولو ذهبنا نطابق ذلك في جميع تأليفاته المتناظرة خرجنا عن نطاق مقدمة الكتاب ، ولكن يكفينا في هذا المجال أن نقارن بين كتابين له في الحكمة

__________________

(١) ـ قال فيه (ص ١١٩) : «ولنقصنّ عليك من اجتهادات المجتهدين في مسائل الدين ما يتبيّن لك به أنّهم كيف يضعون (ظ : يصنعون) وأنّى يؤفكون».

وقال في آخر الكتاب (ص ١٤١) : «وحيث انتهت سفينتنا في بحر الاختلاف إلى ساحل النجاة ، وجرت بنا إلى منازل الهداة ، لنرسلها عن الجريان ونمسك القلم عن الطغيان ، (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ،) و (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ؛) و (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) وأدخل معك من تبعنا ، (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ،) وتميّز القول الميّت من الحيّ ، وكشف الغطاء من البين ، ولاح الصبح الذي عينين ؛ (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ ، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ ...)».

(٢) ـ مرت حكاية قول صاحب اللؤلؤة : يفهم منها (سفينة النجاة) نسبة جمع من العلماء إلى الكفر.

(٣) ـ الانصاف : ١٩٥.

٢٧

ـ الثاني منهما كالتحرير لسابقه ـ وهما كتابا الكلمات المكنونة ـ وقد كتب في سنة ١٠٥٧ (أو ١٠٦٠ ، لاختلاف نسخ فهرست مؤلفاته) حين كان عمره يناهز الخمسين أو أكثر ـ وقرّة العيون ـ وقد كتبه في سنة (١٠٨٨) ، يعني بعد ثلاثين سنة مضت على زمان تأليف الكتاب الأول وحينما كان ـ قدس‌سره ـ في اخريات عمره الشريف.

ولو توهم أحد أن كتاب الكلمات أيضا ليس مما كتبه في أوائل عمره ـ وأنه مكتوب بعد ما بلغ الفيض أشده ومضى عليه اكثر من أربعين سنة ، فعليه أن ينظر في هذا الكتاب بنظر الاعتبار ، فإنّه من أصرح كتب مصنفه في الإبانة عما يقوله أهل العرفان ، ولو ذهب أحد يقبل ما فيه اعتقادا لمؤلفه إلى آخر عمره لا يبقى له محل كلام في عدم تغيير وجهات نظر الفيض في هذا المجال.

قلنا أنّ الكلمات المكنونة كتحرير لكتاب قرّة العيون ، وذلك ظاهر لكل من تأمّل في الكتابين ، وقارن بينهما ـ كما تراه عن قريب ـ والمؤلف أخذ الكتاب الأول واستنسخ منه ما رآه صالحا ومراعيا فيه جانب الاحتياط ، وحذف أو غيّر ما لم يره مناسبا في ذلك الحين ؛ وجعل يحرّر الكتاب بسياق كلامي حديثي ـ كما هو دأبه في أواخر عمره الشريف ـ بعد ما كان مكتوبا بصبغة عرفانية حكمية بارزة.

وذلك ما يعلنه في مقدمة كتابه قرة العيون (١) أيضا [: «لست متكلما ولا متفلسفا ولا متصوفا ولا متكلفا ، بل مقلد القرآن والحديث النبوي ومتابع أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...»]

وهذا تكرار وتأكيد للنص الذي أظهره في رسالته الإنصافية (٢).

ورغبة في تسهيل الأمر رتبت جدولا للمقارنة بين الكتابين ، وما حذف منها حين تحرير الثاني أو اضيف ، ولعل بعض ما أثبتنا حذفه جاء في مطاوي الكتاب ولم نعثر عليه عند المراجعة السريعة :

__________________

(١) ـ قرة العيون : ٣٣١.

(٢) ـ رسائل الفيض : ١٩٦.

٢٨

الكلمة

ما بدّل منها في قرة العيون

محتوى المحذوف أو سبب الحذف

١

حذف منه ص ٤ س ٨ ـ ٢١

مقاطع ترتبط بظهور ذات الحق في المظاهر المرآتية ..

وص ٥ س ١٦ ـ ص ٦ س ٢.

٢

لم يتغير.

٣

حذف منها ص ١١ س ٤ ـ

ترتبط بنفس ما أشرنا إليه في الكلمة الأولى

س آخر

٤ و ٥

حذفتا

في بيان معنى الوجود وأنه عين الحق تعالى وأن / لا ماهية للحق سوى الوجود. وهما بلسان الحكمة ؛ وجاء بدلا منهما في قرة العيون الكلمة ٤ من المقالة الاولى يبين فيها أن معرفة الله تعالى فطري.

٦

حذف صدر الكلمة إلى ص ١٧ س ١٥

فيه بيان اعتبارات الوجود

ص ١٧ س ١٥

٧

حذف مقطع من آخره

فيه اصطلاحي جمع وفرق

ص ٢٣ س ١٢ ـ ٢٨

٨ ـ ١٢

حذفت

يبحث فيها عن الأعيان الثابتة ونسبتها إلى الحق تعالى وجاء بدلا منها في قرة العيون الكلمة ٣ ـ ٥ من المقالة الثانية التي يبحث فيها عن الأسماء الحسنى.

١٣

محذوفة

يبحث فيها عن أن الله تعالى الإطلاق ، وغيره من الوجودات مقيدات ، والمطلق غنيّ عن المقيد ولا عكس.

١٤

محذوفة

الوجودات المقيدة مرائي التعينات والتجليات.

١٥

محذوفة

التوحيد الوجودي ومراتب الوجودات.

١٦

محذوفة غير شطر منها مثّل وجوده تعالى بالعدد

التمثيلات تتعلق بالكلمة السابقة

وجوده تعالى بالعدد

١٧ ـ ١٨

محذوفتان

الجمع بين التنزيه والتشبيه وتمثيل لذلك

١٩

محذوفة

البحث عن الوحدة الحقيقية ومراتبها.

٢٠

محذوفة

البحث عن العلم الأزلي وأنه من جهة العلم بالذات والتعينات.

٢١

محذوفة

تجدد الخلق بتجليه في كل آن بالأسماء الجلالية والجمالية.

٢٢

محذوفة

تبدل الشئون لا يوجب تبدلا في الذات ، فإمداد الحق تجل واحد يظهر بحسب القوابل تعينات مختلفة.

٢٣

محذوفة

لا قائم بذاته إلا هو ، فالمسمى بالجواهر عند أهل

٢٩

النظر أعراض موهومة.

٢٤

حذف شطرين منها : ص ٥٥

ما نقل فيها عن المعرفة.

س ١١ ـ ١٧ وص ٥٦ س ١٨

 ـ إلى آخر الكلمة

٢٥

محذوفة غير حديث في آخرها

البحث عن كيفية صدور الكثرة بسياق الحكمة.

٢٦

محذوفة

معنى الأسماء وكيفية تربيتها

٢٧

محذوفة

معنى كن فيكون

٢٨

محذوفة

البحث عن الحضرات الخمس

٢٩

محذوفة

تنزلات الوجود ومعارجه

٣٠

حذف منها فقرات

٣١

محذوفة

البرزخ وعالم المثال.

٣٢

لم يتغير

٣٣

محذوفة

البحث عن التناسخ

٣٤ ـ ٣٦

لم يتغير

٣٧ ـ ٤٣

محذوفة

البحث فيها عن الخير والشر ، الكمالات تبع الوجود ، سريان الحب ، قربه وبعده تعالى عن الموجودات ، الكل على الصراط المستقيم ، كيف يكون مسير الكل إليه ، كيف يكون الفطرة على التوحيد مع وجود الضلالات.

٤٤

الشطر الثاني منها محذوفة

البحث عن الأعيان الثابتة

٤٥ ـ ٤٨

لم يتغير غير قليل منها

٤٩

محذوفة

معنى التقوى عند أهل العرفان

٥٠

محذوفة

الفناء في الله والبقاء بالله تعالى

٥١

محذوفة

الظهور والمظهر

٥٢

محذوفة

تفاوت الموجودات في المظهرية

٥٣ ـ ٦١

محذوفة

البحث عن الإنسان الكامل

٦٢

محذوفة

دار الوجود واحدة والدنيا والآخرة إضافيتان

٦٣

محذوفة

دار الوجود أبدية

٦٤

محذوفة غير فقرة من أولها

٦٥

لم يتغير

٦٦

حذف بعض فقراتها

لا خصوصية للمحذوف

٦٥

لم يتغير

٣٠

٦٦

حذف بعض فقراتها

لا خصوصية للمحذوف

٦٧

محذوفة

البحث عن أن القيامة هي الإنسان الكامل

٦٨

حذف شطر منها

لا خصوصية للمحذوف

٦٩

لم يتغير إلا قليلا

٧٠

محذوفة

بيان لقاء الله بلسان العرفاء

٧١ ـ ٧٥

لم يتغير

٧٦

حذفت غير الفقرة الاولى

منها

٧٧

محذوفة

البحث عن حقيقة النشأة الآخرة نقلا عن أهل المعرفة

٧٨

لم يتغير

٧٩

محذوفة

لا خصوصية لها ، فيها بيان أن أمير المؤمنين قسيم الجنة والنار

٨٠

لم يتغير

٨١

حذف شطر منها

٨٢

محذوفة

بحث عن النبوة والولاية

٨٣

حذف شطر من أولها

لا خصوصية للمحذوف

٨٤

حذف شطر منها

فيه خطبة عن أمير المؤمنين ذكر فيها مطالب غريبة ولكن اشير إليها في ص ٤٠٩ من قرة العيون

٨٥

وردت مقطّعة في مطاوي بعض الكلمات

لا خصوصية للمحذوف

٨٦ ـ ٨٨

حذف بعض الفقرات

٨٩ ـ ٩١

حذف قسم منهما

فيه رد على الاجتهاد

٩٢

محذوفة

الرد على الاجتهاد

٩٣ ـ ٩٦

لم يتغير

٩٧

حذف قسم منها

لا خصوصية للمحذوف

٩٨

لم يتغير

٩٩

محذوفة

استغنى عنها بما أورد في خاتمة قرة العيون

الإضافات في قرة العيون (م ـ المقالة. ك ـ الكلمة):

الكلمة

القسم المضاف

محتوى المضاف أو وجه الإضافة

١ ك ٤

البحث عن طريق معرفة الله تعالى ، جاء بدلا من

٣١

ثلاث كلمات في الكلمات المكنونة وقد أشرنا إليها

م ٢

القسم الأعظم منها

البحث عن الأسماء الحسنى ومظاهرها

ك ٣ و ٤

م ٢ ك ٥

تعليم آدم الأسماء

م ٣ ك ١

القسم الأعظم منها

البحث عن العوالم العليا والسفلى

م ٣ ك ٢

ما سوى الفقرة الاولى منها

البحث عن خلق العقل والجهل وشرح الحديث المعروف في ذلك

م ٣ ك ٤ و ٥

معنى العرش والكرسي وأركان العرش وحملته

م ٥ ك ١

حدوث العالم (يقارن هذه الكلمة مع الكلمة ٥٥ في الكلمات المكنونة)

م ٥ ك ٣

تمثيل لكيفية صدور العالم

م ٥ ك ٥

تجدد الخلق مع الآنات

م ٦ ك ٢

القسم الأعظم منها

نفي الجبر والتفويض

م ٦ ك ٣

القسم الأعظم منها

المشية والإرادة والقضاء والقدر

م ٦ ك ٤

القسم الأعظم منها

القرب من الحق والبعد منه ونسبة الأفعال إليه

م ٧

الاضطرار إلى الحجة ، الوحي ، سادة الأنبياء

ك ١ ـ ٣

والاولياء

م ٧ ك ٤

القسم الأعظم منها

نبينا ثم أوصياؤه عليهم‌السلام أفضل الخلائق

م ٧ ك ٥

القسم الأعظم منها

بما ذا يعرف الحجة

م ٨ ك ١ ـ ٥

عمدة ما فيها

البحث عن الخلافة بعد وفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما وقع من الاتفاقات

م ٩ ك ٤

المحكم والمتشابه ومعنى التأويل

م ٩ ك ٥

الشطر الأول منها

مراتب الإيمان والكفر

م ١٠

ك ٤

الروح الباقية بعد البدن

م ١١ ك ٣

المظالم والشفاعة

م ١١ ك ٤

الشطر الآخر منها

رواية

م ١٢ ك ١

الشطر الآخر منها

م ١٢ ك ٢

مواقف القيامة

الخاتمة

حكاية ما جاء في رسالة واجب الاعتقاد للخواجة نصير الدين الطوسي ـ قدس‌سره ـ

٣٢

وبعد المقارنة بين الكتابين وتحليلهما نصل إلى النتائج التالية :

١ ـ المسائل الأصلية والبنائية العرفانية موجودة في الكتابين ، غير أن في الكلمات المكنونة بصورة صريحة ومبيّن بسياق الكتب العرفانيّة واصطلاحاتهم ، وذلك في قرّة العيون يتغيّر عن هذه الصبغة ـ مهما أمكن ـ إلى ما جاء في الشرع واصطلاحات الروايات ويكمل بما يراه أليق. هذه المباحث هي :

الف ـ المسائل المطروحة في مسألة الوجود ، سيما وحدة الوجود كما يعنيه العرفاء ؛ فذلك معنون في الكلمات المكنونة صريحا ، وفي قرة العيون تلميحا ، وضمن الاستشهاد بالآيات ؛ مثل ما جاء في الكلمة الاولى وصدر الكلمة الرابعة من المقالة الاولى والكلمة الثالثة من المقالة الثالثة.

ب ـ تجلي الحق في مظاهر الأسماء ، وذلك مصرح به في قرة العيون أكثر من الكلمات المكنونة أيضا ، كما يظهر من الرجوع إلى المقالة الثانية. وقال في آخر الكلمة الثالثة من المقالة الثالثة (ص ٣٥٨): «وهذا أمر عجيب ، وهو بعينه ما نحن بصدد بيانه ، من أن الحق المنزه عن نقائص الحدثان ـ بل عن كمالات الأكوان ، هو الظاهر بأسمائه في الأعيان ...».

ج ـ صدور الخلق عن الحقّ بصورة الإفاضة ، غير أنّه لم يستعمل في قرة العيون اصطلاح النفس الرحماني واكتفى بمثال الكلام والمتكلم والشمس وضوئه فقط ـ ص ٣٧٥ ، م ٥ ك ٣. وص ٣٧٨ ، م ٥ ، ك ٤.

د ـ نفي الحدوث الزماني للعالم وتوجيه الحدوث بما في الحكمة المتعالية آخذا من العرفاء ، كما يظهر من المقالة الخامسة.

ه ـ القضاء والقدر ومسألة سر القدر ، فسياق البحث فيها سياق ما عند العرفاء.

و ـ الجنة والنار والامور المذكورة من عالم الآخرة ، كالصراط والميزان وغيرها.

٣٣

ز ـ الإنسان الكامل ، بدّل البحث عنها بمسألة ولاية الأئمّة ، والتعبير بالإنسان المعصوم (راجع الكلمات المكنونة ص ١٥٩ س ١٠ وقرة العيون ص ٤٦٩ س ١١).

٢ ـ النصوص المنقولة في الكلمات المكنونة عن أهل العرفان حذفت إلا نادرا ، وإن بقيت مضامينها في الأكثر.

٣ ـ المسائل المطروحة باصطلاحات أهل الحكمة ، تغيّر إلى صبغة غير اصطلاحية مهما أمكن.

٤ ـ البحث عن الأعيان الثابتة وما يتعلق بها بدّل بمسألة الأسماء ومظاهرها. كما تراه يبدّل كلمة «الأعيان» إلى «حقائق المخلوقات» (راجع الكلمات المكنونة ص ٩٧ س ٢ وقرة العيون ص ٣٨٢ س ١٥).

٥ ـ القسم المضاف في قرّة العيون تكميل يقتضيه سياق الكتاب ، وليس تغييرا جذريا.

٦ ـ يميل المؤلف ـ قدس‌سره ـ في قرة العيون إلى الاعتدال العلمي ، ويتجانب عن الإفراط والتفريط في مختلف المباحث. ويهتمّ اهتماما أكثر على تبيين المسائل والمعارف بلسان القرآن والحديث والروايات ، والتجنّب عن الاصطلاحات المرسومة عند أهل الفنّ مهما أمكن.

٧ ـ وبالجملة لم يتراجع الفيض عمّا أبان في الكلمات المكنونة عن المعارف العرفانيّة ، وإنما قصد ـ بتغيير صبغة الكلمات المكنونة إلى قرّة العيون ـ تأليف كتاب أقرب إلى قبول أكثريّة الناس ـ وهم الظاهريّون ـ وقد لجأ إلى ذلك لما لقي منهم من الأذى والاعتراض ، ووصل إلى مغزى ما أفاده الصادق عليه‌السلام فيما رواه صاحب الكافي (قدس‌سره) (١) : «... إنّ من المسلمين من له سهم ، ومنهم من له سهمان ، ... ومنهم من له سبعة أسهم ، فليس ينبغي أن يحمل

__________________

(١) ـ الكافي : ٢ / ٤٣ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب درجات الإيمان ، ح ٢. راجع أيضا روايات الباب التالي ٢ / ٤٤ ـ ٤٥. ح ١ ـ ٤.

٣٤

صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين ، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة ...».

فرأى الصلاح في السير بسيرة الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، وهو التكلم مع الناس على قدر عقولهم ؛ فإنّ في ذلك صلاحهم وبذلك إصلاحهم ؛ وإنّما كانوا عليهم‌السلام يلقون المعارف الخاصة إلى خواص الأصحاب ويسمونها «أسرارا» ـ لا إلى العوام والسوقة ـ مع أنّهم عليهم‌السلام كانوا أصحاب الوحي والإلهام ومحدّثين ، لا شكّ فيما يعلمونه ، وهم حجج الله على خلقه.

وقد ألمح الفيض إلى ذلك في فهرسة كتبه عند تعريف كتابه هذا حيث قال : «منها الكلمات المكنونة في علوم أهل المعرفة وأقوالهم (نسخة+ : ومعارف دينيّة تقدّست عن أفهام جماهير الناس وأوغالهم) ، يحتوي على لباب معارف العارفين وزبدة أصول (نسخة : اصول اصول. نسخة : اصول اصول اصول.) مع مسائل دينيّة ...».

فالحكم باتّا ـ بأن الفيض (قدس‌سره) رجع في أخرياته عمّا كان يعتقد في الأوائل ـ غير صحيح بلا ترديد ؛ وإن لم يكن خاليا عن التوجيه.

فإن البحث في مطاوي تأليفاته والنظر في سيرته في حياته يعطينا أنّ الرجل أهل علم وعمل ، وفكر وكشف وشهود ، غير أنّه بعد ما نال من دهره ومعاصريه ما نال ، ووصل إلى مغزى ما أشرنا إليه من كلمات المعصومين في عدم إفشاء الأسرار ، مشى على هذا الطريق واهتدى باهتدائهم وسلك مسلكهم عليهم‌السلام.

وقد ألمح إلى ذلك في مواضع كثيرة من كتبه وبيّن أن العلم ليس مقصورا على الظاهر فقط ، وليس طريق الكسب والتعلم هو الطريق الوحيد ، بل هناك طريق آخر أقرب ولكنه عزيز صعب المنال ؛ قال في الوافي (١)

«العلوم الدينية قسمان : قسم يقصد لذاته ـ وهو العلم بالله وملائكه وكتبه ورسله واليوم الآخر ـ وهو إما تحقيقيّ أو تقليديّ ؛ فالتحقيقيّ نور يظهر في

__________________

(١) ـ الوافي : المقدمة الاولى ، ١ / ٩ ـ ١٠.

راجع أيضا الاصول الأصيلة : ١٥٢ ـ ١٥٠. و ١٥٨ ـ ١٧٠.

٣٥

القلب ، فينشرح ، فيشاهد الغيب وينفسح ، فيحتمل البلاء ويحفظ السرّ ؛ وعلامته التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود ، والتأهّب للموت قبل نزوله ؛ ويسمّى بالعلم اللدنّي ، أخذا من قوله سبحانه : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [١٧ / ٦٥] ؛ وهو أفضل العلوم وأعلاها ، بل هو العلم حقيقة ؛ وما عداه بالإضافة إليه جهل ، وهو المقصد الأقصى من الإيجاد.

والتقليديّ تلقّي بعض مسائل هذا العلم من صاحب الشرع على قدر الفهم والحوصلة ـ كمّا وكيفا ـ ثم التديّن به.

وقسم يقصد للعمل ليتوسّل به إلى ذلك النور ، وهو العلم بما يقرّب إلى الله تعالى وما يبعّد منه من طاعات الجوارح ومعاصيها ومكارم الأخلاق ومساويها ، وهو تقليد كله لصاحب الشرع إلا ما لا يختلف فيه العقول منه. وله التقدّم بالنسبة إلى التحقيقيّ الأول لأنّه الشرط فيه ...».

«(١) وهذا العلم يجب أن يكون مكنونا عن كلّ ذي عمه وجهل ، مضنونا عمّن ليس له بأهل ؛ إذ كلّ أحد لا يفهم كلّ علم ، وإلا لفهم كلّ حائك وحجّام ما يفهمه العلماء من دقائق العلوم ؛ فكما أنّهم لا يفهمون ، فكذلك علماء الرسوم لا يفهمون أسرار الدين ولا يحتملون ، وإن كانوا مدقّقين فيما يعلمون ، ولهذا أكابر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يكتم بعضهم علمه عن بعض ...

وذلك لأنّ أسرار العلوم ـ على ما هي عليه ـ لا تطابق ما يفهمه الجمهور من ظواهر الشرع ...».

وقال في الاصول الأصيلة (٢) بعد ما بيّن طريق أهل التحقيق والكشف في العلم : «وكما أنّ الأئمّة عليهم‌السلام كانوا يكتمون جواهر علومهم عن غير أهلها ويستعملون التقيّة فيها ... كذلك كل محقّق في مسألة يجب عليه أن يكتم علمه فيها عمّن لا يفهمه ، فإنّ كلّ أحد لا يفهم كلّ علم ...».

والأظهر أنّ الفيض بعد ما وصل إلى حقيقة هذه البيانات علما وتجربة أخذ يمعن في العمل بها ، وكلما مضى من عمره سنون صار أكثر اهتماما في

__________________

(١) ـ الوافي : ١ / ١٠.

(٢) ـ الاصول الأصيلة : ١٦٧.

٣٦

ستر عقائده الخاصّة وعدم إبرازها بصورة واضحة ، وإن كان لا يمكنه السكوت عنها بالمرّة ، فإنّ الإناء يترشّح بما فيه ، وتلك الرشحات عن حقائق ما وصل إليه هذا العارف المحدّث مشهودة لكلّ من تأمّل فيما كتبه في اخريات عمره ـ قدس‌سره ـ.

والجدير بالذكر التأمل في البيئة التي يعيش فيها الفيض ، وأنها تغيّرت بسبب مصالح الحكومة إلى جوّ قشريّ ظاهريّ ، وصارت لا يفترق بين العارف والصوفي ، [وأن نسبة انتساب أحد إلى التصوّف يساوي نسبته إلى الكفر والإلحاد والزندقة ، وذلك ألجأ عموم العلماء المشهورين في هذا الزمان أن بدءوا يكتبون كتبا في الردّ على التصوف والصوفية وحتى الحكم بكفرهم وارتدادهم (١).]

الفيض ـ قدس‌سره ـ تجاه المدارس المختلفة العقلية والسلوكية :

بدء سير العلوم العقلية بين المسلمين بالمباحث الكلامية المستندة إلى القرآن والحديث ، ثم نشأ الفكر الفلسفي وتطوّر في المجتمع الإسلامي إلى أن كمل وتحوّل في الكمال إلى الحكمة المتعالية التي تستهدف التبيين البرهاني للكشف العرفاني ؛ وفي خلال ذلك السير نشأت عدة مدارس سيطر كل منها

__________________

(١) ـ شحّن المحدث الجزائري كتابه «زهر الربيع» بنقل كلمات يردّ عليهم وحكايات تسخر منهم وتستهزئ بهم. وكتب الشيخ الحرّ العاملي كتاب «اثنى عشريّة في الردّ على الصوفيّة» والشيخ البهائي تعرّض لهم في جملة من أشعاره وصرّح بذمّهم ، وحتّى استاذ الفيض صدر المتألهين ألّف كتاب «كسر أصنام الجاهلية» في الردّ على المتصوّفة ، وكتب المولى محمد طاهر القمي كتابه «تحفة الأخيار» ونقلوا أنّه حكم بكفر الفيض ـ قدس‌سره ـ أوّلا ورجع عن قوله هذا واعتذر بعد ما ذهب إليه الفيض وأبان عن عقائده. والفيض نفسه رد عليهم في مطاوي أكثر كتبه وخصّ لذلك شطرا كبيرا من كتابه بشارة الشيعة ؛ كما أنّ للعلامة المجلسي أيضا مكتوبات في ذلك المجال وأنّه أخذ يعتذر في آخر رسالته في الاعتقادات عمّا أفصح به أبوه العلامة محمد تقي المجلسي في بعض رسائله ـ مثل تشويق السالكين ـ عن مدح اسم الصوفي بتوجيهات تزكيه عن التمايل إلى هذه الفئة.

٣٧

في مقاطع مختلفة من تاريخ الفكر بين المسلمين :

١ ـ الكلام والمتكلمون ، والمعنيّ منهم الفرق المختلفة التي نشأت في أوائل حكومة الامويّين إلى أواسط العباسيين ، وقد صارت تأليفات الفخر الرازي ـ وسيما تفسيره الكبير ـ دائرة مجموعة لهذه المعارف. والفيض لا يعتني بهم ولا يرى ما أوردوه غير الجدال المنهي عنه شرعا في الأكثر.

يقول في وصف كتابه علم اليقين واعتراضه على المتكلمين (١) : «قد أخرجه الله ـ سبحانه تعالى على لساني من سرادقات الغيب ليطهّر به طائفة منكم من رجز الريب ، وليربط به على قلوبكم ويثبّت به الأقدام ، ويزيد في انشراح صدوركم ويغنيكم عن ورودكم فيما لا يعنيكم وصدوركم ـ أعني جدالكم في الدين وتصحيح عقائدكم بمبتدعات المتكلمين وتعلّمكم الألفاظ المخترعة المصطلحة للمتجادلين : فإنها من وساوس الشياطين وتلبيسات إبليس اللعين ، وهي تبعّدكم عن الله جلّ جلاله غاية التبعيد ، وتربو في شبهكم وشكوككم وتزيد ...».

٢ ـ الفلاسفة ـ والفيض لا يردّ عليهم بالشدّة التي واجه بها المتكلمين ، إلا أنّه لا يرى الفكر الخالص موصلا إلى المقصود فيما هو فوق طور العقل ، فلا يرى الاكتفاء به منجيا للإنسان ؛ ولعله يرديه ويدخله في مسالك الهلاك والبطلان ؛ على أنّ القطب الذي يجب أن يدور حوله مدار التفكّر الإسلامي هو الكتاب والسنّة وما جاء عن أهل بيت الوحي ، ثمّ النظر فيما قاله غيرهم لو احتجنا إليه ولم يكن مخالفا مع الأصل الأول ؛ وهذا الأصل وإن كان معترفا به من جهة أكثر الفرق الإسلامية ، إلا أنّ العاملين به أقلّ من القائلين والمنادين له ، ولعل الفيض أكثر عملا به ، حائدا أن يميل إلى جانب التحجّر وجمود أهل الظاهر.

__________________

(١) ـ علم اليقين : خطبة المؤلف للكتاب. وقد وقف في هذا المجال نفس موقف استاذه صدر المتألهين ـ قدس‌سرهما ـ ، راجع الأسفار الأربعة : ١ / ١١ و ١ / ٧٨ و ١ / ٣٦٣ و ٩ / ٢٠١. الشواهد الربوبية : ٢٧١. سه أصل : ١١٠ ، وغيرها.

٣٨

قال حاكيا عن نظره في قدماء الفلاسفة ومتبعيهم (١) : «... فمنهم من يحملهم على مطالعة كتب الفلاسفة أعني ما كان منها بأيديهم مما نسب إليهم ، لا ما كانوا عليه من العقائد ، وذلك أنّ قدماء الفلاسفة كانوا حكماء اولي خلوات ومجاهدات ، وكانت موادّ علومهم من الوحي ، وكان منتهى علومهم على حسب مقتضى زمانهم وما أتت به أنبياؤهم عليهم‌السلام قبل تكامل العلم الحتميّ ، وكان أكثر كلماتهم مرموزة ، فتطرّق إليه التحريف من هذه الجهة ، ومن جهة نقله من لغة إلى اخرى ، ولما كان فهم كلامهم المنقول المحرّف لا يحتاج إلى كثير رياضة ، مال إليه طائفة من أهل الإسلام ، فضّلوا به عن الشريعة القويمة النبويّة وما أتت به من المعارف والحقائق التي لا أتمّ منها ... ثمّ العجب من هؤلاء أنّهم لا يكتفون بالمنقول عن الفلاسفة ، بل يتصرّفون فيه بآرائهم المتباينة ، ويجتهدون فيه بأفكارهم المتضادّة ـ اجتهاد الفقهاء في المسائل الشرعيّة ، فكلّ ما انتهى إليه فكر أحدهم ، زعمه نهاية المعرفة ، فيتبجّح به تبجّح من بلغ الغاية وظفر بالولاية ، مع اختلافهم في نتائج الأفكار وطرق الاعتبار ...».

٣ ـ المتصوّفة : والمراد هنا الذين كانوا يظهرون التقشّف والتزهّد ويدّعون لأنفسهم مقام الوصول إلى الحق وحق الإرشاد ـ وهم ليسوا من أهله في الأغلب ـ فالعاميّة منهم ـ أمثال سفيان الثوري والحسن البصري ـ مردودون عند الفيض لعدم اتّباعهم أهل بيت الوحي وادّعائهم الاستقلال في التعلّم وتعليم الطريق في مقابلهم. وامّا الخاصّة فهم من أهل الهداية لو راعوا الشرائط واجتنبوا البدع وإلا فهم أيضا ضالّون مضلّون ؛ يقول (٢) :

«والصوفية أصناف : وطائفة منهم سلكوا مسلك الحقّ حتّى وصلوا إلى ما وصلوا بما سبقت لهم من الحسنى ، وهم الذين اهتدوا بأئمّة الهدى ـ إمّا في البداية ، أو في أثناء السلوك ، وهم الأقلون منهم ـ ويشترط في البلوغ إلى

__________________

(١) ـ بشارة الشيعة : ١٤١.

(٢) ـ بشارة الشيعة : ١٤١.

٣٩

مقاصدهم ما أسلفناه من الشرائط. وطائفة سلكوا مسلك أهل الضلال ، لعدم معرفتهم بالإمام ـ وهم الأكثرون منهم ـ وهؤلاء إما خواصّ ينسبون إلى العلم ، وإمّا عوام لا علم لهم ولا معرفة ...».

٤ ـ العرفاء المحققون ـ أمثال ابن العربي والقونوي وأضرابهما : فإذا تأمّلنا في مكتوبات الفيض نراه متأثّرا من نظريات هذه الفرقة ، وقد تسرّبت إليه أفكارهم عن طريق استاذه صدر المتألهين ـ قدهما ـ كما هو واضح لكلّ من قارن بين تصنيفات هذين العلمين ـ فإنّ أكثر منقولات الفيض عن ابن العربي وأتباعه محكيّ مما أورده صدر المتألهين عنهم في تصنيفاته ـ وإن كان دائما ساعيا في توفيق هذه النظريات مع الكتاب والسنّة والتأييد والاستشهاد بهما ؛ كما فعله استاذه أيضا وقد سبقه إلى ذلك.

غير أنّ الفارق المشهود بين الفيض وصدر المتألهين في ذلك أنّ الثاني أحسن اعتقادا ونظرا فيهم من الفيض فلا يتقي في ذكر أسمائهم وأقوالهم ، والفيض لا يعتقد فيهم هذا الاعتقاد وإن كان يراهم من أهل التحقيق ودقّة النظر.

فصدر المتألهين يعبّر عن ابن العربي بأنه (١) «قدوة المكاشفين» و «من أهل المكاشفة». وإن رأى كلاما له لا يرتضيه يصححه بما أمكن من التوجيه : «لئلا يقع من أحد سوء ظنّ بهذا الشيخ العظيم» (٢) ، وقلما يتّفق أن ينقل منه كلاما لا يوافقه وينتقده (٣) ؛ ولا يستبعد كونه شيعيّا ويرى أن هذا ما يستشمّ من بعض كلماته (٤).

__________________

(١) ـ الأسفار الأربعة : ٩ / ٤٥. وتفسير صدر المتألهين : ٣ / ٤٩.

(٢) ـ تفسير صدر المتألهين : ٢ / ٢٥٩.

(٣) ـ قال في الأسفار الأربعة (٩ / ٢٣٤) بعد نقل كلام طويل منه : «وإنّما نقلناه بطوله لما فيها من الفوائد النفسية ... وإن وقعت المخالفة في البعض». وقال فيه (٩ / ٢٥٣) : «وإنما نقلنا بطولها لما فيها من بعض التحقيقات المطابقة لما نحن عليه من الحكمة البرهانيّة وإن كان فيها بعض أشياء مخالفة لها».

(٤) ـ قال في شرح الاصول من الكافي (شرح الحديث ٢١ من كتاب العقل والجهل) : «واعلم أنّ أكثر ما نقلناه من عبارته أولا موجود في كتب الحديث ، بعضها على طريقة أصحابنا ، ـ

٤٠