زاد المسير في علم التفسير - ج ١

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ١

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
ISBN: 9953-27-016-3
الصفحات: ٦٠٦

إبل الصّدقة ، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا ، فصحّوا ، وارتدّوا عن الإسلام ، وقتلوا الرّاعي ، واستاقوا الإبل ، فأرسل رسول الله في آثارهم ، فجيء بهم ، فقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمّر أعينهم ، وألقاهم بالحرّة حتى ماتوا ، ونزلت هذه الآية ، رواه قتادة عن أنس ، وبه قال سعيد بن جبير ، والسّدّيّ.

(٤٢٠) والثاني : أن قوما من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد وميثاق ، فنقضوا العهد ، وأفسدوا في الأرض ، فخيّر الله رسوله بهذه الآية : إن شاء أن يقتلهم ، وإن شاء أن يقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك.

(٤٢١) والثالث : أنّ أصحاب أبي بردة الأسلميّ قطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الإسلام ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(٤٢٢) وقال ابن السّائب : كان أبو بردة ، واسمه هلال بن عويمر ، وادع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن أتاه من المسلمين لم يهج ، ومن مرّ بهلال إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يهج ، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من قوم هلال ، فنهدوا إليهم ، فقتلوهم وأخذوا أموالهم ، ولم يكن هلال حاضرا ، فنزلت هذه الآية.

والرابع : أنها نزلت في المشركين ، رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن (١).

واعلم أنّ ذكر «المحاربة» لله عزوجل في الآية مجاز. وفي معناها للعلماء قولان : أحدهما : أنه سمّاهم محاربين له تشبيها بالمحاربين حقيقة ، لأن المخالف محارب ، وإن لم يحارب. فيكون المعنى :

____________________________________

ضعيف ، وورد من مرسل السدي ، أخرجه الطبري ١١٨٢١. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، إلا أن روايات الصحيح خالية من ذكر نزول الآية ، فالله أعلم.

(٤٢٠) ضعيف. أخرجه الطبري ١١٨٠٧ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به ، وفيه إرسال ، علي لم يسمع من ابن عباس. وورد عن الضحاك مرسلا ، أخرجه الطبري ١١٨٠٨ وفيه جويبر بن سعيد وهو متروك.

(٤٢١) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وهو متهم بالوضع ، فحديثه لا شيء.

(٤٢٢) عزاه المصنف لابن السائب وهو الكلبي ، واسمه محمد ، وهو ساقط متهم ، فخبره باطل.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٤ / ٥٤٩ : وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال : أنزل الله هذه الآية على نبيه معرّفة حكمه على من حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فسادا ، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعرنيين ما فعل.

وقال الإمام ابن العربي رحمه‌الله في «أحكام القرآن» ٢ / ٩٣ : من قال : إنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب لأن عكلا وعرينة ارتدّوا وقتلوا وأفسدوا ، ولكن يبعد ، لأن الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة. وقد قيل للكفار (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ). وقد قال في المحاربين : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) وكذلك المرتد. يقتل بالردة دون المحاربة ، فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون فلو ثبت أن هذه الآية نزلت في شأن عكل أو عرينة لكان غرضا ثابتا ، ونصا صريحا. وإنما ترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استتابة العرنيين لما أحدثوا من القتل والمثلة والحرب ، وإنما يستتاب المرتد الذي يرتاب فيستريب به ويرشد ويبيّن له المشكل.

٥٤١

يخالفون الله ورسوله بالمعاصي. والثاني : أنّ المراد : يحاربون أولياء الله ، وأولياء رسوله. وقال سعيد بن جبير : أراد بالمحاربة لله ورسوله ، الكفر بعد الإسلام. وقال مقاتل : أراد بها الشّرك (١). فأمّا «الفساد» فهو القتل والجراح وأخذ الأموال ، وإخافة السّبيل.

قوله تعالى : (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) اختلف العلماء هل هذه العقوبة على التّرتيب ، أم على التّخيير؟ فمذهب أحمد رضي الله عنه أنها على التّرتيب (٢) ، وأنهم إذا قتلوا ، وأخذوا المال ، أو قتلوا ولم يأخذوا ، قتلوا وصلّبوا ، وإن أخذوا المال ، ولم يقتلوا ، قطّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإن لم يأخذوا المال ، نفوا. قال ابن الأنباريّ : فعلى هذا تكون «أو» مبعّضة ، فالمعنى : بعضهم يفعل به كذا ، وبعضهم كذا ، ومثله قوله تعالى : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) (٣) المعنى : قال بعضهم هذا ، وقال بعضهم هذا. وهذا القول اختيار أكثر اللغويين. وقال الشّافعيّ : إذا قتلوا وأخذوا المال ، قتلوا وصلّبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال ، قتلوا ولم يصلّبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا ، قطّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وقال مالك : الإمام مخيّر في إقامة أيّ الحدود شاء ، سواء قتلوا أو لم يقتلوا ، أخذوا المال أو لم يأخذوا ، والصّلب بعد القتل. وقال أبو حنيفة ، ومالك : يصلب ويبعج برمح حتى يموت. واختلفوا في مقدار زمان الصّلب. فعندنا أنه يصلب بمقدار ما يشتهر صلبه. واختلف أصحاب الشّافعيّ ، فقال بعضهم : ثلاثة أيام ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وقال بعضهم : يترك حتى يسيل صديده.

قال أبو عبيدة : معنى «من خلاف» أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ، يخالف بين قطعهما. فأمّا «النفي» فأصله الطّرد والإبعاد. وفي صفة نفيهم أربعة أقوال : أحدها : إبعادهم من بلاد الإسلام إلى دار الحرب ، قاله أنس بن مالك ، والحسن ، وقتادة ، وهذا إنما يكون في حقّ المحارب المشرك ، فأما المسلم فلا ينبغي أن يضطرّ إلى ذلك. والثاني : أن يطلبوا لتقام عليهم الحدود ، فيبعدوا ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثالث : إخراجهم من مدينتهم إلى مدينة أخرى ، قاله سعيد بن جبير. وقال مالك : ينفى إلى بلد غير بلده ، فيحبس هناك. والرابع : أنه الحبس ، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وقال أصحابنا : صفة النّفي : أن يشرّد ولا يترك يأوي في بلد ، فكلّما حصل في بلد نفي إلى بلد غيره. وفي «الخزي»

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٤ / ٥٥٢ : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : «المحارب لله ورسوله» من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم ، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة.

(٢) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٢ / ٤٧٥ : مسألة : «فمن قتل منهم وأخذ المال ، قتل وإن عفا صاحب المال ، وصلب حتى يشتهر ، ودفع إلى أهله ، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب ، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى ، في مقام واحد ، ثم حسمتا وخلي» قال الإمام الموفق في شرحه : روينا نحو هذا عن ابن عباس ، وبه قال قتادة وأبو مجلز وحماد والليث والشافعي وإسحاق : وعن أحمد : أنه إذا قتل وأخذ المال قتل وقطع ، كما لو زنى وسرق ، وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخيّر فيهم بين القتل والصلب ، والقطع والنفي لأن «أو» تقتضي التخيير ، وهذا قول ابن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبي الزناد وأبي ثور وداود ، وقال أصحاب الرأي : إن قتل قتل ، وإن أخذ المال قطع ، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين قتله وصلبه ، وبين قتله وقطعه ، وبين أن يجمع له ذلك كله. لأنه وجد منه ما يوجب القتل والقطع اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» ٦ / ١٥٠.

(٣) سورة البقرة : ١٣٥.

٥٤٢

قولان : أحدهما : أنه العقاب. والثاني : الفضيحة.

وهل يثبت لهم حكم المحاربين في المصر ، أم لا؟ ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك في المصر وهو قول أبي حنيفة. وقال الشّافعيّ ، وأبو يوسف : المصر والصّحارى سواء (١) ، ويعتبر في المال المأخوذ قدر نصاب ، كما يعتبر في حقّ السّارق ، خلافا لمالك.

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) قال أكثر المفسّرين : هذا الاستثناء في المحاربين المشركين إذا تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم ، وآمنوا قبل القدرة عليهم ، فلا سبيل عليهم فيما أصابوا من مال أو دم ، وهذا لا خلاف فيه. فأما المحاربون المسلمون ، فاختلفوا فيهم ، ومذهب أصحابنا : أن حدود الله تسقط عنهم من انحتام القتل والصّلب والقطع والنّفي. فأمّا حقوق الآدميين من الجراح والأموال ، فلا تسقطها التوبة ، وهذا قول الشّافعيّ (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧))

قوله تعالى : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) في «الوسيلة» قولان :

أحدهما : أنها القربة ، قاله ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، والفرّاء. وقال قتادة : تقرّبوا إليه بما يرضيه. قال أبو عبيدة : يقال : توسّلت إليه ، أي : تقرّبت إليه. وأنشد :

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٤٧٤ : والمحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء ، فيغصبونهم المال مجاهرة. وجملته أن المحاربين الذين تثبت لهم أحكام المحاربة ، تعتبر لهم شروط ثلاث :

أحدها : أن يكون ذلك في الصحراء ، فإن كان منهم في القرى والأمصار ، فقد توقف أحمد رحمه‌الله فيهم ، وظاهر كلام الخرقي أنهم غير محاربين وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق وقال كثير من أصحابنا هو قاطع حيث كان. وبه قال الأوزاعي ، والليث والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور لتناول الآية بعمومها كل محارب ، ولأن ذلك إذا وجد في مصر كان أعظم خوفا ، وأكثر ضررا ، فكان بذلك أولى.

(٢) جاء في «المغني» ١٢ / ٤٨٣ : مسألة «فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم ، سقطت عنهم حدود الله تعالى وأخذوا بحقوق الآدميين ، من الأنفس والجراح والأموال ، إلا أن يعفى لهم عنها» قال الإمام الموفق : لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم ، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور ، والأصل فيه قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ...) فعلى هذا يسقط عنهم تحتّم القتل والصلب والقطع والنفي ، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح ، وغرامة المال والديّة لما لا قصاص فيه ، فأما إن تاب بعد القدرة عليه لا يسقط عنه شيء من حدود الله تعالى. وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة : كالزنى ، والقذف ، وشرب الخمر ، والسرقة ، فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة ، لأنها حدود الله تعالى ، إلا حد القذف ، لأنه حق آدمي ، ويحتمل أن لا تسقط اه ملخصا.

٥٤٣

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا

وعاد التّصافي بيننا والوسائل (١)

والثاني : المحبّة ، يقول : تحبّبوا إلى الله ، هذا قول ابن زيد.

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨))

قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) قال ابن السّائب : نزلت في طعمة بن أبيرق (٢) ، وقد مضت قصّته في سورة النّساء. و (وَالسَّارِقُ) : إنما سمّي سارقا ، لأنه يأخذ الشّيء في خفاء ، واسترق السّمع : إذا تسمّع مستخفيا. قال المبرّد : والسّارق هاهنا مرفوع بالابتداء ، لأنه ليس القصد منه واحدا بعينه ، وإنّما هو ، كقولك : من سرق فاقطع يده. وقال ابن الأنباريّ : وإنّما دخلت الفاء ، لأنّ في الكلام معنى الشّرط ، تقديره : من سرق فاقطعوا يده ، قال الفرّاء : وإنّما قال : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) لأنّ كلّ شيء موحّد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا ، جمع ، تقول : قد هشمت رؤوسهما وملأت ظهورهما وبطونهما ضربا ، ومثله (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (٣) وإنّما اختير الجمع على التّثنية ، لأنّ أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين في الإنسان : اليدين ، والرّجلين ، والعينين ، فلمّا جرى أكثره على هذا ، ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين مذهب التّثنية ، وقد يجوز تثنيتهما.

قال أبو ذؤيب.

فتخالسا نفسيهما بنوافذ

كنوافذ العبط التي لا ترقع (٤)

فصل : وهذه الآية اقتضت وجوب القطع على كلّ سارق (٥) ، وبيّنت السنّة أنّ المراد به السّارق لنصاب من حرز مثله ، كما قال تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (٦).

(٤٢٣) ونهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل النّساء ، والصّبيان ، وأهل الصّوامع. واختلف في مقدار النّصاب ، فمذهب أصحابنا : أنّ للسّرقة نصابين : أحدهما : من الذّهب ربع دينار ، ومن الورق ثلاثة دراهم ، أو

____________________________________

(٤٢٣) متفق عليه ، وتقدم.

__________________

(١) في «تفسير القرطبي» ٦ / ١٥١ وفي «مجاز القرآن» ١ / ١٦٤ لم يعرف قائله.

(٢) ابن السائب هو الكلبي ، وهو متهم بالوضع ، فخبره باطل ، لا أصل له.

(٣) سورة التحريم : ٤.

(٤) تخالسا : جعل كل واحد منهما يختلس نفس صاحبه بالطعن. النوافذ : جمع نافذة وهي الطعن تنفذ حتى يكون لها رأسان. عبط : جمع عبيط ، وأصل العبط : شق الجلد الصحيح.

(٥) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٤٥٩ في شرح المسألة ١٥٨٩ : وجملته أن الوالد لا يقطع بالسرقة من مال ولده ، وإن سفل وسواء في ذلك الأب والأم ، والابن والبنت ، والجد والجدة ، من قبل الأب والأم وهذا قول عامة أهل العلم منهم : مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ، وقال أبو ثور وابن المنذر : القطع على كل سارق بظاهر الكتاب.

قال الإمام الموفق : والعبد إذا سرق من مال سيده فلا قطع عليه في قولهم جميعا ، ووافقهم أبو ثور ، وحكي عن داود أنه يقطع لعموم الآية اه ملخصا ، وانظر «أحكام الجصاص» ٤ / ٨٠ ـ ٨١ و «تفسير القرطبي».

(٦) سورة التوبة : ٥.

٥٤٤

قيمة ثلاثة دراهم من العروض وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة : لا يقطع حتى تبلغ السّرقة عشرة دراهم. وقال الشّافعيّ : الاعتبار في ذلك بربع دينار ، وغيره مقوّم به ، فلو سرق درهمين قيمتهما ربع دينار ، قطع ، فإن سرق نصابا من التّبر ، فعليه القطع. وقال أبو حنيفة : لا يقطع حتى يبلغ ذلك نصابا مضروبا ، فإن سرق منديلا لا يساوي نصابا ، في طرفه دينار ، وهو لا يعلم ، لا يقطع. وقال الشّافعيّ : يقطع. فإن سرق ستارة الكعبة ، قطع ، خلافا لأبي حنيفة. فإن سرق صبيا صغيرا حرّا ، لم يقطع ، وإن كان على الصّغير حليّ. وقال مالك : يقطع بكلّ حال. وإذا اشترك جماعة في سرقة نصاب ، قطعوا (١) ، وبه قال مالك ، إلا أنه اشترط أن يكون المسروق ثقيلا يحتاج إلى معاونة بعضهم لبعض في إخراجه. وقال أبو حنيفة ، والشّافعيّ : لا قطع عليه بحال ويجب القطع على جاحد العارية عندنا ، وبه قال سعيد بن المسيّب ، والليث بن سعد ، خلافا لأكثر الفقهاء.

فصل : فأمّا الحرز ، فهو ما جعل للسّكنى ، وحفظ الأموال ، كالدّور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس ، ويحفظون أمتعتهم بها ، فكلّ ذلك حرز ، وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده ، وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب ، أو لا باب له إلا أنه محجّر بالبناء. فأمّا ما كان في غير بناء ولا خيمة ، فإنه ليس في حرز إلّا أن يكون عنده من يحفظه. ونقل الميمونيّ عن أحمد : إذا كان المكان مشتركا في الدّخول إليه ، كالحمّام والخيمة لم يقطع السّارق منه ، ولم يعتبر الحافظ. ونقل عنه ابن منصور : لا يقطع سارق الحمّام إلا أن يكون على المتاع أجير حافظ. فأمّا النّبّاش ، فقال أحمد في رواية أبي طالب :

يقطع ، وبه قال مالك ، والشّافعيّ ، وابن أبي ليلى. وقال الثّوريّ ، والأوزاعيّ ، وأبو حنيفة : لا يقطع.

فصل : فأمّا موضع قطع السّارق (٢) ، فمن مفصل الكفّ ، ومن مفصل الرّجل. فأمّا اليد اليسرى

__________________

(١) جاء في «المغني» ١٢ / ٤٦٨ : «وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا» قال الإمام الموفق :

وبهذا قال مالك وأبو ثور. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق : لا قطع عليهم إلا أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا ، كما لو انفرد كل واحد بدون النصاب اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» ٦ / ١٤٦. وجاء في «المغني» ١٣ / ١٧٢ ـ ١٧٣ : «ولا يقام الحد على المسلم في أرض العدو» وجملته أن من أتى حدا من الغزاة ، أو ما يوجب قصاصا في أرض الحرب ، لم يقم عليه حتى يقفل ، فيقام عليه حده ، وبهذا قال الأوزاعي وإسحاق : وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر : يقام الحد في كل موضع ، لأن الله تعالى أمر بإقامته في كل مكان وزمان ، إلا أن الشافعي قال : إذا لم يكن أمير الجيش الإمام ، أو أمير إقليم ، فليس له إقامة الحد ، ويؤخّر حتى يأتي الإمام. لأن إقامة الحدود إليه ، وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة إلى المحدود ، أو قوة به ، أو شغل عنه أخّر. وقال أبو حنيفة : لا حد ولا قصاص في دار الحرب ولا إذا رجع. اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» ٦ / ١٧١ بتخريجي.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٤٤٠ : لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف ، وهو الكوع ، لأنها آلة السرقة ، فناسب عقوبته بإعدام آلتها ، وإذا سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى ، وبذلك قال جماعة إلا عطاء حكي عنه أنه تقطع يده اليسرى ، وروي عن داود وربيعة ، وهذا شذوذ يخالف قول جماعة فقهاء الأمصار من أهل الفقه والأثر ، من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم ، وقول أبي بكر وعمر. وأما الآية فالمراد بها قطع يد كل واحد منهما. وفي قراءة ابن مسعود «فاقطعوا أيمانهما» إذا ثبت هذا ، فإنه تقطع رجله اليسرى لقوله تعالى : (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) وتقطع الرجل من مفصل الكعب في قول أكثر أهل العلم ، وفعل ذلك عمر وكان علي يقطع من نصف القدم ، من معقد الشراك ،

٥٤٥

والرّجل اليمنى ، فروي عن أحمد : لا تقطع ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، وعليّ ، وأبي حنيفة ، وروي عنه : أنها تقطع ، وبه قال مالك ، والشّافعيّ. ولا يثبت القطع إلا بإقراره مرتين ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشّافعيّ : يثبت بمرّة. ويجتمع القطع والغرم موسرا كان أو معسرا. وقال أبو حنيفة : لا يجتمعان ، فإن كانت العين باقية أخذها ربّها ، وإن كانت مستهلكة ، فلا ضمان. وقال مالك : يضمنها إن كان موسرا ، ولا شيء عليه إن كان معسرا (١).

قوله تعالى : (نَكالاً مِنَ اللهِ) قد ذكرنا «النّكال» في البقرة. قوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قال سعيد بن جبير : شديد في انتقامه ، حكيم إذا حكم بالقطع. قال الأصمعيّ : قرأت هذه الآية ، وإلى جنبي أعرابيّ ، فقلت : والله غفور رحيم ، سهوا ، فقال الأعرابيّ : كلام من هذا؟ قلت : كلام الله. قال : أعد فأعدت : والله غفور رحيم ، فقال : ليس هذا كلام الله ، فتنبّهت ، فقلت : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). فقال : أصبت ، هذا كلام الله. فقلت له : أتقرأ القرآن؟ قال : لا. قلت : فمن أين علمت أني أخطأت؟ فقال : يا هذا عزّ فحكم فقطع ، ولو غفر ورحم لما قطع.

(فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))

قوله تعالى : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ). سبب نزولها :

__________________

ويدع له عقبا يمشي عليها ، وهو قول أبي ثور.

ـ قال : وإذا قطع حسم ، وهو أن يغلى الزيت فيغمس عضوه فيه ، لتنسد أفواه العروق اه ملخصا. وانظر «أحكام الجصاص» ٤ / ٦٩ ـ ٧٤ ، و «تفسير القرطبي» ٦ / ١٧١ ـ ١٧٢.

وجاء في «المغني» ١٢ / ٤٤٦ ـ ٤٤٧ ما ملخصه : مسألة : «فإن عاد حبس ، ولا يقطع غير يد ورجل» يعني إذا عاد فسرق بعد قطع يده ورجله ، لم يقطع منه شيء آخر وحبس ، وبهذا قال علي والحسن والشعبي والنخعي والزهري وحماد والثوري وأصحاب الرأي ، وعن أحمد أنه تقطع في الثالثة يده اليسرى ، وفي الرابعة رجله اليمنى ، وفي الخامسة يعزر ويحبس ، وروي عن أبي بكر وعمر أنهما قطعا يد أقطع اليد والرجل ، وهذا قول قتادة ومالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر ، وروي عن عثمان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز ، أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة ، والرجل اليمنى في الرابعة ، ويقتل في الخامسة لحديث جابر : «جيء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسارق فقال : اقتلوه .....» ولنا ما روى سعيد عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبيه قال : حضرت عليّ بن أبي طالب ، أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق ، فقال لأصحابه : ما ترون في هذا؟ قالوا : اقطعه يا أمير المؤمنين. قال : قتلته إذا ، وما عليه القتل ، بأي شيء يأكل الطعام ، بأي شيء يتوضأ بأي شيء يغتسل ، بأي شيء يقوم على حاجته ، فرده إلى السجن ، ثم جلده جلدا شديدا ثم أرسله اه ملخصا.

وانظر «تفسير القرطبي» ٦ / ١٧٢ و «أحكام الجصاص» ٤ / ٧٢ ـ ٧٣.

(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٢ / ٤٥٤ ما ملخصه : لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين المسروقة إذا كانت باقية ، فأما إن كانت تالفة ، فعلى السارق رد قيمتها ، أو مثلها إن كانت مثلية ، قطع أو لم يقطع ، موسرا كان أو معسرا ، وهذا قول الحسن والنخعي وحماد والبتّي والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور ، وقال الثوري وأبو حنيفة : لا يجتمع الغرم والقطع ، إن غرمها قبل القطع سقط القطع ، وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم ، وقال عطاء وابن سيرين والشعبي ومكحول : لا غرم على السارق إذا قطع ، ووافقهم مالك في المعسر ، ووافقنا في الموسر. وانظر «أحكام الجصاص» ٤ / ٨٣ ـ ٨٤.

٥٤٦

(٤٢٤) أن امرأة كانت قد سرقت ، فقالت : يا رسول الله هل لي من توبة؟ فنزلت هذه الآية. قاله عبد الله بن عمرو. وقال سعيد بن جبير : فمن تاب من بعد ظلمه ، أي : سرقته ، وأصلح العمل ، فإنّ الله يتجاوز عنه ، إنّ الله غفور لما كان منه قبل التّوبة ، رحيم لمن تاب.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال (١) :

(٤٢٥) أحدها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بيهوديّ وقد حمّموه (٢) وجلدوه ، فقال : أهكذا تجدون حدّ الزّاني في كتابكم؟ قالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم ، فقال : أنشدك الله الذي أنزل التّوراة على موسى ، هكذا تجدون حدّ الزّاني في كتابكم؟ قال : لا ، ولكنّه كثر في أشرافنا ، فكنّا نترك الشّريف ، ونقيمه على الوضيع ، فقلنا : تعالوا نجمع على شيء نقيمه على الشّريف والوضيع ، فاجتمعنا على التّحميم والجلد. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ إنّي أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأمر به فرجم ، ونزلت هذه الآية ، رواه البراء بن عازب.

____________________________________

(٤٢٤) أخرجه أحمد ٢ / ١٧٧ والطبري ١١٩٢٢ من حديث عبد الله بن عمرو قال : «إن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء الذين سرقتهم ، فقالوا : يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا ، قال قومها : فنحن نفديها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقطعوا يدها ، فقالت المرأة : هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال نعم. أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك. فأنزل الله عزوجل : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ) إلى آخر الآية.

وفيه عبد الله بن لهيعة ، وهو ضعيف الحديث ، وهذا الحديث يعرف بحديث المخزومية ، وأصله في الصحيحين دون ذكر نزول الآية ، وبسياق آخر. وانظر «تفسير الشوكاني» ٨٠٣ بتخريجنا.

(٤٢٥) صحيح. أخرجه مسلم ١٧٠٠ وأبو داود ٤٤٤٧ و ٤٤٤٨ وأحمد ٤ / ٢٨٦ وابن ماجة ٢٥٥٨ والبيهقي ٨ / ٢٤٦ والطبري ١٢٠٣٩ من حديث البراء بن عازب.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، أن يقال : عني بقوله : (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ ...) الآية ، قوم من المنافقين. وجائز أن يكون ممن دخل هذه الآية ابن صوريا ، وجائز أن يكون أبو لبابة ، وجائز أن يكون غيرهما ، غير أن أثبت شيء روي في ذلك ما روي عن البراء بن عازب وأبي هريرة لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا كان ذلك كذلك ، كان الصحيح من القول فيه أن يقال : عني به عبد الله بن صوريا.

(٢) في «اللسان» : حمّم الرجل : سخّم وجهه بالحمم ، وهو الفحم. وفي الحديث أنه أمر بيهودي محمّم مجلود أي مسود الوجه.

٥٤٧

(٤٢٦) والثاني : أنها نزلت في ابن صوريا آمن ثم كفر ، وهذا المعنى مرويّ عن أبي هريرة.

(٤٢٧) والثالث : أنها نزلت في يهوديّ قتل يهوديّا ، ثم قال : سلوا محمّدا فإن كان بعث بالدّية ، اختصمنا إليه ، وإن كان بعث بالقتل ، لم نأته ، قاله الشّعبيّ.

والرابع : أنها نزلت في المنافقين ، قاله ابن عباس ، ومجاهد (١).

(٤٢٨) والخامس : أن رجلا من الأنصار أشارت إليه قريظة يوم حصارهم : على ما ذا ننزل؟ فأشار إليهم : أنه الذّبح ، قاله السّديّ.

(٤٢٩) قال مقاتل : هو أبو لبابة بن عبد المنذر ، قالت له قريظة : أننزل على حكم سعد؟ فأشار بيده : أنه الذّبح ، وكان حليفا لهم. قال أبو لبابة : فعلمت أني قد خنت الله ورسوله ، فنزلت هذه الآية.

ومعنى الكلام : لا يحزنك مسارعة الذي يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنّا بأفواههم وهم المنافقون ، ومن الذين هادوا وهم اليهود. (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) قال سيبويه : هو مرفوع بالابتداء. قال أبو الحسن الأخفش : ويجوز أن يكون رفعه على معنى : ومن الذين هادوا سمّاعون للكذب. وفي معناه أربعة أقوال : أحدها : سمّاعون منك ليكذبوا عليك. والثاني : سمّاعون للكذب ، أي : قائلون له. والثالث : سمّاعون للكذب الذي بدّلوه في توراتهم. والرابع : سمّاعون للكذب ، أي قابلون له ، ومنه : «سمع الله لمن حمده» أي : قبل.

وفي قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) قولان : أحدهما : يسمعون لأولئك ، فهم عيون لهم. والثاني : سمّاعون من قوم آخرين ، وهم رؤساؤهم المبدّلون التّوراة. وفي السّمّاعين للكذب ، وللقوم الآخرين قولان : أحدهما : أن «السّمّاعين للكذب» يهود المدينة ، والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهود فدك. والثاني : بالعكس من هذا.

وفي تحريفهم الكلم خمسة أقوال : أحدها : أنه تغيير حدود الله في التّوراة ، وذلك أنهم غيّروا الرّجم ، قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : تغيير ما يسمعونه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكذب عليه ، قاله الحسن. والثالث : إخفاء صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والرابع : إسقاط القود بعد استحقاقه. والخامس : سوء التّأويل. وقال ابن جرير : المعنى يحرّفون حكم الكلم ، فحذف ذكر الحكم لمعرفة السّامعين بذلك.

____________________________________

(٤٢٦) أخرجه الطبري ١١٩٢٦ و ١١٩٢٨ و ١١٩٢٩ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ، وإسناد ضعيف ، فيه راو لم يسمّ ، وهو عجز حديث مطول. وأخرجه أبو داود ٤٤٥٠ و ٤٤٥١ والطبري ١٢٠١٣ والواحدي ٣٩٢ من حديث أبي هريرة ، ولم يذكر فيه أنه ابن صوريا.

(٤٢٧) ضعيف. أخرجه الطبري ١١٩٢٤ و ١١٩٢٥ عن الشعبي مرسلا ، وهو معارض بحديث البراء ، وذاك أصح.

(٤٢٨) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١١٩٢٣ عن السدي مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف ، والمتن منكر ، معارض بما تقدم عن البراء ، ومراسيل السدي مناكير. وانظر «أحكام القرآن» ٧١٧ بتخريجنا.

(٤٢٩) مقاتل متروك ، وكذبه غير واحد ، فخبره لا شيء ، والصواب ما رواه البراء.

__________________

(١) أخرجه الطبري ١١٩٣٠ عن عبد الله بن كثير مرسلا. وكرره ١١٩٣١ عن مجاهد مرسلا أيضا ، ولم أره عن ابن عباس ، والخبر ضعيف بكل حال.

٥٤٨

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) قال الزجّاج : أي من بعد أن وضعه الله مواضعه ، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه. قوله تعالى : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) في القائلين لهذا قولان :

(٤٣٠) أحدهما : أنهم اليهود ، وذلك أنّ رجلا وامرأة من أشرافهم زنيا ، فكان حدّهما الرّجم ، فكرهت اليهود رجمهما ، فبعثوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألونه عن قضائه في الزّانيين إذا أحصنا ، وقالوا : إن أفتاكم بالجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرّجم فلا تعملوا به ، هذا قول الجمهور.

(٤٣١) والثاني : أنهم المنافقون. قال قتادة : وذلك أن بني النّضير كانوا لا يعطون قريظة القود إذا قتلوا منهم ، وإنما يعطونهم الدّية ، فإذا قتلت قريظة من النّضير لم يرضوا إلا بالقود تعزّزا عليهم ، فقتل بنو النّضير رجلا من قريظة عمدا ، فأرادوا رفع ذلك إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رجل من المنافقين : إنّ قتيلكم قتيل عمد ، ومتى ترفعوا ذلك إلى محمّد خشيت عليكم القود ، فإن قبلت منكم الدّية فأعطوا ، وإلا فكونوا منه على حذر.

وفي معنى (فَاحْذَرُوا) ثلاثة أقوال : أحدها : فاحذروا أن تعملوا بقوله الشّديد. والثاني : فاحذروا أن تطلعوه على ما في التّوراة فيأخذكم بالعمل به. والثالث : فاحذروا أن تسألوه بعدها.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) في «الفتنة» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها بمعنى الضّلالة ، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني : العذاب ، قاله الحسن ، وقتادة. والثالث : الفضيحة ، ذكره الزجّاج. قوله تعالى : (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : لا تغني عنه ، ولا تقدر على استنقاذه. وفي هذا تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حزنه على مسارعتهم في الكفر.

قوله تعالى : (لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) قال السّدّيّ : يعني المنافقين واليهود ، لم يرد أن يطهّر قلوبهم من دنس الكفر ، ووسخ الشّرك بطهارة الإيمان والإسلام.

قوله تعالى : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أما خزي المنافقين ، فبهتك ستره وإطلاع النبيّ على كفرهم ، وخزي اليهود بفضيحتهم في إظهار كذبهم إذ كتموا الرّجم ، وبأخذ الجزية منهم. قال مقاتل : وخزي قريظة بقتلهم وسبيهم ، وخزي النّضير بإجلائهم.

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢))

قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) قال الحسن : يعني حكّام اليهود يسمعون الكذب ممّن يكذب عندهم في دعواه ، ويأتيهم برشوة فيأخذونها. وقال أبو سليمان : هم اليهود يسمعون الكذب ، وهو قول بعضهم لبعض : محمّد كاذب ، وليس بنبيّ ، وليس في التّوراة رجم ، وهم يعلمون كذبهم. قوله تعالى :

____________________________________

(٤٣٠) أخرجه الطبري ١١٩٤١ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، ورجاله ثقات لكنه منقطع بينهما ، ومع ذلك هو يتأيد بحديث البراء.

(٤٣١) ضعيف. أخرجه الطبري ١١٩٤٤ عن قتادة مرسلا ، فهو ضعيف.

٥٤٩

(أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائيّ ، وأبو جعفر «السّحت» مضمومة الحاء مثقّلة. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة «السّحت» ساكنة الحاء خفيفة. وروى خارجة بن مصعب عن نافع «أكّالون للسّحت» بفتح السين وجزم الحاء. قال أبو عليّ : السّحت والسّحت لغتان ، وهما اسمان للشيء المسحوت ، وليسا بالمصدر ، فأمّا من فتح السين ، فهو مصدر سحت ، فأوقع اسم المصدر على المسحوت ، كما أوقع الضّرب على المضروب في قولهم : هذا الدّرهم ضرب الأمير. وفي المراد بالسّحت ثلاثة أقوال : أحدها : الرّشوة في الحكم. والثاني : الرّشوة في الدّين ، والقولان عن ابن مسعود. والثالث : أنه كلّ كسب لا يحلّ ، قاله الأخفش.

قوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) فيمن أريد بهذا الكلام قولان :

أحدهما : اليهوديّان اللذان زنيا ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : رجلان من قريظة والنّضير قتل أحدهما الآخر ، قاله قتادة. وقال ابن زيد : كان حييّ بن أخطب قد جعل للنّضيريّ ديتين ، والقرظيّ دية ، لأنه كان من النّضير ، فقالت قريظة : لا نرضى بحكم حييّ ، ونتحاكم إلى محمّد ، فقال الله تعالى لنبيّه : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) الآية.

فصل : اختلف علماء التفسير في هذه الآية على قولين : أحدهما : أنها منسوخة ، وذلك أنّ أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مخيّرا ، إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) فلزمه الحكم ، وزال التّخيير ، وهذا مرويّ عن ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسّدّيّ. والثاني : أنها محكمة ، وأن الإمام ونوّابه في الحكم مخيّرون إذا ترافعوا إليهم ، إن شاؤوا حكموا بينهم ، وإن شاؤوا أعرضوا عنهم ، وهذا مرويّ عن الحسن ، والشّعبيّ ، والنّخعيّ ، والزّهريّ ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وهو الصّحيح ، لأنه لا تنافي بين الآيتين ، لأنّ إحداهما : خيّرت بين الحكم وتركه. والثانية : بيّنت كيفية الحكم إذا كان.

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣))

قوله تعالى : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) قال المفسّرون : هذا تعجيب من الله عزوجل لنبيّه من تحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التّوراة من حكم ما تحاكموا إليه فيه ، وتقريع لليهود إذ يتحاكمون إلى من يجحدون نبوّته ، ويتركون حكم التّوراة التي يعتقدون صحّتها.

قوله تعالى : (فِيها حُكْمُ اللهِ) فيه قولان : أحدهما : حكم الله بالرّجم ، وفيه تحاكموا ، قاله الحسن. والثاني : حكمه بالقود ، وفيه تحاكموا ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) فيه قولان : أحدهما : من بعد حكم الله في التّوراة. والثاني : من بعد تحكيمك. وفي قوله تعالى : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) قولان : أحدهما : ليسوا بمؤمنين لتحريفهم التّوراة. والثاني : ليسوا بمؤمنين أنّ حكمك من عند الله لجحدهم نبوّتك.

٥٥٠

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤))

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) قال المفسّرون : سبب نزول هذه الآية : استفتاء اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر الزّانيين ، وقد سبق (١). و «الهدى» : البيان. فالتّوراة مبيّنة صحة نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومبيّنة ما تحاكموا فيه إليه. و «النّور» : الضّياء الكاشف للشّبهات ، والموضح للمشكلات. وفي «النّبيين الذين أسلموا» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنهم الأنبياء من لدن موسى إلى عيسى ، قاله الأكثرون. فعلى هذا القول في معنى «أسلموا» أربعة أقوال : أحدها : سلّموا لحكم الله ، ورضوا بقضائه. والثاني : انقادوا لحكم الله ، فلم يكتموه كما كتم هؤلاء. والثالث : أسلموا أنفسهم إلى الله عزوجل. والرابع : أسلموا لما في التّوراة ودانوا بها ، لأنه قد كان فيهم من لم يعمل بكلّ ما فيها كعيسى عليه‌السلام. قال ابن الأنباريّ : وفي «المسلم» قولان : أحدهما : أنه سمّي بذلك لاستسلامه وانقياده لربّه. والثاني : لإخلاصه لربّه ، من قوله تعالى : (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) (٢) أي : خالصا له.

والثاني : أنّ المراد بالنّبيين نبيّا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله الحسن ، والسّدّيّ. وذلك حين حكم على اليهود بالرّجم ، وذكره بلفظ الجمع كقوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٣). وفي الذي حكم به منها قولان : أحدهما : الرّجم والقود. والثاني : الحكم بسائرها ما لم يرد في شرعه ما يخالف.

والثالث : النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم ، قاله عكرمة.

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ هادُوا) قال ابن عباس : تابوا من الكفر. قال الحسن : هم اليهود. قال الزجّاج : ويجوز أن يكون في الآية تقديم وتأخير. على معنى : إنّا أنزلنا التّوراة فيها هدى ونور للذين هادوا ، يحكم بها النّبيّون الذين أسلموا. فأمّا «الرّبّانيّون» فقد سبق ذكرهم في (آل عمران). وأما «الأحبار» فهم العلماء واحدهم حبر وحبر ، والجمع أحبار وحبور. وقال الفرّاء : أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار : حبر بكسر الحاء. وفي اشتقاق هذا الاسم ثلاثة أقوال : أحدها : أنه من الحبار وهو الأثر الحسن ، قاله الخليل. والثاني : أنه من الحبر الذي يكتب به ، قاله الكسائيّ. والثالث : أنه من الحبر الذي هو الجمال والبهاء.

(٤٣٢) وفي الحديث «يخرج رجل من النّار قد ذهب حبره وسبره» أي : جماله وبهاؤه. فالعالم

____________________________________

(٤٣٢) لم أره مسندا ، وإنما أورده الزمخشري في «الفائق» ١ / ٨٥ وابن الجوزي في «غريب الحديث» ١ / ١٨٦ بدون إسناد ، ومن غير عزو ، فهذا مما لا أصل له. أي لا إسناد له.

__________________

(١) انظر الأحاديث المتقدمة عند الآية : ٤١.

(٢) سورة الزمر : ٢٩.

(٣) سورة النساء : ٥٤.

٥٥١

بهيّ بجمال العلم ، وهذا قول قطرب.

وهل بين الرّبّانيين والأحبار فرق أم لا؟ فيه قولان : أحدهما : لا فرق ، والكلّ العلماء ، هذا قول الأكثرين ، منهم ابن قتيبة ، والزجّاج. وقد روي عن مجاهد أنه قال : الرّبّانيون : الفقهاء العلماء ، وهم فوق الأحبار. وقال السّدّيّ : الرّبّانيون العلماء ، والأحبار القرّاء. وقال ابن زيد : الرّبّانيون : الولاة ، والأحبار : العلماء ، وقيل : الرّبّانيون : علماء النّصارى ، والأحبار : علماء اليهود.

قوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) قال ابن عباس : بما استودعوا من كتاب الله وهو التّوراة. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : يحكمون بحكم ما استحفظوا. والثاني : العلماء بما استحفظوا. قال ابن جرير : «الباء» في قوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) من صلة الأحبار.

وفي قوله تعالى : (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) قولان :

أحدهما : وكانوا على ما في التّوراة من الرّجم شهداء ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني : وكانوا شهداء لمحمّد عليه‌السلام بما قال أنه حقّ. رواه العوفيّ عن ابن عباس.

قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، وابن عامر ، والكسائيّ «واخشون» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ أبو عمرو بياء في الوصل ، وبغير ياء في الوقف ، وكلاهما حسن. وقد أشرنا إلى هذا في سورة آل عمران (١). ثم في المخاطبين بهذا قولان. أحدهما : أنهم رؤساء اليهود ، قيل لهم : فلا تخشوا الناس في إظهار صفة محمّد ، والعمل بالرّجم ، واخشوني في كتمان ذلك ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. قال مقاتل : الخطاب ليهود المدينة ، قيل لهم : لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرّجم ، ونعت محمّد ، واخشوني في كتمانه. والثاني : أنهم المسلمون ، قيل لهم : لا تخشوا الناس ، كما خشيت اليهود الناس ، فلم يقولوا الحقّ ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ.

قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) في المراد بالآيات قولان : أحدهما : أنها صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن. والثاني : الأحكام والفرائض. والثّمن القليل مذكور في البقرة.

فأمّا قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ). وقوله تعالى بعدها : (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ). فاختلف العلماء فيمن نزلت على خمسة أقوال (٢) : أحدها : أنها نزلت في اليهود خاصّة ، رواه عبيد بن عبد الله عن ابن عباس ، وبه قال قتادة. والثاني : أنها نزلت في المسلمين ، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا المعنى. والثالث : أنها عامّة في

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٧٣.

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٤ / ٥٩٧ : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب ، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت ، وهم المعنيون بها. وهذه الآيات سياق الخبر عنهم ، فكونها خبرا عنهم أولى قلت : ومع ذلك العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فمن فعل من هذه الأمة مثل أفعال اليهود ألحق بهم ، وتوجه الخطاب له ، ومن فعل أفعال المشركين ألحق بهم ، وتوجه الخطاب له ، ومن فعل أفعال النصارى ألحق بهم ، وتوجه الخطاب له ، فإن هذا القرآن ما نزل لمجرد التلاوة والتبرك به ، بل ليهتدى به ، وليعتبر به. والله ولي التوفيق.

٥٥٢

اليهود ، وفي هذه الأمّة ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، والنّخعيّ ، والسّدّيّ. والرابع : أنها نزلت في اليهود والنّصارى ، قاله أبو مجلز. والخامس : أنّ الأولى في المسلمين ، والثانية في اليهود ، والثالثة في النّصارى ، قاله الشّعبيّ.

وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولى قولان : أحدهما : أنه الكفر بالله تعالى. والثاني : أنه الكفر بذلك الحكم ، وليس بكفر ينقل عن الملّة.

وفصل الخطاب : أنّ من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا له ، وهو يعلم أنّ الله أنزله ، كما فعلت اليهود ، فهو كافر ، ومن لم يحكم به ميلا إلى الهوى من غير جحود ، فهو ظالم وفاسق. وقد روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر ، ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو فاسق وظالم.

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥))

قوله تعالى : (وَكَتَبْنا) أي : فرضنا (عَلَيْهِمْ) أي : على اليهود (فِيها) أي : في التّوراة. قال ابن عباس : وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنفس ، فما بالهم يخالفون ، فيقتلون النّفسين بالنّفس ، ويفقئون العينين بالعين؟ وكان على بني إسرائيل القصاص أو العفو ، وليس بينهم دية في نفس ولا جرح ، فخفّف الله عن أمّة محمّد بالدّية. قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : النّفس بالنّفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسّنّ بالسّنّ ، ينصبون ذلك كلّه ، ويرفعون «والجروح». وكان نافع ، وعاصم ، وحمزة ينصبون ذلك كلّه ، وكان الكسائيّ يقرأ : «أن النّفس بالنّفس» نصبا ، ويرفع ما بعد ذلك. قال أبو عليّ : وحجّته أن الواو لعطف الجمل ، لا للاشتراك في العامل ، ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى ، لأن معنى : وكتبنا عليهم : قلنا لهم : النّفس بالنّفس ، فحمل العين على هذا ، وهذه حجّة من رفع الجروح. ويجوز أن يكون مستأنفا ، لا أنه ممّا كتب على القوم ، وإنما هو ابتداء إيجاب. قال القاضي أبو يعلى : وقوله تعالى : العين بالعين ، ليس المراد قلع العين بالعين ، لتعذّر استيفاء المماثلة ، لأنّا لا نقف على الحد الذي يجب قلعه ، وإنما يجب فيما ذهب ضوؤها وهي قائمة ، وصفة ذلك أن تشدّ عين القالع ، وتحمى مرآة ، فتقدّم من العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوؤها. وأما الأنف فإذا قطع المارن ، وهو ما لان منه ، وتركت قصبته ، ففيه القصاص ، وأما إذا قطع من أصله ، فلا قصاص فيه ، لأنه لا يمكن استيفاء القصاص ، كما لو قطع يده من نصف السّاعد. وقال أبو يوسف ، ومحمّد : فيه القصاص إذا استوعب. وأما الأذن ، فيجب القصاص إذا استوعبت ، وعرف المقدار. وليس في عظم قصاص إلا في السّنّ ، فإن قلعت قلع مثلها ، وإن كسر بعضها ، برد بمقدار ذلك. وقوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) يقتضي إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها.

قوله تعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) يشير إلى القصاص. (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) في هاء «له» قولان :

٥٥٣

أحدهما : أنها إشارة إلى المجروح ، فإذا تصدّق بالقصاص كفّر من ذنوبه ، وهو قول ابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، والحسن ، والشّعبيّ. والثاني : إشارة إلى الجارح إذا عفا عنه المجروح ، كفّر عنه ما جنى ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، ومقاتل ، وهو محمول على أن الجاني تاب من جنايته ، لأنه إذا كان مصرّا فعقوبة الإصرار باقية.

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦))

قوله تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) أي : وأتبعنا على آثار النّبيّين الذين أسلموا (بِعِيسَى) فجعلناه يقفو آثارهم (مُصَدِّقاً) أي : بعثناه مصدّقا (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً) ليس هذا تكرار للأوّل ، لأنّ الأوّل لعيسى ، والثّاني للإنجيل ، لأنّ عيسى كان يدعو إلى التّصديق بالتّوراة ، والإنجيل أنزل وفيه ذكر التّصديق بالتّوراة.

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧))

قوله تعالى : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ) قرأ الأكثرون بجزم اللام على معنى الأمر ، تقديره : وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه. وقرأ الأعمش ، وحمزة بكسر اللام ، وفتح الميم على معنى «كي» ، فكأنه قال : وآتيناه الإنجيل لكي يحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨))

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) يعني القرآن (بِالْحَقِ) أي : بالصّدق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) قال ابن عباس : يريد كلّ كتاب أنزله الله تعالى.

وفي «المهيمن» أربعة أقوال : أحدها : أنه المؤيمن ، رواه التّميميّ عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير. وعكرمة ، وعطاء ، والضّحّاك. وقال المبرّد : «مهيمن» في معنى : «مؤيمن» إلا أنّ الهاء بدل من الهمزة ، كما قالوا : أرقت الماء ، وهرقت ، وإيّاك وهيّاك. وأرباب هذا القول يقولون : المعنى : أنّ القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتاب. إلا أنّ ابن أبي نجيح روى عن مجاهد : ومهيمنا عليه. قال : محمّد مؤتمن على القرآن. فعلى قوله ، في الكلام محذوف ، كأنّه قال : وجعلناك يا محمّد مهيمنا عليه ، فتكون هاء «عليه» راجعة إلى القرآن. وعلى غير قول مجاهد ترجع إلى الكتاب المتقدّمة. والثاني : أنه الشّاهد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، والسّدّيّ ، ومقاتل. والثالث : أنه المصدق على ما أخبر عن الكتاب ، وهذا قول ابن زيد ، وهو قريب من القول الأوّل. والرابع : أنه الرّقيب الحافظ ، قاله الخليل.

٥٥٤

قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) يشير إلى اليهود (بِما أَنْزَلَ اللهُ) إليك في القرآن (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ). قاله أبو سليمان : المعنى : فترجع عما جاءك. قال ابن عباس : لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن.

قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) قال مجاهد : الشّرعة : السّنّة ، والمنهاج : الطّريق. وقال ابن قتيبة : الشّرعة والشّريعة واحد ، والمنهاج : الطّريق الواضح. فإن قيل : كيف نسق «المنهاج» على «الشّرعة» وكلاهما بمعنى واحد؟ فعنه جوابان : أحدهما : أن بينهما فرقا من وجهين : أحدهما : أن «الشّرعة» ابتداء الطّريق ، والمنهاج : الطّريق المستمر ، قاله المبرّد. والثاني : أن «الشّرعة» الطّريق الذي ربّما كان واضحا ، وربّما كان غير واضح ، والمنهاج : الطّريق الذي لا يكون إلا واضحا ، ذكره ابن الأنباريّ. فلمّا وقع الاختلاف بين الشّرعة والمنهاج ، حسن نسق أحدهما على الآخر. والثاني : أنّ الشّرعة والمنهاج بمعنى واحد ، وإنما نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين. قال الحطيئة :

ألا حبّذا هند وأرض بها هند

وهند أتى من دونها النّأي والبعد

فنسق البعد على النّأي لمّا خالفه في اللفظ ، وإن كان موافقا له في المعنى ، ذكره ابن الأنباريّ. وأجاب عنه أرباب القول الأوّل ، فقالوا : «النّأي» كلّ ما قلّ بعده أو كثر كأنّه المفارقة ، والبعد إنما يستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته.

وللمفسّرين في معنى الكلام قولان : أحدهما : لكلّ ملّة جعلنا شرعة ومنهاجا ، فلأهل التّوراة شريعة ، ولأهل الإنجيل شريعة ، ولأهل القرآن شريعة ، هذا قول الأكثرين. قال قتادة : الخطاب للأمم الثّلاث : أمّة موسى ، وعيسى ، وأمّة محمّد ، فللتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللفرقان شريعة ، يحلّ الله فيها ما يشاء ، ويحرّم ما يشاء بلاء ، ليعلم من يطيعه ممّن يعصيه ، ولكن الدّين الواحد الذي لا يقبل غيره ، التّوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرّسل. والثاني : أنّ المعنى : لكلّ من دخل في دين محمّد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا ، هذا قول مجاهد.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) فيه قولان : أحدهما : لجمعكم على الحقّ. والثاني : لجعلكم على ملّة واحدة (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ) أي : ليختبركم (فِي ما آتاكُمْ) من الكتاب ، وبيّن لكم من الملل. فإن قيل : إذا كان المعنى بقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً) : نبيّنا محمّدا مع سائر الأنبياء قبله ، فمن المخاطب بقوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ)؟ فالجواب : أنه خطاب لنبيّنا ، والمراد به سائر الأنبياء والأمم. قال ابن جرير : والعرب من شأنها إذا خاطبت غائبا ، فأرادت الخبر عنه أن تغلّب المخاطب ، فتخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب.

قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) قال ابن عباس ، والضّحّاك : هو خطاب لأمّة محمّد عليه‌السلام. قال مقاتل : و «الخيرات» : الأعمال الصّالحة : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) في الآخرة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من الدّين. قال ابن جرير : قد بيّن ذلك في الدنيا بالأدلّة والحجج ، وغدا بيبّنه بالمجازاة.

٥٥٥

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩))

قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) سبب نزولها :

(٤٣٣) أنّ جماعة من اليهود منهم كعب بن أسد (١) ، وعبد الله بن صوريا ، وشأس بن قيس ، قال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمّد ، لعلّنا نفتنه عن دينه ، فأتوه ، فقالوا : يا محمّد ، قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم ، وأنّا إن تبعناك ، اتّبعك اليهود ، وإنّ بيننا وبين قوم خصومة ، فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونحن نؤمن بك ، فأبى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل : أنّ جماعة من بني النّضير قالوا له : هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدّماء ، كما كنّا عليه من قبل ، ونبايعك؟ فنزلت هذه الآية.

قال القاضي أبو يعلى : وليس هذه الآية تكرارا لما تقدّم ، وإنما نزلتا في شيئين مختلفين : أحدهما : في شأن الرّجم. والآخر : في التّسوية في الدّيات حتى تحاكموا إليه في الأمرين.

قوله تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) أي : يصرفوك (عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) وفيه قولان : أحدهما : أنه الرّجم ، قاله ابن عباس. والثاني : شأن القصاص والدّماء ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فيه قولان : أحدهما : عن حكمك. والثاني : عن الإيمان ، فاعلم أنّ إعراضهم من أجل أنّ الله يريد أن يعذّبهم ببعض ذنوبهم. وفي ذكر البعض قولان : أحدهما : أنه على حقيقته ، وإنما يصيبهم ببعض ما يستحقّونه. والثاني : أنّ المراد به الكلّ ، كما يذكر لفظ الواحد ويراد به الجماعة ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (٢) والمراد : جميع المسلمين. وقال الحسن : أراد ما عجّله من إجلاء بني النّضير وقتل بني قريظة.

قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) قال المفسّرون : أراد اليهود. وفي المراد بالفسق هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : الكفر ، قاله ابن عباس. والثاني : الكذب ، قاله ابن زيد. والثالث : المعاصي ، قاله مقاتل.

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠))

قوله تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) قرأ الجمهور «يبغون» بالياء ، لأن قبله غيبة ، وهي قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ). وقرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء ، على معنى : قل لهم.

(٤٣٤) وسبب نزولها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا حكم بالرّجم على اليهوديّين تعلّق بنو قريظة ببني النّضير ،

____________________________________

(٤٣٣) ضعيف. أخرجه الطبري ١٢١٥٦ من حديث ابن عباس بسند ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد.

(٤٣٤) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس.

__________________

(١) وقع في الأصل «أسيد» ، والتصويب من كتب التفسير ، والحديث.

(٢) سورة الطلاق : ١.

٥٥٦

وقالوا : يا محمّد هؤلاء إخواننا ، أبونا واحد ، وديننا واحد ، إذا قتلوا منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر ، وإن قتلنا منهم واحدا أخذوا منّا أربعين ومائة وسق ، وإن قتلنا منهم رجلا قتلوا به رجلين ، وإن قتلنا امرأة قتلوا بها رجلا ، فاقض بيننا بالعدل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس لبني النّضير على بني قريظة فضل في عقل ولا دم» فقال بنو النّضير : والله لا نرضى بقضائك ، ولا نطيع أمرك ، ولنأخذنّ بأمرنا الأوّل ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

قال الزجّاج : ومعنى الآية : أتطلب اليهود حكما لم يأمر الله به ، وهم أهل كتاب الله ، كما تفعل الجاهليّة؟!

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) قال ابن عباس : ومن أعدل؟!

وفي قوله تعالى : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) قولان : أحدهما : يوقنون بالقرآن ، قاله ابن عباس. والثاني : يوقنون بالله ، قاله مقاتل. وقال الزجّاج : من أيقن تبيّن عدل الله في حكمه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٤٣٥) أحدها : أنها نزلت في أبي لبابة حين قال لبني قريظة إذ رضوا بحكم سعد : إنه الذّبح ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول عكرمة.

(٤٣٦) والثاني : أن عبادة بن الصّامت قال : يا رسول الله إنّ لي موالي من اليهود ، وإني أبرأ إلى الله من ولاية يهود ، فقال عبد الله بن أبيّ : إنّي رجل أخاف الدّوائر ، ولا أبرأ إلى الله من ولاية يهود ، فنزلت هذه الآية ، قاله عطيّة العوفيّ.

____________________________________

وورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه النسائي ٨ / ١٨ ـ ١٩ والدارقطني عن عكرمة عن ابن عباس قال : «كان قريظة والنضير ، وكان النضير أشرف من قريظة ، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة أدّى مائة وسق من تمر ، فلما بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ، فقالوا : ادفعوه إلينا نقتله ، فقالوا : بيننا وبينكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتوه فنزلت (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) والقسط : النفس بالنفس ، ثم نزلت (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ). وهو حديث حسن. رجاله ثقات ، لكن رواية سماك عن عكرمة مضطربة وليس فيه اللفظ المرفوع.

وكرره النسائي ومن وجه آخر عن داود بن حصين ، عن عكرمة عن ابن عباس ، وداود ضعّف في روايته عن عكرمة ، وورد من وجه آخر ، أخرجه أحمد ٢٢١٢ والطبراني ١٠٧٣٢ وإسناده لين لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد ، لكن هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله أعلم.

(٤٣٥) أخرجه الطبري ١٢١٦٦ عن عكرمة مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف.

ـ وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وهي رواية ساقطة كما تقدّم مرارا.

(٤٣٦) أخرجه الطبري ١٢١٦٢ عن عطية العوفي مرسلا ، ومع إرساله ، عطية واه. وورد من مرسل الزهري ، أخرجه الطبري ١٢١٦٣ ، ومراسيل الزهري واهية. وله شاهد موصول ، أخرجه الطبري ١٢١٦٤ عن عبادة بن الوليد ، وهذا مرسل حسن ، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» ٧٢٩ بتخريجنا.

٥٥٧

(٤٣٧) والثالث : أنه لمّا كانت وقعة أحد خافت طائفة من الناس أن يدال عليهم الكفّار ، فقال رجل لصاحبه : أمّا أنا فألحق بفلان اليهوديّ ، فآخذ منه أمانا ، أو أتهوّد معه ، فنزلت هذه الآية ، قاله السّدّيّ ، ومقاتل.

قال الزجّاج : لا تتولّوهم في الدّين. وقال غيره : لا تستنصروا بهم ، ولا تستعينوا ، (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في العون والنّصرة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فيه قولان : أحدهما : من يتولّهم في الدّين ، فإنه منهم في الكفر. والثاني : من يتولّهم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر.

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢))

قوله تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) قال المفسّرون : نزلت في المنافقين ، ثمّ لهم في ذلك قولان :

(٤٣٨) أحدهما : أنّ اليهود والنّصارى كانوا يميرون (١) المنافقين ويقرضونهم فيوادّونهم ، فلمّا نزلت (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) قال المنافقون : كيف نقطع مودّة قوم إن أصابتنا سنة وسّعوا علينا ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وممّن قال : نزلت في المنافقين ، ولم يعيّن : مجاهد ، وقتادة.

والثاني : أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ ، قاله عطيّة العوفيّ (٢).

وفي المراد بالمرض قولان : أحدهما : أنه الشّكّ ، قاله مقاتل. والثاني : النّفاق ، قاله الزجّاج. وفي قوله تعالى : (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : يسارعون في موالاتهم ومناصحتهم ، قاله مجاهد ، وقتادة. والثاني : في رضاهم ، قاله ابن قتيبة. والثالث : في معاونتهم على المسلمين ، قاله الزجّاج. وفي المراد «بالدّائرة» قولان : أحدهما : الجدب والمجاعة ، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة : نخشى أن يدور علينا الدّهر بمكروه ، يعنون الجدب ، فلا يبايعوننا ، ونمتار فيهم فلا يميروننا. والثاني : انقلاب الدّولة لليهود على المسلمين ، قاله مقاتل. وفي المراد بالفتح أربعة أقوال : أحدها : فتح مكّة ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ. والثاني : فتح قرى اليهود ، قاله الضّحّاك. والثالث : نصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من خالفه ، قاله قتادة ، والزجّاج. والرابع : الفرج ، قاله ابن قتيبة. وفي الأمر أربعة أقوال : أحدها : إجلاء

____________________________________

(٤٣٧) ضعيف. أخرجه الطبري ١٢١٦٥ عن السدي ، مرسلا ، فهو ضعيف.

(٤٣٨) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وهي رواية ساقطة كما تقدم مرارا.

__________________

(١) في «اللسان» : الميرة : الطعام يمتاره الإنسان ، وفي التهذيب : جلب الطعام للبيع وهم يمتارون لأنفسهم ويميرون غيرهم ميرا.

(٢) عطية هو ابن سعد العوفي ، وهو ضعيف ، لا يحتج به ، إلا أن ابن أبي هو المراد في أكثر الآيات التي تذكر المنافقين ، فإنه رأس النفاق.

٥٥٨

بني النّضير وأخذ أموالهم ، وقتل قريظة ، وسبي ذراريهم ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل. والثاني : الجزية ، قاله السّدّيّ. والثالث : الخصب ، قاله ابن قتيبة. والرابع : أن يؤمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإظهار أمر المنافقين وقتلهم ، قاله الزجّاج. وفيما أسرّوا قولان : أحدهما : موالاتهم. والثاني : قولهم : لعلّ محمّدا لا ينصر.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣))

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) قرأ أبو عمرو ، بنصب اللام على معنى : وعسى أن يقول. ورفعه الباقون ، فجعلوا الكلام مستأنفا. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : «يقول» ، بغير واو ، مع رفع اللام ، وكذلك في مصاحف أهل مكّة والمدينة.

قال المفسّرون : لمّا أجلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النّضير ، اشتدّ ذلك على المنافقين ، وجعلوا يتأسّفون على فراقهم ، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إذا رآه جادّا في معاداة اليهود : أهذا جزاؤهم منك ، طال والله ما أشبعوا بطنك؟ فلمّا قتلت قريظة ، لم يطق أحد من المنافقين ستر ما في نفسه ، فجعلوا يقولون : أربعمائة حصدوا في ليلة ، فلمّا رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين ، قالوا : (أَهؤُلاءِ) يعنون المنافقين (الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) قال ابن عباس : أغلظوا في الأيمان. وقال مقاتل : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) القسم بالله. وقال الزجّاج : اجتهدوا في المبالغة في اليمين (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) على عدوّكم (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) بنفاقهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤))

قوله تعالى : (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : يرتدّ ، بإدغام الدّال الأولى في الأخرى ، وقرأ نافع ، وابن عامر : يرتدد ، بدالين. قال الزجّاج : «يرتدد» هو الأصل ، لأنّ الثاني إذا سكّن من المضاعف ، ظهر التّضعيف. فأما «يرتدّ» فأدغمت الدال الأولى في الثانية ، وحرّكت الثانية بالفتح ، لالتقاء السّاكنين. قال الحسن : علم الله أنّ قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيّهم عليه‌السلام ، فأخبرهم أنه سيأتي (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). وفي المراد بهؤلاء القوم ستة أقوال (١) : أحدها : أبو بكر الصّدّيق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الرّدّة ، قاله عليّ بن أبي طالب ، والحسن عليهما‌السلام ، وقتادة ، والضّحّاك ، وابن جريج. قال أنس بن مالك : كرهت الصحابة قتال مانعي الزّكاة ، وقالوا : أهل القبلة ، فتقلّد أبو بكر سيفه ، وخرج وحده ، فلم يجدوا بدّا من الخروج على أثره. والثاني : أبو بكر ، وعمر ، روي عن الحسن ، أيضا. والثالث : أنهم قوم أبي موسى الأشعريّ.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٤ / ٦٢٦ : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، ما روي به الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنهم أهل اليمن ، قوم أبي موسى الأشعري.

٥٥٩

(٤٣٩) روى عياض الأشعريّ أنه لمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هم قوم هذا» يعني : أبا موسى.

والرابع : أنهم أهل اليمن ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس وبه قال مجاهد. والخامس : أنهم الأنصار ، قاله السّدّيّ. والسادس : المهاجرون والأنصار ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ. قال ابن جرير : وقد أنجز الله ما وعد فأتى بقوم في زمن عمر كانوا أحسن موقعا في الإسلام ممّن ارتدّ.

قوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) قال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : أهل رقّة على أهل دينهم ، أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. وقال الزجّاج : معنى «أذلّة» : جانبهم لين على المؤمنين ، لا أنّهم أذلّاء. (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) لأنّ المنافقين يراقبون الكفّار ، ويظاهرونهم ، ويخافون لومهم ، فأعلم الله عزوجل أنّ الصّحيح الإيمان لا يخاف في الله لومة لائم ، ثم أعلمك أنّ ذلك لا يكون إلا بتوفيقه ، فقال : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) يعني : محبّتهم لله ، ولين جانبهم للمسلمين ، وشدّتهم على الكافرين.

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦))

قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :

(٤٤٠) أحدها : أنّ عبد الله بن سلام وأصحابه جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : إنّ قوما قد أظهروا لنا العداوة ، ولا نستطيع أن نجالس أصحابك لبعد المنازل ، فنزلت هذه الآية ، فقالوا : رضينا

____________________________________

(٤٣٩) حسن. أخرجه الحاكم ٢ / ٣١٣ والطبري ١٢١٩٣ والطبراني ١٧ / ٣٧١ وابن سعد ٤ / ٨٠ من حديث عياض الأشعري ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠٩٧٦ : رجال الطبراني رجال الصحيح. ويشهد له ما أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٥ / ٣٥٢ من حديث أبي موسى ، وما أخرجه الطبراني في «الأوسط» ١٤١٤ من حديث جابر وقال الهيثمي ١٩٧٧ : إسناده حسن اه.

(٤٤٠) إسناده ضعيف جدا. بل موضوع. أخرجه الواحدي ٣٩٧ بهذا اللفظ ، وأتم ، عن محمد بن مروان عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس وهذا إسناد ساقط ليس بشيء. محمد بن مروان هو السدي الصغير متروك متهم بالكذب ، وابن السائب هو الكلبي أقر على نفسه بالكذب ، راجع الميزان ، وأبو صالح اسمه باذام غير ثقة في ابن عباس ، والمتن باطل. وهذه السلسلة تعرف عند علماء الحديث بسلسلة الكذب.

وأخرجه عبد الرزاق كما في «تفسير ابن كثير» ٢ / ٩٢ ـ ٩٣ عن ابن عباس بنحوه. باطل ، قال ابن كثير : فيه عبد الوهاب بن مجاهد ، لا يحتج به اه. وقال الذهبي في «الميزان» ٢ / ٦٨٢ : قال يحيى : ليس يكتب حديثه وقال أحمد : ليس بشيء. وقال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال البخاري : يقولون : لم يسمع من أبيه اه. والظاهر أن هذا المتن سرقه من الكلبي فركبه على هذا الإسناد. وأخرجه الطبري ١٢٢١٩ عن مجاهد مرسلا ، وفيه غالب بن عبيد الله متروك. وكرره ١٢٢١٦ عن أبي جعفر بلاغا ، ومع ذلك هو معضل. وورد من حديث علي أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ٢ / ٩٣ وورد من حديث عمار بن ياسر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» ١٠٩٧٨. وقال الهيثمي : فيه من لم أعرفهم اه. وزاد ابن كثير نسبته لابن مردويه عن أبي رافع وقال ابن كثير : وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها ، وجهالة رجالها وانظر «تفسير الشوكاني» ٨١٥ و ٨١٦ بتخريجنا.

٥٦٠