زاد المسير في علم التفسير - ج ١

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ١

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
ISBN: 9953-27-016-3
الصفحات: ٦٠٦

قال الزجّاج : و «الكفل» في اللغة : النّصيب ، وأخذ من قولهم : اكتفلت البعير : إذا أدرت على سنامه ، أو على موضع من ظهره كساء ، وركبت عليه. وإنما قيل له : كفل ، لأنه لم يستعمل الظّهر كلّه ، وإنما استعمل نصيبا منه.

وفي المقيت» سبعة أقوال : أحدها : أنه المقتدر ، قال أحيحة بن الجلّاح :

وذي ضغن كففت النّفس عنه

وكنت على مساءته مقيتا (١)

وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ، وابن جرير ، والسّدّيّ ، وابن زيد ، والفرّاء ، وأبو عبيد ، وابن قتيبة ، والخطّابيّ. والثاني : أنه الحفيظ ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والزجّاج. وقال : هو بالحفيظ أشبه ، لأنه مشتق من القوت ، يقال : قتّ الرجل أقوته قوتا : إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته. والقوت : اسم الشيء الذي يحفظ نفسه ، ولا فضل فيه على قدر الحفظ ، فمعنى المقيت : الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ. قال الشاعر :

ألي الفضل أم عليّ إذا حو

سبت إنّي على الحساب مقيت

والثالث : أنه الشّهيد ، رواه ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، واختاره أبو سليمان الدّمشقيّ. والرابع : أنه الحسيب ، رواه خصيف عن مجاهد. والخامس : الرّقيب ، رواه أبو شيبة عن عطاء. والسادس : الدّائم ، رواه ابن جريج عن عبد الله بن كثير. والسابع : أنه معطي القوت ، قاله مقاتل بن سليمان. وقال الخطّابيّ : المقيت يكون بمعنى معطي القوت ، قال الفرّاء : يقال : قاته وأقاته.

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦))

قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) في التّحيّة قولان : أحدهما : أنها السّلام ، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني : الدّعاء ، ذكره ابن جرير والماورديّ. فأما «أحسن منها» فهو الزّيادة عليها ، وردّها : قول مثلها. قال الحسن : إذا قال أخوك المسلم : السّلام عليكم ، فردّ السلام ، وزد : ورحمة الله. أو ردّ ما قال ولا تزد. وقال الضّحّاك : إذا قال : السّلام عليك ، قلت : وعليكم السلام ورحمة الله ، وإذا قال : السلام عليك ورحمة الله ، قلت : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وهذا منتهى السّلام. وقال قتادة : بأحسن منها للمسلم ، أو ردّوها على أهل الكتاب (٢).

__________________

(١) في «اللسان» الضغن : الحقد والعداوة.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٢٨٣ : واختلف العلماء في معنى الآية وتأويلها ، فروى ابن وهب عن مالك أن هذه الآية بتشميت العاطس والردّ على المشمّت. وهذا ضعيف. والرد على المشمّت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك عنه. وقال أصحاب أبي حنيفة : التحية هنا الهدية ، لقوله تعالى : (أَوْ رُدُّوها) والصحيح أن التحية هاهنا السلام وعلى هذا جماعة المفسرين. وأجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنّة مرغب فيها ، وردّه فريضة لقوله تعالى : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها).

واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزئ أو لا. فمذهب الشافعي ومالك إلى الإجزاء. واحتجوا بما رواه داود عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يجزئ من الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم ، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم» قال أبو عمر : حديث حسن لا معارض له. وقد ضعفه بعضهم وجعلوه حديثا منكرا.

واحتجوا أيضا بقوله عليه‌السلام : «يسلّم القليل على الكثير». وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤٤١

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧))

قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) قال مقاتل : نزلت في الذين شكّوا في البعث. قال الزجّاج : واللام في «ليجمعنكم» لام القسم ، كقولك : والله ليجمعنّكم ، قال : وجائز أن تكون سمّيت القيامة ، لقيام الناس من قبورهم ، وجائز أن تكون ، لقيامهم للحساب.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) إنما وصف نفسه بهذا ، لأنّ جميع الخلق يجوز عليهم الكذب ، ويستحيل في حقّه.

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨))

__________________

قال : «يسلّم الراكب على الماشي وإذا سلّم واحد من القوم أجزأ عنهم». قلت : هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد ، وفيه قلق. وقوله تعالى : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) رد الأحسن أن يزيد فيقول : عليك السلام ورحمة الله ، لمن قال : سلام عليك. فإن قال : سلام عليك ورحمة الله زدت في ردّك : وبركاته. وهذا هو النهاية فلا مزيد. فإن انتهى بالسلام غايته ، زدت في ردك الواو في أول كلامك فقلت وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وينبغي أن يكون السلام. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي قال : إذا سلّمت على الواحد فقل : السلام عليكم ، فإن معه الملائكة ، وكذلك الجواب يكون بلفظ الجمع. والاختيار في التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق قال تعالى : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ).

فإن ردّ فقدم اسم المسلم عليه لم يأت محرّما ولا مكروها. ومن السنة تسليم الراكب على الماشي ، والقائم على القاعد ، والقليل على الكثير. هكذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة. قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويسلّم الصغير على الكبير». وأما تسليم الكبير على الصغير قال أكثر العلماء : التسليم عليهم أفضل من تركه ، وفيه تدريب للصغير وحضّ على تعليم السّنن ورياضة لهم على آداب الشريعة فيه ، وقد جاء في الصحيحين عن سيار قال : كنت أمشي مع ثابت فمرّ بصبيان فسلم عليهم ، وذكر أنه كان يمشي مع أنس فمرّ بصبيان فسلّم عليهم ، وحدّث أنه كان يمشي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمرّ بصبيان فسلّم عليهم. وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين. وأما المتجالات ـ المتجالة الهرمة المسنة ـ والعجز فحسن للأمن فيما ذكرناه وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء.

ومنعه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم وقالوا : لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن ردّ السّلام فلم يسلّم عليهن. والصحيح الأول لما خرجه البخاري عن سهل بن سعد قال : كنا نفرح بيوم الجمعة. قلت ولم؟ قال : كانت لنا عجوز ترسل إلى بضاعة ـ قال ابن مسلمة : نخل بالمدينة ـ فتأخذ من أصول السّلق فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير ، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلّم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله ، ولا كنا نقيل ولا نتغذى إلا بعد الجمعة. تكركر أي تطحن. ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي ، وعندنا تكفي إذا كان على بعد وأما الكافر فحكم الردّ عليه أن يقال له : وعليكم. وقال عطاء : الآية في المؤمنين خاصة ، ومن سلّم من غيرهم قيل له : عليك ، كما جاء في الحديث في صحيح مسلم : «عليك» بغير واو وهي الرواية الواضحة ، ورواية حذف الواو أحسن معنى وإثباتها أصح رواية وأشهر ، وعليها من العلماء أكثر. ولا يسلّم على المصلي فإن سلّم عليه فهو بالخيار ، إن شاء رد بالإشارة بإصبعه وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يردّ. ولا ينبغي أن يسلّم على من يقضي حاجته فإن فعل لم يلزمه أن يرد عليه.

٤٤٢

قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) في سبب نزولها سبعة أقوال (١) :

(٣٢٢) أحدها : أنّ قوما أسلموا ، فأصابهم وباء بالمدينة وحماها ، فخرجوا فاستقبلهم نفر من المسلمين ، فقالوا : ما لكم خرجتم؟ قالوا : أصابنا وباء بالمدينة ، واجتويناها (٢) ، فقالوا : أما لكم في رسول الله أسوة؟ فقال بعضهم : نافقوا ، وقال بعضهم : لم ينافقوا ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه.

(٣٢٣) والثاني : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا خرج إلى أحد ، رجع ناس ممّن خرج معه ، فافترق فيهم أصحاب رسول الله ، ففرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا نقتلهم ، فنزلت هذه الآية ، هذا في «الصّحيحين» من قول زيد بن ثابت.

(٣٢٤) والثالث : أنّ قوما كانوا بمكّة تكلّموا بالإسلام وكانوا يعاونون المشركين ، فخرجوا من مكّة لحاجة لهم ، فقال قوم من المسلمين : اخرجوا إليهم فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عدوّكم. وقال قوم : كيف نقتلهم وقد تكلّموا بمثل ما تكلّمنا به؟ فنزلت هذه الآية ، رواه عطيّة عن ابن عباس.

(٣٢٥) والرابع : أنّ قوما قدموا المدينة ، فأظهروا الإسلام ، ثم رجعوا إلى مكّة ، فأظهروا الشّرك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الحسن ، ومجاهد.

(٣٢٦) والخامس : أن قوما أعلنوا الإيمان بمكّة وامتنعوا من الهجرة ، فاختلف المؤمنون فيهم ، فنزلت هذه الآية ، وهذا قول الضّحّاك.

____________________________________

(٣٢٢) ضعيف. أخرجه أحمد ١ / ١٩٢ والواحدي في «أسباب النزول» ٣٤٢ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه بنحوه ، وإسناده منقطع ، أبو سلمة لم يسمع من أبيه شيئا. وله علة ثانية ابن إسحاق مدلس ، وقد عنعن. وورد بنحوه عن السدي مرسلا أخرجه الطبري ١٠٠٦٤ ، وهو ضعيف. والصواب في ذلك ما رواه الشيخان ، وهو الآتي.

(٣٢٣) صحيح. أخرجه البخاري ١٨٨٤ و ٤٠٥٠ و ٤٥٨٩ ومسلم ١٣٨٤ و ٢٧٧٦ والترمذي ٣٠٢٨ والنسائي في «التفسير» ١٣٣ وأحمد ٥ / ١٨٤ و ١٨٧ و ١٨٨ والطبري ١٠٠٥٥ والواحدي ٣٤١ عن زيد بن ثابت.

(٣٢٤) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٠٦٠ عن عطية ، عن ابن عباس ، وإسناده واه لأجل عطية العوفي.

(٣٢٥) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٠٥٨ عن مجاهد مرسلا ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٤٢ م عن مجاهد بدون إسناد ، وهو ضعيف لكونه مرسلا ، والصحيح ما رواه الشيخان.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» ٢ / ١٩٠ وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣٢٦) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٠٦٣ عن الضحاك ، مرسلا.

__________________

(١) قال أبو جعفر رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٩٦ : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك ، قول من قال : نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة.

وفي قول الله تعالى ذكره : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا) أوضح دليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة. لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر ، فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما فلم يكن عليه فرض هجرة.

(٢) في «اللسان» اجتويت البلد : أي استوخموها. ولم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم قالوا : وهو مشتق من الجوى ، وهو داء في الجوف.

٤٤٣

(٣٢٧) والسادس : أن قوما من المنافقين أرادوا الخروج من المدينة ، فقالوا للمؤمنين : إنه قد أصابتنا أوجاع في المدينة ، فلعلّنا نخرج فنتماثل ، فإنّا كنّا أصحاب بادية ، فانطلقوا ، واختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية. هذا قول السّدّيّ.

(٣٢٨) والسابع : أنها نزلت في شأن ابن أبيّ حين تكلّم في عائشة بما تكلّم ، وهذا قول ابن زيد. وقوله تعالى : (فَما لَكُمْ) خطاب للمؤمنين. والمعنى : أيّ شيء لكم في الاختلاف في أمرهم؟ و «الفئة» : الفرقة. وفي معنى «أركسهم» أربعة أقوال : أحدها : ردّهم ، رواه عطاء ، عن ابن عباس. قال ابن قتيبة : ركست الشيء ، وأركسته : لغتان ، أي : نكسهم وردّهم في كفرهم ، وهذا قول الفرّاء ، والزجّاج. والثاني : أوقعهم ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس. والثالث : أهلكهم ، قاله قتادة. والرابع : أضلّهم ، قاله السّدّيّ.

فأما الذي كسبوا ، فهو كفرهم ، وارتدادهم. قال أبو سليمان. إنما قال : أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله ، لأن قوما من المؤمنين قالوا : إخواننا ، وتكلّموا بكلمتنا.

قوله تعالى : (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) فيه قولان : أحدهما : إلى الحجّة ، قاله الزجّاج. والثاني : إلى الهدى ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩))

قوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) أخبر الله عزوجل المؤمنين بما في ضمائر تلك الطّائفة ، لئلّا يحسنوا الظنّ بهم ، ولا يجادلوا عنهم ، وليعتقدوا عداوتهم.

قوله تعالى : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) أي : لا توالوهم فإنهم أعداء لكم (حَتَّى يُهاجِرُوا) أي : يرجعوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن عباس : فإن تولّوا عن الهجرة والتّوحيد ، (فَخُذُوهُمْ) أي : ائسروهم ، واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحلّ والحرم.

فصل : قال القاضي أبو يعلى : كانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكّة (١). وقال الحسن : فرض

____________________________________

(٣٢٧) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٠٦٤ عن السدي مرسلا.

(٣٢٨) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٠٠٦٥ عن ابن زيد مرسلا ، وابن زيد متروك ، ليس بشيء.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ١٤٩ ـ ١٥٢ : الهجرة : هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام. قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) الآيات. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنا بريء من مسلم بين مشركين ، لا تراءى ناراهما». وحكم الهجرة باق ، لا ينقطع إلى يوم القيامة. في قول عامة أهل العلم. وقال قوم : قد انقطعت الهجرة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا هجرة بعد الفتح» وروي أن صفوان بن أمية لما أسلم ، قيل له : لا دين لمن لم يهاجر. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما جاء بك أبا وهب؟» قال : قيل : إنه لا دين لمن لم يهاجر. قال «ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة ، أقرّوا على مساكنكم ، قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية».

٤٤٤

الهجرة باق ، واعلم أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب : أحدها : من تجب عليه ، وهو الذي لا يقدر على إظهار الإسلام في دار الحرب ، خوفا على نفسه ، وهو قادر على الهجرة ، فتجب عليه لقوله (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (١). والثاني : من لا تجب عليه بل تستحب له ، وهو من كان قادرا على إظهار دينه في دار الحرب. والثالث : من لا تستحب له وهو الضّعيف الذي لا يقدر على إظهار دينه ، ولا على الحركة كالشّيخ الفاني ، والزّمن ، فلم تستحب له للحوق المشقّة.

(إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠))

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) هذا الاستثناء راجع إلى القتل ، لا إلى الموالاة وفي «يصلون» قولان : أحدهما : أنه بمعنى يتّصلون ويلجئون.

(٣٢٩) قال ابن عباس : كان هلال بن عويمر الأسلمي وادع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه. فكان من وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ، فلهم من الجوار مثل ما لهلال.

والثاني : أنه بمعنى ينتسبون ، قاله ابن قتيبة ، وأنشد.

إذا اتّصلت قالت أبكر بن وائل

وبكر سبتها والأنوف رواغم

يريد : إذا انتسبت ، قالت : أبكرا ، أي : يا آل بكر.

وفي القوم المذكورين أربعة أقوال : أحدها : أنهم بنو بكر بن زيد مناة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم هلال بن عويمر الأسلميّ ، وسراقة بن مالك ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف ، قاله عكرمة. والثالث : أنهم بنو مدلج ، قاله الحسن. والرابع : خزاعة وبنو مدلج ، قاله مقاتل. قال ابن عباس : «والميثاق» : العهد.

قوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ) فيه قولان : أحدهما : أن معناه : أو يصلون إلى قوم جاءوكم ، قاله الزجّاج في جماعة. والثاني : أنه يعود إلى المطلوبين للقتل. فتقديره : أو رجعوا فدخلوا فيكم ، وهو بمعنى قول السّدّيّ. قوله تعالى : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) فيه قولان : أحدهما : أن فيه إضمار «قد». والثاني : أنه خبر بعد خبر ، فقوله (جاؤُكُمْ) : خبر قد تمّ ، وحصرت : خبر مستأنف ، حكاهما

____________________________________

(٣٢٩) عزاه السيوطي في «أسباب النزول» ٣٢٨ لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

__________________

روى ذلك كله سعيد. ولنا ، ما روى معاوية ، قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها». رواه أبو داود. وأما الأحاديث الأول ، فأراد بها ، لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح. وقوله لصفوان : «إن الهجرة قد انقطعت». يعني من مكة ، لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار ، فإذا فتح لم يبق بلدا لكفار ، فلا تبقى منه هجرة. وإذا ثبت هذا فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب ـ وذكر الأوجه الثلاثة.

(١) سورة النساء : ٩٧.

٤٤٥

الزجّاج. وقرأ الحسن ويعقوب والمفضّل ، عن عاصم : «حصرة صدورهم» على الحال. و «حصرت» : ضاقت ، ومعنى الكلام : ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم ، أو يقاتلوا قومهم ، يعني قريشا. قال مجاهد : هلال بن عويمر هو الذي حصر صدره أن يقاتلكم ، أو يقاتل قومه. قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) قال الزجّاج : أخبر أنه إنما كفّهم بالرعب الذي قذف في قلوبهم. وفي (السَّلَمَ) قولان : أحدهما : أنه الإسلام ، قاله الحسن. والثاني : الصّلح ، قاله الرّبيع ، ومقاتل.

فصل : قال جماعة من المفسّرين : معاهدة المشركين وموادعتهم المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية السّيف. قال القاضي أبو يعلى : لمّا أعزّ الله الإسلام أمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلّا الإسلام أو السّيف (١).

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١))

قوله تعالى : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :

(٣٣٠) أحدها : أنّها نزلت في أسد وغطفان ، كانوا قد تكلّموا بالإسلام ليأمنوا المؤمنين بكلمتهم ، ويأمنوا قومهم بكفرهم ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس.

والثاني : أنّها نزلت في بني عبد الدّار ، رواه الضّحّاك ، عن ابن عباس.

(٣٣١) والثالث : أنها نزلت في قوم أرادوا أخذ الأمان من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا ، قاله قتادة.

(٣٣٢) والرابع : أنّها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعيّ ، كان يأمن في المسلمين والمشركين ،

____________________________________

(٣٣٠) ضعيف جدا ، فهو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، والكلبي متروك متهم ، وأبو صالح روى عن ابن عباس مناكير.

(٣٣١) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٠٨٧ عن قتادة مرسلا.

وذكره السيوطي في «الدر» ٢ / ٣٤٣ وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣٣٢) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٠٨٨ عن السدي مرسلا.

وذكره السيوطي في «الدر» ٢ / ٣٤٣ وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

__________________

(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣ / ٢٠٣ ـ ٢٠٨ : ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو نصراني ، أو مجوسي ، إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه. لأن الله تعالى أمر بقتالهم لهم حتى يعطوا الجزية ، أي يلتزموا أداءها ، فما لم يوجد ذلك ، يبقوا على إباحة دمائهم وأموالهم ، ومن سواهم ، فالإسلام أو القتل. هذا ظاهر مذهب أحمد. وروى عنه الحسن بن ثواب ، أنها تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب. لتغلظ كفرهم من وجهين ؛ دينهم وكونهم من رهط النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو حنيفة : تقبل من جميع الكفار إلا العرب لأنهم رهط النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يقرّون على غير دينه. وقال الشافعي : لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس ، وعن مالك : تقبل من جميعهم إلا مشركي قريش ، لأنهم ارتدّوا.

٤٤٦

فينقل الحديث بين النبيّ عليه‌السلام وبينهم ، ثم أسلم نعيم ، هذا قول السّدّيّ.

ومعنى الآية : ستجدون قوما يظهرون الموافقة لكم ولقومهم ، ليأمنوا الفريقين ، كلما دعوا إلى الشّرك ، عادوا فيه ، فإن لم يعتزلوكم في القتال ، ويلقوا إليكم الصّلح ، ويكفوا أيديهم عن قتالكم ، فخذوهم ، أي : ائسروهم ، واقتلوهم حيث أدركتموهم ، وأولائكم جعلنا لكم عليهم حجّة بيّنة في قتلهم.

فصل : قال أهل التفسير : والكفّ عن هؤلاء المذكورين في هذه الآية منسوخ بآية السّيف.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢))

قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) في سبب نزولها قولان :

(٣٣٣) أحدهما : أنّ عيّاش بن أبي ربيعة أسلم بمكّة قبل هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ خاف أن يظهر إسلامه لقومه ، فخرج إلى المدينة فقالت أمّه لابنيها أبي جهل ، والحارث ابني هشام ، وهما أخواه لأمّه : والله لا يظلّني سقف ، ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتياني به. فخرجا في طلبه ، ومعهما الحارث بن زيد ، حتى أتوا عيّاشا وهو متحصّن في أطم (١) ، فقالوا له : انزل فإنّ أمّك لم يؤوها سقف ، ولم تذق طعاما ، ولا شرابا ، ولك علينا أن لا نحول بينك وبين دينك ، فنزل ، فأوثقوه ، وجلده كلّ واحد منهم مائة جلدة ، فقدموا به على أمّه ، فقالت : والله لا أحلّك من وثاقك حتى تكفر ، فطرح موثقا في الشمس حتى أعطاهم ما أرادوا ، فقال له الحارث بن زيد : يا عيّاش لئن كان ما كنت عليه هدى لقد تركته ، وإن كان ضلالا لقد ركبته فغضب ، وقال : والله لا ألقاك خاليا إلا قتلتك ، ثم أفلت عيّاش بعد ذلك ؛ وهاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، ثم أسلم الحارث بعده وهاجر ، ولم يعلم عيّاش ، فلقيه يوما فقتله ، فقيل له : إنه قد أسلم ، فجاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بما كان ، وقال : لم أشعر بإسلامه ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس. وهو قول سعيد بن جبير ، والسّدّيّ ، والجمهور.

(٣٣٤) والثاني : أنّ أبا الدّرداء قتل رجلا قال لا إله إلا الله في بعض السّرايا ، ثم أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

____________________________________

(٣٣٣) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بإثر ٣٤٣ عن الكلبي بدون إسناد ، وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا ، وورد بمعناه ، أخرجه الطبري ١٠٠٩٨ عن السدي مرسلا و ١٠٠٩٧ عن عكرمة مرسلا و ١٠٠٩٥ و ١٠٠٩٦ عن مجاهد مرسلا. وورد مختصرا عند الواحدي في «أسباب النزول» ٣٤٣ والبيهقي ٨ / ٧٢ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ، وهذا مرسل ، ولعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، والله أعلم.

(٣٣٤) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٠٠٩٩ عن ابن زيد وهو معضل ومع ذلك عبد الرحمن بن زيد ضعيف الحديث ليس بشيء إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله؟! وقد صح ذلك في أسامة بن زيد. انظر «تفسير ابن كثير» ١ / ٥٤٧ بتخريجنا.

__________________

(١) الأطم : الحصن ، كما في الصحاح.

٤٤٧

فذكر له ما صنع ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن زيد.

قال الزجّاج : معنى الآية : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتّة. والاستثناء ليس من الأوّل ، وإنما المعنى : إلا أن يخطئ المؤمن. روى أبو عبيدة ، عن يونس : أنه سأل رؤبة عن هذه الآية ، فقال : ليس له أن يقتله عمدا ولا خطأ (١) ، ولكنّه أقام «إلا» مقام «الواو» قال الشاعر :

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان (٢)

أراد : والفرقدان. وقال بعض أهل المعاني : تقدير الآية : لكن قد يقتله خطأ ، وليس ذلك فيما جعل الله له ، لأن الخطأ لا تصح فيه الإباحة ، ولا النّهي. وقيل : إنما وقع الاستثناء على ما تضمّنته الآية من استحقاق الإثم ، وإيجاب القتل.

قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) قال سعيد بن جبير : عتق الرّقبة واجب على القاتل في ماله ، واختلفوا في عتق الغلام الذي لا يصح منه فعل الصّلاة والصّيام ، فروي عن أحمد جوازه ، وكذلك روى ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وهذا قول عطاء ، ومجاهد. وروي عن أحمد : لا يجزئ إلا من صام وصلّى ، وهو قول ابن عباس في رواية ، والحسن ، والشّعبيّ ، وإبراهيم ، وقتادة. قوله تعالى : (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) قال القاضي أبو يعلى : ليس في هذه الآية بيان من تلزمه هذه الدّية ، واتّفق الفقهاء على أنها عاقلة القاتل ، تحملها عنه على طريق المواساة ، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين ، كلّ سنة ثلثها ، والعاقلة : العصبات من ذوي الأنساب. ولا يلزم الجاني منها شيء. وقال أبو حنيفة : هو كواحد من العاقلة (٣). وللنّفس ستة أبدال : من الذّهب ألف دينار ، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم ، ومن الإبل مائة ، ومن البقرة مائتا بقرة ، ومن الغنم ألفا شاة ، وفي الحلل روايتان عن أحمد. إحداهما : أنها أصل ، فتكون مائتا حلّة. فهذه دية الذّكر الحرّ المسلم ، ودية الحرّة المسلمة على النّصف من ذلك (٤). قوله

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٢٠٦ : والصواب في ذلك أن يقال : إن الله عرّف عباده بهذه الآية على من قتل مؤمنا خطأ من كفارة ودية. وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيله ، وفي أبي الدرداء وصاحبه. وأي ذلك كان ، فالذي عنى الله تعالى بالآية : تعريف عباده ما ذكرناه ، وقد عرف من عقل عنه من عباده تنزيله ، وغير ضائرهم جهلهم بما نزلت فيه.

(٢) البيت لعمرو بن معديكرب كما في «الكامل» ٣ / ١٢٤٠ ، وفي «اللسان» الفرقدان : نجمان في السماء لا يغربان ، ولكنهما يطوفان بالجدي.

(٣) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في المغني ١٢ / ٢١ : ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن دية الخطأ على العاقلة. قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة. وفي «صحيح البخاري» عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام ، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا ، فجعل خالد يقتلهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرفع يديه وقال : «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» ، قال ابن إسحاق : وبعث عليا ، فودى قتلاهم ، وما أتلف من أموالهم حتى ميلغة الكلب. وهذا يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال.

(٤) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٦ ـ ١٢ : أجمع أهل العلم على أن الإبل أصل في الدية ، وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل. وهنا إحدى الروايتين عن أحمد ، رحمه‌الله. وقال القاضي : لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل ، والذهب ، والورق ، والبقر ، والغنم ، فهذه خمسة لا يختلف المذهب فيها.

٤٤٨

تعالى : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) قال سعيد بن جبير : إلا أن يتصدّق أولياء المقتول بالدّية على القاتل.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فيه قولان : أحدهما : أنّ معناه : وإن كان المقتول خطأ من قوم كفّار ، ففيه تحرير رقبة من غير دية ، لأنّ أهل ميراثه كفّار. والثاني : وإن كان مقيما بين قومه ، فقتله من لا يعلم بإيمانه ، فعليه تحرير رقبة ولا دية ، لأنه ضيّع نفسه بإقامته مع الكفّار ، والقولان مرويّان عن ابن عباس ، وبالأول قال النّخعيّ ، وبالثاني سعيد بن جبير. وعلى الأول تكون «من» للتبعيض ، وعلى الثاني تكون بمعنى في.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه الرجل من أهل الذّمّة يقتل خطأ ، فيجب على قاتله الدّية ، والكفّارة ، هذا قول ابن عباس ، والشّعبيّ ، وقتادة ، والزّهريّ. ولأبي حنيفة ، والشّافعيّ ، ولأصحابنا تفصيل في مقدار ما يجب من الدّية (١). والثاني : أنه المؤمن يقتل ، وقومه مشركون ، ولهم عقد ، فديته لقومه ، وميراثه للمسلمين ، هذا قول النّخعيّ.

قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) اختلفوا هل هذا الصّيام بدل من الرّقبة وحدها إذا عدمها ، أو بدل من الرّقبة والدّية؟ فقال الجمهور : عن الرّقبة وحدها ، وقال مسروق ، ومجاهد ، وابن سيرين : عنهما. واتّفق العلماء على أنه إذا تخلّل صوم الشهرين إفطار لغير عذر ، فعليه الابتداء ، فأمّا إذا تخلّلها المرض ، أو الحيض ، فعندنا لا ينقطع التّتابع. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة : المرض يقطع! والحيض لا يقطع ، وفرّق بينهما بأنه يمكن في العادة صوم شهرين بلا مرض ، ولا يمكن ذلك في الحيض ، وعندنا أنها معذورة في الموضعين (٢).

__________________

ولنا ، قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن في قتيل عمد الخطأ ، قتيل السوط والعصا ، مائة من الإبل» ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرّق بين دية العمد والخطأ فغلّظ بعضها ، وخفف بعضها ، ولا يتحقق هذا في غير الإبل ، ولأنه بدل متلف حقا لآدمي ، فكان متعينا ، كعوض الأموال. فإن قلنا : هي خمسة أصول ، فإن قدرها من الذهب ألف مثقال ، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم ، ومن البقر والحلل مائتان ، ومن الشاة ألفان ، ولم يختلف القائلون بهذه الأصول في قدرها من الذهب ، ولا من سائرها ، إلا الورق. فإن الثوري وأبا حنيفة وصاحبيه قالوا : قدرها عشرة آلاف من الورق. وعلى هذا ، أي شيء أحضره من عليه الدية من القاتل أو العاقلة من هذه الأصول ، لزم الولي أخذه ، ولم يكن له المطالبة بغيره ، لأنها أصول في قضاء الواجب ، يجزئ واحد منها.

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٥١ ـ ٥٤ : ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم ، ونساؤهم ، على النصف من دياتهم. هذا ظاهر المذهب ، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك. وعن أحمد ، أنها ثلث دية المسلم. إلا أنه رجع عنها ، فإن صالحا روى عنه أنه قال : كنت أقول : إن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ، وأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم ، وهذا صريح في الرجوع عنه.

(٢) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١١ / ٨٨ ـ ٩٠ : فإن أفطر فيهما من عذر بنى ، وإن أفطر من غير عذر ابتدأ. أجمع أهل العلم على وجوب التتابع في الصيام في الكفّارة ، وأجمعوا على أن من صام بعض الشهر ، ثم قطعه لغير عذر ، وأفطر ، أن عليه استئناف الشهرين ، وإنما كان ذلك لورود لفظ الكتاب والسنة به ، ومعنى التتابع الموالاة بين صيام أيامها ، فلا يفطر فيهما. ولم يفتقر التتابع إلى نية كالمتابعة بين الركعات ، وأجمع أهل العلم على أن الصائمة متتابعا ، إذا حاضت قبل إتمامه ، تقضي إذا طهرت ، وتبني ، وذلك لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في الشهرين إلا بتأخيره إلى الإياس ، وفيه تغرير بالصوم ، والنفاس كالحيض ، في أنه لا يقطع التتابع ، في أحد الوجهين ، لأنه بمنزلة في أحكامه ، ولأن الفطر لا يحصل فيهما بفعلهما ، والوجه الثاني : أن

٤٤٩

قوله تعالى : (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) قال الزجّاج : معناه : فعل الله ذلك توبة منه. قوله : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) أي : لم يزل عليما بما يصلح خلقه من التّكليف (حَكِيماً) فيما يقضي بينهم ، ويدبّره في أمورهم.

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً).

(٣٣٥) سبب نزولها : أنّ مقيس بن صبابة وجد أخاه هشام بن صبابة قتيلا في بني النّجّار ، وكان مسلما ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا من بني فهر ، فقال له : ايت بني النّجّار ، فأقرئهم مني السّلام ، وقل لهم : إنّ رسول الله يأمركم إن علمتم قاتل هشام ، فادفعوه إلى مقيس ، وإن لم تعلموا له قاتلا ، فادفعوا إليه ديته ، فأبلغهم الفهريّ ذلك ، فقالوا : والله ما نعلم له قاتلا ، ولكنّا نعطي ديته ، فأعطوه مائة من الإبل ، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة ، فأتى الشّيطان مقيس بن صبابة ، فقال : تقبل دية أخيك ، فيكون عليك سبّة ما بقيت. أقتل الذي معك مكان أخيك ، وأفضل بالدّية ، فرمى الفهريّ بصخرة ، فشدخ رأسه ، ثم ركب بعيرا منها ، وساق بقيّتها راجعا إلى مكّة ، وهو يقول :

قتلت به فهرا وحمّلت عقله

سراة بني النّجّار أرباب فارع

وأدركت ثأري واضطجعت موسّدا

وكنت إلى الأصنام أوّل راجع (١)

فنزلت هذه الآية ، ثم أهدر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دمه يوم الفتح ، فقتل ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

وفي قوله تعالى : (مُتَعَمِّداً) قولان : أحدهما : متعمّدا لأجل أنه مؤمن ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : متعمّدا لقتله ، ذكره بعض المفسرين. وفي قوله تعالى : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) قولان : أحدهما : أنها جزاؤه قطعا. والثاني : أنّها جزاؤه إن جازاه. واختلف العلماء هل للمؤمن إذا قتل مؤمنا متعمّدا توبة أم لا؟ فذهب الأكثرون إلى أنّ له توبة ، وذهب ابن عباس إلى أنه لا توبة له.

فصل : اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟ فقال قوم : هي محكمة ،

____________________________________

(٣٣٥) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٣٤٤ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بدون إسناد. وهذا إسناد ساقط مع كونه معلقا ، الكلبي متروك متهم. وأخرجه الطبري ١٠٩١ مختصرا عن عكرمة مرسلا.

__________________

النفاس يقطع التتابع ، لأنه فطر أمكن التحرز منه ، لا يتكرر كل عام ، ولا يصح قياسه على الحيض ، لأنه أندر منه ، ويمكن التحرز عنه. وإن أفطر لمرض مخوّف ، لم ينقطع التتابع أيضا. وبه قال مالك ، والشافعي في القديم وقال في الجديد : ينقطع التتابع ، لأنه أفطر اختيارا ، فانقطع التتابع. وإن أفطر في أثناء الشهرين لغير عذر ، أو قطع التتابع بصوم نذر ، أو قضاء ، أو تطوّع لزمه استئناف الشهرين ، لأنه أخلّ بالتتابع المشترط ، ويقع صومه عمّا نواه.

(١) في «اللسان» العقل في كلام العرب : الدية. سراة : اسم للجمع ، والسّري : الرفيع في كلام العرب من سرا : السّرو : المروءة والشرف. الفارع : يقال فلان فارع : مرتفع طويل.

٤٥٠

واحتجّوا بأنّها خبر ، والأخبار لا تحتمل النّسخ ، ثم افترق هؤلاء فرقتين ، إحداهما قالت : هي على ظاهرها ، وقاتل المؤمن مخلّد في النار ، والفرقة الثانية قالت : هي عامّة قد دخلها التّخصيص بدليل أنه لو قتله كافر ، ثم أسلم الكافر ، انهدرت عنه العقوبة في الدّنيا والآخرة ، فإذا ثبت كونها من العامّ المخصّص ، فأيّ دليل صلح للتّخصيص وجب العمل به. ومن أسباب التّخصيص أن يكون قتله مستحلّا ، فيستحقّ الخلود لاستحلاله. وقال قوم : هي مخصوصة في حقّ من لم يتب ، واستدلّوا بقوله تعالى في «الفرقان» : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١). وقال آخرون : هي منسوخة بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٢).

__________________

(١) سورة الفرقان : ٧٠.

(٢) سورة النساء : ٤٨. قال الشوكاني رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٧٦ : وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال : اختلف فيه علماء أهل الكوفة ، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء ، وقد روى النسائي نحو هذا وروى النسائي عن زيد بن ثابت نحوه ، وممن ذهب : إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سلمة ، وعبيد بن عمير ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم عنهم. وذهب الجمهور : إلى أن التوبة منه مقبولة ، واستدلوا بمثل قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) وقوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قالوا أيضا : والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان ، فيكون معناهما : جزاؤه جهنم إلا من تاب ، لا سيما وقد اتحد السبب ـ وهو القتل ـ والموجب ، وهو التوعد بالعقاب. واستدلوا أيضا : بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، ثم قال : فمن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ، وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره : في الذي قتل مائة نفس ، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي : إلى أن القاتل عمدا دخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب. والحق : أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص ، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه ، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ، ويقبل من صاحبه الخروج منه ، والدخول في باب التوبة ، فكيف ما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمدا؟ لكن لا بد في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل ، وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجبا ، أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجبا ، وكان القاتل غنيا متمكنا من تسليمها أو بعضها ، وأما مجرد التوبة من القاتل عمدا ، وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد ، من دون اعتراف ، ولا تسليم نفس ، فنحن لا نقطع بقبولها ، والله أرحم الراحمين ، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ١ / ٥٥٠ : وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة ، ولكن لا بد من ردّها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه ، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة ، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة ، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك والله أعلم.

واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام على قولين فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون : نعم يجب عليه لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه

٤٥١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) في سبب نزولها أربعة أقوال :

(٣٣٦) أحدها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سريّة فيها المقداد بن الأسود ، فلمّا أتوا القوم ، وجدوهم قد تفرّقوا ، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فأهوى إليه المقداد بن الأسود فقتله. فقال له رجل من أصحابه : أقتلت رجلا يشهد أن لا إله إلا الله؟! لأذكرنّ ذلك للنبي. فلما قدموا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا له : يا رسول الله إنّ رجلا شهد أن لا إله إلا الله ، فقتله المقداد ، فقال : ادعوا لي المقداد ، فقال : يا مقداد أقتلت رجلا قال : لا إله إلا الله ، فكيف لك ب «لا إله إلا الله غدا»! فنزلت هذه الآية. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمقداد : كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته؟ وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(٣٣٧) والثاني : أنّ رجلا من بني سليم مرّ على نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه غنم ، فسلّم عليهم ، فقالوا : ما سلّم عليكم إلا ليتعوّذ منا ، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية. رواه عكرمة ، عن ابن عباس.

(٣٣٨) والثالث : أنّ قوما من أهل مكّة سمعوا بسريّة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها تريدهم فهربوا ، وأقام

____________________________________

(٣٣٦) حسن ، أخرجه البزار ٢٢٠٢ والطبراني في «الكبير» ١٢٣٧٩ وإسناده حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٨ : رواه البزار ، وإسناده جيد. ويمكن الجمع بين هذا وما بعده بتعدد الحادثة ، والله أعلم.

(٣٣٧) صحيح. أخرجه الترمذي ٣٠٣٠ وأحمد ١ / ٢٢٩ و ٢٧٢ و ٣٢٤ والطبري ١٠٢٢٢ والطبراني ١١٧٣١ والحاكم ٢ / ٢٣٥ والبيهقي ٩ / ١١٥ والواحدي في «أسباب النزول» ٣٤٦ من طرق عن عكرمة به. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي : حديث حسن اه. وأخرجه البخاري ٤٥٩١ ومسلم ٣٠٢٥ وأبو داود ٣٩٧٤ ، والطبري ١٠٢١٩ و ١٠٢٢٠ و ١٠٢٢١ والواحدي ٣٤٥ والبيهقي ٩ / ١١٥ من طرق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس بنحوه.

(٣٣٨) ضعيف جدا بهذا اللفظ ، قال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١ / ٥٥٢ : أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس اه. والكلبي متهم بالكذب ، وخصوصا في روايته عن أبي صالح. وأخرجه الطبري ١٠٢٢٦ من رواية أسباط عن السدي مرسلا وليس فيه استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأسامة ، وقوله : «أعتق رقبة».

ـ وأصل الخبر في الصحيحين البخاري ٤٢٦٩ ومسلم ٩٦ من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحرقة فصبّحنا القوم فهزمناهم ، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم ، فلما غشيناه قال : لا إله إلا الله فكفّ الأنصاري ، فطعنته برمحي حتى قتلته ، فلما قدمنا بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أسامة أقتلته

__________________

في العمد أولى وأصحاب الإمام أحمد وآخرون : قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه وكذا اليمين الغموس. وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال : عن واثلة بن الأسقع قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفر من بني سليم فقالوا إن صاحبا لنا قد أوجب قال : «فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضوا من النار». والله أعلم.

٤٥٢

رجل منهم كان قد أسلم ، يقال له : مرداس ، وكان على السّريّة رجل ، يقال له : غالب بن فضالة ، فلما رأى مرداس الخيل ، كبّر ، ونزل إليهم ، فسلّم عليهم ، فقتله أسامة بن زيد ، واستاق غنمه ، ورجعوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه ، فوجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك وجدا شديدا ، وأنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السّدّيّ : كان أسامة أمير السّريّة.

(٣٣٩) والرابع : أن رسول الله بعث أبا حدرد الأسلميّ ، وأبا قتادة ، ومحلّم بن جثّامة في سريّة إلى إضم (١) ، فلقوا عامر بن الأضبط الأشجعيّ ، فحيّاهم بتحيّة الإسلام ، فحمل عليه محلّم بن جثّامة ، فقتله ، وسلبه بعيرا وسقاء. فلما قدموا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخبروه ، فقال : أقتلته بعد ما قال آمنت؟! ونزلت هذه الآية. رواه ابن أبي حدرد ، عن أبيه.

فأما التفسير ، فقوله تعالى : (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : سرتم وغزوتم. وقوله تعالى : (فَتَبَيَّنُوا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : (فَتَبَيَّنُوا) بالنون من التّبيين للأمر قبل الإقدام عليه. وقرأ حمزة والكسائيّ وخلف «فتثّبتوا» بالثاء من الثّبات وترك الاستعجال ، وكذلك قرءوا في «الحجرات».

قوله تعالى : (لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر ، وحفص ، عن عاصم ، والكسائيّ : «السّلام» بالألف مع فتح السين. قال الزجّاج : يجوز أن يكون بمعنى التسليم ، ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام. وقرأ نافع. وابن عامر ، وحمزة ، وخلف ، وجبلة عن المفضّل عن عاصم : «السّلم» بفتح السين واللام من غير ألف وهو من الاستسلام. وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم بكسر السين وإسكان اللام من غير ألف. و «السّلم» : الصّلح. وقرأ الجمهور : لست مؤمنا ، بكسر الميم ، وقرأ عليّ ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبو العالية ، ويحيى بن يعمر وأبو جعفر : بفتح الميم من الأمان.

قوله تعالى : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) و «عرضها» : ما فيها من مال ، قلّ أو كثر. قال المفسرون : والمراد به : ما غنموه من الرجل الذي قتلوه.

قوله تعالى : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه ثواب الجنة ، قاله مقاتل. والثاني : أنها أبواب الرّزق في الدنيا ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

قوله تعالى : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ معناه : كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه الكلمة ، فلا تخيفوا من قالها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني :

____________________________________

بعد ما قال : لا إله إلا الله؟ قلت : كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم» فهذا الذي صح في ذلك ، فعليك به ، والله الموفق.

(٣٣٩) حسن ، أخرجه أحمد ٦ / ١١ والطبري ٥ / ١٤٠ والبيهقي في «الدلائل» ٤ / ٣٠٥ والواحدي ٣٤٩ من حديث أبي حدرد عن أبيه ، وإسناده حسن. وانظر «تفسير الشوكاني» ٦٩٢ بتخريجنا.

__________________

(١) إضم : ماء بين مكة واليمامة عند السمينة ، وقيل : واد بجبال تهامة. وقال ابن السكيت : إضم واد يشق الحجاز حتى يفرع في البحر ـ انظر معجم البلدان ١ / ٢١٥.

٤٥٣

كذلك كنتم تخفون إيمانكم بمكّة كما كان هذا يخفي إيمانه ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث : كذلك كنتم من قبل مشركين ، قاله مسروق وقتادة وابن زيد.

قوله تعالى : (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) في الذي منّ به أربعة أقوال : أحدها : الهجرة ، قاله ابن عباس. والثاني : إعلان الإيمان ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : الإسلام ، قاله قتادة ، ومسروق. والرابع : التّوبة على الذي قتل ذلك الرجل ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (فَتَبَيَّنُوا) تأكيد للأول.

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥))

قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) قال أبو سليمان الدّمشقيّ : نزلت هذه الآية من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود.

(٣٤٠) وقال زيد بن ثابت : إني لقاعد إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ غشيته السّكينة ، ثم سرّي عنه ، فقال : «اكتب» (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون ...) الآية ، فقام ابن أمّ مكتوم ، فقال : يا رسول الله ، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فو الله ما قضى كلامه حتى غشيت رسول الله السّكينة ، ثم سرّي عنه ، فقال : اقرأ ، فقرأت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون) ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فألحقتها.

قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) يعني عن الجهاد ، والمعنى : أنّ المجاهدين أفضل. قال ابن عباس : وأريد بهذا الجهاد غزوة بدر. وقال مقاتل : غزاة تبوك.

قوله تعالى : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة : «غير» برفع الرّاء ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائيّ ، وخلف ، والمفضّل : بنصبها. قال أبو عليّ : من رفع الراء ، جعل «غير» صفة للقاعدين ، ومن نصبها ، جعلها استثناء من القاعدين (١). وفي «الضّرر» قولان:

____________________________________

(٣٤٠) صحيح. أخرجه البخاري ٢٨٣٢ و ٤٥٩٢ والترمذي ٣٠٣٣ والنسائي ٦ / ٩ و ١٠ وأحمد ٥ / ١٨٤ وابن حبان ٤٧١٣ والطبري ١٠٢٤٤ وابن الجارود ١٠٣٤ والطبراني ٤٨١٤ و ٤٨١٥ و ٤٨٩٩ وأبو نعيم في «الدلائل» ١٧٥ كلهم عن سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد ، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره ...

ـ وورد بنحوه من حديث الفلتان بن عاصم أخرجه ابن حبان ٤٧١٢ والطبراني ١٨ / ٨٥٦ والبزار ٢٢٠٣ وأبو يعلى ١٥٨٣. وقال الهيثمي في «المجمع» ٩٤٤٤ : رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.

ويشهد له أيضا حديث البراء بن عازب أخرجه البخاري ٤٥٩٣ و ٤٥٩٤ ومسلم ١٨٩٨ والترمذي ١٦٧٠ والنسائي ٦ / ١٠ والطبري ١٠٢٣٨ ـ ١٠٢٤٢ والبيهقي ٩ / ٢٣. وحديث زيد بن أرقم أخرجه الطبري ١٠٢٤٣ والطبراني ٥٠٥٣ وفي الباب أحاديث ، فهو حديث مشهور.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٣ / ٦ ـ ١٠ : والجهاد فرض على الكفاية ، إذا قام به قوم سقط عن

٤٥٤

أحدهما : أنه العجز بالزّمانة والمرض ، ونحوهما. قال ابن عباس : هم قوم كانت تحسبهم عن الغزاة أمراض وأوجاع. وقال ابن جبير ، وابن قتيبة : هم أولو الزّمانة. وقال الزجّاج : الضّرر : أن يكون ضريرا أو أعمى أو زمنا. والثاني : أنه العذر ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) في هؤلاء القاعدين قولان : أحدهما : أنهم القاعدون بالضّرر ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : القاعدون من غير ضرر ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. قال ابن جرير : والدّرجة : الفضيلة. فأما الحسنى فهي الجنة في قول الجماعة. قوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ) قال ابن عباس : القاعدون هاهنا : غير أولي الضّرر ، وقال سعيد بن جبير : هم الذين لا عذر لهم.

(دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦))

قوله تعالى : (دَرَجاتٍ مِنْهُ) قال الزجّاج : درجات ، في موضع نصب بدلا من قوله تعالى : (أَجْراً عَظِيماً) ، وهو مفسّر للأجر. وفي المراد بالدّرجات قولان (١) : أحدهما : أنها درجات الجنة ، قال ابن محيريز : الدّرجات : سبعون درجة ما بين كلّ درجتين حضر الفرس الجواد المضمّر (٢) سبعين سنة ، وإلى نحوه ذهب مقاتل. والثاني : أن معنى الدّرجات : الفضائل ، قاله سعيد بن جبير. قال قتادة : كان

__________________

الباقين ، في قول عامة أهل العلم. وحكي عن سعيد بن المسيب ، أنه من فروض الأعيان ، لقول الله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) التوبة : ٤١ ـ ثم قال : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً). وروى أبو هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مات ولم يغز ، ولم يحدّث نفسه بالغزو ، مات على شعبة من النفاق». رواه أبو داود. ولنا ، قول الله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ...) الآية. وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم ، وقال الله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا) ، ولأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يبعث السرايا ، ويقيم هو وسائر أصحابه. وأما الآية التي احتجوا بها ، فقد قال ابن عباس : نسخها قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) رواه الأثرم وأبو داود. ويحتمل أنه أراد حين استنفرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى غزوة تبوك ، وكانت إجابتهم إلى ذلك واجبة عليهم ، ولذلك هجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعب بن مالك وأصحابه الذين خلّفوا حتى تاب الله عليهم بعد ذلك ، وكذلك يجب على من استنفره الإمام ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا استنفرتم فانفروا» متفق عليه. ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم ، إما أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك ، أو يكونوا قد أعدّوا أنفسهم له تبرعا بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم ، ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها ، ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على العدو في بلادهم.

(١) قال الإمام القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٣٢٧ : قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) وقد قال بعد هذا : (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) فقال قوم : التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل : إن معنى درجة علوّ ، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ. وقيل : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة ، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات.

(٢) في «اللسان» الحضر : ارتفاع الفرس في عدوه. وضمّرت الخيل : علفتها القوت بعد السمن. وتضمير الفرس أيضا أن تعلفه حتى يسمن ثم تردّه إلى القوت ، وذلك في أربعين يوما. وهذه المدة تسمى المضمار.

٤٥٥

يقال : الإسلام درجة ، والهجرة في الإسلام درجة ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتل في الجهاد درجة. وقال ابن زيد : الدّرجات : هي السّبع التي ذكرها الله تعالى في براءة حين قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ...) إلى قوله : (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ...) (١). فإن قيل : ما الحكمة في أنّ الله تعالى ذكر في أول الكلام درجة ، وفي آخره درجات؟ فعنه جوابان : أحدهما : أن الدّرجة الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولي الضّرر منزلة ، والدّرجات : تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضّرر منازل كثيرة ، وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني : أن الدّرجة الأولى درجة المدح والتّعظيم ، والدّرجات : منازل الجنة ، ذكره القاضي أبو يعلى.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٣٤١) أحدها : أن أناسا كانوا بمكّة قد أقرّوا بالإسلام ، فلمّا خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بدر لم تدع قريش أحدا إلا أخرجوه معهم ، فقتل أولئك الذين أقرّوا بالإسلام ، فنزلت فيهم هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

(٣٤٢) وقال قتادة : نزلت في أناس تكلّموا بالإسلام ، فخرجوا مع أبي جهل ، فقتلوا يوم بدر ، واعتذروا بغير عذر ، فأبى الله أن يقبل منهم.

(٣٤٣) والثاني : أن قوما نافقوا يوم بدر ، وارتابوا ، وقالوا : غرّ هؤلاء دينهم وأقاموا مع المشركين حتى قتلوا ، فنزلت فيهم هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(٣٤٤) والثالث : أنها نزلت في قوم تخلّفوا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يخرجوا معه ، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبيّ ، ضربت الملائكة وجهه ودبره ، رواه العوفيّ عن ابن عباس.

وفي «التّوفّي» قولان : أحدهما : أنه قبض الأرواح بالموت ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : الحشر إلى النار ، قاله الحسن. قال مقاتل : والمراد بالملائكة ملك الموت وحده. وقال في موضع

____________________________________

(٣٤١) صحيح. أخرجه الطبري ١٠٢٦٥ من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس بأتم منه. وورد من وجه آخر عن أبي الأسود عن عكرمة عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الآية. لفظ البخاري. أخرجه البخاري ٤٥٩٦ والنسائي في «الكبرى» ١١١٩ والطبري ١٠٢٦٦ و ١٠٢٦٧ والواحدي ٣٥٦ وانظر تفسير القرطبي بتخريجنا.

(٣٤٢) مرسل. أخرجه الطبري ١٠٢٧٢ عن قتادة مرسلا ، وهو شاهد لما قبله.

(٣٤٣) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس.

(٣٤٤) ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٢٦٨ برواية العوفي عن ابن عباس ، والعوفي وهو محمد بن سعد واه ، والصواب ما تقدم عن ابن عباس برواية البخاري.

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٠ ـ ١٢١.

٤٥٦

آخر : ملك الموت وأعوانه ، وهم ستة ، ثلاثة يلون أرواح المؤمنين ، وثلاثة يلون أرواح الكفّار. قال الزجّاج : «ظالمي أنفسهم» نصب على الحال ، والمعنى : تتوفّاهم في حال ظلمهم أنفسهم ، والأصل. ظالمين ، لأن النون حذفت استخفافا. فأمّا ظلمهم لأنفسهم ، فيحتمل على ما ذكر في قصتهم أربعة أقوال : أحدها : أنه ترك الهجرة. والثاني : رجوعهم إلى الكفر. والثالث : الشّكّ بعد اليقين. والرابع : إعانة المشركين.

قوله تعالى : (فِيمَ كُنْتُمْ) قال الزجّاج : هو سؤال توبيخ ، والمعنى : كنتم في المشركين أو في المسلمين. قوله تعالى : (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) قال مقاتل : كنا مقهورين في أرض مكّة ، لا نستطيع أن نذكر الإيمان ، قالت الملائكة : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) يعني المدينة (فَتُهاجِرُوا فِيها) يعني : إليها. وقول الملائكة لهم يدلّ على أنهم كانوا يستطيعون الهجرة.

(إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩))

قوله تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ).

(٣٤٥) سبب نزولها : أنّ المسلمين قالوا في حقّ المستضعفين من المسلمين بمكّة : هؤلاء بمنزلة الذين قتلوا ببدر ، فنزلت هذه الآية. قاله مجاهد.

قال الزجّاج : «المستضعفين» نصب على الاستثناء من قوله تعالى : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ). قال أبو سليمان : «المستضعفون» : ذوو الأسنان ، والنّساء ، والصّبيان.

قوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) أي : لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكّة ، ولا على نفقة ، ولا قوّة. وفي قوله تعالى : (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) قولان : أحدهما : أنهم لا يعرفون الطريق إلى المدينة ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد. والثاني : أنهم لا يعرفون طريقا يتوجّهون إليه ، فإن خرجوا هلكوا ، قاله ابن زيد. وفي (عَسَى) قولان : أحدهما : أنها بمعنى الإيجاب ، قاله الحسن. والثاني : أنها بمعنى التّرجّي ، فالمعنى : أنهم يرجون العفو ، قاله الزجّاج.

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠))

قوله تعالى : (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً) قال سعيد بن جبير ، ومجاهد : متزحزحا عمّا يكره. وقال ابن قتيبة : المراغم والمهاجر : واحد ، يقال : راغمت وهاجرت ، وأصله : أن الرجل كان إذا أسلم ، خرج عن قومه ، مراغما ، أي : مغاضبا لهم ، ومهاجرا ، أي : مقاطعا من الهجران ، فقيل للمذهب : مراغم ، وللمصير إلى النبيّ عليه‌السلام هجرة ، لأنها كانت بهجرة الرجل قومه.

وفي السّعة قولان : أحدهما : أنها السّعة في الرّزق ، قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : التّمكّن

____________________________________

(٣٤٥) مرسل ، أخرجه الطبري ١٠٢٨١ عن مجاهد مرسلا ، وهو يتأيد بما تقدم عن ابن عباس.

٤٥٧

من إظهار الدّين ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) اتّفقوا على أنه نزل في رجل خرج مهاجرا ، فمات في الطريق ، واختلفوا فيه على ستة أقوال :

(٣٤٦) أحدها : أنه ضمرة بن العيص ، وكان ضريرا موسرا ، فقال : احملوني فحمل ، وهو مريض ، فمات عند التّنعيم ، فنزل فيه هذا الكلام ، رواه سعيد بن جبير.

(٣٤٧) والثاني : أنه العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعيّ ، أمر أهله أن يحملوه على سريره ، فلمّا بلغ التّنعيم ، مات ، فنزلت فيه هذه الآية ، رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير.

(٣٤٨) والثالث : أنه ابن ضمرة الجندعيّ ، مرض فقال لبنيه : أخرجوني من مكّة ، فقد قتلني غمّها ، فقالوا : أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة ، يريد الهجرة ، فخرجوا به ، فمات في الطريق ، فنزل فيه هذا ، ذكره ابن إسحاق. وقال مقاتل : هو جندب بن ضمرة.

(٣٤٩) والرابع : أن اسمه سبرة ، فلما نزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) إلى قوله : (مُراغَماً كَثِيراً) قال لأهله وهو مريض : احملوني ، فإني موسر ، ولي من المال ما يبلغني إلى المدينة ، فلما جاوز الحرم ، مات فنزل فيه هذا ، قاله قتادة.

(٣٥٠) والخامس : أنه رجل من بني كنانة هاجر فمات في الطريق ، فسخر منه قومه ، فقالوا : لا هو بلغ ما يريد ، ولا أقام في أهله حتى يدفن ، فنزل فيه هذا ، قاله ابن زيد.

(٣٥١) والسادس : أنه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام ، خرج مهاجرا ، فمات في الطريق ، ذكره الزّبير بن بكّار. وقوله تعالى : (وَقَعَ) معناه وجب.

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١))

قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ).

____________________________________

(٣٤٦) مرسل. أخرجه الطبري ١٠٢٨٧ عن سعيد بن جبير ، مرسلا.

(٣٤٧) هو مرسل كسابقه.

(٣٤٨) علقه الواحدي في «أسباب النزول» ٣٥٧ عن ابن عباس من رواية عطاء. وورد مختصرا من حديث ابن عباس ، أخرجه أبو يعلى ٢٦٧٩ والطبراني في «الكبير» ١١٧٠٩ وفي إسناده عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي ، وأشعث بن سوّار وكلاهما ضعيف. وانظر «الإصابة في تمييز الصحابة» ١ / ٢٥١.

(٣٤٩) مرسل. أخرجه الطبري ١٠٢٩١ عن قتادة مرسلا دون ذكر اسم الصحابي وإنما ذكر رجلا من المسلمين.

ـ الخلاصة : هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، والاضطراب فقط في تعيين الرجل وأما أصل الخبر فصحيح.

(٣٥٠) ضعيف. أخرجه الطبري عن ابن زيد ، وهذا معضل.

(٣٥١) ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ١ / ٥٥٦ من حديث الزبير بن العوام ، وله قصة.

ـ وقال الحافظ ابن كثير : وهذا الأثر غريب جدا ، فإن القصّة مكية ، ونزول هذه الآية مدني.

ـ قلت : فيه عبد الرحمن بن عبد الملك ، وهو لين الحديث ، وفيه المنذر بن عبد الله الحزامي ، وهو مجهول.

٤٥٨

(٣٥٢) روى مجاهد عن أبي عيّاش الزّرقيّ قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان (١) ، وعلى المشركين خالد بن الوليد ، قال : فصلّينا الظّهر ، فقال المشركون : لقد أصبنا غرّة ، لو كنّا حملنا عليهم وهم في الصّلاة ، فنزلت آية القصر فيما بين الظّهر والعصر.

والضّرب في الأرض : السّفر ، والجناح : الإثم ، والقصر : النّقص ، والفتنة : القتل.

وفي القصر قولان : أحدهما : أنه القصر من عدد الركعات. والثاني : أنه القصر من حدودها. وظاهر الآية يدلّ على أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف ، وليس الأمر كذلك ، وإنما نزلت الآية على غالب أسفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأكثرها لم يخل عن خوف العدوّ. وقيل : إن قوله : (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) كلام تام. وقوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ) كلام مبتدأ ، ومعناه : وإن خفتم.

واختلف العلماء هل صلاة المسافر ركعتين مقصورة أم لا؟ فقال قوم : ليست مقصورة ، وإنما فرض المسافر ذلك ، وهو قول ابن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وسعيد بن جبير ، والسّدّيّ ، وأبي حنيفة ، فعلى هذا القول قصر الصلاة أن تكون ركعة ، ولا يجوز ذلك إلا بوجود السّفر والخوف ، لأن عند هؤلاء أن الرّكعتين في السفر إذا لم يكن فيه خوف تمام غير قصر.

(٣٥٣) واحتجّوا بما روى ابن عباس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى بذي قرد (٢) ، فصفّ الناس خلفه صفّين ، صفّا خلفه ، وصفّا موازي العدوّ ، فصلّى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرف هؤلاء ، إلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك فصلّى بهم ركعة ، ولم يقضوا.

(٣٥٤) وعن ابن عباس أنه قال : فرض الله الصّلاة على لسان نبيّكم في الحضر أربعا ، وفي السّفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة.

والثاني : أنها مقصورة ، وليست بأصل ، وهو قول مجاهد وطاوس ، وأحمد ، والشّافعيّ.

(٣٥٥) قال يعلى بن أميّة : قلت لعمر بن الخطّاب : عجبت من قصر الناس اليوم ، وقد أمنوا وإنما

____________________________________

(٣٥٢) جيد. أخرجه أبو داود ١٢٣٦ والنسائي ٣ / ١٧٦ و ١٧٧ و ١٧٨ وابن أبي شيبة ٢ / ٤٦٥ والطيالسي ١٣٤٧ وأحمد ٤ / ٥٩ و ٦٠ والدارقطني ٢ / ٥٩ و ٦٠ وابن حبان ٢٨٧٥ و ٢٨٧٦ والطبري ١٠٣٨٣ والحاكم ١ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨ والواحدي في «أسباب النزول» ٣٥٩ والبيهقي ٣ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥ والبغوي في «شرح السنة» ١٠٩١ من طرق عن منصور عن مجاهد عن أبي عياش مطولا. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي وقال الدارقطني : صحيح. وكذا قال البيهقي ، وجوده الحافظ في الإصابة ٤ / ١٤٣.

(٣٥٣) صحيح. أخرجه النسائي ٣ / ١٦٩ وأحمد ١ / ٢٣٢ والحاكم ١ / ٣٣٥ وابن حبان ٢٨٧١ والطبري ١٠٣٣٩ و ١٠٣٤٠ والطحاوي ١ / ٣٠٩ والبيهقي ٣ / ٢٦٢. وقال الحاكم : حديث صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي! وإنما هو على شرط مسلم فقط ، لأن أبا بكر بن أبي الجهم لم يخرج له البخاري.

(٣٥٤) صحيح. أخرجه مسلم ٦٨٧ وأبو داود ١٢٤٧ والنسائي ٣ / ١٦٨ ـ ١٦٩ وابن ماجة ١٠٦٨ وابن خزيمة ٩٤٣ وأبو يعلى ٢٣٤٦ وأحمد ١ / ٢٣٧ و ٢٥٤ من حديث ابن عباس.

(٣٥٥) صحيح. أخرجه مسلم ٦٨٦ وأبو داود ١١٩٩ و ١٢٠٠ والترمذي ٣٠٣٤ وابن ماجة ٩٤٥ وأحمد ١ / ٢٥ و ٣٦

__________________

(١) عسفان : على مرحلتين من مكة على طريق المدينة. انظر «معجم البلدان» ٤ / ١٢٢.

(٢) ذو قرد : ماء على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر. انظر «معجم البلدان» ٤ / ٣٢١.

٤٥٩

قال الله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ) فقال عمر : عجبت مما عجبت منه ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : صدقة تصدّق الله بها عليكم. فاقبلوا صدقته.

فصل : وإنما يجوز للمسافر القصر إذا كان سفره مباحا ، وبهذا قال مالك ، والشّافعيّ ، وقال أبو حنيفة : يجوز له القصر في سفر المعصية. فأمّا مدّة الإقامة التي إذا نواها أتمّ الصّلاة ، وإن نوى أقلّ منها ، قصر ، فقال أصحابنا : إقامة اثنين وعشرين صلاة ، وقال أبو حنيفة : خمسة عشر يوما. وقال مالك ، والشّافعيّ : أربعة أيام (١).

____________________________________

والدارمي ١ / ٣٥٤ والطحاوي ١ / ٤١٥ والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص ١١٦ وابن خزيمة ٩٤٥ وابن حبان ٢٧٣٩ و ٢٧٤٠ و ٢٧٤١ والطبري ١٠٣١٥ و ١٠٣١٦ و ١٠٣١٧ والطحاوي في «المعاني» ١ / ٤١٥ والبيهقي ٣ / ١٣٤ و ١٤٠ و ١٤١ من طرق عن يعلى بن أمية.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٣ / ١٠٤ : وأجمع أهل العلم على أن من سافر سفرا تقصر في مثله الصلاة في حج ، أو عمرة ، أو جهاد ، أن له أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين. قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : في كم تقصر الصلاة؟ قال : في أربعة برد قيل له : مسيرة يوم تام؟ قال : لا ، أربعة برد ، ستة عشر فرسخا ، ومسيرة يومين. فمذهب أبي عبد الله أن القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر فرسخا. وقد قدّره ابن عباس ، فقال : من عسفان إلى مكة ، ومن الطائف إلى مكة ، ومن جدة إلى مكة. فعلى هذا تكون مسافة القصر يومين قاصدين. وهذا قول ابن عباس ، وابن عمر ، وإليه ذهب مالك ، والليث ، والشافعي. وروي عن ابن عمر أنه كان يقصر إلى مسيرة عشرة فراسخ وروي نحو ذلك عن ابن عباس ، فإنه يقصر في اليوم ولا يقصر فيما دونه.

ويروى عن ابن مسعود ، أنه يقصر في مسيرة ثلاثة أيام وبه قال أبو حنيفة. لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يمسح المسافر في ثلاثة أيام ولياليهن». وهذا يقتضي أن كل مسافر له ذلك ، ولأن الثلاثة متفق عليها وليس في أقل من ذلك توقيف ولا اتفاق. وقال الأوزاعي : كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ. وروي عن علي ، أنه خرج من قصره بالكوفة حتى أتى النخيلة ، فصلى بها الظهر والعصر ركعتين ، ثم رجع من يومه ، فقال : أردت أن أعلمكم سنتكم. وعن جبير بن نفير عن شرحبيل بن السمط. قال رأيت عمر بن الخطاب يصلي بالحليفة ركعتين وقال : إنما فعلت كما رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل. رواه مسلم. واحتج أصحابنا بقول ابن عباس وابن عمر ، قال ابن عباس : يا أهل مكة ، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من عسفان إلى مكة. وقال الخطابي : وهو أصح الروايتين عن ابن عمر. ولم يجز فيما دونها ، لأنه لم يثبت دليل يوجب القصر فيه. وإذا كان في سفينة في البحر ، فهو كالبر ، إن كانت مسافة سفره تبلغ مسافة القصر ، أبيح له ، وإلا فلا ، سواء قطعها في زمن طويل أو قصير ، اعتبارا بالمسافة. وإن شك هل السفر مبيح للقصر أو لا؟ لم يبح له ، لأن الأصل وجوب الإتمام ، فلا يزول بالشك. وليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت قريته ، ولنا قول الله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ولا يكون ضاربا في الأرض حتى يخرج. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يبتدئ القصر إذا خرج من المدينة. وإن الرخص المختصة بالسفر ، من القصر ، والجمع ، والفطر ، والمسح ثلاثا ، والصلاة على الراحلة تطوعا ، يباح في السفر الواجب ـ حج أو جهاد والمندوب والمباح كالتجارة. وبه قال الأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق وأهل المدينة وعن ابن مسعود : لا يقصر إلا في حج أو جهاد ، لأن الواجب لا يترك إلا لواجب. ولا تباح هذه الرّخص في سفر المعصية كالإباق ، وقطع الطّريق ، والتجارة في الخمر والمحرمات. نصّ عليه أحمد. وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة : له ذلك ، لأنه مسافر ، فأبيح له التّرخص كالمطيع. ولنا ، قول الله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ). وفي سفر التنزه والتفرّج روايتان : إحداهما تبيح الرخص. وهذا ظاهر كلام الخرقي ، لأنه سفر مباح ، والثانية : لا يترخص فيه. قال أحمد : إذا خرج الرجل إلى بعض البلدان تنزها وتلذذا ، وليس في طلب حديث ولا حج ولا

٤٦٠