زاد المسير في علم التفسير - ج ١

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ١

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
ISBN: 9953-27-016-3
الصفحات: ٦٠٦

كأنّه قال : ائتي مكانا أسهل.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : هو غنيّ عنكم. وعن إيمانكم. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بما يكون من إيمان أو كفر (حَكِيماً) في تكليفكم مع علمه بما يكون منكم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١))

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) قال مقاتل : نزلت في نصارى نجران : السّيّد والعاقب ومن معهما (١). والجمهور على أنّ المراد بهذه الآية : النّصارى. وقال الحسن : نزلت في اليهود والنّصارى. والغلو : الإفراط ومجاوزة الحدّ ، ومنه غلا السّعر. وقال الزجّاج : الغلو : مجاوزة القدر في الظّلم. وغلوّ النّصارى في عيسى : قول بعضهم : هو الله ، وقول بعضهم : هو ابن الله ، وقول بعضهم : هو ثالث ثلاثة. وعلى قول الحسن غلوّ اليهود فيه قولهم : إنه لغير رشدة (٢). وقال بعض العلماء : لا تغلوا في دينكم بالزّيادة في التّشدّد فيه.

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أي : لا تقولوا : إنّ الله له شريك أو ابن أو زوجة. وقد ذكرنا معنى «المسيح» والكلمة في (آل عمران). وفي معنى (وَرُوحٌ مِنْهُ) سبعة أقوال : أحدها : أنه روح من أرواح الأبدان. قال أبيّ بن كعب : لمّا أخذ الله الميثاق على بني آدم كان عيسى روحا من تلك الأرواح ، فأرسله إلى مريم ، فحملت به. والثاني : أنّ الرّوح النّفخ ، فسمّي روحا ، لأنّه حدث عن نفخة جبريل في درع (٣) مريم. ومنه قول ذي الرّمّة :

وقلت له ارفعها إليك وأحيها

بروحك واقتته لها قيتة قدرا (٤)

__________________

(١) ذكره الواحدي بدون سند ولا عزو لأحد في «أسباب النزول» ٣٧٦ ولم يذكر فيه أسماء ، وعزاه المصنف لمقاتل ، وهو متروك.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٦٠٣ : ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاها الله إياه فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا ، أو ضلالا أو رشادا ، أو صحيحا أو كذبا ، ولهذا قال الله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) وروى أحمد عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله» وقال الحافظ ابن حجر : وقوله : «لا تطروني» ، والإطراء : المدح بالباطل ، تقول : أطريت فلانا ، مدحته فأفرطت في مدحه ، وقوله : «كما أطرت النصارى ابن مريم» أي : في دعواهم فيه الإلهية وغير ذلك.

(٣) في «اللسان» درع المرأة : قميصها.

(٤) يأمره بالرفق والنفخ القليل شيئا فشيئا ، كأنه جعل النفخ قوتا لهذه النار ، يقدر لها تقديرا شيئا بعد شيء حتى تكتمل. وقالوا : «أحيها بروحك» أي أحيها بنفخك.

٥٠١

هذا قول أبي روق. والثالث : أن معنى (وَرُوحٌ مِنْهُ) إنسان حيّ بإحياء الله له. والرابع : أن الرّوح : الرّحمة ، فمعناه : ورحمة منه ، ومثله (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (١). والخامس : أن الرّوح هاهنا جبريل. فالمعنى ألقاها الله إلى مريم ، والذي ألقاها روح منه ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو سليمان الدّمشقيّ. والسادس : أنه سمّاه روحا ، لأنه يحيا به الناس كما يحيون بالأرواح ، ولهذا المعنى سمّي القرآن روحا ، ذكره القاضي أبو يعلى. والسابع : أن الرّوح : الوحي أوحى إلى مريم يبشّرها به ، وأوحى إلى جبريل بالنّفخ في درعها ، وأوحى إلى ذات عيسى أن : كن فكان. ومثله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) (٢) أي. بالوحي ، ذكره الثّعلبيّ.

فأمّا قوله «منه» فإنه إضافة تشريف ، كما تقول : بيت الله ، والمعنى من أمره ، ومما يقاربها قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (٣).

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) قال الزجّاج : رفعه بإضمار : لا تقولوا آلهتنا ثلاثة (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) أي : ما هو إلّا إله واحد (سُبْحانَهُ) ومعنى «سبحانه» : تبرئته من أن يكون له ولد. قاله أبو سليمان : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي : قيّما على خلقه ، مدبّرا لهم.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢))

قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ).

(٣٩٠) سبب نزولها : أنّ وفد نجران وفدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا محمّد لم تذكر صاحبنا؟ قال : ومن صاحبكم؟ قالوا : عيسى ، قال : وأيّ شيء أقول له؟ هو عبد الله ، قالوا : بل هو الله ، فقال : إنه ليس بعار عليه أن يكون عبد الله ، قالوا : بلى ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

قال الزجّاج : معنى يستنكف : يأنف ، وأصله في اللغة من نكفت الدّمع : إذا نحّيته بإصبعك من خدّك. قال الشاعر :

فبانوا فلولا ما تذكّر منهم

من الحلف لم ينكف لعينيك مدمع (٤)

قوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) قال ابن عباس : هم حملة العرش.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣))

قوله تعالى : (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي : ثواب أعمالهم (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) مضاعفة الحسنات.

____________________________________

(٣٩٠) لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٧٧ عن الكلبي بلا سند ، والكلبي متهم.

__________________

(١) سورة المجادلة : ٢٢.

(٢) سورة النحل : ٢.

(٣) سورة الجاثية : ١٣.

(٤) لم ينسب إلى قائل كما في «اللسان» مادة ـ نكف ـ.

٥٠٢

(٣٩١) وروى ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) قال : يدخلون الجنة (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الشّفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليهم المعروف في الدّنيا.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤))

قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) في البرهان ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الحجّة ، قاله مجاهد ، والسّدّي. والثاني : القرآن ، قاله قتادة. والثالث : أنه النبيّ محمّد عليه‌السلام ، قاله سفيان الثّوريّ. فأمّا النّور المبين ، فهو القرآن ، قاله قتادة ، وإنّما سمّاه نورا ، لأنّ الأحكام تبين به بيان الأشياء بالنّور.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))

قوله تعالى : (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي : استمسكوا. وفي «هاء» به قولان : أحدهما : أنها تعود إلى النّور وهو القرآن ، قاله ابن جريج. والثاني : تعود إلى الله تعالى ، قاله مقاتل. وفي «الرّحمة» قولان : أحدهما : أنها الجنة ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنها نفس الرّحمة ، والمعنى : سيرحمهم ، قاله أبو سليمان. وفي «الفضل» قولان : أحدهما : أنه الرّزق في الجنة ، قاله مقاتل. والثاني : أنه الإحسان ، قاله أبو سليمان.

قوله تعالى : (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي : يوفّقهم لإصابة الطّريق المستقيم. وقال ابن الحنفيّة : الصّراط المستقيم : دين الله.

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ) في سبب نزولها قولان :

(٣٩٢) أحدهما : أنها نزلت في جابر بن عبد الله. روى أبو الزّبير عن جابر قال : مرضت فأتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودني هو وأبو بكر وهما ماشيان فوجدني قد أغمي عليّ ، فتوضّأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم صبّ عليّ من وضوئه ، فأفقت ، وقلت : يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي تسع أخوات ، ولم

____________________________________

(٣٩١) ضعيف. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» ٨٤٦ والطبراني ١٠٤٦٢ من حديث ابن مسعود ، وفيه إسماعيل بن عبد الله الكندي ، وهو ضعيف وقال الذهبي في «الميزان» أتى بخبر منكر. وقال ابن كثير في «تفسيره» ١ / ٦٠٥ : لا يثبت. وصوب الوقف فيه. والمرفوع ضعفه أيضا السيوطي في «الدر» ٢ / ٤٤٠ ووافقه الشوكاني وهو كما قالوا. وانظر «تفسير الشوكاني» ٧٣٥ بتخريجنا.

(٣٩٢) صحيح. أخرجه البخاري ١٩٤ ومسلم ١٦١٦ وأبو داود ٢٨٨٦ والترمذي ٢٠٩٨ والبيهقي ٦ / ٢٣١ وأحمد ٣ / ٢٩٨ وأبو يعلى ٢٠١٨ والطيالسي ١٩٤٥ والطبري ١٠٨٧٣ والواحدي ٣٧٨ من حديث جابر.

٥٠٣

يكن لي ولد؟ فلم يجبني بشيء ، ثمّ خرج وتركني ، ثم رجع إليّ وقال : يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا ، وإنّ الله عزوجل قد أنزل في أخواتك ، وجعل لهنّ الثّلثين ، فقرأ عليّ هذه الآية : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ) فكان جابر يقول : أنزلت هذه الآية فيّ. والثاني : أن الصحابة أهمّهم بيان شأن الكلالة فسألوا عنها نبيّ الله ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول قتادة (١).

(٣٩٣) وقال سعيد بن المسيّب : سأل عمر بن الخطّاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف نورّث الكلالة؟ فقال : «أو ليس قد بين الله ذلك ، ثم قرأ : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) فأنزل الله عزوجل (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ).

قوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) أي : مات (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) يريد : ولا والد : فاكتفى بذكر أحدهما ، ويدلّ على المحذوف أنّ الفتيا في الكلالة ، وهي من ليس له ولد ولا والد (٢).

قوله تعالى : (وَلَهُ أُخْتٌ) يريد من أبيه وأمّه (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) عند انفرادها (وَهُوَ يَرِثُها) أي : يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن لها ولد ولا والد ، وهذا هو الأخ من الأب والأمّ ، أو من الأب (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) يعني : أختين. وسئل الأخفش ما فائدة قوله «اثنتين» و (كانَتَا) لا يفسّر إلا باثنتين؟ فقال : أفادت العدد العاري عن الصّفة ، لأنه يجوز في (كانَتَا) صغيرتين ، أو حرّتين ، أو صالحتين ، أو طالحتين ، فلمّا قال : (اثْنَتَيْنِ) فإذا إطلاق العدد على أيّ وصف كانتا عليه. (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ) من تركة أخيهما الميت (وَإِنْ كانُوا) يعني المخلّفين.

قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) قال ابن قتيبة : لئلّا تضلّوا. وقال الزجّاج : فيه قولان : أحدهما : أن لا تضلّوا ، فأضمرت لا. والثاني : كراهية أن تضلّوا ، وهو قول البصريين. قال ابن جريج : أن تضلّوا في شأن المواريث.

____________________________________

(٣٩٣) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٨٧٠ عن ابن المسيب مرسلا ، ولا يصح كونها نزلت بسبب سؤال عمر ، فقد أخرج مسلم ١٦١٧ ما يعارضه.

__________________

(١) مرسل. أخرجه الطبري ١٠٨٦٩ عن قتادة مرسلا.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٩ / ٦ : أجمع أهل العلم أنه لا يرث أخ ، ولا أخت لأب وأم أو لأب ، مع ابن ، ولا مع ابن ابن وإن سفل ولا مع أب. والأصل في هذا قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ...). وانظر «المغني» ٩ / ٩ ـ ٦٣ لمزيد من البحث في مسائل الفرائض.

٥٠٤

سورة المائدة

قال ابن عباس ، والضّحّاك : هي مدنيّة. وقال مقاتل : نزلت نهارا وكلّها مدنيّة. وقال أبو سليمان الدّمشقيّ : فيها من المكّي (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) قال : وقيل : فيها من المكّيّ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) والصّحيح أنّ قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) نزلت بعرفة يوم عرفة ، فلهذا نسبت إلى مكة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين : أحدهما : أنهم المؤمنون من أمّتنا ، وهذا قول الجمهور. والثاني : أنهم أهل الكتاب ، قاله ابن جريج.

و (بِالْعُقُودِ) : العهود ، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والضّحّاك والسّدّي والجماعة وقال الزجّاج : «العقود» : أوكد العهود. واختلفوا في المراد بالعهود هاهنا على خمسة أقوال (١) : أحدها : أنها عهود الله التي أخذها على عباده فيما أحلّ وحرّم ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد. والثاني : أنها عهود الدّين كلّها ، قاله الحسن. والثالث : أنها عهود الجاهليّة ، وهي الحلف الذي كان بينهم ، قاله قتادة. والرابع : أنها العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من الإيمان بالنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن جريج ، وقد ذكرنا عنه أن الخطاب للكتابيين. والخامس : أنها عقود الناس بينهم من بيع ونكاح ، أو عقد الإنسان على نفسه من نذر أو يمين ، وهذا قول ابن زيد (٢).

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٨٨ : وأولى الأقوال عندنا بالصواب ، ما قاله ابن عباس ، وأن معناه : أوفوا ، يا أيها الذين آمنوا ، بعقود الله التي أوجبها عليكم ، وعقدها فيما أحلّ لكم وحرّم عليكم ، وألزمكم فرضه وبين لكم حدوده.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٤٤٤ ـ ٤٤٥ : ومتى كانت اليمين على فعل واجب أو ترك محرّم ، كان حلّها محرّما ؛ لأن حلها بفعل المحرّم ، وهو محرّم وإن كانت على فعل مندوب ، أو ترك مكروه.

وإن كانت على فعل مباح ، فحلّها مباح. فإن قيل : فكيف يكون حلّها مباحا وقد قال الله تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها)؟ قلنا : هذا في الأيمان في العهود والمواثيق ، بدليل قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) ، والعهد يجب الوفاء به بغير يمين ، فمع اليمين أولى ، فإن الله تعالى.

قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

وإن كانت على فعل مكروه ، أو ترك مندوب ، فحلّها مندوب إليه ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيرا منها ، فأت الذي هو خير ، وكفّر عن يمينك» وإن كانت اليمين على فعل محرّم ، أو ترك واجب فحلّها واجب ، لأن حلّها بفعل الواجب ، وفعل الواجب واجب.

٥٠٥

قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) في بهيمة الأنعام ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنها أجنّة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أمّهاتها إذا ذبحت الأمّهات ، قاله ابن عمر ، وابن عباس. والثاني : أنها الإبل ، والبقر ، والغنم ، قاله الحسن ، وقتادة ، والسّدّي. وقال الرّبيع : هي الأنعام كلّها. وقال ابن قتيبة : هي الإبل ، والبقر ، والغنم ، والوحوش كلّها. والثالث : أنها وحش الأنعام كالظّباء ، وبقر الوحش ، روي عن ابن عباس ، وأبي صالح. وقال الفرّاء : بهيمة الأنعام : بقر الوحش ، والظّباء ، والحمر الوحشيّة. قال الزجّاج : وإنّما قيل لها بهيمة ، لأنها أبهمت عن أن تميّز ، وكلّ حيّ لا يميّز فهو بهيمة.

قوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ، روي عن ابن عباس أنه قال : هي الميتة وسائر ما في القرآن تحريمه. وقال ابن الأنباريّ : المتلو علينا من المحظور الآية التي بعدها ، وهي قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ). قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) قال أبو الحسن الأخفش : أوفوا بالعقود غير محلّي الصّيد ، فانتصب على الحال. وقال غيره : المعنى : أحلّت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلّي اصطيادها ، وأنتم حرم ، قال الزجّاج : الحرم : المحرمون ، وواحد الحرم : حرام ، يقال : رجل حرام ، وقوم حرم. قال الشاعر :

فقلت لها فيئي إليك فإنّني

حرام وإنّي بعد ذاك لبيب (٢)

أي : ملبّ. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) أي : الخلق له يحلّ ما يشاء لمن يشاء ، ويحرّم ما يريد على من يريد.

__________________

(١) فائدة : قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٣٠٨ ـ ٣١٠ : ما ملخصه : إذا خرج الجنين ميتا من بطن أمه بعد ذبحها ، أو وجد ميتا في بطنها ، أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح ، فهو حلال روي هذا عن ابن عمر وعلي وبه قال ابن المسيب والنخعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر. وقال ابن عمر : ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر وروي ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد والزهري والحسن وقتادة ومالك والليث ، لأن عبد الله بن كعب بن مالك قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. وهذا إشارة إلى جميعهم. فكان إجماعا. وقال أبو حنيفة : لا يحل إلا أن يخرج حيا فيذكى. قال ابن المنذر : لا نعلم أحدا منهم خالف ما قالوا إلى أن جاء النعمان ، فقال : لا يحل لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين ، ولنا «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ولأن هذا إجماع من الصحابة فمن بعدهم ، فلا يعول على ما خالفه ، ولأن الجنين متصل بها اتصال خلقه ، يتغذى بغذائها ، فتكون ذكاته ذكاتها ، كأعضائها ، ولأن الزكاة في الحيوان تختلف على حسب الإمكان فيه والقدرة ، بدليل الصيد الممتنع والمقدور عليه والمتردية ، والجنين لا يتوصل إلى ذبحه بأكثر من ذبح أمه ، فيكون ذكاة له. فصل : واستحب أبو عبد الله ـ الإمام أحمد بن حنبل ـ أن يذبحه وإن خرج ميتا ليخرج الدم الذي في جوفه. فصل : فإن خرج حيا حياة مستقرة ، يمكن أن يذكى ، فلم يذكه حتى مات فليس بذكي. قال أحمد : إن خرج حيا فلا بد من ذكاته لأنه نفس أخرى. قلت : وقال أبو يوسف ومحمد بقول الجمهور ، راجع «الهداية» ٩ / ٥٠٨ بتخريجي.

(٢) البيت للمضرب بن كعب بن زهير بن أبي سلمى كما في «مجاز القرآن» ١ / ١٤٥ و «شرح أدب الكاتب» للجواليقي ٤١١.

٥٠٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

قوله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) في سبب نزولها قولان.

(٣٩٤) أحدهما : أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة ، فدخل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إلام تدعو؟ فقال : «إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّي رسول الله» ، فقال : إنّ لي أمراء خلفي أرجع إليهم أشاورهم ، ثم خرج ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر ، وما الرّجل بمسلم» ، فمرّ شريح بسرح لأهل المدينة ، فاستاقه ، فلمّا كان عام الحديبية ، خرج شريح إلى مكّة معتمرا ، ومعه تجارة ، فأراد أهل السّرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم ، فاستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السّدّي : اسمه الحطم بن هند البكريّ. قال : ولمّا ساق السّرح جعل يرتجز :

قد لفّها الليل بسوّاق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزّار على ظهر وضم

باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزّلم

خدلّج السّاقين ممسوح القدم (١)

(٣٩٥) والثاني : أنّ ناسا من المشركين جاءوا يؤمّون البيت يوم الفتح مهلّين بعمرة ، فقال المسلمون : لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم ، فنزل قوله تعالى (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ).

قال ابن قتيبة : وشعائر الله : ما جعله الله علما لطاعته. وفي المراد بها هنا سبعة أقوال (٢) : أحدها : أنها مناسك الحجّ ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. وقال الفرّاء : كان عامّة العرب لا يرون الصّفا

____________________________________

(٣٩٤) أخرجه الطبري ١٠٩٦١ عن السدي ، وهذا مرسل ، وكرره ١٠٩٦٢ عن عكرمة وعن ابن جريج ونسبه الواحدي ٣٧٩ لابن عباس بدون سند ، فلعل هذه المراسيل المتقدمة تتأيد بمجموعها ، والله أعلم. انظر «أحكام القرآن» ٦١٠ بتخريجنا.

(٣٩٥) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٩٦٣ عن عبد الرحمن بن زيد مرسلا.

__________________

(١) الرجز في «الأغاني» ١٤ / ٤٤ و «حماسة أبي تمام» ١ / ٣٥٤ وقد اختلفوا في نسبة هذا الشعر اختلافا كثيرا ، ونسبه في : «الحماسة» لرشيد بن رميض العنزي ، ونسب أيضا للأغلب العجلي ، وللأخنس بن شهاب ، ولجابر بن حني التغلبي ولعل الحطم أنشده مدحا لنفسه فيما فعل وقبل هذا الرجز :

هذا أوان الشدّ فاشتدي زيم

والسّرح : المال السائم. وفي «اللسان» : الوضم : كل شيء يوضع عليه اللحم من خشب أو بارية يوقى به من الأرض. وقد ذكره في «اللسان» ونسبه إلى رشيد بن رميض العنزي. وقيل أبو زغبة الخزرجي. والزلم : القدح كان أهل الجاهلية يستقسمون بها. وخدلّج الساقين : عظيمهما.

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٩٣ : وأولى التأويلات بقوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) ، قول عطاء : من توجيهه معنى ذلك إلى : لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه.

٥٠٧

والمروة من الشّعائر ، ولا يطوفون بينهما ، فقال الله تعالى : لا تستحلّوا ترك ذلك. والثاني : أنها ما حرّم الله تعالى في حال الإحرام ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : دين الله كلّه ، قاله الحسن. والرابع : حدود الله ، قاله عكرمة وعطاء. والخامس : حرم الله ، قاله السّدّي. والسادس : الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام ، قاله أبو عبيدة والزجّاج. والسابع : أنها أعلام الحرم ، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكّة ، ذكره الماورديّ ، والقاضي أبو يعلى.

قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) قال ابن عباس : لا تحلّوا القتال فيه. وفي المراد بالشّهر الحرام ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ذو القعدة ، قاله عكرمة ، وقتادة. والثاني : أن المراد به الأشهر الحرم. قال مقاتل : كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كلّ سنة فيقول : ألا إني قد أحللت كذا ، وحرّمت كذا. والثالث : أنه رجب ، ذكره ابن جرير الطّبريّ. والهدي : كلّ ما أهدي إلى بيت الله تعالى من شيء. وفي (الْقَلائِدَ) قولان : أحدهما : أنها المقلّدات من الهدي ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنها ما كان المشركون يقلّدون به إبلهم وأنفسهم في الجاهليّة ، ليأمنوا به عدوّهم ، لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إلّا في الأشهر الحرم ، فمن لقوه مقلّدا نفسه ، أو بعيره ، أو مشعرا بدنه أو سائقا هديا لم يتعرّض له. قال ابن عباس : كان من أراد أن يسافر في غير الأشهر الحرم ، قلّد بعيره من الشّعر والوبر ، فيأمن حيث ذهب.

(٣٩٦) وروى مالك بن مغول عن عطاء قال : كانوا يتقلّدون من لحاء شجر الحرم ، فيأمنون به إذا خرجوا من الحرم ، فنزلت هذه الآية.

وقال قتادة : كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحجّ تقلّد من السّمر ، فلم يعرض له أحد ، وإذا رجع تقلّد قلادة شعر ، فلم يعرض له أحد. وقال الفرّاء : كان أهل مكّة يقلّدون بلحاء الشّجر ، وسائر العرب يقلّدون بالوبر والشّعر. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال (١) : أحدها : لا تستحلّوا المقلّدات من الهدي. والثاني : لا تستحلّوا أصحاب القلائد. والثالث : أن هذا نهي للمؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم ، فيتقلّدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم ، رواه عبد الملك عن عطاء ، وبه قال مطرّف ، والرّبيع بن أنس.

قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) «الآمّ» : القاصد ، و «البيت الحرام» : الكعبة ، والفضل : الرّبح في التّجارة ، والرّضوان من الله يطلبونه في حجّهم على زعمهم. ومثله قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي) (٢) ، وقيل : ابتغاء الفضل عامّ ، وابتغاء الرّضوان للمؤمنين خاصّة.

__________________

(٣٩٦) أخرجه الطبري ١٠٩٥٤ عن عطاء مرسلا ، وكرره ١٠٩٥٣ من مرسل قتادة.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٩٦ : والذي هو أولى بتأويل قوله : (وَلَا الْقَلائِدَ) إذ كانت معطوفة على أول الكلام ولم يكن في الكلام ما يدل على انقطاعها عن أوله ، ولا أنه عنى بها النهي عن التقليد أو اتخاذ القلائد من شيء ، أن يكون معناه : ولا تحلّوا القلائد. ونهي من الله عزوجل عن استحلال حرمة المقلّد ، هديا كان ذلك أو إنسانا ، دون حرمة القلادة. وإن الله عز ذكره ، إنما دلّ بتحريمه حرمة القلادة على ما ذكرنا من حرمة المقلّد.

(٢) سورة طه : ٩٧.

٥٠٨

قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) لفظه لفظ الأمر ، ومعناه الإباحة ، نظيره (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) (١) وهو يدلّ على إحرام متقدّم.

قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) وروى الوليد عن يعقوب «يجرمنكم» بسكون النون ، وتخفيفها. قال ابن عباس : لا يحملنّكم ، قال غيره : لا يدخلنّكم في الجرم ، كما تقول : آثمته ؛ أي : أدخلته في الإثم ، وقال ابن قتيبة : لا يكسبنّكم يقال : فلان جارم أهله ، أي : كاسبهم ، وكذلك جريمتهم. وقال الهذليّ : ووصف عقابا :

جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا (٢)

والنّاهض : فرخها ، يقول : هي تكسب له ، وتأتيه بقوته. و «الشّنآن» البغض ، يقال : شنئته أشنؤه : إذا أبغضته. وقال ابن الأنباريّ : «الشّنآن» : البغض ، و «الشّنآن» بتسكين النون : البغيض. واختلف القرّاء في نون الشّنآن ، فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : بتحريكها ، وأسكنها ابن عامر ، وروى حفص عن عاصم تحريكها ، وأبو بكر عنه تسكينها ، وكذلك اختلف عن نافع. قال أبو عليّ : «الشّنآن» ، قد جاء وصفا ، وقد جاء اسما ، فمن حرّك ، فلأنّه مصدر ، والمصدر يكثر على فعلان ، نحو النّزوان ، ومن سكّن. قال : هو مصدر ، وقد جاء المصدر على فعلان ، تقول : لويته دينه ليّانا ، فالمعنى في القراءتين واحد ، وإن اختلف اللفظان.

واختلفوا في قوله تعالى : (أَنْ صَدُّوكُمْ) فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالكسر ، وقرأ الباقون بالفتح ، فمن فتح جعل الصّدّ ماضيا ، فيكون المعنى من أجل أن صدّوكم ، ومن كسرها ، جعلها للشّرط ، فيكون الصّدّ مترقّبا. قال أبو الحسن الأخفش : وقد يكون الفعل ماضيا مع الكسر ، كقوله تعالى : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (٣) وقد كانت السّرقة عندهم قد وقعت ، وأنشد أبو عليّ الفارسيّ :

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

ولم تجدي من أن تقرّي بها بدّا

فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء ، والجزاء إنما يكون بالمستقبل فيكون المعنى إن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة.

قال ابن جرير : وقراءة من فتح الألف أبين ، لأنّ هذه السّورة نزلت بعد الحديبية ، وقد كان الصدّ تقدّم. فعلى هذا في معنى الكلام قولان : أحدهما : ولا يحملنّكم بغض أهل مكّة أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فيه ، فتقاتلوهم ، وتأخذوا أموالهم إذا دخلتموه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : لا يحملنّكم بغض أهل مكّة ، وصدّهم إيّاكم أن تعتدوا بإتيان ما لا يحلّ لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين ، على ما سبق في نزول الآية.

قوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) قال الفرّاء : ليعن بعضكم بعضا. قال ابن عباس : البرّ ما

__________________

(١) سورة الجمعة : ١٠.

(٢) الصليب : الودك. وقد تقدم وقال ابن فارس : يقال جرم وأجرم ولا جرم بمنزلة قولك لا بد ولا محالة وأصلها من جرم أي اكتسب. انظر «تفسير القرطبي» ٦ / ٤٤.

(٣) سورة يوسف : ٧٧.

٥٠٩

أمرت به ، و «التّقوى» : ترك ما نهيت عنه. فأمّا «الإثم» فالمعاصي. والعدوان : التّعدّي في حدود الله ، قاله عطاء.

فصل : اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين :

أحدهما : أنها محكمة ، روي عن الحسن أنه قال : ما نسخ من المائدة شيء ، وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين قالوا : ولا يجوز استحلال الشّعائر ، ولا الهدي قبل أوان ذبحه ، واختلفوا في «القلائد» فقال قوم : يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر ، وقال آخرون : كانت الجاهلية تقلّد من شجر الحرم ، فقيل لهم : لا تستحلّوا أخذ القلائد من الحرم ، ولا تصدّوا القاصدين إلى البيت.

والثاني : أنها منسوخة ، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال : أحدها : أنّ جميعها منسوخ ، وهو قول الشّعبيّ. والثاني : أنها وردت في حقّ المشركين كانوا يقلّدون هداياهم ، ويظهرون شعائر الحجّ من الإحرام والتّلبية ، فنهي المسلمون بهذه الآية عن التّعرّض لهم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) وهذا قول الأكثرين. والثالث : أن الذي نسخ قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) نسخه قوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (٢) روي عن ابن عباس ، وقتادة. والرابع : أن المنسوخ منها : تحريم الشّهر الحرام ، وآمّون البيت الحرام : إذا كانوا مشركين ، وهدي المشركين. إذا لم يكن لهم من المسلمين أمان ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣))

قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) مفسّر في «البقرة» ، فأمّا (وَالْمُنْخَنِقَةُ) فقال ابن عباس : هي التي تختنق فتموت ، وقال الحسن ، وقتادة : هي التي تختنق بحبل الصّائد وغيره. قلت : والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك ، قال ابن قتيبة : (وَالْمَوْقُوذَةُ) : التي تضرب حتى توقذ ، أي : تشرف على الموت ، ثم تترك حتى تموت ، وتؤكل بغير ذكاة ، ومنه يقال : فلان وقيذ ، وقد وقذته العبادة. و «المتردّية» : الواقعة من جبل أو حائط ، أو في بئر ، يقال : تردّى : إذا سقط. (وَالنَّطِيحَةُ) : التي تنطحها شاة أخرى أو بقرة ، «فعيلة» في معنى «مفعولة» (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو مجلز ، وابن أبي ليلى : السّبع : بسكون الباء. والمراد : ما افترسه فأكل بعضه (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي : إلا ما لحقتم من هذا كلّه وبه حياة ، فذبحتموه (٣). فأمّا الاستثناء ، ففيه قولان : أحدهما : أنه يرجع إلى المذكور من عند قوله تعالى :

__________________

(١) سورة التوبة : ٥.

(٢) سورة التوبة : ٣٨.

(٣) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٢٩١ : «مسألة : وإذا ندّ بعيره فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه فقتله أكل». قال : وكذلك إذا تردى في بئر فلم يقدر على تذكيته ، فجرحه في أي موضع قدر عليه ، فقتله أكل ، إلا أن تكون رأسه في الماء فلا يؤكل ، لأن الماء يعين على قتله ، هذا قول أكثر الفقهاء ،

٥١٠

(وَالْمُنْخَنِقَةُ). والثاني : أنه يرجع إلى ما أكل السّبع خاصة ، والعلماء على الأوّل.

فصل في الذّكاة : قال الزجّاج : أصل الذّكاة في اللغة : تمام الشّيء ، فمنه الذّكاء في السّن ، وهو تمام السّن. قال الخليل : الذّكاء : أن تأتي على قروحه سنة ، وذلك تمام استكمال القوّة ، ومنه الذّكاء في الفهم ، وهو أن يكون فهما تامّا ، سريع القبول. وذكّيت النار ، أي : أتممت إشعالها. وقد روي عن عليّ ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة أنهم قالوا : ما أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف ؛ أو ذنب يتحرّك ، فأكله حلال. قال القاضي أبو يعلى : ومذهب أصحابنا أنه إن كان يعيش مع ما به ، حلّ بالذّبح ، فإن كان لا يعيش مع ما به ، نظرت ، فإن لم تكن حياته مستقرّة ، وإنما حركته حركة المذبوح ، مثل أن شقّ جوفه ، وأبينت حشوته ، فانفصلت عنه ، لم يحلّ أكله ، وإن كانت حياته مستقرّة يعيش اليوم واليومين ، مثل أن يشقّ جوفه ، ولم تقطع الأمعاء ، حلّ أكله. ومن الناس من يقول : إذا كانت فيه حياة في الجملة أبيح بالذّكاة ، والصحيح ما ذكرنا ، لأنه إذا لم تكن فيه حياة مستقرّة ، فهو في حكم الميت. ألا ترى أنّ رجلا لو قطع حشوة آدميّ ، ثم ضرب عنقه آخر ، فالأوّل هو القاتل ، لأن الحياة لا تبقى مع الفعل الأول.

وفي ما يجب قطعه في الذّكاة روايتان (١) : إحداهما : أنه الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء ، فإن نقص من ذلك شيئا لم يؤكل ، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله. والثانية : يجزئ قطع الحلقوم والمريء ، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل ، وبه قال الشّافعيّ ، وقال أبو حنيفة : يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. وقال مالك : يجزئ قطع الأوداج ، وإن لم يقطع الحلقوم. وقال الزجّاج : الحلقوم بعد الفم ، وهو موضع النّفس ، وفيه شعب تتشعّب منه في الرّئة.

__________________

روي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة ، وبه قال مسروق والأسود والحسن وعطاء وطاوس وإسحاق والشعبي والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور. وقال مالك : لا يجوز أكله إلا أن يذكّى. وهو قول ربيعة والليث. قال أحمد : لعل مالكا لم يسمع حديث رافع بن خديج اه باختصار.

(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣ / ٣٠٣ ـ ٣٠٨ : يعتبر قطع الحلقوم والمريء وبهذا قال الشافعي ، وعن أحمد رواية أخرى أنه يعتبر مع هذا قطع الودجين وبه قال مالك وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة : يعتبر قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين ولا خلاف أن الأكمل قطع الأربعة : الحلقوم والمريء والودجين اه ملخصا. ويسنّ الذبح بسكين حادّ ، ويكره أن يسنّ السكين والحيوان يبصره ويكره أن يذبح شاة وأخرى تنظر إليه ، ويستحب أن يستقبل القبلة. وإذا ذبح فأتى على المقاتل ، فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء ، أو وطئ عليها شيء لم تؤكل. يعني وطئ عليها شيء يقتلها مثله غالبا. وقال أصحابنا المتأخرين : لا يحرم بذلك وهو قول أكثر الفقهاء ، لأنها إذا ذبحت فقد صارت في حكم الميت ، وكذلك لو أبين رأسها بعد الذّبح ، لم تحرم. وإذا ذبحها من قفاها ، وهو مخطئ ، فأتت السكين على موضع ذبحها ، وهي في الحياة أكلت. قال القاضي : معنى الخطأ أن تلتوي الذبيحة عليه ، فتأتي السكين على القفا ، لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها في محل ذبحها ، فسقط اعتبار المحل. وقد روي أن الفضل بن زياد قال : سألت أبا عبد الله عن من ذبح في القفا؟ قال : عامدا أو غير عامد؟ قلت : عامدا. قال : لا تؤكل ، فإذا كان غير عامد ، كأنه التوى عليه ، فلا بأس. ومن ذبحها من قفاها اختيارا. لا تؤكل. وقال القاضي : إن بقيت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء ، حلّت وإلا فلا. وهذا مذهب الشافعي. وهذا أصح. لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحلّه. ولو ضرب عنقها بالسيف فأطار رأسها حلّت بذلك.

٥١١

والمريء : مجرى الطّعام ، والودجان : عرقان يقطعهما الذّابح. فأما الآلة التي تجوز بها الذّكاة ، فهي كل ما أنهر الدّم ، وفرى الأوداج سوى السّنّ والظفر ، سواء كانا منزوعين أو غير منزوعين. وأجاز أبو حنيفة الذّكاة بالمنزوعين. فأما البعير إذا توحّش أو تردّى في بئر ، فهو بمنزلة الصّيد ذكاته عقره. وقال مالك : ذكاته ذكاة المقدور عليه. فإن رمى صيدا فأبان بعضه وفيه حياة مستقرّة فذكاه ، أو تركه حتى مات جاز أكله ، وفي أكل ما بان منه روايتان.

قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) في النّصب قولان : أحدهما : أنها أصنام تنصب ، فتعبد من دون الله ، قاله ابن عباس ، والفرّاء ، والزجّاج ، فعلى هذا القول يكون المعنى ، وما ذبح على اسم النّصب ، وقيل لأجلها ، فتكون «على» بمعنى «اللام» ، وهما يتعاقبان في الكلام ، كقوله تعالى : (فَسَلامٌ لَكَ) (١) أي : عليك ، وقوله تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (٢). والثاني : أنها حجارة كانوا يذبحون عليها ، ويشرّحون اللحم عليها ويعظّمونها ، وهو قول ابن جريج.

وقرأ الحسن ، وخارجة عن أبي عمرو : على النّصب ، بفتح النون ، وسكون الصاد ، قال ابن قتيبة ، يقال : نصب ونصب ونصب ، وجمعه أنصاب.

قوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) قال ابن جرير : أي : وأن تطلبوا علم ما قسم لكم ، أو لم يقسم بالأزلام ، واستفعلت من القسم ، قسم الرزق والحاجات. قال ابن قتيبة : الأزلام : القداح ، واحدها : زلم وزلم. والاستقسام بها : أن يضرب بها فيعمل بما يخرج فيها من أمر أو نهي ، فكانوا إذا أرادوا أن يقتسموا شيئا بينهم ، فأحبّوا أن يعرفوا قسم كلّ امرئ تعرفوا ذلك منها ، فأخذ الاستقسام من القسم وهو النّصيب. قال سعيد بن جبير : الأزلام : حصىّ بيض ، كانوا إذا أرادوا غدوّا ، أو رواحا ، كتبوا في قدحين ، في أحدهما : أمرني ربّي ، وفي الآخر : نهاني ربّي ، ثم يضربون بهما ، فأيّهما خرج ، عملوا به. وقال مجاهد : الأزلام : سهام العرب ، وكعاب (٣) فارس التي يتقامرون بها. وقال السّدّي : كانت الأزلام تكون عند الكهنة. وقال مقاتل : في بيت الأصنام. وقال قوم : كانت عند سدنة الكعبة. قال الزجّاج : ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجّمين : لا تخرج من أجل نجم كذا ، أو أخرج من أجل نجم كذا.

قوله تعالى : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) في المشار إليه بذلكم قولان : أحدهما : أنه جميع ما ذكر في الآية ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال سعيد بن جبير. والثاني : أنه الاستقسام بالأزلام ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والفسق : الخروج عن طاعة الله إلى معصيته.

قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) في هذا «اليوم» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه اليوم الذي دخل فيه رسول الله مكّة في حجّة الوداع ، قاله أبو صالح عن ابن عباس (٤). وقال ابن السّائب : نزلت ذلك اليوم. والثاني : أنه يوم عرفة ، قاله مجاهد ، وابن زيد.

__________________

(١) سورة الواقعة : ٩١.

(٢) سورة الإسراء : ٧.

(٣) في اللسان الكعاب : فصوص النّرد. واللعب بها حرام.

(٤) لا يصح عن ابن عباس ، فهو من رواية أبي صالح ، وهو غير ثقة في ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو محمد بن السائب الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث.

٥١٢

والثالث : أنه لم يرد يوما بعينه ، وإنما المعنى : الآن يئسوا ، كما تقول : أنا اليوم قد كبرت ، قاله الزجّاج. قال ابن الأنباريّ : العرب توقع اليوم على الزّمان الذي يشتمل على السّاعات والليالي ، فيقولون : قد كنت في غفلة ، فاليوم استيقظت ، يريدون : فالآن ، ويقولون : كان فلان يزورنا ، وهو اليوم يجفونا ، ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد. قال الشاعر :

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسر (١)

أراد : فزمان لنا ، وزمان علينا ، ولم يقصد ليوم واحد لا ينضمّ إليه غيره.

وفي معنى يأسهم قولان : أحدهما : أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين ، قاله ابن عباس والسّدّي. والثاني : يئسوا من بطلان الإسلام ، قاله الزجّاج. قال ابن الأنباريّ : وإنّما يئسوا من إبطال دينهم لمّا نقل الله خوف المسلمين إليهم. وأمّنهم إلى المسلمين ، فعلموا أنهم لا يقدرون على إبطال دينهم ، ولا على استئصالهم ، وإنّما قاتلوهم بعد ذلك ظنا منهم أن كفرهم يبقى. قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) قال ابن جريج : لا تخشوهم أن يظهروا عليكم ، وقال ابن السّائب : لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم ، واخشوني في مخالفة أمري.

قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).

(٣٩٧) روى البخاريّ ، ومسلم في «الصّحيحين» من حديث طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين إنّكم تقرؤون آية من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت ، لاتّخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : وأيّ آية هي؟ قال : قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله ، والساعة التي نزلت فيها ، والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله وهو قائم بعرفة في يوم جمعة. وفي لفظ «نزلت عشيّة عرفة» قال سعيد بن جبير : عاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك أحدا وثمانين يوما (٢).

فأمّا قوله تعالى : (الْيَوْمَ) ففيه قولان : أحدهما : أنه يوم عرفة ، وهو قول الجمهور. والثاني : أنه ليس بيوم معيّن ، رواه عطيّة عن ابن عباس ، وقد ذكرنا هذا آنفا.

وفي معنى إكمال الدّين خمسة أقوال (٣) : أحدها : أنه إكمال فرائضه وحدوده ، ولم ينزل بعد هذه

____________________________________

(٣٩٧) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥ و ٤٤٠٧ و ٤٦٠٦ و ٧٢٦٨ ومسلم ٣٠١٧ والترمذي ٣٠٤٣ والنسائي ٨ / ١١٤ وأحمد ١ / ٢٨ والطبري ١١٠٩٨ و ١١٠٩٩ عن طارق بن شهاب عن عمر به.

__________________

(١) البيت للنمر بن تولب كما في «الشواهد الكبرى» للعيني ١ / ٥٦٥.

(٢) هو مرسل ، وتقدم في أواخر سورة البقرة.

(٣) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤١٩ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله عزوجل أخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين به ، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم بإفرادهم البلد الحرام وإجلائه عنه المشركين ، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطونهم المشركون. فأما الفرائض والأحكام ، فإنه قد اختلف فيها : هل كانت أكملت ذلك اليوم ، أم لا؟ ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن قبض بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا. فإذا كان ذلك كذلك ، وكان قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) النساء : ١٧٦ آخرها نزولا ، وكان ذلك من الأحكام والفرائض.

٥١٣

الآية تحليل ولا تحريم ، قاله ابن عباس ، والسّدّي ، فعلى هذا يكون المعنى : اليوم أكملت لكم شرائع دينكم. والثاني : أنه بنفي المشركين عن البيت ، فلم يحجّ معهم مشرك عامئذ ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة. وقال الشّعبيّ : كمال الدّين هاهنا : عزّه وظهوره ، وذلّ الشّرك ودروسه ، لا تكامل الفرائض والسّنن ، لأنّها لم تزل تنزل إلى أن قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعلى هذا يكون المعنى : اليوم أكملت لكم نصر دينكم. والثالث : أنه رفع النّسخ عنه. وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قبض ، روي عن ابن جبير أيضا. والرابع : أنه زوال الخوف من العدوّ ، والظّهور عليهم ، قاله الزجّاج. والخامس : أنه أمن هذه الشّريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها ، كما نسخ بها ما تقدّمها. وفي إتمام النّعمة ثلاثة أقوال : أحدها : منع المشركين من الحجّ معهم ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة. والثاني : الهداية إلى الإيمان ، قاله ابن زيد. والثالث : الإظهار على العدو ، قاله السّدّي.

قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي : دعته الضرورة إلى أكل ما حرّم عليه. (فِي مَخْمَصَةٍ) أي : مجاعة ، والخمص : الجوع. قال الشاعر يذمّ رجلا :

يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة

يبت قلبه من قلّة الهمّ مبهما (١)

وهذا الكلام يرجع إلى المحرّمات المتقدّمة من الميتة والدّم ، وما ذكر معهما.

قوله تعالى : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) قال ابن قتيبة : غير مائل إلى ذلك ، و «الجنف» : الميل. وقال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد : غير متعمّد لإثم. وفي معنى «تجانف الإثم» قولان :

أحدهما : أن يتناول منه بعد زوال الضّرورة ، روي عن ابن عباس في آخرين.

والثاني : أن يتعرّض لمعصية في مقصده ، قاله قتادة. وقال مجاهد : من بغى وخرج في معصية ، حرّم عليه أكله. قال القاضي أبو يعلى : وهذا أصحّ من القول الأول ، لأن الآية تقتضي اجتماع تجانف الإثم مع الاضطرار ، وذلك إنما يصحّ في سفر العاصي ، ولا يصحّ حمله على تناول الزّيادة على سدّ الرّمق ، لأنّ الاضطرار قد زال. قال أبو سليمان : ومعنى الآية : فمن اضطرّ فأكله غير متجانف لإثم ، فإن الله غفور ، أي : متجاوز عنه ، رحيم إذ أحلّ ذلك للمضطرّ.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤))

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) في سبب نزولها قولان :

(٣٩٨) أحدهما : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أمر بقتل الكلاب ، قال الناس : يا رسول الله ما ذا أحلّ لنا من

____________________________________

(٣٩٨) ضعيف ، أخرجه الحاكم ٢ / ٣١١ والطبري ١١١٣٧ والطبراني ٩٧١ و ٩٧٢ والواحدي في «الأسباب» ٣٨٣ من حديث أبي رافع وإسناده ضعيف لضعف موسى بن عبيدة الربذي ، وبه أعله الهيثمي في «المجمع» ٦٠٩٦ والوهن في هذا الحديث ذكر جبريل عليه‌السلام ، أما الأمر بقتل الكلاب ونزول الآية ، فقد ورد من وجه آخر عن ابن إسحاق عن أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى أم رافع عن أبي رافع ، ورجاله ثقات لكن

__________________

(١) البيت لحاتم الطائي كما في «الأغاني» ١٦ / ١٢٢.

٥١٤

هذه الأمّة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية ، أخرجه أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث أبي رافع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣٩٩) وكان السبب في أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتلها أنّ جبريل عليه‌السلام استأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأذن له ، فلم يدخل وقال : «إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة» ، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو.

(٤٠٠) والثاني : أنّ عديّ بن حاتم ، وزيد الخيل الذي سمّاه رسول الله : زيد الخير ، قالا : يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة (١) ، فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه ما لا ندرك ذكاته ، وقد حرّم الله الميتة ، فما ذا يحلّ لنا منها؟ فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير.

قال الزجّاج : ومعنى الكلام : يسألونك أيّ شيء أحلّ لهم؟ قل : أحلّ لكم الطّيبات ، وأحلّ لكم صيد ما علّمتم من الجوارح ، والتّأويل أنهم سألوا عنه ولكن حذف ذكر صيد ما علّمتم ، لأنّ في الكلام دليلا عليه. وفي الطّيبات قولان : أحدهما : أنها المباح من الذّبائح. والثاني : أنها ما استطابته العرب مما لم يحرّم. فأمّا (الْجَوارِحِ) فهي ما صيد به من سباع البهائم والطّير ، كالكلب ، والفهد ، والصّقر والبازي ، ونحو ذلك مما يقبل التّعليم (٢). قال ابن عباس : كلّ شيء صاد فهو جارح. وفي تسميتها بالجوارح قولان : أحدهما : لكسب أهلها بها. قال ابن قتيبة : أصل الاجتراح : الاكتساب ، يقال : امرأة لا جارح لها ، أي : لا كاسب. والثاني : لأنها تجرح ما تصيد في الغالب ، ذكره الماورديّ. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : وعلامة التّعليم أنك إذا دعوته أجاب ، وإذا أسّدته على الصيد استأسد ، ومضى في طلبه ، وإذا أمسك أمسك عليك لا على نفسه. وعلامة إمساكه عليك : أن لا يأكل منه شيئا ، هذا في السّباع والكلاب (٣) ، فأمّا تعليم جوارح الطّير فبخلاف السّباع ، لأنّ الطائر إنما يعلّم الصيد بالأكل ،

____________________________________

فيه عنعنة ابن إسحاق ، وله شاهد من مرسل عكرمة أخرجه الطبري ١١١٣٨ ومن مرسل محمد بن كعب برقم ١١١٣٩ ، وقد صح لفظ «لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» فهذا أخرجه مسلم ٢١٠٥ ، وليس فيه ذكر الآية والأمر بقتل الكلاب ، وانظر «تفسير الشوكاني» ٧٦٩ و «أحكام القرآن» ٦٢١ بتخريجي.

(٣٩٩) هو بعض المتقدم ، وقوله «إنا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» دون باقي الخبر ، متفق عليه ، وسيأتي.

(٤٠٠) أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير كما في ابن كثير ٢ / ٢٢ ، وهو مرسل ، ومع إرساله ، فيه ابن لهيعة ، وهو ضعيف ، وعطاء بن دينار روايته عن سعيد بن جبير صحيفة. وذكره الواحدي في أسبابه ٣٨٤ بدون إسناد عن سعيد بن جبير. وله شاهد مرسل ، أخرجه الطبري ٤٢٢٧ من حديث جابر وإسناده ضعيف. فيه أشعث بن سوّار ، ضعيف والحسن لم يسمع من جابر. وقد أخرجه عبد الرزاق ٢٦٥٦ بإسناد على شرط مسلم عن جابر موقوفا وهو الصواب وورد عن جماعة من الصحابة. والإجماع منعقد على ذلك. وانظر «تفسير الشوكاني» ٧٧٠ و ٧٧١ بتخريجنا.

__________________

(١) في «اللسان» : الباز : لغة في البازي ، وجمع البازي بزاة.

(٢) وقال الإمام الموفق في «المغني» ١٣ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦ : فصل : وكل ما يقبل التعليم ويمكن الاصطياد به من سباع البهائم : كالفهد أو جوارح الطير فحكمه حكم الكلب في إباحة صيده ، وبمعنى هذا قال ابن عباس وطاوس ويحيى بن أبي كثير والحسن ومالك والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي وأبو ثور. وحكي عن ابن عمر ومجاهد أنه لا يجوز الصيد إلا بالكلب اه باختصار.

(٣) قال الإمام البغوي في «تفسيره» عقب الحديث ٧٥٣ : واختلفوا فيما أخذت الصيد وأكلت منه شيئا ،

٥١٥

والفهد ، والكلب ، وما أشبههما يعلّمون بترك الأكل ، فهذا فرق ما بينهما.

وفي قوله تعالى : (مُكَلِّبِينَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم أصحاب الكلاب ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والضّحّاك ، والسّدّي ، والفرّاء ، والزجّاج ، وابن قتيبة. قال الزجّاج : يقال : رجل مكلّب وكلّابي ، أي : صاحب صيد بالكلاب. والثاني : أن معنى (مُكَلِّبِينَ) : مصرّين على الصّيد ، وهذا مرويّ عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد. والثالث : أن (مُكَلِّبِينَ) بمعنى : معلّمين. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : وإنّما قيل لهم : مكلّبين ، لأنّ الغالب من صيدهم إنّما يكون بالكلاب. قال ثعلب : وقرأ الحسن ، وأبو رزين : مكلبين ، بسكون الكاف ، يقال : أكلب الرجل : إذا كثرت كلابه ، وأمشى : إذا كثرت ماشيته ، والعرب تدعو الصّائد مكلّبا.

قوله تعالى : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) قال سعيد بن جبير : تؤدّبونهنّ لطلب الصّيد. وقال الفرّاء : تؤدّبونهنّ أن لا يأكلن صيدهنّ. واختلفوا هل إمساك الصّائد عن الأكل شرط في صحة التّعليم أم لا؟ على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه شرط في كلّ الجوارح ، فإن أكلت ، لم يؤكل ، روي عن ابن عباس ، وعطاء. والثاني : أنه ليس بشرط في الكلّ ، ويؤكل وإن أكلت ، روي عن سعد بن أبي وقّاص ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وسلمان الفارسيّ. والثالث : أنه شرط في جوارح البهائم ، وليس بشرط في جوارح الطّير ، وبه قال الشّعبيّ ، والنّخعيّ ، والسّدّيّ ، وهو أصحّ لما بيّنّا أنّ جارح الطّير يعلّم على الأكل ، فأبيح ما أكل منه ، وسباع البهائم تعلّم على ترك الأكل ، فأبيح ما أكلت منه. فعلى هذا إذا أكل الكلب والفهد من الصّيد ، لم يبح أكله. فأمّا ما أكل منه الصّقر والبازي ، فمباح ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، وقال مالك : يباح أكل ما أكل منه الكلب ، والفهد ، والصّقر ، فإن قتل الكلب ، ولم يأكل ، أبيح. وقال أبو حنيفة : لا يباح ، فإن أدرك الصّيد ، وفيه حياة ، فمات قبل أن يذكّيه ، فإن كان ذلك قبل القدرة على ذكاته أبيح ، وإن أمكنه فلم يذكّه ، لم يبح ، وبه قال مالك ، والشّافعيّ. وقال أبو حنيفة : لا يباح في الموضعين. فأما الصّيد بكلب المجوسيّ ، فروي عن أحمد أنه لا يكره ، وهو قول الأكثرين ، وروي عنه الكراهة ، وهو قول الثّوريّ لقوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) وهذا خطاب للمؤمنين (١). قال القاضي أبو يعلى : ومنع أصحابنا الصّيد بالكلب الأسود ، وإن كان معلّما ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتله ،

__________________

فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه روي ذلك عن ابن عباس ، وهو قول عطاء وطاوس والشعبي ، وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي ، وهو أصح قولي الشافعي ، ورخص بعضهم في أكله روي ذلك عن ابن عمر وسلمان وسعد بن أبي وقاص ، وبه قال مالك.

وانظر «المغني» ١٣ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣. و «الأحكام للجصاص» ٣ / ٣١٢ ـ ٣١٣.

(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣ / ٢٧٢ : وإن صاد المسلم ، بكلب مجوسيّ فقتل ، حلّ صيده. وبهذا قال سعيد بن المسيّب ، والحكم ، ومالك والشافعي ، وأبو ثور وأصحاب الرأي. وعن أحمد : لا يباح. وكرهه جابر والحسن ، ومجاهد ، والنخعي ، والثوري لقوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ). وهذا لم يعلّمه. ولنا ، أنه آلة صاد بها المسلم ، فحلّ صيده ، كالقوس والسهم. قال ابن المسيّب : هو بمنزلة شفرته.

والآية دلّت على إباحة الصيد بما علمناه وما علمه غيرنا ، فهو في معناه ، فيثبت الحكم بالقياس الذي ذكرناه ، يحققه أن التعليم إنما أثر في جعله آلة ، ولا تشترط الأهلية في ذلك كعمل القوس والسهم. وإنما يشترط إرسال الآية من الكلب والسهم ، وقد وجد هاهنا.

٥١٦

والأمر بالقتل : يمنع ثبوت اليد ، ويبطل حكم الفعل ، فيصير وجوده كالعدم ، فلا يباح صيده (١).

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) قال الأخفس : «من» زائدة كقوله تعالى : (فِيها مِنْ بَرَدٍ) (٢). قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الإرسال ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ ، وعندنا أن التّسمية شرط في إباحة الصّيد (٣). والثاني : ترجع إلى الأكل فتكون التّسمية مستحبّة.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) قال سعيد بن جبير : لا تستحلّوا ما لم يذكر اسم الله عليه.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) قال القاضي أبو يعلى : يجوز أن يريد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه الآية ، ويجوز أن يريد اليوم الذي تقدّم ذكره في قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) ، وفي قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، وقيل : ليس بيوم معيّن ، وقد سبق الكلام في «الطّيّبات» وإنما كرّر إحلالها تأكيدا. فأمّا أهل الكتاب ، فهم اليهود والنّصارى. وطعامهم : ذبائحهم ،

__________________

(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣ / ٢٦٧ : ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود ، إذا كان بهيما لأنه شيطان. قال أحمد : الذي ليس فيه بياض وممن كره صيده الحسن ، والنخعي ، وقتادة ، وإسحاق. قال أحمد : ما أعرف أحدا يرخّص فيه. يعني من السلف. وأباح صيده أبو حنيفة ومالك والشافعي ، لعموم الآية والخبر ، والقياس على غيره من الكلاب. ولنا ، أنه كلب يحرم اقتناؤه ، ويجب قتله ، فلم يبح صيده كغير المعلّم ، ودليل تحريم اقتنائه ما روى مسلم في «صحيحه» بإسناده عن عبد الله بن المغفّل ، قال : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل الكلاب ، ثم نهى عن قتلها ، فقال : «عليكم بالأسود البهيم ، ذي النكتتين ، فإنه شيطان». فالنبي سماه شيطانا ، ولا يجوز اقتناء الشيطان. وإباحة الصيد المقتول رخصة ، فلا تستباح بمحرّم كسائر الرّخص.

(٢) سورة النور : ٤٣.

(٣) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٢٥٧ ـ ٢٦٥ : مسألة ، قال أبو القاسم ، رحمه‌الله «وإذا سمّى وأرسل كلبه أو فهده المعلّم ، واصطاد ، وقتل ، ولم يأكل منه ، جاز أكله فاشترط في إباحة ما قتله الجارح شروط منها. أن يسمّي عند إرسال الجارح ، فإن ترك التسمية عمدا أو سهوا لم يبح هذا تحقيق المذهب وهو قول الشعبي وأبي ثور ، وعن أحمد أن التسمية تشترط في إرسال الكلب في العمد والنسيان ، ولا يلزم ذلك في إرسال السهم. وممن أباح متروك التسمية في النسيان دون العمد أبو حنيفة ومالك ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان». وقال الشافعي : يباح متروك التسمية عمدا أو سهوا لأن البراء روى ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم يذبح على اسم الله ، سمّى أو لم يسمّ». وعن أحمد رواية أخرى مثل هذا. ولنا قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أرسلت كلبك ، وسمّيت ، فكل» ، قلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال : «لا تأكل ، فإنك إنما سمّيت على كلبك ولم تسمّ على الآخر» متفق عليه.

وحديث أبي ثعلبة ، فهذه نصوص صحيحة لا يعرّج على ما خالفها. وأما أحاديث الشافعي ، وإن صحت فهي في الذبيحة ، ولا يصح قياس الصيد عليها ، والتسمية المعتبرة «بسم الله» وقد ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا ذبح قال : «بسم الله والله أكبر». وجاء في تفسير قوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) لا أذكر إلا ذكرت معي.

ولنا ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «موطنان لا أذكر فيهما ، عند الذبيحة ، والعطاس» رواه أبو محمد الخلّال بإسناده.

٥١٧

هذا قول ابن عباس ، والجماعة. وإنما أريد بها الذّبائح خاصّة ، لأنّ سائر طعامهم لا يختلف بمن تولّاه من مجوسيّ وكتابيّ ، وإنما الذّكاة تختلف ، فلما خصّ أهل الكتاب بذلك ، دلّ على أن المراد الذّبائح ، فأمّا ذبائح المجوس ، فأجمعوا على تحريمها. واختلفوا في ذبائح من دان باليهوديّة والنّصرانيّة من عبدة الأوثان (١) ، فروي عن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب ، فقال : لا بأس بها ، وتلا قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) وهذا قول الحسن ، وعطاء بن أبي رباح ، والشّعبيّ ، وعكرمة ، وقتادة ، والزّهريّ ، والحكم ، وحمّاد. وقد روي عن عليّ ، وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحلّ. ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين. إحداهما : تباح ذبائحهم ، وهو قول أبي حنيفة ، ومالك. والثانية : لا تباح. وقال الشّافعيّ : من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن ، لم يبح أكل ذبيحته.

قوله تعالى : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) أي : وذبائحكم لهم حلال ، فإذا اشتروا منّا شيئا كان الثّمن لنا حلالا ، واللحم لهم حلالا. قال الزجّاج. والمعنى : أحلّ لكم أن تطعموهم.

فصل : وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا وإن ذكروا غير اسم الله عليها ، فكان هذا ناسخا لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (٢) والصّحيح أنها أطلقت إباحة ذبائحهم ، لأنّ الأصل أنهم يذكرون الله فيحمل أمرهم على هذا. فإن تيقنا أنهم ذكروا غيره فلا نأكل ولا وجه للنسخ ، وإلى هذا الذي قلته ذهب عليّ ، وابن عمر ، وعبادة ، وأبو الدّرداء ، والحسن في جماعة.

__________________

(١) فائدة : قال الإمام الخرقي في «المختصر» ؛ مسألة : وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال إذا سموا ، أو نسوا التسمية» قال الإمام الموفق في «شرحه» : وجملة ذلك أن كل من أمكنه الذبح من المسلمين وأهل الكتاب إذا ذبح حل أكل ذبيحته رجلا كان أو امرأة ، بالغا أو صبيا ، حرا أو عبدا ، لا نعلم في هذا خلافا. قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي. ويشترط أن يكون عاقلا ، فإن كان طفلا أو مجنونا أو سكران لا يعقل ، لم يصح منه الذبح ، وبهذا قال مالك ، وقال الشافعي : لا يعتبر القول. ولنا أن الذكاة يعتبر لها القصد ، فيعتبر لها العقل كالعبادة. فإن من لا عقل له ، لا يصح منه القصد ، فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق شاة فذبحتها. قال : والتسمية مشترطة في كل ذابح مع العمد سواء كان مسلما أو كتابيا ، فإن ترك الكتابي التسمية عن عمد ، أو ذكر اسم غير الله ، لم تحل ذبيحته ، روي ذلك عن علي ، وبه قال النخعي والشافعي وحماد وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال عطاء ومجاهد ومكحول : إذا ذبح النصراني باسم المسيح حلّ ، فإن الله تعالى أحل لنا ذبيحته ، وقد علم أنه سيقول ذلك. اه ملخصا ١٣ ، ٣١١ ـ ٣١٢.

وقال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» : وذبيحة المسلم والكتابي حلال. ويحل إذا كان يعقل التسمية والذبيحة ويضبط ، وإن كان صبيا أو مجنونا أو امرأة ، أما إذا كان لا يضبط ولا يعقل التسمية والذبيحة لا تحل ، لأن التسمية على الذبيحة شرط بالنص وذلك بالقصد ، والأقلف والمختون سواء ، وإطلاق اسم الكتابي ينتظم : الكتابي والذمي والحربي والعربي والتغلبي. ولا تؤكل ذبيحة المجوسي والمرتد والوثني والمحرم ، وكذا لا يؤكل ما ذبح من الصيد في الحرم ، وإن ترك التسمية عمدا فالذبيحة ميتة لا تؤكل ، وإن تركها ناسيا أكل وقال الشافعي : أكل في الوجهين. وقال مالك : لا يؤكل في الوجهين والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء اه ملخصا «فتح القدير شرح الهداية» ٩ / ٤٩٧ ـ ٤٩٩ بتخريجي.

(٢) سورة الأنعام : ١٢١.

٥١٨

قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) فيهنّ قولان : أحدهما : العفائف ، قاله ابن عباس. والثاني : الحرائر ، قاله مجاهد. وفي قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قولان : أحدهما : الحرائر أيضا ، قاله ابن عباس. والثاني : العفائف ، قاله الحسن ، والشّعبيّ ، والنّخعيّ ، والضّحّاك والسّدّيّ ، فعلى هذا القول يجوز تزويج الحرّة منهنّ والأمة.

فصل : وهذه الآية أباحت نكاح الكتابيّة. وقد روي عن عثمان أنه تزوّج نائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانيّة. وعن طلحة بن عبيد الله : أنّه تزوّج يهوديّة. وقد روي عن عمر ، وابن عمر كراهة ذلك. واختلفوا في نكاح الكتابيّة الحربيّة ، فقال ابن عباس : لا تحلّ ، والجمهور على خلافه ، وإنما كرهوا ذلك ، لقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) (١) ، والنّكاح يوجب الودّ. واختلفوا في نكاح نساء تغلب ، فروي عن عليّ رضي الله عنه الحظر ، وبه قال جابر بن زيد ، والنّخعيّ ، وروي عن ابن عباس الإباحة. وعن أحمد روايتان. واختلفوا في إماء أهل الكتاب ، فروي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد : أنه لا يجوز نكاحهنّ ، وبه قال الأوزاعيّ ، ومالك ، والليث بن سعد ، والشّافعيّ ، وأصحابنا ، وروي عن الشّعبيّ ، وأبي ميسرة جواز ذلك ، وبه قال أبو حنيفة. فأمّا المجوس ، فالجمهور على أنهم ليسوا بأهل كتاب ، وقد شذّ من قال : إنهم أهل كتاب.

(٤٠١) ويبطل قولهم قوله عليه‌السلام : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب».

فأمّا «الأجور» ، و «الإحصان» ، و «السّفاح» ، و «الأخذان» فقد سبق في سورة النّساء.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ).

(٤٠٢) سبب نزول هذا الكلام : أنّ الله تعالى لمّا رخّص في نكاح الكتابيّات قلن بينهنّ : لو لا أنّ الله تعالى قد رضي علينا ، لم يبح للمؤمنين تزويجنا ، وقال المسلمون : كيف يتزوّج الرجل منّا الكتابيّة ، وليست على ديننا ، فنزلت : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل بن حيّان : نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب ، يقول : ليس إحصان المسلمين إيّاهنّ بالذي يخرجهنّ من الكفر. وروى ليث عن مجاهد : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) قال : الإيمان بالله تعالى ، وقال الزجّاج : معنى الآية : من أحلّ ما حرّم الله ، أو حرّم ما أحلّه الله فهو كافر. وقال أبو سليمان : من جحد ما أنزله الله من شرائع الإيمان ، وعرّفه من الحلال والحرام ، فقد حبط

____________________________________

(٤٠١) صحيح. أخرجه مالك في «الموطأ» عن محمد الباقر وهو مرسل لأنه لم يدرك عمر ولا عبد الرحمن بن عوف. ورواه ابن سعد وفيه شيخه الواقدي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص والواقدي ضعيف.

لكن أخرجه البخاري ٣١٥٧ وأبو داود ٣٠٤٣ والترمذي ١٥٨٧ والدارمي ٢٤٠٦ وابن الجارود ١١٠٥ والبيهقي ٩ / ١٨٩ وأحمد ١ / ١٩٠ ، ٩٤ كلهم عن بجالة بن عبدة قال : «لم يكن عمر يأخذ الجزية من المجوس حتى حدثه ابن عوف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر» فهذا إسناد صحيح متصل.

(٤٠٢) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس ، ولم يسمع منه كما قال ابن حبان ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث ، فهذا خبر لا شيء.

__________________

(١) سورة المجادلة : ٢٢.

٥١٩

عمله المتقدّم. وسمعت الحسن بن أبي بكر النّيسابوريّ الفقيه يقول : إنّما أباح الله عزوجل الكتابيّات ، لأنّ بعض المسلمين قد يعجبه حسنهنّ ، فحذّر ناكحهنّ من الميل إلى دينهنّ بقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦))

قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) قال الزجّاج : المعنى : إذا أردتم القيام إلى الصّلاة ، كقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) (١) قال ابن الأنباريّ : وهذا كما تقول : إذا آخيت فآخ أهل الحسب ، وإذا اتّجرت فاتّجر في البز (٢). قال : ويجوز أن يكون الكلام مقدّما ومؤخّرا ، تقديره : إذا غسلتم وجوهكم ، واستوفيتم الطّهور ، فقوموا إلى الصّلاة. وللعلماء في المراد بالآية قولان (٣). أحدهما : إذا قمتم إلى الصّلاة محدثين ، فاغسلوا ، فصار الحدث مضمرا في وجوب الوضوء ، وهذا قول سعد بن أبي وقّاص ، وأبي موسى الأشعريّ ، وابن عباس ، والفقهاء. والثاني : أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار ، فيجب الوضوء على كلّ من يريد الصلاة ، محدثا كان ، أو غير محدث ، وهذا مرويّ عن عليّ رضي الله عنه وعكرمة ، وابن سيرين. ونقل عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ ، ونقل عن جماعة من العلماء أنّ ذلك كان واجبا ، ثم نسخ بالسّنّة.

(٤٠٣) وهو ما روى بريدة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد ، فقال له عمر : لقد صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال : «عمدا فعلته يا عمر».

____________________________________

(٤٠٣) صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٧ وأبو داود ١٧٢ والترمذي ٦١ والنسائي ١ / ١٦ والدارمي ١ / ١٦٩ وأحمد ٥ / ٣٥٠ ـ ٣٥١ ـ ٣٥٨ وأبو عوانة ١ / ٢٣٧ والطحاوي في «المعاني» ١ / ٤١ وابن حبان ١٧٠٦ و ١٧٠٧ و ١٧٠٨ والبيهقي ١ / ١٦٢ من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه.

__________________

(١) سورة النحل : ٩٨.

(٢) في «اللسان» : البزّ : الثياب ، وقيل البزّ من الثياب أمتعة البزاز والبزاز بائع البزّ وحرفته البزازة.

(٣) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٥٤ : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول من قال : إن الله عني بقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) ، جميع أحوال قيام القائم إلى الصلاة ، غير أنه أمر فرض بغسل ما أمر الله بغسله القائم إلى صلاته ، بعد حدث كان منه ناقض طهارته ، وقبل إحداث الوضوء منه ، وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه ، ولم يكن منه بعده حدث ينقض طهارته لذلك كان عليه‌السلام يتوضأ لكلّ صلاة قبل فتح مكة ثم صلى يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد ، ليعلّم أمته أن ما كان يفعله عليه‌السلام من تجديد الطهر لكل صلاة ، إنما كان منه أخذا بالفضل ، وإيثارا منه لأحب الأمرين إلى الله ، ومسارعة منه إلى ما ندبه إليه ربّه ، لا على أن ذلك كان عليه فرضا واجبا.

٥٢٠