زاد المسير في علم التفسير - ج ١

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ١

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
ISBN: 9953-27-016-3
الصفحات: ٦٠٦

١
٢

٣
٤

فهرس الموضوعات

الموضوع

الصفحة

مقدمة التحقيق.................................................................. ٧

خطبة الكتاب.................................................................. ١١

فصل في فضل علم التفسير...................................................... ١١

فصل في مدة نزول القرآن........................................................ ١٢

فصل الاستعاذة................................................................ ١٤

فصل في «بسم الله الرحمن الرحيم»............................................... ١٤

١ ـ تفسير سورة الفاتحة.......................................................... ١٧

٢ ـ تفسير سورة البقرة........................................................... ٢٤

٣ ـ تفسير سورة آل عمران..................................................... ٢٥٧

٤ ـ تفسير سورة النساء........................................................ ٣٦٦

٥ ـ تفسير سورة المائدة......................................................... ٥٠٥

٥

٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة التحقيق

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله ، أرسله على فترة من الرّسل ، وضلال من الناس ، ليخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الضلال إلى الهدى ، وأيّده بالمعجزات الباهرة والآيات الساطعة الدالّة على صدقه وصدق دعوته. ومن أهم تلك المعجزات التي أعزّ الله بها نبيّه ، وهذه الأمّة ، كتاب الله وكلامه المنزّل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ترجمة ابن الجوزي (١)

هو جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي القرشي التيميّ البكري الحنبليّ ، الواعظ ، ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصدّيق ، واشتهر بابن الجوزي نسبة إلى شرعة الجوز ، إحدى محالّ بغداد بالجانب الغربي ، وقيل : نسبة إلى جوزة كانت في دار جدّه السابع جعفر بن عبد الله بواسط.

ولد ابن الجوزي ببغداد سنة ٥٠٨ ه‍ وقيل سنة ٥١٠ ه‍ ، وقيل سنة ٥١٤ ه‍. ولما ترعرع حفظ القرآن وقرأه على جماعة بالروايات ، ثم طلب العلم على جمع كثير من العلماء.

وقد اشتغل بالوعظ وأوتي حظا عظيما وصيتا بعيدا فيه ، فكان يحضر مجالسه الملوك والوزراء والأئمة الكبار. وكان مجلسه لا ينقص عن ألوف كثيرة حتى قيل في بعض مجالسه : إنه حزر الجمع بمائة ألف.

__________________

(١) انظر عنه في : التكملة لوفيات النقلة ١ / ٣٩٤ ، ٣٩٥ رقم ٦٠٨ ، ومشيخة النعّال ١٤٠ ـ ١٤٢ ، ورحلة ابن جبير ١٩٦ ـ ٢٠٠ ، والتقييد لابن نقطة ٣٤٣ ، ٣٤٤ رقم ٤٢٢ ، ومرآة الزمان ج ٨ ق ٢ / ٤٨١ ـ ٥٠٢ ، ووفيات الأعيان ٣ / ١٤٠ ـ ١٤٢ رقم ٣٧٠ ، وتذكرة الحفاظ ٤ / ١٣٤٢ ، ١٣٤٨ ، وذيل طبقات الحنابلة ١ / ٣٩٩ ـ ٤٣٣ ، والوافي بالوفيات ١٨ / ١٨٦ ـ ١٩٤ رقم ٢٣ ، وتاريخ الإسلام للذهبي (٥٩١ ـ ٦٠٠) ص ص ٢٨٧ ـ ٣٠٥ رقم ٣٧١ ، وسير أعلام النبلاء له ٢١ / ٣٦٥ ـ ٣٨٤ رقم ١٩٢ ، وشذرات الذهب ٤ / ٣٢٩ ـ ٣٣١ ، ومعجم المؤلفين ٥ / ١٥٧ ، ١٥٨ ، ومعجم طبقات الحفاظ والمفسرين ١٠٩ رقم ١٠٦٣.

٧

قال الشيخ موفق الدين المقدسي : «كان ابن الجوزي إمام عصره في الوعظ ، وصنّف في فنون العلم تصانيف حسنة ، وكان صاحب فنون ، وكان يدرّس الفقه ويصنّف فيه ، وكان حافظا للحديث وصنّف فيه ..».

وقال ابن رجب : نقم عليه جماعة من مشايخ أصحابنا وأئمتهم ميله إلى التأويل في بعض كلامه ، واشتدّ نكيرهم عليه في ذلك .. ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف ؛ وهو وإن كان مطلقا على الأحاديث والآثار فلم يكن يحلّ شبه المتكلمين وبيان فسادها.

وكان ابن الجوزي معظّما لأبي الوفاء بن عقيل متابعا لأكثر ما يجده من كلامه ، وإن كان قد ردّ عليه في بعض المسائل. وكان ابن عقيل بارعا في الكلام ، ولم يكن تامّ الخبرة بالحديث والآثار. فلهذا يضطرب تأويله في هذا الباب وتتلوّن فيه آراؤه. وأبو الفرج تابع له في هذا التلوّن.

وتصانيف ابن الجوزي كثيرة جدة بلغت ، فيما قيل ، خمسين ومائتين كتاب ، وقد نقل ابن رجب عن ابن القطيعي أن ابن الجوزي ناوله كتابا بخطه سرد فيه تصانيفه.

قال ابن الجوزي : أول ما صنّفت وألّفت ولي من العمر ثلاث عشرة سنة.

ومن تصانيفه في التفسير : المغني ـ تذكرة الأريب في معرفة الغريب ـ نزهة العيون النواظر في الوجوه والنظائر ـ عمدة الراسخ في معرفة المنسوخ والناسخ ـ زاد المسير في علم التفسير وهو الكتاب الذي نقدّم له.

وفي التوحيد وعلم الكلام : دفع شبه التشبه ـ منهاج الوصول إلى علم الأصول.

وفي علم الحديث : جامع المسانيد ـ غرر الأثر ـ الموضوعات ـ العلل المتناهية في الأحاديث الواهية.

كما صنف في الفقه وفي التاريخ والوعظ وعلم الرجال (١).

توفي ابن الجوزي ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من شهر رمضان سنة ٥٩٧ ه‍ / ١٢٠١ م ، وله من العمر سبع وثمانون سنة. وحملت جنازته على رؤوس الناس ، وكان الجمع كثيرا جدا ، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد بن حنبل. وكان يوما مشهودا حتى قيل : إنه أفطر جماعة من كثرة الزحام وشدة الحر. وكان قد أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات :

يا كثير العفو يا من

كثرت ذنوبي لديه

جاءك المذنب يرجو

الصّفح عن جرم يديه

أنا ضيف وجزاء

الضيف إحسان إليه

__________________

(١) وضع عبد الحميد العلوجي كتابا بعنوان «مؤلفات ابن الجوزي» طبع في بغداد سنة ١٩٦٥. كما نشرت ناجية عبد الله إبراهيم رسالة بعنوان «ابن الجوزي ـ فهرست كتبه» في مجلة المجمع العلمي العراقي ، العدد ٣١ ، ١٩٨٠.

٨

زاد المسير في علم التفسير

أقبل المسلمون على كتاب ربهم وكلام خالقهم دراسة وحفظا وعملا ، وألّفوا في علومه كتبا ومؤلفات عديدة في التفسير والقراءات واستنباط الأحكام والإعجاز والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والغريب والمبهمات والفضائل والقصص وغير ذلك.

ومن أهم كتب التفسير للقرآن الكريم كتاب «زاد المسير في علم التفسير» لابن الجوزي الذي عمد إلى كتب الذين سبقوه في التفسير فأشبعها دراسة واستفاد من الثغرات التي كانت في تفاسيرهم ، ووضع تفسيره هذا مخلّصا إياه من التطويل المملّ ومن الاختصار المخلّ. وقال في مقدمة كتابه :

(... أني نظرت في جملة من كتب التفسير فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه ، وصغير لا يستفاد كل المقصود منه ، والمتوسط منها قليل الفوائد ، عديم الترتيب ، وربما أهمل فيه المشكل وشرح غير الغريب ، فأتيتك بهذا المختصر اليسير ، منطويا على العلم الغزير ، ووسمته ب «زاد المسير في علم التفسير»).

فجاء كتابه وسطا بين التفاسير الطويلة والمختصرة الشديدة الاختصار ، مع تميّزه بجملة من الخصائص ، إضافة إلى أسلوب ابن الجوزي السّلس المتين والسهل الممتنع. ومن هذه الخصائص أنه تحدّث عمن نزلت بعض الآيات فيهم ، وذكر القراءات المشهورة والشاذة أحيانا ، وتوقف عند الآيات المنسوخة والتي اختلف العلماء حولها أمنسوخة هي أم لا؟ وأورد أقوال العلماء بهذا الصدد ، بالإضافة إلى ردّه كل قول إلى مصدره معتمدا على علماء اللغة مثل : ابن قتيبة وأبي عبيدة والخليل بن أحمد الفراهيدي ؛ وعلى النحاة مثل : الفرّاء والزجّاج والأخفش والكسائي ومحمد بن القاسم النحوي ؛ وعلى القرّاء مثل : الجحدري وعاصم وغيرهم.

منهج التحقيق

عملنا في هذا الكتاب على :

ـ تخريج الأحاديث المرفوعة ، وما له حكم الرفع تخريجا وافيا.

ـ تصدير التخريج بقولنا «صحيح» ، «حسن» ، «ضعيف» ... وذلك تسهيلا على الطالب واختصارا لوقته.

ـ ترقيم الأحاديث المخرجة ترقيما تسلسليا.

ـ تصويب ما وقع فيه تصحيف أو تحريف.

ـ تخريج الآيات وذلك بذكر اسم السورة ورقم الآية.

ـ شرح بعض المفردات الغربية.

هذا ونسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل متقبلا وأن ينفع به المؤمنين إنه خير سميع وخير بصير ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

٩
١٠

(بسم الله الرحمن الرحيم)

ربّ يسّر وأعن

خطبة الكتاب

الحمد لله الذي شرّفنا على الأمم بالقرآن المجيد ، ودعانا بتوفيقه على الحكم إلى الأمر الرشيد ، وقوّم به نفوسنا بين الوعد والوعيد ، وحفظه من تغيير الجهول وتحريف العنيد ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

أحمده على التوفيق للتحميد ، وأشكره على التحقيق في التوحيد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة يبقى ذخرها على التأبيد ، وأن محمّدا عبده ورسوله أرسله إلى القريب والبعيد ، بشيرا للخلائق ونذيرا ، وسراجا في الأكوان منيرا ، ووهب له من فضله خيرا كثيرا ، وجعله مقدّما على الكلّ كبيرا ، ولم يجعل له من أرباب جنسه نظيرا ، ونهى أن يدعى باسمه تعظيما له وتوقيرا ، وأنزل عليه كلاما قرّر صدق قوله بالتحدي بمثله تقريرا ، فقال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١). فصلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأزواجه وأشياعه ، وسلّم تسليما كثيرا.

وبعد ؛ لمّا كان القرآن العزيز أشرف العلوم ، كان الفهم لمعانيه أو في الفهوم ، لأن شرف العلم بشرف المعلوم ، وإني نظرت في جملة من كتب التفسير ، فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه ، وصغير لا يستفاد كل المقصود منه ، والمتوسّط منها قليل الفوائد ، عديم الترتيب ، وربما أهمل فيه المشكل ، وشرح غير الغريب ، فأتيتك بهذا المختصر اليسير ، منطويا على العلم الغزير ، ووسمته ب «زاد المسير في علم التفسير».

وقد بالغت في اختصار لفظه ، فاجتهد ـ وفّقك الله ـ في حفظه ، والله المعين على تحقيقه ، فما زال جائدا بتوفيقه.

فصل في فضل علم التفسير

(١) روى أبو عبد الرحمن السّلميّ ، عن ابن مسعود قال : كنا نتعلّم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العشر ، فلا

____________________________________

(١) صحيح. أخرجه الطبري ٨٢ من طريق عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا ...

__________________

(١) الإسراء : ٨٨.

١١

نجاوزها إلى العشر الأخر حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل.

وروى قتادة عن الحسن أنّه قال : ما أنزل الله آية إلا أحبّ أن أعلم فيم أنزلت ، وما ذا عنى بها. وقال إياس بن معاوية : مثل من يقرأ القرآن ومن يعلم تفسيره أو لا يعلم ، مثل قوم جاءهم كتاب من صاحب لهم ليلا ، وليس عندهم مصباح ، فتداخلهم لمجيء الكتاب روعة ؛ لا يدرون ما فيه ، فإذا جاءهم المصباح عرفوا ما فيه.

فصل : اختلف العلماء : هل التّفسير والتّأويل بمعنى ، أم يختلفان؟ فذهب قوم يميلون إلى العربية إلى أنهما بمعنى ، وهذا قول جمهور المفسّرين المتقدّمين. وذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى اختلافهما ، فقالوا : التفسير : إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التّجلّي. والتأويل : نقل الكلام عن وضعه فيما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ ، فهو مأخوذ من قولك : آل الشيء إلى كذا ، أي : صار إليه.

فصل في مدّة نزول القرآن

روى عكرمة عن ابن عبّاس قال : أنزل القرآن جملة واحدة من اللّوح المحفوظ في ليلة القدر إلى بيت العزّة ، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة (١). وقال الشعبي : فرّق الله تنزيل القرآن ، فكان بين أوله وآخره عشرون سنة. وقال الحسن : ذكر لنا أنه كان بين أوّله وآخره ثماني عشرة سنة ، أنزل عليه بمكة ثماني سنين ، وبالمدينة عشر سنين.

فصل : واختلفوا في أوّل ما نزل من القرآن :

(٢) فأثبت المنقول أنّ أول ما نزل من القرآن : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٢) ، رواه عروة عن عائشة وبه قال

____________________________________

فذكره. والسلمي أحد تلامذة ابن مسعود ، فهو المراد ، وكأنه أراد أنه سمع مثل ذلك عن غير ابن مسعود حيث لم يسمه. وأخرجه الطبري ٨١ من وجه آخر عن أبي وائل عن ابن مسعود وإسناده صحيح على شرط مسلم.

(٢) صحيح. أخرجه البخاري ٣ ومسلم ١٦٠ وأحمد ٦ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣. والطيالسي ١٤٦٧ وابن حبان ٣٣ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ١٣٥ ـ ١٣٦ من حديث عائشة أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ. قال : «ما أنا بقارئ» قال : «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ! قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ! قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ، ثم أرسلني ، فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)». فرجع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال : «زملوني زملوني» ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : «لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ـ ابن عم خديجة ـ وكان امرأ تنصّر في الجاهلية ، وكان

__________________

(١) موقوف حسن ، وسيأتي تخريجه إن شاء الله.

(٢) العلق : ١.

١٢

قتادة وأبو صالح. وروي عن جابر بن عبد الله : أن أوّل ما نزل (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

والصحيح أنه لما نزل عليه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) رجع فتدثّر فنزل : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

(٣) يدل عليه ما أخرج في «الصحيحين» من حديث جابر قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يحدّث عن فترة الوحي ، فقال في حديثه : «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء ، فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض ، فجثثت منه رعبا ، فرجعت فقلت : زمّلوني ، زمّلوني ، فدثّروني ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)» ، ومعنى جثثت : فرقت. يقال : رجل مجؤوث ومجثوث. وقد صحّفه بعض الرواة فقال : جبنت ، من الجبن ، والصحيح الأول.

وروي عن الحسن وعكرمة : أن أوّل ما نزل : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

فصل : واختلفوا في آخر ما نزل :

(٤) فروى البخاريّ في أفراده من حديث ابن عباس ، قال : آخر آية أنزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، آية الرّبا (١).

(٥) وفي أفراد مسلم عنه : آخر سورة نزلت جميعا : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) (٢).

(٦) وروى الضّحّاك عن ابن عباس قال : آخر آية أنزلت : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (٣) ، وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي صالح.

(٧) وروى أبو إسحاق عن البراء قال : آخر آية نزلت : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) (٤) ، وآخر سورة نزلت «براءة».

(٨) وروي عن أبيّ بن كعب : أن آخر آية نزلت : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (٥) ، إلى آخر السورة.

____________________________________

يكتب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة : يا ابن أخي ما ذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو مخرجي هم؟» قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلّا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفي ، وفتر الوحي. واللفظ للبخاري.

(٣) أخرجه البخاري ٣٢٣٨ و ٤٩٢٥ ومسلم ١٦١ والترمذي ٣٣٢٥ وابن حبان ٣٤ ، وسيأتي في سورة المدثر.

(٤) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٤٤ عن ابن عباس ، ويأتي.

(٥) يأتي في سورة النصر.

(٦) يأتي ذكر الحديث عند الآية ٢٨١ من سورة البقرة.

(٧) صحيح. أخرجه البخاري ٤٦٥٤ عن البراء.

(٨) حسن. أخرجه أحمد ٥ / ١١٧ من طريق شعبة عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس عن أبي بن

__________________

(١) وهي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

(٢) سورة النصر : ١.

(٣) البقرة : ٢٨١.

(٤) النساء : ١٧٦.

(٥) التوبة : ١٣٨.

١٣

فصل : لما رأيت جمهور كتب المفسّرين لا يكاد الكتاب منها يفي بالمقصود كشفه حتى ينظر للآية الواحدة في كتب ، فربّ تفسير أخلّ فيه بعلم النّاسخ والمنسوخ ، أو ببعضه ، فإن وجد فيه لم يوجد أسباب النزول ، أو أكثرها ، فإن وجد لم يوجد بيان المكيّ من المدنيّ ، وإن وجد ذلك لم توجد الإشارة إلى حكم الآية ، فإن وجد لم يوجد جواب إشكال يقع في الآية ، إلى غير ذلك من الفنون المطلوبة. وقد أدرجت في هذا الكتاب من هذه الفنون المذكورة مع ما لم أذكره مما لا يستغني التفسير عنه ما أرجو به وقوع الغناء بهذا الكتاب عن أكثر ما يجانسه.

وقد حذرت من إعادة تفسير كلمة متقدمة إلا على وجه الإشارة ، ولم أغادر من الأقوال التي أحطت بها إلا ما تبعد صحته مع الاختصار البالغ ، فإذا رأيت في فرش الآيات ما لم يذكر تفسيره ، فهو لا يخلو من أمرين : إمّا أن يكون قد سبق ، وإما أن يكون ظاهرا لا يحتاج إلى تفسير. وقد انتقى كتابنا هذا أنقى التفاسير ، فأخذ منها الأصحّ والأحسن والأصون ، فنظمه في عبارة الاختصار. وهذا حين شروعنا فيما ابتدأنا له ، والله الموفّق.

فصل في الاستعاذة

قد أمر الله عزوجل بالاستعاذة عند القراءة بقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٩٨) (١) ، ومعناه : إذا أردت القراءة. ومعنى أعوذ : ألجأ وألوذ.

فصل في بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال ابن عمر : نزلت في كل سورة.

وقد اختلف العلماء : هل هي آية كاملة ، أم لا؟ وفيه عن أحمد روايتان ، واختلفوا : هل هي من الفاتحة ، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان أيضا. فأمّا من قال : إنها من الفاتحة ، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة ، وأمّا من لم يرها من الفاتحة ، فإنه يقول : قراءتها في الصلاة سنّة ، ما

____________________________________

كعب به. وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد ، ويوسف هو ابن مهران لين الحديث ، وثقه أبو زرعة ، وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ويذاكر ، وقال أحمد : لا يعرف. نقله الذهبي في «الميزان» ٤ / ٤٧٤. وقال الحافظ في «التقريب» : يوسف بن مهران ، ليس هو يوسف بن ماهك ، ذاك ثقة ، وهذا لم يرو عنه إلّا ابن جدعان ، وهو لين الحديث. وأخرجه الحاكم ٢ / ٣٣٨ من وجه آخر عن شعبة عن يونس بن عبيد وعلي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران به. وقال : حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي!. وليس كما قالا ، فقد ظن الحاكم أن الذي في الإسناد هو يوسف بن ماهك ، فذاك روى له الشيخان ، وقد فرّق بينهما ابن حجر كما تقدم ، وكذا الذهبي في «الميزان» ٤ / ٤٧٤. فالإسناد لين ، لكن توبع ، فقد أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» ص ٣٨ من وجه آخر وفيه أبو جعفر الرازي وهو ضعيف الحديث ، لكن يصلح للمتابعة. فالحديث حسن من جهة الإسناد.

ـ ويأتي الكلام على الجمع بين هذه الأحاديث إن شاء الله ، والله أعلم.

__________________

(١) النحل : ٩٨.

١٤

عدا مالكا فإنه لا يستحبّ قراءتها في الصلاة (١).

واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به (٢) ، فنقل جماعة عن أحمد : أنه لا يسنّ الجهر بها ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وابن مسعود ، وعمّار بن ياسر ، وابن مغفّل ، وابن الزّبير ، وابن عباس ، وقال به من كبراء التابعين ومن بعدهم : الحسن ، والشّعبيّ ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز ، والأعمش ، وسفيان الثوري ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأبو عبيد في آخرين. وذهب الشّافعي إلى أن الجهر بها مسنون ، وهو مرويّ عن معاوية بن أبي سفيان ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد.

فأمّا تفسيرها : فقوله : (بِسْمِ اللهِ) اختصار ، كأنه قال : أبدأ باسم الله ، أو : بدأت باسم الله. وفي الاسم خمس لغات : اسم بكسر الألف ، وأسم بضم الألف إذا ابتدأت بها ، وسم بكسر السين ، وسم

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١ / ١٣٢ : وجملة مذهب مالك وأصحابه : أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها ، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ، ولا في غيرها سرا ولا جهرا.

ويجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور في مذهبه عند أصحابه. وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل ، ولا تقرأ أول أم القرآن. وروي عن ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصّلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال. ومن أهل المدينة من يقول : إنه لا بد فيها من (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) منهم ابن عمر وابن شهاب.

وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد. وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية كما ظن بعض الجهّال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين ، وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور ، والحمد لله. وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة ، منهم : أبو حنيفة ، والثوري وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمّار وابن الزبير ، وهو قول الحكم وحمّاد وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد ، وروي عن الأوزاعي مثل ذلك. وانظر المغني ٢ / ١٤٧ ـ ١٤٩.

(٢) قال الإمام الموفّق رحمه‌الله في «المغني» ٢ / ١٤٩ ـ ١٥١ : ولا تختلف الرّواية عن أحمد أن الجهر بها غير مسنون. قال الترمذي : وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن بعدهم التابعين منهم أبو بكر وعمر وعثمان ، وعليّ. وذكره ابن المنذر ، عن ابن مسعود ، وابن الزبير وعمار. وبه يقول الحكم وحمّاد ، والأوزاعي ، والثّوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي. ويروى عن عطاء ، وطاوس ، ومجاهد وسعيد بن جبير ، الجهر بها. وهو مذهب الشافعي لحديث أبي هريرة ، أنّه قرأها في الصّلاة. وقد صح عنه أنه قال : ما أسمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسمعناكم ، وما أخفى أخفيناه عليكم. متفق عليه. وعن أنس ، أنه صلّى وجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم. وقال : أقتدي بصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما تقدّم من حديث أم سلمة وغيره ، ولأنّها آية من الفاتحة فيجهر بها الإمام في صلاة الجهر ، كسائر آياتها. ولنا حديث أنس وعبد الله بن المغفّل ، وعن عائشة ، رضي الله عنها ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين. متفق عليه. وروى أبو هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : «قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). قال الله : حمدني عبدي» وذكر الخبر. أخرجه مسلم. وهذا يدل على أنّه لم يذكر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، ولم يجهر بها. وحديث أبي هريرة الذي احتجوا به ليس فيه أنّه جهر بها ، ولا يمتنع أن يسمع منه حال الإسرار ، كما سمع الاستفتاح والاستعاذة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع إسراره بهما ، وقد روى أبو قتادة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسمعهم الآية أحيانا في صلاة الظهر. متفق عليه. وحديث أم سلمة ليس فيه أنه جهر بها ، وسائر أخبار الجهر ضعيفة ، فإن رواتها هم رواة الإخفاء ، وإسناد الإخفاء صحيح ثابت بغير خلاف فيه ، فدل على ضعف رواية الجهر ، وقد بلغنا أن الدارقطني قال : لم يصح في الجهر حديث.

١٥

بضمّها ، وسما. قال الشاعر (١) :

والله أسماك سمى مباركا

آثرك الله به إيثاركا

وأنشدوا (٢) :

باسم الذي في كلّ سورة سمه

قال الفرّاء : بعض قيس يقولون : سمه ، يريدون : اسمه ، وبعض قضاعة يقولون : سمه. أنشدني بعضهم :

وعامنا أعجبنا مقدّمه

يدعى أبا السّمح وقرضاب سمه (٣)

والقرضاب : القطّاع ، يقال : سيف قرضاب.

واختلف العلماء في اسم الله الذي هو «الله» ؛ فقال قوم : إنه مشتقّ ، وقال آخرون : إنه علم ليس بمشتقّ. وفيه عن الخليل روايتان : إحداهما : أنه ليس بمشتقّ ، ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما يجوز من الرحمن. والثانية : رواها عنه سيبويه : أنه مشتقّ. وذكر أبو سليمان الخطّابيّ عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من : أله الرجل يأله : إذا فزع إليه من أمر نزل به. فألهه ، أي : أجاره وأمّنه ، فسمي إلها كما يسمّى الرجل إماما. وقال غيره : أصله ولاه. فأبدلت الواو همزة فقيل : إله كما قالوا : وسادة وإسادة ، ووشاح وإشاح. واشتقّ من الوله ، لأن قلوب العباد توله نحوه ، كقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) (٤). وكان القياس أن يقال : مألوه ، كما قيل : معبود ، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علما ، كما قالوا للمكتوب : كتاب ، وللمحسوب : حساب. وقال بعضهم : أصله من : أله الرجل يأله إذا تحيّر ، لأن القلوب تتحيّر عند التفكّر في عظمته. وحكي عن بعض اللّغويين : أله الرجل يأله إلاهة ، بمعنى : عبد يعبد عبادة. وروي عن ابن عباس أنه قال : «ويذرك وإلاهتك» أي : عبادتك. قال :

والتّألّه : التّعبّد. قال رؤبة :

لله درّ الغانيات المدّه

سبّحن واسترجعن من تألّهي

فمعنى الإله : المعبود.

فأما «الرحمن» : فذهب الجمهور إلى أنه مشتقّ من الرحمة ، مبنيّ على المبالغة ، ومعناه : ذو الرحمة التي لا نظير له فيها. وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة ، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء : ملآن ، وللشديد الشّبع : شبعان. قال الخطّابيّ : ف «الرحمن» : ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم ، وعمّت المؤمن والكافر. و «الرحيم» : خاصّ للمؤمنين. قال عزوجل : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٥). والرحيم : بمعنى الرّاحم.

__________________

(١) هو أبو خالد القناني كما في «اللسان» ١٤ / ٤٠١ ، ٤٠٢ مادة (سما)

(٢) هو لرؤبة بن العجّاج وتمامه : قد وردت على طريق تعلمه.

(٣) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ١٣٧ : قرضب الرّجل : إذا أكل شيئا يابسا فهو قرضاب. وفي «القاموس» القرضاب : الذي لا يدع شيئا إلا أكله.

(٤) النحل : ٥٣.

(٥) الأحزاب : ٤٣.

١٦

سورة الفاتحة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

(٩) روى أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ـ وقرأ عليه أبيّ بن كعب أمّ القرآن ـ فقال : «والذي نفسي بيده ، ما أنزل في التّوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزّبور ، ولا في الفرقان مثلها ، هي السّبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».

فمن أسمائها : الفاتحة ، لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة وكتابة. ومن أسمائها : أمّ القرآن ، وأمّ الكتاب ، لأنها أمّت الكتاب بالتقدم. ومن أسمائها : السّبع المثاني ، وإنما سمّيت بذلك لما سنشرحه في (الحجر) إن شاء الله.

واختلف العلماء في نزولها على قولين : أحدهما : أنها مكيّة ، وهو مرويّ عن عليّ بن أبي طالب ، والحسن ، وأبي العالية ، وقتادة ، وأبي ميسرة. والثاني : أنها مدنيّة ، وهو مرويّ عن أبي هريرة ، ومجاهد ، وعبيد بن عمير ، وعطاء الخراسانيّ. وعن ابن عباس كالقولين (١).

____________________________________

(٩) صحيح. أخرجه الترمذي ٣١٢٥ والنسائي ٢ / ١٣٩ وأحمد ٥ / ١١٤ وابن خزيمة ٥٠٠ وابن حبان ٧٧٥ وصححه الحاكم ١ / ٥٥٧ ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا. وأخرجه الترمذي ٢٨٧٥ والطبري ١٥٨٨٩ والبغوي ١١٨٣ من حديث أبي هريرة مطوّلا ، وإسناده حسن. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، ووافقه البغوي وعجزه ، أخرجه البخاري ٤٧٠٤ من حديث أبي هريرة أيضا. وفي الباب من حديث أبي سعيد بن المعلى أخرجه البخاري ٤٤٧٤ و ٤٦٤٧ و ٤٧٠٣ و ٥٠٠٦ وأبو داود ١٤٥٨ وابن ماجة ٣٧٨٥ والطيالسي ٢ / ٩ وأحمد ٣ / ٢١١ و ٤٥٠ وابن حبّان ٧٧٧ والطبراني ٢٢ / ٣٠٣ والبيهقي ٢ / ٣٦٨ وانظر «فتح الباري» ٨ / ١٥٧.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ١ / ١٥٤ : اختلفوا أهي مكية أم مدنية؟ فقال ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياحي ـ واسمه رفيع ـ وغيرهم : هي مكية. وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري وغيرهم : هي مدنية.

ويقال نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة. حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره.

١٧

فصل : فأمّا تفسيرها : ف (الْحَمْدُ) رفع بالابتداء ، و (لِلَّهِ) الخبر. والمعنى : الحمد ثابت لله ، ومستقرّ له ، والجمهور على كسر لام «لله» ، وضمّها ابن [أبي] (١) عبلة ، قال الفرّاء : هي لغة بعض بني ربيعة ، وقرأ ابن السّميفع (٢) : «الحمد» بنصب الدال «لله» بكسر اللام. وقرأ أبو نهيك بكسر الدال واللام جميعا.

واعلم أن الحمد : ثناء على المحمود ، ويشاركه الشكر ، إلا أن بينهما فرقا ، وهو : أن الحمد قد يقع ابتداء للثناء ، والشكر لا يكون إلّا في مقابلة النعمة ، وقيل : لفظه لفظ الخبر ، ومعناه الأمر ، فتقديره : قولوا : الحمد لله. وقال ابن قتيبة : (الحمد) الثناء على الرجل بما فيه من كرم أو حسب أو شجاعة ، وأشباه ذلك. والشكر : الثناء عليه بمعروف أو لاكه ، وقد يوضع الحمد موضع الشكر. فيقال : حمدته على معروفه عندي ، كما يقال : شكرت له على شجاعته.

فأما «الرّبّ» فهو المالك ، ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالإضافة ، فيقال : هذا ربّ الدار ، وربّ العبد. وقيل : هو مأخوذ من التّربية. قال شيخنا أبو منصور اللغويّ : يقال : ربّ فلان صنيعته يربّها ربّا : إذا أتمّها وأصلحها ، فهو ربّ ورابّ. قال الشاعر :

يربّ الذي يأتي من الخير إنه

إذا سئل المعروف زاد وتمّما

قال : والرّبّ يقال على ثلاثة أوجه : أحدها : المالك. يقال : ربّ الدار. والثاني : المصلح ، يقال : ربّ الشيء. والثالث : السّيد المطاع. قال تعالى : (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) (٣).

والجمهور على خفض باء «ربّ». وقرأ أبو العالية ، وابن السّميفع ، وعيسى بن عمر بنصبها. وقرأ أبو رزين العقيليّ ، والرّبيع بن خثيم (٤) وأبو عمران الجوني ، برفعها.

فأما (الْعالَمِينَ) فجمع عالم ، وهو عند أهل العربية : اسم للخلق من مبتداهم إلى منتهاهم ، وقد سمّوا أهل الزمان الحاضر عالما. فقال الحطيئة:

أراح الله منك العالمينا (٥)

__________________

والأول أصح لقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر : ٨٧] والحجر مكية بإجماع. ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة. وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير «الحمد لله رب العالمين» ؛ يدل على هذا قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وهذا خبر عن الحكم ، لا عن الابتداء ، والله أعلم.

(١) سقط من نسخ المطبوع ، والاستدراك عن كتب التراجم ، و «تفسير القرطبي» ١ / ١٨١ طبع «دار الكتاب العربي» بتخريجنا. وابن أبي عبلة اسمه إبراهيم ، تابعي ثقة ، توفي سنة ١٥٢.

(٢) كذا في الأصل و «الميزان» للذهبي و «اللسان» لابن حجر ، ووقع في «لسان العرب» و «شرح القاموس» «السميقع». والمثبت هو الراجح ، فإن الذهبي ضبطه كذلك ، وهو إمام علم الحديث والرجال من المتأخرين.

قال الذهبي في «الميزان» ٣ / ٥٧٥ : محمد بن السّميفع اليماني ، أحد القرّاء ، له قراءة شاذة منقطعة السند ، قاله أبو عمرو الدّاني وغيره ، روى أخباره محمد بن مسلم المكي ذاك الواهي.

(٣) يوسف : ٤١.

(٤) وقع في المطبوع هنا وبعد قليل : (خيثم) والتصويب عن «التقريب» وكتب التراجم.

(٥) هو عجز بيت ، وصدره : تنحي فاجلسي مني بعيدا.

١٨

فأمّا أهل النظر ، فالعالم عندهم : اسم يقع على الكون الكلّي المحدث من فلك ، وسماء ، وأرض ، وما بين ذلك.

وفي اشتقاق «العالم» قولان : أحدهما : أنه من العلم ، وهو يقوّي قول أهل اللغة. والثاني : أنه من العلامة ، وهو يقوّي قول أهل النظر ، فكأنه إنما سمّي عندهم بذلك ، لأنه دالّ على خالقه.

وللمفسّرين في المراد ب «العالمين» هاهنا خمسة أقول : أحدها : الخلق كلّه ، السّماوات والأرضون ما فيهنّ وما بينهنّ. رواه الضحّاك عن ابن عباس. والثاني : كلّ ذي روح دبّ على وجه الأرض. رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنهم الجنّ والإنس. روي أيضا عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، ومقاتل. والرابع : أنهم الجنّ والإنس والملائكة ، نقل عن ابن عباس أيضا ، واختاره ابن قتيبة. والخامس : أنّهم الملائكة ، وهو مرويّ عن ابن عباس أيضا.

قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣). قرأ أبو العالية ، وابن السّميفع ، وعيسى بن عمر بالنصب فيهما ، وقرأ أبو رزين العقيليّ ، والرّبيع بن خثيم ، وأبو عمران الجونيّ بالرفع فيهما.

قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤). قرأ عاصم والكسائيّ ، وخلق ويعقوب : «مالك» بألف. وقرأ ابن السّميفع ، وابن أبي عبلة كذلك ، إلّا أنهما نصبا الكاف. وقرأ أبو هريرة ، وعاصم الجحدريّ : «ملك» بإسكان اللام من غير الألف مع كسر الكاف ، وقرأ أبو عثمان النّهديّ ، والشّعبيّ «ملك» بكسر اللام ونصب الكاف من غير ألف. وقرأ سعد بن أبي وقّاص ، وعائشة ، ومورّق العجليّ : «ملك» مثل ذلك إلّا أنهم رفعوا الكاف. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو رجاء العطارديّ «مليك» بياء بعد اللام مكسورة الكاف من غير ألف. وقرأ عمرو بن العاص كذلك ، إلّا أنه ضمّ الكاف. وقرأ أبو حنيفة ، وأبو حياة «ملك» على الفعل الماضي ، «ويوم» بالنصب. وروى عبد الوارث عن أبي عمرو : إسكان اللام ، والمشهور عن أبي عمرو وجمهور القراء «ملك» بفتح الميم مع كسر اللام ، وهو أظهر في المدح ، لأن كل ملك مالك ، وليس كلّ مالك ملكا.

وفي «الدّين» ها هنا قولان : أحدهما : أنه الحساب. قاله ابن مسعود. والثاني : الجزاء. قاله ابن عباس. ولما أخبر الله عزوجل في قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) أنه مالك الدنيا. دلّ بقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على أنه مالك الأخرى. وقيل : إنما خصّ يوم الدّين ، لأنه ينفرد يومئذ بالحكم في خلقه.

قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). وقرأ الحسن ، وأبو المتوكّل ، وأبو مجلز «يعبد» بضم الياء وفتح الباء. قال ابن الأنباريّ : المعنى : قل يا محمّد : إياك يعبد ، والعرب ترجع من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة ؛ كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) (١) ، وقوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) (٢). وقال لبيد :

باتت تشكّى إليّ النفس مجهشة

وقد حملتك سبعا بعد سبعينا

وفي المراد بهذه العبارة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها بمعنى التّوحيد. روي عن عليّ ، وابن عباس في آخرين. والثاني : أنها بمعنى الطّاعة ، كقوله : (لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) (٣). والثالث : أنها بمعنى

__________________

(١) يونس : ٢٢.

(٢) الدهر : ٢١ ، ٢٢.

(٣) يس : ٦٠.

١٩

الدّعاء ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) (١).

قوله تعالى : (اهْدِنَا) فيه أربعة أقوال : أحدها : ثبّتنا. قاله عليّ ، وأبيّ. والثاني : أرشدنا. والثالث : وفّقنا. والرابع : ألهمنا. رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس.

و (الصِّراطَ) : الطريق. ويقال : إن أصله بالسّين ، لأنه من الاستراط وهو : الابتلاع ، فالسّراط كأنه يسترط المارّين عليه ، فمن قرأ بالسين ، كمجاهد ، وابن محيصن ، ويعقوب ، فعلى أصل الكلمة ، ومن قرأ بالصاد ، كأبي عمرو ، والجمهور ، فلأنها أخفّ على اللّسان ، ومن قرأ بالزاي ، كرواية الأصمعيّ عن أبي عمرو ، واحتجّ بقول العرب : صقر وسقر وزقر. وروي عن حمزة : إشمام السين زايا ، وروي عنه أنه تلفّظ بالصّراط بين الصاد والزاي. قال الفرّاء : اللغة الجيدة بالصاد ، وهي لغة قريش الأولى ، وعامّة العرب يجعلونها سينا ، وبعض قيس يشمّون الصاد ، فيقول : الصراط بين الصاد والسين ، وكان حمزة يقرأ «الزّراط» بالزاي ، وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين. يقولون في «أصدق» : أزدق.

وفي المراد بالصّراط ها هنا أربعة أقوال :

(١٠) أحدها : أنه كتاب الله ، رواه عليّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

____________________________________

(١٠) المرفوع ضعيف ، والصحيح موقوف. ورد من وجوه متعددة ، أشهرها حديث الحارث الأعور ، قال : مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث ، فدخلت على علي رضي الله عنه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، ألا ترى أنّ النّاس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال : أوقد فعلوها؟ قلت : نعم ، قال : أما إني قد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ألا إنها ستكون فتنة ، فقلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ولا تشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن ـ أي لم يتوقفوا ـ في قبوله ، وأنه كلام الله تعالى إذ سمعته حتى قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ، من قال به صدق ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» خذها إليك يا أعور. أخرجه الترمذي ٢٩٠٦ وابن أبي شيبة ١٠ / ٤٨٢ والدارمي ٢ / ٤٣٥ والبزار في مسنده ٣ / ٧١ ـ ٧٢ والفريابي في «فضائل القرآن» ٨١ وأبو بكر الأنباري في «إيضاح الوقف والابتداء» ١ / ٥ ـ ٦. ومحمد بن نصر المروزي في «قيام الليل» ص ١٥٧ ويحيى بن الحسين الشجري في «الأمالي» ١ / ٩١ والبيهقي في «الشعب» ٤ / ٤٩٦ ـ ٤٩٧ من طريق حمزة الزّيات بهذا الإسناد ، وإسناده ضعيف لضعف الحارث بن عبد الله. قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلّا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول ، وفي حديث الحارث مقال اه. وورد من طريق سعيد بن سنان البرجمي عن عروة بن مرة عن سعيد بن فيروز عن الحارث الأعور به. عند الدارمي ٢ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦ والفريابي في «فضائل القرآن» ٧٩ ، والبزار ٣ / ٧٠ ـ ٧١ وأبو الفضل الرازي في «فضائل القرآن» ٣٥. وأخرجه أحمد ١ / ٩١ وأبو يعلى ١ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣ والبزار ٣ / ٧٠ من طريق ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث به. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» ٨ / ٣٢١ من طريق أبي هاشم عمن سمع عليا ... وهذا إسناد ضعيف ، فيه من لم يسم ، والظاهر أنه الحارث ، وقال الحافظ ابن كثير في «فضائل القرآن» ص ١٧ ـ ١٨ بعد أن ذكر هذه الروايات وتكلم عليها : وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقد وهم بعضهم في رفعه ، وهو كلام حسن صحيح اه.

__________________

(١) غافر : ٦٠.

٢٠