علم اليقين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

علم اليقين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: محسن بيدارفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات بيدار
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
ISBN: 964-90800-2-3
ISBN الدورة:
964-90800-1-5

الصفحات: ٧١٦

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

نحمدك اللهمّ ـ يا مبدئ يا معيد ـ والحمد من نعمائك ، ونشكرك ـ يا فعّالا لما يريد ـ والشكر من آلائك ؛ تعاليت من قدّوس لم تصل أيدي الأوهام إلى ذيل عزّتك ، وتقدّست من سبّوح لم تجعل للأفهام سبيلا إلى معرفتك ، إلّا بالعجز عن معرفتك.

تركت قلوب الطالبين في بيداء كبريائك والهة حيرى ، ولم تجعل لمرقى أقدام العقول إلى حريم عظمتك مجرى ؛ هيهات! ـ ما لأذلّاء أسر العبوديّة وإدراك سبحات جلال الربوبيّة؟! وأنّى لاسراء ذلّ الناسوت ونيل سرادقات جمال اللاهوت؟! سبحانك سبحانك ، لا نحصي ثناء عليك ؛ أنت كما أثنيت على نفسك وفوق ما يقول القائلون.

صلّ وسلّم على المقرّبين لديك ، الهادين إليك ؛ خصوصا أقربهم منك منزلة ، وأعزّهم عليك ، محمد وأهل بيته ؛ منتجبيك ومصطفيك.

أمّا بعد ـ فيقول خادم العلوم الدينيّة ، وراصد المعارف اليقينيّة ، محمد بن مرتضى ـ المدعوّ بمحسن أحسن الله عواقبه ـ :

٢

هذا ـ يا إخواني ـ كتاب «علم اليقين في اصول الدين» ؛ آتاني الله ـ عزوجل ـ من فضله ببركة متابعة كتابه المبين ، والاستضاءة بمشكاة أنوار سيّد المرسلين ، والاقتفاء لآثار أهل بيته الطاهرين ، وعترته المعصومين ـ عليه وعليهم أفضل صلوات المصلّين ـ والاستفادة من مصنّفات العلماء الصالحين.

يتلو عليكم كلمات ربّانيّة ، وإشارات فرقانيّة ، وآيات عقلانيّة وهدايات رحمانيّة ، وتنبيهات نبويّة ، وتلويحات ولويّة ؛ تشهد بها الطباع السليمة ، والأذواق المستقيمة ، ويصدّقها نور الإيمان وصحّة الوجدان ، ويراها أهل العرفان ببصيرة الإيقان.

هدى للمتّقين الذين يؤمنون بالله ، وتذكرة للموقنين الذين يشاهدون آيات الله ؛ قد أخرجه الله ـ سبحانه تعالى ـ على لساني من سرادقات الغيب ، ليطهّر به طائفة منكم من رجز الريب ، وليربط به على قلوبكم ، ويثبّت به الأقدام ، ويزيد في انشراح صدوركم ، ويغنيكم عن ورودكم فيما لا يعنيكم وصدوركم ـ أعني جدالكم في الدين ، وتصحيح عقائدكم بمبتدعات المتكلّمين ، وتعلّمكم الألفاظ المخترعة المصطلحة للمتجادلين ـ فإنّها من وساوس الشياطين ، وتلبيسات إبليس اللعين ـ وهي تبعدكم عن الله جلّ جلاله ـ غاية التبعيد ـ وتربوا في شبهكم وشكوككم وتزيد.

وما مثلكم ومثل من يعلّمكم ذلك إلّا ـ كما قيل : ـ مثل رجل كان بين يديه شمعة مضيئة ـ إضاءة باهرة ـ فأخذها استاذه من بين يديه ، وأبعدها عنه مسافة بعيدة ، كثيرة الحوائل والموانع من النظر إلى تلك الشمعة ، وقال له : «تجهّز للسفر بالزاد والرفقاء ، والعدّة والأدلّاء ،

٣

حتّى تصل إلى معرفة تلك الشمعة ، وتنظر حقيقة ما هي عليه من الضياء» (١).

فقبل ذلك الغرّ المتعرّف ، من ذلك الاستاذ المتكلّف ، وسافر مدّة من الأوقات ، فتارة يرى جبالا وعقبات ، فلا يظهر له من حديث الشمعة كثير ولا قليل ، وتارة يرى ضوء ، فيقول : «لعلّه ضوء تلك الشمعة» ، ويستنجد بمساعدة الرفيق والدليل ؛ فإن عجز من تمام المسافة وقطع الطريق ، بما يرى فيه من العقبات والتطويل والتضييق ، هلك المسكين ورجع خاسرا للدنيا والدين.

فإيّاكم إخواني ـ هداكم الله طريق الرشد ـ والخوض في طريقة أهل الكلام ؛ فإنّها لكما وصفت ؛ ولقد ذمّها أولو البصائر والنهى ، حتّى جماعة من أهلها ، المشتغلين بها. وإنّما ذلك شغل من فرغ من فروض الله المتعيّنة المتضيّقة عليه ، ويريد أن يخدم الله عزوجل خالصا لوجهه بالردّ على أهل الضلال ـ من الامم الحائلة بين عباده وبين المعرفة والوصول إليه ـ ويكون حامل ، هذا العلم العريض العميق ، لازما سبيل التوفيق ، ويناظر مخالفيه مناظرة الرحيم الشفيق ، حتّى يسلم من خطر الطريق ؛ وإلّا فهو هالك على التحقيق.

فعليكم بمتابعة ظواهر الكتاب والسنّة ، وملازمة التقوى والشريعة ، لعلّ الله يرزقكم ببركة ذلك علما آخر من لدنه ، وكشفا أتمّ من لديه ، فإنّ الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً

__________________

(١) ـ كتب في هامش النسخة ما يلي ثم شطب عليه :

راهيست ره عشق بغايت خوش ونزديك

هر ره كه جز اينست همه دور ودرازست

٤

وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [٦٥ / ٢٣] (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [٢ / ٢٨٢] (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [٢٩ / ٦٩].

فإن لم تهتدوا إلى كيفيّة استنباط عقائدكم من الكتاب والسنّة ، فعليكم بمطالعة هذا الكتاب ، فإنّه يهديكم ـ إن شاء الله ـ إلى ذلك ويرشدكم إلى طريق الصواب.

وهو مخّ الشرع الشريف ، ولباب الدين الحنيف ، وليس هو الأخذ بالتقليد في شيء ـ كلّا ـ بل هو تنبيه على التحقيق ، وإرشاد إلى البراهين الحقيقة بالتصديق ، بتعليم صاحب الشرع ، على ما يناسب أكثر الأفهام ويليق ، فاقتدوا بهداياته ، واهتدوا بإشاراته ، لعلّكم تنجون من الجهل وعماياته ، ومن الجدال في الدين وغواياته.

إنّه ليس ككتب الغاغة والمتفلسفين ـ أصحاب الظنّ والتخمين ـ الذين هم بين مقلّد كالحيارى ، أو مجادل كالسكارى ؛ كلّما دخلت منهم أمّة لعنت اختها ـ كلّا ـ بل هو ذكر لآيات بيّنات فى صدور الّذين اوتوا العلم (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٥ / ١٦] (١)

__________________

(١) ـ كتب في هامش النسخة ما يلي ثم شطب عليه :

ومن لم يشف به عليله ، ولم يرو به غليله ، وأراد زيادة التعمّق والتبيين ، فعليه بكتابنا الموسوم ب «عين اليقين في اصول اصول الدين» فإنّ فيه أنوارا وأسرارا ، تهدي من البيان إلى العيان ، وتوصل من العلم إلى العين ، ولكنه لا ينتفع بذلك إلّا الفاذّ الشاذّ ، اللبيب كلّ اللبيب ، وليس للآخرين فيه نصيب ، فلا يطمع فيه من لم يكن له أهلا ، ولا يعتب نفسه في تحصيله ـ فإنّه ليس سهلا ـ (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [٦٢ / ٤].

٥

مقدّمة (١)

اعلم أنّ العلم والعبادة جوهران لأجلهما كان كلّ ما ترى وتسمع من تصنيف المصنّفين وتعليم المعلّمين ، ووعظ الواعظين ونظر الناظرين ؛ بل لأجلهما انزلت الكتب وارسلت الرسل ؛ بل لأجلهما خلقت السماوات والأرض وما فيهما من الخلق.

وناهيك لشرف العلم قول الله عزوجل : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) [٦٥ / ١٢] ؛ ولشرف العبادة قوله سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [٥١ / ٥٦].

فحقّ للعبد أن لا يشتغل إلّا بهما ، ولا يتعب إلّا لهما ، ولا ينظر إلّا فيهما ؛ فإنّ ما سواهما من الامور باطل لا خير فيه ، ولغو لا حاصل له.

وأشرف الجوهرين العلم ؛ ففي الحديث النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم».

__________________

(١) ـ أورد المجلسي ـ قدس‌سره ـ ما جاء في هذه المقدمة ـ إلى آخر الفصل الرابع مع حذف بعض المرويات ـ في البحار : ٧٠ / ١٣٩ ـ ١٤٢ ، حكاية عن بعض المحققين.

(٢) ـ منية المريد : الفصل الثاني من المقدمة ، ١٠١. الترمذي : ٥ / ٥٠ ، كتاب العلم ، باب (١٩) ما جاء في فضل الفقه على العبادة ، ح ٢٦٨٥. حياة الحيوان : النملة ، ٢ / ٣٧٦. والنون ، ٣٨٣. ومع فرق يسير في إحياء علوم الدين : كتاب العلم ، الباب الأول ، ١ / ١٤. وفي سنن الدارمي (باب في فضل العلم والعالم ، ١ / ٩٨) : «فضل هذا العالم ـ الذي يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير ـ على العابد كفضلي على أدناكم رجلا».

٦

وفيه (١) : «نظرة إلى العالم أحبّ إليّ من عبادة سنة ـ صيامها وقيامها».

وفيه (٢) : «ألا أدلّكم على أشرف أهل الجنّة»؟ قالوا : «بلى يا رسول الله». قال : «هم علماء أمّتي».

وفي الصحيح عن مولانا الباقر عليه‌السلام ـ قال ـ : (٣) «عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد».

لكن لا بدّ معه من العبادة ؛ وهذا معنى الانتفاع به ، وإلّا لكان هباء منثورا ، فإنّ العلم بمنزلة الشجرة والعبادة بمنزلة ثمرة من ثمراتها ، فالشرف للشجرة ـ إذ هي الأصل ـ لكن الانتفاع بثمرتها. فاذن لا بدّ للعبد أن يكون له من كلي الأمرين حظّ ونصيب (٤).

__________________

(١) ـ عدة الداعي (الباب الثاني ، القسم السادس : ٦٦) عن علي عليه‌السلام : «النظر إلى العالم أحبّ إلى الله من اعتكاف سنة في [ال] بيت الحرام».

(٢) ـ لم أعثر على الحديث.

(٣) ـ الكافي : فضل العلم ، باب صفة العلم وفضله ، ح ٨ ، ١ / ٣٣. منية المريد : الباب الثالث من المقدمة ، ١١١. وفي بصائر الدرجات (٦ ، باب فضل العالم على العابد ، ح ١) : «... من عبادة سبعين ألف عابد». عنه البحار : ٢ / ١٩. ومثله في ثواب الأعمال عن الصادق عليه‌السلام : ثواب معلم الخير ، ١٥٩.

(٤) ـ راجع عدة الداعي : ٦٥. وكتب في هامش النسخة :

به رخش علم وچوگان عبادت

ز ميدان در ربا گوى سعادت

تو را از بهر اين كار آفريدند

اگرچه خلق بسيار آفريدند

قيل ـ في قوله عزوجل : (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) [٣٨ / ٤٥] : ـ اولي القوة في طاعة الله والأبصار في المعرفة بالله. أي اعطوا قوة في العبادة وبصرا في الدين.

٧

وصل [١]

والمراد بالعلم علم الدين ـ أعني معرفة الله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. قال الله ـ جلّ جلاله ـ : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [٢ / ٢٨٥]. وقال جلّ وعزّ ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [٤ / ١٣٦].

ومرجع الإيمان إلى العلم ؛ وذلك : لأنّ الإيمان هو التصديق بالشيء على ما هو عليه ، ولا محالة هو مستلزم لتصوّر ذلك الشيء كذلك بحسب الطاقة ، وهما معنى العلم.

والكفر ما يقابله ـ وهو بمعنى الستر والغطاء ـ ومرجعه إلى الجهل ؛ وقد خصّ الإيمان في الشرع بالتصديق بهذه الخمسة (١) ـ ولو إجمالا ـ فالعلم بها لا بدّ منه.

وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة».

__________________

(١) ـ المذكورة في الآية الكريمة ، وهي : الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

(٢) ـ عدة الداعي : القسم السادس من الباب الثاني ، ٦٣.

وبلا لفظة «ومسلمة» في أمالي الطوسي : ٤٨٨ ، المجلس السابع عشر ، ح ٣٨. و ٥٦٩ ، المجلس الثاني والعشرون ، ح ٢. وأمالي المفيد : ٢٩ ، المجلس الرابع ، ح الأول. وبصائر الدرجات : الباب الأول من الجزء الأول ، ٢ ـ ٣. البحار : ١ / ١٧١ و ١٧٢.

٨

ولكن لكل إنسان بحسب طاقته ووسعه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [٢ / ٢٨٦] فإنّ للعلم والإيمان درجات مترتّبة في القوّة والضعف والزيادة والنقصان ؛ بعضها فوق بعض.

قال مولانا الصادق عليه‌السلام (١) : «الإيمان حالات ، ودرجات ، وطبقات ومنازل ؛ فمنه التامّ المنتهى تمامه ، ومنه الناقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد رجحانه».

وقال أيضا (٢) : «لو علم الناس كيف خلق الله [تبارك وتعالى] (٣) هذا الخلق لم يلم أحد أحدا».

قيل : «وكيف ذاك»؟

فقال : «إنّ الله ـ تعالى ـ خلق أجزاء بلغ بها تسعة وأربعين جزء ، ثمّ جعل الأجزاء أعشارا ، فجعل الجزء عشرة أعشار ، ثمّ قسّمه بين الخلق ، فجعل في رجل عشر جزء وفي آخر عشري جزء ، حتّى بلغ به جزء تامّا ، وفي آخر جزء وعشر جزء ، وآخر جزء وعشري جزء ، وآخر جزء وثلاثة أعشار جزء ، حتّى بلغ به جزءين تامّين ـ ثمّ بحساب ذلك ـ حتّى بلغ بأرفعهم تسعة وأربعين جزء.

فمن لم يجعل فيه إلا عشر جزء لم يقدر على أن يكون مثل صاحب العشرين [وكذلك صاحب العشرين] (٤) لا يكون مثل صاحب الثلاثة الأعشار ، وكذلك من تمّ له جزء لا يقدر على أن يكون مثل صاحب

__________________

(١) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب في أنّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها ، ٢ / ٣٩.

(٢) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب درجات الإيمان ، ٢ / ٤٤.

(٣) ـ إضافة من المصدر.

(٤) ـ إضافة من المصدر.

٩

الجزءين ؛ ولو علم الناس أنّ الله تعالى خلق هذا الخلق على هذا لم يلم أحد أحدا».

وعن أبيه مولانا الباقر عليه‌السلام (١) : «إنّ المؤمنين على منازل : منهم على واحدة ، ومنهم على اثنتين ، ومنهم على ثلاث ، ومنهم على أربع ، ومنهم على خمس ، ومنهم على ستّ ، ومنهم على سبع ؛ فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقو ، وعلى صاحب الثنتين ثلاثا لم يقو».

ـ وساق الحديث ثمّ قال : ـ «وعلى هذه الدرجات».

وصل [٢]

وذلك لأنّ الإيمان إنّما يكون بقدر العلم الذي به حياة القلب ، وهو نور يحصل في القلب بسبب ارتفاع الحجاب بينه وبين الله جلّ جلاله :

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [٢ / ٢٥٧] (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [٦ / ١٢٢].

«ليس العلم بكثرة التعلّم ، إنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد الله أن يهديه»(٢).

__________________

(١) ـ الكافي : الباب السابق ، ٢ / ٤٥.

(٢) ـ في حديث عنوان البصري عن الصادق عليه‌السلام (البحار : كتاب العلم ، باب آداب طلب العلم : ١ / ٢٢٥) : «ليس العلم بالتعلّم ، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه». وفي منية المريد (الفصل الثالث من الباب الأول ، ١٤٩) بلفظ : «ليس العلم بكثرة التعلم ...».

١٠

وهذا النور قابل للقوّة والضعف ، والاشتداد والنقص ، كسائر الأنوار (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [٨ / ٢].

(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [٢٠ / ١١٤].

كلّما ارتفع حجاب ازداد نور ، فيقوي الإيمان ويتكامل ، إلى أن ينبسط نوره فينشرح صدره ، ويطّلع على حقائق الأشياء ، ويتجلى له الغيوب ، ويعرف كلّ شيء في موضعه ، فيظهر له صدق الأنبياء عليهم‌السلام في جميع ما أخبروا عنه إجمالا وتفصيلا على حسب نوره ، وبمقدار انشراح صدره ، وينبعث من قلبه داعية العمل بكلّ مأمور ، والاجتناب عن كلّ مخطور ، فيضاف إلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات الحميدة :

(نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [٦٦ / ٨].

(نُورٌ عَلى نُورٍ) [٢٤ / ٣٥].

وكلّ عبادة تقع على وجهها تورث في القلب صفاء يجعله مستعدّا لحصول نور فيه ، وانشراح ومعرفة ويقين ، ثمّ ذلك النور والمعرفة واليقين يحمله على عبادة اخرى ، وإخلاص آخر فيها يوجب نورا آخر ، وانشراحا أتمّ ، ومعرفة اخرى ويقينا أقوى ـ وهكذا إلى ما شاء الله جلّ جلاله.

ومثل ذلك مثل من يمشي بسراج في ظلمة ، فكلّما أضاء له من الطريق قطعة مشى فيها ، فيصير ذلك المشي سببا لإضاءة قطعة اخرى منه ـ وهكذا.

١١

وفي الحديث النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من علم وعمل بما علم ، ورّثه الله علم ما لم يعلم»(١)(٢).

وفيه (٣) : «ما من عبد إلّا ولقلبه عينان ، وهما غيب يدرك بهما الغيب ، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح عيني قلبه ، فيرى ما هو غائب عن بصره».

__________________

(١) ـ رواه الغزالي (الإحياء : كتاب العلم ، الباب السادس ، ١ / ١٠٥) بلفظ : «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم». وأخرج أبو نعيم (حلية الأولياء : ذكر أحمد بن أبي الحواري ، ١٠ / ١٥) عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم». ثم قال أبو نعيم : «ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعين ، عن عيسى بن مريم عليه‌السلام ، فوهم بعض الرواة أنّه ذكره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوضع هذا الإسناد عليه لسهولته وقربه ...». وفي قوت القلوب (بيان تفصيل علوم الصمت ، ١ / ١٣٨) : «وفي أخبارنا نحن : من عمل بما يعلم ...».

(٢) ـ في هامش النسخة ما يلي والأظهر أن الكاتب غير المؤلف : «في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام : فبالإيمان يستدلّ على الطاعات ، وبالصالحات تستدلّ على الإيمان».

(٣) ـ أورد الغزالي (الإحياء : كتاب شرح عجائب القلب ، الوسواس هل يتصور أن ينقطع ... ، ٣ / ٦٨) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من عبد إلا وله أربعة أعين : عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه ، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه». وقال العراقي في تخريجه (ذيل الإحياء الطبعة القديمة : ٣ / ٤٤) : «أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس عن معاذ ـ بلفظ «الآخرة» مكان «دينه» ـ».

وأورد الصدوق ـ قدس‌سره ـ في التوحيد (باب القضاء والقدر ، ح ٤ ، ٣٦٧) عن السجّادعليه‌السلام : «إنّ للعبد أربعة أعين ، عينان يبصر بهما أمر آخرته ، وعينان يبصر بهما أمر دنياه ؛ فإذا أراد الله عزوجل بعبد خيرا فتح له العينين اللتين في قلبه ، فأبصر بهما العيب (ن : الغيب) ، وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه». ورواه في الخصال أيضا (ح ٩٠ من باب الأربعة ، ١ / ٢٤٠) مع فروق يسيرة.

وفي الكافي (الروضة ، ٨ / ٢١٥ ، ح ٢٦٠) عن الصادق عليه‌السلام : «... إنما شيعتنا أصحاب الأربعة أعين : عينان في الرأس ، وعينان في القلب ، ألا والخلائق كلهم كذلك إلا أن الله عزوجل فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم».

١٢

وفي كلام مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) : «إنّ من أحبّ عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه ، فاستشعر الحزن ، وتجلبب الخوف ، فزهر مصباح الهدى في قلبه» ـ إلى أن قال : ـ «قد خلع سرابيل الشهوات ، وتخلّى من الهموم ـ إلّا همّا واحدا انفرد به ـ فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى ، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى ، قد أبصر طريقه وسلك سبيله ، وعرف مناره وقطع غماره ، واستمسك من العرى بأوثقها ومن الحباب أمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس».

وفي كلام آخر له عليه‌السلام (٢) : «قد أحيى قلبه وأمات نفسه ، حتّى دقّ جليله ولطف غليظه ، وبرق له لامع كثير البرق ، فأبان له الطريق ، وسلك به السبيل ، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة ، وثبتت رجلاه لطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة ؛ بما استعمل قلبه وأرضى ربّه».

__________________

(١) ـ نهج البلاغة : الخطبة ٨٧.

(٢) ـ نهج البلاغة : الخطبة ٢٢٠.

١٣

فصل (١) [٣]

أوائل درجات

الإيمان تصديقات مشوبة بالشكوك والشبه ـ على اختلاف مراتبها ـ ويمكن معها الشرك (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [١٢ / ١٠٦].

وعنها يعبّر ب «الإسلام» في الأكثر : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [٤٩ / ١٤].

وعن مولانا الصادق عليه‌السلام (٢) : «الإيمان أرفع من الإسلام بدرجة ؛ إنّ الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر ، والإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن ، وإن اجتمعا في القول والصفة».

وأواسطها تصديقات لا يشوبها شكّ ولا شبهة : (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) [٤٩ / ١٥]. وأكثر إطلاق الإيمان عليها خاصّة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [٨ / ٢].

وأواخرها تصديقات كذلك مع كشف وشهود وذوق وعيان ، ومحبّة كاملة لله سبحانه ، وشوق تامّ إلى حضرته المقدّسة : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ

__________________

(١) ـ أورد المؤلف ـ قدس‌سره ـ هذا الفصل بكامله في عين اليقين : ٢٥٢. والمحجة : ١ / ٢٧٩. وحكاه المجلسي ـ قدس‌سره ـ في البحار : ٦٥ / ١١٥.

(٢) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب أن الإيمان يشرك الإسلام ... : ٢ / ٢٥.

١٤

و] (١) (لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) [٥ / ٥٤].

وعنها العبارة تارة ب «الإحسان» : «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه» (٢). واخرى ب «الإيقان» : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [٢ / ٤].

وإلى المراتب الثلاث الإشارة بقوله عزوجل : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [٥ / ٩٣].

وإلى مقابلاتها التي هي مراتب الكفر ، الإشارة بقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (٣) [٤ / ١٣٧].

__________________

(١) ـ تكميل من الكتاب الكريم. ساقط من النسخ.

(٢) ـ مسلم : كتاب الإيمان ، ح الأول ، ١ / ٣٧. أبو داود : كتاب السنة ، باب في القدر ، ح ٤٦٩٥ ، ٤ / ٢٢٤. ابن ماجه : المقدمة ، باب (٩) في الإيمان ، ح ٦٣ ، ١ / ٢٤.

الترمذي : كتاب الإيمان ، باب (٤) ، ح ٢٦١٠ ، ٥ / ٧.

(٣) ـ كتب على هامش النسخة ما يلي :

تأويل هذه الآية ـ على ما يقتضيه الاستشهاد بها ـ أن يقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي دخلوا في أوائل درجات الإيمان (ثُمَّ كَفَرُوا) أي بأواسطها ، لاحتجابهم عنها بعد ، وسترها عنهم (ثُمَّ آمَنُوا) أي بالأواسط (ثُمَّ كَفَرُوا) أي بالأواخر لاحتجابهم عنها بعد وسترها عنهم (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) أي بإنكار الأواخر والطعن في أهليها ، لرسوخهم في طريقتهم التي زعموا انحصار الحقّ فيها ، وأن ليس وراء ما علموا مذهبا ، كما هو دأب علماء الظاهر من إنكار أولياء الله ، ونفي علومهم الحقيقيّة الكشفيّة ، وتقييدهم بعلومهم الرسميّة ، واحتجابهم بها (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لأنّ الجهل المركّب لا يقبل العلاج ولا ينقلب علما لمضادّته له (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) لأنهم سلكوا السبيل المقابل لها ؛ بخلاف الفرقتين الأوليين ، فإن جهلهما بسيط ، وكفرهم يمكن أن ينقلب إيمانا. منه ـ ره.

١٥

فنسبة الإحسان واليقين إلى الإيمان ، كنسبة الإيمان إلى الإسلام.

قال مولانا الصادق عليه‌السلام (١) : «إنّ الإيمان أفضل من الإسلام ، وإنّ اليقين أفضل من الإيمان ، وما من شيء أعزّ من اليقين».

وصل (٢) [٤]

ولليقين ثلاث مراتب : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين (٣) : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) [١٠٢ / ٥ ـ ٧] (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [٥٦ / ٩٥].

والفرق بينهما إنّما ينكشف بمثال : فعلم اليقين بالنار ـ مثلا ـ هو مشاهدة المرئيّات بتوسّط نورها. وعين اليقين بها هو معاينة جرمها. وحقّ اليقين بها الاحتراق فيها ، وانمحاء الهويّة بها ، والصيرورة نارا صرفا ـ وليس وراء هذا غاية ، ولا هو قابل للزيادة.

«لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» (٤).

__________________

(١) ـ الكافي : باب فضل الإيمان على الإسلام : ٢ / ٥١.

(٢) ـ مأخوذ مما قاله الخواجه نصير الدين الطوسي ـ قدس‌سره ـ في أوصاف الأشراف : الباب الرابع ، الفصل الخامس : ٥٥. وورد الفصل بألفاظه في عين اليقين أيضا : ٢٥٣.

(٣) ـ كتب على هامش النسخة :

ترا سه چيز مى بايد ز كونين

بدانستن ، عمل كردن ، شدن عين

دو علمت از عبادت عين گردد

دلت آيينه كونين گردد

(٤) ـ مروي عن أمير المؤمنين وإمام المتقين عليه‌السلام ، مناقب ابن شهرآشوب ، في المسابقة بالعلم ، ٢ / ٣٨. عنه البحار : ٤٠ / ١٥٣. وأيضا في ٤٦ / ١٣٥ ، عن فضائل ابن شاذان.

شرح المقاصد : المبحث الأول من الفصل الثالث من المقصد السادس ، ٥ / ٢١٢.

١٦

فصل [٥]

واعلم أنّ تحصيل العلم مقدّم على العبادة ؛ وذلك لأنّ من لم يعرف المعبود ، ولا كيفية العبادة ، ولا ثمرتها : لم يتأتّ له العبادة.

وأيضا : فإنّ العلم النافع يثمر خشية الله ومهابته : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [٣٥ / ٢٨].

وذلك أنّ من لم يعرفه حقّ معرفته لم يهبه حقّ مهابته ، ولم يعظّمه حقّ تعظيمه وحرمته.

فصار العلم يثمر الطاعة كلّها ، ويحجز عن المعصية كلّها ـ بتوفيق الله [سبحانه] ـ وليس وراء هذين مقصد للعبد في عبادة الله جلّ جلاله.

ولذلك قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : «العلم إمام العمل ، والعمل تابعه».

__________________

(١) ـ أمالي الطوسي : المجلس السابع عشر ، ح ٣٨ ، ٤٨٨. عدة الداعي : القسم السادس من الباب الثاني : ٦٤. البحار عنهما : ١ / ١٧١. وفي أمالي الصدوق (المجلس التسعون ، ح ١ ، ٧١٤) : «... العلم إمام العقل ، والعقل تابعه».

١٧

فصل [٦]

العبادة قسمان :

أحدهما العبادة الظاهرة ، التي هي من تقوى الجوارح والأبدان كفعل الطاعات الظاهرة ـ من الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحجّ وغير ذلك ـ وترك المعاصي الواضحة الفاضحة ـ كالزنا ، وأكل الربا ، وشرب الخمر ، ونحو ذلك ـ ويسمّى العلم المتعلّق بذلك : «علم الشريعة» و «علم الفقه».

والثاني : العبادة الباطنة ، التي هي من تقوى القلوب والأرواح كالتخلّق بالأخلاق الحميدة ـ من التوبة ، والصبر ، والشكر ، والتوكّل ، والتفويض وغير ذلك ـ والتجنّب عن الملكات الرذيلة ـ من الحسد والكبر ، والعجب ، والغرور ، والريا ، ونحوها ـ ويسمّى العلم المتعلّق بذلك : «علم السرّ» و «علم الأخلاق».

وكلتا العبادتين فريضة ، لورود الأمر بهما جميعا في الكتاب والسنّة ، فإنّ الله عزوجل يقول : (تُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [٢٤ / ٣١] ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [٣ / ٢٠٠] ، (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [٢ / ١٧٢] ، (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [٥ / ٢٣]. إلى غير ذلك من الأمر بالأخلاق الفاضلة كما أنّه عزوجل يقول : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [٢ / ١١٠] ، و (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [٢ / ١٨٣] ، و (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [٣ / ٩٧] ـ وغير ذلك.

١٨

ويقول الله سبحانه في المعاصي : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) [٦ / ١٢٠] ، (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [٦ / ١٥١] ـ إلى غير ذلك ـ.

ولكنّ التكليف بكلتيهما إنّما هو بقدر الوسع والطاقة (١).

ولكلّ منهما درجات في الكمال والنقص ، وزيادة القرب من الحقّ وقلّته بحسب تفاوت درجات الناس في احتمالها والعمل بها ، و «الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق».

فصل [٧]

[فهرس أبواب الكتاب]

واعلم أنّ معرفة كيفيّة العبادتين داخلة في العلم بالكتب ، كما أنّ معرفة أوصياء الرسل وخلفائهم عليهم‌السلام داخلة في العلم بالرسل ، ومعرفة صفات الله العليا وأسمائه الحسنى وأفعاله وآثار رحمته ـ جلّ جلاله ـ داخلة في العلم بالله ، ومعرفة الشيطان وجنوده داخلة في العلم بالملائكة ، ومعرفة النفس الإنسانيّة وترقّياتها في أطوارها ـ من لدن كونها جنينا إلى أن تلقى الله سبحانه ـ داخلة في العلم باليوم الآخر.

فلم يخرج شيء من العلوم المهمّة الدينيّة عن هذه الاصول الخمسة.

ولمّا كان لعلم الأخلاق مباحث عميقة طويلة الأذيال ، ولعلم الفقه

__________________

(١) ـ كتب في هامش النسخة ما يلي ثم شطب عليه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [٢ / ٢٨٦].

١٩

مسائل كثيرة كثرت فيه القيل والقال ـ وقد أفرد علماء الدين ـ شكّر الله مساعيهم ـ لكلّ منهما كتبا مفردة ، وسمّوا كلّا منهما باسم على حدة : لم يحسن أن يجعلا من توابع بعض مباحث علم آخر ؛ فلذلك أفردنا لملخّص كلّ منهما كتابا على حدة (١).

ولتقارب مسائل الكتب والرسل واشتراك بعضها جمعناهما في

__________________

(١) ـ غيّر المؤلف ـ قدس‌سره ـ المقاطع التالية إلى آخر المقدمة مرتين ـ ولذلك تختلف النسخ الموجودة هنا ـ

فقد كتب أولا بعد قوله : «على حدة» هذا النص : «ثم لما كانت المسائل الفقهية ليست مسائل علمية ـ بل كانت ظنية كثيرة الخلاف بين أربابها ، والمتعلقة منها بغير العبادات غير واجبة عينا على كل مكلف ، ولا كانت مما له دخل في سلوك سبيل الله سبحانه والدار الآخرة ، بل كانت كسائر الصناعات التي إنما احتيجت إليها لضرورة المعيشة في الدنيا والتمدن ، فلم يناسب وضع هذا الكتاب ، المسمى بعلم اليقين الهادي للسالكين ، فلذلك اقتصرنا منها على أصول وجمل في العبادات ، مما كانت من ضروريات الدين ، وواجبة على عامة المكلفين ، وأشرنا إلى بعض أسرارها وحكمها ، وذكرنا ضابطة كلية لكيفية العمل بالمختلف فيها ، ليتمسك بها من وفق لها. ولتقارب مسائل الكتب والرسل واشتراك بعضها جمعناهما في باب واحد ، فصارت مقاصد هذا الكتاب أربعة: العلم بالله ، العلم بالملائكة ، العلم بالكتب والرسل ، العلم بالعبادات الظاهرة ، العلم بالعبادات الباطنة ، العلم باليوم الآخر. ولنشرع فيها ـ ومن الله التأييد». (المقاصد المعدودة ستة كما ترى ، إلا أن يكون بعض منها مدغما في الآخر).

ثم شطب عليه وكتب بدلا منه ما أوردناه في المتن ؛ وأضاف في الهامش ـ بعد قوله «على حدة» ـ : «سمينا أحدهما بالمحجة البيضاء في تهذيب الإحياء ، والآخر بمعتصم الشيعة في أحكام الشريعة».

ثم شطب على هذه الجملة المضافة عند مراجعاته أيضا ، ولذلك لا ترى المقطعين في نسختي ع وم ، والمقطع الأخير مكتوب في س داخل المتن ؛ وذلك دليل على أن الاستدراك الأخير وقع بعد استنساخها ؛ على أنه ألف المحجة البيضاء بعد مضيّ أربع سنين من تأليف علم اليقين.

٢٠