زاد المسير في علم التفسير - ج ١

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ١

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
ISBN: 9953-27-016-3
الصفحات: ٦٠٦

وقالت ابنة سعيد بن المسيّب : ما كنا نكلّم أزواجنا إلا كما تكلّمون أمراءكم.

فصل : اختلف العلماء في هذه الآية : هل تدخل في الآيات المنسوخات أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنها تدخل في ذلك. واختلف هؤلاء في المنسوخ منها ، فقال قوم : المنسوخ منها قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، وقالوا : فكان يجب على كل مطلقة أن تعتدّ بثلاثة قروء ، فنسخ حكم الحامل بقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) (١) ، وحكم المطلّقة قبل الدخول بقوله تعالى : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) (٢) ، وهذا مرويّ عن ابن عباس ، والضحّاك في آخرين. وقال قوم : أوّلها محكم ، والمنسوخ قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) ، قالوا : كان الرجل إذا طلّق امرأته كان أحقّ برجعتها ، سواء كان الطلاق ثلاثا ، أو دون ذلك ، فنسخ بقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٣). والقول الثاني : أن الآية كلها محكمة ، فأوّلها عامّ. والآيات الواردة في العدد خصّت ذلك من العموم ، وليس بنسخ. وأما ما قيل في الارتجاع ، فقد ذكرنا أن معنى قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) ، أي : في العدّة قبل انقضاء القروء الثلاثة ، وهذا القول هو الصحيح.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩))

قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ).

____________________________________

أخرجه أحمد ٥ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨ (٢١٤٨٠) وإسناده منقطع أبو ظبيان لم يسمع من معاذ. وأخرجه أيضا برقم ٢١٤٨١ من طريق ابن نمير عن الأعمش قال سمعت أبا ظبيان يحدث عن رجل من الأنصار عن معاذ بن جبل ... فذكره. وورد من طريق أخرى عن معاذ بن جبل مرفوعا عند الحاكم ٤ / ١٧٢ والبزار ١٤٦١ والطبراني في «الكبير» ٢٠ / ٥٢ وابن أبي الدنيا في «العيال» ٥٣٨ وصححه الحاكم على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! مع أنه من رواية القاسم بن عوف الشيباني ، وقد تفرد عنه مسلم ، ولم يدرك معاذا. وقال الهيثمي في «المجمع» ٤ / ٣٠٩ (٧٦٤٩) ؛ ورجال البزار رجال الصحيح ، وكذلك طريق من طرق أحمد ، وروى الطبراني بعضه أيضا اه. وأخرجه ابن ماجة ١٨٥٣ وأحمد ٤ / ٣٨١ وابن حبان ٤١٧١ والبيهقي ٧ / ٢٩٢ عن أيوب عن القاسم بن عوف الشيباني عن ابن أبي أوفى قال : لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...... فذكره. وفي إسناده القاسم وثقه ابن حبان ، وقال ابن عدي : هو ممن يكتب حديثه. وقال أبو حاتم : مضطرب الحديث ، ومحله عندي الصدق. وروى له مسلم حديثا واحدا. وأخرجه البزار ١٤٧٠ والطبراني ٧٢٩٤ وابن أبي الدنيا في «العيال» ٥٣٩ عن القاسم بن عوف عن ابن أبي ليلى عن أبيه عن صهيب أن معاذا ..... فذكره. وقال الهيثمي في «المجمع» ٤ / ٣١٠ : وفيه النهاس بن قهم ، وهو ضعيف اه. وأخرجه البزار ١٤٦٨ و ١٤٦٩ والطبراني في «الكبير» ٥١١٧ وابن أبي الدنيا ٥٤٣. وقال الهيثمي : وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح ، خلا صدفة بن عبد الله السمين ، وثقه أبو حاتم وجماعة ، وضعفه البخاري وجماعة اه. الخلاصة : المرفوع منه صحيح بمجموع طرق شواهده.

__________________

(١) الطلاق : ٤.

(٢) الطلاق : ١.

(٣) البقرة : ٢٣٠.

٢٠١

(١١٦) سبب نزولها : أن الرجل كان يطلّق امرأته ، ثم يراجعها ليس لذلك شيء ينتهي إليه ، فقال رجل من الأنصار لامرأته : والله لا أؤويك إليّ أبدا ولا تحلّين مني. فقالت : كيف ذلك؟ قال : أطلّقك ، فإذا دنا أجلك ، راجعتك ، فذهبت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تشكو إليه ذلك ؛ فنزلت هذه الآية ، فاستقبلها الناس جديدا من كان طلّق ، ومن لم يكن يطلّق. رواه هشام بن عروة عن أبيه.

فأمّا التفسير ، ففي قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) قولان : أحدهما : أنه بيان لسنّة الطلاق ، وأن يوقع في كل قرء طلقة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثاني : أنه بيان للطلاق الذي تملك معه الرّجعة ، قاله عروة ، وقتادة ، وابن قتيبة ، والزجّاج في آخرين.

قوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) ، معناه : فالواجب عليكم إمساك بمعروف ، وهو ما يعرف من إقامة الحقّ في إمساك المرأة. وقال عطاء ، ومجاهد ، والضحّاك ، والسّدّيّ : المراد بقوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) : الرّجعة بعد الثانية. وفي قوله تعالى : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، قولان :

أحدهما : أن المراد به : الطّلقة الثالثة ، قاله عطاء ، ومجاهد ، ومقاتل.

والثاني : أنه الإمساك عن رجعتها حتى تنقضي عدّتها ، قاله الضحّاك ، والسّدّيّ. قال القاضي أبو يعلى محمّد بن الحسين بن الفرّاء وهذا هو الصحيح ، لأنه قال عقيب الآية : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، والمراد بهذه الطلقة الثالثة بلا شكّ ، فيجب إذن أن يحمل قوله تعالى : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) على تركها حتى تنقضي عدّتها ، لأنه إن حمل على الثالثة ، وجب أن يحمل قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها) على رابعة ، وهذا لا يجوز.

فصل : الطلاق على أربعة أضرب : واجب ، ومندوب إليه ، ومحظور ، ومكروه. فالواجب : طلاق المؤلي بعد التّربّص ، إذا لم يفئ ، وطلاق الحكمين في شقاق الزوجين ، إذا رأيا الفرقة. والمندوب : إذا لم يتّفقا ، واشتدّ الشّقاق بينهما ، ليتخلّصا من الإثم. والمحظور : في الحيض ، إذا كانت مدخولا بها ، وفي طهر جامعها فيه قبل أن تطهر. والمكروه : إذا كانت حالهما مستقيمة ، وكل واحد منهما قيّم بحال صاحبه.

قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً).

(١١٧) نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس ، أتت زوجته إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ، ولكنّي أكره الكفر في الإسلام ، لا أطيقه بغضا. فقال لها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

____________________________________

(١١٦) أخرجه مالك ٢ / ٥٨٨ والطبري عن عروة مرسلا. ووصله الترمذي ١١٩٢ والحاكم ٢ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠ والواحدي ١٥٢ والبيهقي ٧ / ٣٣٣ من حديث عائشة ، وصححه الحاكم ، وضعفه الذهبي بقوله : يعقوب بن حميد غير واحد. قلت : وفيه يعلى بن شبيب وثقه ابن حبان وهو مجهول ، فالراجح إرساله لكن مراسيل عروة جياد.

ولبعضه شاهد من مرسل قتادة أخرجه الطبري ٤٧٨٥ ، ومن مرسل ابن زيد أخرجه برقم ٤٧٨٧.

(١١٧) جيد. أخرجه ابن ماجة ٢٠٥٦ بهذا اللفظ من حديث ابن عباس وإسناده جيد كما قال ابن كثير.

ـ وأصله. أخرجه البخاري ٥٢٧٣ و ٥٢٧٤ و ٥٢٧٥ و ٥٢٧٦ والنسائي ٦ / ١٦٩ والبيهقي ٧ / ٣١٣ من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن لا أطيقه! فقال : «أتردين عليه حديقته؟» قالت نعم. وفي الباب روايات وألفاظ أخرى.

٢٠٢

«أتردّين عليه حديقته»؟ قالت : نعم ، فأمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يأخذها ، ولا يزداد. رواه عكرمة عن ابن عباس. واختلفوا في اسم زوجته ، فقال ابن عباس : جميلة. ونسبها يحيى بن أبي كثير ، فقال : جميلة بنت عبد الله بن أبيّ بن سلول ، وكنّاها مقاتل ، فقال : أمّ حبيبة بنت عبد الله بن أبيّ. وقال آخرون : إنما هي جميلة أخت عبد الله بن أبيّ ، وروى يحيى بن سعيد عن عمرة روايتين : إحداهما : أنها حبيبة بنت سهل. والثانية : سهلة بنت حبيب. وهذا الخلع أول خلع كان في الإسلام. والخوف في الآية بمعنى : العلم. والحدود قد سبق بيان معناها.

ومعنى الآية : أن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها لبغضها إياه ، وخاف الزوج أن يعتدي عليها لامتناعها عن طاعته ؛ جاز له أن يأخذ منها الفدية ، إذا طلبت ذلك. هذا على قراءة الجمهور في فتح «ياء» (يَخافا) ، وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وأبو جعفر ، وحمزة والأعمش : (يخافا) بضم الياء. قوله تعالى ؛ (فَإِنْ خِفْتُمْ) ، قال قتادة : هو خطاب للولاة ، (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) على المرأة (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ، وعلى الزوج فيما أخذ ، لأنه ثمن حقّه. وقال الفرّاء : يجوز أن يراد الزوج وحده ، وإن كانا قد ذكرا جميعا ؛ كقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (١) ، وإنما يخرج من أحدهما. وقوله : (نَسِيا حُوتَهُما) (٢) : وإنما نسي أحدهما.

فصل : وهل يجوز له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؟ فيه قولان (٣) : أحدهما : يجوز ، وبه قال عمر بن الخطّاب وعثمان وعليّ وابن عباس والحسن ومجاهد والنّخعيّ والضحّاك ومالك والشّافعيّ. والثاني : لا يجوز ، وبه قال سعيد بن المسيّب وعطاء والشّعبيّ وطاوس وابن جبير والزّهريّ وأحمد بن

__________________

(١) الرحمن : ٢٢.

(٢) الكهف : ٦١.

(٣) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٠ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠ : ولا يستحب له أن يأخذ أكثر مما أعطاها ، هذا القول يدلّ على صحة الخلع بأكثر من الصداق ، وأنهما إذا تراضيا على الخلع بشيء صح. وهذا قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن عثمان وابن عمر ، وابن عباس ، وعكرمة ومجاهد وقبيصة بن ذؤيب ، والنخعي ، ومالك ، والشافعي وأصحاب الرأي ، ويروى عن ابن عباس وابن عمر ، أنهما قالا : لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها ، وعقاص رأسها ، كان ذلك جائزا. قال عطاء ، وطاوس والزهري وعمرو بن شعيب : لا يأخذ أكثر مما أعطاها. وروي ذلك عن عليّ بإسناد منقطع. واختاره أبو بكر ، قال : فإن فعل رد الزيادة. وعن سعيد بن المسيب قال : ما أرى أن يأخذ كل مالها ، ولكن ليدع لها شيئا. واحتجّوا بما روي أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ، ولكن أكره الكفر في الإسلام ، لا أطيقه بغضا. فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتردين عليه حديقته؟» قالت : نعم فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد. رواه ابن ماجة ، ولأنه بذل في مقابلة فسخ ، فلم يزد على قدره في ابتداء العقد ، كالعوض في الإقالة.

ولنا قول الله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ). ولأنه قول من سمينا من الصحابة قالت الربيع بنت معوّذ : اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ومثل هذا يشتهر ، فلم ينكر ، فيكون إجماعا ، ولم يصح عن عليّ على خلافه. فإذا ثبت هذا ، فإنه لا يستحب له أن يأخذ أكثر مما أعطاها. وبذلك قال سعيد بن المسيب ، والحسن ، والشعبيّ ، والحكم ومالك والشافعي. قال مالك : لم أزل أسمع إجازة الفداء بأكثر من الصداق. ولنا ، حديث جميلة. وروي عن عطاء ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كره أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها. رواه أبو حفص بإسناده. وهو صريح في الحكم ، فنجمع بين الآية والخبر ، فنقول الآية دالة على الجواز ، والنهي عن الزيادة للكراهية. والله أعلم.

٢٠٣

حنبل ، وقد نقل عن عليّ والحسن أيضا. وهل يجوز الخلع دون السّلطان؟ قال عمر وعثمان وعليّ وابن عمر وطاوس وشريح والزّهريّ : يجوز ، وهو قول جمهور العلماء. وقال الحسن وابن سيرين وقتادة : لا يجوز إلا عند السّلطان.

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠))

قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، ذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت في تميمة بنت وهب بن عتيك النّضيريّ ، وفي زوجها رفاعة بن عبد الرحمن القرظيّ.

(١١٨) وقال غير مقاتل : إنها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك ، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمّها ، فطلّقها ثلاثا ، فتزوّجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير ، ثم طلّقها ، فأتت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : إني كنت عند رفاعة ، فطلّقني ، فأبتّ طلاقي ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير ، وإنه طلّقني قبل أن يمسّني ، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك».

قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها) ، يعني : الزوج المطلّق مرتين. قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : هي الطّلقة الثالثة. واعلم أن الله تعالى عاد بهذه الآية بعد الكلام في حكم الخلع إلى تمام الكلام في الطلاق. قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها) ، يعني : الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) يعني : المرأة ، والزوج الأول (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) ، قال طاوس : ما فرض الله على كل واحد منهما من حسن العشرة والصّحبة. قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها) قراءة الجمهور (يبينها) بالياء. وقرأ الحسن ؛ ومجاهد ، والمفضّل عن عاصم بالنون (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، قال الزجّاج : يعلمون أن أمر الله حقّ.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١))

قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ، قال ابن عباس : كان الرجل يطلّق امرأته ، ثم يراجعها قبل انقضاء عدّتها ، ثم يطلّقها ، يفعل ذلك يضارّها ويعضلها بذلك ، فنزلت هذه الآية. والأجل هاهنا : زمان العدّة. ومعنى البلوغ هاهنا : مقارنة الأجل دون حقيقة الانتهاء إليه ، يقال : بلغت المدينة : إذا قاربتها ، وبلغتها : إذا دخلتها. وإنما حمل العلماء هذا البلوغ على المقاربة ، لأنه ليس بعد انقضاء العدّة رجعة. قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة : المراد به الرّجعة قبل انقضاء العدّة. قوله تعالى : (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، وهو تركها حتى تنقضي عدّتها.

____________________________________

(١١٨) صحيح. أخرجه البخاري ٢٦٣٩ و ٢٧٩٢ و ٦٠٨٤ ومسلم ١٤٣٣ ح ١١١ و ١١٢ والترمذي ١١١٨ والنسائي ٦ / ٩٣ والدارمي ٢ / ١٦١ وابن ماجة ١٩٣٢ من حديث عائشة مع اختلاف يسير فيه.

وأخرجه أبو داود ٢٣٠٩ وأحمد ٦ / ٤٢ والنسائي ٦ / ١٤٦ وابن حبان ٤١٢٢ من وجه آخر عن عائشة.

٢٠٤

والمعروف في الإمساك : القيام بما يجب لها من حقّ ، والمعروف في التّسريح : أن لا يقصد إضرارها ، بأن يطيل عدّتها بالمراجعة ، وهو معنى قوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) ، قاله الحسن ومجاهد ، وقتادة في آخرين. وقال الضحّاك : إنما كانوا يضارّون المرأة لتفتدي (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) الاعتداء ، (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بارتكاب الإثم. قوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فيه قولان : أحدهما : أنه الرجل يطلّق أو يراجع ، أو يعتق ، ويقول : كنت لاعبا. روي عن عمر ، وأبي الدّرداء ، والحسن. والثاني : أنه المضارّ بزوجته في تطويل عدّتها بالمراجعة قبل الطلاق ، قاله مسروق ، ومقاتل. (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ، قال ابن عباس : احفظوا منّته عليكم بالإسلام. قال : والكتاب : القرآن. والحكمة : الفقه. (وَاتَّقُوا اللهَ) ، في الضّرار (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ) به وبغيره (عَلِيمٌ).

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢))

قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) في سبب نزولها قولان :

(١١٩) أحدهما : ما روى الحسن أن معقل بن يسار زوّج أخته من رجل من المسلمين ، فكانت عنده ما كانت ، فطلّقها تطليقة ثم تركها ومضت العدّة ، وكانت أحقّ بنفسها ، فخطبها مع الخطّاب ، فرضيت أن ترجع إليه ، فخطبها إلى معقل ، فغضب معقل ، وقال : أكرمتك بها ، فطلّقتها؟! لا والله! لا ترجع إليك آخر ما عليك. قال الحسن : فعلم الله ، عزوجل ، حاجة الرجل إلى امرأته ، وحاجة المرأة إلى بعلها ، فنزلت هذه الآية ، فسمعها معقل ، فقال : سمعا لربّي ، وطاعة ، فدعا زوجها ، فقال : أزوّجك ، وأكرمك. ذكر عبد الغنيّ الحافظ عن الكلبيّ أنه سمّى هذه المرأة ، فقال : جميلة بنت يسار.

(١٢٠) والثاني : أن جابر بن عبد الله الأنصاريّ كانت له ابنة عمّ ، فطلّقها زوجها تطليقة ، فانقضت عدّتها ، ثم رجع يريد رجعتها ، فأبى جابر ، وقال : طلقت ابنة عمّنا ، ثم تريد أن تنكحها الثانية؟! وكانت المرأة تريد زوجها ، قد راضته ، فنزلت هذه الآية ، قاله السّدّيّ.

فأمّا بلوغ الأجل في هذه الآية ، فهو انقضاء العدّة ، بخلاف التي قبلها. قال الشّافعيّ رضي الله عنه : دلّ اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين. قوله تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) ، خطاب للأولياء ، قال ابن عباس ، وابن جبير ، وابن قتيبة في آخرين : معناه لا تحبسوهنّ ، والعرب تقول للشدائد : معضلات. وداء عضال : قد أعيا. قال أوس بن حجر :

وليس أخوك الدّائم العهد بالذي

يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا

ولكنّه النّائي إذا كنت آمنا

وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا

____________________________________

(١١٩) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٢٩ و ٥١٣٠ و ٥١٣١ وأبو داود ٢٠٨٧ والترمذي ٢٩٨١ واستدركه الحاكم ٢ / ٢٨٠ والواحدي ١٥٣ من حديث الحسن عن معقل بن يسار.

(١٢٠) ضعيف. أخرجه الطبري ٤٩٤٢ والواحدي في «أسباب النزول» ١٥٦ وذكر هذا القول ابن كثير في تفسيره وقال : الصحيح الأول أي حديث معقل.

٢٠٥

وقالت ليلى الأخيليّة :

إذا نزل الحجّاج أرضا مريضة

تتبّع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الدّاء العضال الذي بها

غلام إذا هزّ القناة سقاها

قال الزجّاج : وأصل العضل ، من قولهم : عضلت الدّجاجة ، فهي معضل : إذا احتبس بيضها ونشب (١) فلم يخرج ، وعضلت الناقة أيضا : إذا احتبس ولدها في بطنها.

قوله تعالى : (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) ، قال السّدّيّ ، وابن قتيبة : معناه إذا تراضى الزوجان بالنّكاح الصحيح. قال الشّافعيّ : وهذه الآية أبين آية في أنه ليس للمرأة أن تتزوّج إلا بوليّ.

قوله تعالى : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ) ، قال مقاتل : الإشارة إلى نهي الولي عن المنع. قال الزجّاج : إنما قال : «ذلك» ولم يقل : «ذلكم» وهو يخاطب جماعة ، لأن لفظ الجماعة لفظ الواحد ، فالمعنى : ذلك أيها القبيل. قوله تعالى : (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ) ، يعني ردّ النساء إلى أزواجهنّ ، أفضل من التّفرقة بينهم ، (وَأَطْهَرُ) ، أي : أنقى لقلوبكم من الرّيبة لئلا يكون هناك نوع محبّة ، فيجتمعان على غير وجه صلاح. قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فيه قولان : أحدهما : أن معناه : يعلم ودّ كل واحد منهما لصاحبه ، قاله ابن عباس ، والضحّاك. والثاني : يعلم مصالحكم عاجلا وآجلا ، قاله الزجّاج في آخرين.

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣))

قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) لفظه لفظ الخبر ، ومعناه الأمر ، كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٢) ، وقال القاضي أبو يعلى : وهذا الأمر انصرف إلى الآباء ، لأن عليهم الاسترضاع ، لا إلى الوالدات ، بدليل قوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَ) ، وقوله تعالى : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ*) (٣) ، فلو كان متحتّما على الوالدة ، لم تستحقّ الأجرة ، وهل هو عامّ في جميع الوالدات؟ فيه قولان : أحدهما : أنه خاصّ في المطلّقات ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحّاك ، والسّدّيّ ، ومقاتل في آخرين. والثاني : أنه عامّ في الزوجات والمطلّقات ، ولهذا يقال : لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها ، سواء كانت مع الزوج ، أو مطلقة ، قاله القاضي أبو يعلى ، وأبو سليمان الدّمشقيّ في آخرين. والحول : السّنة ، وفي قوله : (كامِلَيْنِ) قولان : أحدهما : أنه دخل للتوكيد ؛ كقوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (٤). والثاني : أنه لما جاز أن يقول : «حولين» ، ويريد أقلّ منهما ، كما قال : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) (٥) ، ومعلوم أنه يتعجّل في يوم ، وبعض آخر. وتقول العرب : لم أر فلانا منذ يومين ، وإنما

__________________

(١) في «القاموس» نشب وانتشب : اعتلق ، وتناشبوا : تضاموا وتعلق بعضهم ببعض.

(٢) البقرة : ٢٢٨.

(٣) النساء : ٢٤.

(٤) البقرة : ١٩٦.

(٥) البقرة : ٢٠٣.

٢٠٦

يريدون : يوما وبعض آخر ـ قال : كاملين لتبيين أنه لا يجوز أن ينقص منهما ، وهذا قول الزجّاج ، والفرّاء.

فصل : اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية ، فقال بعضهم : هو محكم ، والمقصود منه بيان مدّة الرّضاع ، ويتعلّق به أحكام ، منها أنه كمال الرّضاع ، ومنها أنه يلزم الأب نفقة الرّضاع مدّة الحولين ، ويجبره الحاكم على ذلك ، ومنها أنه يثبت تحريم الرّضاع في مدّة الحولين ، ولا يثبت فيما زاد ، ونقل عن قتادة ، والرّبيع بن أنس في آخرين أنه منسوخ بقوله تعالى : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) ، قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : وهذا قول بعيد ، لأنّ الله تعالى قال في أوّلها : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، فلمّا قال في الثاني : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) خيّر بين الإرادتين ، وذلك لا يعارض المدّة المقدّرة في التّمام.

قوله تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، أي : هذا التقدير بالحولين لمريدي إتمام الرّضاعة. وقرأ مجاهد بتاءين «تتم الرضاعة» وبالرفع ، وهي رواية الحلبيّ عن عبد الوارث. وقد ذكر التمام على نفي حكم الرّضاع بعد الحولين ، وأكثر القرّاء على فتح راء «الرضاعة» ، وقرأ طلحة بن مصرّف ، وابن أبي عبلة ، وأبو رجاء بكسرها ، قال الزّجّاج ، يقال : الرّضاعة بفتح الراء وكسرها ، والفتح أكثر ، ويقال : ما حمله على ذلك إلا اللؤم والرّضاعة بالفتح هاهنا لا غير.

قوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) ، يعني : الأب. (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) يعني : المرضعات. وفي قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) دلالة على أن الواجب على قدر حال الرجل في إعساره ويساره ، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر ما لا يطيقه ، ولا الموسر النّزر الطّفيف. وفي الآية دليل على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث ، إذ لا يتوصّل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلّا من جهة غالب الظنّ ، إذ هو معتبر بالعادة. قوله تعالى : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) ، أي : إلا ما تطيقه. (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبان عن عاصم (لا تضارّ) برفع الراء ، وقرأ نافع وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ بنصبها ، قال أبو عليّ : من رفع ، فلأجل المرفوع قبله ، وهو «لا تكلف» ، فأتبعه بما قبله ليقع تشابه اللفظ ، ومن نصب جعله أمرا ، وفتح الراء لتكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف ، قال ابن قتيبة : معناه : لا تضارر ، فأدغمت الراء في الراء. وقال سعيد بن جبير : لا يحملنّ المطلقة مضارّة الزوج أن تلقي إليه ولده. وقال مجاهد : لا تأبى أن ترضعه ضرارا بأبيه ، ولا يضار الوالد بولده ، فيمنع أمّه أن ترضعه ، ليحزنها بذلك. وقال عطاء ، وقتادة ، والزّهريّ ، وسفيان ، والسّدّيّ في آخرين : إذا رضيت بما يرضى به غيرها ، فهي أحقّ به. وقرأ أبو جعفر : «لا تضار» بتخفيفها وإسكانها.

قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه وارث المولود ، وهو قول عطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، والسّدّيّ ، والحسن بن صالح ، ومقاتل في آخرين ؛ واختلف أرباب هذا القول ، فقال بعضهم : هو وارث المولود من عصبته ، كائنا من كان ، وهذا مرويّ عن عمر ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وسفيان. وقال بعضهم : هو وارث المولود على الإطلاق من الرجال والنساء ، روي عن ابن أبي ليلى ، وقتادة ، والحسن بن صالح ، وإسحاق ، وأحمد بن حنبل. وقال آخرون : هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود ، روي عن أبي حنيفة ،

٢٠٧

وأبي يوسف ، ومحمّد. والقول الثاني : أن المراد بالوارث هاهنا ، وارث الوالد ، روي عن الحسن والسّدّيّ. والثالث : أن المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر ، روي عن سفيان. والرابع : أنه أريد بالوارث الصبيّ نفسه ، فالنفقة عليه ، فإن لم يملك شيئا ، فعلى عصبته ، قاله الضحّاك ، وقبيصة بن ذؤيب. قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : وهذا القول لا ينافي قول من قال : المراد بالوارث وارث الصبي ، لأن النفقة تجب للموروث على الوارث إذا ثبت إعسار المنفق عليه. وفي قوله تعالى : (مِثْلُ ذلِكَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الإشارة إلى أجرة الرّضاع والنفقة ، روي عن عمر ، وزيد بن ثابت ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وقتادة ، وقبيصة بن ذؤيب ، والسّدّيّ. واختاره ابن قتيبة. والثاني : أن الإشارة بذلك إلى النهي عن الضّرار ، روي عن ابن عباس والشّعبيّ والزّهريّ. واختاره الزجّاج. والثالث : أنه إشارة إلى جميع ذلك ، روي عن سعيد بن جبير ومجاهد ومقاتل وأبي سليمان الدّمشقيّ واختاره القاضي أبو يعلى. ويشهد لهذا أنه معطوف على ما قبله ، وقد ثبت أن على المولود له النفقة والكسوة ، وأن لا يضارّ ، فيجب أن يكون قوله : (مِثْلُ ذلِكَ) مشيرا إلى جميع ما على المولود له.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) ، الفصال : الفطام. قال ابن قتيبة : يقال : فصلت الصبيّ من أمّه : إذا فطمته. ومنه قيل للحوار (١) إذا قطع عن الرّضاع : فصيل ، لأنه فصل عن أمّه ، وأصل الفصل : التّفريق. قال مجاهد : التشاور فيما دون الحولين إن أرادت أن تفطم وأبى ، فليس لها ، وإن أراد هو ، ولم ترد ، فليس له ذلك حتى يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور ، يقول : غير مسيئين إلى أنفسهما وإلى صبيهما. قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) ، قال الزجّاج : أي : لأولادكم. قال مقاتل : إذا لم ترض الأم بما يرضى به غيرها ، فلا حرج على الأب أن يسترضع لولده. وفي قوله تعالى : (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) قولان : أحدهما : إذا سلّمتم أيّها الآباء إلى أمهات الأولاد أجور ما أرضعن قبل امتناعهن ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : إذا سلّمتم إلى الظّئر أجرها بالمعروف ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل. وقرأ ابن كثير (ما أتيتم) بالقصر ، قال أبو عليّ : وجهه أن يقدّر فيه : ما أوتيتم نقده أو أوتيتم سوقه ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، كما تقول : أتيت جميلا ، أي : فعلته.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) ، أي : يقبضون بالموت. وقرأ المفضّل عن عاصم «يتوفون» بفتح الياء في الموضعين. قال ابن قتيبة : هو من استيفاء العدد ، واستيفاء الشيء : أن نستقصيه كلّه ، يقال : توفّيته واستوفيته ، كما يقال : تيقّنت الخير واستيقنته ، هذا الأصل ، ثم قيل للموت : وفاة وتوفّ (يَتَرَبَّصْنَ) ينتظرن ، قال الفرّاء : وإنما قال : (وَعَشْراً) ولم يقل : عشرة ، لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام ، غلّبوا عليه الليالي على الأيام ، حتى إنهم ليقولون : صمنا عشرا من شهر رمضان ،

__________________

(١) في «اللسان» الحوار : ولد الناقة من حين يوضع إلى أن يفطم ويفصل.

٢٠٨

لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام ، فإذا أظهروا مع العدد تفسيره ، كانت الإناث بغير هاء ، والذّكور بالهاء (١) ؛ كقوله تعالى : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) (٢). فإن قيل : ما وجه الحكمة في زيادة هذه العشرة؟ فالجواب : أنه يبيّن صحة الحمل بنفخ الرّوح فيه ، قاله سعيد بن المسيّب ، وأبو العالية.

(١٢١) ويشهد له الحديث الصحيح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الرّوح».

فصل : وهذه الآية ناسخة للتي تشابهها ، وهي تأتي بعد آيات ، وهي قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) ؛ لأن تلك كانت تقتضي وجوب العدّة سنة ،

____________________________________

(١٢١) صحيح. أخرجه البخاري ٣٢٠٨ و ٣٣٣٢ و ٦٥٩٤ و ٧٤٥٤ ومسلم ٢٦٤٣ وأبو داود ٤٧٠٨ والترمذي ٢١٣٧ والنسائي ٦ / ٢٩ وابن ماجة ٧٦ وابن حبان ٦١٧٤ والبيهقي ٣٨٧ و ١٣٧ ـ ١٣٨ من حديث ابن مسعود : «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وأربعين ليلة ، ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح ، فإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار فيدخل النار وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها» لفظ البخاري.

__________________

(١) قال أبو حيان في «البحر المحيط» ٢ / ٢٣٤ : ولا يحتاج إلى تأويل عشر بأنها ليال لأجل حذف التاء ولا إلى تأويلها بمدد كما ذهب إليه «المبرد» بل الذي نقل أصحابنا إنه إذا كان المعدود مذكرا وحذفته فلك فيه وجهان أحدهما وهو الأصل أن يبقى العدد على ما كان عليه لو لم يحذف المعدود فتقول صمت خمسة تريد خمسة أيام قالوا وهو الفصيح قالوا ويجوز أن تحذف منه كله تاء التأنيث ، وحكى «الكسائي» عن أبي الجراح صمنا من الشهر خمسا ومعلوم أن الذي يصام من الشهر إنما هي الأيام واليوم مذكر. وقوله ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه كما ذكر بل استعمال التذكير هو الكثير الفصيح فيه كما ذكرنا وقوله ومن البين فيه إن لبثتم إلا عشرا قد بينا مجيء هذا على الجائز فيه وأن محسن ذلك إنما هو كونه فاصلة وقوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) [طه : ١٠٤].

فائدة : ذكر «الزمخشري» هذا أنه على زعمه أراد الليالي والأيام داخلة معها فأتى بقوله إلا يوما للدلالة على ذلك وهذا عندنا يدل على أن قوله عشرا إنما يريد بها الأيام لأنهم اختلفوا في مدة اللبث فقال قوم عشر ، وقال أمثلهم طريقة يوم ، فقوله : إلا يوما مقابل لقولهم إلا عشرا ويبين أنه أريد بالعشر الأيام إذ ليس من التقابل أن يقول بعضهم عشر ليال ، ويقول بعض يوما ، وظاهر قوله أربعة أشهر ما يقع عليه اسم الشهر فلو وجبت العدّة مع رؤية الهلال لاعتدّت بالأهلة ، كان الشهر تاما أو ناقصا وإن وجبت في بعض شهر فقيل تستوفي مائة وثلاثين يوما وقيل تعتد بما يمر عليها من الأهلة شهورا ثم تكمل الأيام الأول ، وكلا القولين عن أبي حنيفة ولما كان الغالب على من مات عنها زوجها أن تعلم ذلك فتعتد إثر الوفاة جاء الفعل مسندا إليهن وأكد بقوله (بِأَنْفُسِهِنَ) فلو مضت عليها مدة العدة من حين الوفاة وقامت على ذلك البينة ولم تكن علمت بوفاته إلى أن انقضت العدة فالذي عليه الجمهور أن عدتها من يوم الوفاة.

(٢) الحاقة : ٧.

٢٠٩

وسنذكر ما يتعلق بها هنالك ، إن شاء الله. فأما التي نحن في تفسيرها : فقد روي عن ابن عباس أنه قال : نسختها (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) (١). والصحيح : أنها عامة دخلها التّخصيص ، لأن ظاهرها يقتضي وجوب العدّة على المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا ، سواء كانت حاملا ، أو غير حامل ، غير أن قوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) خصّ أولات الحمل ، وهي خاصة أيضا في الحرائر ، فإن الأمة عدّتها شهران وخمسة أيام ، فبان أنها من العامّ الذي دخله التّخصيص.

قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ، يعني : انقضاء العدّة. قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فيه قولان : أحدهما أن معناه : فلا جناح على الرجال في تزويجهنّ بعد ذلك. والثاني : فلا جناح على الرجال في ترك الإنكار عليهنّ إذا تزيّن وتزوجن. قال أبو سليمان الدّمشقيّ : وهو خطاب لأوليائهنّ.

قوله تعالى : (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فيه قولان : أحدهما : أنه التّزيّن والتّشوّف للنّكاح ، قاله الضّحّاك ، ومقاتل. والثاني : أنه النّكاح ، قاله الزّهريّ ، والسّدّيّ.

و «الخبير» من أسماء الله تعالى ، ومعناه : العالم بكنه الشيء المطّلع على حقيقته. و «الخبير» في صفة المخلوقين ، إنما يستعمل في نوع من العلم ، وهو الذي يتوصّل إليه بالاجتهاد دون النوع المعلوم ببداءة العقول. وعلم الله تعالى سواء فيما غمض ولطف وفيما تجلّى وظهر.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥))

قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) ، هذا خطاب لمن أراد تزويج معتدّة. والتّعريض : الإيماء والتّلويح من غير كشف ، فهو إشارة بالكلام إلى ما ليس له في الكلام ذكر. والخطبة بكسر الخاء : طلب النّكاح ، والخطبة بضم الخاء : مثل الرّسالة التي لها أول وآخر. وقال ابن عباس : التّعريض أن يقول : إني أريد أن أتزوّج. وقال مجاهد : أن يقول : إنك لجميلة ، وإنّك لحسنة ، وإنّك لإلى خير. قوله تعالى : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) ، قال الفرّاء : فيه لغتان : كننت الشيء ، وأكننته. وقال ثعلب : أكننت الشيء : إذا أخفيته في نفسك ، وكننته : إذا سترته بشيء. وقال ابن قتيبة : أكننت الشيء : إذا سترته ، ومنه هذه الآية ، وكننته : إذا صنته ، ومنه قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) (٢) ، قال بعضهم : يجعل كننته ، وأكننته ، بمعنى. قوله تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) ، قال مجاهد : ذكره إياها في نفسه. قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) فيه أربعة أقوال : أحدها : أن المراد بالسّرّ هاهنا : النّكاح ، قاله ابن عباس. وأنشد بيت امرئ القيس :

ألا زعمت بسباسة (٣) اليوم أنّني

كبرت وأن لا يشهد السّرّ أمثالي

__________________

(١) الطلاق : ٤.

(٢) الصافات : ٤٩.

(٣) في «القاموس» بسباسة : امرأة من بني أسد.

٢١٠

وفي رواية : يشهد اللهو. قال الفرّاء : ويرى أنه مما كنّى الله عنه كقوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ*) (١). وذكر الزجّاج عن أبي عبيدة أن السّرّ : الإفضاء بالنّكاح المحرم ، وأنشد (٢) :

ويحرم سرّ جارتهم عليهم

ويأكل جارهم أنف القصاع (٣)

قال ابن قتيبة : استعير السّرّ للنّكاح ، لأن النّكاح يكون سرّا ، فالمعنى : لا تواعدوهنّ بالتزويج ، وهن في العدة تصريحا ، (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) لا تذكرون فيه رفثا ولا نكاحا. والثاني : أن المواعدة سرّا : أن يقول لها : إنّي لك محبّ ، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : أن المراد بالسّرّ الزّنى ، قاله الحسن ، وجابر بن زيد ، وأبو مجلز ، وإبراهيم ، وقتادة ، والضحّاك. والرابع : أن المعنى : لا تنكحوهنّ في عدّتهنّ سرّا ، فإذا حلّت أظهرتم ذلك ، قاله ابن زيد. وفي القول المعروف قولان : أحدهما : أنه التّعريض لها ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والقاسم بن محمّد ، والشّعبيّ ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وقتادة ، والسّدّيّ. والثاني : أنه إعلام وليّها برغبته فيها ، وهو قول عبيدة.

قوله تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) ، قال الزجّاج : لا تعزموا على عقدة النّكاح ، وحذفت «على» استخفافا ، كما قالوا : ضرب زيد الظّهر والبطن ، معناه : على الظّهر والبطن. (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) ، أي : حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ، قال : ويجوز أن يكون «الكتاب» بمعنى «الفرض» ؛ كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (٤) ، فيكون المعنى : حتى يبلغ الفرض أجله. قال ابن عباس ، ومجاهد ، والشّعبيّ ، وقتادة ، والسّدّيّ : بلوغ الكتاب أجله : انقضاء العدّة.

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) ، قال ابن عباس : من الوفاء ، فاحذروه أن تخالفوه في أمره. والحليم قد سبق بيانه.

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦))

قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) ، قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو عمرو «تمسوهن» بغير ألف حيث كان ، وبفتح التاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف «تماسّوهن» بألف وضمّ التاء في الموضعين هنا ، وفي الأحزاب ثالث. قال أبو عليّ : وقد يراد بكل واحد من «فاعل» و «فعل» ما يراد بالآخر ، تقول : طارقت النعال وعاقبت اللص.

(١٢٢) قال مقاتل بن سليمان : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ،

____________________________________

(١٢٢) لا أصل له. عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان ، وهذا معضل ، ومع ذلك مقاتل كذاب يضع الحديث ، وقد تفرد بهذا الخبر. قال الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» ١ / ٢٨٥ لم أجده. وذكره القرطبي في تفسير ٣٥ /

__________________

(١) النساء : ٤٣.

(٢) البيت للحطيئة.

(٣) في «اللسان» : القصعة الضخمة تشبع العشرة والجمع قصاع. وأنف كل شيء : طرفه وأوله.

(٤) البقرة : ١٨٣.

٢١١

ولم يسمّ لها مهرا ، فطلّقها قبل أن يمسّها ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل متّعتها بشيء؟» قال : لا ، قال : «متّعها ولو بقلنسوتك» ، ومعنى الآية : ما لم تمسوهنّ ، ولم تفرضوا لهنّ فريضة. وقد تكون «أو» بمعنى الواو. كقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) (١).

والمس : النكاح ، والفريضة : الصداق ، وقد دلّت الآية على جواز عقد النكاح بغير تسمية مهر (وَمَتِّعُوهُنَ) أي : أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على قدر أحوالكم في الغنى والفقر. والمتاع : اسم لما ينتفع به ، فذلك معنى قوله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) ، وقرأ ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو «قدره» بإسكان الدال في الحرفين ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بتحريك الحرفين ، وعن عاصم : كالقراءتين وهما لغتان.

فصل : وهل هذه المتعة واجبة ، أم مستحبة؟ فيه قولان : أحدهما : واجبة ، واختلف أرباب هذا القول ، لأيّ المطلّقات تجب ، على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها واجبة لكل مطلّقة ، روي عن عليّ والحسن وأبي العالية والزّهريّ. والثاني : أنها تجب لكل مطلّقة إلا المطلّقة التي فرض لها صداقا ولم يمسّها ، فإنه يجب لها نصف ما فرض ، روي عن ابن عمر والقاسم بن محمّد وشريح وإبراهيم. والثالث : أنها تجب للمطلّقة قبل الدّخول إذا لم يسمّ لها مهرا ، فإن دخل بها ، فلا متعة ، ولها مهر المثل ، روي عن الأوزاعيّ والثّوريّ وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل.

والثاني : أن المتعة مستحبّة ، ولا تجب على أحد ، سواء سمّى للمرأة ، أو لم يسمّ ، دخل بها ، أو لم يدخل ، وهو قول مالك ، واللّيث بن سعد ، والحكم ، وابن أبي ليلى.

واختلف العلماء في مقدار المتعة ، فنقل عن ابن عباس ، وسعيد بن المسيّب : أعلاها خادم ، وأدناها كسوة يجوز لها أن تصلّي فيها ، وروي عن حمّاد وأبي حنيفة : أنه قدر نصف صداق مثلها. وعن الشّافعيّ وأحمد : أنه قدر يساره وإعساره ، فيكون مقدرا باجتهاد الحاكم. ونقل عن أحمد : أن المتعة بقدر ما تجزئ فيه الصّلاة من الكسوة ، وهو درع وخمار.

قوله تعالى : (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) ، أي : بقدر الإمكان ، والحق : الواجب. وذكر المحسنين والمنافقين ضرب من التأكيد.

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧))

قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) ، أي : قبل الجماع (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَ) أي :

____________________________________

١٩٠ ونسبه للثعلبي ، وتفرد الثعلبي به يدل على أنه غير حجة لأنه كحاطب ليل حتى الواحدي لم يذكره في «أسباب النزول». وكذا السيوطي وهذا الخبر أمارة الوضع لائحة عليه.

__________________

(١) الدهر : ٢٤.

٢١٢

أوجبتم لهنّ شيئا التزمتم به ، وهو المهر (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) ، يعني : النساء ، وعفو المرأة : ترك حقّها من الصّداق. وفي (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنه الزّوج ، وهو قول عليّ ، وجبير بن مطعم ، وابن المسيّب ، وابن جبير ، ومجاهد ، وشريح ، وجابر بن زيد ، والضحّاك ، ومحمّد بن كعب القرظيّ ، والرّبيع بن أنس ، وابن شبرمة ، والشّافعيّ ، وأحمد رضي الله عنهم في آخرين. والثاني : أنه الوليّ ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، وعلقمة ، وطاوس ، والشّعبيّ ، وإبراهيم في آخرين. والثالث : أنه أبو البكر ، روي عن ابن عباس ، والزّهريّ ، والسّدّيّ في آخرين. فعلى القول الأول عفو الزوج : أن يكمل لها الصّداق ، وعلى الثاني : عفو الوليّ : ترك حقّها إذا أبت ، روي عن ابن عباس ، وأبي الشّعثاء. وعلى الثالث يكون قوله : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) يختصّ بالثّيّبات. وقوله : (أَوْ

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٠ / ١٦٠ : اختلف أهل العلم في الذي بيده عقدة النكاح ، فظاهر مذهب أحمد رحمه‌الله. أنه الزوج. وروي ذلك عن عليّ وابن عباس ، وجبير بن مطعم رضي الله عنهم ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وشريح ، وسعيد بن جبير ، ونافع بن جبير ، ونافع مولى ابن عمر ، ومجاهد وإياس بن معاوية ، وجابر بن زيد ، وابن سيرين ، والشّعبي والثوري ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي. والشافعي في الجديد وعن أحمد أنه الوليّ إذا كان أبا الصغيرة وهو قول الشافعي القديم إذا كان أبا أو جدا وحكي عن ابن عباس وعلقمة والحسن وطاوس والزهري وربيعة ومالك ، أنه الوليّ لأن الوليّ بعد الطلاق هو الذي بيده عقدة النكاح ، لكونها قد خرجت عن يد الزّوج ولأن الله تعالى ذكر عفو النساء عن نصيبهنّ ، فينبغي أن يكون عفو الذي بيده عقدة النكاح عنه ، ليكون المعفو عنه في الموضعين واحدا ، ولأن الله تعالى بدأ بخطاب الأزواج على المواجهة بقوله (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) ثم قال : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وهذا خطاب غير حاضر. ولنا ، ما روى أنه الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «وليّ العقدة الزوج» ولأن الذي بيده عقدة النكاح بعد العقد هو الزوج فإنه يتمكّن من قطعه وفسخه وإمساكه ، وليس إلى الوليّ منه شيء ، ولأنّ الله تعالى قال : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) والعفو الذي هو أقرب إلى التّقوى ولأن المهر مال للزوجة ، فلا يملك الوليّ هبته وإسقاطه ، كغيره من أموالها وحقوقها ، كسائر الأولياء ، ولا يمتنع العدول عن خطاب الحاضر إلى خطاب الغائب كقوله تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ). فعلى هذا متى طلق الزّوج قبل الدخول تنصّف المهر بينما إن عفا الزّوج لها عن النّصف الذي له ، كمل لها الصّداق جميعه ، وإن عفت المرأة عن النّصف الذي لها منه ، وتركت له جميع الصداق ، جاز إذا كان العافي منهما رشيدا جائزا تصرّفه في ماله ، وإن كان صغيرا أو سفيها ، لم يصحّ عفوه لأنّه ليس له التّصرّف في ماله بهبة ولا إسقاط. ولا يصحّ عفو الوليّ عن صداق الزّوجة ، أبا كان أو غيره ، صغيرة كانت أو كبيرة. نصّ عليه أحمد ، في رواية الجماعة ، وروى عنه ابن منصور : إذا طلّق امرأته وهي بكر قبل أن يدخل بها ، فعفا أبوها أو زوجها ، ما أرى عفو الأب إلّا جائزا. قال أبو حفص : ما أرى ما نقله ابن منصور إلّا قولا لأبي عبد الله قديما. وظاهر قول أبي حفص أن المسألة رواية واحدة ، وأن أبا عبد الله رجع عن قوله بجواز عفو الأب وهو الصحيح ، لأن مذهبه أنه لا يجوز للأب إسقاط ديون ولده الصغير ولا إعتاق عبيده ، ولا تصرّفه له إلّا بما فيه مصلحته ولا حظّ لها في هذا الإسقاط فلا يصح ـ وإن قلنا برواية ابن منصور ، لم يصحّ إلّا بخمس شرائط : الأول أن يكون أبا لأنّه الذي يلي مالها ، ولا يتّهم عليه. والثاني أن تكون صغيرة ليكون وليا على مالها ، فإنّ الكبيرة تلي مال نفسها. الثالث أن تكون بكرا لتكون غير مبتذلة ، ولأنّه لا يملك تزويج الثيّب وإن كانت صغيرة ، فلا تكون ولايته عليها تامة. الرابع ، أن تكون مطلقة ، لأنها قبل الطلاق معرّضة لإتلاف البضع. الخامس أن تكون قبل الدّخول ، لأنّ ما بعده قد أتلف البضع فلا يعفو عن بدل متلف. ومذهب الشافعيّ على نحو هذا إلّا أنّه يجعل الجدّ كالأب.

٢١٣

يَعْفُوَا) ، يختصّ أبا البكر ، قاله الزّهريّ ، والأول أصحّ ، لأن عقدة النّكاح خرجت من يد الوليّ ، فصارت بيد الزّوج ، والعفو إنما يطلق على ملك الإنسان ، وعفو الوليّ عفو عما لا يملك ، ولأنه قال : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) ، والفضل في هبة الإنسان مال نفسه ، لا مال غيره. قوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، فيه قولان : أحدهما : أنه خطاب للزوجين جميعا ، روي عن ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنه خطاب للزوج وحده ، قاله الشّعبيّ ، وكان يقرأ : «وأن يعفو» بالياء. قوله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) ، خطاب للزوجين ، قال مجاهد : هو إتمام الرجل الصّداق ، وترك المرأة شطرها.

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨))

قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) ، المحافظة : المواظبة والمداومة ، والصّلوات بالألف واللام ينصرف إلى المعهود ، والمراد : الصّلوات الخمس.

قوله تعالى : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) قال الزّجّاج : هذه الواو تنصرف إلى المعهود والمراد الصلوات الخمس إذا جاءت مخصّصة ، فهي دالّة على فضل الذي تخصّصه ، كقوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (١) قال سعيد بن المسيّب : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الصلاة الوسطى هكذا ، وشبّك بين أصابعه (٢). ثم فيها خمسة أقوال : أحدها : أنها العصر.

(١٢٣) روى مسلم في أفراده من حديث عليّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال يوم الأحزاب : «شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ قبورهم وبيوتهم نارا».

(١٢٤) وروى ابن مسعود ، وسمرة ، وعائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها صلاة العصر.

____________________________________

(١٢٣) أخرجه البخاري ٢٩٣١ و ٤١١١ و ٤٥٣٣ و ٦٣٩٦ ومسلم ٦٢٧ وأبو داود ٤٠٩ وأحمد ١ / ١٢٢ والدارمي ١ / ٢٨٠ من طريق هشام بن حسّان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي. وأخرجه مسلم ٦٢٧ ح ٢٠٣ والترمذي ٢٩٨٤ والنسائي ١ / ٣٦ وأحمد ١ / ١٣٥ و ٣٧ و ١٥٣ و ١٥٤ والطبري ٥٤٢٥ و ٥٤٣٢ من طرق عن أبي حسّان عن عبيدة. وأخرجه مسلم ٦٢٧ ح ٢٠٥ وعبد الرزاق ٣١٩٤ وأحمد ١ / ٨١ و ٨٢ و ٨٣ و ١٢٦ و ١٤٦ والطبري ٥٤٢٧ و ٥٤٢٩ والبيهقي ١ / ٤٦٠ و ٢ / ٢٢٠ من طريق الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن شتير بن شكل عن علي.

(١٢٤) حديث ابن مسعود ، أخرجه مسلم ٦٢٨ والترمذي ١٨١ و ٢٩٨٥ والطيالسي ٣٦٦ وأحمد ١ / ٣٩٢ و ٤٠٣ و ٤٠٤ و ٤٥٦ والطبري ٥٤٣٣ والطحاوي ١ / ١٧٤ والبيهقي ١ / ٤٦١ من طريق محمد بن طلحة عن زبيد بن الحارث عن مرة بن شراحيل عن ابن مسعود. قال حبس المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صلاة العصر حتّى احمرّت الشّمس أو اصفرّت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر. ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا» أو قال : «حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا».

ـ وحديث سمرة أخرجه الترمذي ٢٩٨٣ وأحمد ٥ / ١٣ و ٢٢ ولفظه «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : صلاة الوسطى صلاة العصر». قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

__________________

(١) البقرة : ٩٧.

(٢) أخرجه الطبري ٥٤٩٥ عن قتادة عن ابن المسيب ، وفيه إرسال بينهما فإن قتادة لم يسمعه من سعيد فهو ضعيف. وقوله «وشبك بين أصابعه» أي مختلفين كما في رواية الطبري.

٢١٤

(١٢٥) وروى مسلم في أفراده من حديث البراء بن عازب قال : نزلت هذه الآية «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر» ، فقرأناها ما شاء الله ، ثم نسخها الله ، فنزلت : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وهذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن مسعود ، وأبيّ ، وأبي أيوب ، وابن عمر في رواية ، وسمرة بن جندب ، وأبي هريرة ، وابن عباس في رواية عطيّة ، وأبي سعيد الخدريّ ، وعائشة في رواية ، وحفصة ، والحسن ، وسعيد بن المسيّب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء في رواية ، وطاوس ، والضحّاك ، والنّخعيّ ، وعبيد بن عمير ، وزرّ بن حبيش ، وقتادة ، وأبي حنيفة ، ومقاتل في آخرين ، وهو مذهب أصحابنا.

والثاني : أنها الفجر ، روي عن عمر ، وعليّ في رواية ، وأبي موسى ، ومعاذ ، وجابر بن عبد الله ، وأبي أمامة ، وابن عمر في رواية مجاهد ، وزيد بن أسلم ، في رواية أبي رجاء العطارديّ ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، وأنس بن مالك ، وعطاء ، وطاوس في رواية ابنه ، وعبد الله بن شدّاد ، ومجاهد ، ومالك ، والشّافعيّ. وروى أبو العالية قال صلّيت مع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغداة فقلت لهم : أيّما الصلاة الوسطى؟ فقالوا : التي صلّيت قبل. والثالث : أنها الظّهر ، روي عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأسامة بن زيد ، وأبي سعيد الخدريّ ، وعائشة في رواية ، وروى [عاصم بن ضمرة] (١) عن عليّ عليه‌السلام قال : هي صلاة الجمعة ، وهي سائر الأيام الظّهر. والرابع : أنها المغرب ، روي عن ابن عباس ، وقبيصة بن ذؤيب. والخامس : أنها العشاء الأخيرة ، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوريّ في «تفسيره».

وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال : أحدها : أنها أوسط الصلوات محلا. والثاني : أوسطها مقدارا. والثالث : أفضلها ، ووسط الشيء : خيره وأعدله. ومنه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (٢) ، فإن قلنا : إن الوسطى بمعنى : الفضلى ، جاز أن يدّعي هذا كلّ ذي مذهب فيها. وإن قلنا : إنها أوسطها مقدارا ، فهي المغرب ، لأن أقل المفروضات ركعتان ، وأكثرها أربعا. وإن قلنا : أوسطها محلّا ، فللقائلين : إنها العصر أن يقولوا : قبلها صلاتان في النهار ، وبعدها صلاتان في الليل ، فهي الوسطى.

____________________________________

وحديث عائشة أخرجه مسلم ٦٢٩ وأبو داود ٤١٠ والترمذي ٢٩٨٢ والنسائي ٦٦ وأخرجه مالك ١ / ١٣٨ ـ ١٣٩ وأحمد ٦ / ٧٣ و ١٧٨ والطحاوي في المعاني ١ / ١٧٢ وابن أبي داود في المصاحف ص ٨٤ والبيهقي ١ / ٤٦٢ من طريق زيد بن أسلم به. وأخرجه الطبري ٥٤٧٠ من طريق زيد بن أسلم أنه بلغه عن أبي يونس : عن عائشة. وأخرجه مسلم حدثنا يحيى بن يحيى التميميّ قال قرأت على مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي يونس مولى عائشة ، أنه قال : «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذنّي : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة ، الآية : ٢٣٨] فلمّا بلغتها آذنتها. فأملت عليّ : حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر. وقوموا لله قانتين قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١٢٥) صحيح. أخرجه مسلم ٦٣٠ والطبري ٥٤٣٧ والحاكم ٢ / ٢٨١ والطحاوي في «المشكل» ٢٠٧١ والبيهقي ١ / ٤٥٩ من حديث البراء بن عازب.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين في نسخة «الفكر» «أبو ضمرة» وفي نسخة «المكتب» ضمرة وكلاهما خطأ ، ليس في الرواة عن علي ضمرة أو أبو ضمرة ، وإنما يروي عنه عاصم بن ضمرة.

(٢) البقرة : ١٤٢

٢١٥

ومن قال : هي الفجر ، فقال عكرمة : هي وسط بين الليل والنهار ، وكذلك قال ابن الأنباريّ : هي وسط بين الليل والنهار ، وقال : وسمعت أبا العبّاس يعني ، ثعلبا يقول : النهار عند العرب أوّله : طلوع الشمس. قال ابن الأنباريّ : فعلى هذا صلاة الصبح من صلاة الليل ، قال : وقال آخرون : بل هي من صلاة النهار ، لأن أول وقتها أول وقت الصوم. قال : والصواب عندنا أن نقول : الليل المحض خاتمته طلوع الفجر ، والنّهار المحض أوّله : طلوع الشمس ، والذي بين طلوع الفجر ، وطلوع الشّمس يجوز أن يسمى نهارا ، ويجوز أن يسمّى ليلا ، لما يوجد فيه من الظّلمة والضّوء ، فهذا قول يصحّ به المذهبان. قال ابن الأنباريّ : ومن قال : هي الظّهر ، قال : هي وسط النهار ، فأمّا من قال : هي المغرب ، فاحتجّ بأن أوّل صلاة فرضت ، الظّهر ، فصارت المغرب وسطى ، ومن قال : هي العشاء ، فإنه يقول : هي بين صلاتين لا تقصران. قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ، المراد بالقيام هاهنا : القيام في الصلاة ، فأمّا القنوت ، فقد شرحناه فيما تقدم. وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الطّاعة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، والشّعبيّ ، وطاوس ، والضّحّاك ، وقتادة في آخرين. والثاني : أنه طول القيام في الصلاة ، روي عن ابن عمر ، والرّبيع بن أنس ، وعن عطاء كالقولين. والثالث : أنه الإمساك عن الكلام في الصّلاة.

(١٢٦) قال زيد بن أرقم : كنّا نتكلّم في الصلاة حتى نزلت : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسّكوت ونهينا عن الكلام.

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩))

قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً) ، أي : خفتم عدوا ، فصلّوا رجالا ، وهو جمع راجل ، والرّكبان جمع راكب ، وهذا يدلّ على تأكيد أمر الصلاة ، لأنه أمر بفعلها على كلّ حال. وقيل : إنّ هذه الآية أنزلت بعد التي في سورة النّساء ، لأن الله تعالى وصف لهم صلاة الخوف في قوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) (١) ، ثم أنزل هذه الآية : (فَإِنْ خِفْتُمْ) ، أي : خوفا أشدّ من ذلك ، فصلّوا عند المسايفة كيف قدرتم. فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين :

(١٢٧) ما روى ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلّى يوم الخندق الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشّفق؟ فالجواب :

____________________________________

(١٢٦) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٣٤ ومسلم ٥٣٩ وأبو داود ٩٤٩ والترمذي ٢٩٨٦ و ٥٥٢٤ والنسائي ٣ / ١٨ وابن خزيمة ٨٥٦ وابن حبان ٢٢٤٥ و ٢٢٤٦ و ٢٢٥٠ والطبري ٥٥٢٧ والطبراني ٥٠٦٣ و ٥٠٦٤ والبيهقي ٢ / ٢٤٨ من حديث زيد بن الأرقم.

(١٢٧) لم أره من حديث ابن عباس ، ولعله سبق قلم ، وإنما هو من حديث ابن مسعود. كذا أخرجه الترمذي ١٧٩ والنسائي ١ / ٢٩٧ و ٢ / ١٧ والطيالسي ٣٣٣ وأحمد ١ / ٤٢٣ والبيهقي ١ / ٤٠٣ كلهم من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : «كنا في غزوة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحبسنا المشركون عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فلما انصرف المشركون أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مناديا ، فأقام لصلاة الظهر ...» الحديث.

__________________

(١) النساء : ١٠٢.

٢١٦

(١٢٨) أن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) ، قال أبو بكر الأثرم : فقد بيّن أن ذلك الفعل الذي كان يوم الخندق منسوخ.

قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) ، في هذا الذّكر قولان : أحدهما : أنه الصّلاة ، فتقديره : فصلّوا كما كنتم تصلّون آمنين. والثاني : أنه الثّناء على الله ، والحمد له.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً).

(١٢٩) روى ابن حيّان أن هذه الآية نزلت في رجل من أهل الطّائف ، يقال له : حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة ، ومعه أبواه وامرأته ، وله أولاد ، فمات فرفع ذلك إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فأعطى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبويه وأولاده من ميراثه ، ولم يعط امرأته شيئا ، غير أنّه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا.

قوله تعالى : (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وابن عامر «وصية» بالنصب ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائيّ «وصية» بالرفع. وعن عاصم كالقراءتين. قال أبو عليّ : من نصب حمله على الفعل ، أي : ليوصوا وصية ، ومن رفع ، فمن وجهين : أحدهما : أن يجعل الوصيّة مبتدأ ، والخبر لأزواجهم. والثاني : أن يضمر له خبرا ، تقديره : فعليهم وصية. والمراد منه من قارب الوفاة ، فليوص ، لأن المتوفّى لا يؤمر ولا ينهى. قوله تعالى : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) ، أي : متّعوهنّ إلى الحول ، ولا تخرجوهنّ. والمراد بذلك نفقة السّنة وكسوتها وسكناها (فَإِنْ خَرَجْنَ) أي : من قبل أنفسهنّ (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يعني : أولياء الميت (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) يعني التّشوّف للنّكاح. وفي ما ذا رفع الجناح عن الرّجال؟ فيه قولان : أحدهما : أنه في قطع النّفقة عنهنّ إذا خرجن قبل انقضاء الحول.

____________________________________

إسناده ضعيف ، لانقطاعه بين أبي عبيدة وأبيه. قال الترمذي : إسناده ليس به بأس ، إلّا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. قلت : وليس فيه لفظ بعد ما غربت ، وإنما جاءت هذه اللفظة في حديث جابر ، لكن في هذا الأخير أن صلاة العصر فقط هي التي فاتته. كذا أخرجه البخاري ٥٩٦ و ٥٩٨ ومسلم ٦٤١ وغيرهما. وكذا ورد لفظ «حتى غربت» في حديث أبي سعيد ، وهو الآتي.

ـ الخلاصة : حديث ابن مسعود ضعيف الإسناد ، إلّا أن أصله محفوظ بشاهده الآتي عن أبي سعيد ، فهو يشهد له في كونه عليه الصّلاة والسّلام فاتته أربع صلوات ، ويعارضه ، بأن فيه «قبل نزول الآية».

(١٢٨) صحيح. أخرجه الشافعي في «السنن» ١ و «الأم» ١ / ٧٥ وأحمد ٣ / ٦٧ ـ ٦٨ والدارمي ١ / ٣٥٨ والنسائي ٢ / ١٧ وابن حبان ٢٨٩٠ والبيهقي ١ / ٤٠٣ كلهم من حديث أبي سعيد قال : «شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس ، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل ، فأنزل الله عزوجل (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا ، فأقام لصلاة الظهر ...» الحديث. إسناده صحيح على شرط مسلم. وكذا صححه ابن السكن ، ووافقه الحافظ في «تلخيص الحبير» ١ / ١٩٥. وقال السيوطي في «شرح سنن النسائي» ٢ / ١٨ : قال ابن سيد الناس : هذا إسناد صحيح جليل.

(١٢٩) ضعيف. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ١٥٧ وإسحاق بن راهويه في «تفسيره» كما في «أسباب النزول» للسيوطي ١٧٠ عن مقاتل بن حيان ، وهذا معضل ، فالخبر واه.

٢١٧

والثاني : في ترك منعهنّ من الخروج ، لأنه لم يكن مقامها الحول واجبا عليها ، بل كانت مخيّرة في ذلك.

(١٣٠) فصل : ذكر علماء التفسير أن أهل الجاهلية كان إذا مات أحدهم ، مكثت زوجته في بيته حولا ، ينفق عليها من ميراثه ، فإذا تمّ الحول ، خرجت إلى باب بيتها ، ومعها بعرة ، فرمت بها كلبا ، وخرجت بذلك من عدّتها. وكان معنى رميها بالبعرة أنها تقول : مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة. ثم جاء الإسلام ، فأقرّهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية ، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدّمة في نظم القرآن على هذه الآية ، وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه (١).

____________________________________

(١٣٠) ورد هذا المعنى في حديث مرفوع : «قالت زينب : سمعت أمي أم سلمة تقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عيناها فنكحّلها؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا» مرتين أو ثلاثا ، كل ذلك يقول : «لا إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول». أخرجه البخاري ٥٣٣٤ ومسلم ١٤٨٦ وأبو داود ٢٢٩٩ والترمذي ١١٩٥ و ١١٩٦ و ١١٩٧ والنسائي ٦ / ٢٠١ والشافعي ٢ / ٦١ والبيهقي ٧ / ٤٣٧ وعبد الرزاق ١٢١٣٠.

__________________

(١) قال الطبري في تفسيره ٢ / ٥٩٣ وقرأ آخرون : «وصيّة لأزواجهم» برفع «الوصية» ثم اختلف أهل العربية في وجه رفع «الوصية» فقال بعضهم : رفعت بمعنى : كتبت عليهم الوصية واعتل في ذلك بأنها كذلك في قراءة عبد الله فتأويل الكلام على ما قاله هذا القائل : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ، كتبت عليهم وصية لأزواجهم ـ ثم ترك ذكر «كتبت» ورفعت «الوصية» بذلك المعنى ، وإن كان متروكا ذكره. وقال آخرون منهم :

بل «الوصية» مرفوعة بقوله (لِأَزْواجِهِمْ) فتأوّل : لأزواجهم وصية. والقول الأول أولى بالصواب في ذلك وهو أن تكون «الوصية» إذا رفعت مرفوعة بمعنى : كتب عليكم وصية لأزواجكم. لأن العرب تضمر النكرات مرافعها قبلها إذا أضمرت ، فإذا أظهرت بدأت به قبلها ، فتقول : جاءني رجل اليوم» ، وإذا قالوا : «رجل جاءني اليوم» لم يكادوا يقولونه إلّا والرجل حاضر يشيرون إليه ب «هذا» أو غائب قد علم المخبر عنه خبره ، أو كحذف «هذا» وإضماره وإن حذفوه لمعرفة السامع بمعنى المتكلم ، كما قال الله تعالى ذكره (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النور : ١] و (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ١] فكذلك ذلك في قوله : «وصية لأزواجهم». قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه رفعا ، لدلالة ظاهر القرآن على أن مقام المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها المتوفّى حولا كاملا ، كان حقّا لها قبل نزول قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] وقبل نزول آية الميراث ، ولتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو الذي دل عليه الظاهر من ذلك ، أوصى لهنّ أزواجهنّ بذلك قبل وفاتهن ، أو لم يوصوا لهن به. فإن قال قائل : وما الدلالة على ذلك؟ قيل : لمّا قال الله تعالى ذكره (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) وكان الموصي لا شك ، إنما يوصي في حياته بما يأمر بإنفاذه بعد وفاته ، وكان محالا أن يوصي بعد وفاته وكان تعالى ذكره إنما جعل لامرأة الميت سكن الحول بعد وفاته ، علمنا أنه حقّ لها وجب في ماله بغير وصية منه لها ، إذ كان الميت مستحيلا أن تكون منه وصية بعد وفاته. ولو كان معنى الكلام على ما تأوله من قال : «فليوص وصية» ، لكان التنزيل : والذين تحضرهم الوفاة ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم ، كما قال : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) [البقرة : ١٨٠]. وبعد ، فلو كان ذلك واجبا لهن بوصية من أزواجهن المتوفين ، لم يكن ذلك حقا لهن إذا لم يوص أزواجهن لهن به قبل وفاتهم

٢١٨

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١))

قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) قد سبق الكلام في المتعة بما فيه كفاية.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) ، أي : كما بين الذي تقدم من الأحكام (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : يثبت لكم وصف العقلاء باستعمال ما بيّن لكم ، وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) (١) ، وإنما سموا جهّالا لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) ، معناه : ألم تعلم. قال ابن قتيبة : وهذا على جهة التعجّب ، كما تقول : ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟ قوله تعالى : (وَهُمْ أُلُوفٌ) فيه قولان : أحدهما : أن معناه : وهم مؤتلفون ، قاله ابن زيد. والثاني : أنه من العدد ، وعليه العلماء. واختلفوا في عددهم على سبعة أقوال : أحدها : أنهم كانوا أربعة آلاف. والثاني : أربعين ألفا ، والقولان عن ابن عباس. والثالث : تسعين ألفا ، قاله عطاء بن أبي رباح. والرابع : سبعة آلاف ، قاله أبو صالح. والخامس : ثلاثين ألفا ، قاله أبو مالك. والسادس : بضعة وثلاثين ألفا ، قاله السّدّيّ. والسابع : ثمانية آلاف ، قاله مقاتل. وفي معنى : حذرهم من الموت ، قولان : أحدهما : أنهم فرّوا من الطّاعون ، وكان قد نزل بهم ، قاله الحسن ، والسّدّيّ. والثاني : أنهم أمروا بالجهاد ، ففرّوا منه ، قاله عكرمة ، والضحّاك ، وعن ابن عباس ، كالقولين.

الإشارة إلى قصّتهم

روى حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف قال : كانت أمّة من بني إسرائيل إذا وقع فيهم الوجع ، خرج أغنياؤهم ، وأقام فقراؤهم ، فمات الذين أقاموا ، ونجا الذين خرجوا ، فقال الأشراف : لو

__________________

ولكان قد كان لورثتهم إخراجهنّ قبل الحول ، وقد قال الله تعالى ذكره : (غَيْرَ إِخْراجٍ) ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنه في تأويله قارئه : (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) بمعنى : أنّ الله تعالى كان أمر أزواجهن بالوصية لهنّ.

وإنما تأويل ذلك : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ، كتب الله لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون ـ أن لا تخرجوهن من منازل أزواجهن حولا كما قال تعالى ذكره في «سورة النساء» (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) [النساء : ١٢] ثم ترك ذكر «كتب الله» اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، ورفعت «الوصية» بالمعنى الذي قلنا قبل. فإن قال قائل : فهل يجوز نصب (الْوَصِيَّةُ) على الحال ، بمعنى : موصّين لهنّ وصية؟ قيل : لا ، لأن ذلك إنما كان يكون جائزا لو تقدم «الوصية» من الكلام ما يصلح أن تكون الوصية خارجة منه فأما ولم يتقدمه ما يحسن أن تكون منصوبة بخروجها منها فغير جائز نصبها بذلك المعنى.

(١) النساء : ١٧.

٢١٩

أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا ؛ وقال الفقراء : لو ظعنّا كما ظعن هؤلاء سلمنا ، فأجمع رأيهم في بعض السنين على أن يظعنوا جميعا ، فظعنوا فماتوا ، وصاروا عظاما تبرق ، فكنسهم أهل البيوت والطرق عن بيوتهم وطرقهم ، فمرّ بهم نبيّ من الأنبياء ، فقال : يا ربّ لو شئت أحييتهم ، فعبدوك ، وولدوا أولادا يعبدونك ويعمرون بلادك. قال : أو أحب إليك أن أفعل؟ قال : نعم. فقيل له : تكلّم بكذا وكذا ، فتكلّم به ، فنظر إلى العظام تخرج من عند العظام التي ليست منها إلى التي هي منها ثم قيل له : تكلم بكذا وكذا فتكلم به فنظر إلى العظام تكسى لحما وعصبا ، ثم قيل له : تكلّم بكذا وكذا ، فنظر فإذا هم قعود يسبّحون الله ويقدسونه. وأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وهذا الحديث يدلّ على بعد المدّة التي مكثوا فيها أمواتا. وفي بعض الأحاديث : أنهم بقوا أمواتا سبعة أيام ، وقيل : ثمانية أيام. وفي النبيّ الذي دعا لهم قولان : أحدهما : أنه حزقيل. والثاني : أنه شمعون. فإن قيل كيف أميت هؤلاء مرتين في الدنيا ، وقد قال الله تعالى : (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (١) ، فالجواب أن موتهم بالعقوبة لم يفن أعمارهم ، فكان كقوله تعالى : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (٢) ، وقيل : كان إحياؤهم آية من آيات نبيّهم ، وآيات الأنبياء نوادر لا يقاس عليها ، فيكون تقدير قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) التي ليست من آيات الأنبياء ، ولا لأمر نادر. وفي هذه القصة احتجاج على اليهود إذ أخبرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر لم يشاهدوه ، وهم يعلمون صحته واحتجاج على المنكرين للبعث ، فدلّهم عليه بإحياء الموتى في الدنيا ، ذكر ذلك جميعه ابن الأنباريّ.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) ، نبّه عزوجل بذكر فضله على هؤلاء على فضله على سائر خلقه مع قلّة شكرهم.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤))

قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) في المخاطبين بهذا قولان : أحدهما : أنهم الذين أماتهم الله ، ثم أحياهم ، قاله الضحّاك. والثاني : أنه خطاب لأمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمعناه : لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء ، فما ينفعكم الهرب (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بما تنطوي عليه ضمائركم.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) ، قال الزجّاج : أصل القرض ما يعطيه الرجل أو يفعله ليجازى عليه ، وأصله في اللغة القطع ، ومنه أخذ المقراض. فمعنى أقرضته : قطعت له قطعة يجازيني عليها. فإن قيل : فما وجه تسمية الصّدقة قرضا؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : أحدها : أن القرض يبدل بالجزاء. والثاني : لأنه يتأخر قضاؤه إلى يوم القيامة. والثالث : لتأكيد استحقاق الثواب به ، إذ لا يكون قرض إلا والعوض مستحقّ به. فأمّا اليهود فإنهم جهلوا هذا ، فقالوا : أيستقرض الله منا؟ وأما المسلمون فوثقوا بوعد الله ، وبادروا إلى معاملته. قال ابن مسعود :

__________________

(١) الدخان : ٥٦.

(٢) الزمر : ٤٢.

٢٢٠