زاد المسير في علم التفسير - ج ١

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ١

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
ISBN: 9953-27-016-3
الصفحات: ٦٠٦

الصّلاة ، يصلي قائما ، فإن لم يستطع ، فعلى جنب ، هذا قول عليّ ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة. والثاني : أنه الذّكر في الصّلاة وغيرها ، وهو قول طائفة من المفسرين. والثالث : أنه الخوف ، فالمعنى : يخافون الله قياما في تصرّفهم وقعودا في دعتهم ، وعلى جنوبهم في منامهم.

قوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال ابن فارس : الفكرة : تردّد القلب في الشيء. قال ابن عباس : ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة ، والقلب ساه.

قوله تعالى : (رَبَّنا) قال الزجّاج : معناه : يقولون : ربّنا (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أي : خلقته دليلا عليك ، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك. ومعنى (سُبْحانَكَ) : براءة لك من السّوء ، وتنزيها لك أن تكون خلقتهما باطلا ، (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) فقد صدّقنا أنّ لك جنّة ونارا.

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢))

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) قال الزجّاج : المخزى في اللغة المذلّ المحقور بأمر لزمه وبحجّة. يقال : أخزيته ، أي : ألزمته حجّة أذللته معها. وفيمن يتعلّق به هذا الخزي قولان : أحدهما : أنه يتعلّق بمن يدخلها مخلّدا ، قاله أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيّب ، وابن جبير ، وقتادة ، وابن جريج ، ومقاتل. والثاني : أنه يتعلّق بكل داخل إليها ، وهذا المعنى مرويّ عن جابر بن عبد الله ، واختاره ابن جرير الطّبريّ ، وأبو سليمان الدّمشقيّ.

قوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) قال ابن عباس : وما للمشركين من مانع يمنعهم عذاب الله تعالى.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣))

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً) في المنادي قولان : أحدهما : أنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس ، وابن جريج ، وابن زيد ، ومقاتل. والثاني : أنه القرآن ، قاله محمّد بن كعب القرظيّ ، واختاره ابن جرير الطّبريّ.

قوله تعالى : (يُنادِي لِلْإِيمانِ) فيه قولان : أحدهما : ينادي إلى الإيمان ، ومثله : (الَّذِي هَدانا لِهذا) (١) ، (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٢) ، قاله الفرّاء. والثاني : بأنّه مقدّم ومؤخّر ، والمعنى : سمعنا مناديا للإيمان ينادي ، قاله أبو عبيدة.

قوله تعالى : (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) قال مقاتل : أمح عنّا خطايانا. وقال غيره : غطّها عنّا ، وقيل : إنما جمع بين غفران الذّنوب ، وتكفير السّيئات ، لأن الغفران بمجرّد الفضل ، والتّكفير بفعل الخير. (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «الأبرار» و «الأشرار» و «ذات قرار» وما كان مثله بين الفتح والكسر ، وقرأ ابن كثير ، وعاصم بالفتح. ومعنى (مَعَ الْأَبْرارِ) : فيهم ، قال ابن عباس : وهم الأنبياء والصّالحون.

__________________

(١) الأعراف : ٤٣.

(٢) الزلزلة : ٥.

٣٦١

(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤))

قوله تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا) قال ابن عباس : يعنون : الجنّة (عَلى رُسُلِكَ) أي : على ألسنتهم. فإن قيل : ما وجه هذه المسألة والله لا يخلف الميعاد؟ فعنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنه خرج مخرج المسألة ، ومعناه : الخبر ، تقديره : فآمنّا ، فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا. والثاني : أنه سؤال له ، أن يجعلهم ممّن آتاه ما وعده ، لا أنّهم استحقّوا ذلك ، إذ لو كانوا قد قطعوا أنّهم من الأبرار لكانت تزكية لأنفسهم. والثالث : أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النّصر على الأعداء ، لأنه وعدهم نصرا غير مؤقّت ، فرغبوا في تعجيله ، ذكر هذه الأجوبة ابن جرير ، وقال : أولى الأقوال بالصّواب ، أنّ هذه صفة المهاجرين ، رغبوا في تعجيل النّصر على أعدائهم. فكأنّهم قالوا : لا صبر لنا على حلمك عن الأعداء فعجّل خزيهم ، وظفرنا عليهم.

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))

قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ).

(٢٥٢) روي عن أمّ سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، لا أسمع ذكر النّساء في الهجرة بشيء؟ فنزلت هذه الآية. واستجاب : بمعنى أجاب. والمعنى : أجابهم بأن قال لهم : إني لا أضيع عمل عامل منكم ذكرا أو أنثى.

وفي معنى قوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ثلاثة أقوال : أحدها : بعضكم من بعض في الدّين ، والنّصرة والموالاة. والثاني : حكم جميعكم في الثّواب واحد ، لأنّ الذّكور من الإناث والإناث من الذّكور. والثالث : كلّكم من آدم وحوّاء.

قوله تعالى : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) أي : تركوا الأوطان والأهل والعشائر (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يعني : المؤمنين الذين أخرجوا من مكّة بأذى المشركين ، فهاجروا ، (وَقُتِلُوا) المشركين (وَقُتِلُوا). قرأ ابن كثير ، وابن عامر : «وقاتلوا وقتّلوا» مشدّدة التاء. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : «وقاتلوا وقتلوا» خفيفة. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : و «قتلوا وقاتلوا». قال أبو عليّ : تقديم «قتلوا» جائز ، لأنّ المعطوف بالواو يجوز أن يكون أوّلا في المعنى ، مؤخّرا في اللفظ.

____________________________________

(٢٥٢) حديث حسن. أخرجه الطبري ٨٣٦٧ من طريق مجاهد عن أم سلمة. ورجال الإسناد ثقات رجال الشيخين ، فهو صحيح إن كان مجاهد سمعه من أم سلمة وفيه نظر إذ قال فيه : قالت أم سلمة ، وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٤٩٨ والترمذي ٣٠٢٣ عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة عن أم سلمة. وأخرجه الحاكم ٢ / ٣٠٠ والواحدي ٢٨٥ عن عمرو بن دينار عن سلمة بن عمر بن أبي سلمة ـ رجل من ولد أم سلمة قال : قالت أم سلمة. صححه الحاكم على شرط البخاري! وسكت الذهبي! مع أن في إسناده سلمة بن أبي سلمة ، وهو مقبول كما في «التقريب» أي حديثه حسن في الشواهد ، وقد توبع في ما تقدم ، فهو حسن إن شاء الله تعالى. وسيأتي شيء من هذا في سورة الأحزاب.

٣٦٢

قوله تعالى : (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) قال الزجّاج : هو مصدر مؤكّد لما قبله ، لأنّ معنى (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ) : لأثيبنّهم.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧))

قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في اليهود ، ثمّ في ذلك قولان : أحدهما : أنّ اليهود كانوا يضربون في الأرض. فيصيبون الأموال ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

(٢٥٣) والثاني : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أراد أن يستسلف من بعضهم شعيرا ، فأبى إلّا على رهن ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أعطاني لأوفيته ، إنّي لأمين في السماء أمين في الأرض» فنزلت ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ.

والقول الثاني : أنها نزلت في مشركي العرب كانوا في رخاء ، فقال بعض المؤمنين : قد أهلكنا الجهد ، وأعداء الله فيما ترون ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل. قال قتادة : والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد غيره. وقال غيره : إنما خاطبه تأديبا وتحذيرا ، وإن كان لا يغترّ.

وفي معنى «تقلّبهم» ثلاثة أقوال : أحدها : تصرّفهم في التّجارات ، قاله ابن عباس ، والفرّاء ، وابن قتيبة ، والزجّاج. والثاني : تقلّب ليلهم ونهارهم ، وما يجري عليهم من النّعم ، قاله عكرمة ومقاتل.

والثالث : تقلّبهم غير مأخوذين بذنوبهم ، ذكره بعض المفسّرين. قال الزجاج : ذلك الكسب والرّبح متاع قليل ، وقال ابن عباس : منفعة يسيرة في الدنيا. والمهاد : الفراش.

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨))

قوله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) قرأ أبو جعفر : «لكنّ» بالتشديد هاهنا ، وفي «الزّمر» قال مقاتل : وحّدوا. قال ابن عباس : «النّزل» الثّواب. قال ابن فارس : النّزل : ما يهيّأ للنّزيل ، والنّزيل : الضّيف.

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩))

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :

____________________________________

(٢٥٣) لم أقف عليه هكذا ، والذي ورد في ذلك أن الآية التي نزلت هي قوله تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ....) ـ طه : ١٣١ ـ أخرجه الواحدي ٦١٥ والطبري ٢٢٤٥٥ من حديث أبي رافع ، وفيه موسى بن عبيدة الربذي ضعيف ، وكرره الطبري ٢٤٤٥٦ من طريق حسين بن داود عن أبي رافع وحسين واه والمتن منكر ، لأن سورة طه مكية ، وخبر رهن الدرع متأخر جدا كما قال القرطبي ، وسيأتي.

وانظر «تفسير القرطبي» ٤٣٣٢ بتخريجنا.

٣٦٣

(٢٥٤) أحدها : أنها نزلت في النّجاشيّ ، لأنه لمّا مات صلّى عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال قائل : يصلّي على هذا العلج النّصرانيّ ، وهو في أرضه؟! فنزلت هذه الآية ، هذا قول جابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وأنس. وقال الحسن ، وقتادة : فيه وفي أصحابه.

والثاني : أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنّصارى ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد. والثالث : في عبد الله بن سلّام ، وأصحابه ، قاله ابن جريج ، وابن زيد ، ومقاتل. والرابع : في أربعين من أهل نجران ، وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الرّوم كانوا على دين عيسى ، فآمنوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله عطاء (١).

قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) يعني : القرآن ، (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) يعني : كتابهم. والخاشع : الذّليل. (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي : عرضا من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود. وقد سلف بيان سرعة الحساب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) قال أبو سلمة بن عبد الرّحمن : نزلت في انتظار الصّلاة بعد الصّلاة ، وليس يومئذ غزو يرابط.

وفي الذي أمروا بالصّبر عليه خمسة أقوال : أحدها : البلاء والجهاد ، قاله ابن عباس. والثاني : الدّين ، قاله الحسن ، والقرظيّ ، والزجّاج. والثالث : المصائب ، روي عن الحسن أيضا. والرابع : الفرائض ، قاله سعيد بن جبير. والخامس : طاعة الله ، قاله قتادة.

وفي الذي أمروا بمصابرته قولان : أحدهما : العدوّ ، قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : الوعد الذي وعدهم الله : قاله عطاء ، والقرظيّ.

____________________________________

(٢٥٤) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٨٧ بدون إسناد. عن جابر وابن عباس وأنس وقتادة ، وعزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢٤٦ للثعلبي عن ابن عباس وقتادة.

ـ وخبر جابر ، أخرجه الطبري ٨٣٧٦ وفيه رواد بن الجراح ، وهو ضعيف. وورد بنحوه من حديث أنس أخرجه النسائي في «التفسير» ١٠٨ و ١٠٩ والبزار «كشف الأستار» ٣٨٢ والطبراني في «الأوسط» ٢٦٨٨ والواحدي ٢٨٨ ورجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع ٣ / ٣٨ ، وصلاة الرسول على النجاشي ثابتة في «الصحيحين» دون هذه القصة. انظر البخاري ١٣٣٣ ومسلم ٩٥١.

__________________

(١) قال أبو جعفر الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٥٦٠ (آل عمران : ١٩٩) : فإن قال قائل : فما أنت قائل في الخبر الذي رويت عن جابر وغيره : أنها نزلت في النجاشي وأصحابه؟

قيل : ذلك خبر في إسناده نظر. ولو كان صحيحا لا شك فيه ، لم يكن لما قلنا في معنى الآية بخلاف.

وقد تنزل الآية في الشيء ، ثم يعم بها كل من كان في معناه. فالآية وإن كانت نزلت في النجاشي ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشي ، حكما لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشي في اتباعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتصديق بما جاءهم به من عند الله ، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين ، التوراة والإنجيل.

٣٦٤

وفيما أمروا بالمرابطة عليه قولان : أحدهما : الجهاد للأعداء ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة في آخرين. قال ابن قتيبة : وأصل المرابطة والرّباط : أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم في الثّغر ، كلّ يعدّ لصاحبه. والثاني : أنه الصّلاة ، أمروا بالمرابطة عليها ، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن. وقد ذكرنا في (البقرة) معنى «لعلّ» ، ومعنى «الفلاح» (١).

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣١٣ : قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) الآية ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة ، فحضّ على الصبر على الطاعات وعن الشهوات ، والصبر الحبس. وأمر بالمصابرة ، فقيل : معناه مصابرة الأعداء ، وقيل : على الصلوات الخمس وقيل : إدامة مخالفة النفس عن الشهوات فهي تدعو وهو ينزع.

والأول قول الجمهور. ولذلك اختلفوا في معنى قوله (ورابطوا) فقال جمهور الأمة : رابطوا أعداءكم بالخيل أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم ومنه قوله تعالى (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) وفي الموطأ عن مالك بن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزّل شدة يجعل الله له بعدها فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين وإن الله تعالى يقول في كتابه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة ولم يكن في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو يرابط فيه ، واحتج بقوله عليه‌السلام : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ثلاثا. قال ابن عطية : والقول الصحيح هو أن الرباط الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل ، ثم كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا ، فارسا كان أو راجلا.

قلت : إن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها قد قال : الرباط ملازمة الثغور ، ومواظبة الصلاة أيضا.

والمرابطة عند العرب : العقد على الشيء حتى لا ينحل ، فيعود إلى ما كان صبر عنه ، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة. والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما. وقال ابن خويز منداد : للرباط حالتان : حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد. وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال ، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسترق.

٣٦٥

سورة النساء

مدنية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

اختلفوا في نزولها على قولين (١) : أحدهما : أنها مكّيّة ، رواه عطيّة عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ، وقتادة. والثاني : أنها مدنيّة ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وهو قول مقاتل. وقيل : إنها مدنيّة ، إلا آية نزلت بمكّة في عثمان بن طلحة حين أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة ، فيسلّمها إلى العبّاس ، وهي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (٢) ذكره الماورديّ.

قوله تعالى : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) فيه قولان : أحدهما : أنه بمعنى الطّاعة ، قاله ابن عباس. والثاني : بمعنى الخشية. قاله مقاتل. والنّفس الواحدة : آدم ، وزوجها حوّاء ، و «من» في قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها) للتبعيض في قول الجمهور. وقال ابن بحر : «منها» ، أي : من جنسها.

واختلفوا أيّ وقت خلقت له ، على قولين : أحدهما : أنها خلقت بعد دخوله الجنّة ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس. والثاني : قبل دخوله الجنّة ، قاله كعب الأحبار ، ووهب ، وابن إسحاق. قال ابن عباس : لمّا خلق الله آدم ، ألقى عليه النّوم ، فخلق حوّاء من ضلع من أضلاعه اليسرى ، فلم تؤذه بشيء ، ولو وجد الأذى ما عطف عليها أبدا ، فلمّا استيقظ ؛ قيل : يا آدم ما هذه؟ قال : حوّاء.

قوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما) قال الفرّاء : بثّ : نشر ، ومن العرب من يقول : أبثّ الله الخلق ، ويقولون : بثثتك ما في نفسي ، وأبثثتك.

قوله تعالى : (الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والبرجمي ، عن أبي بكر ، عن عاصم.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٥ : هي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها). وهو الصحيح ، فإن في صحيح البخاري ـ ٤٩٩٣ ـ عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ تعني قد بنى بها. ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة. ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. والله أعلم.

(٢) النساء : ٥٨. وسيأتي الحديث أثناء تفسيرها.

٣٦٦

واليزيديّ ، وشجاع ، والجعفيّ ، وعبد الوارث ، عن أبي عمرو : «تسّاءلون» بالتشديد. وقرأ عاصم ، وحمزة والكسائيّ ، وكثير من أصحاب أبي عمرو عنه بالتخفيف. قال الزجّاج : الأصل : تتساءلون ، فمن قرأ بالتشديد. أدغم التّاء في السين ، لقرب مكان هذه من هذه ، ومن قرأ بالتخفيف ، حذف التاء الثانية لاجتماع التّاءين. وفي معنى «تساءلون به» ثلاثة أقوال : أحدها : تتعاطفون به ، قاله ابن عباس. والثاني : تتعاقدون ، وتتعاهدون به. قاله الضّحّاك ، والرّبيع. والثالث : تطلبون حقوقكم به ، قاله الزجّاج.

فأما قوله «والأرحام» فالجمهور على نصب الميم على معنى : واتّقوا الأرحام أن تقطعوها ، وفسّرها على هذا ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسّدّيّ ، وابن زيد. وقرأ الحسن ، وقتادة ، والأعمش ، وحمزة بخفض الميم على معنى : تساءلون به وبالأرحام ، وفسّرها على هذا الحسن ، وعطاء والنّخعيّ. وقال الزجّاج : الخفض في «الأرحام» خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشّعر ، وخطأ في الدّين ، لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

(٢٥٥) «لا تحلفوا بآبائكم» ، وذهب إلى نحو هذا الفرّاء ، وقال ابن الأنباريّ : إنما أراد ، حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت عادتهم به ، فالمعنى : الذي كنتم تساءلون به وبالأرحام في الجاهليّة. قال أبو عليّ : من جرّ ، عطف على الضّمير المجرور بالباء ، وهو ضعيف في القياس ، قليل في الاستعمال ، فترك الأخذ به أحسن.

فأما الرّقيب ، فقال ابن عباس ، ومجاهد : الرّقيب : الحافظ. وقال الخطّابيّ : هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء ، وهو في نعوت الآدميين الموكّل بحفظ الشيء ، المترصّد له ، المتحرّز عن الغفلة فيه ، يقال منه : رقبت الشيء أرقبه رقبة.

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢))

قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ).

(٢٥٦) سبب نزولها : أنّ رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلمّا بلغ ، طلب ماله فمنعه ، فخاصمه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت ، قاله سعيد بن جبير.

والخطاب بقوله تعالى : «وآتوا» للأولياء والأوصياء. قال الزجّاج : وإنما سمّوا يتامى بعد البلوغ ، بالاسم الذي كان لهم ، وقد كان يقال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يتيم أبي طالب.

قوله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ، قرأ ابن محيصن : «تبدّلوا» بتاء واحدة. ثمّ في معنى الكلام قولان : أحدهما : أنه إبدال حقيقة ، ثمّ فيه قولان : أحدهما : أنه أخذ الجيّد ، وإعطاء الرّديء

____________________________________

(٢٥٥) صحيح. أخرجه البخاري ٣٨٣٦ و ٦٦٤٨ ومسلم ١٦٤٦ وأحمد ٢ / ٢٠ ـ ٤٢ ـ ٧٦ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله ، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال : لا تحلفوا بآبائكم». وانظر «تفسير القرطبي» ١٩٩١ بتخريجنا.

(٢٥٦) عزاه السيوطي في «الدر» ٢ / ٢٠٧ لابن أبي حاتم عن ابن جبير ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٩١ بدون إسناد عن مقاتل والكلبي وعزاه ابن حجر في «تخريج الكشاف» ١٩٩٩ للثعلبي وقال : وسنده إليهما مذكور أول الكتاب ـ أي كتاب الثعلبي ـ وسكت الحافظ عليه. وهو معضل ، والكلبي متروك متهم ، ومقاتل إن كان ابن سليمان ، فهو كذاب ، وإن كان ابن حيان ، فإنه صدوق فيه ضعف وقد روى مناكير كثيرة.

٣٦٧

مكانه ، قاله سعيد بن المسيّب ، والضّحّاك ، والنّخعيّ ، والزّهريّ ، والسّدّيّ. قال السّدّيّ : كان أحدهم يأخذ الشّاة السّمينة من غنم اليتيم ، ويجعل مكانها المهزولة ، ويأخذ الدّراهم الجياد ، ويطرح مكانها الزّيوف. والثاني : أنه الرّبح على اليتيم ، واليتيم غرّ لا علم له ، قاله عطاء. والقول الثاني : أنه ليس بإبدال حقيقة ، وإنّما هو أخذه مستهلكا ، ثمّ فيه قولان : أحدهما : أنهم كانوا لا يورّثون النساء والصّغار ، وإنما يأخذ الميراث الأكابر من الرّجال ، فنصيب الرّجل من الميراث طيّب ، وما أخذه من حقّ اليتيم خبيث ، هذا قول ابن زيد. والثاني : أنه أكل مال اليتيم بدلا من أكل أموالهم ، قاله الزجّاج.

و «إلى» بمعنى «مع» والحوب : الإثم. وقرأ الحسن ، وقتادة ، والنّخعيّ بفتح الحاء. قال الفرّاء : أهل الحجاز يقولون : حوب بالضّم ، وتميم يقولونه بالفتح. قال ابن الأنباريّ : وقال الفرّاء : المضموم الاسم ، والمفتوح المصدر. قال ابن قتيبة : وفيه ثلاث لغات : حوب ، وحوب ، وحاب.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣))

قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) اختلفوا في تنزيلها وتأويلها على ستة أقوال :

أحدها : أنّ القوم كانوا يتزوّجون عددا كثيرا من النّساء في الجاهليّة ، ولا يتحرّجون من ترك العدل بينهنّ ، وكانوا يتحرّجون في شأن اليتامى ، فقيل لهم بهذه الآية : احذروا من ترك العدل بين النّساء ، كما تحذرون من تركه في اليتامى. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير والضّحّاك ، وقتادة ، والسّدّيّ ومقاتل. والثاني : أنّ أولياء اليتامى كانوا يتزوّجون النّساء بأموال اليتامى ، فلمّا كثر النّساء ، مالوا على أموال اليتامى ، فقصروا على الأربع حفظا لأموال اليتامى. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضا ، وعكرمة. والثالث : أنّ معناها : وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في صدقات اليتامى إذا نكحتموهنّ ، فانكحوا سواهنّ من الغرائب اللواتي أحلّ الله لكم ، وهذا المعنى مرويّ عن عائشة. والرابع : أنّ معناها : وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في نكاحهنّ ، وحذرتم سوء الصّحبة لهنّ ، وقلّة الرّغبة فيهنّ ، فانكحوا غيرهنّ ، وهذا المعنى مرويّ عن عائشة أيضا ، والحسن. والخامس : أنهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى ، فأمروا بالتّحرّج من الزّنى أيضا ، وندبوا إلى النّكاح الحلال ، وهذا المعنى مرويّ عن مجاهد. والسادس : أنّهم تحرّجوا من نكاح اليتامى ، كما تحرّجوا من أموالهم ، فرخّص الله لهم بهذه الآية ، وقصرهم على عدد يمكن العدل فيه ، فكأنّه قال : وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهنّ ، فانكحوهنّ ، ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا ، فإن خفتم أن لا تعدلوا فيهنّ ، فواحدة ، وهذا المعنى مرويّ عن الحسن (١).

__________________

(١) قال أبو جعفر الطبري رحمه‌الله في تفسيره ٣ / ٥٧٧ (النساء : ٣) : وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية ، قول من قال : تأويلها : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) فكذلك خافوا في النساء ، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن ، من واحدة إلى الأربع. فإن خفتم الجور في الواحدة أيضا ، فلا تنكحوها ، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم ، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن». وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حق وخلطها بغيرها من

٣٦٨

قال ابن قتيبة : ومعنى قوله : وإن خفتم ، أي : فإن علمتم أنّكم لا تعدلون بين اليتامى. يقال : أقسط الرّجل : إذا عدل ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(٢٥٧) المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة.

ويقال قسط الرجل : إذا جار ، ومنه قول الله (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً).

وفي معنى العدل في اليتامى قولان : أحدهما : في نكاح اليتامى. والثاني : في أموالهم.

قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) أي : ما حلّ لكم. قال ابن جرير : وأراد بقوله تعالى : ما طاب لكم ، الفعل دون أعيان النّساء ، ولذلك قال : «ما» ولم يقل : «من» واختلفوا : هل النّكاح من اليتامى ، أو من غيرهنّ؟ على قولين قد سبقا.

قوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ). قال الزجّاج : هو بدل من «ما طاب لكم» ومعناه : اثنتين اثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا. وإنّما خاطب الله العرب بأفصح اللغات ، وليس من شأن البليغ أن يعبّر في العدد عن التّسعة باثنتين ، وثلاث ، وأربع ، لأنّ التسعة قد وضعت لهذا العدد ، فيكون عيّا في الكلام. وقال ابن الأنباريّ : هذه الواو معناها التّفرّق ، وليست جامعة ، فالمعنى : فانكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى ، وانكحوا ثلاث في غير الحال الأولى ، وانكحوا رباع في غير الحالين. وقال القاضي أبو يعلى : الواو هاهنا لإباحة أيّ الأعداد شاء ، لا للجمع ، وهذا العدد إنّما هو للأحرار ، لا للعبيد ، وهو قول أبي حنيفة والشّافعيّ. وقال مالك : هم كالأحرار. ويدلّ على قولنا : أنّه قال : فانكحوا ، فهذا منصرف إلى من يملك النّكاح ، والعبد لا يملك ذلك بنفسه ، وقال في سياقها (فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، والعبد لا ملك له ، فلا يباح له الجمع إلا بين اثنتين.

قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ) فيه قولان : أحدهما : علمتم. والثاني : خشيتم.

قوله تعالى : (أَلَّا تَعْدِلُوا) قال القاضي أبو يعلى : أراد العدل في القسم بينهنّ.

قوله تعالى : (فَواحِدَةً) أي : فانكحوا واحدة ، وقرأ الحسن ، والأعمش ، وحميد : «فواحدة» بالرّفع ، المعنى ، فواحدة تقنع.

قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يعني : السّراريّ. قال ابن قتيبة : معنى الآية : فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم ، فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النّساء إذا نكحتموهنّ ، فقصرهم على أربع ، ليقدروا على العدل ، ثم قال : فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هؤلاء الأربع ، فانكحوا واحدة ، واقتصروا على ملك اليمين.

قوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى) أي : أقرب. وفي معنى (تَعُولُوا) ثلاثة أقوال : أحدها : تميلوا ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وإبراهيم ، وقتادة ، والسّدّيّ ، ومقاتل ، والفرّاء. وقال

____________________________________

(٢٥٧) صحيح. أخرجه مسلم ١٨٢٧ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

__________________

الأموال. ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرجوا فيه ، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرج في أمر النساء مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى.

٣٦٩

أبو مالك ، وأبو عبيدة ، تجوروا. قال ابن قتيبة ، والزجّاج : تجوروا وتميلوا بمعنى واحد. واحتكم رجلان من العرب إلى رجل ، فحكم لأحدهما ، فقال المحكوم عليه : إنّك والله تعول عليّ ، أي تميل وتجور. والثاني : تضلّوا ، قاله مجاهد. والثالث : تكثر عيالكم ، قال ابن زيد ، ورواه أبو سليمان الدّمشقيّ في «تفسيره» عن الشّافعيّ ، وردّه الزجّاج ، فقال : أهل اللغة يقولون : هذا القول خطأ ، لأنّ الواحدة يعولها ، وإباحة ملك اليمين أزيد في العيال من أربع.

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))

قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين :

أحدهما : أنّهم الأزواج ، وهو قول الجمهور ، واحتجّوا بأن الخطاب للنّاكحين قد تقدّم ، وهذا معطوف عليه ، وقال مقاتل : كان الرجل يتزوّج بلا مهر ، فيقول : أرثك وترثيني ، فتقول المرأة : نعم ، فنزلت هذه الآية.

والثاني : أنه متوجّه إلى الأولياء ثم فيه قولان : أحدهما : أن الزّوج كان إذا زوج أيّمة حاز صداقها دونها ، فنهوا بهذه الآية ، هذا قول أبي صالح واختاره الفرّاء ، وابن قتيبة. والثاني : أنّ الرجل كان يعطي الرجل أخته ويأخذ أخته مكانها من غير مهر ، فنهوا عن هذا بهذه الآية ، رواه أبو سليمان التّيميّ عن بعض أشياخه.

قال ابن قتيبة : والصدقات : المهور ، واحدها : صدقة.

وفي قوله تعالى : (نِحْلَةً) أربعة أقوال : أحدها : أنها بمعنى الفريضة ، قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد ومقاتل. والثاني : أنها الهبة والعطية ، قاله الفراء. قال ابن الأنباريّ : كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئا من مهورهنّ ، فلما فرض الله لهنّ المهر ، كان نحلة من الله ، أي : هبة للنساء ، فرضا على الرّجال. وقال الزجّاج : هو هبة من الله للنّساء. قال القاضي أبو يعلى : وقيل : إنما سمي المهر : نحلة ، لأن الزّوج لا يملك بدله شيئا ، لأن البضع بعد النّكاح في ملك المرأة ، ألا ترى أنّها لو وطئت بشبهة ، كان المهر لها دون الزّوج ، وإنما الذي يستحقّه الزوج الاستباحة ، لا الملك. والثالث : أنها العطيّة بطيب نفس ، فكأنه قال : لا تعطوهنّ مهورهنّ وأنتم كارهون ، قاله أبو عبيدة. والرابع : أنّ معنى «النّحلة» : الدّيانة ، فتقديره : وآتوهنّ صدقاتهنّ ديانة ، يقال : فلان ينتحل كذا ، أي : يدين به ، ذكره الزجّاج عن بعض العلماء.

قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) يعني : النّساء المنكوحات. وفي (لَكُمْ) قولان : أحدهما : أنه يعني الأزواج. والثاني : الأولياء. و «الهاء» في (مِنْهُ) كناية عن الصّداق ، قال الزّجّاج : و (مِنْهُ) هاهنا للجنس ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) معناه : فاجتنبوا الرّجس الذي هو وثن ، فكأنه قال : كلوا الشيء الذي هو مهر ، فيجوز أن يسأل الرجل المهر كلّه. و (نَفْساً) : منصوب على التمييز.

فالمعنى : فإن طابت أنفسهنّ لكم بذلك ، فكلوه هنيئا مريئا. وفي الهنيء ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ما تؤمن عاقبته. والثاني : ما أعقب نفعا وشفاء. والثالث : أنه الذي لا ينغّصه شيء. وأما «المريء» فيقال : مرئ الطّعام : إذا انهضم ، وحمدت عاقبته.

٣٧٠

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥))

قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) ، المراد بالسّفهاء خمسة أقوال : أحدها : أنهم النّساء ، قاله ابن عمر. والثاني : النّساء والصّبيان ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة ، والضّحّاك ، ومقاتل ، والفرّاء ، وابن قتيبة. وعن الحسن ومجاهد كالقولين. والثالث : الأولاد ، قاله أبو مالك ، وهذه الأقوال الثلاثة مرويّة عن ابن عباس ، وروي عن الحسن ، قال : هم الأولاد الصّغار. والرابع : اليتامى ، قاله عكرمة ، وسعيد بن جبير في رواية. قال الزجّاج : ومعنى الآية : ولا تؤتوا السّفهاء أموالهم ، بدليل قوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) وإنّما قال : «أموالكم» ذكرا للجنس الذي جعله الله أموالا للنّاس. وقال غيره : أضافها إلى الولاة ، لأنهم قوّامها. والخامس : أن القول على إطلاقه ، والمراد به كلّ سفيه يستحقّ الحجر عليه ، ذكره ابن جرير ، وأبو سليمان الدّمشقيّ ، وغيرهما ، وهو ظاهر الآية.

وفي قوله تعالى : (أَمْوالَكُمُ) قولان : أحدهما : أنه أموال اليتامى. والثاني : أموال السّفهاء.

قوله تعالى : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) قرأ الحسن : «اللاتي جعل الله لكم قواما». وقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو عمرو : «قياما» بالألف ، وقرأ نافع ، وابن عامر : «قيّما» بغير ألف. قال ابن قتيبة : قياما وقواما بمنزلة واحدة ، تقول : هذا قوام أمرك وقيامه ، أي : ما يقوم به أمرك. وذكر أبو عليّ الفارسيّ أن «قواما» و «قياما» و «قيّما» ، بمعنى القوام الذي يقيم الشّأن ، قال : وليس قول من قال «القيم» هاهنا : جمع «قيمة» بشيء.

قوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) أي : منها. وفي «القول المعروف» ثلاثة أقوال : أحدها : العدة الحسنة ، قاله ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، ومقاتل. والثاني : الرّدّ الجميل ، قاله الضّحّاك. والثالث : الدّعاء ، كقولك : عافاك الله ، قاله ابن زيد.

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))

قوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى).

(٢٥٨) سبب نزولها أنّ رجلا ، يقال له : رفاعة ، مات وترك ولدا صغيرا ، يقال له : ثابت ، فوليه عمّه ، فجاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحلّ لي من ماله؟ ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت هذه الآية ، ذكر نحوه مقاتل.

والابتلاء : الاختبار. وبما ذا يختبرون؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم يختبرون في عقولهم ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ ، وسفيان ، ومقاتل. والثاني : يختبرون في عقولهم ودينهم ، قاله الحسن ، وقتادة. وعن مجاهد كالقولين. والثالث : في عقولهم ودينهم ، وحفظهم أموالهم ، ذكره الثّعلبيّ. قال القاضي أبو يعلى : وهذا الابتلاء قبل البلوغ.

____________________________________

(٢٥٨) ضعيف. أخرجه الطبري ٨٦٤٠ عن قتادة مرسلا ، وذكره الواحدي في «أسبابه» ٢٩٤ بدون إسناد.

٣٧١

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) قال ابن قتيبة : أي : بلغوا أن ينكحوا النّساء (فَإِنْ آنَسْتُمْ) أي : علمتم ، وتبيّنتم. وأصل : آنست : أبصرت. وفي الرّشد أربعة أقوال : أحدها : الصّلاح في الدّين ، وحفظ المال ، قاله ابن عباس ، والحسن. والثاني : الصّلاح في العقل ، وحفظ المال ، روي عن ابن عباس والسّدّيّ. والثالث : أنه العقل ، قاله مجاهد ، والنّخعيّ. والرابع : العقل ، والصّلاح في الدّين ، روي عن السّدّيّ.

فصل : واعلم أنّ الله تعالى علّق رفع الحجر عن اليتامى بأمرين : بالبلوغ والرّشد ، وأمر الأولياء باختبارهم ، فإذا استبانوا رشدهم ، وجب عليهم تسليم أموالهم إليهم.

والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء ، ثلاثة يشترك فيها الرّجال والنّساء : الاحتلام ، واستكمال خمس عشرة سنة ، والإنبات ، وشيئان يختصّان بالنّساء : الحيض والحمل (١).

قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) خطاب للأولياء ، قال ابن عباس : لا تأكلوها بغير حقّ.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٣٨ : واختلف العلماء في تأويل «رشدا» على أقوال ـ وذكرها ـ قال سعيد بن جبير والشعبي : إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده ، فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده. وهكذا قال الضّحاك ، وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم وإن شاخ لا يزول الحجر عنه ، وهو مذهب مالك وغيره. وقال أبو حنيفة : لا يحجر على الحرّ البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال ، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا. وبه قال زفر بن الهذيل ، وهو مذهب النخعي. واحتجوا في ذلك بما رواه أنس أن حبّان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته ضعف ، فقيل : يا رسول الله احجر عليه ، فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف. فاستدعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لا تبع». فقال : لا أصبر. فقال له : «فإذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا». قالوا : فلما سأله القوم الحجر عليه لما كان من تصرفه من الغبن ولم يفعل عليه‌السلام ، ثبت أن الحجر لا يجوز. وهذا لا حجة لهم فيه ، لأنه مخصوص بذلك ، فغيره بخلافه. وقال الشافعي : إن كان مفسدا لماله ودينه ، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه ، وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لماله فعلى وجهين : أحدهما يحجر عليه ، وهو اختيار أبي العباس بن شريح.

والثاني : لا حجر عليه ، وهو اختيار أبي إسحاق المروزيّ والأظهر من مذهب الشافعي. وإذا ثبت هذا فاعلم أن دفع المال يكون بشرطين : إيناس الرشد والبلوغ فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال ، كذلك نص الآية ، وهو رواية ابن وهب عن مالك. وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة. قال أبو حنيفة : لكونه جدّا وهذا يدل على ضعف قوله حسب ما تقدم وما ذا يعني كونه جدّا إذا كان غير جدّ ، أي بخت. إلا أن علماءنا شرطوا في الجارية دخول الزوج بها مع البلوغ ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد. ولم يره أبو حنيفة والشافعي. وفرّق علماؤنا بينهما بأن قالوا : الأنثى مخالفة للغلام لكونها محجوبة لا تعاني الأمور ولا تبرز لأجل البكارة فلذلك وقف فيها على وجود النكاح ، فيه تفهم المقاصد كلها. والذكر بخلافها ، فإنه بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشئه إلى بلوغه يحصل له الاختبار ، ويكمل عقله بالبلوغ ، فيحصل له الغرض. وما قاله الشافعي أصوب. ثم زاد علماؤنا فقالوا : لا بد بعد الدخول من مضي مدة من الزمان تمارس فيها الأحوال. قال ابن عربي : وذكر علماؤنا في تحديدها أقوالا عديدة : منها الخمسة الأعوام والستة والسبعة في ذات الأب ، وجعلوا في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي عليها عاما واحدا بعد الدخول وليس في هذا كله دليل ، وتحديد الأعوام عسير. والمقصود من هذا كله داخل تحت قوله تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) فتعين اعتبار الرشد ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد. فاعرفه وركّب عليه واجتنب التحكّم الذي لا دليل عليه.

٣٧٢

(وَبِداراً) تبادرون أكل المال قبل بلوغ الصّبيّ (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) بماله عن مال اليتيم.

وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال : أحدها : أنه الأخذ على وجه القرض ، وهذا مروي عن عمر ، وابن عباس ، وابن جبير ، وأبي العالية ، وعبيدة ، وأبي وائل ، ومجاهد ، ومقاتل. والثاني : الأكل بمقدار الحاجة من غير إسراف ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، والنّخعيّ ، وقتادة ، والسّدّيّ. والثالث : أنه الأخذ بقدر الأجرة إذا عمل لليتيم عملا ، روي عن ابن عباس ، وعائشة ، وهي رواية أبي طالب ، وابن منصور ، عن أحمد رضي الله عنه. والرابع : أنه الأخذ عند الضّرورة ، فإن أيسر قضاه ، وإن لم يوسر ، فهو في حلّ ، وهذا قول الشّعبيّ (١).

فصل : واختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أو منسوخة؟ على قولين :

أحدهما : محكمة ، وهو قول عمر ، وابن عباس ، والحسن ، والشّعبيّ ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وابن جبير ، والنّخعيّ ، وقتادة في آخرين. وحكمها عندهم أن الغنيّ ليس له أن يأكل من مال اليتيم شيئا ، فأما الفقير الذي لا يجد ما يكفيه ، وتشغله رعاية مال اليتيم عن تحصيل الكفاية ، فله أن يأخذ قدر كفايته بالمعروف من غير إسراف. وهل عليه الضّمان إذا أيسر؟ فيه قولان لهم : أحدهما : أنه لا ضمان عليه ، بل يكون كالأجرة له على عمله ، وهو قول الحسن ، والشّعبيّ ، والنّخعيّ ، وقتادة ، وأحمد بن حنبل. والثاني : إذا أيسر وجب عليه القضاء ، روي عن عمر وغيره ، وعن ابن عباس أيضا كالقولين. والقول الثاني : أنها منسوخة بقوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ*) (٢) وهذا مروي عن ابن عباس ولا يصح.

قوله تعالى : (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) قال القاضي أبو يعلى : هذا على طريق الاحتياط لليتيم ، والوليّ ، وليس بواجب ، فأما اليتيم ، فإنه إذا كانت عليه بيّنة ، كان أبعد من أن يدّعي عدم القبض ، وأما الوليّ ، فإنه تظهر أمانته ، ويسقط عنه اليمين عند إنكار اليتيم للدّفع.

وفي «الحسيب» ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الشهيد ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ ، ومقاتل. والثاني : أنه الكافي ، من قولك : أحسبني هذا الشيء ، أي كفاني ، والله حسيبي وحسيبك ، أي : وكافينا ، أي يكون حكما بيننا كافيا ، قال الشاعر (٣) :

ونقفي وليد الحي إن كان جائعا

ونحسبه إن كان ليس بجائع

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٤٦٤ : قال الفقهاء : له أن يأكل من أقل الأمرين أجرة مثله أو قدر حاجته. واختلفوا هل يردّ إذا أيسر؟ على قولين : أحدهما : لا لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا ؛ وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي. لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل. قال أحمد ؛ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس لي مال ولي يتيم؟ فقال : «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك ـ أو قال ـ تفدي مالك. والثاني : نعم لأن مال اليتيم على الحظر ؛ وإنما أبيح للحاجة فيردّ بدله كأكل مال الغير للمضطر لا عند الحاجة.

(٢) النساء : ٢٩.

(٣) في «اللسان» : قفي ؛ نسب البيت لامرأة من بني قشير. ونقفيه أي نؤثره بالقفية ؛ وهي ما يؤثر به الصبي والضيف.

٣٧٣

أي : نعطيه ما يكفيه حتى يقول : حسبي. قاله ابن قتيبة والخطّابيّ. والثالث : أنه المحاسب ، فيكون في مذهب جليس ، وأكيل ، وشريب ، حكاه ابن قتيبة والخطّابيّ.

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧))

قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ).

(٢٥٩) سبب نزولها أنّ أوس بن ثابت الأنصاريّ توفي وترك ثلاث بنات وامرأة ، فقام رجلان من بني عمّه ، يقال لهما : قتادة ، وعرفطة (١) فأخذوا ماله ، ولم يعطيا امرأته ، ولا بناته شيئا ، فجاءت امرأته إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت له ذلك ، وشكت الفقر ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس. وقال قتادة : كانوا لا يورّثون النساء ، فنزلت هذه الآية.

والمراد بالرجال : الذّكور ، وبالنّساء : الإناث ، صغارا كانوا أو كبارا. و «النصيب» : الحظّ من الشيء ، وهو مجمل في هذه الآية ، ومقداره معلوم من موضع آخر ، وذلك مثل قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) (٢) وقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) (٣). والمفروض : الذي فرضه الله ، وهو آكد من الواجب.

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨))

____________________________________

(٢٥٩) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٩٥ بدون إسناد ، وأخرجه الطبري ٨٦٥٨ عن عكرمة مرسلا لكن باختصار. ونسبه السيوطي في «الدر» ٢ / ٢١٧ لأبي الشيخ عن ابن عباس ، وكذا ذكره الواحدي في «الوسيط» ٢ / ١٤ عن ابن عباس في رواية الكلبي باختصار ، وبدون إسناد.

ـ وورد مختصرا من حديث جابر وسيأتي أخرجه أبو نعيم وأبو موسى كما في «الإصابة» ٤ / ٤٨٧ قال أبو موسى : كذا قال : ليس لهما شيء ، وأراد ليس يعطيان شيئا من ميراث أبيهما.

قال ابن حجر : قلت : راويه عن سفيان هو إبراهيم بن هراسة ضعيف ، وقد خالفه بشر بن المفضل عن عبد الله بن محمد عن جابر أخرجه أبو داود من طريقه قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواق ، فجاءت المرأة بابنتين لها فقالت : يا رسول الله ، هاتان بنتا ثابت بن قيس قتل معك يوم أحد ، وقد استفاء عمّهما مالهما وميراثهما كله فلم يدع لهما مالا إلا أخذه ، فما ترى يا رسول الله؟ فو الله لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقضي الله في ذلك» ونزلت سورة النساء (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ادعوا لي المرأة وصاحبها» فقال لعمهما «أعطهما الثلثين ، وأعط أمهما الثمن ، وما بقي فلك» قال أبو داود : أخطأ بشر فيه إنما هما ابنتا سعد بن الربيع ، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة. وانظر «الإصابة في تمييز الصحابة» ٤ / ٤٨٧ ـ ٤٨٨ ترجمة أم كجّة ، وهو عند أبي داود ٢٨٩١ و ٢٨٩٢ والترمذي ٢٠٩٢ وابن ماجة ٢٧٢٠ وأحمد ٣ / ٣٥٢ والحاكم ٤ / ٣٣٤ والواحدي ٢٩٨ والبيهقي ٦ / ٢٢٩ من حديث جابر بنحو سياق المصنف ، وليس فيه تسمية المرأة بل فيه أن امرأة سعد بن الربيع ، والحديث حسن الإسناد.

__________________

(١) في «أسباب النزول للواحدي» ٢٩٥ سويد وعرفجة ، وفي «الدرّ المنثور» ٢ / ٢١٧.

(٢) الأنعام : ١٤١.

(٣) التوبة : ١٠٣.

٣٧٤

قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) في هذه القسمة قولان : أحدهما : قسمة الميراث بعد موت الموروث ، فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين ، وبهذا قال الأكثرون ، منهم ابن عباس ، والحسن ، والزّهريّ. والثاني : أنها وصيّة الميّت قبل موته ، فيكون مأمورا. بأن يعيّن لمن لا يرثه شيئا ، روي عن ابن عباس ، وابن زيد. قال المفسّرون : والمراد بأولي القربى : الذين لا يرثون ، (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي : أعطوهم منه ، وقيل : أطعموهم ، وهذا على الاستحباب عند الأكثرين ، وذهب قوم إلى أنه واجب في المال ، فإن كان الورثة كبارا ، تولّوا إعطاءهم ، وإن كانوا صغارا تولّى ذلك عنهم وليّ مالهم ، فروي عن عبيدة أنه قسم مال أيتام ، فأمر بشاة ، فاشتريت من مالهم ، وبطعام فصنع ، وقال : لو لا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي ، وكذلك فعل محمّد بن سيرين في أيتام وليهم ، وكذلك روي عن مجاهد : أن ما تضمّنته هذه الآية واجب.

وفي «القول المعروف» أربعة أقوال : أحدها : أن يقول لهم الوليّ حين يعطيهم : خذ بارك الله فيك ، رواه سالم الأفطس ، عن ابن جبير. والثاني : أن يقول الوليّ : إنه مال يتامى ، وما لي فيه شيء ، رواه أبو بشر عن ابن جبير ، وفي رواية أخرى عن ابن جبير ، قال : إن كان الميت أوصى لهم بشيء أنفذت لهم وصيّتهم ، وإن كان الورثة كبارا رضخوا لهم ، وإن كانوا صغارا ، قال وليّهم : إني لست أملك هذا المال ، إنّما هو للصّغار ، فذلك القول المعروف. والثالث : أنه العدة الحسنة ، وهو أن يقول لهم أولياء الورثة : إنّ هؤلاء الورثة صغار ، فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقّكم. رواه عطاء بن دينار ، عن ابن جبير. والرابع : أنهم يعطون من المال ، ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرّقيق : بورك فيكم ، وهذا القول المعروف. قال الحسن والنّخعي : أدركنا الناس يفعلون هذا.

فصل : اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين :

أحدهما : أنها محكمة ، وهو قول أبي موسى الأشعريّ ، وابن عباس ، والحسن ، وأبي العالية ، والشّعبيّ ، وعطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والنّخعيّ ، والزّهريّ ، وقد ذكرنا أنّ ما تضمّنته من الأمر مستحبّ عند الأكثرين ، وواجب عند بعضهم.

والقول الثاني : أنها منسوخة ، نسخها قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) رواه مجاهد عن ابن عباس ، وهو قول سعيد بن المسيّب ، وعكرمة ، والضّحّاك ، وقتادة في آخرين (١).

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٤٨ : بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة ، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا ، إن كان المال كثيرا ، والاعتذار إليهم إذا كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ. وإن كان عطاء من قليل ففيه أجر عظيم ، درهم يسبق مائة ألف فالآية على هذا القول محكمة قاله ابن عباس وامتثل ذلك جماعة من التابعين : عروة بن الزبير وغيره ، وأمر به أبو موسى الأشعري. وروي عن ابن عباس أنها منسوخة نسخها قوله تعالى (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) والأول أصح. فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم ، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم. قال ابن جبير : ضيّع الناس هذه الآية. قال الحسن : هي ثابتة ـ محكمة ـ ولكن الناس شحّوا. وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) قال : هي محكمة وليست بمنسوخة. وفي رواية قال : إن ناسا زعموا أن هذه الآية نسخت ، لا والله ما نسخت! لكنها مما تهاون بها ، هما واليان : وال يرث ، وذلك الذي يرزق ، ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف ، ويقول : لا أمل.

٣٧٥

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩))

قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) اختلفوا في المخاطب بهذه الآية على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه خطاب للحاضرين عند الموصي. وفي معنى الآية على هذا القول قولان :

أحدهما : وليخش الذين يحضرون موصيا في ماله أن يأمروه بتفريقه فيمن لا يرثه ، فيفرّقه ويترك ورثته ، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ ، ومقاتل.

والثاني : على الضّدّ من هذا القول ، وهو أنه نهي لحاضري الموصي أن يمنعوه من الوصيّة لأقاربه ، وأن يأمروه بالاقتصار على ولده ، وهذا قول مقسم ، وسليمان التّيميّ في آخرين.

والقول الثاني : أنه خطاب لأولياء اليتامى ، متعلّق بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً) فمعنى الكلام : أحسنوا فيمن ولّيتم من اليتامى ، كما تحبّون أن يحسن ولاة أولادكم بعدكم ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، وابن السّائب.

والثالث : أنه خطاب للأوصياء أمروا بأداء الوصيّة على ما رسم الموصي ، وأن تكون الوجوه التي عيّنها مرعيّة بالمحافظة كرعي الذّرّية الضّعاف من غير تبديل ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (١) فأمر الوصي ، بهذه الآية إذا وجد ميلا عن الحقّ أن يستعمل قضيّة الشّرع ، ويصلح بين الورثة ، ذكره شيخنا عليّ بن عبيد الله ، وغيره في «النّاسخ والمنسوخ» ، فعلى هذا تكون الآية منسوخة ، وعلى ما قبله تكون محكمة.

و «الضّعاف» : جمع ضعيف ، وهم الأولاد الصّغار ، وقرأ حمزة : ضعافا ، بإمالة العين.

قال أبو عليّ : ووجهها : أنّ ما كان على «فعال» وكان أوّله حرفا مستعليا مكسورا ، نحو ضعاف ، وقفاف ، وخفاف ؛ حسنت فيه الإمالة ، لأنه قد يصعّد بالحرف المستعلي ، ثم يحدر بالكسر ، فيستحبّ أن لا يصعّد بالتّفخيم بعد التّصوّب بالكسر ، فيجعل الصّوت على طريقة واحدة ، وكذلك قرأ حمزة : (خافُوا عَلَيْهِمْ) بإمالة الخاء ، والإمالة هاهنا حسنة ، وإن كانت «الخاء» حرفا مستعليا ، لأنه يطلب

__________________

لك أن أعطيك. قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية ، فإن لم تكن وصية وصى لهم من الميراث. قال النحاس : فهذا أحسن ما قيل في الآية ، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير والشكر لله عزوجل. وقالت طائفة : هذا الرضخ ـ العطاء القليل ـ واجب على جهة الفرض ، تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم ، كالماعون والثوب الخلق وما خف. حكى هذا القول ابن عطية والقشيري. والصحيح أن هذا على الندب ، لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث ، لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول. وذلك مناقض للحكمة ، وسبب للتنازع والتقاطع.

(١) البقرة : ١٨٢.

٣٧٦

الكسرة التي في «خفت» فينحو نحوها بالإمالة. والقول السّديد : الصّواب.

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) في سبب نزولها قولان : أحدهما : أنّ رجلا من غطفان ، يقال له : مرثد بن زيد ، ولي مال ابن أخيه ، فأكله ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل بن حيّان (١). والثاني : أن حنظلة بن الشمردل ولي يتيما ، فأكل ماله ، فنزلت هذه الآية ، ذكره بعض المفسرين. وإنما خصّ الأكل بالذّكر ، لأنه معظم المقصود ، وقيل : عبّر به عن الأخذ.

قال سعيد بن جبير : ومعنى الظّلم : أن يأخذه بغير حقّ. وأما ذكر «البطون» فللتوكيد ، كما تقول : نظرت بعيني ، وسمعت بأذني. وفي المراد بأكلهم النّار قولان :

أحدهما : أنهم سيأكلون يوم القيامة نارا ، فسمّي الأكل بما يؤول إليه أمرهم ، كقوله تعالى : (أَعْصِرُ خَمْراً) (٢) قال السّدّيّ : يبعث آكل مال اليتيم ظلما ، ولهب النار يخرج من فيه ، ومن مسامعه ، وأذنيه ، وأنفه ، وعينيه ، يعرفه من رآه يأكل مال اليتيم.

والثاني : أنه مثل. معناه : يأكلون ما يصيرون به إلى النّار ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) (٣) أي : رأيتم أسبابه.

قوله تعالى : (وَسَيَصْلَوْنَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ، «وسيصلون» بفتح الياء ، وقرأ الحسن ، وابن عامر ، بضمّ الياء ، ووافقهما ابن مقسم ، إلا أنه شدّد. والمعنى : سيحرّقون بالنّار ، ويشوون. والسّعير : النار المستعرة ، واستعار النّار : توقّدها.

فصل : وقد توهّم قوم لا علم لهم بالتفسير وفقهه ، أنّ هذه الآية منسوخة ، لأنهم سمعوا أنها لمّا نزلت ، تحرّج القوم عن مخالطة اليتامى ، فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) (٤) وهذا غلط ، وإنما ارتفع عنهم الحرج بشرط قصد الإصلاح ، لا على إباحة الظّلم.

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١))

قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

__________________

(١) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٩٦ عن مقاتل بن حيان بدون إسناد ، فهذه علة ، ومقاتل ذو مناكير ، وخبره معضل ، فهو لا شيء.

(٢) يوسف : ٣٦.

(٣) آل عمران : ١٤٣.

(٤) البقرة : ٢٢٠.

٣٧٧

(٢٦٠) أحدها : أنّ جابر بن عبد الله مرض ، فعاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : كيف أصنع في مالي يا رسول الله ، فنزلت هذه الآية ، رواه البخاريّ ومسلم.

(٢٦١) والثاني : أنّ امرأة جاءت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بابنتين لها ، فقالت : يا رسول الله قتل أبو هاتين معك يوم أحد ، وقد استفاء (١) عمّهما مالهما ، فنزلت ، روي عن جابر بن عبد الله أيضا.

(٢٦٢) والثالث : أنّ عبد الرحمن أخا حسّان بن ثابت مات ، وترك امرأة ، وخمس بنات ، فأخذ ورثته ماله ، ولم يعطوا امرأته ، ولا بناته شيئا ، فجاءت امرأته تشكو إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول السّدّيّ.

قال الزجّاج : ومعنى يوصيكم : يفرض عليكم ، لأن الوصيّة منه فرض (٢). وقال غيره : إنما ذكره بلفظ الوصية لأمرين : أحدهما : أن الوصيّة تزيد على الأمر ، فكانت آكد. والثاني : أن في الوصيّة حقا للموصي ، فدلّ على تأكيد الحال بإضافته إلى حقّه. وقرأ الحسن. وابن أبي عبلة : «يوصّيكم» بالتّشديد.

قوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) يعني ، للابن من الميراث مثل حظّ الأنثيين. ثم ذكر نصيب الإناث من الأوّل فقال (فَإِنْ كُنَ) يعني : البنات (نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) وفي قوله تعالى : (فَوْقَ) قولان : أحدهما : أنها زائدة ، كقوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ). والثاني : أنها بمعنى الزّيادة. قال القاضي أبو يعلى : إنما نصّ على ما فوق الاثنتين ، والواحدة ، ولم ينصّ على الاثنتين ، لأنه لمّا جعل لكلّ واحدة مع الذّكر الثلث ، كان لها مع الأنثى الثلث أولى.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) قرأ الجمهور بالنّصب ، وقرأ نافع بالرّفع ، على معنى : وإن وقعت ، أو وجدت واحدة.

____________________________________

(٢٦٠) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٧٧ ومسلم ١٦١٦ وأبو داود ٢٨٨٦ والترمذي ٣٠١٥ وابن ماجة ١٤٣٦ و ٢٧٢٨ واستدركه الحاكم ٢ / ٣٠٣ من حديث جابر.

(٢٦١) حسن. أخرجه أبو داود ٢٨٩١ و ٢٨٩٢ والترمذي ٢٠٩٢ وابن ماجة ٢٧٢٠ وأحمد ٣ / ٣٥٢ والحاكم ٤ / ٣٣٤ والواحدي ٢٩٨ والبيهقي ٦ / ٢٢٩ من حديث جابر ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وهو حسن لأن مداره على عبد الله بن محمد بن عقيل ، وهو حسن الحديث. وانظر الحديث المتقدم برقم ٢٥٩ وانظر «تفسير الشوكاني» ٦٠٧ بتخريجنا.

(٢٦٢) ضعيف. أخرجه الطبري ٨٧٢٧ عن أسباط عن السدي مرسلا فهو ضعيف.

__________________

(١) في «اللسان» : الاستيفاء : استرجع حقهما من الميراث وجعله فيئا له.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٥٩ ـ ٦٠ : اعلم أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب :

منها الحلف ، والهجرة والمعاقدة. ثم نسخ على ما يأتي بيانه في هذه السورة. وأجمع العلماء على أن الأولاد إذا كان معهم من له فرض مسمّى أعطيه ، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين لقوله عليه‌السلام : «ألحقوا الفرائض بأهلها» رواه الأئمة. يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى وهي ستة ... والأسباب الموجبة لهذه الفروض بالميراث ثلاثة أشياء : نسب ثابت ونكاح منعقد ، وولاء عتاقة ... ولا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية ؛ فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات ، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره ، ثم الديون على مراتبها ثم يخرج من الثلث الوصايا ، وما كان في معناها على مراتبها أيضا ، ويكون الباقي ميراثا بين الورثة.

٣٧٨

قوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ) قال الزجّاج : أبواه تثنية أب وأبة ، والأصل في الأمّ أن يقال لها : أبة ، ولكن استغني عنها بأمّ ، والكناية في قوله «لأبويه» عن الميت وإن لم يجر له ذكر.

وقوله تعالى : (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) أي : إذا لم يخلّف غير أبوين ، فثلث ماله لأمّه ، والباقي للأب ، وإنما خصّ الأمّ بالذّكر ، لأنه لو اقتصر على قوله تعالى : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) ظنّ الظّانّ أن المال يكون بينهما نصفين ، فلما خصّها بالثلث ، دلّ على التفضيل.

وقرأ ابن كثير ، ونافع وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : (فَلِأُمِّهِ) و (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ*) (١) و (فِي أُمِّها) (٢) و (فِي أُمِّ الْكِتابِ) بالرّفع. وقرأ حمزة والكسائيّ كلّ ذلك بالكسر إذا وصلا ، وحجّتهما : أنهما أتبعا الهمزة ما قبلها ، من ياء أو كسرة.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) أي : مع الأبوين ، فإنّهم يحجبون الأم عن الثلث ، فيردّونها إلى السّدس ، واتّفقوا على أنّهم إذا كانوا ثلاثة إخوة ؛ حجبوا ، فإن كانا أخوين ، فهل يحجبانها؟ فيه قولان : أحدهما : يحجبانها عن الثلث ، قاله عمر ، وعثمان ، وعليّ ، وزيد ، والجمهور. والثاني : لا يحجبها إلا ثلاثة ، قاله ابن عباس ، واحتجّ بقوله : إخوة. والإخوة : اسم جمع ، واختلفوا في أقلّ الجمع ، فقال الجمهور : أقلّه ثلاثة ، وقال قوم : اثنان ، والأوّل : أصحّ. وإنما حجب العلماء الأمّ بأخوين لدليل اتّفقوا عليه ، وقد يسمّى الاثنان بالجمع ، قال الزجّاج : جميع أهل اللغة يقولون : إن الأخوين جماعة ، وحكى سيبويه أنّ العرب تقول : وضعا رحالهما ، يريدون : رحلي راحلتيهما.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) أي : هذه السّهام إنما تقسم بعد الوصيّة والدّين. وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر ، عن عاصم «يوصى بها» بفتح الصّاد في الحرفين. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «يوصي» فيهما بالكسر ، وقرأ حفص ، عن عاصم الأولى بالكسر ، والثانية بالفتح.

واعلم أن الدّين مؤخّر في اللفظ ، مقدّم في المعنى ، لأن الدّين حق عليه ، والوصيّة حق له ، وهما جميعا مقدّمان على حقّ الورثة إذا كانت الوصيّة في ثلث المال ، و «أو» لا توجب الترتيب ، إنما تدلّ على أن أحدهما إن كان ، فالميراث بعده ، وكذلك إن كانا.

قوله تعالى : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) فيه قولان : أحدهما : أنه النّفع في الآخرة ، ثمّ فيه قولان : أحدهما : أن الوالد إذا كان أرفع درجة من ولده ، رفع إليه ولده ، وكذلك الولد ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس. والثاني : أنه شفاعة بعضهم في بعض ، رواه عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس. والقول الثاني : أنه النّفع في الدّنيا ، قاله مجاهد. ثمّ في معناه قولان : أحدهما : أن المعنى : لا تدرون هل موت الآباء أقرب ، فينتفع الأبناء بأموالهم ، أو موت الأبناء ، فينتفع الآباء بأموالهم؟ قاله ابن بحر. والثاني : أن المعنى : أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النّفع ، حتى لا يدرى أيّهم أقرب نفعا ، لأنّ الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء ، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء ، ذكره القاضي أبو يعلى.

وقال الزجّاج : معنى الكلام : أن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيّهم أنفع لكم ، فتضعون الأموال على غير حكمة. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما يصلح

__________________

(١) الزمر : ٦.

(٢) القصص : ٥٩.

٣٧٩

خلقه ، (حَكِيماً) فيما فرض. وفي معنى «كان» ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناها : كان عليما بالأشياء قبل خلقها ، حكيما فيما يقدر تدبيره منها ، قاله الحسن. والثاني : أن معناها : لم يزل. قال سيبويه : كأنّ القوم شاهدوا علما وحكمة ، فقيل له : إنّ الله كان كذلك ، أي : لم يزل على ما شاهدتم ، ليس ذلك بحادث. والثالث : أن لفظة «كان» في الخبر عن الله عزوجل يتساوى ماضيها ومستقبلها ، لأن الأشياء عنده على حال واحدة ، ذكر هذه الأقوال الزجّاج.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢))

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) قرأ الحسن : «يورث» بفتح الواو ، وكسر الراء مع التّشديد. وفي الكلالة أربعة أقوال : أحدها : أنها ما دون الوالد والولد ، قاله أبو بكر الصّدّيق. وقال عمر بن الخطّاب : أتى عليّ حين وأنا لا أعرف ما الكلالة ، فإذا هو : من لم يكن له والد ولا ولد ، وهذا قول عليّ ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والزّهريّ ، وقتادة ، والفرّاء ، وذكر الزجّاج عن أهل اللغة ، أن «الكلالة» : من قولهم : تكلّله النّسب ، أي : لم يكن الذي يرثه ابنه ، ولا أباه. قال : والكلالة سوى الوالد والولد ، وإنما هو كالإكليل على الرّأس. وذكر ابن قتيبة عن أبي عبيدة أنه مصدر تكلّله النّسب : إذا أحاط به. والابن والأب : طرفان للرّجل. فإذا مات ، ولم يخلّفهما ، فقد مات عن ذهاب طرفيه ، فسمّي ذهاب الطّرفين : كلالة. والثاني : أن الكلالة : من لا ولد له ، رواه ابن عباس ، عن عمر بن الخطّاب ، وهو قول طاوس. والثالث : أن الكلالة : ما عدا الوالد ، قاله الحكم. والرابع : أن الكلالة : بنو العمّ الأباعد ، ذكره ابن فارس ، عن ابن الأعرابيّ (١).

واختلفوا على ما يقع اسم الكلالة على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه اسم للحيّ الوارث ، وهذا مذهب أبي بكر الصّدّيق ، وعامّة العلماء الذين قالوا : إن الكلالة من دون الوالد والولد ، فإنهم قالوا : الكلالة : اسم للورثة إذا لم يكن فيهم ولد ولا والد ، قال بعض الأعراب : مالي كثير ، ويرثني كلالة متراخ

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٤٧٠ : الكلالة مشتقة من الإكليل وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه كما روي عن أبي بكر أنه سئل عن الكلالة فقال : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه : الكلالة من لا ولد له ولا والد. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد وورد فيه حديث مرفوع. قال أبو الحسين بن اللبان : وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك وهو أنه من لا ولد له والصحيح عنه الأول ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد.

٣٨٠