مقتل الحسين للخوارزمي - ج ٢

أبي المؤيّد بن أحمد المكّي أخطب خوارزم [ خوارزمي ]

مقتل الحسين للخوارزمي - ج ٢

المؤلف:

أبي المؤيّد بن أحمد المكّي أخطب خوارزم [ خوارزمي ]


المحقق: الشيخ محمّد السماوي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6223-01-X
الصفحات: ٣١١
الجزء ١ الجزء ٢

قالوا له : أيها الأمير! فالرأي أن ننصرف عنهم لا سيما وقد نكأنا (١) فيهم بالأمس ، فوافقهم وانصرفوا في جوف الليل نحو العراق ، وبلغ ذلك أهل الكوفة فأرجفوا وقالوا : قتل يزيد أميرهم. وابيد عسكره ، واغتم المختار ولم يدر ما قصتهم ، حتى علم أنهم انصرفوا لموت صاحبهم ، فطابت نفسه وقدم أصحاب يزيد فأخبروه بما كان ، فدعا أبا النعمان إبراهيم بن مالك الأشتر فعقد له وضمّ إليه أصحاب يزيد وغيرهم من فرسان أهل الكوفة ورجالهم ، وقال له : سر إلى عدو الله وعدوك وناجزهم وطالعني بأخبارك بليلك ونهارك ، فإن رأيت أمرا لا طاقة لك به فلا تلق بيدك إلى التهلكة واكتب إليّ حتى أمدّك بما تكتفي به من خيل ورجال ، وكن في كل أمر ذاكرا لله تعالى في كل حال ، وعجّل السير وناجز عدوك وحاكمهم الى الله ، صحبك الله وسلّمك ، وردّك سالما غانما ، فسار إبراهيم بن مالك في أصحابه ، وهو يقول :

أما ورب المرسلات عرفا

حقا وربّ العاصفات عصفا

لتعسفن بالعدو عسفا

حتى نسوم القاسطين خسفا

زحفا إليهم لا نملّ الزحفا

حتى نلاقي بعد صف صفا

وبعد ألف في النزال الفا

فنكشف الظالم عنا كشفا

وعسكر ابراهيم بموضع يقال له : حمام أعين ثم ارتحل حتى نزل على خمسة فراسخ من الموصل ، وعبيد الله بن زياد بالموصل قد أخذ خراجها وفرقه في أصحابه ، وهو يومئذ في ثلاثة وثمانين ألفا وخرج بهم فنزل

__________________

(١) نكأنا : أضررنا ، ومعنى الجملة ـ إن قاتلناهم وهزمناهم جاءهم مدد لا يبقي علينا. لأنا قد أضررناهم بالنكاية بالأمس.

٢٦١

قريبا من معسكر إبراهيم ، وإبراهيم يومئذ في نحو عشرين ألفا ، وكان في عسكر ابن زياد رجل من الأشراف من بني سليم وهو عمير بن الحباب السلمي ، فأرسل إلى إبراهيم : إني قد عزمت على المصير إليك والكينونة معك ، فإن أعطيتني الأمان وافيتك الآن ، فأرسل إليه إبراهيم : إنه قد أعطيتك الأمان ولك عندي الكرامة ما رزقني الله السلامة ، فهلمّ إلينا آمنا مطمئنا ، فخرج عمير في جوف الليل في ألف رجل من قومه ومواليه حتى صار إلى إبراهيم ، فأكرمه وبرّه وبرّ أصحابه وفرّق عليهم مالا.

فبلغ ذلك ابن زياد فأقلقه وقال : يخرج رجل من عسكري في ألف فارس لا يعلم به أحد ، إنّ هذا الأمر يتبع ، ثم إن إبراهيم قال لعمير : إني رأيت أن اخندق على عسكري خندقا ، فما الذي ترى؟ فقال له عمير : إنّ القوم يحبون أن يطاولوك ، فإن خندقت كان خيرا لهم في المطاولة ، وإن ناجزتهم كان خيرا لك ، فقد ملئوا منك رعبا فصادمهم بخيلك ورجالك ، فإنك على حقّ ، فالله ناصرك وهم على باطل ، فهو تعالى خاذلهم ، ومظهرك عليهم.

فقال إبراهيم : قد اختبرتك وعلمت أنك ناصح ، فهذا ما أشار به الأمير ، وعزم عليه الضمير ، وقال عبيد الله بن زياد لأصحابه : إني لا عجب من هذا الغلام يعني إبراهيم ومسيره إليّ بهذا الجيش ، وعهدي به بالأمس في الكوفة يلعب بالحمام ، ولعلّ أجله قد اقترب ، وبات كل من الفريقين ساهرين ، لما يدبرونه غدا ، ولا سيما جيش أهل العراق فإنهم علموا أن أميرهم إبراهيم يناجز أهل الشام ، فلما كان وقت السحر صلّى إبراهيم في أصحابه بغلس ، وعبّأ أصحابه ، فجعل على ميمنته سفيان بن يزيد بن معقل الأزدي ؛ وعلى ميسرته علي بن مالك الجشمي ؛ وعلى أعنّة الخيل الطفيل بن

٢٦٢

لقيط النخعي ؛ وعلى الرجّالة مزاحم بن مالك السكوني ، فوقف بهم وتقدمت الرجّالة ، وجعل إبراهيم يقف على كل كتيبة فيوصيهم ويعهد إليهم وينهاهم عن الخور والفشل ، ثم زحف رويدا حتى أشرف على تلّ ، فنظر في عسكر القوم وتأمّلهم ، فرآهم غارين لم يتحركوا ولم يظنوا أن أهل العراق يناجزونهم ، فلما نظروا إلى الخيل وافتهم ، بادروا إلى خيولهم وقدّموا الرجالة بين أيديهم ، وكانت الخيول ستين ألفا ، والرجالة اثنين وعشرين ألفا ، فعبأهم ابن زياد فجعل على ميمنته شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري ؛ وعلى ميسرته ربيعة بن مخارق الغنوي ؛ وعلى جناح ميمنته عبد الله بن مسعدة الفزاري ؛ وعلى جناح ميسرته حملة بن عبد الله الخثعمي ؛ وفي القلب يومئذ الحصين بن نمير السكوني ، ثم انقض عليهم أهل العراق قائلين : اللهم إنا خرجنا ثائرين بدماء أهل بيت نبيك ، فانصرنا عليهم كيف شئت وأنى شئت يا ربّ العالمين! وتنادوا : يا لثارات الحسين ، وتواقفوا رأي العين.

وتقدم عوف بن ضبعان الكلبي على فرس له أدهم ونادى : يا شيعة آل أبي تراب! يا شيعة المختار الكذاب! يا شيعة ابن الأشتر المرتاب! من كان منكم يدل بشجاعة وشدّة فليبرز إليّ إن كان صادقا ، ثم جال بين الصفين وهو يقول :

إني ابن ضبعان الكريم المفضل

ليث النزال في مثار المفضل

من عصبة تبرأ من دين علي

كذاك كانوا في الزمان الأوّل

فما لبث عوف بن ضبعان حتى خرج إليه الأحوص بن شداد الهمداني وهو يقول :

٢٦٣

أنا ابن شدّاد على دين علي

لست لمروان بن ليلى بولي

لأوقدنّ نارها في الجحفل

ثم أخوض النار حتى تنجلي

فجعل الشامي يشتم الأحوص ، فقال الأحوص : دع عنك هذا إن كنت عربيا ، فإن الذي بيننا أجلّ من الشتم ، أنتم تقاتلون عن بني مروان ، ونحن نطلب بدم ابن نبيّ الرحمن ، فادفعوا إلينا ابن زياد لنقتله ببعض موالينا الذين قتلوا مع الحسين ، ولا نراه والله كفوا له ، فقال الشامي : جربناكم يوم صفين عند التحكيم ، فحكمناكم وعدوتم علينا ظالمين.

فقال الأحوص : إنّ الحكم في الخديعة لا يتخذ فاصلا في الشريعة ، ما اسمك أيها الرجل؟ قال : منازل الأبطال! قال : ما أقرب اسمك من اسمي ، فأنا مقرب الآجال! ثم حمل عليه الأحوص فالتقيا بضربتين ، سبقت ضربة الأحوص منها فسقط الشامي قتيلا ، وجال الأحوص وصاح : يا قتلة الحسين هل من مبارز؟ فخرج داود بن عروة الدمشقي على كميت له مقنعا بالحديد وهو يقول :

أنا ابن من قاتل في صفينا

ولم يكن في دينه غبينا

بل كان في إيذا مكينا

مجربا يوم الوغى حرونا

فجاوله الأحوص وهو يقول :

يا ابن الذي قاتل في صفينا

ولم يكن في دينه غبينا

كذبت بل كان به مفتونا

لا يعرف الحق ولا اليقينا

ثم صعد له الأحوص فضربه ضربة ، ألحقته بصاحبه وعاد إلى صفه ، فخرج الحصين بن نمير السكوني فجعل يقول :

٢٦٤

يا قادة الكوفة أهل المكر

وشيعة المختار وابن الأشتر

هل فيكم قرن كريم العنصر

مجرب في بأسه ذو مخفر؟

يبرز نحوي عامدا لا يمتري

فيستقي الحتف بكأس ممقر (١)

فخرج إليه شريك بن خريم التغلبي ، وهو يقول :

يا قاتل الشيخ الكريم العنصر

بكربلاء في التقاء العسكر

أعني حسينا ذا السنا والمفخر

نجل النبي المصطفى من حيدر

خذها إليك من خزبر قسور

ضربة قرم ربعيّ مضريّ

فتقدم إليه الحصين فالتقيا بضربتين ، فما كذب التغلبي ، أن ضربه ضربة على أم رأسه فخرّ منها صريعا قتيلا ، فكبّر أصحاب التغلبي ، ودخل أهل الشام شيء عظيم من الجزع عليه ، فتقدم إبراهيم ابن الأشتر على فرس له غرّ محجّل ، حتى وقف بين الصفين ، ونادى بصوته ـ وكان جهوريّ الصوت ـ : ألا يا شرطة الله وشيعة الحق! وأنصار الدين! وقاتلي المحلّين! وأبناء القاسطين! لا تطلبوا أثرا بعد عين ، فهذا عبيد الله بن زياد قاتل الحسين الذي فعل وفعل (وجعل يعدد مساوئه) ما جاءكم به الله عزوجل في هذا المكان إلا لهلاكه ، فتقدموا إليه رحمكم الله ونصركم ، ثم حمل على أهل الشام وجعل يضرب سيفه في أعراضهم قدما قدما ويقول :

قد علمت مذحج في اليوم الجلل

إني ذو البأس إذا القرن نكل

والأروع المقدام إن نكس فتل

أضرب في القوم وإن حال الأجل

وأعتلي رأس الطرماح (٢) البطل

بالذكر البتّار ما فيه فلل

__________________

(١) الممقر : المرّ.

(٢) الطرماح : الطويل.

٢٦٥

وحمل معه أهل العراق بأجمعهم حملة رجل واحد فاصطفقوا بالصفاح ، وتطاعنوا بالرماح ، وتراموا بالسهام ، وإبراهيم يقول لصاحب رايته : تقدّم فداك أبي ، فالحق امامك ، والله ناصرك ، وصاحب الراية يتقدّم وأهل العراق خلفه ، وحان وقت الصلاتين ، وما صلّى القوم إلّا بالإيماء ، حتى إذا كان وقت اصفرار الشمس ، انهزم أهل الشام هزيمة قبيحة وولوا الأدبار ، فأخذ السيف أكتافهم ، وقهقر بقيتهم إلى الموصل ونظر إبراهيم إلى رجل عليه بزّة حسنة ، درع سابغة وعمامة خزّ دكناء ، وديباجة فوق الدرع ، وقد أخرج يده من الديباجة وفيها صفيحة مذهبة ، فقصده إبراهيم لتلك الصفيحة ، وللفرس الذي تحته ، فلم يلبث أن ضربه ضربة شرّقت بيديه وغرّبت برجليه ، فامتد إبراهيم منعطفا من سرجه ، ورجلاه في الركاب إلى الأرض ، وتناول الصفيحة وغار الفرس فما لحقه ، وكان الظلام من الغروب ومن القتام قد ترك الناس لا يبصر بعضهم بعضا.

فتراجع أهل العراق من نحو الموصل إلى معسكرهم لا يطئون إلّا على جسد قتيل ، وأصبحوا وقد فقد منهم ثلاثة وسبعون رجلا ، وأصبح أهل الشام وهم عشرة آلاف رجل وثمانمائة رجل وعامتهم جرحى ، وقد فقد منهم سبعون ألفا فبذلك يقول بعض الشعراء في إبراهيم بن مالك الأشتر ؛ والمختار بن أبي عبيد يمدحهما :

فجزى إبراهيم ثم أبا إسحا

ق عنّا الإله خير الجزاء

وجزى الله شرطة الله خيرا

عن بني هاشم بحسن البلاء

إذ تعشّوا منهم بسبعين ألفا

أو يزيدون قبل وقت العشاء

قتلوا الفاسق اللعين جهارا

في فريق من سائر الأحياء

وشفوا منهم غليل صدور

وعلى ربّنا تمام الشفاء

٢٦٦

ثم قال إبراهيم لأصحابه : إني تبعت البارحة رجلا وقد اختلط الظلام في يده هذه الصفيحة ، وتحته فرس جواد ، فقتلته وأنا أشمّ منه رائحة المسك ، فأخذت الصفيحة وفاتني الفرس ، فقال بعض أصحابه : أصلح الله الأمير! الفرس أنا أمسكته وسأجيئك به فقد جعله الله لك ، قال إبراهيم : إنّ بزته حسنة ، ولامته كاملة ، فانظروه بجانب شاطئ الفرات بموضع كذا وكذا ، فذهب القوم فإذا هو عبيد الله بن زياد فأتوا برأسه ووضعوه بين يديه ، فلما رآه عرفه وقال : الله أكبر! وخرّ ساجدا ، ورفع رأسه وهو يقول : الحمد لله الذي جعل قتله على يدي ، فبذلك يقول بعض الشعراء من أصحاب إبراهيم :

فدى لغلام من عرانين مذحج

جريء على الأعداء غير نكول

أتاه عبيد الله في شرّ عصبة

من الشام واستجلى بخير قبيل

فلما التقى الجمعان في حومة الوغى

وجرّ الردى في الحرب فضل ذيول

فولى عبيد الله خوفا من الردى

وخشية ماضي الشفرتين صقيل

فيعلوه إبراهيم بالسيف فاصلا

فطاح على البوغاء شرّ قتيل

جزى الله خيرا شرطة الله أنهم

شفوا بعبيد الله كل غليل

ثم أمر إبراهيم برأس عبيد الله بن زياد ـ ؛ ورأس الحصين بن نمير السكوني ؛ ورأس شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري ؛ ورأس ربيعة بن مخارق الغنوي ؛ ورءوس أشباههم من رؤساء أهل الشام ؛ فقورت ونقضت ، وكتبت الرقاع بأسماء أصحابها وبعث بها إلى المختار ، وكتب له يخبره بالواقعة كيف فعل بالمحلّين ، وقتلة أهل البيت؟ وكيف أباد خضراءهم؟ فوردت الرءوس على أهل الكوفة تنيف على سبعين رأسا

٢٦٧

يقدمها رأس عبيد الله بن زياد فاستقبلتها الشيعة فرحين ، يحمدون الله الّذي أهلكهم وشفى صدور المؤمنين ، وكان المختار قبل مجيء الرءوس يقول : سيأتينا الفتح غدا في رأس ابن مرجانة ، فلمّا ورد في غد ، زعم بعض من لا علم له : أنه يعلم الغيب ، وافتتن به خلق من أهل الكوفة ، حتى قال الشعبي : يا قوم! لا يفتننكم الشيطان ، ما ذلك إلّا فراسة مؤمن فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فراسة المؤمن لا تخطئ.

ثم إن المختار بعث برأس عبيد الله بن زياد ، ورأس الحصين بن نمير ؛ ورأس شرحبيل بن ذي الكلاع إلى محمّد بن الحنفية وصلب باقي الرءوس حول الكوفة ، وكتب إلى محمّد ومع الكتاب ثلاثون ألف دينار :

بسم الله الرّحمن الرّحيم للمهدي محمّد بن علي ، من المختار بن أبي عبيد سلام عليك ، أما بعد ـ فأحمد الله الذي أخذ لك بالثأر ، من الأشرار ، المطلوبين بالأوتار ، فقتلهم في كل فج بقهر ، وأغرقهم في كلّ نهر ، وأهلك أولياءهم بالقهر ، فشفى الله بذلك قلوب المؤمنين ، وأقرّ عيون المسلمين ، إذ أهلك المحلّين ، وأبناء القاسطين ، وإذا أنزل بهم ما أنزل بثمود وعاد وغرقهم تغريق فرعون ذي الأوتاد ، الذين طغوا في البلاد ، وأكثروا فيها الفساد ، لقد قتلوا أشر قتلة ، ومثل بهم أقبح مثلة ، وقد وجهت إليك برأس ابن زياد من ذوي الإلحاد ، ليكبت بذلك الأعداء ذوو الأحقاد ، ويفرح ذوو الولاء والوداد ، ووجّهت معها ثلاثين ألف دينار ، لتنفقها على أهل بيتك وشيعتك ، والسلام.

فلما ورد الكتاب على محمد قرأه على أهل بيته ، فحمدوا الله وصاموا له شكرا وأمر محمد أن تصلب الرءوس خارج الحرم ، فمنعه عبد الله بن الزبير ، فدفنت.

٢٦٨

ثم سار إبراهيم بن مالك فنزل الموصل واحتوى على الجزيرة وجبا الخراج فقسم على أصحابه جملة منه ، وأرسل فاضله إلى المختار فصارت الكوفة وسوادها إلى المدائن والجزيرة بأجمعها من ديار ربيعة ومضر إلى المختار ، وصارت الشام وأرض مصر إلى المغرب إلى عبد الملك بن مروان ، وصارت الحجاز واليمن بأجمعها إلى عبد الله بن الزبير.

وذكر أبو مخنف : أنّ المختار (رحمه‌الله) بعث بعد ذلك عبد الله بن كامل إلى مرة بن منقذ العبدي قاتل علي بن الحسين عليه‌السلام ـ وكان بطلا شجاعا ـ فأحاط بداره فخرج مرّة وبيده رمح وهو على فرس جواد فتجاول مع ابن كامل ، فضربه ابن كامل بالسيف فأبان يده اليسرى ، ثم تعاورته أصحاب ابن كامل فقتلوه ، ثم بعث المختار عبد الله بن كامل هذا إلى يزيد بن رقاد قاتل عبد الله بن مسلم بن عقيل ، وكان يقول : رميته بسهم فاتقاه بيده ، فشك يده إلى جبهته ، فأنبته بعد ما مات فما قدرت والله أن أنزع سهمي من جبهته ، فتركته مثبتا فيها ، فلما أحاط عبد الله بن كامل بداره خرج شاهرا سيفه ، وكان بطلا مقداما ، فقال ابن كامل لأصحابه : لا تضربوه بسيف ولا تطعنوه برمح ، ولكن ارشقوه بالسهام كما رمى ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فرشقوه حتى سقط ، فأمر عبد الله بنار فأحرقوه بها وهو حي.

٢٦٩

قتل الشمر بن ذي الجوشن

ودعا المختار بعبد الرحمن بن عبيد الهمداني وقال له : بلغني عن شمر ابن ذي الجوشن الضبابي أنه خرج من الكوفة في نفر من غلمانه ومن تبعه هاربا ، فاخرج أنت في طلبه فلعلك تأتيني به حيا أو برأسه ، فإني لا أعرف في قتلة الحسين أعتى منه ولا أشدّ بغضا لأهل البيت ، وضمّ إليه عشرة من أبطال أصحابه ، وقال له ولهم : انشدكم الله إلا أقررتم عيني بقتله ، وشفيتم غليلي بذلّه ، فلقد أكمدني بفعله.

فخرج عبد الرحمن في أصحابه العشرة يسألون عنه ، فقيل : إنّه قد نزل في جنب قرية على شاطئ الفرات يقال لها : الكلتانية ومعه قوم قد صحبوه من قتلة الحسين وهم آمنون مطمئنون ، فرحل عبد الرحمن بهم إليه ، فلما أشرف عليه علم أن الخيل خيل المختار ، فوثب قائما يتأمّلهم فنظروا إليه وعرفوه ، فكبّروا وأحاطوا به وبأصحابه ، وكان شمر متزرا بمنديل وكان أبرصا ، والبرص على سائر جسده ، فكأنه ثوب ملمع ، فأخذ رمحه ودنا من أصحاب المختار وحمل عليهم وهو يقول :

نبهتم ليثا هزيرا باسلا

جهما محياه يدق الكاهلا

لم يك يوما عن عدونا كلا

إلّا كذا مقاتلا أو قاتلا

فتقدم إليه عبد الرحمن بن عبيد وهو يقول :

يا أيها الغادر وابن الغادر

وقاتل الحسين ذي المفاخر

ابن النبي الطيب العناصر

وابن الوصي الطاهر ابن الطاهر

منيت من شيعته بثائر

يطعن في الضلوع والحناجر

٢٧٠

أشجع من ليث عرين خادر

فأبشر بخزي وبموت حاضر

ثم طعنه عبد الرحمن في نحره فسقط قتيلا ، فنزل إليه واحتزّ نحره وقتل أصحابه جميعا ، وأخذ أموالهم وأسلحتهم ودوابهم ، وجاء برأسه ورءوس أصحابه إلى المختار ، فلما نظر المختار إليه خرّ ساجدا ، وقال : يا عبد الرحمن! أقر الله عينك بلقاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الجنّة ، ثم أمر برأس الشمر فنصب في رحبة الحذائين إزاء المسجد الجامع ، فمثل به الصبيان برمي الحجارة والقذارة ، وأمر المختار لعبد الرحمن بعشرة آلاف دينار وولاه حلوان.

١١ ـ وذكر ابن إسحاق قصة المختار مع ابن زياد بسياقة اخرى ، فنحن نذكرها مجملا ونبين الصحيح فيما بعد ، قال : لما هرب المختار من ابن زياد أمير الكوفة إلى مكة دخل على عبد الله بن الزبير فبايعه ، فلما جنّ الليل دخل على محمد بن الحنفية فبايعه سرا ، وكان المختار يحب الصيد ، فكان كل يوم يركب للصيد ، فلما كان في بعض الأيام خرج متصيدا فإذا هو برجل على ناقة يجدّ السير ، فقصده المختار فقال له : من أين أقبلت؟ قال: من الكوفة ، فقال : وإلى أين؟ قال : إلى مكة اريد المختار بن أبي عبيد ، قال : وما تريد منه؟ قال : جئته ببشارة ، قال : فها أنا المختار فأخرج من عمامته كتابا إليه من جملة من شيعة الكوفة ، يسألونه القدوم عليهم ليأمروه عليهم ، ويطلب بثار الحسين بن عليعليه‌السلام.

فقال : ما فعل عبيد الله بن زياد؟ قال : إن أهل البصرة شغبوا على عامله وكسروا سجنه ونهبوا أمواله ، وقد خرج من الكوفة إليهم. قال : فمن خلف بالكوفة؟ قال : عمرو بن حريث في أربعة آلاف ، فخلع المختار على البشير ما كان عليه من الثياب واللباس ، وردّه إلى الكوفة ، ودخل المختار

٢٧١

على عبد الله بن الزبير ، فأخبره بخروج ابن زياد من الكوفة إلى البصرة وما حدث في البصرة ، وأنه بقي في الكوفة عمرو بن حريث في أربعة آلاف ، وقال له : ابعث معي مائتي فارس ، فأنطلق بهم إلى الكوفة ، وأقتل ابن حريث ، وآخذ الكوفة وأجبي خراجها وأحمله إليك وأخطب لك فيها.

فأجابه ابن الزبير وعرض عليه عسكره ، فانتخب منه مائتي رجل من شجعانهم ، فلما جنّ الليل دخل على محمد بن الحنفية وأخبره بما كان من أمر البصرة والكوفة ، وقال له : اريد منك كتابين : كتابا إلى إبراهيم بن مالك الأشتر ، وكتابا إلى محمّد بن الأشعث ليسمعا كلامي ويطيعاني وينتهيا إلى أمري حتى آخذ الثأر من قاتلي الحسين بن علي عليه‌السلام ، فكتب كتابين له ، فخرج المختار إلى منزله ، وزوّر أربعين كتابا إلى أربعين شيخا من مشايخ الكوفة عن لسان محمد بن علي ، وخرج من مكة ليلا ومعه مائتا فارس ، فجعل يسير الليل ، ويكمن النهار ، حتى ورد القادسية ، فعاج لكربلاء وزار الحسين وبكى ، ثم قال : يا ابن رسول الله! لا خلعت ثيابي هذه حتى أنتقم ممن قتلك وقاتلك أو اقتل.

ثمّ ودّع القبر وسار حتى صار بجبانة الكوفة ، وذلك في أوّل الليل ودخل الكوفة وحده ، ومعه اثنان وأربعون كتابا فقصد إبراهيم وقرع بابه ، ففتح له ودخل ، فلما رآه إبراهيم اعتنقه وقرّبه وقال : يا أبا إسحاق! من أين جئت؟ وأين كنت؟ قال : من مكة وفي مكة. قال : كيف خلفت سيدنا محمد بن علي؟ قال : بخير وهو يقرأ عليك السلام ، وأعطاه كتابه إليه فتناوله إبراهيم وقبّله وبكى ، ثم فضّه وقرأه وعجب بما فيه فحرّك رأسه ، فقال المختار : ممّ حركت رأسك ، لعله ثقل عليك أن تبايعني؟ فناولني الكتاب فلا حاجة لي في بيعتك ، ولكن لا تكن عليّ كما لم تكن لي ، فقال

٢٧٢

إبراهيم : سبحان الله يا أبا إسحاق! بل السمع والطاعة لأمر سيدنا محمد ، مد يدك ، فمدّها فبايعه وأخذ مواثيقه ، وكان إذا ركب إبراهيم ركب ثلاثمائة فارس معه من مواليه وموالي أبيه ، فلما بايع المختار قال إبراهيم : قم معي إلى محمد بن الأشعث ندفع إليه الكتاب ، فقاما إليه وقرعا الباب ، فلما دخلا أجلسهما وجلس فأعطاه المختار الكتاب ففضه وقرأه ، فحرّك رأسه كما فعل إبراهيم ، فقال له المختار كما قال لإبراهيم فقال : ظننت أن سيدنا محمد يأمرك بالبيعة لي فحرّكت رأسي ، ثم بايعه محمد ، فقال لهما المختار : قوما معي فإن معي هذه الكتب ندفعها إلى مشايخ الكوفة وهي أربعون كتابا. فقاما معه حتى فرق تلك الكتب إلى أهلها وأخذ منهم البيعة ، ثم إنّ المختار جمعهم في منزل إبراهيم فدبروا في قتل عمرو بن حريث خليفة عبيد الله ، وكان عمرو في أربعة آلاف وكان مع المختار مائتا فارس ؛ ومع إبراهيم ثلاثمائة ؛ ومع محمد بن الأشعث مائتان ، ثم قال للمشايخ : أخبروني كم يركب معكم؟ فقالوا : شأنك والقوم فإنّ كل واحد يكفيك محلّته ودربه ، فكبّر المختار وقال : الآن آخذ بثأر آل محمّد ورب الكعبة.

ثم قال لمحمد بن الأشعث : اركب الآن في أصحابك وأخرج بعلّة الصيد ، وانتح بعسرك الحيرة ، واركب أنت يا إبراهيم! إذا انتصف النهار وادخل على ابن حريث ، وقل له : إنّ أهل البصرة قد هزموا الأمير عبيد الله ابن زياد وإني خارج إلى نصرته ، فما ذا تأمر؟ ثم إنك إن تمكنت فاقتله ، ثم اضرب بطبله فكل من خرج من أعوانه وأصحابه فضع السيف فيهم ، ومن هرب منهم إلى الحيرة ، فاقتله أنت يا محمد! ومن هرب إلى الجبانة قتلته أنا في عسكري ، ومن هرب منهم في السكك والأزقّة فاقتلوهم أنتم أيها المشايخ! وغلّقوا الدروب جيدا واستوثقوا من المحال.

٢٧٣

فاجتمع رأيهم على ذلك وتفرّقوا ورجع المختار إلى عسكره ولم يعلم أحدا من أهله ، فلما أصبحوا خرج محمد بن الأشعث إلى الحيرة بعلّة الصيد. ووكل كل شيخ في دربه ومحلته من يعتمده من أهله وأعوانه يتوقعون الصيحة ، فلما انتصف النهار ركب إبراهيم في قومه حتى أتى قصر عمرو بن حريث ثم دخل وعليه سلاحه ، فاستقبله الحاجب فقال : ما شأنك في هذا الوقت وفي هذا الزي؟ قال : إنّ أهل البصرة هزموا الأمير عبيد الله وأنا خارج لنصرته فأخبر الحاجب الأمير ـ وكان نائما في بيت الخيش ـ (١) فخرج مغموما متغير اللون وعليه غلالة كتان منسوج بالذهب وفي رجليه نعلان ، فلما صار في صحن الدار اعتنقه وأخبره الخبر وجلسا يتحدّثان ، فنظر إبراهيم إلى رمح في وسط الدار مغشى بالديباج ، فسأله عنه ، فقال : هذا الرمح الذي حمل رأس الحسين من الطف إلى الشام يفتخر به ابن زياد ومن يوالي آل سفيان ، فاستأذن أن يراه ، فقال عمرو بن حريث : يا غلام! ائت به إلى إبراهيم ، فأخذه إبراهيم وهزّه ثم طعن به عمرو بن حريث فأخرج السنان من وراء ظهره واستلّ سيفه وقتله ، وقتل الحاجب والغلمان ، وارتفعت الصيحة في الدار فلم يخرج إليه أحد إلا قتل ، ثم ضرب الطبل ، فركب عسكر ابن حريث إلى القصر فمن لقيه إبراهيم قتله. ومن فرّ إلى الحيرة قتله ابن الأشعث ، ومن فرّ إلى الجبانة قتله المختار ، ومن هرب إلى السكك والمحال قتله المشايخ ، حتى لم ينج منهم أحد ، فبايع حينئذ أهل الكوفة المختار واحتوى على خزائن ابن زياد ، ووضع الديوان فكتب فيه اثني عشر ألف مقاتل ، وقوي أمره. وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد فعرض ستين ألف رجل ، وجاء بهم إلى الكوفة لحرب المختار ، فنزل بباب الكوفة بموضع

__________________

(١) بيت الخيش : يوضع فيه الثلوج بين الخيش للتبريد في الحرّ.

٢٧٤

يقال له : بين النهرين ، الفرات والوادي.

فنادى المختار : يا أهل الكوفة! قاتلوا عن ابن بنت نبيكم واطلبوا بثأره ، أو قاتلوا عن كوفتكم وعيالكم وأموالكم ، فو الله لئن ظفر ابن زياد بكوفتكم هذه ليحرقنها وينسفنها ، فبايعه ذلك الوقت ستة آلاف رجل فصار عنده ثمانية عشر الف ، فخرج المختار إليه فراسله بالصلح ، فأبى المختار ، وبقي العسكران متقابلين شهرين حتى بذل ابن زياد العراق للمختار فلم يقبل ، فقال له بعض قواده : ما هذا الحال أيها الأمير! فقد أذللتنا على كثرتنا؟ فقال : أعلم أني كنت صبيا وكان المختار أصغر مني فوقعت بيننا خصومة بسبب حمامة فضربني المختار وأسقطني على الأرض وجثا على صدري ، وقال لي : لأقتلنك ولن يكون قتلك إلّا على يدي إن شاء الله ، فأنا من ذلك اليوم أتخوف منه على نفسي ، ثمّ إني سألت المنجم عن طالعي وموتي ، فأخبرني : إني اقتل على يدي رجل له صفته ، فقتلت المنجم بسبب ذلك ، حتى لا يخبره فيقوي عزمه ، ثم صمّم الحرب مع المختار ، فأرسل المختار جاسوسا يستعلم أخبار ابن زياد بقيامه وقعوده وحركاته كلّها ، فأخبره : أنه صلّى فقرأ في صلاته في الركعة الاولى : (إِذا وَقَعَتِ) ، وفي الثانية : (إِذا زُلْزِلَتِ).

فكبّر المختار ، وقال : وقعت بهم الواقعة ؛ وزلزلت بهم الأرض ، ثم إنّ المختار عبأ عسكره فجعل على الميمنة إبراهيم بن مالك ، وعلى الميسرة محمد بن الأشعث ، ووقف هو في القلب ، وعبأ ابن زياد عسكره على ما كان يعبأ به ، وكان المختار لا يحارب إلّا حين تزول الشمس اقتداء بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فلما أن قرب الزوال ، دعا المختار برجل من أصحابه ، وقال له : استأمن ابن زياد واتبعهم ، فإذا خلع عليك وقرّبك ،

٢٧٥

فصر إلى صاحب العلم وأسر إليه : إنّ المختار يعرفك محبا لآل محمد وهو يطالب بدم ابنه الحسين ، ويقول لك : إذا دنوت من عسكر المختار ، فنكس العلم ساعة ، فإن أنت فعلت جزيت من الله ورسوله ، وجعلت لك ولاية البصرة ، فاستأمن الرجل وأكرمه ابن زياد لمعرفته به ، فدنا من صاحب العلم وأسرّ إليه ما أراده المختار ، فقال له : ارجع إليه ، وقل له : إني فاعل ذلك ، فاحمل أنت على القلب ، فلما التحم القتال وحمل إبراهيم في الميمنة ؛ ومحمد بن الأشعث في الميسرة ؛ وحمل هو في القلب ، واستحرّ الضرب ، نكس صاحب العلم علمه فانكسرت النفوس وارتعدت الفرائص ، فولوا مدبرين وأسرّ إبراهيم ابن الأشتر عبيد الله بن زياد ، وجاء به إلى المختار ، فلما اوقف ابن زياد بين يدي المختار خرّ ساجدا شكرا لله تعالى ، ثمّ جلس فضرب بسيفه جبين ابن زياد كما رماه ابن زياد بعمود من حديد فشج جبينه ، ثمّ قطع يديه ورجليه ، ثم رأسه ، ثم صلبه ، ثم أحرقه بالنار.

والصحيح من استيلاء المختار على الكوفة وقتل ابن زياد ما ذكرناه أولا أنه استولى كما تقدّم ، وقتل إبراهيم ابن زياد بالموصل ، لأنّ أصحاب التواريخ والنسّابين قد اتفقوا على أنه لم يكن لبني اميّة ولاية بالعراق من سنة أربع وستين ، وهي السنة التي مات فيها يزيد وهرب ابن زياد من العراق إلى الشام ، إلى سنة اثنين وسبعين وهي السنة التي دخل عبد الملك بن مروان فيها العراق ، وقتل مصعب بن الزبير وولى فيها الحجاج بعد قتله عبد الله بن الزبير.

وكان خروج المختار ومقتل ابن زياد سنة ست وستين ، وكان ابن زياد في هذه السنة في الشام هاربا من العراق ، فكيف يكون أميرا على البصرة؟ والبصرة كانت ولايتها من السنة التي مات فيها يزيد وهي سنة أربع وستين

٢٧٦

في يد عبد الله بن الزبير إلى سنة اثنتين وسبعين ، فالصحيح من سياق قصة المختار ما ذكرناه أولا.

ولما قتل إبراهيم بن الأشتر عبيد الله بن زياد ، واستولى على أرض الجزيرة ، أقام هناك وأعرض عن المختار ، فكان المختار يكاتبه فلا يجيبه ، فلمّا نظر مصعب بن الزبير إلى أنّ المختار قد بقي في شرذمة قليلة من أهل الكوفة ، وأنّ إبراهيم بن الأشتر معرض عنه لا يجيب كلامه ولا يسمع له ، اغتنم الفرصة في ذلك ، وكتب إلى المهلب بن أبي صفرة ، وكان يحارب الأزارقة بأمره ، فاستدعاه واعطى الكتاب إلى محمد بن الأشعث فقال : سر إليه فليس له أحد سواك ، فإنه إذا نظر إليك رسولا علم أنّ الأمر جدّ فلا يتخلف ، وانظر أن لا تفارقه أو تشخصه معك ، فأخذ محمد بن الأشعث الكتاب وسار إلى المهلب ، وهو يومئذ بسابور من أرض فارس يحارب الأزارقة ، فلما قرأ الكتاب قال : يا سبحان الله! أما وجد الأمير بريدا سواك؟ فقال ابن الأشعث : والله ، ما أنا ببريد لأحد غير أنّ نساءنا وأبناءنا وعقرنا ومنازلنا في يد المختار ، قد غلبنا عليها وأجلانا عن بلدنا ، ونحن نرجو أن تعود إلينا بعونك.

فدعا المهلب بأصحابه وقال : إن الأزارقة لا يريدون إلّا ما في أيديهم ، والمختار يريد ما في أيديكم ، فذاك أولى بالدفع والنفع ، وولى عليهم ابنه المغيرة وسار في ألف رجل من فرسانه حتى قدم البصرة فقربه مصعب وأجلسه معه على سريره ، ثم أمره بالتأهب لمحاربة المختار ، ثم أمر مصعب أصحابه أن يعسكروا عند الجسر الأعظم ، وخرج مصعب وخرج الناس معه من البصرة ، وجعل على كل قبيلة رئيسا يقتدون برأيه ، فجعل على قريش عمرو بن عبيد الله التيمي وعلى تميم كلها الأحنف بن قيس ، وعلى أهل

٢٧٧

العالية قيس بن الهيثم السلمي ، وعلى بكر بن وائل مسمع الجحدري ، وعلى عبد قيس مالك بن المنذر العبدي ، وعلى كندة محمد بن الأشعث ، وعلى مذحج عبيد الله بن الحر الجعفي ، وعلى قبائل الأزد المهلب بن أبي صفرة.

فبلغ ذلك المختار فقام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد يا أهل الكوفة! فإن أهل مصركم بغوا عليكم ، كما قتلوا ابن بنت نبيكم ، قد كانوا لجئوا إلى أمثالهم من الفاسقين الملحدين فاستعانوا بهم عليكم ، لما علموا أن ابن الأشتر قد خذلني ، وقعد عن نصرتي ، وقد بلغني أنهم خرجوا من البصرة يريدون قتلي ، ليضمحل الحق وينتعش الباطل ، ويقتلوا أولياء الله ، ألا فانهدوا مع الأحمر بن شميط البجلي فإني أرجو أن يهلكهم الله تعالى على أيديكم ، فأجابه الناس من كل جانب : سمعنا وأطعنا! فخرج بهم الأحمر حتى عسكر بموضع يقال له : حمام أعين ، ثم رحل حتى نزل المذار في قريب من ثلاثة آلاف فارس.

وأقبل مصعب حتى نزل قريبا منه في سبعة آلاف فارس وراجل ، ودنا القوم بعضهم من بعض ، وتقدم عباد بن الحصين الحبطي فنادى : يا شيعة المختار! أنا أدعوكم إلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير ، فقال له عبد الله ابن كامل الهمداني : ونحن ندعوكم إلى بيعة المختار وأن نجعل هذا الأمر شورى بين آل الرسول ، فمن زعم أنه أحقّ بهذا منهم برئنا منه في الدنيا وهو في الآخرة لمن الخاسرين ، وجاهدناه حق الجهاد عن الدين ، فلما سمع مصعب ذلك غضب ، وقال : احملوا عليهم ؛ فحمل عباد بن الحصين على أصحاب المختار فلم يزل أحد من موقعه ، ثم حمل ابن الأشعث فلم يزل أحد من موقعه ، فصاح ابن الأشعث : يا أهل العراق! إلى متى ، وحتى متى نحن

٢٧٨

أذلاء مشردون عن بلادنا ، مطرّدون عن أهلنا وأولادنا ، فكرّوا عليهم كرة صادقة ، فكرّوا عليهم فقتل الأمير الأحمر بن شميط وانهزم أصحابه إلى الكوفة.

فنزل بالمختار أمر عظيم من مقتل أصحابه ، فكتب إلى إبراهيم بن الأشتر أيضا فلم يجبه ، وأقبل مصعب حتى نزل بواسط ثم أمر أصحابه الرجّالة فقعدوا بالسفن ، وساروا في نهر يخرجهم إلى الفرات ، وبلغ ذلك المختار فأمر بكل نهر يحمل من الفرات فسدّه ، فبقي أصحاب مصعب في الطين ، فخرجوا من السفن وساروا على الظهر حتى نزلوا حروراء ، وخرج المختار من الكوفة حتى نزل بإزائهم ، وقال : يا له من يوم لو حضرني فيه ابن الأشتر ، وو الله ، ما من الموت بدّ ، ثم اختلط الفريقان بالحرب ، فأرسل مصعب إلى المهلب : ما تنتظر أن تحمل على من بإزائك ، فالتفت المهلب إلى أصحابه ، وقال : يظن الأمير أنا نلعب ولا يعلم بأني ما قاتلت قتالا أشدّ من هذا ، ثم حملوا على أصحاب المختار فكشفوهم ، فصاح المختار : أين أصحاب الصبر واليقين؟ فثاب إليه زهاء خمسمائة رجل ما فيهم رجل إلّا وهو يعد برجال ، فجعلوا يقاتلون قتالا لم تسمع الناس بمثله ، فالتفت رجل من أصحاب المختار يقال له : عبد الله بن عمرو النهدي ، فقال : ويحكم! أروني الموضع الذي فيه محمد بن الأشعث فإنه والله ممن قاتل الحسين وشرك في دمه ، وقال له : أي قرابة بينك وبين رسول الله.

فقالوا له : هو في الكتيبة الحمراء على فرس له أدهم فقال : بلى والله ، قد رأيته فذروني وإياه ، ثم رفع رأسه إلى السماء ، وقال : اللهم! إني على ما كنت عليه بصفين ، اللهم! وإني أبرأ ممن قتل آل بيت نبيك محمد أو قاتلهم أو شرك في دمائهم ، وحمل حتى خالط أصحاب مصعب فجعل يضرب

٢٧٩

ويقتل فيهم وهو مع ذلك يلاحظ الموضع الذي فيه محمد بن الأشعث حتى إذا أمكنته الفرصة حمل عليه فضربه ضربة على راسه فجدله قتيلا ، فأحاط أصحاب مصعب بعبد الله بن عمرو هذا فقتلوه.

وكان المختار قد قتل بالكوفة خلقا كثيرا من أهل الكوفة حتى قيل : إنه قتل سبعين ألفا ممن قتل أو قاتل الحسين عليه‌السلام فتركه أصحابه لما في نفوسهم من الذحل على أقربائهم ، وتحولوا إلى مصعب ، فلما رأى المختار ذلك نزل عن فرسه ، ونزل معه شيعة آل الرسول الخلّص ، فبركوا على أفواه السكك ، فلم يزالوا يقاتلون من المغرب الى الصبح ، ثم قال له بعض أصحابه : أما أخبرتنا أنا نقتل مصعبا ، فقال : بلى ، أما قال الله عزوجل : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) الرعد / ١٣.

ولما أصبح دخل قصر الامارة وكان قد أخطأ رجل من أهل الكوفة فضرب عبيد الله بن علي عليه‌السلام وكان في عسكر مصعب فقتله ولم يعرفه ، وأقبل مصعب نحو الكوفة ، حتى دخلها في جيشه ، والمهلب عن يساره ، فقال له : يا أبا سعيد! يا له من فتح ما أهناه لو لا قتل محمد بن الأشعث ، وجاءت الخيل حتى أحدقوا بالقصر فحاصروا المختار وأصحابه حصارا شديدا حتى بلغ منهم العطش مبلغا عظيما ، وكانوا بذلوا في الرواية من الماء الدينارين والثلاثة ، وكانت النساء يأتين فيدخلن القصر بالطعام والشراب إلى أقربائهن ، فبلغ ذلك مصعبا فمنع النساء ثم قطع عنهم الماء ، فكانوا يمزجون ماء البئر بالعسل فيشربونه من العطش ، وكان أصحاب مصعب ينادون المختار : يا ابن دومة! كيف ترى ما أنت فيه من الحصار؟ هذا جزاء من خالف أمير المؤمنين عبد الله وطلب الأمر لغيره.

فأشرف عليهم المختار ثم قال : يا جند المرأة ، وأتباع البهيمة! أتعيروني

٢٨٠