تراثنا ـ العددان [ 53 و 54 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 53 و 54 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٦

* وأخرجه الحافظ الهيثمي عن ابن عباس باختلاف ، فقال : «رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات».

لكنه ـ بعد الشهادة بصحته ـ لم تطق نفسه فقال : «إلا أن في ترجمة أبي الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري أن معمرا كان له ابن أخ رافضي ، فأدخل هذا الحديث في كتبه ، وكان معمر مهيبا لا يراجع ، وسمعه عبد الرزاق» (١).

فانظر كيف يطعن في عدة من أئمة الحديث ليطعن في حديث من فضائل أمير المؤمنين!!

وهذا أسلوب آخر يتبعونه بعض الأحيان لإسقاط أخبار مناقب الوصي ، أما مناقب غيره المزعومة فلا مجال فيها لمثل هذا الأسلوب!!

ثم إن مما يزيد في التعجب : أن يكون «ابن كثير» هنا أقل من «الهيثمي» في التعصب!!

* وروى الهيثمي «عن عبد الله بن نجي ، أن عليا أتي يوم النضير بذهب وفضة فقال : ابيضي واصفري وغري غيري ، غري أهل الشام غدا إذا ظهروا عليك ، فشق قوله ذلك على الناس ، فذكر ذلك له ، فأذن في الناس ، فدخلوا عليه ، قال : إن خليلي صلى الله عليه [وآله] وسلم قال : يا علي! إنك ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضيين ، ويقدم عليك عدوك غضابا مقمحين ، ثم جمع يده إلى عنقه يريهم الإقماح».

قال الهيثمي : «رواه الطبراني في الأوسط. وفيه جابر الجعفي ، وهو

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٣٣ ، المعجم الأوسط ـ للطبراني ـ ٥ / ١٦٦ ح ٤٧٥١ ط دار الحديث القاهرة.

٤١

ضعيف» (١).

وهذا من التعصب أيضا! فإن جابرا من رجال ثلاثة من الصحاح ، فقد أخرج عنه أبو داود والترمذي وابن ماجة ، وروى عنه من الأئمة الأعلام : إسرائيل بن يونس ، وزهير بن معاوية ، وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، وشريك بن عبد الله ، وشعبة بن الحجاج ، ومعمر بن راشد ، وأبو عوانة ، وآخرون.

ثم رووا عن سفيان : «كان جابر ورعا في الحديث ، ما رأيت أورع في الحديث منه».

وعن شعبة : «جابر صدوق في الحديث».

وعن زهير بن معاوية : «إذا قال سمعت ، أو سألت ، فهو من أصدق الناس».

وعن وكيع : «مهما شككتم في شئ فلا تشكوا في أن جابرا ثقة».

وعن سفيان الثوري أنه قال لشعبة : «لئن تكلمت في جابر الجعفي لأتكلمن فيك» (٢).

لكن جابرا من علماء الشيعة ، قال الذهبي : «جابر بن يزيد [د ، ت ، ق] بن الحارث الجعفي الكوفي ، أحد علماء الشيعة» (٣) ، وكان يشتم أصحاب النبي (٤) وكان يؤمن بالرجعة (٥).

إذا ، لا بد من جرحه وإسقاط أحاديثه!

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٣١.

(٢) تهذيب الكمال ٤ / ٤٦٦.

(٣) ميزان الاعتدال ١ / ٣٧٩.

(٤) ميزان الاعتدال ١ / ٣٨٣.

(٥) ميزان الاعتدال ١ / ٣٨٠.

٤٢

قال ابن عدي : «له حديث صالح ، وقد روى عنه الثوري الكثير ، مقدار خمسين حديثا ، وشعبة أقل رواية عنه من الثوري ، وقد احتمله الناس ورووا عنه ، وعامة (١) ما قذفوه به أنه كان يؤمن بالرجعة. ولم يختلف أحد في الرواية عنه ، وهو مع هذا كله أقرب إلى الضعف منه إلى الصدق» (٢).

إلا أنهم وقعوا في مشكلة شديدة ، فإن الرجل لم يختلفوا في الرواية عنه ، والكلمات التي يروونها في حقه كلمات جليلة ، من رجال عظماء ، كسفيان الثوري ، ومعمر ، وشعبة ... حتى إنهم يروون أن بعض الأكابر كسفيان بن عيينة كان من أشدهم قولا فيه ، أو نهى عن السماع منه ، لعقيدته ، ومع ذلك لم يترك الرواية عنه ، وقد حدث عنه الحديث الكثير ...

فابتدعوا هنا أسلوبا آخر ، فقال أحدهم ـ وهو في معرض جرح الرجل ـ : «وأما شعبة وغيره من شيوخنا ـ رحمهم‌الله تعالى ـ فإنهم رأوا عنده أشياء لم يصبروا عنها وكتبوها ليعرفوها ، فربما ذكر أحدهم عنه الشئ بعد الشئ على جهة التعجب ، فتداوله الناس بينهم» (٣).

فانظر كيف يتلاعبون بالروايات والسنن ...

فتارة يقولون : أن «معمرا» كان له ابن أخ رافضي ، فأدخل الحديث أو الأحاديث في كتب معمر ، فلم يشعر معمر بذلك ولا تلامذته كعبد الرزاق ابن همام ، ولا غيرهم ... حتى وصلت إلينا بأسانيد صحيحة ...!!

__________________

(١) كذا ، ولعله : وغاية.

(٢) تهذيب الكمال ٤ / ٤٦٩.

(٣) كتاب المجروحين لابن حبان ١ / ٢٠٨ ط دار الوعي / حلب ، عنه في هامش تهذيب الكمال ٤ / ٤٧٠.

٤٣

وأخرى يقولون : إن شعبة ومعمرا وغيرهما كتبوا أحاديث جابر وهم غير مصدقين بها ، وإنما ليعرفوها! ثم جعلوا يحدثون بها لتلامذتهم على جهة التعجب ، لكن التلامذة كتبوها غير ملتفتين إلى ذلك ، وتداولها الناس بينهم ... حتى وصلت إلينا بأسانيد صحيحة ...!!

ثم يأتي دور القسم ، فإنهم بعدما رأوا أن السند صحيح ، ولا مجال للطعن فيه بشكل من الأشكال ، قالوا : «لا والله» ، ومن ذلك قول الذهبي ـ بعد حديث في مناقب الصديقة الطاهرة بضعة الرسول ، صححه الحاكم في كتاب المستدرك ـ : «لا والله بل موضوع» (١).

(فويل لهم مما كسبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) (٢).

* * *

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٥٣ ذ ح ٤٧٢٧.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٧٩.

٤٤

قوله تعالى : (إنا عرضنا الأمانة ...) (١)

قال السيد طاب ثراه :

«ألم تكن ولايتهم من الأمانة التي قال الله تعالى : (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)».

فقال في الهامش :

«راجع معنى الآية في الصافي وتفسير علي بن إبراهيم وما رواه ابن بابويه في ذلك عن كل من الباقر والصادق والرضا ، وما أورده العلامة البحريني في تفسيرها من حديث أهل السنة ، في الباب ١١٥ من كتابه غاية المرام».

أقول :

كتاب الصافي هو تفسير للقرآن الكريم بالأخبار الواردة عن الأئمة المعصومين من أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو من تأليف الشيخ محمد محسن الفيض الكاشاني ، المتوفى سنة ١٠٩١.

وكذا تفسير الشيخ علي بن إبراهيم القمي.

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٧٢.

٤٥

* وابن بابويه هو : أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين القمي ، المتوفى سنة ٣٨١.

ويلقب عند الإمامية ب : (الصدوق) و (رئيس المحدثين).

ترجم له الخطيب في تاريخه إذ قال : «محمد بن علي بن الحسين بن بابويه ، أبو جعفر القمي ، نزل بغداد وحدث بها عن أبيه ، وكان من شيوخ الشيعة ومشهوري الرافضة ، حدثنا عنه محمد بن طلحة النعالي ...» (١).

وقال الذهبي : «ابن بابويه ، رأس الإمامية ، أبو جعفر محمد بن العلامة علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، صاحب التصانيف السائرة بين الرافضة.

يضرب بحفظه المثل.

يقال : له ٣٠٠ مصنف ...

وكان أبوه من كبارهم ومصنفيهم.

حدث عن أبي جعفر جماعة ، منهم : ابن النعمان المفيد ، والحسين ابن عبد الله بن الفحام ، وجعفر بن حسنكيه القمي» (٢).

قلت :

والنعالي ـ شيخ الخطيب ـ هو : محمد بن طلحة بن محمد بن عثمان ، المتوفى سنة ٤١٣ :

قال الخطيب : «كتبت عنه ، وكان رافضيا» قال : «حدثني أبو القاسم

__________________

(١) تاريخ بغداد ٣ / ٨٩.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٦ / ٣٠٣.

٤٦

الأزهري ، قال : ذكر ابن طلحة بحضرتي يوما معاوية بن أبي سفيان فلعنه» (١).

* وأما علي بن إبراهيم ـ صاحب التفسير ـ فقد ترجم له ابن حجر العسقلاني وقال : «رافضي جلد ، له تفسير فيه مصائب. يروي عن : ابن أبي داود وابن عقدة وجماعة.

وهو علي بن إبراهيم بن هاشم القمي ، ذكره أبو جعفر الطوسي في مصنفي الإمامية ، وذكره محمد بن إسحاق النديم في الفهرست» (٢).

أقول :

المقصود أنهم ترجموا لعلي بن إبراهيم ولابن بابويه ، وهم وإن أوجزوا ـ كما هي عادتهم عندما يترجمون لعلماء الإمامية ـ لم يطعنوا فيهما ولم يجرحوا ...

* * *

__________________

(١) تاريخ بغداد ٥ / ٣٨٤.

(٢) لسان الميزان ٤ / ١٩١.

٤٧

قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان) (١)

قال السيد :

«ألم تكن من السلم الذي أمر الله بالدخول فيه فقال : (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان)؟!».

فقال في الهامش :

«أخرج العلامة البحريني في الباب ٢٢٤ من كتابه غاية المرام اثني عشر حديثا من صحاحنا في نزولها بولاية علي والأئمة من بنيه ، والنهي عن اتباع غيرهم. وذكر في الباب ٢٢٣ أن الأصفهاني الأموي روى ذلك عن علي من عدة طرق».

أقول :

«الأصفهاني الأموي» هو : أبو الفرج علي بن الحسين صاحب كتاب الأغاني وكتاب مقاتل الطالبيين المتوفى سنة : ٣٥٦ ، ينتهي نسبه إلى مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، وكان أديبا فاضلا ، عالما بأيام الناس والأنساب والسير ، روى عنه جماعة من كبار الأئمة ، كالدارقطني ، وصنف كتبا كثيرة ، أشهرها ما ذكرناه ، وهما مطبوعان منتشران ، ومصنفاته

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٠٨.

٤٨

الأخرى مخطوطة أو مفقودة ، منها كتاب ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو الكتاب الذي نقل عنه السيد البحراني المتوفى سنة ١١٠٧ في كتابه غاية المرام بلا واسطة مما يدل على وجوده عنده ، وقد ذكر هذا الكتاب لأبي الفرج الشيخ أبو جعفر الطوسي ، حيث ترجم له فقال : «له كتاب الأغاني ، كبير. وكتاب مقاتل الطالبيين ، وغير ذلك من الكتب ، وكتاب ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين وأهل بيته عليهم السلام ، وكتاب فيه كلام فاطمة عليها‌السلام في فدك. وغير ذلك من الكتب» ثم قال الشيخ أبو جعفر : «أخبرنا عنه جماعة منهم أحمد بن عبدون بجميع كتبه ورواياته. وروى عنه الدوري» (١).

وكذا سماه شيخنا الطهراني في الذريعة (٢) وسماه ابن شهرآشوب باسم : كتاب التنزيل في أمير المؤمنين (٣) وتبعه بعض المؤلفين في التراجم كصاحب ريحانة الأدب في المعروفين بالكنية واللقب.

* * *

__________________

(١) الفهرست : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٢) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١٩ / ٢٨.

(٣) معالم العلماء : ١٤١.

٤٩

قوله تعالى : (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) (١)

قال السيد :

«أليست هي النعيم الذي قال الله تعالى : (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم)؟!».

فقال في الهامش :

«أخرج العلامة البحريني في الباب ٤٨ من كتابه غاية المرام ثلاثة أحاديث من طريق أهل السنة في أن النعيم هو ما أنعم الله على الناس بولاية رسول الله وأمير المؤمنين وأهل البيت ، وأخرج في الباب ٤٩ اثني عشر حديثا من صحاحنا في هذا المعنى ، فراجع».

فقيل ـ بعد الآية التي فيها ذكر «الأمانة» ـ :

«لم يقل أحد من المفسرين الذين يعتد بأقوالهم أن الولاية ـ بمفهوم الرافضة ـ من الأمانة ، ولهذا أحال المؤلف في الحواشي على تفاسير الرافضة وكتبهم ، ومنها : الصافي وبلوغ المرام (٢) ، وهي ليست حجة.

وكمثال على ذلك : فإن صاحب الصافي هذا ممن يقول بتحريف القرآن الكريم ، وممن يسب الصحابة سبا مقذعا ، بل ويكفرهم في تفسيره المذكور.

__________________

(١) سورة التكاثر ١٠٢ : ٨.

(٢) كذا ، والصحيح : غاية المرام.

٥٠

راجع : التعليق على هذه المراجعة ، منهج الشيعة في التفسير».

أقول :

هذا كلامه في التعليق على الاستدلال بالآية التي فيها ذكر «الأمانة» ، أما الآية التي فيها الأمر بالدخول في «السلم» والتي فيها السؤال عن «النعيم» فلم يعلق عليهما بشئ ، مع أن السيد لم يرجع فيهما إلى شئ من تفاسير الإمامية.

وأما إرجاع السيد إلى كتاب غاية المرام فإنما هو للوقوف على روايات أهل السنة الموجودة فيه ، فإنه كتاب جامع بين روايات الخاصة والعامة في كل مورد ، ولذا سماه مؤلفه ـ المحدث الثقة الجليل السيد هاشم ابن سليمان البحراني ، المتوفى سنة ١١٠٧ أو ١١٠٩ ـ ب : غاية المرام في حجة الخصام عن طريق الخاص والعام ، وقال في مقدمته : «إني ذاكر في هذا الكتاب ما هو الحجة على الخاص والعام في النص على الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بالنص من الرسول برواية الصحابة والتابعين عن النبي ، بأن الإمام بعده أمير المؤمنين علي ... من طرق العامة والخاصة ، عن المشايخ الثقات عند الفريقين ، مما سطروه في مصنفاتهم المعلومة عند الفئتين ، وكتابي هذا يطلعك على ما ذكرت لك ، مروي من صحاح العامة المتفق على صحتها عندهم ، فهم لا يتهمون في نقل ذلك المروي عن ثقاتهم وفحول رجالهم ...».

إذن ، فإن الإرجاع إلى غاية المرام في الحقيقة إرجاع إلى الكتب السنية المنقولة رواياتها فيه ، إلى جنب روايات الخاصة المنقولة عن الكتب المعتبرة عندهم ... وليس إرجاعا إلى كتاب من كتب الإمامية كي لا يكون

٥١

حجة عند الخصم.

على أنه إذا لم تكن كتب الشيعة حجة عند أهل السنة ، فكتب أهل السنة أيضا ليست بحجة عند الشيعة ، فلماذا لا نجد في بحوث هؤلاء المتطفلين إلا الاجترار والتكرار لما جاء في كتب أبناء تيمية وكثير والجوزي؟!!

وعلى الجملة ، فإن تفسير «الأمانة» و «السلم» و «النعيم» ب «ولاية أهل البيت» وارد في كتب الفريقين وبروايات الطرفين ، وهذا هو المقصود إثباته.

ولا يقدح في ذلك كون صاحب الصافي «يسب الصحابة» أو يقول «بتحريف القرآن».

على أن أحدا من الإمامية ـ لا صاحب الصافي ولا غيره ـ لا يسب الصحابة ، وإنما هو اللعن للمنافقين منهم ، وهذا أمر واجب كتابا وسنة ، بل هو ضروري من ضروريات الإسلام.

كما إنا قد أشرنا ـ في موضعه سابقا ـ إلى مسألة تحريف القرآن ، وإن أهل العلم والفضل من المسلمين يعرفون القائل به من النافي له ، وقد حققنا ذلك في كتاب مستقل منتشر ، أسميناه ب : التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف ، فمن شاء التفصيل فليرجع إليه.

هذا ، ولكن الغرض من التعرض لمثل هذه الأمور في مثل هذا المقام هو التحريف والتغفيل كما هو شأن أهل الغواية والتضليل.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

للبحث صلة ...

٥٢

الروض الفسيح

في بيان الفوارق بين المهدي والمسيح

الشيخ محمد باقر الإلهي القمي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي نصب لكل عصر إمام هدى ، فلم يدع أمر الخلق إليهم سدى ، ووعد الصالحين من عباده أن يورثهم الثرى ، بعدما ملئت أطباقها ظلما وجورا ، وصلى الله وسلم على سيد المرسلين ، وقائد الغر المحجلين ، محمد وعلى آله أولي التقى والطاعة ، لا سيما المنتظر الموعود به قبل قيام الساعة.

وبعد :

فإن كثيرا ممن يدعي اتباع السنة وملازمة الجماعة ، قد دلع لسانه بإرجاف المؤمنين ورميهم بكل شناعة ، منكرا عليهم اعتقادهم خروج المهدي المنتظر الموعود به في آخر الزمان ، عند انفراط الأمر ، وكثرة الهرج والمرج ، وامتلاء الدنيا ظلما وجورا ، وضرب بالأحاديث الصحيحة ، والسنن الصريحة عرض الجدار ، فويل لهم مما عملوا ، وويل لهم مما يصنعون.

٥٣

وقد ازداد هذا الأمر شدة عند جماعة من المنتمين إلى العلم ـ وهم خلو منه ـ حتى تولى كبر ذلك مشايخ سوء (١) فضحهم الله على رؤوس الأشهاد ، وأخزاهم في الدنيا قبل المعاد.

وربما تشبث المنكرون لأمر المهدي عليه الصلاة والسلام بما رواه ابن ماجة والحاكم عن أنس : «لا مهدي إلا عيسى بن مريم».

وهذا من فرط جهلهم وضلالهم ، إذ قد بلغ الفرق بينهما في الاشتهار مبلغ الشمس في رائعة النهار.

ولما كانت هذه الفتنة يستفحل أمرها زمانا ، وتخمد نار ضلالتها أحيانا ، رأيت أن أجمع في ذلك رسالة تكون وازعة للجاهلين ، ورادعة للضالين عن إنكار ما علم ثبوته بالتواتر ، والخوض في ما لا يبلغه فكرهم القاصر ، عسى الله أن يقطع بذلك دابرهم ، ويكشف عن أهل الحق شرهم ، إنه على ما يشاء قدير ، وبالإجابة جدير.

ورتبتها على ثلاثة أبواب وخاتمة.

* * *

__________________

(١) كابن خلدون وأضرابه من المتقدمين ، ومحمد رشيد رضا ، ومحمد فريد وجدي ، ومحمد عبد الله السمان ، وعبد الله بن زيد المحمود رئيس المحاكم الشرعية بقطر ، فإنه كتب ـ بعد وقوع حادثة الحرم المكي الشريف غرة محرم الحرام سنة ١٤٠٠ ه على يد جهيمان بن سيف العتيبي وأنصاره ـ رسالة في إنكار المهدي سماها «لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر» وقد استوفى الكلام في الرد عليه الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد.

وأمثال هؤلاء الذين يدعون العلم بالسنة ، كثيرون في كل صقع ومكان ، فيقتحمون في ما ليس من شأنهم ، فيخبطون خبط عمياء ، في ليلة ظلماء ، فيفضحون أنفسهم ، ويضلون أقواما آخرين ، ولو سكتوا لكان خيرا لهم وأقوم ، والله الهادي إلى سواء السبيل.

٥٤

الباب الأول

في الكلام عن حديث : «لا مهدي إلا عيسى بن مريم»

وفيه ثلاثة فصول :

الفصل الأول

في ذكر مخرجيه والتعريف بحال رواته

فنقول وبالله تعالى التوفيق :

أخرج ابن ماجة في سننه ، قال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن إدريس الشافعي ، حدثني محمد بن خالد الجندي ، عن أبان بن صالح ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا يزداد الأمر إلا شدة ، ولا الدنيا إلا إدبارا ، ولا الناس إلا شحا ، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ، ولا المهدي إلا عيسى بن مريم (١).

وفي رواية الحاكم : «ولا الدين» بدل «ولا الدنيا» ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم (٢).

قال الحاكم في المستدرك : فذكرت ما انتهى إلي من علة هذا الحديث تعجبا لا محتجا به في المستدرك على الشيخين (٣).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ / ١٣٤٠ ـ ١٣٤١ ح ٤٠٣٩.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٤ / ٤٤١ ح ٨٣٦٣.

(٣) المستدرك على الصحيحين ٤ / ٤٤٢ ضمن ح ٨٣٦٣.

٥٥

وقد أخرجه ابن مندة في فوائده ، والقضاعي في مسند الشهاب (١) ، وأبو يوسف الميانجي من طريق ابن خزيمة وابن أبي حاتم وزكريا الساجي بطريقهم عن يونس بن عبد الأعلى (٢).

والكلام عليه يقع تارة في متن الحديث ، وأخرى في إسناده.

أما متنه :

فإنه ورد من غير طريق محمد بن خالد الجندي ، مجردا عن هذه الزيادة المنكرة ، فقد أخرجه الطبراني والحاكم في المستدرك (٣) ، كلاهما من طريق مبارك بن سحيم ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لن يزداد الزمان إلا شدة ، ولا يزداد الناس إلا شحا ، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» (٤).

وهذا اللفظ لم تذكر فيه تلك الزيادة المنكرة الباطلة التي يدركها كل عاقل بالبداهة ، فدل على أنها من صنيع الجندي (٥).

قال الإمام المحدث أبو الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الحسني

__________________

(١) مسند الشهاب ٢ / ٦٨ ح ١٩٨.

(٢) إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون ـ المطبوع ضمن موسوعة الإمام المهدي عليه‌السلام عند أهل السنة ٢ / ٣٧٦ ـ : ٥٨٤.

(٣) أنظر : المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٩ / ٣٥٧ ح ٨٣٥ ، المستدرك على الصحيحين ٤ / ٤٤٢.

(٤) ورواه ابن السمعاني ـ كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٤٤١ ـ بلفظ : «لا يزداد الأمراء إلا شدة» ، وهو تصحيف ظاهر.

(٥) إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون ـ المطبوع ضمن موسوعة الإمام المهدي عليه‌السلام عند أهل السنة ٢ / ٣٧٦ ـ : ٥٨٤.

٥٦

الغماري المغربي في كتابيه إبراز الوهم المكنون وفتح الوهاب (١) : وتلك عادته ، فقد زاد أيضا زيادة باطلة في حديث صحيح متفق عليه ، وذلك مما يدل على القطع بكذبه ، فقد ذكر ابن عبد البر في ترجمة يزيد بن عبد الهاد من التمهيد : أن محمد بن خالد الجندي هذا روى عن المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا : تعمل الرحال إلى أربعة مساجد : مسجد الحرام ، ومسجدي ، ومسجد الأقصى ، ومسجد الجند.

قال ابن عبد البر ـ عقب ذكر الحديث ـ : محمد بن خالد متروك ، والحديث لا يثبت.

قال المحقق الغماري : يعني بهذه الزيادة التي زادها هذا الدجال (محمد بن خالد الجندي) من إعمال الرحلة إلى مسجد بلده الجند.

وأما إسناده :

* ففيه : يونس بن عبد الأعلى الصدفي.

وقد طعن الناس فيه مع كونه من رجال مسلم وابن ماجة والنسائي بسبب تفرده بهذا الحديث عن الشافعي.

فأورده الذهبي في الضعفاء وقال : وثقه أبو حاتم وغيره ونعتوه بالحفظ إلا أنه تفرد عن الشافعي بذاك الحديث «لا مهدي إلا عيسى بن مريم» وهو منكر جدا (٢).

__________________

(١) إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون ـ المطبوع ضمن موسوعة الإمام المهدي عليه‌السلام عند أهل السنة ٢ / ٣٧٨ ـ : ٥٨٦ ، فتح الوهاب بتخريج أحاديث الشهاب ٢ / ١٠٩.

(٢) ميزان الاعتدال ٧ / ٣١٧ ح ٩٩١٧.

٥٧

وقال أيضا في تذكرة الحفاظ ـ بعد نقل توثيقه ـ : قلت : له حديث منكر عن الشافعي (١) ، ثم ساقه بإسناده.

وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (٢) : قال مسلمة بن قاسم : كان حافظا ، وقد أنكروا عليه تفرده بروايته عن الشافعي حديث «لا مهدي إلا عيسى بن مريم» أخرجه ابن ماجة عنه (٣) ، وكذا الذهبي يدعي أن يونس دلسه (٤).

وذكر الحلواني في رسائله الخمس عن بعضهم : أنه رأى الشافعي في المنام وهو يقول : كذب علي يونس بن عبد الأعلى ، ليس هذا من حديثي (٥).

* وفي إسناده أيضا : محمد بن خالد الجندي ، وقد رموه بنكارة الحديث وضعفه.

قال الحافظ شمس الدين الذهبي بترجمته في ميزان الاعتدال : قال الأزدي : منكر الحديث (٦). انتهى.

وقال الحاكم وأبو حاتم وأبو الحسين الآبري وابن الصلاح في أماليه والحافظ في التقريب : مجهول (٧).

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ٢ / ٥٢٧.

(٢) تهذيب التهذيب ٦ / ٢٧٨.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ / ١٣٤٠ ـ ١٣٤١ ح ٤٠٣٩.

(٤) سير أعلام النبلاء ١٢ / ٣٥١.

(٥) ذكره في رسائله الخمس المسماة : منظومة القطر الشهدي في أوصاف المهدي عليه‌السلام ـ المطبوع ضمن موسوعة الإمام المهدي عليه‌السلام ٢ / ١١٨ ـ : ٤٥.

(٦) ميزان الاعتدال ٣ / ٥٣٥.

(٧) تقريب التهذيب ٢ / ١٥٧ رقم ٦.

٥٨

وقال ابن عبد البر : متروك.

وقال ابن تيمية : لا يحتج به.

وحكى الإمام الحافظ الكنجي في البيان عن الشافعي أنه قال : كان فيه تساهل في الحديث.

قال : وقد ذكر الشافعي في كتاب الرسالة ـ وكتابه أصل ـ قال : اتفقوا على أن الحديث لا يقبل إذا كان الراوي معروفا بالتساهل في روايته (١). انتهى.

فظهر بذلك أن ما ذكره الحافظ عماد الدين ابن كثير في النهاية (٢) من كونه شيخ الشافعي ، وأنه ليس بمجهول ـ كما زعم الحاكم ـ بل قد حكي عن ابن معين أنه ثقة ، ليس بشئ ، لأنهم قد ردوا على ابن معين توثيقه ، ولم يقبلوه منه.

قال الآبري : وإن وثقه يحيى فهو غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل ، وقد اختلفوا في إسناد حديثه هذا ـ كما ذكره المحقق ابن الصديق في الرد على ابن خلدون ـ.

ومن المعلوم المقرر في محله أن الجرح مقدم على التعديل ، ومن جرحه قد ذكر سبب جرحه ـ وهو مخالفته وانفراده بما عارض القطعي ، مع جهالته ـ ، ولم يأت ابن معين ـ مع انفراده بتوثيقه ـ بما يثبت عدالته ، ولا بما يرفع جهالته ، فقول من جرحه مقدم على جميع الأقوال ـ كما أفاده المحقق المذكور ـ.

__________________

(١) البيان في أخبار صاحب الزمان : ٢٨ ـ ٢٩.

(٢) البداية والنهاية ١ / ٣٢.

٥٩

هذا ، مع شهادة الأئمة بجهالته وسقوطه ونكارة حديثه ، بل جزم في إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون بأنه : كذاب وضاع.

قلت :

وناهيك بكلام هذا الإمام المتتبع الخريت المتضلع في معرفة الأحاديث وطرقها قولا فصلا وحكما جزما ، والله يؤتي الحكمة من يشاء.

* وفي إسناده أيضا : أبان بن صالح بن عمير بن عبيد القرشي ، مولاهم.

قال ابن عبد البر في التمهيد : أبان بن صالح ضعيف.

وقال ابن حزم في المحلى : أبان ليس بالمشهور ـ كما بترجمته في تهذيب التهذيب ـ.

وقال العظيم آبادي في عون المعبود : متروك الحديث (١).

قلت :

وسيأتي في كلام الحافظ الذهبي بيان الانقطاع بين يونس بن عبد الأعلى وبين الشافعي ، وكذا بين أبان بن صالح وبين الحسن.

على أنه اختلف عليه ـ أعني الجندي ـ في حديث الترجمة ، فتارة

__________________

(١) عون المعبود شرح سنن أبي داود ١١ / ٣٦٢.

٦٠