زاد المسير في علم التفسير - ج ١

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ١

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
ISBN: 9953-27-016-3
الصفحات: ٦٠٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) ، في سبب نزولها قولان :

(١٣٩) أحدهما : أن الأنصار كانوا إذا جذوا النّخل ، جاء كل رجل بشيء من ذلك فعلّقه في المسجد ، فيأكل منه فقراء المهاجرين ، وكان أناس ممن لا يرغب في الخير يجيء أحدهم بالقنو (١) فيه الحشف والشّيص ، فيعلّقه ، فنزلت هذه الآية. هذا قول البراء بن عازب.

(١٤٠) والثاني : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بزكاة الفطر ، فجاء رجل بتمر رديء ، فنزلت هذه الآية. هذا قول جابر بن عبد الله.

وفي المراد بهذه النفقة قولان : أحدهما : أنها الصّدقة المفروضة ، قاله عبيدة السّلمانيّ في آخرين. والثاني : أنها التّطوع. وفي المراد بالطّيّب هاهنا قولان : أحدهما : أنه الجيّد الأنفس ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه الحلال ، قاله أبو معقل في آخرين. قوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا) ، أي : لا تقصدوا. والتّيمّم في اللغة : القصد. قال ميمون بن قيس :

تيمّمت قيسا وكم دونه

من الأرض من مهمه ذي شزن (٢)

وفي الخبيث قولان : أحدهما : أنه الرّديء ، قاله الأكثرون ، وسبب الآية يدلّ عليه. والثاني : أنه الحرام ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) ، قال ابن عباس : لو كان بعضكم يطلب من بعض حقا له ، ثم قضاه ذلك ، ولم يأخذه إلى أن يرى أنه قد أغمض عن بعض حقّه. وقال ابن قتيبة : أصل هذا أن يصرف المرء بصره عن الشيء ، ويغمضه ، فسمّي التّرخّص إغماضا. ومنه قول الناس للبائع : أغمض ، أي : لا تشخص ، وكن كأنك لا تبصر. وقال غيره : لما كان الرجل إذا رأى ما يكره

____________________________________

(١٣٩) جيد. أخرجه ابن ماجة ١٨٢٢ والحاكم ٢ / ٢٨٥ والطبري ٦١٣٨ و ٦١٣٩ والواحدي ١٧٢ من طريق أسباط عن السدي عن عدي بن ثابت به. وصححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي وهو كما قالا : لكن في أسباط بن نضر ضعف ينحط حديثه عن درجة الصحيح ومثله السدي. وأخرجه الترمذي ٢٩٨٧ والبيهقي ٤ / ١٣٦ من طريق السدي عن أبي مالك عن البراء به وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب. وله شاهد من حديث سهل بن حنيف ، أخرجه الحاكم ٢ / ٢٨٤ وإسناده حسن.

(١٤٠) أخرجه الحاكم ٢ / ٢٨٣ والواحدي في «الأسباب» ١٧٢ من حديث جابر ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ، وفيه قيس بن أنيف لم أجد له ترجمة. ويشهد لأصله ما تقدم دون تعيين ذلك بكونه في زكاة الفطر. وفي حديث سهل بن حنيف المتقدم «أمر بصدقة» ولعل المراد صدقة الفطر وبكل حال أصل الخبر محفوظ بشواهده.

__________________

(١) القنو : العذق بما فيه من الرطب. والحشف من التمر : اليابس الفاسد. والشيص : رديء التمر ويقال للتمر الذي لا يشتد نواه ويقوى وقد لا يكون له نوى أصلا ، هو الشيص.

(٢) المهمه : المفازة. الشّزن : شدة الإعياء من الحفا ، والشدة والغلظة ، والغلظ من الأرض اه قاموس.

٢٤١

أغمض عينيه ، لئلا يرى جميع ما يكره ؛ جعل التّجاوز والمساهلة في كل شيء إغماضا. قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) ، قال الزجّاج : لم يأمركم بالتصدّق عن عوز ، لكنه بلا أخباركم ، فهو حميد على ذلك. يقال : قد غني زيد ، يغنى غنى ، مقصور : إذا استغنى ، وقد غني القوم : إذا نزلوا في مكان يغنيهم ، والمكان الذي ينزلون فيه مغنى. والغواني : النساء ، قيل : إنما سمّين بذلك ، لأنهنّ غنين بجمالهنّ ، وقيل : بأزواجهنّ. فأما «الحميد» فقال الخطّابيّ : هو بمعنى المحمود ، فعيل بمعنى مفعول.

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨))

قوله تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) ، قال الزجّاج : يقال : وعدته أعده وعدا وعدة وموعدا وموعدة وموعودا ، ويقال : الفقر ، والفقر. ومعنى الكلام : يحملكم على أن تؤدّوا من الرّديء ، يخوّفكم الفقر بإعطاء الجيّد. ومعنى : يعدكم الفقر ، أي : بالفقر ، وحذفت الباء. قال الشاعر (١) :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

وفي الفحشاء قولان : أحدهما : البخل. والثاني : المعاصي. قال ابن عباس : والله يعدكم مغفرة لفحشائكم ، وفضلا في الرّزق.

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))

قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) ، في المراد بهذه الحكمة أحد عشر قولا (٢) : أحدها : أنها القرآن ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، والضحّاك ، ومقاتل في آخرين. والثاني : معرفة ناسخ القرآن ، ومنسوخه ، ومحكمه ، ومتشابهه ، ومقدّمه ، ومؤخّره ، ونحو ذلك ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : النّبوة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع : الفهم في القرآن ، قاله أبو العالية ، وقتادة ، وإبراهيم. والخامس : العلم والفقه ، رواه ليث عن مجاهد. والسادس : الإصابة في القول ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والسابع : الورع في دين الله ، قاله الحسن. والثامن : الخشية لله ، قاله الرّبيع بن أنس. والتاسع : العقل في الدّين ، قاله ابن زيد. والعاشر : الفهم ، قاله شريك. والحادي عشر : العلم والعمل ، لا يسمّى الرجل حكيما إلا إذا جمعهما ، قاله ابن قتيبة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) ، قرأ يعقوب بكسر تاء «يؤت» ، ووقف عليها بهاء والمعنى : ومن يؤته الله الحكمة. وكذلك هي في قراءة ابن مسعود بهاء بعد التاء. قوله تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ) ، قال الزجّاج : أي : وما يفكّر فكرا يذكر به ما قصّ من آيات القرآن إلا ذوو العقول. قال ابن قتيبة : «أولو» بمعنى : ذوو ، وواحد «أولو» «ذو» ، و «أولات» «ذات».

__________________

(١) هو عمرو بن معدي كرب.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣٢٢ : والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع كما جاء في بعض الأحاديث «من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه».

٢٤٢

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠))

قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) ، النّذر : ما أوجبه الإنسان على نفسه ، وقد يكون مطلقا ، ويكون معلّقا بشرط. (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) ، قال مجاهد : يحصيه ، وقال الزجّاج : يجازي عليه. وفي المراد بالظّالمين هاهنا ، قولان : أحدهما : أنهم المشركون ، قاله مقاتل. والثاني : المنفقون بالمنّ والأذى والرّياء ، والمنذرون في المعصية ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. والأنصار : المانعون. فمعناه : ما لهم مانع يمنعهم من عذاب الله.

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١))

قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ).

(١٤١) قال ابن السّائب : لمّا نزل قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) ، قالوا : يا رسول الله ، صدقة السّرّ أفضل ، أم العلانية؟ فنزلت هذه الآية. قال الزجّاج ، يقال : بدا الشيء يبدو : إذا ظهر ، وأبديته إبداء : إذا أظهرته ، وبدا لي بداء : إذا تغيّر رأيي عمّا كان عليه.

وقوله تعالى : (فَنِعِمَّا هِيَ) ، في «نعم» أربع لغات : «نعم» بفتح النون ، والعين ، مثل : علم. و «نعم» بكسرها ، و «نعم» بفتح النون ، وتسكين العين ، و «نعم» بكسر النون ، وتسكين العين. وأمّا قوله : (فَنِعِمَّا هِيَ) قرأ نافع في غير رواية «ورش» ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية أبي بكر ، والمفضّل : «فنعما» ، بكسر النون ، والعين ساكنة. وقرأ ابن كثير ، وعاصم في رواية حفص ، ونافع في رواية «ورش» ، ويعقوب بكسر النون والعين. وقرأ ابن عامر ، وحمزة والكسائيّ ، وخلف : «فنعمّا» بفتح النون ، وكسر العين ، وكلّهم شدّدوا الميم. وكذلك خلافهم في سورة النّساء. قال الزجّاج : «ما» في تأويل الشيء ، أي : فنعمّ الشيء هو. قال أبو عليّ : نعم الشيء إبداؤها. قوله تعالى ؛ (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ، فهو الإخفاء. واتفق العلماء على أن إخفاء الصدقة النّافلة أفضل من إظهارها ، وفي الفريضة قولان : أحدهما : أن إظهارها أفضل ، قاله ابن عباس في آخرين. واختاره القاضي أبو يعلى. وقال الزجّاج : كان إخفاء الزّكاة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أحسن ، فأمّا اليوم ، فالناس مسيئون الظنّ ، فإظهارها أحسن. والثاني : إخفاؤها أفضل ، قاله الحسن ، وقتادة ، ويزيد بن أبي حبيب. وقد حمل أرباب القول الأول الصدقات في الآية على الفريضة ، وحملوا (وَإِنْ تُخْفُوها) على النّافلة ، وهذا قول عجيب. وإنما فضّلت صدقة السّرّ لمعنيين : أحدهما : يرجع إلى المعطي ، وهو بعده عن الرّياء ، وقربه من الإخلاص ، والإعراض عمّا تؤثر النّفس من العلانية. والثاني : يرجع إلى المعطى ، وهو دفع الذّلّ عنه بإخفاء الحال ، لأنه في العلانية ينكسر. قوله تعالى : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ) ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم (ونكفّر) بالنون والرفع ، والمعنى : ونحن نكفّر ، ويجوز أن يكون مستأنفا.

____________________________________

(١٤١) لا أصل له ، ذكره المصنف عن الكلبي تعليقا بدون إسناد ، ومع ذلك هو معضل ، والكلبي واسمه محمد بن السائب متروك كذاب ، فهذا خبر لا أصل له.

٢٤٣

وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائيّ : «ونكفّر» بالنون وجزم الراء. قال أبو عليّ : وهذا على حمل الكلام على موضع قوله : (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأن قوله : (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في موضع جزم ، ألا ترى أنه لو قال : وإن تخفوها يكون أعظم لأجركم لجزم ، ومثله : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) (١) ، حمل قوله و «أكن» على موضع «فأصدّق». وقرأ ابن عامر : «ويكفّر» بالياء والرفع ، وكذلك حفص عن عاصم على الكناية عن الله عزوجل ، وقرأ أبان عن عاصم ، «وتكفّر» بالتاء المرفوعة ، وفتح الفاء مع إسكان الراء. قوله تعالى : (مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) ، في «من» قولان : أحدهما : أنها زائدة. والثاني : أنها داخلة للتّبعيض. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : ووجه الحكمة في ذلك أن يكون العباد على خوف ووجل.

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢))

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) في سبب نزولها قولان :

(١٤٢) أحدهما : أن المسلمين كرهوا أن يتصدّقوا على أقربائهم من المشركين ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الجمهور.

(١٤٣) والثاني : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تتصدّقوا إلّا على أهل دينكم» ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير.

والخير في الآية ، أريد به المال ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. ومعنى : (فَلِأَنْفُسِكُمْ) ، أي : فلكم ثوابه. قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) ، قال الزجّاج : هذا خاصّ للمؤمنين ، أعلمهم الله أنه قد علم أن مرادهم ما عنده ، وإذا أعلمهم بصحة قصدهم ، فقد أعلمهم بالجزاء عليه.

قوله تعالى : (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) ، أي : توفّون أجره. ومعنى الآية : ليس عليك أن يهتدوا ، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام ، فإن تصدّقتم عليهم أثبتم. والآية محمولة على صدقة التّطوّع ، إذ لا يجوز أن يعطى الكافر من الصّدقة المفروضة شيئا.

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣))

____________________________________

(١٤٢) أخرجه الواحدي في «الأسباب» ١٧٤ عن ابن الحنفية به ، وفي الإسناد سلمان المكي ، لم أجد له ترجمة.

ـ ولمعناه شواهد منها عن ابن عباس : أخرجه الطبري ٦٢٠٠ وكرره ٦٢٠٣ من وجه آخر ، وإسناده حسن.

وفي الباب مراسيل كثيرة ، فالخبر قوي بشواهده.

(١٤٣) ضعيف. أخرجه الواحدي في «الأسباب» ١٧٣ وابن أبي شيبة كما في «الدر» ١ / ٦٣١ عن سعيد بن جبير مرسلا ، فهو ضعيف لإرساله.

__________________

(١) المنافقون : ١٠.

٢٤٤

قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا) ، لمّا حثّهم على الصّدقات والنّفقات ، دلّهم على خير من تصدّق عليه. وقد تقدّم تفسير الإحصار عند قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) (١).

وفي المراد ب (الَّذِينَ أُحْصِرُوا) أربعة أقوال : أحدها : أنّهم أهل الصّفّة حبسوا أنفسهم على طاعة الله ، ولم يكن لهم شيء ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنهم فقراء المهاجرين ، قاله مجاهد. والثالث : أنهم قوم حبسوا أنفسهم على الغزو ، فلا يقدرون على الاكتساب ، قاله قتادة. والرابع : أنهم قوم أصابتهم جراحات مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصاروا زمنى. قاله سعيد بن جبير ، واختاره الكسائيّ ، وقال : أحصروا من المرض ، ولو أراد الحبس ، لقال : حصروا ، وإنّما الإحصار من الخوف ، أو المرض. والحصر : الحبس في غيرهما. وفي سبيل الله قولان : أحدهما : أنه الجهاد. والثاني : الطّاعة. وفي الضّرب في الأرض قولان : أحدهما : أنه الجهاد لم يمكنهم لفقرهم ، نقل عن ابن عباس. والثاني : الكسب ، قاله قتادة. وفي الذي منعهم من ذلك ثلاثة أقوال : أحدها : الفقر ، قاله ابن عباس. والثاني : أمراضهم ، قاله ابن جبير ، وابن زيد. والثالث : التزامهم بالجهاد ، قاله الزجّاج.

قوله تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) ، قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ : «يحسبهم» و «يحسبنّ» بكسر السين في جميع القرآن. وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، بفتح السين في الكلّ. قال أبو عليّ : فتح السين أقيس ، لأن الماضي إذا كان على «فعل» ، نحو : حسب ، كان المضارع على «يفعل» ، مثل : فرق يفرق ، وشرب يشرب ، والكسر حسن لموضع السّمع. قال ابن قتيبة : لم يرد الجهل الذي هو ضدّ العقل ، إنما أراد الجهل الذي هو ضدّ الخبر ، فكأنه قال : يحسبهم من لا يخبر أمرهم. والتّعفّف : ترك السؤال ، يقال : عفّ عن الشيء وتعفّف. والسّيما : العلامة التي يعرف بها الشيء ، وأصله من السّمة. وفي المراد بسيماهم ثلاثة أقوال : أحدها : تجمّلهم ، قاله ابن عباس. والثاني : خشوعهم ، قاله مجاهد. والثالث : أثر الفقر عليهم ، قاله السّدّيّ والرّبيع بن أنس. وهذا يدلّ على أن للسّيما حكما يتعلّق بها. قال إمامنا أحمد في الميت يوجد في دار الحرب ، ولا يعرف أمره : ينظر إلى سيماه ، فإن كان عليه سيما الكفّار من عدم الختان ، حكم له بحكمهم ، فلم يدفن في مقابر المسلمين ، ولم يصلّ عليه ، وإن كان عليه سيما المسلمين حكم له بحكمهم (٢). فأما الإلحاف ، فهو : الإلحاح ، قال ابن قتيبة : يقال : ألحف في المسألة : إذا ألحّ ، وقال الزجّاج : معنى ألحف : شمل بالمسألة ، ومنه اشتقاق اللّحاف ، لأنه يشمل الإنسان بالتّغطية ، فإن قيل : فهل كانوا يسألون غير

__________________

(١) البقرة : ١٩٦.

(٢) قال الإمام الموفّق رحمه‌الله في (المغني) ٣ / ٤٧٧ : فإن اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين ، فلم يميزوا ، صلّى على جميعهم بنية المسلمين. قال أحمد : ويجعلهم بينه وبين القبلة ، ثم يصلي عليهم وإلا فلا ، لأن الاعتبار بالأكثر ، بدليل أن دار المسلمين الظاهر فيها الإسلام ، لكثرة المسلمين بها ، وعكسها دار الحرب ، لكثرة من بها من الكفار. ولنا ، أنه أمكن الصلاة على المسلمين من غير ضرر ، فوجب ، كما لو كانوا أكثر ، ولأنه إذا جاز أن يقصد بصلاته ودعائه الأكثر ، جاز قصد الأقل وإن وجد ميت ، فلم يعلم أمسلم هو أم كافر ، نظر إلى العلامات من الختان ، والثياب والخضاب ، فإن لم يكن عليه علامة ، وكان في دار الإسلام ، غسّل وصلّي عليه ، وإن كان في دار الكفر ، لم يغسّل ، ولم يصلّ عليه. نصّ عليه أحمد ، لأن الأصل أنّ من كان في دار فهو من أهلها ، يثبت له حكمهم ما لم يقم على خلافه دليل.

٢٤٥

ملحفين؟ فالجواب : أن لا ، وإنما معنى الكلام : أنه لم يكن منهم سؤال ، فيكون إلحاف. قال الأعشى :

لا يغمز السّاق من أين ولا وصب

ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر (١)

معناه : ليس بساقه أين ولا وصب ، فيغمزها لذلك. قال الفرّاء : ومثله أن تقول : قلّ ما رأيت مثل هذا الرجل ، ولعلّك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه ، فهم لا يسألون الناس إلحافا ، ولا غير إلحاف. وإلى نحو هذا ذهب الزجّاج ، وابن الأنباريّ في آخرين.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) ، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :

(١٤٤) أحدها : أنها نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله عزوجل ، رواه حنش الصّنعانيّ عن ابن عباس ، وهو قول أبي الدّرداء وأبي أمامة ، ومكحول ، والأوزاعيّ في آخرين.

(١٤٥) والثاني : نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فإنه كانت معه أربعة دراهم ، فأنفق في الليل درهما وبالنهار درهما ، وفي السّرّ درهما ، وفي العلانية درهما ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وابن السّائب ، ومقاتل.

(١٤٦) والثالث : أنها نزلت في عليّ وعبد الرحمن بن عوف ، فإن عليّا بعث بوسق من تمر إلى أهل الصّفّة ليلا وبعث عبد الرحمن إليهم بدنانير كثيرة نهارا ، رواه الضحّاك عن ابن عباس.

____________________________________

(١٤٤) أخرجه الواحدي في «أسبابه» ١٧٦ عن حنش الصنعاني عن ابن عباس ، وفي إسناده ، عبد الله بن صالح ، وهو ضعيف. وله شاهد عن أبي الدرداء ، أخرجه الطبري ٦٢٣٠ وفيه راو لم يسم ممن يراد بهذه الآية ، لأن الآية خاصة في ذلك ، والله أعلم.

(١٤٥) باطل. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٣٤٤ والواحدي ١٨٠ والطبراني ١١١٦٤ عن عبد الوهّاب بن مجاهد ، عن أبيه ، عن ابن عباس. إسناده ضعيف جدا ، ابن مجاهد متروك ولم يسمع من أبيه كما في «الميزان» وهذا أثر باطل لا أصل له ، ولا يصح عن مجاهد لأنه من رواية ابنه ، ونسبه المصنف لابن السائب. الكلبي ، وهو متروك كذاب. وعزاه المصنف لمقاتل ، وهو كذاب أيضا ، والصواب عموم الآية.

(١٤٦) باطل. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس ، ولم أر من أسنده إلى الضحاك ، وبكل حال هو أثر ساقط ، الضحاك لم يلق ابن عباس ، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد ، حيث روى عن الضحاك عن ابن عباس تفسيرا كاملا ، وجويبر متروك متهم. فهذا خبر ساقط ، لا أصل له.

ـ والصواب عموم الآية ، وأن الآية في كل من يتصف بذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) في «اللسان» : الغميزة : العيب وليس في فلان غميزة أي ما فيه ما يغمز فيعاب به ولا مطعن. والأين : الإعياء والتعب ، والشرسوف : أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن. والصّفر : دابة تعض الضلوع والشراسيف ، وقيل الصّفر هاهنا الجوع.

٢٤٦

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) ، الرّبا : أصله في اللغة : الزّيادة ، ومنه الرّبوة والرّابية ، وأربى فلان على فلان : زاد. وهذا الوعيد يشمل الأكل ، والعامل به ، وإنما خصّ الآكل بالذّكر ، لأنه معظم المقصود.

(١٤٧) وقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه : «لعن آكل الرّبا وموكله وشاهديه وكاتبه».

قوله تعالى : (لا يَقُومُونَ) ، قال ابن قتيبة أي : يوم البعث من القبور. والمسّ : الجنون ، يقال : رجل ممسوس. فالناس إذا خرجوا من قبورهم أسرعوا ؛ كما قال تعالى : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) (١). إلا أكلة الرّبا ، فإنهم يقومون ويسقطون ، لأن الله أربى الرّبا في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم ، فلا يقدرون على الإسراع. وقال سعيد بن جبير : تلك علامة آكل الرّبا إذا استحلّه يوم القيامة. قوله تعالى : (ذلِكَ) ، أي : هذا الذي ذكر من عقابهم (بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) ، وقيل : إن ثقيف كانوا أكثر العرب ربا ، فلما نهوا عنه ؛ قالوا : إنّما هو مثل البيع.

قوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، قال الزجّاج : كلّ تأنيث ليس بحقيقيّ ، فتذكيره جائز ، ألا ترى أن الوعظ والموعظة معبّران عن معنى واحد؟ قوله تعالى : (فَلَهُ ما سَلَفَ) ، أي : ما أكل من الرّبا. وفي قوله تعالى : (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) ، قولان : أحدهما : أن «الهاء» ترجع إلى المربي ، فتقديره : إن شاء عصمه منه ، وإن شاء لم يفعل ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل. والثاني : أنها ترجع إلى الرّبا ، فمعناه : يعفو الله عمّا شاء منه ، ويعاقب على ما شاء منه ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. قوله تعالى : (وَمَنْ عادَ) ، قال ابن جبير : من عاد إلى الرّبا مستحلّا محتجّا بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا)

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧))

____________________________________

(١٤٧) صحيح. أخرجه مسلم ١٥٩٨ وأحمد ٣ / ٣٠٤ والبيهقي ٥ / ٢٧٥ وأبو يعلى ١٨٤٩ من طرق عن جابر قال : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آكل الربا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهديه» وقال : «هم سواء».

ـ ويشهد له ما أخرجه أحمد ١ / ٤٠٩ و ٤٣٠ و ٤٦٤ و ٤٦٥ ، والنسائي ٨ / ١٤٧ وابن حبان ٣٢٥٢ وأبو يعلى ٥٢٤١ وعبد الرزاق ١٥٣٥٠ وابن خزيمة ٢٢٥٠ والحاكم ١ / ٣٨٧ ـ ٣٨٨ وعنه البيهقي ٩ / ١٩ من طرق عن عبد الله بن مسعود قال : «آكل الرّبا وموكله وكاتبه وشاهداه إذا علموا به والواشمة والمستوشمة للحسن ، ولاوي الصدقة والمرتد أعرابيا بعد هجرته ملعونون على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة».

__________________

(١) المعارج : ٤٣.

٢٤٧

قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) فيه قولان : أحدهما : أن معنى محقه : تنقيصه واضمحلاله ، ومنه : محاق الشهر ، لنقصان الهلال فيه. روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني : أنه إبطال ما يكون منه من صدقة ونحوها ، رواه الضحّاك عن ابن عباس. قوله تعالى :

(وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) ، قال ابن جبير : يضاعفها. والكفّار : الذي يكثر فعل ما يكفر به ، والأثيم : المتمادي في ارتكاب الإثم المصرّ عليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) في نزولها ثلاثة أقوال :

(١٤٨) أحدها : أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف ، وفي بني المغيرة من بني مخزوم ، وكان بنو المغيرة يأخذون الرّبا من ثقيف ، فلمّا وضع الله الرّبا ، طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم عليهم ، فنزلت هذه الآية ، والتي بعدها ، هذا قول ابن عباس.

(١٤٩) والثاني : أنها نزلت في عثمان بن عفّان ، والعبّاس ، كانا قد أسلفا في التّمر ، فلما حضر الجذاذ ، قال صاحب التّمر : إن أخذتما ما لكما لم يبق لي ولعيالي ما يكفي ، فهل لكما أن تأخذوا النصف وأضعّف لكما؟ ففعلا ، فلما حلّ الأجل ، طلبا الزيادة ، فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنهاهما عليه‌السلام ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عطاء وعكرمة.

(١٥٠) والثالث : أنها نزلت في العبّاس وخالد بن الوليد ، وكانا شريكين في الجاهلية وكانا يسلفان في الرّبا ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الرّبا ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إنّ كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العبّاس» هذا قول السّدّيّ.

قال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحّاك ، إنما قال : (ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) لأن كلّ ربا كان قد ترك ، فلم يبق إلا ربا ثقيف. وقال قوم : الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه ، وقبض بعضه في كفره ، ثم أسلم ، فيجب عليه أن يترك ما بقي ، ويعفى له عمّا مضى. فأمّا المراباة بعد الإسلام ، فمردودة فيما قبض ، ويسقط ما بقي.

____________________________________

(١٤٨) أخرجه أبو يعلى ٦٦٨ ومن طريقه الواحدي في «أسباب النزول» ١٨٣ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وإسناده ضعيف جدا ، الكلبي متروك ، وأبو صالح متروك في حديثه عن ابن عباس ، وذكره الهيثمي في «المجمع» ٤ / ١١٩ ـ ١٢٠ وقال : رواه أبو يعلى وفيه محمد بن السائب الكلبي ، وهو كذاب اه.

وذكره ابن حجر في «المطالب العالية» ٣٥٣٧ ونقل الشيخ الأعظمي عن البوصيري تضعيفه للكلبي! مع أنه متروك متهم. وأخرجه الطبري ٦٢٥٧ عن ابن جريج بنحوه ، وأتم. وورد عن عكرمة مع أثر ابن جريج عند الطبري ، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله تعالى أعلم. وانظر «فتح الباري» ٤ / ٣١٣.

(١٤٩) ذكره الواحدي ١٨٤ عن عطاء وعكرمة بدون إسناد ، ولم أره عند غيره ، فهو لا شيء ، وذكر عثمان في هذا الخبر باطل لا أصل له ، وأما ذكر العباس ، فله ما يؤيده ، وانظر ما بعده.

(١٥٠) هو في «أسباب النزول» ١٨٥ للواحدي عن السدي بدون إسناد. وأخرجه الطبري ٦٢٥٦ عن السدي ، وليس فيه اللفظ المرفوع ، وهذا مرسل. واللفظ المرفوع منه صحيح ، ورد في أحاديث أخر.

٢٤٨

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩))

قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا) ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (فَأْذَنُوا) مقصورة مفتوحة. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم «فآذنوا» بمدّ الألف وكسر الذال. قال الزجّاج : من قرأ : فأذنوا ، بقصر الألف وفتح الذال ، فالمعنى : أيقنوا. ومن قرأ بمدّ الألف وكسر الذال ، فمعناه : أعلموا كلّ من لم يترك الرّبا أنه حرب. قال ابن عباس : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب. قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) أي التي أقرضتموها ، لا تظلمون فتأخذون أكثر منها ، ولا تظلمون فتنقصون منها ، والجمهور على فتح «تاء» تظلمون الأولى ، وضم «تاء» تظلمون الثانية. وروى المفضّل عن عاصم : ضمّ الأولى ، وفتح الثانية.

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠))

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ). ذكر ابن السّائب ، ومقاتل أنه لما نزل قوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) ، قال بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة : هاتوا رؤوس أموالنا ، وندع لكم الرّبا ، فشكا بنو المغيرة العسرة ، فنزلت هذه الآية (١). فأمّا العسرة ، فهي الفقر ، والضّيق. والجمهور على تسكين السين ، وضمّها أبو جعفر هاهنا ، وفي (ساعَةِ الْعُسْرَةِ) (٢). وقرأ الجمهور بفتح سين «الميسرة» ، وضمّها نافع ، وتابعه زيد عن يعقوب على ضمّ السين ، إلا أنه زاد ، فكسر الراء ، وقلب الياء هاء ، ووصلها بباء. قال الزجّاج : ومعنى وإن كان : وإن وقع. والنّظرة ؛ التّأخير ، فأمرهم بتأخير رأس المال بعد إسقاط الرّبا إذا كان المطالب معسرا ، وأعلمهم أن الصّدقة عليه بذلك أفضل بقوله تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) والأكثرون على تشديد الصاد ، وخفّفها عاصم مع تشديد الدال. وسكّنها ابن أبي عبلة مع ضمّ الدال فجعله من الصّدق.

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١))

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) ، قرأ أبو عمرو بفتح تاء «ترجعون» وضمّها الباقون. قال ابن عباس ، وأبو سعيد الخدريّ ، وسعيد بن جبير ، وعطيّة ، ومقاتل في آخرين : هذه آخر آية نزلت من القرآن (٣). قال ابن عباس : وتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها بأحد وثمانين

__________________

(١) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٨٦ عن الكلبي ، وهو محمد بن السائب بدون إسناد ، والكلبي متهم.

ـ وأما أثر مقاتل ، فهو لا شيء أيضا ، لكن ورد هذا الخبر من وجوه أخر ، انظر الحديث ١٤٨.

(٢) سورة التوبة : ١١٧.

(٣) أثر ابن عباس صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» ٧٧ و ٧٨ عن ابن عباس موقوفا وإسناده جيد. وبوب به البخاري فقال باب (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) ثم أخرج ٤٥٤٤ عن ابن عباس : آخر آية نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية الربا. وأثر عطية العوفي ، أخرجه الواحدي في «الأسباب» ٩ ، وهذا مرسل. وأثر ابن جبير ، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ١ / ٦٥٣ ، ولم أر من أسنده إلى أبي سعيد ، وبكل حال الخبر صحيح ، في أنها آخر آية نزلت.

٢٤٩

يوما (١) ، وقال ابن جريج : توفي بعدها بتسع ليال. وقال مقاتل : بسبع ليال.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ، قال الزجّاج : يقال : داينت الرجل إذا عاملته ، فأخذت منه بدين ، وأعطيته. قال الشاعر (٢) :

داينت أروى والدّيون تقضى

فماطلت بعضا وأدّت بعضا

والمعنى : إذا كان لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمّى ، فاكتبوه ، فأمر الله تعالى بكتب الدّين والإشهاد حفظا منه للأموال وللناس من الظّلم ، لأن من كانت عليه البيّنة قلّ تحديثه لنفسه بالطمع في إذهابه. وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية في السّلم خاصة. فإن قيل : ما الفائدة في قوله : «بدين» ، و «تداينتم» يكفي عنه؟ فالجواب : إن تداينتم يقع على معنيين : أحدهما : المشاراة والمبايعة والإقراض. والثاني : المجازاة بالأفعال ، فالأول يقال فيه : الدّين بفتح الدال ، والثاني : يقال منه : الدّين بكسر الدال. قال تعالى : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) ، أي : يوم الجزاء. وأنشدوا (٣) :

دنّاهم كما دانوا

فدلّ بقوله : «بدين» على المراد بقوله : «تداينتم» ، ذكره ابن الأنباريّ. فأمّا العدل فهو الحق. قال قتادة : لا تدعنّ حقا ، ولا تزيدنّ باطلا.

قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) ، أي : لا يمتنع أن يكتب كما علّمه الله ، وفيه قولان :

__________________

(١) أخرجه الفريابي وابن المنذر كما في «الدر» ١ / ٦٥٣ من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وهذا إسناد ساقط كما تقدم غير مرة ، وقول ابن جريج الآتي أقرب للصواب ، وهو يوافق قول سعيد بن جبير كما في «الدر» ١ / ٦٥٣ وكذا قول مقاتل ، والله أعلم. وأثر ابن جريج ، أخرجه الطبري ٦٣١٢. وانظر «فتح الباري» ٨ / ٢٠٥.

(٢) هو رؤبة بن العجاج.

(٣) البيت من الهزج ، وهو للفند الزماني ـ شهل بن شيبان ـ كما في المعجم المفصّل ، وتمامه :

ولم يبق سوى

العدوان دناهم كما دانوا.

٢٥٠

أحدهما : كما علّمه الله الكتابة ، قاله سعيد بن جبير. وقال الشّعبيّ : الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد. والثاني : كما أمره الله به من الحق ، قاله الزجّاج.

قوله تعالى ؛ (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) ، قال سعيد بن جبير : يعني المطلوب ، يقول : ليمل ما عليه من حقّ الطّالب على الكاتب ، (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ) ، أي : لا ينقص عند الإملاء. قال شيخنا أبو منصور اللّغويّ : يقال : أمللت أملّ ، وأمليت أملي لغتان : فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال ، لأن المملّ يطيل قوله على الكاتب ويكرّره.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) ، في المراد بالسّفيه هاهنا أربعة أقوال : أحدها : أنه الجاهل بالأموال ، والجاهل بالإملاء ، قاله مجاهد ، وابن جبير. والثاني : أنه الصبي والمرأة ، قاله الحسن. والثالث : أنه الصغير ، قاله الضحّاك ، والسّدّيّ. والرابع : أنه المبذّر ، قاله القاضي أبو يعلى. وفي المراد بالضّعيف ثلاثة أقوال : أحدها : أنه العاجز والأخرس ومن به حمق ، قاله ابن عباس وابن جبير. والثاني : أنه الأحمق ، قاله مجاهد والسّدّيّ. والثالث : أنه الصغير ، قاله القاضي أبو يعلى. قوله تعالى : (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) ، قال ابن عباس : لا يستطيع لعيّه. وقال ابن جبير : لا يحسن أن يملّ ما عليه ، وقال القاضي أبو يعلى : هو المجنون.

قوله تعالى ؛ (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها تعود إلى الحق ، فتقديره : فليملل وليّ الحق ، هذا قول ابن عباس ، وابن جبير ، والرّبيع بن أنس ، ومقاتل ، واختاره ابن قتيبة. والثاني : أنها تعود إلى الذي عليه الحق ، وهذا قول الضحّاك ، وابن زيد ، واختاره الزجّاج ، وعاب قول الأوّلين ، فقال : كيف يقبل المدّعى! وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد ، والقول قوله؟! وهذا اختيار القاضي أبي يعلى أيضا. والعدل : الإنصاف. وفي قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) ، قولان : أحدهما : أنه يعني الأحرار ، قاله مجاهد. والثاني : أهل الإسلام ، وهذا اختيار الزجّاج ، والقاضي أبي يعلى ، ويدلّ عليه أنه خاطب المؤمنين في أوّل الآية.

قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) ، أراد : فإن لم يكن الشهيدان رجلين (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) ، ولم يرد به : إن لم يوجد رجلان.

قوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) ، قال ابن عباس : من أهل الفضل والدّين.

قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) ، ذكر الزجّاج ، أن الخليل ، وسيبويه ، وسائر النحويّين الموثوق بعلمهم ، قالوا : معناه : استشهدوا امرأتين ، لأن تذكّر إحداهما الأخرى. ومن أجل أن تذكّر إحداهما الأخرى. وقرأ حمزة «إن تضل» بكسر الألف. والضّلال هاهنا : النّسيان ، قاله ابن عباس ، والضحّاك ، والسّدّيّ ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة. فأمّا قوله : «فتذكر» فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بالتخفيف مع نصب الراء ، وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف ، وقرأ الباقون بالنصب وتشديد الكاف ، فمن شدّد أراد الإذكار عند النسيان ، وفي قراءة من خفّف قولان : أحدهما : أنها بمعنى المشدّدة أيضا ، وهذا قول الجمهور. قال الضحّاك ، والرّبيع بن أنس ، والسّديّ : ومعنى القراءتين واحد. والثاني : أنها بمعنى : تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر ، وهذا مذهب سفيان بن عيينة ، وحكى الأصمعيّ عن أبي عمرو نحوه. واختاره القاضي أبو يعلى ، وقد ردّه جماعة ، منهم ابن قتيبة. قال أبو

٢٥١

عليّ : ليس مذهب ابن عيينة بالقوي ، لأنهنّ لو بلغن ما بلغن ، لم تجز شهادتهن إلا أن يكون معهنّ رجل ، ولأن الضلال هاهنا : النّسيان ، فينبغي أن يقابل بما يعادله ، وهو التّذكير.

قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) ، قال قتادة : كان الرجل يطوف في الحواء (١) العظيم ، فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه منهم أحد ، فنزلت هذه الآية. وإلى ما ذا يكون هذا الدّعاء؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : إلى تحمّل الشهادة ، وإثباتها في الكتاب ، قاله ابن عباس ، وعطيّة ، وقتادة ، والرّبيع. والثاني : إلى إقامتها وأدائها عند الحكّام بعد أن تقدّمت شهادتهم بها ، قاله سعيد بن جبير ، وطاوس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والشّعبيّ ، وأبو مجلز ، والضحّاك ، وابن زيد ، ورواه الميمونيّ عن أحمد بن حنبل. والثالث : إلى تحمّلها وإلى أدائها ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، واختاره الزجّاج ، قال القاضي أبو يعلى : إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره ، فأما إن كان قد تحمّلها جماعة ، لم تتعيّن عليه ، وكذلك في حال تحمّلها ، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد ، فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه.

قوله تعالى : (وَلا تَسْئَمُوا) ، أي : لا تملّوا ولا تضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله ، أي : إلى محلّ أجله (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) ، أي : أعدل ، (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) لأن الكتاب يذكّر الشهود جميع ما شهدوا عليه (وَأَدْنى) أي : أقرب (أَلَّا تَرْتابُوا) أي : لا تشكّوا (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) الأموال (تِجارَةً) أي : إلا أن تقع تجارة. وقرأ عاصم «تجارة» بالنصب على معنى : إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة ، وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل. فأباح ترك الكتاب فيها توسعة ، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول ومشروب. قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) ، الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه.

فصل : وهذه الآية تتضمّن الأمر بإثبات الدّين في كتاب ، وإثبات شهادة في البيع والدّين. واختلف العلماء ، هل هذا أمر وجوب (٢) ، أم على وجه الاستحباب؟ فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب ، فعلى هذا هو محكم ، وذهبت طائفة إلى أن الكتابة والإشهاد واجبان ، روي عن ابن عمر وأبي موسى ومجاهد وابن سيرين وعطاء والضحّاك وأبي قلابة والحكم وابن زيد. ثم اختلف هؤلاء ، هل هذا الحكم باق أم منسوخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ ، وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ).

قوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) ، قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من «يضار» وسكونها. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه : لا يضارّ بأن يدعى وهو مشغول ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسّدّيّ ، والرّبيع بن أنس ، والفرّاء ، ومقاتل. وقال الرّبيع : كان أحدهم

__________________

(١) في «اللسان» : الحواء : جماعة بيوت الناس إذا تدانت ، والجمع الأحوية.

(٢) قال الحافظ ابن كثير ١ / ٣٣٦ عند هذه الآية ؛ وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب.

٢٥٢

يجيء إلى الكاتب فيقول : اكتب لي ، فيقول : إني مشغول ، فيلزمه ، ويقول : إنك قد أمرت بالكتابة ، فيضارّه ، ولا يدعه ، وهو يجد غيره ، وكذلك يفعل الشاهد ، فنزلت (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ). والثاني : أن معناه : النّهي للكاتب أن يضار من يكتب له بأن يكتب غير ما يملّ عليه ، وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه ، هذا قول الحسن ، وطاوس ، وقتادة ، وابن زيد ، واختاره ابن قتيبة ، والزجّاج. واحتجّ الزجّاج على صحته بقوله تعالى : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) ، قال : ولا يسمّى من دعا كاتبا ليكتب ، وهو مشغول ، أو شاهدا ؛ فاسقا ، إنما يسمّى من حرّف الكتاب ، أو كذب في الشهادة ، فاسقا. والثالث : أن معنى المضارّة : امتناع الكاتب أن يكتب ، والشاهد أن يشهد ، وهذا قول عطاء في آخرين.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ، يعني : المضارّة.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣))

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) ، إنما خصّ السفر ، لأن الأغلب عدم الكاتب والشاهد فيه ، ومقصود الكلام : إذا عدمتم التّوثّق بالكتاب والإشهاد ، فخذوا الرّهن.

قوله تعالى : (فَرِهانٌ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعبد الوارث (فرهن) بضم الراء والهاء من غير ألف ، وأسكن الهاء عبد الوارث وجماعة. وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ (فَرِهانٌ) بكسر الراء ، وفتح الهاء ، وإثبات الألف. قال ابن قتيبة ؛ من قرأ (فَرِهانٌ) أراد : جمع رهن ، ومن قرأ «رهن» أراد : جمع رهان ، فكأنه جمع الجمع. وقوله تعالى : (مَقْبُوضَةٌ) ، يدلّ على أن من شرط لزوم الرّهن القبض ، وقبض الرّهن أخذه من راهنه منقولا ، فإن كان مما لا ينقل ، كالدّور والأرضين ، فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنة.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، أي : فإن وثق ربّ الدّين بأمانة الغريم ، فدفع ماله بغير كتاب ولا شهود ، ولا رهن ، (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهو المدين (أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) أن يخون من ائتمنه. وقوله تعالى : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ، قال السّدّيّ عن أشياخه : فإنه فاجر قلبه. قال القاضي أبو يعلى : إنما أضاف الإثم إلى القلب ، لأن المآثم تتعلّق بعقد القلب ، وكتمان الشهادة إنما هو عقد النّيّة لترك أدائها.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))

قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أما إبداء ما في النّفس ، فإنه العمل بما أضمره العبد ، أو النّطق ، وهذا مما يحاسب عليه العبد ، ويؤاخذ به ، وأمّا ما يخفيه في نفسه ، فاختلف العلماء في المراد بالمخفيّ في هذه الآية على قولين :

٢٥٣

أحدهما : أنه عامّ في جميع المخفيّات ، وهو قول الأكثرين. واختلفوا : هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة أم منسوخ؟ على قولين : أحدهما : أنه منسوخ بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، هذا قول ابن مسعود ، وأبي هريرة ، وابن عباس في رواية ، والحسن ، والشّعبيّ ، وابن سيرين ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعطاء الخراسانيّ ، والسّدّيّ ، وابن زيد ، ومقاتل. والثاني : أنه ثابت في المؤاخذة على العموم ، فيؤاخذ به من يشاء ، ويغفره لمن يشاء ، وهذا مرويّ عن ابن عمر ، والحسن ، واختاره أبو سليمان الدّمشقيّ ، والقاضي أبو يعلى. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : هذه الآية لم تنسخ ، ولكن الله عزوجل إذا جمع الخلائق ، يقول لهم : إني مخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطّلع عليه ملائكتي ، فأمّا المؤمنون فيخبرهم ، ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم ، وهو قوله تعالى : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ، يقول : يخبركم به الله ، وأمّا أهل الشّرك والرّيب ، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله تعالى : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ، والأكثرون على تسكين راء «فيغفر» وباء «يعذّب» منهم ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ. إنما جزموا لإتباع هذا ما قبله ، وهو «يحاسبكم» وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، وعاصم ويعقوب : برفع الراء ، والباء فيهما. فهؤلاء قطعوا الكلام عن الأوّل ، قال ابن الأنباريّ : وقد ذهب قوم إلى أن المحاسبة هاهنا هي إطلاع الله العبد يوم القيامة على ما كان حدّث به نفسه في الدنيا ، ليعلم أنه لم يعزب عنه شيء. قال : والذي نختاره أن تكون الآية محكمة ، لأنّ النّسخ إنما يدخل على الأمر والنّهي. وقد روي عن عائشة أنها قالت : أمّا ما أعلنت ، فالله يحاسبك به ، وأمّا ما أخفيت ، فما عجّلت لك به العقوبة في الدّنيا.

والقول الثاني : أنه أمر خاصّ في نوع من المخفيّات ، ولأرباب هذا القول فيه قولان : أحدهما : أنه كتمان الشهادة ، قاله ابن عباس في رواية ، وعكرمة والشّعبيّ. والثاني : أنه الشّكّ واليقين ، قاله مجاهد. فعلى هذا المذكور تكون الآية محكمة.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥))

قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ).

(١٥١) روى البخاريّ ومسلم في «صحيحيهما» من حديث أبي مسعود البدريّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه» ، قال أبو بكر النّقّاش : معناه : كفتاه عن قيام الليل. وقيل : إنهما نزلتا على سبب.

(١٥٢) وهو ما روى العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ، قال : لما أنزل الله تعالى ؛ (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي

____________________________________

(١٥١) صحيح. أخرجه البخاري ٥٠٠٨ و ٥٠٠٩ و ٥٠٤٠ و ٥٠٥١ ومسلم ٨٠٧ والطيالسي ٢ / ١٠ وأحمد ٤ / ١٢١ وأبو داود ١٣٩٧ والترمذي ٢٨٨١ والنسائي في «اليوم والليلة» ٧١٩ وابن ماجة ١٣٦٩ والدارمي ١ / ٣٤٩ وابن حبان ٧٨١ والبغوي ١١٩٩ من حديث أبي مسعود البدري.

(١٥٢) صحيح. أخرجه مسلم ١٢٥ وأحمد ٢ / ٤١٢ والطبري ٦٤٥٣ وأبو عوانة ١ / ٧٦ و ٧٧ وابن حبان ١٣٩ والواحدي في «أسباب النزول» ١٨٧ من طرق عن أبي هريرة.

٢٥٤

أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ، اشتدّ ذلك على أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتوا رسول الله ثم جثوا على الركب. فقالوا : قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال : «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير». فلما قالوها وذلّت بها ألسنتهم ، أنزل الله في أثرها (آمَنَ الرَّسُولُ).

قال الزجّاج : لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص والأحكام ختمها بتصديق نبيّه ، والمؤمنين. وقرأ ابن عباس «وكتابه» ، فقيل له في ذلك ، فقال : كتاب أكثر من كتب ، ذهب به إلى اسم الجنس ، كما تقول : كثر الدّرهم في أيدي الناس. وقد وافق ابن عباس في قراءته حمزة والكسائي وخلف ، وكذلك في «التحريم» وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر ، وابن عامر (وكتبه) هاهنا بالجمع ، وفي «التحريم» بالتّوحيد. وقرأ أبو عمرو بالجمع في الموضعين. قوله تعالى ؛ (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ، قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنيّ على حرفين ، مثل «رسلنا» و «رسلكم» بإسكان السين ، وثقّل ما عدا ذلك. وفي قوله تعالى : (عَلى رُسُلِكَ) ، روايتان ، بالتخفيف والتثقيل وقرأ الباقون كل ما كان في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل ، ومعنى قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ، أي : لا نفعل كما فعل أهل الكتاب ، آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ، وقرأ يعقوب «لا يفرق» بالياء وفتح الراء.

قوله تعالى : (غُفْرانَكَ) ، أي : نسألك غفرانك. والمصير : المرجع.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، الوسع : الطّاقة ، قاله ابن عباس ، وقتادة. ومعناه : لا يكلّفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته ، كتكليف الزّمن السّعي ، والأعمى النظر. فأما تكليف ما يستحيل من المكلّف ، لا لفقد الآلات ، فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن الإيمان ، فالآية محمولة على القول الأوّل. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) ، فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعا ، كان السؤال عبثا ، وقد أمر الله تعالى نبيّه بدعاء قوم قال فيهم : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (١) ، وقال ابن الأنباريّ : المعنى : لا تحمّلنا ما يثقل علينا أداؤه ، وإن كنا مطيقين له على تجشّم ، وتحمّل مكروه ، فخاطب العرب على حسب ما تعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النّظر إليك ، وهو مطيق لذلك ، لكنه يثقل عليه ، ومثله قوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) (٢). قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ) ، قال ابن عباس : لها ما كسبت من طاعة (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) من معصية. قال أبو بكر النّقّاش : فقوله : «لها» دليل على الخير ، و «عليها» دليل على الشّرّ. وقد ذهب قوم إلى أن «كسبت» لمرة ومرات

__________________

(١) الكهف : ٥٧.

(٢) هود : ٢٠.

٢٥٥

و «اكتسبت» لا يكون إلا لشيء بعد شيء ، وهما عند آخرين لغتان بمعنى واحد ؛ كقوله عزوجل : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١).

قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) ، هذا تعليم من الله تعالى للخلق أن يقولوا ذلك ، قال ابن الأنباريّ : والمراد بالنّسيان هاهنا : التّرك مع العمد ، لأن النسيان الذي هو بمعنى الغفلة قد أمنت الآثام من جهته. والخطأ أيضا هاهنا من جهة العمد ، لا من جهة السّهو ، يقال : أخطأ الرجل : إذا تعمّد ، كما يقال : أخطأ إذا أغفل. وفي «الإصر» قولان : أحدهما ؛ أنه العهد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحّاك ، والسّدّيّ. والثاني : الثّقل ، أي : لا تثقل علينا من الفروض ما ثقّلته على بني إسرائيل ، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى : (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) ، فيه خمسة أقوال (٢) : أحدها : أنه ما يصعب ويشقّ من الأعمال ، قاله الضحّاك ، والسّدّيّ ، وابن زيد ، والجمهور. والثاني : أنه المحبّة ، رواه الثّوريّ عن منصور عن إبراهيم. والثالث : الغلمة (٣) ، قاله مكحول. والرابع : حديث النّفس ووساوسها. والخامس : عذاب النّار.

قوله تعالى : (أَنْتَ مَوْلانا) ، أي أنت وليّنا (فَانْصُرْنا) أي : أعنّا.

وكان معاذ إذا فرغ من هذه السّورة ، قال : آمين.

__________________

(١) الطارق : ١٧.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣٤٣ : وقوله (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلنا بما لا قبل لنا به اه. قلت : فالقول الأول هو الصواب إن شاء الله تعالى.

(٣) في «اللسان» : الغلمة : هيجان شهوة النكاح من المرأة والرجل.

٢٥٦

سورة آل عمران

(١٥٣) ذكر أهل التفسير أنها مدنيّة ، وأن صدرا من أوّلها نزل في وفد نجران ، قدموا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ستّين راكبا ، فيهم العاقب ، والسّيّد ، فخاصموه في عيسى ، فقالوا : إن لم يكن ولد الله ، فمن أبوه؟ فنزلت فيهم صدر (آل عمران) إلى بضع وثمانين آية منها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣))

قوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) يعني : القرآن (بِالْحَقِ) يعني : العدل. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتاب. وقيل : إنما قال في القرآن : «نزّل» بالتشديد ، وفي التوراة والإنجيل : أنزل ، لأنّ كل واحد منهما أنزل في مرّة واحدة ، وأنزل القرآن في مرّات كثيرة. فأمّا التّوراة. فذكر ابن قتيبة عن الفرّاء أنه يجعلها من : وري الزّند يري : إذا خرجت ناره ، وأوريته ، يريد أنها ضياء. قال ابن قتيبة : وفيه لغة أخرى : ورى يري ، ويقال : وريت بك زنادي. والإنجيل ، من نجلت الشيء : إذا أخرجته ، وولد الرجل : نجله ، كأنه هو استخرجه ، يقال : قبّح الله ناجليه ، أي : والديه ، وقيل للماء يظهر من البئر : نجل ، يقال : قد استنجل الوادي : إذا ظهر نزوزه. وإنجيل : افعيل من ذلك ، كأنّ الله أظهر به عافيا من الحق دارسا. قال شيخنا أبو منصور اللغويّ : والإنجيل : أعجميّ معرّب ، قال : وقال بعضهم : إن كان عربيا ، فاشتقاقه من النّجل ، وهو ظهور الماء على وجه الأرض ، واتّساعه ، ونجلت الشيء : إذا استخرجته وأظهرته ، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم ، وقيل : هو افعيل من النّجل وهو الأصل : فالإنجيل أصل لعلوم وحكم. وفي الفرقان هاهنا قولان : أحدهما : أنه القرآن ، قاله قتادة ، والجمهور. قال أبو عبيدة : سمّي القرآن فرقانا ، لأنه فرق بين الحق والباطل ، والمؤمن والكافر. والثاني : أنه الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى حين اختلفوا فيه ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وقال السّدّيّ : في الآية

____________________________________

(١٥٣) أخرجه الطبري ٦٥٤٠ وابن هشام في «السيرة» ٢ / ١٦٤ من طريق ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير. وكذا ابن كثير في «التفسير» ١ / ٣٧٦ من طريق ابن إسحاق وعزاه البغوي في «تفسيره» ٣٥٨ للكلبي والربيع بن أنس وغيرهما. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٩٠ نقلا عن المفسرين. وانظر دلائل النبوة للبيهقي ٥ / ٣٨٢ ـ ٣٨٤ وهذه المراسيل تتأيد بمجموعها.

٢٥٧

تقديم وتأخير ، تقديره : وأنزل التوراة ، والإنجيل ، والفرقان ، فيه هدى للناس.

(مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) قال ابن عباس : يريد وفد نجران النّصارى ، كفروا بالقرآن ، وبمحمّد. والانتقام : المبالغة في العقوبة.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ، قال أبو سليمان الدّمشقيّ : هذا تعريض بنصارى أهل نجران فيما كانوا ينطوون عليه من كيد النبيّ عليه‌السلام. وذكر التصوير في الأرحام تنبيه على أمر عيسى.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))

قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) المحكم : المتقن المبيّن. وفي المراد به هاهنا ثمانية أقوال (١) : أحدها : أنه النّاسخ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، السّدّيّ في آخرين. والثاني : أنه الحلال والحرام ، روي عن ابن عباس ومجاهد. والثالث : أنه ما علم العلماء تأويله ، روي عن جابر بن عبد الله. والرابع : أنه الذي لم ينسخ ، قاله الضّحّاك. والخامس : أنه ما لم تتكرر ألفاظه ، قاله ابن زيد. والسادس : أنه ما استقلّ بنفسه ، ولم يحتج إلى بيان ، ذكره القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد. وقال الشّافعيّ ، وابن الأنباريّ : هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا. والسابع : أنه جميع القرآن غير الحروف المقطّعة. والثامن : أنه الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والحلال والحرام ، ذكر هذا والذي قبله القاضي أبو يعلى بن الفرّاء.

وأمّ الكتاب أصله. قاله ابن عباس ، وابن جبير ، فكأنه قال : هنّ أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهنّ في الأحكام ، ومجمع الحلال والحرام.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله ١ / ٣٤٥ : وأحسن ما قيل فيه الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه‌الله حيث قال : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. قال : والمتشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق.

ـ وقال الشوكاني رحمه‌الله في «فتح القدير» ١ / ٣٦٠ بعد أن ذكر الأقوال المتقدمة : والأولى أن يقال : إن المحكم هو الواضح المعنى ، الظاهر الدلالة ؛ إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره.

ـ والمتشابه : ما لا يتضح معناه ، أو لا تظهر دلالته ، لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره.

ـ وانظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ٤ / ١٣ ـ ١٤ بتخريجنا ـ طبع «دار الكتاب العربي».

٢٥٨

وفي المتشابه سبعة أقوال : أحدها : أنه المنسوخ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والسّدّيّ في آخرين. والثاني : أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل ، كقيام السّاعة ، روي عن جابر بن عبد الله. والثالث : أنه الحروف المقطّعة كقوله : «الم» ونحو ذلك ، قاله ابن عباس. والرابع : أنه ما اشتبهت معانيه ، قاله مجاهد. والخامس : أنه ما تكررت ألفاظه ، قاله ابن زيد. والسادس : أنه ما احتاج إلى بيان ، ذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد. وقال الشّافعيّ : ما احتمل من التّأويل وجوها. وقال ابن الأنباريّ : المحكم ما لا يحتمل التأويلات ، ولا يخفى على مميّز ، والمتشابه : الذي تعتوره تأويلات. والسابع : أنه القصص والأمثال ، ذكره القاضي أبو يعلى.

فإن قيل : فما فائدة إنزال المتشابه ، والمراد بالقرآن البيان والهدى؟ فعنه أربعة أجوبة :

أحدها : أنه لما كان كلام العرب على ضربين : أحدهما : الموجز الذي لا يخفى على سامعه ، ولا يحتمل غير ظاهره. والثاني : المجاز ، والكنايات ، والإشارات ، والتّلويحات ، وهذا الضّرب الثاني هو المستحلى عند العرب ، والبديع في كلامهم ، أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضّربين ، ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله ، فكأنه قال : عارضوه بأيّ الضّربين شئتم ، ولو نزل كلّه محكما واضحا ، لقالوا : هلّا نزل بالضّرب المستحسن عندنا؟ ومتى وقع الكلام إشارة أو كناية ، أو تعريض أو تشبيه ، كان أفصح وأغرب. قال امرؤ القيس :

ما ذرفت عيناك إلّا لتضربي

بسهميك في أعشار قلب مقتّل

فجعل النظر بمنزلة السّهم على جهة التشبيه ، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد ، وزاد في بلاغته ، وقال امرؤ القيس أيضا :

رمتني بسهم أصاب الفؤاد

غداة الرّحيل فلم أنتصر

وقال أيضا :

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل (١)

فجعل لليل صلبا وصدرا على جهة التشبيه ، فحسن بذلك شعره. وقال غيره :

من كميت أجادها طابخاها

لم تمت كلّ موتها في القدور

أراد بالطّابخين : الليل والنهار على جهة التشبيه. وقال آخر :

تبكي هاشما في كلّ فجر

كما تبكي على الفنن الحمام

وقال الآخر :

عجبت لها أنّى يكون غناؤها

فصيحا ولم تفتح بمنطقها فما

فجعل لها غناء وفما على جهة الاستعارة.

والجواب الثاني : أنّ الله تعالى أنزله مختبرا به عباده ، ليقف المؤمن عنده ، ويردّه إلى عالمه ، فيعظم بذلك صوابه ، ويرتاب به المنافق ، فيداخله الزّيغ ، فيستحق بذلك العقوبة ، كما ابتلاهم بنهر

__________________

(١) في «اللسان» : الكلكل من الفرس : ما بين محزمه إلى ما مسّ الأرض منه إذا ربض وقد يستعار الكلكل لما ليس بجسم في صفة الليل.

٢٥٩

طالوت. والثالث : أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردّهم المتشابه إلى المحكم فيطول بذلك فكرهم ، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم فيثابون على تعبهم ، كما أثيبوا على سائر عباداتهم ، ولو جعل القرآن كله محكما لاستوى فيه العالم والجاهل ، ولم يفضل العالم على غيره ، ولماتت الخواطر ، وإنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم ، وقد قال الحكماء : عيب الغنى : أنه يورث البلادة ، وفضل الفقر : أنه يبعث على الحيلة ، لأنه إذا احتاج احتال. والرابع : أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة ، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلّمون ، ويمرّونهم على انتزاع الجواب ، لأنهم إذا قدروا على الغامض ، كانوا على الواضح أقدر ، فلما كان ذلك حسنا عند العلماء ، جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النّحو ، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة وابن الأنباريّ.

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) في الزيغ قولان : أحدهما : أنه الشّكّ ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : أنه الميل ، قاله أبو مالك ، وعن ابن عباس كالقولين ، وقيل : هو الميل عن الهدى. وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال : أحدها : أنهم الخوارج ، قاله الحسن. والثاني : المنافقون ، قاله ابن جريج. والثالث : وفد نجران من النصارى ، قاله الرّبيع. والرابع : اليهود ، طلبوا معرفة بقاء هذه الأمّة من حساب الجمّل ، قاله ابن السّائب. قوله تعالى : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) قال ابن عباس : يحيلون المحكم على المتشابه ، والمتشابه على المحكم ، ويلبسون. وقال السّدّيّ يقولون : ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا ، ثم نسخت. وفي المراد بالفتنة هاهنا ، ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الكفر ، قاله السّدّيّ ، والرّبيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة. والثاني : الشّبهات ، قاله مجاهد. والثالث : إفساد ذات البين ، قاله الزجّاج. وفي التأويل وجهان : أحدهما : أنه التّفسير. والثاني : العاقبة المنتظرة. والرّاسخ : الثّابت ، رسخ يرسخ رسوخا.

وهل يعلم الرّاسخون تأويله أم لا؟ فيه قولان (١) : أحدهما : أنهم لا يعلمونه ، وأنهم مستأنفون ،

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٣٤٦ : وقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) اختلف القراء في الوقف هاهنا فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : التفسير على أربعة أنحاء ، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم ، وتفسير لا يعلمه إلّا الله ... وعن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا أخاف على أمتي إلّا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) الآية وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يسألون عنه» غريب جدا ...

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابن العاص عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به» وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : كان ابن عباس يقرأ (وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الراسخون آمنا به). وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله. وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود : (إن تأويله إلّا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) وكذا عن أبي بن كعب. ومنهم من يقف على قوله (والراسخون في العلم) وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد وقد روي عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. وقال مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. وقال محمد بن جعفر بن الزبير : (وما يعلم تأويله) الذي أراد ما أراد (إلّا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا

٢٦٠